الدروس
course cover
إحاطة علمه جل وعلا بكل شيء
11 Nov 2008
11 Nov 2008

2963

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الثالث

إحاطة علمه جل وعلا بكل شيء
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

2963

0

0


0

0

0

0

0

إحاطة علمه جل وعلا بكل شيء

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {وَهُوَ العليم الْحَكِيمُ} ]سورة التحريم: 2]
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ منْهَا وَمَا يَنزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سُورَةُ سَبَإٍ :1- 2]
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ منْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[سُورَةُ الأَنْعَامِ : 59]
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَحْمِلُ منْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}[سُورَةُ فَاطِرٍ: 11]
وَقَوْلُهُ : {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[سُورَةُ الطَّلاَقِ: 12]
وَقَوْلُهُ : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[سُورَةُ الذَّارِيَات : 58]
).

هيئة الإشراف

#2

6 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: (وهُوَ العَلِيْمُ الحَكِيْمُ )، ( وهُوَ الحَكِيْمُ الخَبِيْرُ )، ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيْها )، ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ )، وقوله: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ )، وقَوْلُهُ: ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا )(1).
وقَوْلُهُ: { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتْيِنُ } (2)
).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) والعِلمُ صفةٌ للهِ عزَّ وجلَّ، بهَا يدركُ جميعَ المعلوماتِ على ما هيَ بهِ، فلا يخفَى عليهِ منهَا شيءٌ كمَا قدَّمْنا.
وفيهَا إثباتُ اسمِهِ الحكيمِ، وهوَ مأخوذٌ مِن الحكمةِ، ومعناهُ: الذي لا يقولُ ولا يفعلُ إلاَّ الصَّوابَ، فلا يقعُ منهُ عبثٌ ولا باطلٌ، بلْ كلُّ ما يخلقُهُ أو يأمُرُ بهِ فهوَ تابعٌ لحكمتِهِ.
وقيلَ: هوَ مِن فَعِيلٍ بمعنى مُفْعِلٍ، ومعناهُ: المُحْكِمُ للأشياءِ، مِن الإِحكامِ: وهوَ الإِتقانُ، فلا يقعُ في خَلْقِهِ تفاوتٌ ولا فُطورٌ، ولا يقعُ في تدبيرِهِ خللٌ أو اضطرابٌ.
وفيهَا كذلكَ إثباتُ اسمِهِ الخبيرِ، وهوَ مِن الخِبرةِ؛ بمعنى كمَالِ العلمِ، ووثوقِهِ، والإِحاطةِ بالأشياءِ على وجهِ التَّفصيلِ، ووصولِ علمِهِ إلى ما خفِيَ ودقَّ من الحِسِّيَّاتِ والمعنويَّاتِ.
وقَدْ ذكرَ سبحانَهُ في هذهِ الآياتِ بعضَ ما يتعلَّقُ بهِ علمُهُ؛ للدَّلاَلةِ على شمولِهِ وإحاطتِهِ بما لا تبلغُهُ علومُ خلقِهِ:
فذكرَ أَنَّهُ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ }؛ أي: يدخلُ { في الأَرْضِ } مِن حبٍّ وبذرٍ ومياهٍ وحشراتٍ ومعادنَ، { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } مِن زرعٍ وأشجارٍ وعيونٍ جاريةٍ ومعادنَ نافعةٍ كذلكَ، { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } مِن ثلجٍ وأمطارٍ وصواعقَ وملائكةٍ، { وَمَا يَعْرُجُ }؛ أي: يصعدُ { فِيهَا } كذلكَ مِن ملائكةٍ وأعمالٍ وطيرٍ صوافَّ … إلى غيرِ ذلكَ مَّما يعلمُهُ جلَّ شأنُهُ.
وذكرَ فيهَا أيضًا أنَّ { عندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }، ومفاتحُ الغيبِ؛ قيلَ: خزائنُهُ. وقيلَ: طُرُقُهُ وأسبابُهُ التَّي يُتوصَّلُ بهَا إليهِ، جمعُ مِفتحٍ؛ بكسرِ الميمِ، أو مِفتاحٍ؛ بحذفِ ياءِ مفاعيلَ.
وقَدْ فسَّرَهَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ بقولِهِ:
((مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمهُنَّ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ تَلاَ قَوْلَهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ عندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْري نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ}.
وقَدْ دلَّتْ الآيتانِ الأخيرتانِ على أَنَّهُ سبحانَهُ عالمٌ بعلمٍ هوَ صفةٌ لهُ، قائمٌ بذاتِهِ؛ خلافًا للمعتزلةِ الَّذينَ نفَوا صفاتَهُ، فمِنْهُمْ مَنْ قالَ: إنَّهُ عالمٌ بذاتِهِ، وقادرٌ بذاتِهِ … إلخ، ومِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ أسماءَهُ بمعانٍ سَلبِيَّةٍ، فقالَ: عليمٌ؛ معناهُ: لا يجهلُ. وقادرٌ؛ معناهُ: لا يعجزُ … إلخ.
وهذهِ الآياتُ حُجَّةٌ عليهِمْ، فقَدْ أخبرَ فيهَا سبحانَهُ عن إحاطةِ علمِهِ بِحَمْلِ كلِّ أُنثى ووضعِهَا مِن حيثُ المعنى والكيفُ؛ كمَا أخبرَ عن عمومِ قدْرتِهِ، وتعلُّقِهَا بكلِّ مُمْكِنٍ، وعن إحاطةِ علمِهِ بجميعِ الأشياءِ.
وما أحسنَ ما قالَهُ ُالإمَامُ عبدُ العزيزِ المكيُّ في كتابِهِ (الحيدةِ) لبشرٍ المَرِيْسِيِّ المعتزليِّ وهوَ يناظرُهُ في مسألَةِ العلمِ:
(إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لمْ يمدحْ في كتابِهِ مَلَكًا [ مقرَّبًا ] ولا نبيًّا مرسلاً ولا مؤمنَا تقيًّا بنفيِ الجهلِ عنهُ؛ ليدُلَّ على إثباتِ العلمِ لهُ، وإنَّمَا مَدَحَهُمْ بإثباتِ العِلْمِ لهمْ، فنفَى بذلكَ الجهلَ عِنهُمْ …
[ إلى أنْ قالَ: ] ((فَمَنْ أثبتَ العلمَ نَفَى الجَهْلَ، ومَنْ نَفَى الجَهْلَ لمْ يثُبْتِ العِلْمَ)).
والدَّليلُ العقليُّ على علمِهِ تعالى أَنَّهُ يستحيلُ إيجادُهُ الأشياءَ مَعَ الجهلِ؛ لأنَّ إيجادَهُ الأشياءَ بإرادتِهِ، والإِرادةُ تستلزمُ العلمَ بالمُرادِ، ولهذا قالَ سبحانَهُ: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ }.
ولأنَّ المخلوقاتِ فيهَا منِ الإِحكامِ والإِتقانِ وعجيبِ الصَّنعةِ ودقيقِ الخِلْقَةِ ما يشهدُ بعلمِ الفاعلِ لهَا؛ لامتناعِ صدورِ ذلكَ عن غيرِ علمٍ.
ولأنَّ مِن المخلوقاتِ مَنْ هوَ عالِمٌ، والعلمُ صفةُ كمَالٍ، فلو لمْ يكُنِ اللهُ عالمًا؛ لكانَ في المخلوقاتِ مَنْ هوَ أكملُ منهُ.
وكلُّ علمٍ في المخلوقِ إنَّمَا استفادَهُ مِن خالقِهِ، وواهبُ الكمَالِ أحقُّ بهِ، وفاقدُ الشَّيءِ لا يعطيِهِ.
وأنكرَتِ الفلاسفةُ علمَهُ تعالى بالجُزئِيَّاتِ، وقالَوا: إنَّهُ يعلمُ الأشياءَ على وجهٍ كُلِّيٍّ ثابتٍ. وحقيقةُ قَولِهمُ َاَنَّهُ لا يعلمُ شيئًا؛ فإنَّ كلَّ ما في الخارجِ هوَ جُزئِيٌّ.
كمَا أنْكرَ الغُلاةُ مِن القدَرِيَّةِ علمَهُ تعالى بأفعالِ العبادِ حتَّى يعملُوهَا؛ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أنَّ علمَهُ بهَا يُفْضِي إلى الجَبرِ، وقَولُهمْ مَعْلُومُ البطلانِ بالضَّرورةِِ في جميعِ الأديانِ.

(2) قولُهُ: { إنَّ اللهَ … } إلخ. تضمَنْتْ إثباتُ اسمِهِ الرَّزَّاقِ، وهوَ مُبَالَغَةٌ مِن الرِّزْقِ، ومعناهُ: الذي يرزقُ عبادَهُ رزقًا بعدَ رزقٍ في إكثارٍ وسِعةٍ.
وكلُّ ما وصلَ منهُ سبحانَهُ مِن نفعٍ إلى عبادِهِ فهوَ رزقٌ؛ مباحًا كانَ أو غيرَ مباحٍ، على معنى أَنَّهُ قَدْ جعلَهُ لَهُمْ قُوتًا ومعاشًا؛ قالَ تعالى: { والنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقًا لِلْعِبادِ }.
وقالَ: { وَفي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }.
إلاَّ أنَّ الشَّيءَ إذَا كانَ مأذونًا في تَنَاولِهِ؛ فهوَ حلالٌ حُكمَا، وإلاَّ كانَ حَرَامًا، وجميعُ ذلكَ رِزْقٌ.
وتعريفُ الجملةِ الاسميةِ، والإِتيانُ فيهَا بضميرِ الفَصْلِ؛ لإِفادةِ اختصاصِهِ سبحانَهُ بإيصالِ الرِّزقِ إلى عبادِهِ.
ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: (( أَقْرَأَني رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ: إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ )).
وأَمَّا قولُهُ: { ذُو القُوَّةِ }؛ أي: صاحبُ القوَّةِ، فهوَ بمعنى اسمِهِ القوِيِّ؛ إلاَّ أنَّهُ أبلغُ في المعنى، فهوَ يدُلُّ على أنَّ قوَّتَهُ سبحانَهُ لا تتناقصُ فيَهِنُ أو يَفْتُرُ.
وأَمَّا ( المَتِينُ )؛ فهوَ اسمٌ لهُ مِن المَتَانَةِ، وقَدْ فسَّرهُ ابنُ عبَّاسٍ بـ: (الشَّديدِ) ).

هيئة الإشراف

#3

6 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).(1) ).

1- إحاطةُ علمهِ بجميعِ مخلوقاتهِ
(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)، (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ).(2)
(وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ) (لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً) وَقَوْلُهُ: (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذوْ القُوّةِ الْمَتِينُ).(3)

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (
(1) وقولُه: (وَهُوَ الحَكِيمُ) له معنيان، أحدُهما: أنَّه الحاكِمُ بين خلْقهِ بأمرِه الكَونيِّ وأمرِه الشَّرعيِّ في الدُّنيا والآخرةِ ـ والثاني: أنَّه المحْكِمُ المتْقِنُ للأشياءِ، مأخوذٌ مِن الحِكْمَةِ، وهي وضعُ الأشياءِ في مواضعِهَا ـ فهو سبحانَه الحاكمُ بين عبادِه، الذي له الحكمةُ في خلْقِه وأمرِه، لم يَخْلقْ شيئا عَبثًا، ولم يُشرِّعْ إلاَّ ما هو عينُ المصلحةِ (الْخَبِيرُ) مِن الخبرةِ، وهي: الإحاطةُ ببواطنِ الأشياءِ وظواهرِهَا ـ يقالُ: خَبَرْتُ الشيْءَ إذا عرَفْتُه عَلى حقيقتِه. فهو سبحانَه الخبيرُ: أي الذي أحاط ببواطنِ الأشياءِ وخفاياها، كما أحاط بظواهرِهَا.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ: أنَّ فيها إثباتَ اسميْن مِن أسمائِه سبحانَه: (الْحَكِيمُ، الْخَبِيرُ) وهما يتضمَّنان صِفَتيْن مِن صفاتِه، وهما: الحكمةُ والخبرةُ.

(2)(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فيِ الأَرْضِ) أي: ما يدخُلُ فيها مِن القَطْرِ والبُذُورِ والكُنوزِ والموتى وغيرِ ذلك (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهاَ) أي مِن الأرضِ مِن النَّباتِ والمعادنِ وغيرِ ذلك (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) أي مِن المطرِ والملائكةِ وغيِر ذلك (وَمَا يَعْرُجُ فِيها) أي يصعدُ في السَّماءِ مِن ملائكةٍ وأعمالٍ وغيرِ ذلك.
والشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ علمِ اللهِ سبحانَه المحيطِ بكُلِّ شيءٍ، وقولُه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) أي عند اللهِ وحدَه خزائنُ الغيبِ. أو ما يتوصَّلُ به إلى علمِه (لاَ يعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) فمَن ادَّعى علمَ شيءٍ منها، فقد كفَر، وقد ورد تفسيرُ مفاتحِ الغيبِ في الحديثِ الذي رواه ابنُ عمرَ، كما في الصَّحيحيْن عنه أنَّ النبيَّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، قال: ((مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللهُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذه الآيةَ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فيِ الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بَأيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)
(وَيَعْلَمُ مَا فيِ الْبَرِّ) أي: اليابسَ المعمورَ والقِفَارَ مِن السُّكَّانِ والنَّباتِ والدَّوابِّ وغيرِ ذلك (وَالْبَحْرِ) أي: يعلمُ ما فيه مِن الحيواناتِ والجواهرِ ونحوِ ذلك.(وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) أي مِن أشجارِ البرِّ والبحرِ وغيرِ ذلك (إِلاَّ يَعْلَمُهَا) أي يعلمُها ويعلمُ زمانَ سُقوطِهَا ومكانَه (وَلاَ حَبَّةٍ فَي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ) أي ولا تكونُ حَبَّةٌ في الأمكنةِ المظلمةِ أو في بطْنِ الأرضِ (وَلاَ رَطْبٍ ولاَ يَابِسٍ) مِن جميعِ الموجوداتِ، عمومٌ بعد خصوصٍ (إلاَّ في كِتَابٍ مُبِينٍ) أي لا يحصُلُ شيءٌ مِن ذلك إلاَّ وهو مكتوبٌ في اللَّوْحِ المحفوظِ.
وجهُ الشَّاهدِ مِن الآيةِ: أنَّ فيها إثباتَ أنَّه لا يعلمُ الغيبَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ علمَه محيطٌ بكُلِّ شيْءٍ. وفيها إثباتُ القَدَرِ والكتابةِ في اللَّوْحِ المحفوظِ.

(3)(وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولاَ تَضَعُ إلاَّ بِعِلْمِهِ) أي لا يكونُ حَمْلٌ ولا وَضْعٌ، إلاَّ واللهُ عالمٌ به، فلا يخرجُ شيْءٌ عَن علمِه وتدبيرِه. فيعلمُ سبحانَه في أيِّ يومٍ تحمِلُ الأنثى، وفي أيِّ يوم تضعُ، ونوعَ الحملِ هل هو ذَكَرٌ أو أُنْثى.
(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) اللامُ متعلِّقةٌ بقولِه تعالى: (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي فَعَل ذلك لتعلموا كمالَ قدرَتِه (وَأنَّ اللهَ قْد أَحَاطَ بِكُلّ شَيءٍ عِلْماً) أي ولتعلموا إحاطةَ علمِه بالأشياءِ، فلا يخرجُ عَن علمِه شيءٌ منها كائنا ما كان و(عِلْماً) منصوبٌ عَلى التَّمييز أو عَلى المصدريَّةِ؛ لأنَّ أحاطَ بمعنَى: عَلِم.
الشَّاهدُ مِن الآيتيْن: أنَّ فيهما إثباتَ علمِ الله المحيطِ بكُلِّ شيءٍ وإثباتَ قدرتِه عَلى كُلِّ شيْءٍ.
وقولُه تعالى: (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي: لا رازقَ غيرُه، الذي يرزقُ مخلوقاتهِ، ويقومُ بما يصلحُهُم، فهوكثيرُ الرِّزقِ واسعُه، فلا تعبدوا غيرَه (ذو الْقُوَّةِ) أي: صاحبُ القوَّةِ التَّامَّةِ الذي لا يعتريه ضَعفٌ (المَتِينُ) أي البالغُ في القوَّةِ والقدرةِ نهايَتهُمَا، فلاَ يلْحقُه في أفعالهِ مَشقَّةٌ ولا كُلْفةٌ ولا تَعَبٌ. والمتانةُ معناها الشِّدَّةُ والقوَّةُ.
الشَّاهدُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنَّ فيها إثباتَ اسمِه الرزّاقِ ووصفَه بالقوَّةِ التَّامَّةِ التي لا يعتريها ضَعفٌ ولا تَعَبٌ سبحانَه وتعالى، وفيها الاستدلالُ عَلى وجُوبِ عبادتِه وحدَه لا شريكَ له).

هيئة الإشراف

#4

6 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (قول المؤلف: ((وَقَوْلُهُ: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [التحريم: 2](1).
وقوله: (((الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)) [التحريم: 3]))(2).
وقوله: (((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) [سبأ: 2].
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا، وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59].
(وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ) [فاطر: 11].
وقوله: (لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَلَى كَلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا) [الطلاق: 12]))(3)
(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) [الذاريات: 58]))(4)
.


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) قَوْلُهُ: (وَهُوَ الْعَلِيمُ): سَبَقَ تعريفُ العلمِ، وسَبَقَ أنَّ العلمَ صفةُ كمالٍ، وسَبَقَ أنَّ علمَ اللَّهِ محيطٌ بكُلِّ شيءٍ.
أمَّا (الْحَكِيمُ): هذِهِ المادةُ (ح ك م): تدلُّ عَلَى حُكمٍ وإحكامٍ، فعَلَى الأوَّلِ: يكونُ الحكيمُ بمعنى الحاكِمِ، وعَلَى الثَّاني: يكونُ الحكيمُ بمعنى المُحْكِمُ، إذاً: يدلُّ هَذَا الاسمُ الكريمُ عَلَى أنَّ الحُكمَ لِلَّهِ، ويدلُّ عَلَى أنَّ اللَّهَ موصوفٌ بالحكمةِ؛ لأنَّ الإحكامَ هُوَ الإتقانُ، والإتقانُ وضعُ الشَّيءِ فِي موضِعِهِ. ففِي الآيةِ إثباتُ حكمٍ وإثباتُ حكمةٍ،
فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - وحدَهُ هُوَ الحاكِمُ، وحكمُ اللَّهِ إمَّا كونيٌّ وإمَّا شَرْعِيٌّ:
فحكمُ اللَّهِ الشَّرْعِيُّ مَا جاءتْ بِهِ رُسُلُهُ ونزلتْ بِهِ كتُبُهُ مِنْ شرائعِ الدِّينِ.
وحكمُ اللَّهِ الكونيُّ: مَا قضاهُ عَلَى عبادِهِ مِنَ الخَلْقِ والرِّزْقِ، والحياةِ والموتِ، ونَحْوَ ذلِكَ مِنْ معاني ربوبيَّتِهِ ومقتضياتِها.
دليلُ الحُكمِ الشَّرعيِّ: قولُهُ - تَعَالَى - فِي سورةِ الممتحنةِ: (ذلِكَمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة: 10].
ودليلُ الحُكمِ الكونيِّ: قوْلُهُ - تَعَالَى - عنْ أحدِ أخوةِ يوسفَ: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يوسف: 80].
وأمَّا قولُهُ - تَعَالَى -: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، فشاملٌ للكونيِّ والشَّرعيِّ، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حكيمٌ بالحُكمِ الكونيِّ وبالحُكمِ الشرعيِّ، وهُوَ - أيضاً - مُحكِمٌ لَهُما، فكلٌّ مِنَ الحكمَيْنِ موافقٌ للحِكمةِ.
لكنْ مِنَ الحكمةِ مَا نعلمُهُ، ومِنَ الحكمةِ مَا لاَ نعلمُهُ؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يقولُ: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً).
ثُمَّ الحكمةُ نوعانِ:
الأوَّلُ: حكمةٌ فِي كونِ الشَّيءِ عَلَى كيفيَّتِهِ وحالِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْها، كحالِ الصَّلاةِ، فهِيَ عبادةٌ كبيرةٌ تُسْبَقُ بطهارةِ مِنَ الحَدَثِ والخَبَثِ، وتُؤدَّى عَلَى هِيَئةٍ معيَّنةٍ مِنْ قيامٍ وقعودٍ وركوعٍ وسجودٍ، وكالزَّكاةِ، فهِيَ عبادةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - بأداءِ جزءٍ مِنَ المالِ النَّامي غالباً لِمَنْ هُم فِي حاجةٍ إليْهَا، أوْ فِي المُسلِمينَ حاجةٌ إِلَيْهِا كبعضِ المؤلَّفةِ قلوبُهمْ.
والنَّوعُ الثَّاني: حكمةٌ فِي الغايةِ مِن الحُكمِ، حَيْثُ إنَّ جميعَ أحكامِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُا غاياتٌ حميدةٌ وثَمَراتٌ جليلةٌ.
فانْظُرْ إِلَى حكمةِ اللَّه فِي حُكمِهِ الكونيِّ، حَيْثُ يصيبُ النَّاسَ بالمصائبِ العظيمةِ لغاياتٍ حميدةٍ، كقولَهُ - تَعَالَى -: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، ففِيهِا ردٌّ لقولِ مَنْ يقولُ: إنَّ أحكامَ اللَّهِ - تَعَالَى - ليستْ لحِكمةٍ، بَلْ هِيَ لمجرَّدِ مشيئتِهِ.
وفِي هذِهِ الآيةِ مِنْ أسماءِ اللَّهِ: العليمُ، والحكيمُ. ومِنْ صفاتِهِ: العِلمُ والحكمةُ.
وفِيهَا مِنَ الفوائدِ المَسْلكيَّةِ: أنَّ الإيمانَ بعلمِ اللَّهِ وحكمتِهِ يستلزمُ الطمأنينةَ التَّامةَ لِمَا حكَمَ بِهِ مِنْ أحكامٍ كونيَّةٍ وشرعيَّةٍ، لصدورِ ذلِكَ عَنْ عِلْمٍ وحكمَةٍ، فيزولُ عَنْهُ القَلقُ النَفْسيُّ، وينشرحُ صدرُهُ.

(2) (الْعَلِيمُ): سَبَقَ الكلامُ فِيهِ.
(الْخَبِيرُ): هُوَ العليمِ ببواطنِ الأمورِ، فيكونُ هَذَا وَصْفاً أخصَّ بعدَ وَصْفٍ أعمَّ، فنقولُ: العِليمُ بظواهرِ الأمورِ، والخَبِيرُ ببواطنِ الأمورِ، فيكونُ العلمُ بالبَواطنِ مذكوراً مرَّتَيْنِ: مرَّةً بطريقِ العمومِ، ومرَّةً بطريقِ الخصوصِ، لئلاَ يُظَنَّ أنَّ علمَهُ مختصٌ بالظَّواهِرِ.
وكمَا يكونُ هَذَا فِي المعاني يكونُ فِي الأعيانِ، فمثلاً: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر: 4]: الرُّوحُ جبريلُ، وهُوَ مِنَ الملائكةِ، فنقولُ: الملائكةُ، ومنِهُم جبريلُ، وخُصَّ جبريلُ بالذِّكرِ تشريفاً لَهُ، ويكونُ النَّصُ عَلَيْهِ مرَّتيْنِ: مرَّةً بالعمومِ، ومرَّةً بالخصوصِ.
وفِي هذِهِ الآيةِ مِنْ أسماءِ اللَّهِ - تَعَالَى -: العليمُ، والخبيرُ. ومن صفاتِهِ: العِلمُ، والخِبرةُ.
وفِيها من الفوائدِ المَسْلكيَّةِ: أنَّ الإيمانَ بذلِكَ يَزيدُ المرءَ خوفاً مِنَ اللَّهِ وخشيةً، سِرًّا وعَلَناً.

(3) هذِهِ الآياتُ فِي تفصيلِ صفةِ العلمِ:
الآيةُ الأولى: قَوْلُهُ: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمَا يَنـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) [سبأ: 2]:
هَذَا تفصيلٌ لمَا سَبَقَ من عمومِ عِلْمِهِ - تَعَالَى -.
(مَا): اسمٌ موصولٌ يفيدُ العمومَ، كُلَّ مَا يَلِجُ فِي الأرضِ، مِثلُ المَطرِ والحَبِّ يُبْذَرُ فِي الأرضِ، والمَوْتى والدُّودِ والنَّملِ وغيرِها. (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا)، كالماءِ والزُّروعِ… ومَا أَشْبَهَ ذلِكَ، (وَمَا يَنـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ)، مثلُ المَطرِ والوحيِ والملائكةِ وأمرِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)، كالأعمالِ الصَّالحةِ والملائكةِ والأرواحِ والدُّعاءِ.
وهُنا قالَ: (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)، فَعَدَّى الفعلَ ب(في)، وفِي سورةِ المعارجِ قالَ: (تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 4]، فعدَّاهُ ب(إلى)، وَهَذَا هُوَ الأصلُ، فمَا وجهُ كونِهِ عُدِّيَ ب(في) فِي قولِهِ: (يَعْرُجُ فِيهَا)؟
فالجوابُ: اختلفَ نُحاةُ البَصرةِ والكوفةِ فِي مثلِ هَذَا، فقَالَ نُحاةُ البَصرةِ: إنَّ الفِعلَ يضمَّنُ معنًى يتلاءمُ مَعَ الحرفِ. وقَالَ نحاةُ الكوفةِ: بلْ الحرفُ يُضمَّنُ معنًى يتلاءمُ مَعَ الفِعلِ.
فعَلَى الرَّأيِ الأوَّلِ: يكونُ قولُهُ: (يَعْرُجُ فِيهَا): مضمَّناً معنى (يَدخلُ)، فيصيرُ المعنى: ومَا يَعرجُ فيَدخلُ فِيهِا، وعَلَيْهِ، يكونُ فِي الآيةِ دلالةٌ عَلَى أمرَيْنِ: عَلَى عروجٍ ودخولٍ.
أمَا عَلَى الرَّأيِ الثَّاني، فنقولُ: (في) بمعنى (إلى)، ويكونُ هَذَا مِنْ بابِ التَّناوُبِ بينَ الحُروفِ.
لكنْ عَلَى هَذَا القولِ لاَ تجدُ أنَّ فِي الآيةِ معنىً جديداً، وليسَ فِيهِا إِلاَّ اختلافُ لفظٍ (إلى) إِلَى لفظٍ (في)، وَلِهَذَا كَانَ القولُ الأوَّلُ أصحَّ، وهُوَ أنْ نُضمِّنَ الفعلَ معنىً يتناسبُ مَعَ الحرفِ.
وَلِهَذَا نظيرٌ فِي اللُّغةِ العربيَّةِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) [الإنسان: 6]، والعَينُ يُشْرَب مِنْها، والَّذِي يُشْرَب بِهِ الإناءُ، فعَلَى رأيِ أهلِ الكوفةِ نقولُ: (يَشْرَبُ بِهَا): الباءُ بمعنى (مِن)، أيْ: مِنْها. وعَلَى رأيِ أهلِ البَصْرةِ يُضَمَّنُ الفعلُ (يَشْرَبُ) معنىً يتلاءمُ مَعَ حرفِ الباءِ، والَّذِي يتلاءمُ مَعَهَا يَرْوى، ومعلومٌ أنَّهُ لاَ رِيَّ إِلاَّ بعدَ شُربٍ، فيكونُ هَذَا الفِعلُ ضُمِّنَ معنَى غايتِهِ، وَهُوَ الرِّيُّ.
وكذلِكَ نقولُ فِي (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا): لاَ دُخولَ فِي السَّماءِ إِلاَّ بعدَ العُروجِ إلِيَهْا، فيكونُ الفِعلُ ضُمِّنَ معنَى الغايةِ.
ففِي الآيةِ ذَكرَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عمومَ علمِهِ فِي كُلِّ شيءٍ بنوعٍ مِن التَّفصيلِ، ثُمَّ فصَّلَ فِي آيةٍ أُخْرَى تفصيلاً آخرَ، فَقَالَ:
الآيةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا، وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ) [الأنعام: 59].
(عِنْدَهُ)، أيْ: عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ خبرٌ مقدَّمٌ. (مَفَاتِحُ): مبتدأٌ مؤخرٌ.
ويفيدُ هَذَا التَّركيبُ الحصرَ والاختصاصَ، عِنْدَهُ لاَ عِنْدَ غيرِهِ مفاتحُ الغيبِ، وأكَّدَ هَذَا الحصرَ بقولِهِ: (لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ)، ففِي الجملةِ حصرٌ بأنَّ عِلْمَ هذِهِ المفاتحِ عندَ اللَّهِ بطريقتَيْنِ: إحداهُما: بطريقةِ التَّقديمِ والتَّأخيرِ، والثَّانِيَةُ: طريقةُ النَّفيِ والإثباتِ.
كلمةُ (مَفَاتِحُ)، قِيلَ: إنَّها جَمْعُ مِفْتَحٍ، بكسرِ الميمِ وفتحِ التاءِ، المفتَاحُ، أوْ أنَّها جمعُ مِفتاحٍ، لكنْ حُذِفَتْ مِنْهُا الياءُ، وهُوَ قليلٌ، ونَحْنُ نعرفُ أنَّ المفتاحَ مَا يُفْتَحُ بِهِ البابُ، وقِيلَ: جَمعُ مَفتِحٍ، بفتحِ الميمِ وكَسْرِ التَّاءِ، وهِيَ الخزائنُ، ف(مَفَاتِحُ الْغَيْبِ): خزائنُهُ، وقِيلَ: (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، أيْ: مبادئُهِ؛ لأنَّ مفتحَ كُلِّ شيءٍ يكونُ فِي أوَّلِهِ، فيكونُ عَلَى هَذَا: (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، أيْ: مبادئُ الغيبِ، فإنَّ هذِهِ المذكوراتِ مبادئُ لمَا بعدَها.
(الْغَيْبِ): مصدرُ غابَ يَغيبُ غَيْباً، والمرادُ بالغيبِ: مَا كَانَ غائباً، والغيبُ أمرٌ نسبيٌّ، لكنَّ الغيبَ المطلَقَ عِلمُهُ خاصٌّ باللَّهِ.
هذِهِ المفاتحُ، سواءٌ قُلْنَا: إنَّ المفاتِحَ: هِيَ، المبادئُ، أوْ: هِيَ الخزائنُ، أو: المفاتيحُ، لاَ يعلمُهَا إِلاَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، فلاَ يعلمُهَا مَلَكٌ، ولاَ يَعلمُهَا رسولٌ، حَتَّى إنَّ أشرفَ الرُّسُلِ المَلَكِيَّ –وَهُوَ جبريلُ- سألَ أشرفَ الرُّسُلِ البَشَرِيَّ –وَهُوَ محمَّدٌ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - قال: أَخبِرْني عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: ((مَا المَسْئُولُ عَنْها بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِل))، والمعنَى: كَمَا أنَّهُ لاَ عِلْمَ لَكَ بِها، فلاَ عِلْمَ لي بِها أيضاً، فمَن ادَّعى عِلمَ السَّاعةِ، فَهُوَ كاذبٌ كافرٌ، ومَن صدَّقَهُ، فَهُوَ - أيضاً - كافِرٌ، لأنَّه مُكذِّبٌ للقرآنِ.
وهذِهِ المفاتحُ؟ فسَّرَها أعلمُ الخَلْقِ بكلامِ اللَّهِ محمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينَ قرأَ: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ) [لقمان: 34]، فهِيَ خمسةُ أمورٍ:
الأوَّلُ: عِلمُ السَّاعةِ: فعِلمُ السَّاعةِ مَبدأُ مفتاحٍ لحياةِ الآخرةِ، وسُمِّيت السَّاعةُ بِهَذَا لأنَّها ساعةٌ عظيمةٌ، يهدَّدُ بِها جميعُ الناسِ، وهِيَ الحاقَّةُ والواقِعةُ، والسَّاعةُ علمُها عندَ اللَّهِ، لاَ يدرِي أحدٌ مَتَى تَقومُ إِلاَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -.
الثَّاني: تنـزيلُ الغيثِ: لقولِهِ: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ): (الْغَيْثَ): مصدرٌ، ومعناهُ: إزالةُ الشِّدَّةِ، والمرادُ بِهِ المطرُ؛ لأنَّهُ بالمَطرِ تزولُ شدَّةُ القحطِ والجدبِ، وإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يُنـزِّلُ الغيثَ، كَانَ هُوَ الَّذِي يعلَمُ وَقْتَ نزولِهِ.
والمَطرُ نزولُهُ مفتاحٌ لحياةِ الأرضِ بالنَّباتِ، وبحياةِ النَّباتِ يكونُ الخيرُ فِي المَرْعَى وجميعِ مَا يتعلَّقُ بمصالحِ العبادِ.
وهُنَا نقطةٌ: قالَ: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)، ولَمْ يقلْ: وينـزِّلُ المَطَرَ؛ لأنَّ المَطَرَ أحياناً يَنـزِلُ ولاَ يكونُ فِيهِ نباتٌ، فلاَ يكونُ غَيْثاً، ولاَ تحيا بِهِ الأرضُ، وَلِهَذَا ثبتَ فِي ((صحيحِ مسلمٍ)): ((لَيْسَتْ السَّنَةُ أَلاَّ تُمْطَرُوا، إِنَّمَا السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَلاَ تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئاً))، والسَّنَةُ: القَحْطُ.
الثَّالثُ: عِلمُ مَا فِي الأرحامِ: لقولِهِ: (وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ)، أيْ: أرحامِ الإناثِ، فَهُوَ - عزَّ وجلَّ - يَعلمُ مَا فِي الأرحامِ، أيْ: مَا فِي بُطونِ الأمَّهاتِ مِنْ بني آدمَ وغَيْرِهم، ومتعلَّقُ العِلَمِ عامٌّ، بكُلِّ شيءٍ، فلاَ يَعلمُ مَا فِي الأرحامِ إِلاَّ مَنْ خَلَقَها - عزَّ وجلَّ -.
فإنْ قُلْتَ: يُقالُ الآنَ: إنَّهُم صَارُوا يَعلمونَ الذَّكَرَ مِنَ الأُنْثى فِي الرَّحِمِ، فهَلْ هَذَا صحيحٌ؟
نقولُ: إنَّ هَذَا الأمرَ وقَعَ، ولاَ يمكنُ إنكارُه، لكنَّهُم لاَ يعلمون ذلِكَ إِلاَّ بعدَ تكوينِ الجَنينِ، وظُهورِ ذُكورتِهِ أوْ أنوثتِهِ، وللجنينِ أحوالٌ أُخْرى لاَ يَعلمونَها، فلاَ يَعلمونَ متى يَنـزِلُ، ولاَ يَعلمونَ إِذَا نَزَلَ إِلَى مَتَى يَبْقَى حيًّا، ولاَ يعلمُونَ هلْ يكونُ شقيًّا أوْ سعيداً، ولاَ يعلمْونَ هَلْ يكونُ غنيًّا أمْ فقيراً… إِلَى غيرِ ذلِكَ من أحوالِهِ المجهولَةِ.
إذاً أكثرُ متعلَّقاتِ العِلمِ فيمَا يتعلَّقُ بالأجنَّةِ مجهولٌ للخَلقِ، فَصَدقَ العمومِ فِي قولِهِ: (وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ).
الرَّابعُ: علمُ مَا فِي الغدِ: وَهُوَ مَا بعدَ يومِكَ، لقولِهِ: (وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً)، وَهَذَا مفتاحُ الكَسْبِ فِي المستقبلِ، وإِذَا كَانَ الإنسانُ لاَ يَعلمُ مَا يَكسبُ لنَفْسِهِ، فعَدمُ علمِهِ بمَا يكسبُهُ غيرُهُ أَوْلَى.
لكنْ لو قَالَ قائلٌ: أنا أعلمُ مَا فِي الغدِ، سأَذْهَبُ إِلَى المكانِ الفلانيِّ، أوْ أقرأُ، أوْ أزورُ أقاربِي. فنقولُ: قدْ يَجزمُ بأَنَّهُ سَيَعملُ، ولكنْ يَحولُ بينَهُ وبينَ العملِ مانعٌ.
الخامسُ: عِلمُ مكانِ الموْتِ: لقولِهِ: (مَا تَدرِي نَفسُ بِأَيِ أَرضٍ تَمُوتُ)، مَا يدري أيُ أحدٍ هَلْ يموتُ فِي أرضِهِ أوْ فِي أرضٍ أُخْرَى؟ فِي أرضٍ إسلاميَّةٍ أوْ أرضٍ كافرٍ أهلُها؟ ولاَ يَدْرِي هَلْ يموتُ فِي البرِّ أوْ فِي البحرِ أوْ فِي الجوِّ؟ وَهَذَا شيءٌ مشاهَدٌ.
ولاَ يدري بأيِّ ساعةٍ يموتُ؛ لأنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يمكنُهُ أنْ يدريَ بأيِ أرضٍ يموتُ، وهُوَ قدْ يتحكمُ فِي المكانِ، فكذلِكَ لاَ يَدرِي بأيِّ زمنٍ وساعةٍ يموتُ.
فهذِهِ الخمسةُ هِيَ مفاتحُ الغيبِ الَّتِي لاَ يعلمُهَا إِلاَّ اللَّهُ، وسُمِّيتْ مفاتحَ الغيبِ؛ لأنَّ عِلمَ مَا فِي الأرحامِ مفتاحٌ للحياةِ الدُّنْيَا، (وَمَا تَدرِي نَفسٌ مَّاذَا تَكسِبُ غَدًا) مفتاحٌ للعملِ المستقبلُ، (وَمَا تَدرِي نَفسٌ بِأَيِ أَرضٍ تَمُوتُ) مفتاحٌ لحياةِ الآخرةِ؛ لأنَّ الإنسانَ إِذَا ماتَ دَخَلَ عالَمَ الآخرةِ، وسَبقَ بيانُ عِلمِ السَّاعةِ وتنـزيلِ الغيثِ، فتبيَّنَ أنَّ هذِهِ المفاتحَ كلَّها مبادئٌ لكُلِّ مَا وراءَها، (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ).
ثُمَّ قَالَ - عزَّ وجلَّ -: (وَيَعَلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحرِ) [الأنعام: 59]: هَذَا إجمالٌ، فمَنْ يُحصِي أجناسَ مَا فِي البَرِّ؟ كَمْ فِيها مِنْ عالَمِ الحيوانِ والحَشَرَاتِ، والجبالِ والأشجارِ والأَنَّهَارِ، أمورٌ لاَ يَعلمُهَا إِلاَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -. والبَحرُ كذلِكَ فِيهِ مِنَ العوالِمِ مَا لاَ يَعلمُهُ إِلاَّ خالِقُهُ - عزَّ وجلَّ -، يقولونَ: إنَّ البحرَ يزيدُ عَلَى البَرِّ ثلاثةَ أضعافٍ مِن الأجناسِ؛ لأنَّ البحرَ أكثرُ مِن اليابسِ.
قالَ: (وَمَا تَسقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعلُمُهَا) [الأنعام: 59]: هَذَا تفصيلٌ، فأيُّ ورقةٍ فِي أيِّ شجرةٍ صغيرةٍ أوْ كبيرةٍ قريبةٍ أوْ بعيدةٍ تسقطُ فاللَّهُ - تَعَالَى - يَعلمُها، وَلِهَذَا جاءتْ (ما) النَّافيةُ و(مِن) الزَّائدةُ، ليكونَ ذلِكَ نصًّا فِي العُمومِ. والوَرَقةُ الَّتِي تُخلَقُ يعلمُهَا مِنْ بابٍ أولى؛ لأنَّ عالِمَ مَا يَسقطُ عالمٌ بمَا يَخلقُ - عزَّ وجلَّ -.
انظرْ إِلَى سِعةِ علمِ اللَّهِ تَعَالَى!، كُلُّ شيءٍ يكونُ، فَهُوَ عالمٌ بِهِ، حَتَّى الَّذِي لَمْ يَحصُلْ وسيحصُلُ فَهُوَ - تَعَالَى - عالِمٌ بِهِ.
قالَ: (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرضِ) [الأنعام: 59]: حبةٌ صغيرةٌ لاَ يُدْرِكُها الطَّرْفُ فِي ظُلُماتِ الأرضِ يَعلمُهَا - عزَّ وجلَّ-.
(ظُلُمَاتِ): جمعُ ظُلمةٍ، ولنَفْرِضْ أنَّ حَبَّةً صغيرةً غائصةً فِي قاعِ البحرِ، فِي ليلةٍ مظلمةٍ مطيرةٍ، فالظُّلماتُ: أَوَّلاً: طينُ البحرِ، ثانياً: ماءُ البَحرِ، ثالثاً: المَطرُ، رابعًا: السَّحابُ، خامِسًا: اللَّيلُ، فهذِهِ خمسُ ظُلُماتٍ مِنْ ظُلُماتِ الأرْضِ، ومعَ ذلِكَ هذِهِ الحَبَّةُ يَعلمُها اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - ويُبْصِرُها - عزَّ وجلَّ -.
قالَ: (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ): هَذَا عامٌّ، فمَا مِنْ شيءٍ إِلاَّ وهُوَ إمَّا رطبٌ وإمَا يابسٌ.
(إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ): (كِتَابٍ)، بمعنى مكتوبٍ. (مُّبِينٍ)، أيْ: مُظْهرٍ وبَيِّنٍ، لأنِّ (أَبانَ) تُستعملُ متعدِّيًا ولازمًا، فيُقالُ: أبانَ الفجرُ، بمعنى ظَهَرَ الفجرُ، ويقالُ: أبانَ الحقَّ، بمعنى أظهَرَهُ. والمرادُ بالكتابِ هُنا: اللَّوحُ المحفوظُ.
كُلُّ هذِهِ الأشياءُ معلومةٌ عندَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، ومكتوبةٌ عندَهُ فِي اللَّوحِ المحفوظِ؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ((لَمَّا خَلَقَ القَلَمَ قَالَ لَهُ: اكتُبْ، قَالَ القَلَمُ: مَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ))، فكتبَ فِي تِلْكَ اللَّحظةِ مَا هُوَ كائنٌ إِلَى يومِ القيامةِ، ثُمَّ جعلَ - سُبْحَانَهُ - فِي أيدِي الملائكةِ كُتُباً تَكتبُ مَا يَعمَلُهُ الإنسانُ؛ لأنَّ الَّذِي فِي اللَّوحِ المحفوظِ قدْ كُتِبَ فِيهِ مَا كَانَ يُريدُ الإنسانُ أنْ يَفعلَ، والكتابةُ الَّتِي تكتُبُها الملائكةُ هِيَ الَّتِي يُجْزَى عَلَيْهِا الإنسانُ، وَلِهَذَا يقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُم وَالصَّابِرِينَ) [محمد: 31]، أمَّا عِلمُهُ بأنَّ عبدَهُ فلانًا سيصبِرُ أوْ لاَ يَصبِرُ فهَذَا سابِقٌ مِنْ قبلُ، لكنْ لاَ يَترتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوابُ والعِقابُ.
الآيةُ الثَّالِثةُ: قَوْلُهُ: (وَمَا تَحمِلُ مِن أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلمِهِ) [فاطر: 11])).
(مَا): نافيةٌ.
(أُنثَى): فاعِلُ (تَحمِلُ)، لكنَّهُ مُعرَبٌ بضمَّةٍ مقدَّرةٍ عَلَى آخرِهِ مَنَعَ مِنْ ظُهورِها اشتغالُ المَحَلِّ بحركةِ حرفِ الجرِّ الزَّائدةِ.
وهُنَا إشكالٌ: كَيْفَ تقولُ زائدٌ، وليسَ فِي القرآنِ زائدٌ؟
فالجوابُ: أنَّه زائدٌ مِنْ حَيْثُ الإعرابِ، أمَّا مِنْ حَيْثُ المعنَى، فَهُوَ مفيدٌ، وليسَ فِي القرآنِ شيءٌ زائدٌ لاَ فائدةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا نقولُ: هُوَ زائدٌ زائدٌ، بمعنى: أنَّهُ لاَ يُخِلُّ بالإعرابِ إِذَا حُذِفَ، زائدٌ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى يزيدُ فِيهِ.
وقولُهُ: (مِن أُنثَى): يشملُ أيَّ أُنْثَى، سواءٌ آدميَّةٌ أوْ حيوانيَّةٌ أُخْرَى، الَّذِي يحملُ حيواناً واضحٌ أنَّهُ داخلٌ فِي الآيةِ، كبقرةٍ، وبعيرٍ، وشاةٍ … ومَا أشبَهَ ذلِكَ، ويدخلُ فِي ذلِكَ الَّذِي يَحملُ البيضَ، كالطُّيورِ؛ لأنَّ البيضَ فِي جوفِ الطَّائرِ حَمْلٌ.
(وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلمِهِ)، فابتداءُ الحَملِ بعلمِ اللَّهِ، وانتهاؤهُ وخروجُ الجَنينِ بعلمِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
الآيةُ الرَّابعةُ: قولُهُ: ( لِتَعلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلمَا)
[الطلاق: 12].
(لِتَعلَمُوا): اللاَّمُ للتَّعليلِ؛ لأنَّ اللَّهَ قالَ: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الطلاق: 12]، فَقَدْ خَلَقَ هذِهِ السَّماواتِ السَّبْعَ والأرَضِينَ السَّبْعَ، وأَعْلَمَنَا بذلِكَ، لِنَعْلمَ (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
القُدرةُ وَصْفٌ يتمكنُ بِهِ الفاعلُ مِنَ الفعلِ بدونِ عَجْزٍ، فَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، يقْدِرُ عَلَى إيجادِ المعدومِ، وعَلَى إعدامِ الموجودِ، فالسَّماواتُ والأرضُ كانتْ معدومةً، فخَلقَهَا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - وأَوْجدَهَا عَلَى هَذَا النِّظامِ البديعِ.
(وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا): كُلُّ شيءٍ، الصَّغيرُ والكبيرُ، والمتعلِّقُ بفعْلِهِ أوْ بفعلِ عبادِهِ، والماضي واللاحقُ والحاضرُ، كُلُّ ذلِكَ قدْ أحاطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ علماً.
وذكرَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - العِلمَ والقُدرةَ بعدَ الخلقِ؛ لأنَّ الخلقَ لاَ يتمُّ إِلاَّ بعلمٍ وقُدرةٍ، ودلالةُ الخَلقِ عَلَى العلمِ والقُدرةِ مِنْ بابِ دَلالةِ التَّلازُمِ، وقَدْ سَبَقَ أنَّ دلالاتِ الأسماءِ عَلَى الصِّفاتِ ثلاثةُ أنواعٍ.
تنبيهٌ: ذُكِرَ فِي ((تفسيرِ الجلالَيْنِ)) –عَفَا اللَّهُ عنَّا وَعَنْهُ- فِي آخِرِ سورةِ المائدةِ مَا نصُّهُ: ((وخَصَّ العقلُ ذاتَه، فليسَ عَلَيْها بقادرٍ))!
ونَحْنُ نناقشُ هَذَا الكلامَ مِنْ وجْهِيَنِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ لاَ حُكمَ للعقلِ فيمَا يتعلَّقُ بذاتِ اللَّهِ وصفاتِهِ، بَلْ لاَ حُكمَ لَهُ فِي جميعِ الأمورِ الغيبيَّةِ، ووظيفةُ العَقلِ فِيها التَّسليمُ التَّامُ، وأنْ نَعلمَ أنَّ مَا ذكَرَهُ اللَّهُ مِنْ هذِهِ الأمورِ ليسَ مُحالاً، وَلِهَذَا يُقالُ: إنَّ النُّصوصَ لاَ تأتِي بمُحالٍ، وإنمَا تأتِي بمُحارٍ، أيْ: بمَا يُحيِّرُ العقولَ، لأنَّها تَسمعُ مَا لاَ تُدركُهُ ولاَ تتصوَّرُه.
والوجْهُ الثَّاني: قَوْلُهُ: ((فليسَ عَلَيْهِا بقادرٍ)): هَذَا خطأٌ عظيمٌ، كَيْفَ لاَ يَقدِرُ عَلَى نَفْسِهِ وهُوَ قادِرٌ عَلَى غيرِهِ، فكلامُهُ هَذَا يَستلزِمُ أنَّهُ لاَ يَقدِرُ أنْ يَستوِيَ، ولاَ أنْ يتكلَّمْ، ولاَ أنْ يَنـزِلَ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا، ولاَ يفعلَ شيئًا أبداً، وَهَذَا خطيرٌ جِدًّا!!
لكنْ لَوْ قَالَ قائلٌ: لعلَّهُ يُريدُ: ((خَصَّ العقلُ ذاتَهُ، فليسَ عَلَيْهِا بقادرٍ))، يعني: لاَ يَقْدِرُ عَلَى أنْ يُلحقَ نَفْسَهُ نقصاً، قُلْنا: إنَّ هَذَا لَمْ يَدخُلْ فِي العمومِ حَتَّى يَحتاجَ إِلَى إِخراجٍ وتخصيصٍ؛ لأنَّ القُدرةَ إنمَا تتعلَّقُ بالأشياءِ الممكِنةِ؛ لأنَّ غيرَ المُمكنِ ليسَ بشيءٍ، لاَ فِي الخارجِ ولاَ فِي الذِّهنِ، فالقُدرةُ لاَ تتعلَّقُ بالمستحيلِ، بخلافِ العِلمِ.
فينبغِي للإنسانِ أنْ يتأدَّبَ فيمَا يتعلَّقُ بجانبِ الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّ المَقامَ مَقامٌ عظيمٌ، والواجبُ عَلَى المرءِ نحوَهُ أنْ يستسلِمَ ويسلِّمَ.
إذاً نَحْنُ نُطلِقُ مَا أطلقَهُ اللَّهُ، ونقولُ: إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قديرٌ، بدونِ استثناءٍ.
فِي هذِهِ الآياتِ مِنْ صفاتِ اللَّهِ - تَعَالَى -: إثباتُ عمومِ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى وجهِ التَّفصيلِ، وإثباتُ عمومِ قدرةِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
والفائدةُ المَسلكِيَّةُ مِنَ الإيمانِ بالعلمِ والقُدرةِ: قوَّةُ مُراقبةِ اللَّهِ والخوفُ مِنْهُ.

(4) فِي هذِهِ الآيةِ إثباتُ صفةِ القوةِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
جاءَتْ هذِهِ الآيةُ بعدَ قولِهِ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) [الذاريات: 56-57]، فالنَّاسُ يحتاجونَ إِلَى رزقِ اللَّهِ، أمَّا اللَّهُ - تَعَالَى -، فإنَّهُ لاَ يُريدُ مِنْهمْ رزقاً، ولاَ أنْ يُطعِموهُ.
(الرَّزَّاقُ): صيغةُ مبالغةٍ مِنَ الرِّزقِ، وَهُوَ العطاءُ، قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ) [النساء: 8]، أيْ: أَعْطوهُم، والإنسانُ يَسألُ اللَّهَ - تَعَالَى - فِي صلاتِهِ، ويقولُ: اللَّهُمَّ ارزقْني.
وينقسمُ الرِّزقُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عامُّ وخاصٌّ.
فالعامُّ: كُلُّ مَا يَنتفعُ بِهِ البَدنُ، سواءٌ كَانَ حَلالاً أوْ حَراماً، وسواءٌ كَانَ المَرزوقُ مُسلماً أوْ كافِراً، وَلِهَذَا قَالَ السَّفارينيُّ:
والرِّزْقُ مَا يَنْفَعُ مِنْ حَلالِ أَوْ ضِدُّهُ، فَحُلْ عَنِ المُحالِ
لأنَّهُ رازِقُ كُلِّ الخَلْقِ وَلَيْسَ مَخْلوقٌ بِغَيْرِ رِزْق
لأنَّكَ لَوْ قُلْتَ: إنَّ الرِّزقَ هُوَ العطاءُ الحلالُ، لكَانَ كُلُّ الَّذِينَ يأكلونَ الحَرامَ لَمْ يُرْزَقوا، مَعَ أنَّ اللَّهَ أَعطاهُم مَا تَصلحُ بِهِ أبدانُهُم، لكنَّ الرِّزقَ نوعانِ: طيِّبٌ وخبيثٌ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32]، ولَمْ يَقُلْ: والرِّزقُ، أمَّا الخبائِثُ مِنَ الرِّزقِ، فهِيَ حَرامٌ.
أمَّا الرِّزقُ الخاصُّ، فَهُوَ مَا يقومُ بِهِ الدِّينُ مِنَ العِلمِ النَّافعِ، والعملِ الصَّالحِ، والرِّزقِ الحلالِ المُعينِ عَلَى طاعةِ اللَّهِ، وَلِهَذَا جاءتِ الآيةُ الكريمةُ: (الرَّزَّاقُ)، ولَمْ يقلْ: الرَّازقُ، لكثرةِ رزقِهِ وكثرةِ مَنْ يرزقُهُ، فالَّذِي يَرزقُهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لاَ يُحصَى باعتبارِ أجناسِهِ، فَضْلاً عَنْ أنواعِهِ، فَضْلاً عَنْ آحادِهِ؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يقولُ: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) [هود: 6]، ويُعطِي اللَّهُ الرِّزقَ بحسبِ الحالِ.
ولكنْ إِذَا قَالَ قائلٌ: إِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ الرَّزَّاقَ، فهَلْ أَسْعَى لطَلبِ الرِّزْقِ، أوْ أبْقَى فِي بيتِي ويأتينِي الرِّزْقُ؟
فالجوابُ: نقولُ: اسْعَ لطَلَبِ الرِّزقِ، كَمَا أنَّ اللَّهَ غفورٌ، فليس معنى هَذَا أنْ لاَ تعملَ وتتسبَّبَ للمغفرةِ.
أمَّا قولُ الشَّاعرِ:

جُنونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ وَيُرْزَقُ فِي غِشاوَتِهِ الجَنينُ

فهَذَا القولُ باطلٌ. وأمَا استشهادُهُ بالجَنينِ، فالجوابُ: أنْ يقَالَ: الجنينُ لاَ يمكنُ أنْ يوجَّهَ إِلَيْهِ طلبُ الرِّزقِ؛ لأنَّهُ غيرُ قادرٍ، بخلافِ القادرِ.
وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ) [الملك: 15]، فلاَ بُدَّ مِنْ سعيٍ، وأنْ يكونَ هَذَا السَّعْيُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ.
وقولُهُ: (ذُو الْقُوَّةِ): القُوَّةُ: صفةٌ يتمَّكنُ الفاعلُ بِهَا مِنَ الفعلِ بدونِ ضعفٍ، والدَّليلُ قولُهُ - تَعَالَى -: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) [الروم: 54]، ولَيْسَت القُوَّةُ هِيَ القُدرةُ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) [فاطر: 44]، فالقُدرةُ يقابلُها العجزُ، والقُوَّةُ يقابلُها الضَّعفُ، والفرقُ بينَهُمَا: أنَّ القُدرةَ يوصفُ بها ذو الشُّعورِ، والقُوَّةُ يوصفُ بها ذو الشُّعورِ وغيرُهُ. ثانياً: أنَّ القُوَّةَ أخصُ، فكُلُّ قويٍّ مِنْ ذِي الشُّعورِ قادرٌ، وليسَ كُلُّ قادرٍ قويًّا. مثالُ ذلِكَ: تقولُ: الرِّيحُ قويَّةٌ، ولاَ تقولُ: قادرةٌ، وتقولُ: الحديدُ قويٌّ، ولاَ تقولُ: قادرٌ، لكنْ ذو الشُّعورِ تقولُ: إنَّهُ قويٌّ، وإنَّهُ قادرٌ.
ولَمَّا قالَتْ عادٌ: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهمْ قُوَّةً) [فصلت: 15].
وقولُهُ: (الْمَتِينُ): قَالَ ابنُ عباسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: الشَّديدُ. أيْ: الشَّديدُ فِي قوَّتِهِ، الشَّديدُ فِي عِزَّتِهِ، الشَّديدُ فِي جميعِ صفاتِ الجَبَروتِ، وهُوَ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى توكيدٌ للقويُّ.
ويجوزُ أنْ نخبرَ عَنِ اللَّهِ بأنَّهُ شديدٌ، ولاَ نسمِّي اللَّهَ بالشَّديدِ، بلْ نسمِّيهِ بالمتينِ؛ لأنَّ اللَّهَ سمَّى نَفْسَهُ بذلِكَ.
فِي هذِهِ الآيةِ إثباتُ اسميْنِ مِنْ أسماءِ اللَّهِ، هما: الرَّزَّاقُ، والمتينُ، وإثباتُ ثلاثِ صفاتٍ، وهِيَ: الرِّزقُ، والقُوَّةُ، ومَا تضمَّنَهُ اسمُ المَتينِ.
والفائدةُ المسلكيَّةُ فِي الإيمانِ بصفةِ القُوَّةِ والرِّزقِ: أنْ لاَ نَطلُبَ القُوَّةَ والرِّزقَ إلاَّ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى -، وأنْ نؤمنَ بأنَّ كُلَّ قوَّةِ مَهْمَا عَظُمَتْ، فلنْ تُقابِلَ قوَّةَ اللَّهِ - تَعَالَى -.

هيئة الإشراف

#5

6 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (* إثبات صفة العلم لله *
وَقَوْلُهُ: {وهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها}،{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ}،وقولُه :{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى ولاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}، وقَوْلُهُ :{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .
في هذه الآيةِ إثباتُ وصْفِ اللَّهِ بالعِلمِ ، وعِلمُه سُبْحَانَهُ شامِلٌ لكُلِّ شيءٍ ، ومُحيطٌ به فيَعلَمُ ما كان ، وما يكونُ ، وما لم يكُنْ لو كان كَيْفَ يكونُ ، كما قَالَ تَعَالَى :{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ}، وقولُه :{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }، وقَالَ :{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَلَيْتَنَا نُرَدُّ} الآيةَ ، والحكيمُ الخبيرُ اسمانِ وصِفتانِ لِلَّهِ جلَّ وعَلا . فالحكيمُ هو الَّذِي يضَعُ الأشياءَ في مواضِعِها . وهو سُبْحَانَهُ حكيمٌ في أقوالِه وأفعالِه . وفي شَرْعِه ودِينِه . وفي قضائِه وقدَرِه . والخبيرُ : أخصُّ مِن العليمِ، وهو العليمُ بدقائقِ الأمورِ وبواطِنِها، واللَّهُ سُبْحَانَهُ لا تَخفَى عليه خافيةٌ ، ومَفاتِحُ الغيبِ هي المذكورةُ في حديثِ ابنِ عُمَرَ في "الصَّحيحَيْنِ" أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
"مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ : ثُمَّ قَرَأَ هذه الآيةَ :{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}" .
والعِلمُ صفةٌ ذاتيَّةٌ لازمةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لا يخْلُو منها في وقْتٍ مِن الأوقاتِ ، ولا يُتَصَوَّرُ انفِكاكُ ذاتِ اللَّهِ عنها ، وقد أَنْكَرَ غُلاةُ القدريَّةِ عِلْمَ اللَّهِ القديمَ ، وأنه يَعلَمُ الأشياءَ قَبْلَ وُقوعِها .
وقد اشْتَدَّ إنكارُ السَّلفِ عليهم ، وقالوا : نَاظِرُوهم بالعِلمِ ، فإنْ أَقَرُّوا به خُصِمُوا ، وإنْ جَحَدُوه كَفَروا . وقَالَ الإمامُ أحمـدُ في ردِّه على الجَهْمِيَّةِ والزَّنادِقةِ : فإنْ قَالَ الجهميُّ : لَيْسَ له عِلمٌ كَفَرَ ، وإنْ قَالَ : لِلَّهِ عِلمٌ مُحْدَثٌ كَفَرَ ، حَيْثُ زَعَمَ أنَّ اللَّهَ قد كان في وقتٍ مِن الأوقاتِ لا يَعلَمُ حَتَّى أَحْدَثَ له عِلماً فعَلِمَ . فإنْ قَالَ : لِلَّهِ عِلْمٌ ولَيْسَ مَخْلوقاً ولا مُحْدثاً رَجَعَ عن قولِه كلِّه وقَالَ بقَوْلِ أهلِ السُّنَّةِ .
وقَالَ الإمامُ عبدُ العزيزِ المَكيُّ في كتابِ "الحَيْدة" الَّذِي حَكَى فيه مُنَاظَرَته لِبِشْرٍ المِرِّيسِيِّ عَن عِلمِه تَعَالَى : وبِشْرٌ يقولُ : لا يجهلُ، ولا يَعْتَرِفُ أنَّ اللَّهَ عالِمٌ بِعِلْمٍ . فَقَالَ الإمامُ عبدُ العزيزِ : نفْيُ الجهْلِ لا يكونُ صفةَ مَدْحٍ . فإنَّ هذه الأُسْطوانةَ لا تَجْهَلُ ، وقد مدحَ اللَّهُ الأنبياءَ والملائكةَ والمؤمنينَ بالعِلمِ ، لا بنَفْيِ الجهْلِ ، ومَن نفَى الجهْلَ لم يُثْبِتِ العِلمَ ، وعلى الخَلْقِ أن يُثْبتوا ما أَثبتَه اللَّهُ لنفْسِه ، ويَنْفوا عنه ما نفَى ويُمْسِكوا عمَّا أمْسَكَ عنه .
والدَّلِيلُ العَقليُّ على عِلمِه تَعَالَى : أنه يَستحيلُ إيجادُه الأشياءَ مَعَ الجهْلِ ، ولأنَّ إيجادَه الأشياءَ بإرادَتِه ، والإرادةُ تستلْزِمُ تَصَوُّرَ المُرادِ ، وتَصَوُّرُ المرادِ هو العِلمُ بالمرادِ ، فكان الإيجادُ مستلْزِماً للعِلمِ ، ولأنَّ المخلوقاتِ فيها مِن الإحكامِ والإتقانِ ما يستلْزِمُ عِلمَ الفاعِلِ لها ؛ لأنَّ الفِعلَ المُحْكَمَ المُتْقَنَ يمتنِعُ صُدورُه عن غيرِ عِلمٍ ، ولأنَّ مِن المخلوقاتِ ما هو عالِمٌ ، والعِلمُ صفةُ كمالٍ، ويمتنِعُ أن لا يكونَ الخالِقُ عالِماً . وهذا له طريقانِ :
( أحدُهما ): أنْ يُقالَ : نحن نَعلَمُ بالضَّرُورَةِ أنَّ الخالِقَ أَكْملُ مِن المخلوقِ ، وأنَّ الواجِبَ أَكْملُ مِن المُمْكنِ ، ونَعلَمُ ، أنْ لو فَرَضْنا شيئَيْنِ أحدُهما عالِمٌ ، والآخَرُ غيرُ عالِمٍ كان العالِمُ أَكْمَلَ . فلو لم يكُنِ الخالِقُ عالِماً لَزِمَ أنْ يكونَ المُمْكنُ أَكْملَ منه ، وهو ممتنِعٌ .
( الثَّاني ): أنْ يُقالَ : كلُّ عِلمٍ في المُمْكناتِ الَّتِي هي المخلوقاتُ فهو منه ، ومِن المُمْتنِعِ أنْ يكونَ فاعِلُ الكمالِ ومُبْدِعُه عارِياً منه ، بل هو أحَقُّ به . اللَّهُ تَعَالَى له المَثَلُ الأعلى ، ولا يَسْتَوي هو والمَخْلوقُ ، لا في قِياسٍ تمثيلِيٍّ ، ولا في قِياسٍ شُمُولِيٍّ ، بل كُلُّ ما ثَبَتَ للمَخْلوقِ مِن كمالٍ فالخالقُ به أحَقُّ ، وكُلُّ نقصٍ تنزَّهَ عنه مَخْلوقٌ ما ، فَتَنَزُّهُ الخالِقِ عنه أَوْلى . وكثيرٌ مِن الفلاسفةِ يُنكِرونَ عِلمَ اللَّهِ بالجزئياتِ .


فالخِلافُ في هذا الأصلِ مَعَ فِرْقَتَيْنِ :
إحداهما : أعداءُ الرُّسُلِ كُلِّهم ، وهمُ الَّذِين يَنْفُونَ عِلمَه بالجزئيَّاتِ . وحاصِلُ قولِهم : أنه لا يَعلَمُ مَوْجُوداً البتَّةَّ . فإنَّ كُلَّ مَوجودٍ جزئيٌّ مُعَيَّنٌ . فإذا لم يَعلَمِ الجزئيَّاتِ لم يكُنْ عالِماً بشيءٍ مِن العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ .
والفِرقةُ الثَّانيةُ : غُلاةُ القدَريةِ الَّذِين اتَّفَقَ السَّلفُ على كُفْرِهم ، وحَكَمُوا بقَتْلِهم ، الَّذِين يقولونَ : لا يَعلَمُ أعمالَ العِبادِ حَتَّى يَعْمَلوها ، ولم يَعْلَمْها قَبْلَ ذلك ولا كَتَبَها ، ولا قَدَّرَها ، فَضْلاً عن أنْ يكونَ شاءها وكَوَّنَها . وقولُ هَؤُلاَءِ مَعلومُ البُطْلانِ بالضَّرُورَةِ مِن أديانِ جميعِ المُرسَلِينَ ، وكُتُبِ اللَّهِ المُنزَّلةِ ، وكلامُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَملوءٌ بتكذِيبِهم ، وإبْطالِ قولِهم ، وإثباتِ عُمومِ عِلمِه ، الَّذِي لا يُشارِكُه فيه خَلْقُه ، ولا يُحيطونَ بشيءٍ مِن عِلمِه إلا بما شاءَ أنْ يُطْلِعَهم عليه، ويُعْلِمَهم به ، وما أخْفاه عنهم ولم يُطْلِعْهم عليه لا نِسْبَةَ لِما عَرَفُوه إليه إلا دُونَ نِسْبةِ قَطْرةٍ واحدةٍ إلى البحارِ كُلِّها .
وقَوْلُهُ :{ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتيِنُ } . الرَّزَّاقُ : كثيرُ الرِّزْقِ واسِعُه . كما تدلُّ عليه صيغةُ المبالَغةِ ، وكُلُّ ما في الكونِ مِن رِزْقٍ فهو مِن اللَّهِ واقِعٌ بمشيئتِه وقُدْرَتِه ، وسواءٌ في ذلكَ الرِّزْقُ الحَلالُ وغيرُهُ . كما قَالَ الشَّيْخُ السفارِينِيُّ في عقيدتِه :

وَالرَّزْقُ ما يَنْفَعُ مِنْ حَلالِ أَوْ ضِدُّهُ فَحُلْ عَنِ الْمُحَالِ

لأنَّهُ رَازِقُ كُلِّ الْخَلْـقِ وَلَيْسَ مَخْلُـوقٌ بِغَيْرِ رِزْقِ
فالرزَّاقُ اسمُه تَعَالَى ووصفُه ، والقويُّ شديدُ القُوَّةِ (( فعُلِمَ أنَّ القويَّ مِن أسمائِه ، ومعناه المَوصوفُ بالقُوَّةِ ، فلولا ثُبوتُ القُوَّةِ لم يُسَمَّ قَوِيًّا )) .
والمَتينُ البالِغُ في القُوَّةِ والقُدْرةِ نهايَتَهُما . قَالَ ابنُ الأثيرِ : الشَّدِيدُ القويُّ الَّذِي لا يَلْحَقُه في أفعالِه مَشقَّةٌ ولا كُلْفَةٌ ولا تعَبٌ ، والمَتانةُ : الشِّدَّةُ والقُوَّةُ ، فمِن حَيْثُ إنه بالِغُ القُوَّةِ تامُّها قويٌّ ، ومِن حَيْثُ إنه شديدُ القُوَّةِ مَتينٌ اهـ .
ولِكَمالِ حياتِه سُبْحَانَهُ كان قَوِيًّا مَتِيناً ، فإنه سُبْحَانَهُ حيٌّ حقيقةً . وحياتُه أَكْملُ الحياةِ وأتمُّها ، وهي حياةٌ تستلْزِمُ جميعَ صِفَاتِ الكمالِ ، ونفيَ أضْدادِها مِن جميعِ الوجوهِ ، ومِن لوازمِ الحياةِ الفِعلُ الاختياريُّ . فإنَّ كُلَّ حَيٍّ فَعَّالٌ .
وصُدورُ الفِعلِ عن الحيِّ بحسَبِ كَمالِ حياتِه ونَقْصِها ، وكُلُّ مَن كانتْ حياتُه أَكْملَ مِن غيرِه ، كان فِعلُه أقْوى وأَكْملَ ، وكذلك قُدْرتُه ، ولذلك كان الرَّبُّ سُبْحَانَهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ، وهو فعَّالٌ لِما يُريدُ . وقد ذَكَرَ البُخاريُّ في كتابِ :"خَلْقُ أفعالِ العِبادِ" عن نُعَيْمِ بنِ حمَّادٍ أنَّه قَالَ : الحيُّ هو الفعَّالُ ، وكُلُّ حيٍّ فعَّالٌ ، ولا فَرْقَ بين الحيِّ والميِّتِ إلا بالفِعلِ والشُّعورِ ، وإذا كانتِ الحياةُ مستلْزِمَةً للفِعلِ ، فالفِعلُ الَّذِي لا يَعقِلُ النَّاسُ سِواه هو الفِعلُ الاختياريُّ الإراديُّ الحاصِلُ بقُدرةِ الفاعلِ وإرادَته ومَشِيئَتِه . . . وكَوْنُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ حيًّا فاعِلاً مُخْتاراً مُرِيداً . ممَّا اتَّفَقَتْ عليه الرُّسُلُ والكُتُبُ ، ودَلَّ عليه العَقلُ والفِطرةُ، وشهِدَتْ به الموجوداتُ ، ناطِقُها وصامِتُها، جَمَادُها وحيوانُها ، عُلْويُّها وسُفْليُّها ، فمَنْ أَنْكَرَ فِعلَ الرَّبِّ الواقعِ بمشيئَتِه واختيارِه وفِعلِه ، فقد جحَدَ رَبَّهُ وفاطِرَه ، وأَنْكَرَ أَنْ يكونَ للعالَمِ رَبٌّ).

هيئة الإشراف

#6

6 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَقَوْلُهُ: ( وهُوَ الحَكِيْمُ الخَبِيْرُ ).(1) وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيْها )(2) (وهو معكـُمْ أينَمَا كنتُمْ واللهُ بما تعمَلُونَ بصيرٌ) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ ).(3)
وقولُه: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ )، وقَوْلُهُ: ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ).(4)
وقَوْلُهُ: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ …(5) ذُو القُوَّةِ المَتْيِنُ)
(6) ).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولُه: (الحكيمُ): أي الحاكمُ بينَ خلقِه بأمرِه الدِّينيِّ الشَّرعيِّ، وأمرِه الكونيِّ القدريِّ، الَّذي لَهُ الحكمُ في الدُّنْيَا والآخرةِ، كما قال تعالى: (وَمَا اختلفتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) وقال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) فهو -سُبْحَانَهُ- الحَكَمُ، والحاكِمُ بين خلقهِ في الدُّنْيَا والآخرةِ، يحكمُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- في الدُّنْيَا بِوَحيِهِ الَّذي أنزلَهُ على الأنبياءِ والرُّسلِ، ويحكمُ يومَ القيامةِ إذا نزلَ لفصلِ القضاءِ بين العبادِ، والحكيمُ: المحكِمُ المُتقِنُ للأشياءِ، الَّذي يضعُ الأشياءَ مواضِعَها، والَّذي له الحكمةُ التَّامَّةُ في خلقِهِ وأمرِه، فعليه يكونُ للحكيمِ معنيانِ:
الأوَّلُ: بمعنى المحكمِ المتقنِ للأشياءِ, والإحكامُ يكونُ في شرعِه وأمرِه، وفي خلقِه وقدَرِه، وكُلٌّ منهما مُحكَمٌ من وجهينِ: الأوَّلِ: وجودُه على صورَتِهِ المُعَيَّنَةِ.
الثَّاني: في غايتِه المحمودةِ الَّتي يَتَرَتَّبُ عليها.
وأمَّا حكمُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فينقسمُ إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: حُكمٌ كونيٌّ قَدَرِيٌّ، كقولِهِ: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ).
الثَّاني: حكمٌ دينيٌّ شرعيٌّ، كقولِهِ: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ – إلى قولِه - إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).
والحكمةُ وضعُ الأشياءِ مواضعَها.
قال ابنُ القيِّمِ في ((المدارجِ)): الحكمةُ حكمتانِ: عِلْمِيَّةٌ، وَعَمَلِيَّةٌ، فالعلميَّةُ: الاطِّلاعُ على بواطنِ الأشياءِ، ومعرفةُ ارتباطِ الأسبابِ بمسبَّباتِها خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا، والعمليَّةُ: وضعُ الشَّيءِ في موضِعِه. انتهى.
وحكمتُه -سُبْحَانَهُ- صفةٌ قائمةٌ به، كسائرِ صفاتِه من سمعِه وبصرِه وعلمِه وقدرتِه ونحوِ ذلك، وهي تنقسمُ إلى قسمينِ: إحدَاها: حكمةٌ في خلقِه وهي نوعانِ:
الأوَّلُ: إحكامُ هذا الخلقِ وإيجادُه في غايةِ الإحكامِ والإتقانِ.
والثَّاني: صدورُه لأجلِ غايةٍ محمودةٍ مطلوبةٍ له -سُبْحَانَهُ- الَّتي أَمَرَ لأجلِها وخَلَقَ لأجْلِها.
الثَّانيةُ: الحكمةُ في شرعِه، وتنقسِمُ أيضًا إلى قسمينِ: الأوَّلِ: كونِها في غايةِ الإحسانِ والإتقانِ. والثَّاني: كونُها صدرتْ لغايةٍ محمودةٍ وحكمةٍ عظيمةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ.
قال في ((المنهاجِ)): أجمعَ المُسلمون على وصفِه -سُبْحَانَهُ- بالحكمةِ، وتنازَعوا في تفسيرِ ذلك، فقالَ الجمهورُ من أهلِ السُّنَّةِ وغيِرِهم: هو حكيمٌ في خلقِه وأمرِه، والحكمةُ تتضمَّنُ ما في خلقِه وأمرهِ من العواقبِ المحمودةِ، والغاياتِ المحبوبةِ، والجمهورُ يقولون: لامُ التَّعليلِ داخلةٌ في أفعالِ اللهِ وأحكامِه. انتهى.
فاسمُه الحكيمُ فيه إثباتُ الحكمةِ، والحِكمةُ تتضمَّنُ كمالَ علمِه وخبرتِه، وأنَّه أمرٌ ونهيٌ، وخلقٌ وقدرٌ لِما له في ذلك من الحكمِ والغاياتِ الحميدةِ الَّتي يستحقُّ عليها كمالَ الحمْدِ، والإحكامُ الَّذي في مخلوقاتِه دليلٌ على علمِه، وإنَّما يدلُّ إذا كان الفاعلُ حكيمًا يفعلُ الحكمةَ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
والحكمُ معناه لغةً: المنعُ، وشرعًا: هو خِطابُ اللهِ المتعلِّقُ بأفعالِ المكلَّفينَ اقتضاءً أو تخييرًا، وينقسمُ الحكمُ بالنسبةِ إلى الرِّضا به وعدمِه إلى أقسامٍ: قسمٍ يجبُ الرِّضا به والانقيادُ والاستسلامُ له، وهو الحُكمُ الدِّينيُّ الشَّرعيُّ، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآيةَ، وأمَّا الحُكمُ الكونيُّ القدريُّ فمنه ما يُستحبُّ الرِّضا به، كالرِّضا بالفقرِ، والعاهةِ، والأمراضِ، ونحوِ ذلك، ومنه ما يحرمُ الرِّضا به كالرِّضا بالكفرِ، والمعصيةِ، ونحوِ ذلك.
وأمَّا اسمُه -سُبْحَانَهُ- الخبيرُ، فمعناه الَّذي انتهى علمُه إلى الإحاطةِ ببواطنِ الأشياءِ وخفاياها، كما أحاطَ بظواهِرِها. انتهى من ((الصَّواعقِ)).
يقالُ: خبرتُ الأمرَ أخبُره إذا عرفتُه على حقيقتِه.
(2) قولُه: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ): أى يدخلُ، قال وَلَجَ يَلِجُ، أي دَخَلَ يَدْخُلُ، أى يعلمُ ما يَدْخُلُ فيها، أي في الأرضِ من القطرِ والبذورِ والكنوزِ والمَوْتى وغيرِ ذلك.
قولُه: (مَا يَخْرُجُ مِنْهَا): أي من الأرضِ من النباتِ والمعادِنِ.
قولُهُ: (وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ): من المطرِ والملائكةِ.
قولُه: (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا): أي يَصعدُ في السَّماءِ.
قولُهُ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) سَيَأْتِى الكلامُ على المعيَّةِ.
قولُه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) أى خَزائنُه، أو الطُّرقُ الموصلةُ إلى عِلمِه.
قولُه: (لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُو): قال المناوِيُّ رحمه اللهُ: فَمن ادَّعى علمَ شيءٍ منها كَفَرَ، وَمفاتحُ الغيبِ هى الخمسةُ المذكورةُ
في قولِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى-: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا َتَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كما رَواه البُخَارِيُّ في صحيحِه.
(3) قولـُه: (ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ): أي القِفارِ من النـَّباتِ والدَّوابِّ وغيرِ ذلك.
قولُه: (وَالبَحْرِ) أي يعلمُ ما فيه من الحيواناتِ والجواهِرِ ونحوِ ذلك.
قولُه: (ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ): أي من أشجارِ البرِّ والبحرِ وغيِرِ ذلك.
قولُه: (إِلاَّ يَعْلَمُها): سُبْحَانَهُ.
قولُه: (ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ): من حبوبِ الثِّمارِ، والزُّروعِ وغيِرِ ذلك.
قولُه: (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ): هذا عمومٌ بعدَ خصوصٍ.
قولُه: (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ): أي مكتوبٍ في اللَّوحِ المحفوظِ، لأنَّ اللهَ كَتَبَ علمَ ما يكونُ وما قَدْ كانَ قبلَ أَنْ يخلقَ السَّماواتِ والأرضَ، فجميعُ الأشياءِ صغيِرِها وكبيرِها مثبتةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ على ما هي عليه، فتقعُ جميعُ الحوادثِ طِبقَ ما جَرى به القلمُ، وهذا أَحَدُ مراتبِ القضاءِ والقدرِ، فإنَّها أربعُ مراتبَ: علمُه -سُبْحَانَهُ- الشَّاملُ لجميعِ الأشياءِ، وكتابُه المحيطُ بجميعِ الموجوداتِ، ومشيئتُه العامَّةُ الشَّاملةُ لكلِّ شيءٍ، وخلقُه لجميعِ المخلوقاتِ، وسيأتي الكلامُ على هذا إنْ شاءَ اللهُ في الكلامِ على القدرِ.
ففي هذهِ الآيةِ إثباتُ صفةِ العلمِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وهي مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، وفيها الرَّدُّ على المعتزلةِ حيثُ قالوا: إنه عالمٌ بلا علمٍ، وفيها إثباتُ إحاطَةِ علمِه بكلِّ شيءٍ، فلا يَخْفى عليه خافيةٌ، وأنَّه يعلمُ الكُلِّيَّاتِ والجُزئيَّاتِ، ويعلمُ كلَّ شيءٍ، ما كانَ وما يكونُ وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ يكونُ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ) وقال تعالى: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) وفي هذهِ الآيةِ الرَّدُّ على مَن زَعَمَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يعلمُ الغيبَ، فهي صريحةٌ في أنَّ هذه الخمسَ لا يعلمُها إلا اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما تقدَّمَ الحديثُ الَّذي في الصَّحيحين أنَّهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللهُ …. لا يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ إِلا اللهُ)) الحديثَ.
وقالَ القُرطبيُّ رحمهُ اللهُ: لا مَطمعَ لأحدٍ في علمِ شيءٍ من هذهِ الأمورِ الخمسةِ. اهـ. والمرادُ بالغيبِ المشارِ إليه هو الغيبُ المطلقُ: وهو مالا يعلمهُ إلا اللهُ، لا الغيبُ المقيَّدُ: وهو ما عَلِمَه بعضُ المخلوقاتِ دونَ بعضٍ، فهو غيبٌ بالنِّسبةِ لمَن لم يعلمْهُ دونَ من عَلِمَه، فيكونُ غيبًا عَمَّنْ غابَ عنه من المخلوقِين، لا عَمَّن شهِدَهُ، فتلخَّص أنَّ الغيبَ ينقسمُ إلى قِسمين: مطلقٍ، ومقيَّدٍ.
(4) قولُه: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى) ((ما)) مصدريةٌ أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- يعلمُ في أيِّ يومٍ تحملُ، وفي أيِّ يومٍ تضعُ، وهلْ هُوَ ذكرٌ أو أُنثى، ففي هذِه الآيةِ إثباتُ صفةِ العلمِ، كما تقدَّمَ، وقد تواطأتِ الأدِلَّةُ على إثباتِ هذه الصِّفةِ عقلاً ونقلاً، وفيها سَعةُ علمِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّهُ منفردٌ بعلمِ ما في الأرحامِ وعلمِ مدَّةِ إقامتِه فيه، وهذا أَحَدُ أنواعِ الغيبِ الَّذي لا يعلمُها إلا اللهُ.
قولُه: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) هذه الآيةُ فيها إثباتُ صفةِ القدرةِ لله -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه، فجميعُ الأشياءِ مُنقادَةٌ لقدرتهِ، تابعةٌ لمشيئتِه سُبْحَانَهُ، وقديرٌ فعيلٌ، بمعنى فاعلٍ، بمعنى القادرِ وهي من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، كما ذكره في ((الفتحِ)) قال ابنُ بطَّالِ: القدرةُ من صفاتِ الذَّاتِ، والقوَّةُ والقدرةُ بمعنًى واحدٍ. انتهى.
وأمَّا المقتدِرُ فمعناه التَّامُّ القدرةِ، الَّذي لا يمتنعُ عليه شيءٌ. قالَ أحمدُ رحمهُ اللهُ: القدرةُ قدرةُ اللهِ، واستحسنَ ابنُ عقيلٍ هذا من أحمدَ، والمعنى أنَّه لا يمنعُ من قدرةِ اللهِ شيءٌ، وَنُفَاةُ القَدَرِ قد جحدُوا كمالَ قدرةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وقد قالَ بعضُ السَّلفِ: ناظِروهم بالعلمِ، فإن أَقَرُّوا به خُصِمُوا، وإن جحدُوه كفُروا، وقد استدلَّ العلماءُ على إثباتِ القدرِ بشمولِ القدرةِ والعلمِ، فقولُه سُبْحَانَهُ: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عامٌّ يَتناولُ كلَّ شيءٍ، فيدخلُ فيه أفعالُ العبادِ من الطَّاعاتِ والمعاصي، فإنَّها داخلةٌ تحتَ قدرةِ اللهِ ومشيئتِه، وكما أنَّه المُريدُ لها القادرُ عليها هم الفاعلون لها، الواقعةُ بقدرتِهم ومشيئتِهم، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
والقدريَّةُ تُنكِرُ دخولَ أفعالِ خلقِه تحتَ قدرتِه ومشيئتِه وخلقِه، فهم في الحقيقةِ مُنكرونَ لكمالِ عزَّتهِ ومُلكِه، قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في ((الكافيةِ الشَّافيةِ)):

وهو القديرُ لكلِّ شيءٍ فهو مقــ ... ـدورٌ له طوعًا بلا عصيــانِ
وعمومُ قدرتِهِ تدلُّ بـــأنَّه هو خالقُ الأفعالِ للحيــــوانِ
هي خلقُه حقًّا وأفعالٌ لهــم حقًّا ولا يتناقضُ الأمـــــرانِ
فحقيقةُ القدَرِ الَّذي حارَ الورى في شأنِه هو قدرةُ الرَّحمــــنِ
واستحسنَ ابنُ عقيلٍ ذا من أحمدَ لمَّا حَكاه عن الرِّضى الرَّبَّانـــي
قالَ الإمامُ شفى القلوبَ بلفظةٍ ذاتِ اختصارٍ وهي ذاتُ معانــِي.

فهو -سُبْحَانَهُ- خالِقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، لا خالقَ غيرُه ولا ربَّ سواه، ما شاءُ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكنْ، فكلُّ ما في الوجودِ مِن حركةٍ أو سكونٍ فبقضائِه وقدَرهِ ومشيئتِهِ وخلقِه، وهو -سُبْحَانَهُ- أمرَ بطاعتِه وطاعةِ رسولِهِ، ونَهى عن معصيتِه ومعصيةِ رسولهِ، ولا يتناقضُ الأمرانِ، خلافًا لأهلِ البدعِ.
قولُه تعالى: (وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
فلا يخرجُ حادثٌ من الأعيانِ والأفعالِ عن قدرتِه وخلقِه، كما لا يخرجُ عن علمِه ومشيئتِه.
تنبيهٌ: يجيءُ في كلامِ بعضِ النَّاسِ ((وَهُوَ على ما يَشاءُ قَديرٌ)) وليس ذلك بصوابٍ، بل الصَّوابُ ما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لعمومِ قدرتِهِ ومشيئتِهِ، خلافًا لأهلِ البدعِ من المعتزلةِ وغيرِهم.

(5) قولـُه: (الرَّزَّاقُ): فعَّالٌ، من أبنيةِ المبالغةِ، ومعناه الَّذي أعطى الخلائقَ أرزاقَها وساقَها إليهم، والرَّزقُ بالفتحِ: العطاءُ وبالكسرِ لغةً: الحظُّ والنَّصيبُ، وشرعًا: "هو ما ينفعُ من حلالٍ أو حرامٍ".
*وينقسم الرِّزقُ الى قِسمين:
الأوَّلِ: الرِّزقُ المطلقُ: وهو المستمرُّ نفعُه في الدُّنْيَا والآخرةِ، وهو رزقُ القلوبِ العلمُ والإيمانُ والرِّزقُ الحلالُ.
الثَّاني: مطلقُ الرِّزقِ: وهو الرِّزقُ العامُّ لسائِرِ الخليقةِ بَرِّهَا وفاجرِها وبهائِمها وغيرِها، وهو سَوْقُ القوتِ لكلِّ مخلوقٍ، وهذا يكونُ من الحلالِ والحرامِ، واللهُ رازقُهُ، قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا). الآيةَ.

(6) قولـُه: (ذُو القُوَّةِ): أي صاحبُ القوَّةِ التَّامَّةِ الَّذي لا يعتريهِ ضعفٌ، وهو بمعنى العزيزِ. انتهى. والقوَّةُ من صفاتِ الذَّاتِ، وهو بمعنى القدرةِ، لم يزلْ -سُبْحَانَهُ- ذا قوَّةٍ وقدرةٍ، والمعنى في وصفِه بالقوَّةِ أنَّه القادرُ البليغُ الاقتدارِ على كلِّ شيءٍ. انتهى. من ((الفتحِ)).
قولُه: (المَتْيِنُ): أي الَّذي له كمالُ القوَّةِ، قال البيهقيُّ: القويُّ: التَّامُّ القدرةِ لا يُنسَبُ إليه عَجزٌ في حالٍ من الأحوالِ. انتهى. فهذه الآيةُ فيها إثباتُ صفةِ الرَّزَّاقِ، وهي من الصِّفاتِ الفعليَّةِ، وفيها إثباتُ صفةِ القوَّةِ، وهي من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ).