11 Nov 2008
إجماع سلف الأمة على الإيمان بالعلو والاستواء والمعية
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَدْ
دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِن الإيمَانِ بِاللهِ : الإيمَانُ بِمَا
أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ ، وَتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله
عليه وسلم وَأَجمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمةِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ
فَوْقَ سَمَاوَاتهِ عَلَى عَرْشِهِ, عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ ، وَهُوَ -
سُبْحَانَهُ - مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ، يَعْلمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ ،
كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْله : {هُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[ سُورَةُ الْحَدِيدِ :4] وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ : {وَهُوَ مَعَكُمْ}
أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ اللُّغَةُ ،
وَهُوَ خِلاَفُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ ، وَخِلاَفُ مَا
فَطَر اللهُ عَلَيْهِ الخلْقَ ، بَل الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ
مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ ، هُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ ، وَهُوَ
مَعَ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ .
وَهُوَ
- سُبْحَانَهُ - فَوْقَ الْعَرْشِ , رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِه ,ِ مُهَيْمنٌ
عَلَيْهِمْ , مُطَّلِعٌ إليهم ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي
رُبُوبِيَّتِهِ . وَكُلُّ هَذَا الْكَلاَمِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -مِنْ
أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا- حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيفٍ ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الكَاذِبَةِ
مِثْلَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِه ِ: {فِي السَّمَاءِ} أَنَّ السَّمَاءَ تُقِلُّهُ ، أَوْ تُظِلُّهُ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ العِلْمِ وَالإِيمَانِ ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، وَهُوَ الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ} ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ}[سُورَةُ الرُّّومِ : 25] ).
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وقد
دخل فيما ذكرناهُ من الإيمانِ باللهِ: الإيمانُ بما أخبر اللهُ به في
كتابِهِ، وتواتَرَ عن رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، وأجمَعَ عليه سلَفُ
الأُمةِ من أنه سبحانه فوقَ سَماواتهِ على عرشِهِ عَلِيٌّ على خلْقِهِ، وهو
سبحانهُ مَعَهُم أينما كانوا، يَعْلمُ ما هم عاملون، كما جَمَعَ بين ذلك
في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ
السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة الحديد: 4] وليس معنى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ)
أنه مُخْتَلِطٌ بِالخَلْقِ، فإنّ هذا لا تُوجِبُهُ اللغةُ، وهو خِلافُ ما
أجمعَ عليه سَلَفُ الأمةِ، وخِلافُ ما فَطَر الله عليه الخلْقَ، بل القمرُ
آيةٌ من آياتِ الله من أصغرِ مخلوقاتِهِ وهو موضوعٌ في السماءِ، و هو معَ
المسافرِ وغيرِ المسافرِ أينما كان، وهو سبحانه فوقَ العرشِ رقيبٌ على
خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عليهم مُطَّلِعٌ إليهم، إلى غير ذلك من معاني
رُبوبيته. وكلُّ هذا الكلامِ الذي ذكره الله سبحانه -من أنه فوقَ العرشِ
وأنه معنا- حقٌّ على حقيقتهِ لا يحتاجُ إلى تحريفٍ، ولكن يُصانُ عن الظنونِ
الكاذبة مثل أن يظنَّ أنّ ظاهِرَ قولهِ: (في السَّمَاءِ) أنّ السماءَ تُقِلُّهُ أو تُظِلُّهُ، وهذا باطل بإجماعِ أهلِ العلمِ والإيمانِ، فإنّ الله قد (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، وهو (يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ)، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن
تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ
السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ)([1]) [الروم: 25]).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( ([1]) شرح المصنِّف رحمه الله في هذا الفصل مسألة علوّ الله واستوائه على عرشه، وأن ذلك داخل في الإيمان بالله، وذلك لما حصل في هذه المسألة من الاختلاف والمخاصمات الطويلة بين أهل السُّنة والجماعة وبين طوائف الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم في هذه المسألة من الأشعرية ونحوهم، فإن مسألة العلو صنفت فيها المصنفات المستقلة، وأورد فيها أهل السنّة من نصوص الكتاب والسّنة ما لا يمكن دفعه، أو دفع بعضه، وحققوا ذلك بالعقل ا لصحيح وأن الفِطَر والعقول معترفة بل ومضطرة إلى الإيمان بعلو الله، إلا من غيرت فطرته العقائد الباطلة. وقد بيّن المصنِّف في هذا الموضوع الجمع بين الإيمان بعلوّ الله وإثبات معيته وعلمه المحيط وحققه في كلام واضح مبين بالأمثلة المقرّبة للمعاني بما لا مزيد عليه).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (( فَصْلٌ: وقَدْ
دَخَلَ فيما ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمانِ باللهِ الإِيْمانُ بِما أَخْبَرَ
اللهُ بهِ في كِتابِهِ، وتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ، وأَجْمَعَ عليِهِ
سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحانَهُ فَوْقَ سَماواتِهِ؛ عَلى
عَرْشِهِ، عَلِيٌّ على خَلْقِهِ، وهُوَ سُبحانَهُ معهُمْ أَيْنما كَانُوا،
يَعْلَمُ ما هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذلكَ في قَوْلِهِ:
{هُوَ
الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْملَونَ بَصِيرٌ }.
ولَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ( وَهُوَ مَعَكُمْ )
أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بالخَلْقِ؛ فإِنَّ هذا لاتُوجِبُهُ اللُّغَةُ، [ وهُوَ
خِلافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ، وخِلافُ مَا فَطَرَ اللهُ
عليهِ الخَلْقَ ] بلِ القَمَرُ آيةٌ مِنْ آياتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ
مَخْلوقاتِهِ، وهُوَ مَوْضوعٌ في السَّماءِ، وهُوَ مَعَ المُسافِرِ وغَيْرِ
المُسافِرِ أَيْنما كَانَ.
وهُوَ
سُبْحانَهُ فوقَ عَرْشِهِ، رَقيبٌ على خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عليِهمْ،
مُطَّلعٌ [ عليهِمْ ] … إِلى غَيْرِ ذلكَ مِنْ مَعاني رُبُوبِيَّتِهِ.
وكُلُّ
هذا الكَلامِ الَّذي ذَكَرَهُ اللهُ – مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ
وأَنَّهُ مَعَنا – حَقٌّ على حَقيقَتِهِ، لا يَحْتاجُ إِلى تَحْريفٍ، ولكنْ
يُصانُ عَنِ الظُّنُونِ الكاذِبةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظاهِرَ
قولِهِ: { فِي السَّماءِ }؛ أَنَّ
السَّمَاء تُظِلُّهُ أَو تُقِلُّهُ، وهذا باطِلٌ بإِجْماعِ أَهْلِ العِلْمِ
والإِيْمانِ؛ فإِنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ
والأرْضَ، وهُوَ يُمْسِكُ السَّمَاواتِ والأرْضَ أَنْ تَزُولا، ويُمْسِكُ
السَّماءَ أَنْ تَقَعَ على الأرْضِ؛ إِلاَّ بإِذْنِهِ، ومِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّمَاءُ والأرْضُ بأَمْرِهِ ) (1) ).
الشرح:
قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ( (1)
قولُهُ: ( وقَدْ دَخَلَ فيمَا ذكرناهُ مِن الإِيمانِ … ) إلخ. صرَّحَ
المُؤَلِّفُ هنَا بمسألةِ عُلُوِّ اللهِ تعالى واستوائِهِ على عرشِهِ
بائنًا مِن خلقِهِ؛ كمَا أخبرَ اللهُ عن ذلكَ في كتابِهِ، وكمَا تواترَ
الخبرُ بذلكَ عن رسولِهِ، وكمَا أجمعَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ الَّذينَ همْ
أكملُهَا علمًا وإيمانًا، مؤكِّدًا بذلكَ ما سبقَ أنْ ذكرهُ في هذا
الصَّدَدِ، ومشدِّدًا النَّكِيَر على مَنْ أنْكرَ ذلكَ مِن الجهْمِِيَّةِ
والمعتزلةِ ومَن تبعَهُمُ مِن الأشاعرةِ.
ثمَّ بيَّنَ أنَّ
استواءَهُ على عرشِهِ لا ينافي معيَّتَهُ وقُرْبَهُ مِن خلقِهِ، فإنَّ
المعيَّةَ ليسَ معناها الاختلاطُ والمجاورةُ الحسيَّةُ.
وضربَ لذلكَ مثلاً بالقمرِ
الذي هوَ موضوعٌ في السَّماءِ، وهوَ معَ المسافرِ وغيرِهِ أينما كانَ؛
بظهورِهِ واتِّصَالِ نورِهِ، فإذَا جازَ هذا بالنِّسبةِ للقمرِ، وهوَ مِن
أصغرِ مخلوقاتِ اللهِ؛ أفلا يجوزُ بالنِّسبةِ إلى اللَّطيفِ الخبيرِ الذي
أحاطَ بعبادِهِ علمًا وقُدرَةً، والذي هوَ شهيدٌ مطَّلعٌ عليهِمْ، يسمعُهُم
ويراهُم، ويعلمُ سرَّهمْ ونجواهُم، بلْ العالَمُ كلُّهُ سماواتُهُ وأرضُهُ
مِن العرشِ إلى الفرش،ِ كلُّهُ بينَ يديهِ سبحانَهُ؛ كأنَّهُ بندقةٌ في
يدِ أحدِنا؛ أفلا يجوزُ لمَنْ هذا شأنُهُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ معَ خلقِهِ
معَ كونِهِ عاليًا عليهِمْ بائنَا مِنْهُمْ فوقَ عرشِهِ؟!
بلى؛ يجبُ الإِيمانُ بكلٍّ
مِن علوِّهِ تعالى ومعيَّتِهِ، واعتقادهُ أنَّ ذلكَ كلَّهُ حقٌّ على
حقيقتِهِ، مِن غيرِ أنْ يُساءَ فهمُ ذلكَ، أو يُحملَ على معانٍ فاسدةٍ؛
كأنْ يُفْهَمَ مِن قولِهِ: { وَهُوَ مَعَكُمْ } معيَّةُ الاختلاطِ والامتزاجِ؛ كمَا يزعمُهُ الحلوليَّةُ! أو يُفهمُ مِن قولِهِ: { في السَّماءِ }
أنَّ السَّماءَ ظرفٌ حاوٍ لهُ محيطٌ بهِ! كيفَ وقَدْ وَسِعَ كرسيُّهُ
السَّماواتِ والأرضَ جميعًا؟! وهوَ الذي يمسكُ السَّماءَ أنْ تقعَ على
الأرضِ إلاَّ بإذنِهِ؟!
فسبحانَ مَنْ لا يبلغُهُ وَهْمُ الواهمِينَ، ولا تُدركُهُ أفهَامُ العالَمِينَ).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وجوب الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه ومعيته لخلقه وأنه لا تنافي بينهما
وقَدْ
دَخَلَ فيما ذَكَرْنَاهُ مِن الإِيمانِ باللهِ الإِيمانُ بِما أَخْبَرَ
اللهُ بهِ في كِتابِهِ، وتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ، وأَجْمَعَ عليِه سَلَفُ
الأمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحانَهُ فَوْقَ سَماواتِهِ؛ عَلى عَرْشِهِ،
عَلِيٌّ على خَلْقِهِ، وهُو سُبحانَهُ معهُمْ أَيْنما كَانُوا، يَعْلَمُ ما
هُم عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذلكَ في قَوْلِهِ:(
هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْملُونَ بَصِيرٌ ).ولَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ( وَهُوَ مَعَكُمْ )
أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بالخَلْقِ؛ فإِنَّ هذا لاتُوجِبُهُ اللُّغَةُ، وهُو
خِلافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأمَّةِ، وخِلافُ مَا فَطَرَ اللهُ
عليهِ الخَلْقَ بلِ القَمَرُ آيةٌ مِنْ آياتِ اللهِ مِن أَصْغَرِ
مَخْلوقاتِهِ، وهُو مَوْضوعٌ في السَّماءِ، وهُوَ مَعَ المُسافِرِ وغَيْرِ
المُسافِرِ أَيْنما كَانَ.وهُو سُبْحانَهُ فوقَ عَرْشِهِ، رَقيبٌ على
خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عليِهمْ، مُطَّلعٌ عليهِمْ … إِلى غَيْرِ ذلك مِنْ
مَعاني رُبُوبِيَّتِهِ..(1) ما يجب اعتقاده في علوه ومعيته سبحانه ومعنى كونه سبحانه ( في السماء ) وأدلة ذلك
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ( (1)
خَصَّصَ المصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هاتَيْنِ المسألتَيْنِ: الاستواءَ على
العرشِ، ومَعِيَّتَه للخَلْقِ بالتَّنبِيهِ ليُزيلَ الإشكالَ، فقد
يُتَوَهَّمُ وُجودُ التَّنافي بينهما، فقد يظُنُّ الظَّانُّ أنَّ ذَلِكَ
مِثلُ صفاتِ المخلوقينَ، وأَنَّهُ مختلِطٌ بهم، فكَيْفَ يكونُ فَوْقَ
خَلْقِه مُستوِياً على عرشِه، ويكونُ مع خَلْقِه قريباً منهم بدُونِ
مخالَطةٍ، والجوابُ عن هَذِهِ الشُّبْهةِ كما وضَّحَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن وُجوهٍ:
الوجه الأوَّل:
أنَّ هَذَا لا تُوجِبُه لغةُ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ الكريمُ،
فإنَّ كلمةَ (مع) في اللُّغةِ لمُطْلَقِ المصاحَبةِ، لا تُفيدُ اختِلاطاً
وامتِزاجاً، ولا مجاوَرةً ولا مُماسَّةً؛ فإنَّكَ تقولُ زوجتي معي وأنتَ في
مكانٍ وهِيَ في مكانٍ آخَرَ، وتقولُ: ما زِلْنا نَسيرُ والقمرُ معنا ـ
وَهُوَ في السَّماءِ ويكونُ مع المُسافِرِ وغيرِ المسافرِ أيْنما كان ـ
وإذا صَحَّ أنْ يُقالَ هَذَا في حقِّ القمرِ وَهُوَ مخلوقٌ صغيرٌ فكَيْفَ
لا يُقالُ في حَقِّ الخالقِ الذي هُوَ أعْظَمُ مِن كُلِّ شيءٍ؟
الوجهُ الثَّاني:
أنَّ هَذَا القولَ خِلافُ ما أجْمَعَ عليه سلَفُ الأُمَّةِ مِن الصَّحابةِ
والتَّابِعينَ وتابِعِيهم، وهُم القُرونُ المفضَّلةُ الذينَ هُم القُدوةُ،
فقد أجْمَعوا على أنَّ اللَّهَ مستوٍ على عرشِه، عالٍ على خَلْقِه، بائنٌ
منهم، وأجْمَعوا على أَنَّهُ مع خَلْقِه بعِلمِه سُبْحَانَهُ وتعالى كما
فسَّرُوا قولَه تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ) بذلكَ.
الوجهُ الثالثُ:
أنَّ هَذَا خِلافُ ما فَطَرَ اللَّهُ عليه الخَلْقَ، أيْ: رَكَزَه في
فِطَرِهم ـ فإنَّ الخْلَقَ فُطِروا على الإقرارِ بعُلُوِّ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ على خَلْقِه، فإنَّ الخَلقَ يَتَّجِهونَ إلى اللَّهِ عندَ
الشَّدائدِ والنَّوازِلِ نحو العُلُوِّ لا يَلتَفِتُونَ يَمْنَةً ولاَ
يَسْرةً مِن غيرِ أنْ يُرْشِدَهم إلى ذَلِكَ أحدٌ، وإنما ذَلِكَ بموجَبِ
الفِطرةِ التي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عليها.
الوجهُ الرَّابعُ:
أنَّ هَذَا خِلافُ ما أخْبَرَ اللَّهُ به في كتابِه وتَواتَرَ عن رسولِه
مِن أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى على عرشِه علِيٌّ على خَلقِه، وَهُوَ معهم
أيْنما كانُوا.
والمتواتِرُ مِن النُّصوص
هُوَ ما رَواهُ جماعةٌ تُحيلُ العادَةُ تَواطُؤَهُم على الكَذِبِ عن
مِثْلِهم مِن الابتداءِ إلى الانتهاءِ. والآياتُ والأحاديثُ في هَذَا
كثيرةٌ، منها الآيةُ التي ذَكَرَها المصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ. واللَّهُ
أعْلَمُ.
وقولُ المصنِّفِ رَحِمَهُ
اللَّهُ (وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عرشِه رَقيبٌ على خَلقِه، مهيْمِنٌ
عليهم، مطَّلعٌ عليهم) تقريرٌ وتأكيدٌ لِما سبَقَ مِن ذِكْرِ عُلُوِّه على
عرشِه، وكونِه مع خَلقِه بذِكْرِ اسمَيْنِ مِن أسمائِه سبحانه، وهما
(الرَّقيبُ والمهيْمِنُ) قال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) والرَّقيبُ هُوَ المُراقِبُ لأحوالِ عِبادِه، وفي ذَلِكَ دلالةٌ على قُربِه منهم. وقال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) والمهيْمِنُ هُوَ الشَّاهِدُ على خَلقِه، المطَّلِعُ على أعمالِهم، الرَّقيبُ عليهم.
(إلى غيرِ ذَلِكَ مِن
معاني رُبوبِيَّتِه) أيْ: إنَّ مُقتضَى ربوبِيَّتِه سُبْحَانَهُ أنْ يكونَ
فَوْقَ خَلقِه بِذاتِه، ويطَّلِعَ على أعمالِهم، ويكونَ قريباً مِنْهُمْ
بعِلمِه وإحاطَتِهِ يُصَرِّفُ شئونَهم ويُحصِى أعمالَهم ويجازيهم عليها.
(2)
يُبَيِّنُ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ ما يَجِبُ اعتقادُه بالنسبةِ لما
أخبَرَ اللَّهُ به عن نَفْسِه مِن كوْنِه فَوْقَ العرشِ، وَهُوَ معنا:
أَنَّهُ يَجِبُ الإيمانُ به كما أخبَرَ اللَّهُ، ولا يجوزُ تأويلُه
وصَرْفُه عن ظاهِرِه، كما يفعَلُه المعطِّلةُ مِن الجَهْميَّةِ والمعتزِلةِ
وأشباهِهم، فيَزعُمون أنَّ ذَلِكَ ليس حقيقةً، وإنما هُوَ مجازٌ
فيُؤَوِّلونَ الاستواءَ على العرشِ بالاستيلاءِ على المُلْكِ وعُلُوِّ
اللَّهِ على خَلقِه بعُلُوِّ قَدْرِه وقَهْرِه، ونحوِ ذَلِكَ مِن
التَّأويلاتِ الباطلةِ التي هِيَ تَحريفٌ لكلامِ اللَّهِ عن مَواضِعِه.
ومنهم مَن يقولُ: إنَّ معنَى كوْنِه معنا أَنَّهُ حالٌّ في كُلِّ مكانٍ كما
تقولُه حُلوليَّةُ الجَهْميَّةِ وغيرُهم، تعالى اللَّهُ عمَّا يقولونَ
عُلُواًّ كبيراً.
وقولُه: (ولكنْ يُصانُ عن
الظُّنونِ الكاذِبةِ، مِثل أنْ يُظَنَّ أنَّ ظاهِرَ قولِه: (في السَّماءِ)
أنَّ السَّماءَ تُقِلُّه أو تُظِلُّه) تُقِلُّهُ: أيْ: تَحْمِلُه.
وَتُظِلُّهُ: أيْ: تَستُرُه، والظُلَّةُ: الشَّيءُ الذي يُظِلَّكَ مِن
فوقِكَ، وليس هذانِ المَعْنَيَانِ مُرادَيْنِ في كوْنِه سُبْحَانَهُ في
السَّماءِ. ومَن ظَنَّ ذَلِكَ فقد أخطأَ غايةَ الخطأِ وذَلِكَ لأمرَيْنِ:
الأمْرُ الأوَّلُ:
أَنَّ هَذَا خِلافُ ما أجْمَعَ عليه أهلُ العِلمِ والإيمانِ، فقد أجْمَعوا
على أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عرشِه بائِنٌ مِن خَلقِه ليس في ذاتِه
شيءٌ مِن مخلوقاتِه، ولا في مخلوقاتِه شيءٌ مِن ذاتِه، وقد تَقدَّمَ
الكلامُ في تفسيرِ قولِه تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فيِ السَّمَاءِ)
وأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بالسَّماءِ السَّماءُ المَبْنيَّةُ (ففي) بمعنى
(على) أيْ: على السَّماءِ، كقولِه: (لأُصَلِّبَنَّكُمْ فيِ جُذُوعِ
النَّخْلِ) أيْ: على جُذوعِ النَّخْل،ِ وإنْ أُريدَ بالسَّماءِ العُلُوُّ
كان المعنى (في السَّماءِ) أيْ: في العُلُوِّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
الأمْرُ الثَّاني:
أَنَّ هَذَا الظَّنَّ مخالِفٌ ومصادِمٌ لأدلَّةِ القرآنِ الدالَّةِ على
عَظَمةِ اللَّهِ، وغِناهُ عن خَلقِه، وحاجةِ خَلقِه إليه، كما في قولِه
تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)
والكُرسيُّ مخلوقٌ عظيمٌ بَيْنَ يَدَيِ العرشِ، وَهُوَ أعْظمُ مِن
السَّماواتِ والأرضِ، والعرشُ أعْظمُ منه ـ فإذا كانت السَّماواتُ والأرضُ
أصْغرَ مِن الكرسيِّ والكرسيُّ أصغرَ مِن العرشِ ـ واللَّهُ أعْظمُ مِن
كُلِّ شيءٍ فكَيْفَ تَحويهِ السَّماءُ أو تُقِلُّه أو تُظِلُّه؟
وكذَلِكَ قولُه تعالى: (إِنَّ
اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ) (وَيُمْسِكُ
السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإذْنِهِ) (وَمِنْ آيَاتِهِ
أنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ) فهَذِهِ الآياتُ
تَدُلُّ على أنَّ السَّماواتِ والأرضَ بحاجةٍ إليه، فَهُوَ الذي يُمْسِكُها
أنْ تَزولَ أو تَقَعَ، ويكونُ قيامُها بأمْرِه وحدَه، فلا يُعقَلُ مع
هَذَا أنْ يكونَ سُبْحَانَهُ بحاجةٍ إليها لتُقِلَّه أو تُظِلَّه، تعالى
اللَّهُ عن هَذَا الظَّنِّ الباطلِ عُلُوًّا كبيراً).
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (وَالمَعِيَّةُ
الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَوْعَانِ: خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ،
وَأَمَّا القُرْبُ فَإِنَّمَا وَرَدَ خَاصًّا وَهُوَ قُرْبُهُ تَعَالَى مِن
عَابِدِيهِ وَسَائِليهِ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَا ذُكِرَ فِي الكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ مِن المَعِيَّةِ وَالقُرْبِ لا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِن
العُلُوِّ وَالفَوْقِيَّةِ إِذْ أَنَّ المَعِيَّةَ لا تَقْتَضِي
المُخالَطَةَ وَلا الممَاسَّةَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَالٍ فِي دُنُوِّهِ،
وَقَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ، قَدِ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَعَلا فَوْقَ
جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ وَلَيْسَ مُحْتَاجاً إِلَى العَرْشِ أَوْ غَيْرِهِ
فَإِنَّهُ الغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَن كُلِّ مَا سِوَاهُ وَهُوَ الحَيُّ
القَيُّومُ.
فَلا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ
إِذَا كَانَ فَوْقَ العَرْشِ أَنَّ العَرْشَ يَحْمِلُهُ أَو السَّمَاوَاتِ
أَوْ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، أَوْ غَيْرِ ذَلكَ
كَانَ العَرْشُ أَوْ غَيْرُهُ مِن السَّمَوَاتِ وَبَعْضِ المَخْلُوقَاتِ
فَوْقَهُ أَوْ تَسْتُرُهُ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ العَلِيُّ الأَعْلَى
الغَنِيُّ بِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ:( وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ العَرْشِ رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ )
قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
الرَّقِيبُ وَهُوَ الحَافِظُ الذي لا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ فَعِيلٌ
بِمَعْنَى فَاعِـلٍ .ا. هـ .وَالمُهَيْمِنُ الحَافِظُ لِخَلْقِهِ
المُتَصَرِّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ: أَيِ الشَّاهِدُ عَلَى خَلْقِهِ بِأَعْمَالهِمْ بِمَعْنَى هُوَ
رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ كَقَوْلهِ:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ فِي
النِّهَايَةِ: فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: المُهَيْمِنُ: هُوَ
الرَّقِيبُ، وَقِيلَ: المُؤْتَمَنُ، وَقِيلَ: القَائِمُ بِأُمُورِ
الخَلْقِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ فَأُبْدِلَتِ الهَاءُ مِن
الهَمْزَةِ وَهُوَ مُفَيْعِلٌ مِن الأَمَانَةِ.ا. هـ. فَالمُهَيْمِنُ
الرَّقِيبُ الحَافِظُ لكُلِّ شَيْءٍ مُفَيْعِلٌ مِن الأَمْنِ بِقَلْبِ
هَمْزَتِهِ هَاءً وَإِلَيْهِ ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَتَحْقِيقُهُ كَمَا
فِي الكَشْفِ أَنَّ أَيْمَنَ عَلَى فَيْعَلَ مُبَالَغَةُ "أَمِنَ
العَدُوَّ" للزِّيَادَةِ فِي البِنَاءِ. وَإِذَا قُلْتَ: أَمِنَ الرَّاعِي
الذِّئْبَ عَلَى الغَنَمِ - مثلاً - دَلَّ عَلَى كَمَالِ حِفْظِهِ
وَرِقْبَتِهِ. فَاللَّهُ تَعَالَى أَمِنَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ
عَلَى خَلْقِهِ وَمُلْكِهِ لإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ مُجَرَّدَ الدَّلالَةِ بِمَعْنَى
الرَّقِيبِ وَالحَفِيظِ عَلَى الشَّيْءِ مِن غَيْرِ ذِكْرِ المَفْعُولِ
بِلا وَاسِطَةٍ للمُبالغةِ فِي كَمَالِ الحِفْظِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }
وَجَعْلُهُ مِن ذَاكَ أَوْلَى مِن جَعْلِهِ مِن الأَمَانَةِ نَظَراً إِلَى
أَنَّ الأَمِينَ عَلَى الشَّيْءِ حَافِظٌ لهُ إِذْ لا يُنْبِئُ عَن
المُبَالَغَةِ وَلا عَن شُمُولِ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ. وَجَعَلَهُ فِي
الصِّحَاحِ اسْمَ فَاعِلٍ مِن آمَنَهُ الخَوْفَ عَلَى الأَصْلِ
فَأُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ الأَصْليَّةُ يَاءً كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ
الهَمْزَتَيْنِ، وَقُلِبَتِ الأُولَى هَاءً كَمَا فِي هَرَاقَ المَاءَ،
وَقَوْلُهُمْ: فِي إِيَّاكَ هَيَّاكَ كَأَنَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ
المَخْلُوقِينَ صَيَّرَهُمْ آمِنِينَ، وَحَرْفُ الاسْتِعْلاءِ كمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ لتَضْمِينِ مَعْنَى الاطِّلاعِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ
أَنَّ الاشْتِقَاقَ عَلَى مَا سَمِعْتَ أوَّلاً أَدَلُّ، وَالخُرُوجُ عَن
القِيَاسِ فِيهِ أَقَلُّ.
وَظَاهِرُ كَلامِ الكَشْفِ
أَنَّهُ ليْسَ مِنَ التَّصْغِيرِ فِي شَيْءٍ. وَقَالَ المُبَرِّدُ:
إِنَّهُ مُصَغَّرٌ. وَخَطِئَ فِي ذَلكَ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ تَصْغِيرُ
أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَالَ الشَّوْكَانِِيُّ: "المُهَيْمِنُ أَيِ
الشَّهِيدُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَعْمَالهِمْ، الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ".كَذَا
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ. يُقَالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ
فَهُوَ مُهَيْمِنٌ إِذَا كَانَ رَقيباً عَلَى الشَّيْءِ. قَالَ
الوَاحِدِيُّ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِن المُفَسِّرِينَ إِلَى أَصْلِهِ
مُؤَيْمِنٌ مِن آمَنَ يُؤْمِنُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى المُؤْمِنِ وَالأَوَّلُ
أَوْلَى.ا.هـ.وَلَهُ تَعَالَى العُلُوُّ المُطْلَقُ الكَامِلُ مِن كُلِّ
وَجْهٍ وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ.
فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ
مِن أَوَّلهِ إِلَى آخِرِهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِن أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ عَامَّةُ كَلامِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ كَلامُ سَائِرِ الأُمَّةِ مَمْلُوءٌ
بِمَا هُوَ إِمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى هُوَ العَلِيُّ الأَعْلَى وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
عَالٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ
السَّمَاءِ فَفِي القُرْآنِ مِن ذَلكَ مَا لا يَكَادُ يُحْصَى إِلا
بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَكَذَلكَ فِي الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ
وَالحِسَانِ مَا لا يُحْصِيهِ إلاَّ اللَّهُ مِمَّا هُوَ مِن أَبْلَغِ
العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ المُبَلِّغَ عَن اللَّهِ
أَلْقَى إِلَى أُمَّتِهِ المَدْعُوِّينَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى
العَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ كَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَلكَ
جَمِيعَ الأُمَمِ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ إِلا مَن اجْتَالتْهُ
الشَّيَاطِينُ عَن فِطْرَتِهِ.
ثُمَّ عَن السَّلَـفِ فِي
ذَلكَ مِن الأَقْـوَالِ مَا لوْ جُمِـعَ لَبَلَـغَ مِئَتَيْنِ أَوْ
ألُوفاً، ثُمَّ ليْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلا فِي سُنَّـةِ رَسُولهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا عَن أَحَدٍ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ
لا مِن الصَّحَابَةِ وَلا مِن التَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ وَلا عَن
الأَئِمَّةِ الذين أَدْرَكُوا زَمَنَ الاخْتِلافِ - حَرْفٌ وَاحِدٌ
يُخَالفُ ذَلكَ لا نصاً وَلا ظاهراً. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ
إنَّ اللَّهَ ليْسَ فِي السَّمَاءِ، وَلا إنَّهُ ليْسَ عَلَى العَرْشِ،
وَلا إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلا إنَّ جَمِيعَ الأَمْكِنَةِ
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَلا إنَّهُ لا دَاخِلُ العَالَمِ وَلا
خَارِجُهُ وَلا إنَّهُ لا مُتَّصِلٌ وَلا مُنْفَصِلٌ، وَلا إنَّهُ لا
تَجُوزُ الإِشَارَةُ الحِسِّيِّةُ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ وَنَحْوِهَا.
بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ خُطْبَتَهُ
العَظِيمَةَ يَوْمَ عَرَفَاتٍ فِي أَعْظَمِ مَجْمَعٍ حَضَرَهُ الرَّسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَقُولُ:" ألاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟" فَيَقُولُونَ: نَعَم ،ْ فَيَرْفَعُ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَيُنَكِّبُهَا إِلَيْهِمْ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ" غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَمْثَالُ ذَلكَ كَثِيرٌ).
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (فَصْلٌ: وقَدْ دَخَلَ فيما ذَكَرْنَاهُ مِن الإِيمانِ باللهِ الإِيْمانُ
بِما أَخْبَرَ اللهُ بهِ في كِتابِهِ، وتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ،
وأَجْمَعَ عليِه سَلَفُ الأمَّةِ؛(1)
مِنْ أَنَّهُ سُبْحانَهُ
فَوْقَ سَماواتِهِ؛ عَلى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ على خَلْقِهِ، وهُو سُبحانَهُ
معهُمْ أَيْنما كَانُوا، يَعْلَمُ ما هُم عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ
ذلكَ في قَوْلِهِ:
(
هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْملَونَ بَصِيرٌ ).(2)
ولَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ( وَهُوَ مَعَكُمْ )
أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بالخَلْقِ؛ فإِنَّ هذا لاتُوجِبُهُ اللُّغَةُ، [ وهُو
خِلافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأمَّةِ، وخِلافُ مَا فَطَرَ اللهُ
عليهِ الخَلْقَ،(3)
بلِ القَمَرُ آيةٌ مِنْ
آياتِ اللهِ مِن أَصْغَرِ مَخْلوقاتِهِ، وهُو مَوْضوعٌ في السَّماءِ، وهُوَ
مَعَ المُسافِرِ وغَيْرِ المُسافِرِ أَيْنما كَانَ.(4)
وهُو سُبْحانَهُ فوقَ
عَرْشِهِ، رَقيبٌ على خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عليِهمْ، مُطَّلعٌ [ عليهِمْ ] …
إِلى غَيْرِ ذلك مِنْ مَعاني رُبُوبِيَّتِهِ.(5)
وكُلُّ هذا الكَلامِ
الَّذي ذَكَرَهُ اللهُ – مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ وأَنَّهُ مَعَنا –
حَقٌّ على حَقيقَتِهِ، لا يَحْتاجُ إِلى تَحْريفٍ، ولكنْ يُصانُ عَنِ
الظُّنُونِ الكاذِبةِ(6)
مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ
ظاهِرَ قولِهِ: ( فِي السَّماءِ )؛ أَنَّ السَّمَاء تُظِلُّهُ أَو
تُقِلُّهُ، وهذا باطِلٌ بإِجْماعِ أَهْلِ العِلْمِ والإِيْمانِ.(7)
فإِنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ والأرْضَ، وهُوَ يُمْسِكُ السَّمَاواتِ والأرْضَ
أَنْ تَزُولا، ويُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ على الأرْضِ؛ إِلاَّ
بإِذْنِهِ، ( ومِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأرْضُ بأَمْرِهِ ).(8) ).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولُه: (تَواتَرَ): التَّواتُرُ لغةً: التَّتابُع بِعُلُوٍّ. واصطلاحًا خبرُ عددٍ يمتَنِعُ معه لكَثرَتِه تواطءٌ على الكَذِبِ عن محسوسٍ، ويَنقسِمُ إلى قِسمَيْنِ: (الأوَّلُ): لفظيٌّ، وهُوَ ما اشْتركَ عدُده في لفظٍ بعَيْنِه، وَذَلِكَ كحديثِ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). رواه نيِّفٌ وستُّون منهم العشَرةُ. (الثَّاني): معنويٌّ، بأنْ يتواتَرَ معنًى في ضِمنِ أحاديثَ مختلفةِ الألفاظِ متَّحِدةِ المعنى.
قولُه: (سَلَفُ
الأُمَّةِ): أيْ متقَدِّمُوهم، والمرادُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وهم
الصَّدْرُ الأوَّلُ مِن التَّابِعينَ وغيرِهم، الذين هُم حَمَلةُ
الشَّريعةِ، ونَقَلَةُ الدِّينِ على التَّحقيقِ.
قولُه: (وقد دخل). إلخ، أي
وقد دخَلَ في الإيمانِ باللَّهِ الإيمانُ بعُلُوِّه -سبحانه- وفوقِيَّتِه
واستوائِه على العرشِ، فمَن لم يؤمِنْ بعُلُوِّه وفوقِيَّتِه لم يؤمِنْ به،
ولم يُصَدِّقْ رُسلَه، ولم يؤمِنْ بكتابِه، وبما جاء به رسولُه مُحَمَّدٌ
-صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-. قال إمامُ الأئمَّةِ ابنُ خزيمةَ: مَن لم
يُقِرَّ بأنَّ اللَّهَ على عرشِه استوى فوقَ سبعِ سماواتٍ، وأنَّه بائِنٌ
مِن خَلقِه، فهُوَ كافِرٌ يُستتابُ، فإنْ تابَ وإلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُه،
وأُلْقِيَ على مِزْبلةٍ لئلاَّ يتأذَّى بِريحِه أهلُ القِبلةِ وأهلُ
الذِّمَّةِ.
قولُه: (بما أخبرَ اللَّهُ في كتابِه وتواتَرَ عن رسولِه): كما قال سبحانه: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ). وقولُه: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِن فَوْقِهِمْ)
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ الصَّريحةِ في إثباتِ العُلُوِّ التَّامِ
بجميعِ أنواعِه والفَوقِيَّةِ، وقد تَقدَّمَ ذِكرُ أنواعِ العُلُوِّ
والفَوقِيَّةِ، وتَقدَّمَ حديثُ الأوعالِ وغيرُه مِن الأحاديثِ الصَّريحةِ
في إثباتِ العُلُوِّ والفوقِيَّةِ، وأدلَّةُ إثباتِ العُلُوِّ والفوقيَّةِ
متواتِرةٌ، وانضمَّ إلى ذَلِكَ شهادةُ الفِطَرِ والعُقولِ المستقيمةِ
والنُّصوصِ الواردةِ الدَّالَّةِ على عُلُوِّ اللَّهِ، وكَونِه فوقَ
عِبادِه تَقْرُبُ مِن عشرين نوعًا، وإفرادُ هَذِهِ الأنواعِ لو بُسِطَتْ
لبَلَغَتْ نحوَ ألْفِ دليلٍ كما ذَكَرَه ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ-
وغيرُه.
قولُه: (وأجمع عليه سَلَفُ
الأمَّةِ): قال أبو عُمرَ الطلمنكيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أجمعَ أهلُ
السُّنَّةِ على أنَّ اللَّهَ على عرشِه على الحقيقةِ لا على المجازِ، ثم
ساقَ بِسَنَدِه عن مالِكٍ قولَه: اللَّهُ في السَّماءِ وعِلمُه في كُلِّ
مكانٍ، ثم قال: أجمعَ المسلِمونَ مِن أهلِ السُّنَّةِ أنَّ معنى قولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)
ونحوِ ذَلِكَ مِن القرآنِ: أنَّ ذَلِكَ عِلمُه، وأنَّ اللَّهَ فوقَ
السَّماواتِ بِذاتِه مُسْتوٍ على عرشِه، وهَذَا كثيرٌ في كلامِ الصَّحابةِ
والتَّابِعينَ والأئمَّةِ، فأثبَتُوا ما أثْبَتَهُ اللَّهُ في كتابِه وعلى
لِسانِ رسولِه على الحقيقةِ على ما يَلِيقُ بجلالِ اللَّهِ وعظَمَتِه.
(2)
قولُه: (وهُوَ -سُبْحَانَهُ- معهم أيْنما كانوا يَعلَمُ ما هم عامِلون).
أيْ -سُبْحَانَهُ- مع عِبادِه بعِلمِه وإحاطَتِه واطِّلاعِه ومُشاهَدَتِه،
لا يَخفَى عليه منهم شيءٌ، ومَعيَّتُه -سُبْحَانَهُ- لعِبادِه لا تُنافي
عُلُوَّه وفوقِيَّتَه، فإنَّه جَمَعَ بينهما في قولِه: (وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ) الآيةَ، كما أشارَ إلى ذَلِكَ المصنِّفُ بقولِه:
(كما جَمعَ بين ذَلِكَ في قولِه: (وهُوَ الذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ)
إلخ. فأخبر -سُبْحَانَهُ- أنَّه خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ، وأنَّه
استَوى على عرشِه، وأنَّه مع خَلقِه يُبصِرُ أعمالَهم مِن فوقِ عرشِه،
فعُلُوُّه -سبحانَهُ وتعالَى- لا يُناقِضُ معيتَّه، ومعيتُّه لا تُبطِلُ
عُلُوَّه بل كِلاهما حَقٌّ، وَهَذِهِ الآيةُ مِن أدلِّ شيءٍ على مُبايَنةِ
الرَّبِّ لخَلقِه، فإنَّه لم يخلُقْهم في ذاتِه، بل خَلقَهُم خارجًا عن
ذاتِه، ثم بانَ عنهم باستوائِه على عرشِه، وهُوَ يَعلمُ ما هم عليه
ويَنفُذُ بَصرُه فيهم، ويُحيطُ بهم عِلمًا وقُدرةً وسمعًا وبَصرًا، وفي
هَذِهِ الآيةِ إثباتُ عُلُّوِه -سبحانَهُ وتعالَى- واستوائِه على عرشِه،
وفيها إثباتُ عِلمِه، وإحاطةُ عِلمِه بالكُلِّيَّاتِ والجُزئَّياتِ، وبما
كان وما يكونُ، وما لم يَكنْ، ولو كان كيف يكونُ، وفيها إثباتُ معيَّتِه
-سُبْحَانَهُ- لخَلقِه وأنَّ معيتَّه -سبحانَهُ وتعالَى- لا تُنافى
عُلُوَّه وفوقيَّتَه، فإنَّه جَمَع بينهما، وفيها الرَّدُّ على مَن زَعَم
أنَّ الاستواءَ مجازٌ، وأنَّ معنى استوى استولى؛ لأنَّ اللَّهَ قال: استوى
في عِدَّةِ مواضِعَ، والاستواءُ غيرُ الاستيلاءِ، فإنَّ الاستواءَ معناه
العُلُوُّ والارتفاعُ، وأمَّا الاستيلاءُ فلا يكونُ إلا بعدَ مغالَبةٍ،
ولأنَّه –سُبْحَانَهُ- خَصَّ العرشَ بالاستواءِ، ولو كان المرادُ
الاستيلاءُ لم يَخُصَّه؛ لأنَّه مستولٍ على الخلقِ جميعِهم، وقد رُدَّ
تأويلُ الاستواءِ بالاستيلاءِ مِن وجوهٍ عديدةٍ أَنْهاهَا ابنُ القيِّمِ
-رَحِمَهُ اللَّهُ- إلى اثنَيْنِ وأربعينَ وجْهًا، وقد تَقدَّمَ ذِكرُ
بعضِها، وفي الآيةِ فوائدُ غيرُ ما ذُكِرَ، قد تَقدَّمَت الإشارةُ إليها في
الكلامِ على الآياتِ.
(3) قولُه: (وليس معنى قولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أنَّه مختلِطٌ بالخَلقِ): بل المعنى أنَّه معهم بعِلمِه واطِّلاعِه ومشاهَدَتِه، وقد تَقدَّمَ طرَفٌ مِن الكلامِ في هَذَا الموضوعِ.
قولُه: (فإنَّ هَذَا لا
تُوجِبُه اللُّغةُ). أي لُغةُ العربِ لا تُوجِبُ أنَّ (مع) تفيد اختلاطا أو
امتزاجًا أو مجاورة، فإنَّ مع في كلامِ العربِ للصُّحبةِ اللاَّئِقةِ لا
تُشْعِرُ بامتزاجٍ، ولا اختلاطٍ، ولا مماسَّةٍ، ولا مجاورةٍ، فتقولُ: زوجتي
معي، وهي في مكانٍ وأنتَ في مكانٍ، ويقولونَ: ما زِلْنا نَسيرُ والقمرُ
معنا، وقال تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
فليس في هَذَا ما يَدُلُّ على الاختلاطِ والامتزاجِ، فكيف تكونُ حقيقةُ
المعيَّةِ في حَقِّ الرَّبِ ذَلِكَ، فليس في ذَلِكَ ما يَدلُّ على أنَّ
ذاتَه فيهم، ولا مُلاصِقةً لهم ولا مُجاوِرةً بوجهٍ مِن الوُجوهِ، وغايةُ
ما تَدلُّ عليه المصاحَبةُ، وهي في كُلِّ موضعٍ بحسَبِه.
قولُه: (وهُوَ خلافُ ما
أَجمعَ عليه سَلَفُ الأمَّةِ): أيْ: أنَّ ما زَعَمه أهلُ البِدعِ أنَّه
-سُبْحَانَهُ- في كُلِّ مكانٍ بذاتِه أو أنَّه مختلِطٌ بالخَلقِ ممتزِجٌ
بهم، أو حالٌّ فيهم، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأقوالِ مبتدَعةٌ مخالِفةٌ ما
عليهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، فإنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ أجمعوا على أنَّ
اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- مُستوٍ على عرشِه، عالٍ على خَلقِه، بائنٌ منهم ليس
في ذاتِه شيءٌ مِن مخلوقاتِه، ولا في مخلوقاتِه شيءٌ مِن ذاتِه، كما
تواتَرَتْ بِذَلِكَ الأدِلَّةُ، وقد تَقدَّمَ أيضًا ذِكرُ إجماعِ السَّلَفِ
على معنى قولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أنَّه معهم بعِلمِه، وقال أبو بكرٍ الآجُرِيُّ إمامُ عصرِه في الحديثِ والفقهِ في كتابِه: فإنْ قال قائِلٌ فما معنى قولِه: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ)
الآيةُ، قِيل له: عِلمُه معهم، واللَّهُ على عرشِه، وعِلمُه محيطٌ بهم،
كذا فسَّرَهُ أهلُ العِلمِ، والآيةُ تدلُّ أوَّلُها وآخِرُها على أنَّه
العِلمُ، وهُوَ على عرشِه، هَذَا قولُ المسلِمِينَ. انتهى.
قولُه: (فَطَرَ) أيْ: خَلَقَ ابتداءً، ومنه (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ)
الآيةَ، أي أنَّ ما زَعَموه مِن أنَّه -سُبْحَانَهُ- مختلِطٌ بالخَلقِ أو
حالٌّ فيهم خِلافُ ما فَطَرَ اللَّهُ عليه الخَلقَ، فإنَّ الخَلقَ فُطِروا
على الإقرارِ بعُلُوِّه -سُبْحَانَهُ- على خَلقِه، وإنما جاءتْ الرُّسلُ
بتقريرِ ما في الفِطَرِ والعُقولِ، فالعقلُ الصَّحيحُ لا يُخالِفُ النَّقلَ
الصَّريحَ، ولمَّا سألَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
الجاريةَ: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) قالت: في
السَّماءِ. وقال يزيدُ بنُ هارونَ: مَن زعَم أنَّ الرَّحمنَ على العرشِ
استوى على خلافِ ما تَقرَّرَ في قلوبِ العامَّةِ فهُوَ جَهْمِيٌّ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ
الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والذي تَقرَّرَ في قلوبِ
العامَّةِ هُوَ ما فَطَرَ اللَّهُ عليه الخليقَةَ مِن تَوجُّهِها إلى
رَبِّها عندَ النَّوازِلِ والشَّدائدِ إليه تعالى نحوَ العُلُوِّ، لا
تَلْتَفِتُ يَمْنةً ولا يَسْرةً، مِن غيرِ مُوقِفٍ وقَفَهم عليه، ولكنَّ
فِطرةَ اللَّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عليها، وما مِن مولودٍ إلاَّ وهُوَ
يُولدُ على هَذِهِ الفِطرةِ حتى يُجهِّمَهُ ويَنقُلَهُ إلى التَّعطيلِ مَن
يُقيَّضُ له. انتهى.
(4) قولُه: (بل القمرُ آيةٌ) الآيةُ لغةً:
العلامَةُ. والآيةُ، والدَّليلُ، والبُرهانُ، والسُّلطانُ، والحُجَّةُ،
ألفاظٌ متقارِبةٌ، أيْ أنَّ القمرَ مِن الآياتِ الدالَّةِ على وُجودِه
-سُبْحَانَهُ- وعظيمِ قُدرتِه، وأنَّه المستحِقُّ للعِبادةِ، قال اللَّهُ
-سُبْحَانَهُ وتعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)
الآيةَ، وقد أَقسَمَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- بالقمرِ الذي هُوَ آيةُ
اللَّيلِ، وفيه مِن الآياتِ الباهرةِ الدَّالَّةِ على رُبوبِيَّةِ خالِقه
وبارئِه، وحِكمتِه وعِلمِه ما هُوَ معلومٌ بالمشاهَدةِ.
والآياتُ تَنقسِمُ إلى قِسمَيْنِ: آياتٌ مشاهَدةٌ مَرئيَّةٌ، كالسَّماواتِ والأرضِ والشَّمسِ والقمرِ ونحوِ ذَلِكَ، وآياتٌ مسموعةٌ متلُوَّةٌ
كالقرآنِ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ فإنَّها مُبَيِّنَةٌ ومقرِّرةٌ لما دَلَّ
عليه القرآنُ، فآياتُه العَيانِيَّةُ في خَلقِه تدلُّ علىصِدقِ آياتِه
المسموعةِ المتلُوَّةِ، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، أيْ أنَّ القرآنَ حقٌّ، فأخبَرَ أنَّه يدلُّ بآياتِه المرئيَّةِ على صِدقِ آياتِه المتلُوَّةِ المسموعةِ.
قولُه: (وهُوَ موضوعٌ في السَّماءِ): أي القمرُ موضوعٌ في السَّماءِ الدُّنْيَا.
قولُه: (وهُوَ مع المسافِرِ): مِن السَّفَرِ، وهُوَ لغةً:
قَطعُ المسافةِ مِن أَسْفَرَ إذا بَرَزَ، ومنه السِّفْرُ وَهِيَ الكُتبُ؛
لأنَّه يُسفِرُ عمَّا فيه، قيل سُمِّيَ السَّفَرُ بالفتحِ سَفَرًا؛ لأنَّه
يُسفِرُ عن أخلاقِ الرِّجالِ.
قولُه: (وهُوَ مع
المسافِرِ وغيرِ المسافرِ أينما كان) أي: القمرُ مع المسافِرِ وغيرِ
المسافِرِ، فإنَّه يُقالُ ما زِلْنَا نَسيرُ والقمرُ معنا أو النَّجْمُ
والقمرُ في مكانِه غيرُ مختلِطٍ بهم، ولا مُحاذٍ ولا مماسٍّ ولا مُجاوِرٍ،
ولا يَفهَمُ أحدٌ مِنه هَذَا، هَذِهِ لغةُ العَربِ المعروفةُ لَديْهِم،
فإذا كان هَذَا القمرُ الذي هُوَ مِن أصغرِ مخلوقاتِ اللَّهِ فكيفَ تكونُ
حقيقةُ المعِيَّةِ في حقِّ الرَّبِ ذَلِكَ، فإنَّ غايةَ ما تَدلُّ عليه
(مع) المصاحَبةُ، وَهِيَ في كُلِّ موضعٍ بحسَبِه، وقد ضَرَبَ النَّبيُّ
–صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مَثَلاً بِذَلِكَ بالقمرِ –وَلِلَّهِ
الْمَثَلُ الأَعْلَى- ولكنَّ المقصودَ بالتَّمثيلِ بيانُ جوازِ هَذَا
وإمكانِه، لا تَشبِيهُ الخالِقِ بالمخلوقِ، فقال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِياً بِهِ)). فقال له أبو رَزينٍ العُقيليُّ: كَيْفَ يا رسولَ اللَّهِ وهُوَ واحدٌ ونحن جَمعٌ؟ فقال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((سَأُنَبِّئُكَ
بِمَثَلِ هَذَا فِي آلاَءِ اللَّهِ، هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ رَآهُ
مُخْلِياً بِهِ، وهُوَ آيةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَاللَّهُ أَكْبَرُ))
أوْ كما قال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فشَبَّهَ الرُّؤيَة
بالرُّؤيةِ، وإنْ لم يكُن المرئيُّ مُشابِهًا للمَرئيِّ، فالمؤمِنونَ إذا
رَأَوْا ربَّهُم يومَ القيامةِ وناجَوْه كُلٌّ يَراهُ فوقَه قِبلَ وجْهِهِ،
كما يرى الشَّمسَ والقمرَ، ولا مُنافاةَ أصلاً. انتهى. مِن (الحَمويَّةِ)
باختصارٍ.
قال ابنُ القيِّمِ
-رَحِمَهُ اللَّهُ- على حديثِ أبي رزينٍ: وفيه القياسُ في أدلَّةِ
التَّوحيدِ والمَعادِ، والقرآنُ مملوءٌ منه، وفيه أنَّ حُكمَ الشَّيءِ
حُكمُ نَظيرِه. انتهى.
(5) قولُه: (فوقَ العرشِ) كما قال سُبْحَانَهُ: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) في سبعِ مواضعَ مِن القرآنِ، وقال تعالى: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على هَذَا الموضوعِ
والإشارةُ إلى أنَّ الأدلَّةَ على عُلُوِّ اللَّهِ وفوقِيَّتِه بَلَغَتْ
حَدَّ التَّواتُرِ، وتَواطأَ على ذَلِكَ دليلُ العقلِ والفِطرةِ.
قولُه: (رَقيبٌ على خَلقِه): قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
أي: أنَّه -سُبْحَانَهُ- مُراقِبٌ لأحوالِكُمْ وأعمالِكُم لا يَخفَى عليه
خافيةٌ، وفيها إرشادٌ وحثٌّ على مراقَبةِ اللَّهِ، واستحضارِ قُربِه، كما
في الحديثِ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)).
قولُه: (مُهيمِنٌ عليهم).
قال ابنُ عباسٍ وغيرُ واحدٍ: المهيمِنُ أيْ الشَّاهِدُ على خَلقِه
بأعمالِهم، بمعنى هُوَ رقيبٌ عليهم، كقولِه سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يقالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهيمِنٌ، إذا كان رَقِيبًا على الشَّيءِ.
قولُه: (إلى غيرِ ذَلِكَ
مِن معاني رُبوبِيَّتِه): فإن رُبُوبِيَّتَه -سُبْحَانَهُ- إنَّما
تَتحقَّقُ بكونِه فَعَّالا مُدَبِّراً متصرِّفاً في خَلقِه، يَعلَمُ
ويُقدِّرُ، ويَسمعُ ويُبصِرُ، فإذا انْتفَتْ أفعالُه وصِفاتُه انتفَتْ
ربُوبِيَّتُه.
(6)
قولُه: (حقٌّ على حقيقَتِه): فيَجِبُ اعتقادُه والإيمانُ به لِتَواطُؤِ
الأدلَّةِ على إثباتِه، والحقُّ في اللُّغةِ: هُوَ الثَّابِتُ الذي لا
يُسَوَّغُ إنكارُه، وفي اصطلاحِ أهلِ المعاني: هُوَ الحُكمُ المطابِقُ
للواقِعِ، يُطلَقُ على الأقوالِ والأديانِ والعقائدِ والمذاهِبِ باعتبارِ
اشتِمالِها على ذَلِكَ، ويُقابِلُه الباطلُ، انتهى، تعريفاتٌ.
قولُه: (حقيقتِه) الحقيقةُ
اسمٌ لما أُريدَ به ما وُضِعَ له، فعيلةٌ مِن حَقَّ الشَّيءُ إذا ثَبَتَ،
بمعنى فاعِلِه، وفي الاصطلاحِ: هُوَ كلمةٌ مستعمَلةٌ فيما وُضِعَتْ له في
اصطلاحِ التَّخاطُبِ به.
قولُه: (ولكنْ) حرفُ استدراكٍ.
قولُه: (يُصانُ) أي: يُحفَظُ، يقالُ صَانَه يَصُونُه صِيانةً أي حَفِظَه.
قولُه: (مِن الظُّنونِ
الكاذبةِ) الظَّنُّ مَصْدرٌ مِن بابِ قَتَلَ، وهُوَ خلافُ اليَقِينِ، قاله
الأزهريُّ وغيرُه، وقد يُستعمَلُ بمعنى اليَقِينِ كقولِه سبحانَه: (الَّذِينَ يَظُنَّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ) الآيةَ.
قولُه: (وكُلُّ هَذَا
الكَلامِ حَقٌّ على حقيقتِه) إلخ. هَذَا إشارةٌ للردِّ على المعطِّلةِ مِن
الجهميَّةِ والمعتزِلةِ وأشباهِهم الذين يَزعمُونَ أنَّ ما جاءَ مِن ذِكرِ
فَوقِيَّتِه وعُلُوِّه واستوائِه على عرشِه ليس بحقيقةٍ، وإنَّما هُوَ
مجازٌ، وما زَعموه باطلٌ مصادِمٌ لأدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ
الصَّريحةِ، وإجماعِ السَّلَفِ على أنَّ ذَلِكَ حقيقةٌ كما يَلِيقُ بجلالِ
اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وعظَمَتِه.
قال ابنُ القيِّم
-رَحِمَهُ اللَّهُ- في "الصَّواعِقِ": وممَّا ادَّعَوْا فيه أنَّه مجازٌ
(الفَوقِيَّةُ) وساقَ أدلَّةً كثيرةً في إثباتِ الفَوْقيَّةِ الكاملةِ مع
جميعِ الوجوهِ، منها أنَّ الأصلَ الحقيقةُ، والمجازُ على خلافِ الأصلِ،
ومنها أنَّ الظَّاهِرَ خلافُ ذَلِكَ، ومنها أنَّ الاستعمالَ المجازِيَّ لا
بدَّ فيه مِن قرينةٍ تُخرجُه عن حقيقتِه فأَيْنَ القَرينةُ في فوقيَّةِ
الرَّبِّ؟ وقال أبو عُمرَ الطلمنكيُّ: أَجْمعَ أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ
اللَّهَ استوى على عَرشِه على الحقيقةِ لا على المجازِ.
وقالَ الشَّيخُ تقيُّ
الدِّينِ بنُ تيميةَ -رحمَه اللَّهُ-: وهَذَا كتابُ اللَّهِ مِن أوَّلِه
إلى آخِرِه وسُنَّةُ رسولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وكلامُ
الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وسائرِ الأئمَّةِ مملوءٌ بما هُوَ نَصٌّ أو ظاهرٌ
أنَّ اللَّهَ فوقَ كُلِّ شيءٍ، وأنَّه فوقَ العرشِ، وأنَّه العَليُّ
الأعلى، وأنَّه مستوٍ على عرشِه، وساقَ أدلَّةً كثيرةً في إثباتِ ما ذُكِرَ
وأنَّه حقيقةٌ، وإبطالِ ما زَعَموه مِن المجازِ، وقد تكاثَرَت الأدلَّةُ
في ذَلِكَ، وأَجْمعَ على ذَلِكَ السَّلَفُ، ودلَّ على ذَلِكَ أيضًا دَليلُ
العقلِ، وليس مع مَن خالَفَ سِوى الظُّنونِ الكاذبةِ والشُّبَهِ الفاسدةِ
التي لا يُعارَضُ بها ما دلَّ عليه نصوصُ الوحيِ والأدلَّةِ العقليَّةِ،
وقد ذَمَّ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- الظَّنَّ المجرَّدَ وأهلَه فقال: (إنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ) (وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِن الْحَقِّ شَيْئاً) وفي الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)).
وقال الشَّيخُ تقيُّ
الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: النُّفاةُ للعُلُوِّ ونحوِه مِن الصِّفاتِ
مُعترِفون بأنَّه ليس مستَنَدَهم خبرُ الأنبياءِ، ولا الكتابُ، ولا
السُّنَّةُ، ولا أقوالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ولا مستَنَدَهُمْ فِطرةُ
العقلِ وضرورتُه، ولكنْ يقولون معنا النَّظَرُ العقليُّ، وأمَّا أهلُ
السُّنَّةِ المُثبِتون للعُلُوِّ فيقولون: إنَّ ذَلِكَ ثابتٌ بالكِتابِ
والسُّنَّةِ والإجماعِ، مع فِطرةِ اللَّهِ التي فَطَرَ العِبادَ عليها،
وضرورةِ العقلِ مع نَظرِ العقلِ واستدلالِه. انتهى.
وقولُه: (لا يحتاجُ إلى
تحريفٍ): إشارةٌ للرَّدِّ على المُعطِّلةِ الذين حرَّفُوا الأدلَّة
وسَمَّوْا تحريفَهم تأوِيلا، تَرْوِيجاً على الجُهَّالِ، وهُوَ في الحقيقةِ
تبديلٌ وتغييرٌ لكلامِ اللَّهِ ورسولِه، فإنَّ ما جاء مِن الأدلَّةِ في
إثباتِ العُلُوِّ والفَوقِيَّةِ وغيرِ ذَلِكَ مِن الصِّفاتِ صريحُ
اللَّفظِ، واضِحُ المعنى، نَصٌّ في معناه لا يَحتمِلُ التَّأويلَ.
(7) قولُه: (تُقِلُّه) أي: تحمِلُه وتَرفَعُه.
قولُه: (أو تُظِلُّه) أي تَستُره والظُّلَّةُ الشَّيءُ الذي يُظِلُّكَ مِن فوقُ.
قولُه (مِثل أنْ يَظُنَّ أنَّ ظاهِرَ قولِه: (فِي السَّماءِ) إلخ. أيْ: في مِثلِ قولِه سُبْحَانَهُ: (أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّماءِ)
وقولِ الجاريةِ لمَّا سألَها النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-
قالت: ((في السَّماءِ)). وهَذَا ظَنٌّ فاسدٌ مصادِمٌ لأدلَّةِ الكِتابِ
والسُّنَّةِ الصَّريحةِ الدَّالَّةِ على عُلُوِّ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-
وفَوقِيَّتِه، وعلى أنَّه فوقَ عرشِه حقيقةً، بائنٌ مِن خَلقِه لا يَحِلُّ
فيهم ولا يَختلِطُ، فليس في ذاتِه شيءٌ مِن مخلوقاتِه، ولا في مخلوقاتِه
شيءٌ مِن ذاتِه، مَن زعَم غيرَ ذَلِكَ فقد ظَنَّ به ظَنَّ السَّوْءِ
وتَنَقَّصَه غايةَ التَّنقُّصِ.
وقال الشَّيخُ تقيُّ
الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فأهلُ السُّنَّةِ إذا قالوا: إنَّه فوقَ
العرشِ، أو أنَّه في السَّماءِ لا يقولون: إنَّ هناكَ شيءٌ يحويه أو
يَحصُرُه ويكونُ مَحلاًّ له أو ظَرْفا أو وِعاءً، تعالى اللَّهُ عن ذَلِكَ،
بل هُوَ فوقَ كُلِّ شيءٍ، وهُوَ مُستغْنٍ عن كُلِّ شيءٍ، وكُلُّ شيءٍ
مفتقِرٌ إليه، وهُوَ عالٍ على كُلِّ شيءٍ، وهُوَ الحامِلُ للعرشِ ولحمَلَةِ
العرشِ بقُوَّتِه وقُدرتِه، وهُوَ غَنِيٌّ عن العرشِ وعن كُلِّ مخلوقٍ …
قال: وما جاءَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن قولِه: ((في السَّماءِ)) قد
يَفهَمُ منه بعضُهم أنَّ السَّماءَ نَفْسُ المخلوقِ العالي العرشَ فما
دونَه، فيقولون إنَّ قولَه: ((في السَّماءِ))، كما قال: (لأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ولا حاجةَ لهَذَا، بل السَّماءُ جِنسٌ للعالي لا
يَخصُّ شيئا، فقولُه: ((في السَّماءِ))، أي العُلُوُّ دُون السُّفْلِ،
وهُوَ العليُّ الأعلى، فله أَعْلى العُلُوِّ، وهُوَ ما فوقَ العرشِ، وليس
هناك غيرُ العليِّ الأعلى سُبْحَانَهُ. انتهى.
قال: فالجهميَّةُ
وأشباهُهم لا يَصِفونه -سُبْحَانَهُ- بالعُلُوِّ، بل إمَّا أنْ يَصِفُوه
بالعُلُوِّ والسُّفولِ، وإمَّا أنْ يَنْفُو عنه العُلُوَّ والسُّفولَ، فهُم نوعانِ: قِسمٌ يقولون: إنَّه في كُلِّ مكانٍ بذاتِه. والقِسمُ الآخَرُ يقولون:
إنَّه لا داخِلَ العالَمِ ولا خَارِجَه، فالقِسمُ الأوَّلُ وَصَفُوه
بالحُلولِ في الأمكِنةِ ولم يُنَزِّهُوه عن المَحالِّ المستَقْذَرةِ،
والقِسمُ الثَّاني وَصَفوهُ بالعَدمِ – تعالى اللَّهُ عن قولِهم عُلُواًّ
كبيرًا.
(8)
قولُه: (فإنَّه قد وَسِعَ كرسِيُّه السَّماواتِ والأرضَ) لمَّا ذَكَرَ
المصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- العُلُوَّ والفَوقِيَّةَ، وأنَّهما حقيقةٌ
ثابتةٌ لِلَّهِ على ما يَليقُ بجلالِه وعظَمَتِه أَوْرَدَ بعد ذَلِكَ بعضَ
الأدلَّةِ النَّقْلِيَّةِ والعقليَّةِ في إثباتِ ذَلِكَ فقال: (فإنَّ
اللَّهَ قد وَسِعَ كرسِيُّه السَّماواتِ والأرضَ) أي: مَلأَ وأحاطَ،
والكرسيُّ مخلوقٌ عظيمٌ بين يَدَيِ العرشِ، وهُوَ أعظمُ مِن السَّماواتِ
والأرضِ، وهُوَ بالنِّسبةِ إلى العرشِ كأصغرِ شيءٍ، وقد ذُكِرَ ذَلِكَ،
فإذا كانت السَّماواتُ والأرضُ بالنِّسبةِ للكرسِيِّ الذي هُوَ بالنِّسبةِ
إلى العرشِ شيءٌ صغيرٌ واللَّهُ -سبحانَهُ وتعالَى- العظيمُ الأعظَمُ الذي
لا أجلَّ مِنه ولا أَعْظَمَ، فكَيْفَ تحويه السَّماواتُ والأرضُ، أو
تَحوطُه أو تُقِلُّه أو تُظِلُّه؟! فَهِذِهِ الآيةُ صريحةٌ في عُلُوِّ
اللَّهِ ومُبايَنَتِه لخَلقِه، وأنَّه غيرُ مختلِطٍ بهم، ولا مُمازِجٍ لهم،
ولا حالٍّ فيهم – تعالى اللَّه عمَّا يقولُ المتبدِعةُ عُلُواًّ كبيرًا.
قولُه: (وهُوَ يُمسِكُ السَّماواتِ والأرضَ أنْ تَزُولا) أيْ: أنْ تَضطرِبا عَن أماكِنِهما.
قولُه: (ويُمسِكُ
السَّماواتِ أنْ تَقَعَ على الأرضِ إلا بإِذْنِه) أيْ: إلاَّ بأمْرِه
ومشيئَتِه. وفي الصَّحيحَيْنِ عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسلَّمَ- قال: ((يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يومَ
الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ، ثم يَقُولُ: أَنَا
الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟)).
قولُه: (ومِنْ آياتِهِ
أَنْ تَقُومَ السَّماءُ والأرْضُ بأَمْرِهِ) أي: مِن العَلاماتِ
الدَّالَّةِ على وُجودِه –سُبْحَانَهُ- وعظيمِ قُدرتِه وقيامِ كُلِّ شيءٍ
به، قال سُبْحَانَهُ: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بما كسَبَتْ)، وقال: (اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيَّومُ)
أي القائمُ لنَفْسِه المُقيمُ لِغَيرِه، القائمُ بتَدبيرِ خَلقِه
وأرزاقِهم وجميعِ أحوالِهم. وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ أبي موسى الأشعريِّ ((إنَّ
اللَّهَ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ
الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ
النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ
النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى
إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) رواهُ مسلمٌ.
فَهِذِهِ الآياتُ صريحةٌ
في أنَّ الرَّبَّ -سُبْحَانَهُ- ليس هُوَ عَينَ هَذِهِ المخلوقاتِ ولا صفةً
ولا جُزءًا منها، فإنَّ الخالِقَ غيرُ المخلوقِ وليس بداخِلٍ فيها محصورٌ،
بل هي صريحةٌ في أنَّه مُباينٌ لها، وأنَّه ليس حالاًّ فيها، ولا مَحلاًّ
لها، فإنَّ الكرسيَّ في العرشِ كحَلْقةٍ مُلقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، والعرشُ مِن
مخلوقاتِ اللَّهِ، لا نِسبةَ له إلى قدرةِ اللَّهِ وعظَمَتِه، فكَيْفَ
يُتَوهَّمُ بعدَ هَذَا أنَّ خَلْقاً يَحصُرُه ويَحويهِ؟ وفيها دلالةٌ على
عظَمَتِه -سُبْحَانَهُ- وعظيمِ قُدرَتِه وعِظَمِ مخلوقاتِه، وقد تَعرَّفَ
-سُبْحَانَهُ- إلى عِبادِه بصفاتِه وعجائبِ مخلوقاتِه، وكُلُّها تَدلُّ على
كمالِهِ، وأنَّه المعبودُ الحقُّ وحْدَه ولا شريكَ له في رُبُوبيَّتِه
وإلهِيَّتِه، وأنَّ العِبادةَ لا تَصلُحُ إلاَّ له، ولا يَصلحُ منها شيءٌ
لِمَلَكٍ مُقرَّبٍ، ولا نَبيٍّ مُرسلٍ، فضلا عن غيرِهما، وتدلُّ أيضًا على
إثباتِ الصِّفاتِ لِلَّهِ على ما يَليقُ بجلالِه إثباتًا بلا تَمثيلٍ،
وتَنْزِيهاً بلا تعطيلٍ، وعلى هَذَا سَلَفُ الأمَّةِ ومَن تَبِعهم بإحسانٍ.
وهُوَ الذي دَلَّتْ عليه أدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ).