الدروس
course cover
تضمن آية الكرسي للنفي والإثبات في صفات الله جل وعلا
11 Nov 2008
11 Nov 2008

7716

0

0

course cover
العقيدة الواسطية

القسم الثاني

تضمن آية الكرسي للنفي والإثبات في صفات الله جل وعلا
11 Nov 2008
11 Nov 2008

11 Nov 2008

7716

0

0


0

0

0

0

0

تضمن آية الكرسي للنفي والإثبات في صفات الله جل وعلا

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ من كِتَابهِ حَيثُ يَقُولُ : {اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ منْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا- أَيْ لاَ يُكْرِثُهُ وَلاَ يُثْقِلُهُ- وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، وَلِهَذَا كَانَ منْ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِن اللهِ حَافِظٌ ، وَلاَ يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ).

هيئة الإشراف

#2

14 Nov 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وَما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في أَعْظَم آيَةٍ في كِتابِهِ؛ حَيْثُ يَقولُ: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِى السَّماواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا- أي لا يُكْرِثُه ولا يُثْقِلُه- وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ) وَلِهذا كانَ مَنْ قَرَأَ هذِهِ الآيَةَ في لَيْلَةٍ؛ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حافِظٌ وَلا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ.(1)).

الشرح:

قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: ((1)(وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في أَعْظَمِ آيةٍ مِن كِتَابِهِ) أي: ودخل في الجملةِ السَّابقةِ ما وصف اللهُ به نفسَه الكريمةَ (في أَعْظَمِ آيةٍ) والآيةُ في اللُّغةِ العَلامةُ. والمرادُ بها هنا طائِفةٌ مِن كَلِماتِ القرآنِ مُتميِّزةٌ عَن غيرِهَا بفَاصِلَةٍ، وتسمّى هذه الآيةُ التي أوردها هنا آيةَ الكُرْسِيِّ؛ لذِكْرِ الكُرْسيِّ فيها ـ
والدَّليلُ عَلى أنَّها أعظمُ آيةٍ في القرآنِ: ما ثبت في الحديثِ الصَّحيحِ، الذي رواه مسلمٌ عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبيَّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ سأله: أيُّ آيةٍ في كتابِ اللهِ أعْظَمُ؟ قال: اللهُ ورسولُه أعلمُ. فردَّدهامِرَاراً،قال أُبَيٌّ: آيةُ الكرسيِّ. فقال النَّبيُّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: ((لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِر))وسببُ كونِهَا أعظمَ آيةٍ؛ لما اشتملت عليه مِن إثباتِ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ وتنـزيهِه عمَّا لا يليقُ به.
فقولُه تعالى (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ) أي لا معبودَ بحقٍّ إلاَّ هو، وما سواه فعبادتُه مِن أبطلِ الباطلِ (الْحَيُّ) أي: الدَّائِمُ الباقي الذي له كمالُ الحياةِ، والذي لا سبيلَ للفَنَاءِ عليه.
(القيُّومُ) أي: القائمُ بنفسِه المقيمُ لغيرِه ـ فهو غَنيٌّ عَن خلقِه، وخلْقُه محتاجون إليه ـ وقد ورد أنَّ (الْحَيَّ القَيُّومَ)هو الاسمُ الأعظمُ الذي إذا دُعِي اللهُ به أجاب وإذا سُئِل به أعْطى لدلالةِ (الْحَيِّ) عَلى الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، ودلالةِ (القيُّومِ) عَلى الصِّفاتِ الفعليَّةِ، فالصِّفاتُ كُلُّها ترجعُ إلى هذيْن الاسميْن الكريميْن العظيميْن ولكمالِ قيُّوميَّتهِ.
(لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) السِّنَةُ النُّعاسُ، وهو: نومٌ خفيفٌ، ويكونُ في العَينِ فقطْ، والنَّومُ أقوى مِن السِّنَةِ، وهو أخو الموتِ ويكونُ في القلبِ (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) ملْكًا وخَلْقًا وعبيدًا، فهو يملكُ العالَمَ العُلْويَّ والسُّفْلِيَّ. (مَنْ ذَا الَّذِي) أي لا أحدَ (يَشْفَعُ عِنْدَهُ) الشَّفَاعةُ: مشتقَّةٌ مِن الشَّفْعِ، وهو ضِدُّ الوترِ، فكأنَّ الشَّافعَ ضَمَّ سؤالَه إلى سؤالِ غيرِه فصيَّره شفعًا بعد أنْ كان وِترا، والشَّفاعةُ: سُؤالُ الخيرِ للْغيرِ،بمعنَى:أنيَسألَ المؤمنُ رَبَّه أن يغفرَ ذنوبَ وجرائمَ بعضِ المؤمنينَ. لكنَّها مِلْكٌ للهِ سبحانَه، فلا تكونُ (إِلاَّ بِإِذْنِهِ) أي بأمرِه، وذلك لكبريائهِ وعَظمتِه سبحانَه وتعالى، لا َيستطيعُ أحدٌ أَن يتقدَّمَ إليه بالشَّفاعةِ عندَه لأحدٍ إلاَّ بعد أنْ يأذَنَ.
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) أي علمُه واطِّلاعُه محيطٌ بالأمورِ الماضيَةِ والمُسْتقبَلةِ، فلا يخْفى عليه منها شيْءٌ (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) أي العبادُ لا يعلمون شيئاً مِن علمِ اللهِ إلاَّ ما علّمهم اللهُ إيَّاه عَلى ألسنةِ رسُلِه وبطُرقٍ وأسبابٍ متنوِّعةٍ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) كرسيُّه سبحانَه قيل: إنَّه العرشُ وقيل: إنَّه غيرُه! فقد ورد أنَّه موضِعُ القَدَمَيْنِ ـ وهو كُرْسيٌّ بلغ مِن عَظَمتِه وَسِعَتِه أنَّه وَسِعَ السماواتِ والأرضَ (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يُكْرِثُه ولا يَشُقُّ عليه ولا يُثْقِلُه حِفظُ العَالمِ العُلْويِّ والسُّفْليِّ؛ لكمالِ قُدْرتِه وقُوَّتِه.
(وَهُوَ العَلِيُّ) أي له الْعلوُّ المطلقُ؛ عُلوُّ الذاتِ بكونهِ فوقَ جميعِ المخلوقاتِ (عَلى العَرْشِ اسْتَوى) وعلوُّ القَدْرِ، فله كُلُّ صفاتِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ، وعلوُّ القهرِ، فهو القادرُ عَلى كُلِّ شيْءٍ، المتصرِّفُ في كُلِّ شيْءٍ، لا يمتنعُ عليه شيْءٌ (العَظِيمُ) الذي له جميعُ صفاتِ العَظَمةِ، وله التَّعظيمُ الكاملُ في قلوبِ أنبيائِه وملائكتِه وعبادِه المؤمنين، فَحَقِيقٌ بآيةٍ تحتوي عَلى هذه المعاني أَنْ تكونَ أعظمَ آيةٍ في القرآنِ، وأَن تحفظَ قارئَها مِن الشُّرورِ والشَّياطينِ.
والشَّاهدُ منها: أنَّ اللهَ جَمع فيها فيما وصف وسمَّى به نفسَه بين النَّفيِ والإثباتِ، فقد تضمَّنت إثباتَ صفاتِ الكمالِ ونفيَ النَّقْصِ عَن اللهِ ـ ففي قولِه: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) نفيُ الإلهيَّةِ عمَّا سواه، وإثباتُها له.وفي قولِه(الحَيُّ القيُّومُ) إثباتُ الحياةِ والقيُّوميَّةِ له ـ وفي قولِه (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)نفيُ السِّنَةِ والنَّومِ عنه، وفي قولِه: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) إثباتُ ملكيّتهِ الكاملةِ للعَالمين العلويِّ والسفليِّ ـ وفي قولِه: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) نفيُ الشَّفاعةِ عنده بغيرِ إذنِه، لكمالِ عظَمتهِ وغِنَاه عَن خلْقِه. وفي قولِه: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِم وَمَا خَلْفَهُم) إثباتُ كَمالِ علمِه بكُلِّ شيْءٍ ماضياً أو مُسْتَقبلاً ـ وفي قولِه: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) بيانُ حاجةِ الخلقِ إليه وإثباتُ غناه عنهم ـ وفي قولِه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) إثباتُ كُرْسيِّه وإثباتُ كَمالِ عظَمَتِه وجلالتِه وصِغَرِ المخلوقاتِ بالنسبةِ إليه: وفي قولِه: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) نفيُ العَجْزِ والتَّعَبِ عنه سبحانَه ـ وفي قولِه: (وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) إثباتُ العُلوِّ والعظمةِ له سبحانَه.
وقول المصنِّفِ رحمه اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَرَأَ هَذِه الآيةَ في لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْه مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ) يشيرُ إلى ما رواه البخاريُّ في صحيحِه عَن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وفيه: (( إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القيُّومُ)، حَتَّى تَخْتِمَ الآيةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ)) الحديثَ. والشَّيطانُ: يُطْلقُ عَلى كُلِّ متمرِّدٍ عَاتٍ مِن الجنِّ والإنسِ ـ مِن (شَطَن) إذا بعُد ـ سُمِّي بذلك؛ لبُعْدِه مِن رحمةِ اللهِ ـ أو مِن شَاطَ يَشِيطُ إذا اشتدَّ).

هيئة الإشراف

#3

3 Dec 2008

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (وما وصَفَ به نفسَه في أعظم آية في كتاب الله حيثُ يقولُ: (اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . ولهذا كان مَنْ قرأَ هذه الآية في ليلةٍ لم يَزَلْ عليه من اللهِ حافِظٌ ولا يَقْرَبُهُ شيطانٌ حتى يُصبحَ(1)).

الشرح:

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1) (وَدَخَلَ في ذلكَ ما وَصَفَ بهِ نفسَه في أعظم آية في كتاب الله حيثُ يقولُ: (اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، ولهذا كان مَنْ قرأَ هذه الآية في ليلةٍ لم يَزَلْ عليه من اللهِ حافِظٌ ولا يَقْرَبُهُ شيطانٌ حتى يُصبحَ). وذلك لاشتمالها على أجلّ المعارف وأوسع الصفات، فأخبر أنه المتوحِّد في الألوهية، المستحق لإخلاص العبودية، وأنه الحيّ الكامل كامل الحياة، وذلك يقتضي كمال عزّته وقدرته وسِعة علمه وشمول حكمته وعموم رحمته وغيرها من صفات الكمال الذاتية، وأنه القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع المخلوقات، وقام بالموجودات كلّها، فخلقها وأحكمها ورزقها ودبّرها وأمدّها بكل ما تحتاج إليه، وهذا الاسم يتضمن جميع الصفات الفعلية، ولهذا ورد أن الحي القيوم هو الاسم الأعظم الذي إذا دُعي الله به أجاب وإذا سُئل به أعطى، بدلالة الحيّ على الصفات الذاتية، والقيوم على الصّفات الفعلية، والصّفات كلها ترجع إليهما. ومن كمال قيوميته وحياته أنه لا تأخذه سِنَة وهي النّعاس ولا نوم. ثم ذكر عموم ملكه للعالم العلوي والسفلي، ومن تمام ملكه أن الشّفاعة كلها له، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ففيها ذكر الشفاعة التي يجب إثباتها، وهي التي تقع بإذنه لمن ارتضى.
والشفاعة المنفية التي يعتقدها المشْركون وهي ما كانت تُطلب من غير الله وبغير إذنه، فمن كمال عظمة الله أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وبيّن أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين. ثم ذكر سعة علمه فقال: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) أي علمه محيط بالأمور الماضية والمستقبلة فلا يخفى عليه منها شيء، وأما الخلْق فلا يحيطون بشيء من علم الله، لا قليل ولا كثير، إلا بما شاء أن يُعْلمهم الله على ألسِنةِ رسله، وبطرق وأسباب متنوعة. وسع كرسيه: قيل إنه العرش وقيل إنه غيره، وإنه كرسيّ بلغ من عظمته وسِعته أنه وسع السماوات والأرض. ومع ذلك فلا يؤوده: أي لا يثقله ولا يكرثه حفظهما أي حفظ العالم العلويّ والسُّفليّ، وذلك لكمال قدرته وقوته. وفيها بيان لعظيم نِعمة الله على الخلق، إذ خلَقَ لهم السماوات والأرض وما فيهما، وحفظهما وأسكنهما عن الزوال والتزلزل، وجعلهما على نظام بديع جامع للأحكام والمنافع المتعددة التي لا تحصى، وهو العلي الذي له العلوّ المطلق من جميع الوجوه: علوّ الذات بكونه فوق جميع المخلوقات على العرش استوى. وعلو القدر: إذ أن له كل صفة كمال وله من تلك الصفة أعلاها وغايتها. العظيم الذي له جميع أوصاف العظمة والكبرياء، وله العظمة والتعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وأصفيائه، الذي لا أعظم منه ولا أجلَّ ولا أكبر، فحقيق بآية تحتوي على هذه المعاني الجميلة أن تكون أعظم آيات القرآن الكريم، وأن يكون لها من المنع وحفظ قارئها من الشّرور والشياطين ما ليس لغيرها).

هيئة الإشراف

#4

3 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ مُحمَّد خَليل هَرَّاس رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومَاَ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ في كِتَابِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: ( اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤودُهُ حِفْظُهُما-لا يُكرِثُهُ ولا يُثْقِلُهُ- وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيْمُ )(1)).

الشرح:

قال الشيخ محمد خليل هراس (ت: 1395هـ): ((1) رَوَى مُسْلِمٌ في (صحيحِهِ) عن أُبيِّ بنِ كَعْبٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ سألَهُ:
(( أَيُّ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟.قالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَرَدَّدَهَا مِرَارًا، ثُمَّ قالَ أُبيٌّ: آيَةُ الكُرْسِيِّ.
فَوَضَعَ النَّبِيُّ يَدَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ، وَقالَ: لِيَهْنِكَ هَذَا العِلْمُ أَبَا المُنْذِرِ )).
وفي رِوَايَةٍ عندَ أحمدَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنَّ لَهَا لِسَانَا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عندَ سَاقِ العَرْشِ )).
ولا غَروَ؛ فقَدِ اشتملتْ هذهِ الآيةُ العظيمةُ مِن أسماءِ الرَّبِّ وصفاتِهِ على ما لمْ تشتملْ عليهِ آيةٌ أُخرى.
فقَدْ أخبرَ اللهُ فيهَا عن نفسِهِ بأنَّهُ المتوحِّدُ في إلهِيَّتِهِ، الذي لا تنبغي العبادةُ بجميعِ أنْواعِهَا وسائرِ صُورِهَا إلاَّ لهُ.
ثمَّ أردفَ قضيةَ التَّوحيدِ بما يشهدُ لهَا مِن ذِكرِ خصائصِهِ وصفاتِهِ الكاملةِ، فذكَرَ أَنَّهُ الحيُّ الذي لهُ كمَالُ الحياةِ؛ لأنَّ حياتَهُ مِن لوازمِ ذَاتِهِ، فهيَ أزليَّةٌ أبديَّةٌ، وكمَالُ حياتِهِ يستلزمُ ثبوتَ جميعِ صفاتِ الكمَالِ الذاتيَّةِ لهُ؛ مِن العزَّةِ والقُدرَةِ والعِلمِ والحكمةِ والسَّمعِ والبصرِ والإِرادةِ والمشيئةِ وغيرِهَا، إذْ لا يتخلَّفُ شيءٌ منهَا إلاَّ لنقصٍ في الحياةِ، فالكمَالُ في الحياةِ يتبَعُهُ الكمَالُ في سائرِ الصِّفاتِ اللاَّزمَةِ للحيِّ.
ثمَّ قَرنَ ذلكَ باسمِهِ القيومِ، ومعناهُ الذي قامَ بنفسِهِ، واستغنَى عن جميعِ خلقِهِ غنىً مطلقًا لا تشوبُهُ شائبةُ حاجةٍ أصلاً؛ لأنَّهُ غنىً ذاتيٌّ، وبِهِ قامَتِ الموجوداتُ كلُّهَا، فهيَ فقيرةٌ إليهِ فقرًا ذاتيًّا، بحيثُ لا تستغني عنهُ لحظةً، فهوَ الذي ابتدأَ إيجادَهَا على هذا النَّحوِ مِن الإِحكامِ والإِتقانِ، وهوَ الذي يُدبِّرُ أمورَهَا، ويمُدُّهَا بكلِّ ما تحتاجُ إليهِ في بقائِهَا، وفي بلوغِ الكمَالِ الذي قدَّرهُ لهَا.
فهذا الاسمُ متضمِّنٌ لجميعِ صفاتِ الكمَالِ الفعليَّةِ، كمَا أنَّ اسمَهُ الحيَّ متضمِّنٌ لجميعِ صفاتِ الكمَالِ الذَّاتيَّةِ، ولهذا وردَ أنَّ الحيَّ القيومَ همَا اسمُ اللهِ الأعظمُ الذي إذَا سُئِلَ بهِ أعطَى، وإذَا دُعِيَ بهِ أجابَ.
ثمَّ أعقبَ ذلكَ بما يدُلُّ على كمَالِ حياتِهِ وقيُّوميَّتِهِ، فقالَ: {لا تَأْخُذُهُ }؛ أي: لا تغلِبُهُ { سِنَةٌ}؛ أي: نُعاسٌ { ولا نَوْمٌ }. فإنَّ ذلكَ يُنَا فِي القيُّومِيَّةَ، إذِ النَّومُ أخو الموتِ، ولهذا كانَ أهلُ الجنَّةِ لا ينامون.
ثمَّ ذكرَ عمومَ مُلكِهِ لجميعِ العوالِمِ العُلْويَّةِ والسُّفليَّةِ، وأنَّهَا جميعًا تحتَ قهرِهِ وسلطانِهِ، فقالَ: { لَهُ مَا في السَّماواتِ وَمَا في الأَرْضِ }.
ثمَّ أردفَ ذلكَ بما يدُلُّ على تمامِ مُلكِهِ، وهوَ أنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لهُ، فلا يشفعُ عندَهُ أحدٌ إلاَّ بإذنِهِ.
وقَدْ تضمَّنْ هذا النَّفيُ والاستثناءُ أمرَينِ:
أحدُهمَا: إثباتُ الشَّفاعةِ الصَّحيحَةِ، وهيَ أَنَّها تقعُ بإذنِهِ سبحانَهُ لمَنْ يرضى قولَهُ وعملَهُ.
والثَّانِي: إبطالُ الشَّفاعةِ الشِّركيَّةِ التَّي كانَ يعتقدُهَا المشركون لأصنامِهِمْ، وهيَ أَنَّها تَشْفَعُ لَهُمْ بِغَيْرِ إذنِ اللهِ ورِضَاهُ.
ثمَّ ذكرَ سعةَ علمِهِ وإحاطتِهِ، وأنَّهُ لا يخفَى عليهِ شيءٌ مِن الأمورِ المُسْتَقْبَلَةِ والماضِيَةِ.
وأَمَّا الخلقُ فإنَّهُمْ {لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ }؛ قيلَ: يعني من معلومِهِ. وقيلَ: من عِلمِ أسمائِهِ وصفاتِهِ؛ { إِلاَّ بِمَا شَاءَ } اللهُ سبحانَهُ أنْ يُعَلِّمَهُمْ إيَّاهُ على أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، أو بغيرِ ذلكَ مِن طُرُقِ البحثِ والنَّظرِ والاسْتِنْتَاجِ والتَّجْرِبَةِ.ثمَّ ذكرَ ما يدُلُّ على عَظِيمِ مُلْكِهِ، ووَاسِعِ سُلْطَانِهِ، فَأَخْبَرَ أنَّ كُرسيَّهُ قدْ وَسِعَ السَّماواتِ ْوالأرضَ جميعًا.
والصَّحيحُ في الكرسيِّ أَنَّهُ غيرُ العرشِ، وأنَّهُ موضعُ القدْمينِ، وأنَّهُ في العرشِ كحلْقةِ مُلقاةٍ في فَلاةٍ.
وأَمَّا ما أوردَهُ ابنُ كثيرٍ عن ابن عبَّاسٍ في تفسيرِ الكرسيِّ بالعِلمِ؛ فإنَّهُ لا يصحُّ، ويُفضِي إلى التَّكرارِ في الآيةِ.
ثمَّ أخبرَ سبحانَهُ بعدَ ذلكَ عن عظيمِ قُدرتِهِ وكمَالِ قوَّتِهِ بقولِهِ: { وَلاَ يَؤودُهُ حِفْظُهُما }؛ أي: السَّماواتُ والأرضُ وما فيهمَا.
وفسَّرَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللُهُ {يَؤُودُهُ }بـِ: (يُثْقِلُهُ ويُكْرِثُهُ)، وهوَ من آدَهُ الأمرُ: إذَا ثَقُلَ عليهِ.
ثمَّ وصفَ نفسَهُ سبحانَهُ في ختامِ تلكَ الآيةِ الكريمةِ بهذينِ الوصفينِ الجليلينِ، وهمَا: { العَلِيُّ } و { العَظِيمُ }.
فالعَلِيُّ: هوَ الذي لهُ العُلُوُّ المُطلقُ مِن جميعِ الوُجوهِ:
عُلُوُّ الذَّاتِ: وكونُهُ فوقَ جميعِ المخلوقاتِ مستوِيًا على عرشِهِ.
وعُلُوُّ القَدْرِ: إذْ كانَ لهُ كلُّ صفةِ كمَالٍ، ولهُ مِن تلكَ الصِّفةِ أعلاهَا وغايتُهَا.
وعُلُوُّ القَهْرِ: إذْ كانَ هوَ القاهرُ فوقَ عبادِهِ وهوَ الحكيمُ الخبيرُ.
وأَمَّا العظيمُ؛ فمعناهُ الموصوفُ بالعظمةِ، الذي لا شيءَ أعظمَ منهُ، ولا أَجَلَّ، ولا أكبرَ، ولهُ سبحانَهُ التَّعظيمُ الكاملُ في قلوبِ أنَّبيائِهِ وملائكتِهِ وأصفيائِهِ).

هيئة الإشراف

#5

3 Dec 2008

شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( (وَما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في أَعْظَم آيَةٍ في كِتاب اللهِ؛ حَيْثُ يَقولُ: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ، لَّهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ، مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْديِهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ) ))(1).
((وَلِهذا كانَ مَنْ قَرَأَ هذِهِ الآيَةَ في لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حافِظٌ، وَلا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَى يُصْبِحَ))(2) )
.


الشرح:

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ((1) قَوْلُهُ: ((وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)): وهذِهِ الآيةُ تُسمَّى آيةَ الكرسِيِّ؛ لأنَّ فِيها ذِكْرَ الكرسيِّ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ) ، وهِيَ أعظمُ آيةٍ فِي كتابِ اللَّهِ.
والدَّليلُ عَلَى ذلِكَ: أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألَ أُبيَّ بنَ كعبٍ، قالَ: ((أَيُّ آيةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟)). فقَالَ لَهُ: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ). فَضَرَبَ عَلَى صَدْرِهِ، وقال: لِيَهْنِكَ العِلمُ أَبَا المُنْذِرِ)). يعني: أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرَّهُ بأنَّ هذِهِ أعظمُ آيةٍ فِي كتابِ اللَّهِ، وأنَّ هَذَا دليلٌ عَلَى عِلمِ أُبيٍّ فِي كتابِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
وفِي هَذَا الحديثِ دليلٌ عَلَى أنَّ القُرآنَ يَتفاضَلُ، كَمَا دلَّ علَيْهِ أيضاً حديثُ سورةِ الإخلاصِ، وَهَذَا مَوضِعٌ يجبْ فيِهِ التَّفصيلُ، فإننَّا نقولُ: أمَّا باعتبارِ المتكلِّمِ بِهِ فإنَّهُ لاَ يَتفاضلُ؛ لأنَّ المتكلِّمَ بِهِ واحدٌ، وهُوَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، وأمَّا باعتبارِ مدلولاتِهِ وموضوعاتِهِ فإنَّهُ يتفاضلُ، فسورةُ الإخلاصِ الَّتِي فِيهِا الثَّناءُ عَلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - بمَا تضمَنْتُه مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ ليسَتْ كسُورةِ المَسدِ الَّتِي فِيها بيانُ حالِ أبي لَهُبٍ مِنْ حَيْثُ الموضوعُ، كذلِكَ يتفاضلُ مِنَ حَيْثُ التأثيرُ والقوَّةُ فِي الأسلوبِ، فإنَّ مِنَ الآياتِ مَا تجدُها آيةً قصيرةً، لكنْ فِيهِا ردعٌ قويٌّ للقلبِ وموعظةٌ، وتجدُ آيةً أخرى أطولَ مِنْهَا بكثيرٍ، لكنْ لاَ تشتملُ عَلَى مَا تشتملُ علَيْهِ الأُولى، فمثلاً قولُهُ - تَعَالَى -: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) … إلخ، هذِهِ آيةٌ موضوعُهَا سهلٌ، والبحثُ فِيهِا فِي معاملاتٍ تجري بَيْنَ الناسِ، وليسَ فِيهِا ذاك التَّأثيرُ الَّذِي يؤثِّرُهُ مثلُ قولِهِ - تَعَالَى -: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) ، فهذِهِ تحملُ معانيَ عظيمةً، فِيهِا زجرٌ وموعظةٌ وترغيبٌ وترهِيَبٌ، ليسَتْ كآيةِ الدَّيْنِ مثلاً، مَعَ أنَّ آيةَ الدَّيْنِ أطولُ مِنْها.
قولُ المؤلِّفِ: (حَيْثُ يقولُ: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ…) ): فِي هذِهِ الآيةِ يخبرُ اللَّهُ بأنَّهُ منفردٌ بالألوهِيَةِ، وذلِكَ مِنْ قولِهِ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)؛ لأنَّ هذِهِ جملةٌ تفيدُ الحَصْرَ، وطريقةُ النَّفيِ والإثباتِ هذِهِ من أقوَى صِيَغِ الحصرِ.
وقَوْلُهُ: (الْحَىُّ الْقَيُّومُ): (الْحَىُّ)، أيْ: ذو الحياةِ الكاملةِ، المتضمنةِ لجميعِ صفاتِ الكمالِ، لَمْ تُسْبَقْ بعدمٍ، ولاَ يلحقُهَا زوالٌ، ولاَ يعترِيها نقصٌِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ.
و(الْحَىُّ) مِنْ أسماءِ اللَّهِ، وقدْ تُطْلَقُ عَلَى غيرِ اللَّهِ، قَالَ - تَعَالَى -: (يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، ولكنْ ليسَ الحيُّ كالحيِّ، ولاَ يلزمُ مِن الاشتراكِ فِي الاسمِ التَّماثلِ فِي المُسمَّى.
(الْقَيُّومُ): عَلَى وزنِ (فيعولُ)، وهذِهِ مِنْ صيغِ المبالغةِ، وهِيَ مأخوذةٌ مِنَ القيامِ.
ومعنى (الْقَيُّومُ)، أيْ: أنَّهُ القائمُ بنَفْسِه، فقيامُهُ بنفْسِهِ يستلزمُ استغناءَهُ عَنْ كُلِّ شيءٍ، لاَ يحتاجُ إِلَى أكلٍ ولاَ شربٍ ولاَ غيرِهما، وغيرهُ لاَ يقومُ بنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ محتاجٌ إِلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فِي إيجادِهِ وإعدادِه وإمدادِهِ.
ومِنْ معنى (الْقَيُّومُ) كذلِكَ أنَّهُ قائمٌ عَلَى غيرِهِ، لقولِهِ - تَعَالَى -: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) ، والمقابلُ محذوفٌ، تقديرُهُ: كَمَنْ ليسَ كذلِكَ، والقائمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بمَا كَسَبَتْ هُوَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -، وَلِهَذَا يقولُ العلماءُ: القيُّومُ: هُوَ القائمُ بنَفْسِهِ القائِمُ عَلَى غيرِهِ، وإِذَا كَانَ قائماً عَلَى غيرِهِ، لزمَ أنْ يكونَ غيرُهُ قائماً بِهِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَمِنْ ءَايَتِهِ أن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ) ، فَهُوَ إذاً: كاملُ الصِّفاتِ وكاملُ المُلكِ والأفعالِ.
وهَذَان الاسمانِ همَا الاسمُ الأعظمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ اللَّهُ بِهِ أجابَ، وَلِهَذَا ينبغِي للإنسانِ فِي دعائِهِ أنْ يتوسلَ بِهِ، فيقولُ: يا حيُّ يا قيُّومُ، وقدْ ذُكرا فِي الكتابِ العزيزِ فِي ثلاثةِ مواضعَ: هَذَا أحدُها، والثَّاني فِي سورةِ آلِ عمرانَ، (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) ، والثَّالثُ فِي سورةِ طه: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مِنْ حَمَلَ ظُلْماً) .
هَذَان الاسمانِ فِيهِمَا الكمالُ الذَّاتيُّ والكمالُ السُّلطانيُّ، فالذَّاتيُّ فِي قولِهِ: (الْحَىُّ)، والسُّلطانيُّ فِي قولِهِ: (الْقَيُّومُ)؛ لأنَّهُ يقومُ عَلَى كُلِّ شيءٍ، ويقومُ بِهِ كُلُّ شيءٍ.
وقوْلُهُ: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ): والسِّنَةُ النُّعاسُ، وهِيَ مقدِّمةُ النَّومِ، ولَمْ يَقُلْ: لاَ ينامُ؛ لأنَّ النَّوْمَ يكونُ باختيارٍ، والأخذُ يكونُ بالقَهرِ.
والنَّومُ مِنْ صفاتِ النَّقصِ، قَالَ النَّبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ)).
وهذِهِ صفةٌ مِنْ صفاتِ النَّفيِ، وقَدْ سَبَقَ أنَّ صفاتِ النَّفيِ لاَ بُدَّ أنْ تتضمَّنَ ثُبوتاً، وهُوَ كمالُ الضِّدِّ، والكمالُ فِي قولِهِ: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) كمالُ الحياةِ والقيُّوميَّةِ؛ لأنَّهُ مِنْ كمالِ حياتِهِ أنْ لاَ يحتاجَ إِلَى النَّومِ، ومِنْ كمالِ قيوميتِهِ أنْ لاَ ينامَ؛ لأنَّ النَّومَ إنمَا يحتاجُ إِلَيْهِ المخلوقاتُ الحيَّةُ، لنَقصِها، لأنَّها تحتاجُ إِلَى النَّومِ مِنْ أجْلِ الاستراحَةِ مِنْ تعبٍ سَبَقَ، واستعادةِ القوَّةِ لعَملِ مستقبلٍ، ولَمّا كَانَ أهلُ الجنَّةِ كامِلي الحياةِ كانوا لاَ ينامُونَ، كَمَا صحَّتْ بذلِكَ الآثارُ.
لكنْ لو قَالَ قائلٌ: النَّومُ فِي الإنسانِ كمالٌ، ولِهَذَا، إِذَا لَمْ يَنَمِ الإنسانُ، عُدَّ مريضاً.
فنقولُ: كالأكلِ فِي الإنسانِ كمالٌ، ولو لَمْ يأكلْ عُدَّ مريضاً، لكنْ هُوَ كمالٌ مِنْ وجهٍ، ونقصٌ مِنْ وجهٍ آخرَ، كمالٌ لدلالتِهِ عَلَى صحَّةِ البَدنِ واستقامتِهِ، ونقصٌ لأنَّ البَدنَ محتاجٌ إليْهِ، وهُوَ فِي الحقيقةِ نقصٌ.
إذاً: ليسَ كُلُّ كمالٍ نسبيٌّ بالنِّسبةِ للمخلوقِ يكونُ كمالاً للخالقِ، كَمَا أنَّهُ ليسَ كُلُّ كمالٍ فِي الخالقِ يكونُ كمالاً فِي المخلوقِ، فالتَّكبُّرُ كمالٌ فِي الخالقِ، نقصٌ فِي المخلوقِ، والأكلُ والشُّربُ والنَّومُ كمالٌ فِي المخلوقِ، نقصٌ فِي الخالقِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ) .
وقولُهُ: (لَّهُ مَا فِى السَّمَاوات وَمَا فِى الأَرْضِ): (لَهُ): خبرٌ مقدَّمٌ، و(مَا): مبتدأٌ مؤخَّرٌ، ففِي الجُملةِ حَصرٌ، طريقُهُ تقديمُ مَا حقُّهُ التَّأخِيرُ، وهُوَ الخَبَرُ. (لَّهُ): اللاَّمُ هذِهِ للمُلكِ، مُلكٍ تامٍّ، بدونِ معارِضٍ. (مَا فِى السَّمَاواتِ): مِنَ الملائكةِ والجنَّةِ وغيرِ ذلِكَ ممَا لاَ نَعلَمُهُ، (وَمَا فِى الأَرْضِ): من المخلوقاتِ كلِّها، الحيوانِ مِنْها وغيرِ الحيوانِ.
وقولُهُ: (السَّمَاواتِ): تفيدُ أنَّ السَّماواتِ عديدةٌ، وهُوَ كذلِكَ، وقدْ نَصَّ القرآنُ عَلَى أنَّها سَبعٌ: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) .
والأرضُونَ أشارَ القرآنُ إِلَى أنَّها سَبعٌ، بدونِ تصريحٍ، وصرَّحتْ بها السُّنَّةُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) ، مثلُهنَّ فِي العددِ دونَ الصِّفةِ، وفِي السُّنَّةِ قَالَ النبيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((مَنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبعِ أَرْضِين)).
وقولُهُ: (مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ): (مَنْ ذَا): اسمُ استفهامٍ، أَوْ نقولُ: (مَن): اسمُ استفهامٍ، و(ذَا): ملغاةٌ، ولاَ يصحُّ أنْ تكونَ (ذَا): اسماً موصولاً فِي مثلِ هَذَا التَّركيبِ؛ لأنَّهُ يكونُ معنى الجملةِ: مَنْ الَّذِي الَّذِي! وَهَذَا لاَ يستقيمُ.
وقولُهُ: (مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ): الشَّفاعةُ فِي اللُّغةِ: جعلُ الوَتْرِ شفعاً، قَالَ - تَعَالَى -: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) . وفِي الاصطلاحِ: هِيَ التَّوسُّطُ للغيرِ بجَلْبِ منفعةٍ أوْ دَفْعِ مضرَّةٍ، فمثلاً: شفاعةُ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهلِ الموْقفِ أنْ يُقضى بَيْنَهُم: هذِهِ شفاعةٌ بدفعِ مضرَّةٍ، وشفاعتُهُ لأهلِ الجنَّةِ أنْ يدخلُوها بجلبِ منفعةٍ.
وقَوْلُهُ: (عِنْدَهُ)، أيْ: عندَ اللَّهِ.
(إِلاَّ بِإِذْنِهِ)، أيْ: إذنِهِ لَهُ، وهذِهِ تفيدُ إثباتَ الشفاعةِ، لكنْ بشرطِ أنْ يأذنَ، ووجهُ ذلِكَ أنَّهُ لولاَ ثُبوتُهَا لكَانَ الاستثناءُ فِي قولِهِ (إِلاَّ بِإِذْنِهِ): لَغْواً لاَ فائدةَ فِيهِ.
وذِكْرُهَا بعدَ قولِهِ: (لَّهُ مَا فِى السَّمَاواتِ…): يفيدُ أنَّ هَذَا المُلْكَ الَّذِي هُوَ خاصٌّ باللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، أنَّهُ مُلْكٌ تامُّ السُّلْطانِ، بمعنى أنَّهُ لاَ أَحَدَ يَستطِيعُ أنْ يَتصرَّفَ ولاَ بالشَّفاعةِ الَّتِي هِيَ خيرٌ إِلاَّ بإذنِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ تِمامِ ربوبيَّتِهِ وسلطانِهِ - عزَّ وجلَّ -.
وتفيدُ هذِهِ الجملةُ أنَّ لِلَّهِ إذناً، والإذنُ فِي الأصلِ الإعلامُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، أيْ: إعلامٌ مِنَ اللَّهِ ورسولِهِ، فمعنى (بِإِذْنِهِ)، أيْ: إعلامُهُ بأنَّهُ راضٍ بذلِكَ.
وهناكَ شروطٌ أُخرى للشَّفاعةِ: مِنْها: أن يكونَ راضياً عَنِ الشَّافعِ وعَنِ المشفوعِ لَهُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) ، وقال: (يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) .
وهناكَ آيةٌ تنتظمُ الشُّروطَ الثَّلاثةَ: (وَكَم مِّن مَلَكٍ فِي السَّمَاواتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى) ، أيْ: يرضَى عَنِ الشَّافعِ والمشفوعِ لَهُ؛ لأنَّ حَذْفَ المعمولِ يدلُّ عَلَى العمومِ.
إِذَا قَالَ قائلٌ: مَا فائدةُ الشفاعةِ إِذَا كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - قَدْ عَلِمَ أنَّ هَذَا المشفوعَ لَهُ ينجُو؟
فالجوابُ: أنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - يأذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ يشفعُ مِنْ أجلِ أنْ يكرِمَهُ وينالَ المقامَ المحمودَ.
وقَوْلُهُ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ): العلمُ هُوَ إدراكُ الشَّيءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ إدراكاً جازماً، واللَّهُ - عزَّ وجلَّ - (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) المستقبلُ، (وَمَا خَلْفَهُمْ) الماضِي، وكلمةُ (ما) مِنْ صيغِ العمومِ، تشملُ كُلَّ ماضٍ وكُلَّ مستقبلٍ، وتشملُ أيضاً مَا كَانَ من فِعْلِهِ، ومَا كَانَ من أفعالِ الخَلْقِ.
وقَوْلُهُ (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ): الضَّميرُ فِي (يُحِيطُونَ) يعودُ عَلَى الخلقِ الَّذِي دلَّ عَلَيْهِم قُوْلُهُ: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوات وَمَا فِي الأَرْضِ)، يعني لاَ يحيطُ مَنْ فِي السَّماواتِ والأرضِ بشيءٍ مِنْ علمِ اللَّهِ إِلاَّ بمَا شاءَ.
قَوْلُهُ: (مِّنْ عِلْمِهِ): يحتملُ من علمٍ ذاتَهُ وصفاتِهِ، يعني: أنَّنا لاَ نعلمُ شيئًا عَنِ اللَّهِ وذاتِهِ وصفاتِهِ إِلاَّ بمَا شاءَ ممَا علَّمَنَا إياهُ، ويحتملُ أنَّ (عِلمٍ) هُنَا بمعنى معلومٍ، يعني: لاَ يحيطُونَ بشيءٍ مِن معلومِهِ، أيْ: ممَا يعلمُهُ، إِلاَّ بمَا شاءَهُ، وكِلاَ المعنيَيْنِ صحيحٌ، وقَدْ نقولُ: إنَّ الثَّانيَ أعمُّ؛ لأنَّ معلومَهُ يدخلُ فِيهِ علمَهُ بذاتِهِ وبصفاتِهِ وبمَا سوى ذلِكَ.
وقولُهُ: (إِلاَّ بِمَا شَاءَ)، يعني: إلاّ بمَا شاءَ ممَا علَّمهُم إياه.
وقدْ علَّمَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - أشياءَ كثيرةً عَنْ أسمائِهِ وصفاتِهِ وعَنْ أحكامِهِ الكونيَّةِ وأحكامِهِ الشَّرعيَّةِ، ولكنَّ هَذَا الكثيرَ هُوَ بالنِّسبةِ لمعلومِهِ قليلٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَا أُوتيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) .
وقَوْلُهُ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوات وَالأَرْضَ): (وَسِعَ) بمعنى: شملَ، يعني: أنَّ كرسيَّهُ محيطٌ بالسَّماواتِ والأرضِ، وأكبرُ مِنْها؛ لأنَّهُ لولاَ أنَّهُ أكبرُ مَا وسعَها.
والكرسيُّ، قَالَ ابنُ عباسٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُما -: ((إِنَّهُ مَوْضِعُ قَدَمي اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -))، وليسَ هُوَ العرشُ، بلِ العرشُ أكبرُ مِنَ الكرسيِّ، وقَدْ وردَ عَنِ النَّبيِّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرْضينَ السَّبْعَ بالنِّسبةِ للكُرْسِي كَحَلَقَةٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَأَنَّ فَضْلَ العَرْشِ عَلَى الكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الفَلاةِ عَلَى هذِهِ الحَلَقَةِ)).
هَذَا يدلُّ عَلَى عظمِ هذِهِ المخلوقاتِ، وعظمُ المخلوقِ يدلُّ عَلَى عِظَمِ الخالقِ.
قَوْلُهُ: (وَلاَ يُؤُدُهُ حِفْظُهُمَا)، يعني: لاَ يثقلُهُ ويكرثُهُ حفظُ السَّماواتِ والأرضِ.
وهذِهِ مِنَ الصِّفاتِ المنفيَّةِ، والصِّفةُ الثبوتيةُ الَّتِي يدلُّ عَلَيْهِا هَذَا النَّفيُ هِيَ كمالُ القُدرةِ والعِلمِ والقوَّةِ والرَّحمةِ.
وقَوْلُهُ: (وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ): (الْعَلِىُّ) عَلَى وزنِ فعيلٍ، وهِيَ صفةٌ مشبّهةٌ؛ لأنَّ عُلوَّهُ - عزَّ وجلَّ - لازمٌ لذاتِهِ، والفرقُ بَيْنَ الصِّفةِ المشبّهةِ واسمِ الفاعلِ: أنَّ اسمَ الفاعلِ طارئٌ حادثٌ يمكنُ زوالُهُ، والصِّفةُ المشبّهةُ لازمةٌ لاَ ينفكُّ عَنْها الموصوفُ.
وعلوُّ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - قسمانِ: علوُّ ذاتٍ، وعلوُّ صفاتٍ:
فأمَّا علوُّ الذَّاتِ، فإنَّ معناهُ أنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شيءٍ بذاتِهِ، ليسَ فوقَهُ شيءٌ، ولاَ حِذاءَهُ شيءٌ.
وأمَّا علوُّ الصِّفاتِ، فهِيَ مَا دلَّ علَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) ، يعني: أنَّ صفاتِهِ كلَّها عُلْيا، ليسَ فِيها نقصٌ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ.
أمَّا (الْعَظِيمُ)، فهِيَ أيضاً صفةٌ مشبّهةٌ، ومعنَاهَا: ذُو العظمةِ، وهِيَ القوَّةُ والكبرياءُ، ومَا أشبَهَ ذلِكَ ممَا هُوَ معروفٌ مِنْ مدلولِ هذِهِ الكلمةِ.
وهذِهِ الآيةُ تتضمَّنُ مِنْ أسماءِ اللَّهِ خمسةً: وهِيَ: اللَّهُ، الحيُّ، القَيُّومُ، العَلِيُّ، العظيمُ.
وتتضمَّنُ مِنْ صفاتِ اللَّهِ ستًّا وَعِشرينَ صفةً، مِنْهُا خمسُ صفاتٍ تضمَّنَتْها هذِهِ الأسماءُ.
السَّادِسةُ: انفرادُهُ بالألوهِيَّةِ.
السَّابعةُ: انتفاءُ السِّنَةِ والنَّومِ فِي حقِّهِ، لكمالِ حياتِهِ وقيُّوميَّتِهِ.
الثَّامنةُ: عمومُ مُلْكِهِ، لقوْلِهِ: (لَهُ مَا فِى السَّمَاوات وَمَا فِى الأَرْضِ).
التَّاسعةُ: انفرادُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - بالملكِ، ونأخذُهُ مِنْ تقديمِ الخبرِ.
العاشرةُ: قوّةُ السلطانِ وكمالُه، لقولِهِ: (مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ).
الحاديةَ عشْرةَ: إثباتُ العِنديَّةِ، وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّهُ ليسَ فِي كُلِّ مكانٍ، ففِيهِ الردُّ عَلَى الحلوليَّةِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرةَ: إثباتُ الإذنِ مِنْ قَوْلِهِ: (إِلاَّ بِإِذْنِهِ).
الثَّالثةَ عشْرةَ: عمومُ علمِ اللَّهِ - تَعَالَى -، لقولِهِ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
الرَّابعةَ عشْرةَ والخامسةَ عشْرةَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - لاَ يَنْسَى مَا مَضَى، لقولِهِ: (وَمَا خَلْفَهُمْ)، ولاَ يَجهلُ مَا يُستقبلُ، لقولِهِ: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ).
السَّادسةَ عشْرةَ: كمالُ عظمةِ اللَّهِ، لعجزِ الخَلقِ عن الإحاطةِ بِهِ.
السَّابعةَ عشْرةَ: إثباتُ المشيئةِ، لقولِهِ: (إِلاَّ بِمَا شَاءَ).
الثَّامنةَ عشْرةَ: إثباتُ الكرسيِّ، وهُوَ موضعُ القَدَميْنِ.
التَّاسِعةَ عشرةَ والعِشرونَ والحاديةُ والعشرونَ: إثباتُ العظمةِ والقوَّةِ والقُدرةِ، لقولِهِ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ)؛ لأنَّ عظمةَ المخلوقِ تدلُّ عَلَى عَظَمةِ الخالقِ.
الثَّانِيَةُ والثَّالثةُ والرَّابعةُ والعِشرونَ: كمالُ عِلمِهِ ورَحمتِهِ وحِفظِهِ، مِنْ قولِهِ: (وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا).
الخامسةُ والعشرونَ: إثباتُ علوِّ اللَّهِ، لقولِهِ: (وَهُوَ الْعَلِىُّ).
ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - عالٍ بذاتِهِ، وأنَّ علوَّهُ مِنَ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ الأزليَّةِ الأبديَّةِ.
وخالفَ أهلَ السُّنَّةِ فِي ذلِكَ طائفتانِ: طائفةٌ قالوا: إنَّ اللَّهَ بذاتِهِ فِي كُلِّ مكانٍ، وطائفةٌ قالوا: إنَّ اللَّهَ ليسَ فَوْقَ العالَمِ، ولاَ تحتَ العالَمِ، ولاَ فِي العالَمِ، ولاَ يمينٍ، ولاَ شمالٍ، ولاَ منفصلٍ عن العالمِ، ولاَ متَّصلٍ!
والَّذِينَ قالوا بأنَّهُ فِي كُلِّ مكانٍ استدلُّوا بقولِ اللَّهِ - تَعَالَى -: (وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ، وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ) ، واستدلُّوا بقولِهِ - تَعَالَى -: (هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، وعَلَى هَذَا فليسَ عالياً بذاتِهِ، بَلِ العلوُّ عِنْدَهُم علوُّ صفةٍ.
أمَّا الَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ لاَ يُوصَفُ بجهةٍ، فَقَالَوا: لأنَّنا لو وصفْناه بذلِكَ لكَانَ جسماً، والأجسامُ متماثلةٌ، وَهَذَا يستلزمُ التَّمثيلَ، وعَلَى هَذَا فنُنكِرُ أنْ يكونَ فِي أيِّ جهةٍ!
ولكنَّنا نردُّ عَلَى هؤلاءِ وهؤلاءِ من وَجْهَيْنِ:
الوجهُ الأوَّلُ: إبطالُ احتجاجِهِم.
والثَّاني: إثباتُ نقيضِ قولِهِم بالأدلَّةِ القاطعةِ.
1- أمَّا الأوَّلُ: فنقولُ لِمَنْ زعمُوا أنَّ اللَّهَ بذاتِهِ فِي كُلِّ مكانٍ: دعواكُمْ هذِهِ دَعْوَى باطلةٌ، يَردُّها السَّمعُ والعقلُ،
-أمَّا السَّمعُ فإنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أثبتَ لنَفْسِهِ أنَّهُ العليُّ، والآيةُ الَّتِي استدللْتُم بِها لاَ تدلُّ عَلَى ذلِكَ؛ لأنَّ المعيَّةَ لاَ تستلزمُ الحلولَ فِي المكانِ، ألاَ ترى إِلَى قولِ العربِ: القمرُ معنَا، ومحَلُّه فِي السَّماءِ؟ ويقولُ الرَّجُلُ: زَوْجَتِي معي، وَهُوَ فِي المشرقِ وهِيَ فِي المغربِ؟ ويقولُ الضَّابطُ للجنودِ: اذهبوا إِلَى المعركةِ وأنا مَعَكُمْ، وهُوَ فِي غرفةِ القِيادةِ وهُمْ فِي ساحةِ القِتالِ؟ فلاَ يَلزمُ مِن المعيَّةِ أنْ يكونَ الصَّاحبُ فِي مكانِ المصاحَبِ أبداً، والمعيَّةُ يتحدَّدُ معناها بحسبِ مَا تُضافُ إِليه، فنقولُ أحياناً: هَذَا لبنٌ مَعَهُ ماءٌ، وهذِهِ المعيَّةُ اقتضتِ الاختلاطَ، ويقولُ الرَّجلُ: متاعِي مَعِي، وَهُوَ فِي بيتِهِ غيرُ متَّصلٍ بِهِ، ويقولُ: إِذَا حملَ متاعَهُ معه: متاعِي معي، وَهُوَ متَّصلٌ بِهِ. فهذِهِ كلمةٌ واحدةٌ، لكنْ يختلفُ معناهَا بحسَبِ الإضافةِ، فبهَذَا نقولُ: معيَّةُ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - لخلقِهِ تليقُ بجلالِهِ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، كسائرِ صفاتِهِ، فهِيَ معيَّةٌ تامَّةٌ حقيقيَّةٌ، لكنْ هُوَ فِي السَّماءِ.
-وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ عَلَى بُطلانِ قولِهِم فنقولُ: إِذَا قلْتَ: إنَّ اللَّهَ مَعَكَ فِي كُلِّ مكانٍ، فهَذَا يلزمُ عَلَيْهِ لوازمُ باطلةٌ، فيَلزمُ عَلَيْهِ: أَوَّلاً: إمَّا التَّعدُّدُ أو التجزُّؤُ، وَهَذَا لازمٌ باطلٌ بلاَ شكٍّ، وبطلانُ اللاَّزمِ يدلُّ عَلَى بطلانِ الملزومِ.
ثانيا: نقولُ: إِذَا قلْتَ: إنَّهُ معكَ فِي الأمكنةِ لزمَ أنْ يزدادَ بزيادةِ النَّاسِ، ويَنْقُصَ بنقصِ النَّاسِ.
ثالثاً: يلزمُ عَلَى ذلِكَ ألاَ تنـزِّهَهُ عَنِ المواضعِ القذرةِ، فَإِذَا قُلْتَ: إنَّ اللَّهَ مَعَكَ وأنْتَ فِي الخلاءِ فيكونُ هَذَا أعظمَ قَدْحٍ فِي اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
فتبيَّنَ بهَذَا أنَّ قولَهُم منافٍ للسَّمعِ ومنافٍ للعقلِ، وأنَّ القرآنَ لاَ يدلَّ عَلَيْهِ بأيِّ وجهٍ من الدَّلالاتِ، لاَ دلالةَ مطابقةٍ، ولاَ تضمُّنٍ، ولاَ التزامٍ أبداً.
2- أمَّا الآخرونَ فنقولُ لَهُمْ:
أَوَّلاً: إنَّ نفيَكُم للجهةِ يستلزمُ نفيَ الرَّبِّ - عزَّ وجلَّ -، إذْ لاَ نعلمُ شيئًا لاَ يكونُ فَوْقَ العالمِ ولاَ تحتَهُ، ولاَ يمين ولاَ شمال، ولاَ متَّصل ولاَ منفصل، إِلاَّ العدمَ، وَلِهَذَا قَالَ بعضُ العلماءِ: لو قِيلَ: لنا صِفُوا اللَّهَ بالعدَمِ، مَا وجَدْنا أصدقَ وصفاً للعدَمِ مِنْ هَذَا الوصفِ.
ثانياً: قولُكُمْ: إثباتُ الجهةِ يستلزمُ التَّجسيمَ! نَحْنُ نناقشُكُم فِي كلمةِ الجسمِ:
مَا هَذَا الجسمُ الَّذِي تنفِّرونَ النَّاسَ عن إثباتِ صفاتِ اللَّهِ من أجلِهِ؟!
أتريدونَ بالجسمِ الشَّيءَ المكوَّنَ من أشياءَ مفتقرٍ بعضِهَا إِلَى بعضٍ، لاَ يمكنُ أنْ يقومَ إِلاَّ باجتماعِ هذِهِ الأجزاءِ؟! فإنْ أردْتُمْ هَذَا فنَحْنُ لاَ نُقِرُّهُ، ونقولُ: إنَّ اللَّهَ ليسَ بجسمٍ بهَذَا المعنَى، ومَنْ قالَ: إنَّ إثباتَ عُلُوِّهِ يَستلزِمُ هَذَا الجِسمَ، فقولُهُ مجرَّدُ دعوى، ويكفِينَا أنْ نقولَ: لاَ قبولَ، أمَّا إنْ أردْتُم بالجسمِ الذَّاتَ القائمةَ بنَفْسِها المتَّصفةَ بمَا يليقُ بِها فنَحْنُ نثبتُ ذلِكَ، ونقولُ: إنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - ذاتاً، وهُوَ قائمٌ بنَفْسِهِ، متصفٌ بصفاتِ الكمالِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يعلمُ بِهِ كُلُّ إنسانٍ.
وبهَذَا يتبينُ بطلانُ قولِ هؤلاءِ الَّذِينَ أثبتوا أنَّ اللَّهَ بذاتِهِ فِي كُلِّ مكانٍ، أوْ أنَّ اللَّه - تَعَالَى - ليسَ فَوْقَ العالمِ ولاَ تحتَهُ، ولاَ متصلاً ولاَ منفصلاً، ونقولُ: هُوَ عَلَى عرشِهِ استوى - عزَّ وجلَّ -.
أمَّا أدلَّةُ العُلوِّ الَّتِي يُثْبَتُ بِها نقيضُ قولِ هؤلاءِ وهؤلاءِ والَّتِي تُثبِتُ مَا قالَهُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فهِيَ أدلَّةٌ كثيرةٌ لاَ تُحصرُ أفرادُهَا، وأمَّا أنواعُها فهِيَ خمسةٌ: الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، والعقلُ، والفِطرةُ.
-أمَّا الكتابُ، فتنوَّعَتْ أدلَّتُهُ عَلَى عُلوِّ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، مِنْهُا التَّصريحُ بالعُلوِّ والفوقيَّةِ، وصعودِ الأشياءِ إليْهِ، ونُزولِهَا مِنْه، ومَا أشبهَ ذلِكَ.
-أمَّا السُّنَّةُ، فكذلِكَ تنوعَتْ دلالَتُها، واتَّفَقَتِ السُّنَّةُ بأصنافِها الثَّلاثَةِ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ بذاتِهِ، فقدْ ثَبَتَ عُلوُّ اللَّهِ بذاتِهِ فِي السُّنَّةِ مِنْ قولِ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعْلِهِ وإقرارِهِ.
-وأمَّا الإجماعُ، فقدْ أجمعَ المسلمُونَ قَبْلَ ظُهورِ هذِهِ الطَّوائفِ المبتدِعةِ عَلَى أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مستوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ خلقِهِ.
قَالَ شيخُ الإسلامِ: ((ليسَ فِي كلامِ اللَّهِ ولاَ رسولِهِ ولاَ كلامِ الصَّحابَةِ ولاَ التَّابعينَ لَهُم بإحسانٍ مَا يدلُّ - لاَ نصًّا ولاَ ظاهراً - عَلَى أنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ليسَ فَوْقَ العرشِ وليسَ فِي السَّماءِ، بلْ كُلُّ كلامِهِم متَّفِقٌ عَلَى أنَّ اللَّهَ فَوْقَ كُلِّ شيءٍ)).
-وأمَّا العقلُ، فإنَّنا نقولُ: كلٌ يعلمُ أنَّ العُلوَّ صفةُ كمالٍ، وإِذَا كَانَ صفةَ كمالٍ فإِنَّهُ يجبُ أنْ يكونَ ثابتاً لِلَّهِ؛ لأنَّ اللَّهَ متصفٌ بصفاتِ الكمالِ، ولذلِكَ نقولُ: إمَّا أنْ يكونَ اللَّهُ فِي أعَلَى أوْ فِي أسفلَ أوْ فِي المحاذِي، فالأسفلُ والمُحاذِي ممتنِعٌ؛ لأنَّ الأسفلَ نقصٌ فِي معناهُ، والمُحاذِي نقصٌ لمشابَهةِ المخلوقِ ومماثلتِهِ، فلَمْ يبقَ إِلاَّ العُلوُّ، وَهَذَا وجْهٌ آخرُ فِي الدَّليلِ العقليِّ.
-وأمَّا الفِطْرةُ فإنَّنا نقولُ: مَا مِنْ إنسانٍ يقولُ: يا ربِّ! إِلاَّ وجدَ فِي قلبِهِ ضرورةً بطلبِ العُلوِّ.
فتطابَقَت الأدلَّةُ الخمسةُ.
وأمَّا عُلوُّ الصِّفاتِ فهُوَ محلُ إجماعٍ مِنْ كلِّ مَن يَدِينُ أوْ يَتسمَّى بالإسلامِ.
السَّادسةُ والعشرونَ: إثباتُ العظمةِ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ -، لقولِهِ: (الْعَظِيمُ).

(2) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حديثٍ رواهُ البخاريُّ عَنْ أبي هريرةَ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - فِي قصَّةِ استحفاظِ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياهُ عَلَى الصَّدَقةِ، وأَخْذِ الشيطانُ مِنْها، وقولِهِ لأبي هريرةَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيةَ الكُرْسِيِّ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فأخبرَ أبو هريرةَ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلِكَ، فَقَالَ: ((إِنَّهُ صدَقَكَ، وهُوَ كذوبٌ)) ).

هيئة الإشراف

#6

3 Dec 2008

الروضة الندية للشيخ: زيد بن عبد العزيز بن فياض رحمه الله


قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): (ومَاَ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ ، حَيْثُ يَقُولُ :{اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤودُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} ولهذا كان مَنْ قَرَأَ هذه الآيةَ في ليلةٍ لم يَزَلْ عليه مِن اللَّهِ حافِظٌ ولا يَقْرَبُه شيطانٌ حَتَّى يُصبِحَ .
رَوى مسلمٌ في "صحيحِه"، عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألَه : " أيُّ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ أَعْظمُ ؟ " قَالَ : اللَّهُ ورسولُه أَعْلمُ . فردَّدَها مِراراً ، ثم قَالَ أُبَيٌّ : آيةُ الكُرسيِّ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ ". ورواه أحمدُ وغيرُه، وفيه " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ : إِنَّ لَهَا لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ ". ((وقد صَحَّ الحديثُ عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها أَعظمُ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ )، وعن أسماءَ بنتِ يزيدَ ، قالتْ : سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ في هاتَيْنِ الآيتَيْنِ :{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إنَّ فيهما اسْمَ اللَّهِ الأَعْظمَ . رواه أحمدُ وأبو داودَ . والحيُّ القيُّومُ . اسمانِ مِن أسماءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، والحياةُ والقَيُّومِيَّةُ صفتانِ مِن صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لا يُماثِلُه فيهما حياةُ أحدٍ وقَيُّومِيَّتُه ، وكان عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقرَؤُها ((القَيَّامُ))، قَالَ ابنُ الأثيرِ في النهايةِ : في حديثِ الدُّعَاءِ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . وفي روايةٍ ((قَيِّمُ)) وفي أُخرى ((قَيُّومُ)) وهي مِن أبْنِيَةِ المُبالَغةِ ، وهي مِن صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . ومعناها : القائمُ بأمورِ الخَلْقِ ، ومُدَبِّرُ العالَمِ في جميعِ أحوالِه . وأصلُها مِن الواوِ "قَيْوِام" و "قَيْوَم" و "قَيْوُوم" بوزن فَيْعال وفَيْعِل وفَيْعُول اهـ.
والقَيُّوم أبلَغُ مِن القَيَّامِ ؛ لأنَّ الواوَ أقْوى مِن الألِفِ ، ويُفيدُ قيامَه بنَفْسِه باتِّفاقِ المفسِّرينَ وأهلِ اللُّغَةِ ، وهو معلومٌ بالضَّرُورَةِ ، وهل تُفيدُ إقامَتَه لغيرِه وقيامَهُ عليه ؟ فيه قَوْلانِ ؛ أصحُّهما : أنه يُفيدُ ذلك ، وهي تُفيدُ دوامَ قِيامِه وكُلَّ قيامِه ؛ لِما فيه مِن المُبَالَغةِ . فهو سُبْحَانَهُ لا يَزُولُ ؛ ولا يأْفُلُ ، فإنَّ الآفِلَ قد زالَ قطعاً ؛ أيْ : لا يَغيبُ ، ولا ينقُصُ ، ولا يَفنَى ؛ ولا يُعدَمُ ، بل هو الدَّائمُ البَاقِي ، الَّذِي لم يَزَلْ ولا يَزَالُ موصوفاً بصِفاتِ الكمالِ ، واقتِرانُه بالحيِّ يستلْزِمُ سائرَ صِفَاتِ الكمالِ ؛ ويدلُّ على بَقائِها ودَوامِها ، وانتِفاءِ النَّقْصِ والعَدَمِ عنها ، أزلاً وأبداً ، ولهذا كان قولُه :{ اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } أعظمَ آيةٍ في القرآنِ . كما ثَبَتَ ذلك في الصَّحيحِ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فعلَى هذيْنِ الاسمَيْنِ مَدارُ الأسماءِ الحُسنى كلِّها ، وإليها مَرِجعُ معانيها ، فإنَّ الحياةَ مُسْتلزِمَةٌ لجَميعِ صِفَاتِ الكمالِ ، ولا يتخلَّفُ عنها صِفَةٌ منها إلا لضَعْفِ الحياةِ ، فإذا كانتْ حياتُه تَعَالَى أكْمَلَ حياةٍ ، وأتَمَّهَا استلزَم إثباتُها إثباتَ كُلِّ كمالٍ يُضادُّ نفيُه كمالَ الحياةِ . وأمَّا "القَيُّومُ" فهو متضمِّنٌ كمالَ غِناهُ وكَمالَ قُدْرتِه ، فإنه القائمُ بنفْسِه فلا يَحتاجُ إلى مَن يُقِيمُه بوجهٍ مِن الوجوهِ ، وهذا مِن كمالِ غِناهُ بنفْسِه عما سِواهُ ، وهو المُقيمُ لغيرِه ، فلا قِيامَ لغيرِه إلا بإقامَتِه ، وهذا مِن كمالِ قُدْرتِه وعِزَّتِه . فانْتَظَم هذانِ الاسْمانِ صِفَاتِ الكمالِ ، والغِنَى التَّامِّ ، والقُدرةِ التَّامَّةِ ، فكأنَّ المُسْتغِيثَ بهما مُسْتَغيثٌ بكُلِّ اسمٍ مِن أسماءِ الرَّبِّ تَعَالَى ، وبكُلِّ صفةٍ مِن صِفَاتِه ، فما أوْلى الاستغاثةِ بهذيْنِ الاسمَيْنِ أنْ يكونا في مَظِنَّةِ تَفْريجِ الكُرُباتِ ، وإغاثةِ اللَّهَفاتِ ، وإنالةِ الطَّلَباتِ )) .
فإنَّ صفةَ الحياةِ متضمِّنَةٌ لجميعِ صِفَاتِ الكمالِ مستلزِمةٌ لها ، وصفةُ القيُّومِيَّةِ متضمِّنةٌ لجميعِ صِفَاتِ الأفعالِ ، ولهذا كان اسمُ اللَّهِ الأعظمُ الَّذِي إذا دُعِيَ به أجابَ : وإذا سُئلَ به أَعْطَى هو اسمُ الحيِّ القَيُّومِ ، والحياةُ التَّامَّةُ تُضادُّ جميعَ الأسقامِ والآلامِ .
ولهذا لمَّا كمُلَتْ حياةُ أهلِ الجَنَّةِ لم يلْحَقْهُم هَمٌّ ، ولا غَمٌّ ، ولا حَزَنٌ ، ولا شيءٌ مِن الآفاتِ ، ونُقصانُ الحياةِ يضُرُّ بالأفعالِ ، ويُنافِي القيُّومِيَّةَ ، فكَمالُ القيُّومِيَّةِ لكَمالِ الحياةِ ، فالحيُّ المُطْلَقُ التَّامُّ لا يَفُوتُه صفةُ كمالٍ البتَّةَ ، والقيُّومُ لا يَتَعَذَّرُ عليه فِعْلُ مُمْكنٍ البتَّةَ . . والمقصودُ أنَّ لاسْمِ الحيِّ القيومِ تأثيراً خاصًّا في إجابةِ الدعواتِ وكشْفِ الكُرُباتِ . وفي "السُّنَنِ" و"صحيحِ" أبي حاتم وابنِ حِبَّانَ مرفوعاً : "اسمُ اللَّهِ الأعظمُ في هاتيْنِ الآيتيْنِ {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وفاتِحةِ آلِ عِمْرانَ :{ آلم * اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }" قَالَ التِّرْمِذيُّ : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ . وفي "السُّنَنِ" و"صحيحِ" ابنِ حِبَّانَ أيضاً مِن حديثِ أَنَسٍ : أنَّ رجُلاً دعا فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ بأنَّ لكَ الحمدَ لا إلهَ إلا أنتَ المَنَّانُ بديعُ السَّمَوَاتِ والأرضِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ يا حيُّ يا قَيُّومُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"لقد دعا اللَّهَ باسمِه الأعظمِ الَّذِي إذا دُعِيَ به أجابَ ؛ وإذا سُئِلَ به أعْطى". ولهذا كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اجتهَدَ في الدُّعَاءِ قَالَ : ( يا حيُّ يا قَيُّومُ ) .
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السِّنَةُ : الوَسَنُ والنُّعاسُ ، ولهذا قَالَ : ولا نَوْمٌ ، لأنه أقْوى مِن السِّنَةِ . وفي الصَّحيحِ عن أبي مُوسَى قَالَ : قام فِينا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربعِ كلماتٍ ، فَقَالَ :"إنَّ اللَّهَ لا ينامُ ، ولا ينبغي أنْ ينامَ ، يَخفِضُ القِسطَ ويرفَعُه ، يُرفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيلِ قبلَ النَّهَارِ ، وعمَلُ النَّهَارِ قبلَ اللَّيلِ ، حِجابُه النورُ ، لو كشَفَه لأحرَقَتْ سُبُحاتُ وجههِ ما انتهَى إليه بصَرُه مِن خَلْقِه". ونفْيُ أخْذِ السِّنَةِ والنَّومِ مستلْزِمٌ لكمالِ حياتِه وقيُّومِيَّتِه ، فإنَّ النَّوْمَ يُنافي القيُّوميَّةَ ، والنَّوْمُ أخو الموتِ . ولهذا كانَ أهلُ الجَنَّةِ لا يَنامونَ .
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}. فنفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِه مستلْزِمٌ لكَمالِ مُلْكِه إذْ كُلُّ مَن شَفَعَ إليه شافِعٌ بدُونِ إذْنِه فقَبِلَ شفاعَتَه كان مُنْفَعِلاً عن ذلك الشَّافِعِ . فقد أثَّرَتْ شفاعتُه فيه ، فصيَّرَتْهُ فاعِلاً بعد أنْ لم يكُنْ ، وكان ذلك الشَّافِعُ شريكاً للمشفوعِ إليه في ذلك الأمرِ المطلوبِ بالشَّفَاعَةِ . إذ كانت بدُونِ إذْنِه لا سِيَّما والمخلوقُ إذا شُفِعَ إليه بغيرِ إذْنِه فقَبِلَ الشَّفَاعَةَ فإنما يَقْبَلُها لرغْبةٍ أو لرهْبةٍ ، إمَّا مِن الشَّافعِ ، أو مِنْ غيرِه ، وإلاَّ فلو كانت داعيَتُه مِن تلقاءِ نفْسِه تامَّةً مَعَ القُدرةِ لم يَحْتَجْ إلى شفاعةٍ . واللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عن ذلك كلِّه ، كما قَالَ في الحديثِ الإلهيِّ :"يا عبادِي ، إنكم لن تَبْلُغوا ضُرِّي فتَضُرُّوني، ولن تَبْلُغوا نفْعي فتنفَعوني" . ولهذا كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرُ أصحابَه بالشَّفَاعَةِ إليه ، فكان إذا أتاه طالِبُ حاجةٍ يقولُ : اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ، ويقضِي اللَّهُ على لسانِ نبِيِّه بما شاءَ . أخْرَجاه في الصَّحيحَيْنِ .
وقوْلُه : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} فيه إحاطةُ عِلمِ اللَّهِ وشُمولُه وإحاطتُه بالماضي والحاضرِ والمستقبَلِ .
وَبَيَّنَ أنَّ العِبادَ لا يَعْلَمون مِن عِلمِه إلا ما عَلَّمَهُم إيَّاه ، كما قالتِ الملائكةُ :{لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}. وكانَ في هذا النَّفْيِ إثباتُ أنَّ العِبادَ لا يَعْلَمونَ إلا ما علَّمَهُم إيَّاه . فأثبَتَ أنه الَّذِي علَّمَهم ، لا يَنالون العِلمَ إلا منه ، فإنه الَّذِي {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} و {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
فالمعنَى : أنه لا يَطَّلِعُ أَحدٌ مِن عِلمِ اللَّهِ على شيءٍ إلا بما أعْلَمَه اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وأطْلَعَه عليه ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المرادُ : لا يطَّلِعُون على شيءٍ مِن عِلمِ ذاتِه وصفاتِه إلا بما أطْلَعَهمُ اللَّهُ عليه كقوله :{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}،{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}. الكُرْسِيُّ موضِعُ قدَمَيِ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلالُه ، والعَرْشُ لا يَقْدُرُ قَدْرَه إلا اللَّهُ . هذا هو المعروفُ عن السَّلَفِ ، قَالَ الدَّارِمِيُّ : هذا الَّذِي عرَفْناه عن ابنِ عباسٍ صحيحاً مشهوراً ، وأَنْكَرَ هو وغيرُه قولَ مَن قَالَ : كُرْسِيُّه عِلمُه .
وقولُه :{وَلاَ يُؤدُهُ حِفْظُهُمَا} لِكَمالِ قُدْرَتِه وتَمامِها ، بخلافِ المخلوقِ القادرِ إذا كان يَقْدِرُ على الشَّيْءِ بنوعِ كُلْفةٍ ومشَقَّةٍ . فإنَّ هذا نقصٌ في قُدْرَتِه ، وعيبٌ في قُوَّتِه .
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} قَرَنَ اللَّهُ بين هذيْنِ الاسمَيْنِ الدَّالَّيْنِ على عُلُـوِّه وعَظَمَتِه في آخِرِ آيةِ الكُرْسِيِّ ، وفي سُورَةِ الشُّورَى ، وفي سُورَةِ الرعْدِ ، وفي سُورَةِ سبأٍ في قولِه :{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ففي آيةِ الكرسيِّ ذَكَرَ الحياةَ الَّتِي هي أصلُ جميعِ الصِّفَاتِ ، وذَكَرَ معها قيُّوميَّتَه المقتضيةَ لِدَوامِهِ وبَقائِه ، وانتفاءِ الآفاتِ جميعِها عنه مِن النَّوْمِ والسِّنَةِ والعَجْزِ وغيرِها ، ثم ذكَرَ كَمالَ مُلْكِه ، ثم عقَّبَه بذِكْرِ وَحدانيَّتِه في مُلْكِه وأنه لا يَشْفعُ عنده أَحدٌ إلا بإذْنِه ، ثم ذَكَرَ سَعَةَ كرسِيِّه مُنَبِّهاً به على سَعَتِه سُبْحَانَهُ وعظَمَتِه وعُلُوِّهِ . وذلك تَوْطِئةٌ بين يَدَيْ عُلُّوِه وعظَمَتِه ، ثم أخبَرَ عن كمَالِ اقتدارِه وحِفْظِه للعالَمِ العُلْويِّ والسُّفْلِيِّ من غيرِ اكتِراثٍ ولا مشقَّةٍ ولا تعَبٍ ؛ ثم ختَمَ الآيةَ بهذيْنِ الاسمَيْنِ الجليلَيْنِ الدَّالَّيْن على ذاتِه وعظمَتِه في نفْسِه . فقد تضمَّنَتْ إثباتَ صِفَاتِ الكمالِ ونفْيَ النقصِ عن اللَّهِ تقدَّسَ وتنزَّهَ عن كُلِّ عيبٍ ونقصٍ .
وورَدَ في فَضْـلِها أحـاديثُ : منهـا مـا رواه البُخـاريُّ في "صحيحِـه" عن أبي هُـرَيْرَةَ ، قَـالَ : وَكَّلَـنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحِفظِ زكاةِ رمضانَ ، فأتاني آتٍ فجعَلَ يحْثُو مِن الطَّعامِ فأخذْتُه وقلتُ لأرفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : دعْنِي فإنِّي مُحتاجٌ وعلَيَّ عيالٌ ولي حاجةٌ شديدةٌ .
قال : فخلَّيْتُ عنه فأصبحتُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ ؟ " قَالَ : قلتُ : يا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حاجةً شديدةً وعِيالاً ، فرَحِمْتُه فخلَّيْتُ سبيلَه ، قَالَ :" أَمَا إِنَّهُ قَدْ كذَبَكَ وَسَيَعُودُ ". فرصَدْتُه، فَجَاءَ يحثُو مِن الطَّعامِ فعَلَ ذلك ثلاثَ ليالٍ ، كُلُّ ذلك والرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ :" أَمَا إِنَّهُ قَدْ كذَبَكَ وَسَيَعُودُ "، فلمَّا كان في الثَّالثةِ قلتُ : لأرْفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهذا آخِرُ ثلاثِ مَرَّاتٍ تزعُمُ أنكَ لا تعودُ ثم تعودُ فَقَالَ : دَعْني أُعَلِّمْكَ كلماتٍ ينفَعُك اللَّهُ بها ؟ فقلتُ : وما هِي ؟ قال : إذا أَوَيْتَ إلى فِراشِكَ فاقرأْ آيةَ الكُرسيِّ :{ اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حَتَّى ختَمَ الآيةَ . فإنه لنْ يزالَ عليكَ مِن اللَّهِ حافِظٌ ، ولا يقرَبُكَ شيطانٌ حَتَّى تُصبِحَ . وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَا إِنَّهُ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ " قلتُ : لا. قَالَ : " ذَاكَ شَيطَانٌ ". وتَقدَّمَ أنها أفضلُ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ . كمَا أنَّ سُورَةَ الفاتحةِ أَفْضَلُ سُوَرِ القرآنِ . والَّذِي قد صَحَّ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فَضَّلَ مِن السورِ سُورَةَ الفاتحةِ ))، وقَالَ : إنه لم يَنْزِلْ في التَّوراةِ ، ولا في الإنجيلِ ، ولا في القرآنِ مِثْلُها . والأحكامُ الشَّرْعِيَّةُ تدلُّ على ذلك . وفَضَّلَ مِن الآياتِ آيةَ الكُرسيِّ، ولَيْسَ في القرآنِ آيةٌ واحدةٌ تضمَّنَتْ ما تضمَّنَتْه آيةُ الكُرْسيِّ ، وإنما ذَكَرَ اللَّهُ في أوَّلِ سُورَةِ الحديدِ وآخِرِ سُورَةِ الحشرِ عِدَّةَ آياتٍ لا آيةً واحدةً).

هيئة الإشراف

#7

3 Dec 2008

التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله

المتن:

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (ومَاَ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ في كِتَابِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: ( اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤودُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيْمُ ).(1)
ولهذا كانَ مَن قرَأَ هذه الآيةَ في ليلةٍ لم يزلْ عليه حافظٌ، ولم يقربْهُ شيطانُ حتّى يصبحَ.(2)
).

الشرح:

قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ((1) قولُه: (وما وصفَ به نفسَه في أعظمِ آيةٍ في كتابِ اللهِ ): وهي آيةُ الكرسيِّ، وذلك لما اشتملَتْ عليه من العلومِ والمعارفِ، كما في الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لأُبيِّ بنِ كعبٍ: ((يَا أَبَا المُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟)) فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَرَدَّدها مِرارًا ثُمَّ قالَ أُبَيٌّ: هِيَ آيَةُ الكُرْسِيِّ (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ) فقالَ((: لِيَهْنَكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ)).
قولُه: (آيَةٍ): هي لُغةً: العلامةُ، واصطلاحًا: طائِفَةٌ من كلماتِ القرآنِ متميِّزةٌ بفصلٍ. سُمِّيَت هذه الآيةُ آيةَ الكرسيِّ لذكرِ الكرسيِّ فيها، وفيه دليلٌ على فضلِ هذه الآيةِ، وأنَّها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ اللهِ، وفيه دليلٌ - كما تقدَّم - على فضلِ علمِ التَّوحيدِ. وأنَّ القرآنَ يتفاضلُ بل آياتُ الصِّفاتِ تتفاضلُ.
قولُه: (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ) أي لا معبودَ بحقٍّ إلا هُوَ، قولُه: (الحَيُّ) أي الدَّائمُ الباقي الَّذي لا سبيلَ للفناءِ عليه، قولُه: (القَيُّومُ) أي القائمُ بنفسِهِ، المُقيمُ لِما سواهُ، فهذان الاسمانِ عليهما مدارُ الأسماءِ الحُسنى، وإليهما ترجعُ معانيها جميعًا، فإنَّ الحياةَ مستلزمةٌ لصفاتِ الكمالِ، والقيُّومُ متضمِّنٌ لكمالِ غِناه وكمالِ قدرتِهِ، فإنَّه القائمُ بنفسِهِ لا يحتاجُ إلى مَنْ يُقيمُه بوجهٍ من الوجوهِ، وهذا من كمالِ غِناه بنفسِه عمَّا سواهُ، وهو المقيمُ لغيرهِ، فلا قيامَ لغيرهِ إلا بإقامتِهِ، وهذا من كمالِ قدرتهِ وعزَّتِهِ. انتهى مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ بتصرُّفٍ.
قولُه: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ): السِّنَةُ: النُّعاسُ، وهو النَّومُ الخفيفُ، والنَّومُ ثِقَلٌ في الرَّأسِ، والسِّنَةُ في العينِ، والنَّومُ في القلبِ، وهو تأكيدٌ للقيُّومِ، أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- لا يَعتَرِيهِ نقصٌ ولا غفلةٌ ولا ذهولٌ ولا يغيبُ عنه شيءٌ ولا تَخْفى عليهِ خافيةٌ، كما في الصَّحيحِ من حديثِ أبي موسى قَال: قامَ فينا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بِأَرْبَعِ كلماتٍ، فقال: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حجابُه النَّارُ – أَو النُّورُ- لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مُلْكًا وَخَلقًا وَعَبِيدًا)).
قولُه: (مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ) أي ليسَ لأحدٍ أنْ يشفعَ عندَه لعظمتِه وكبريائِه إلا بإذنهِ: أي بأمرِهِ, قولُه: (وَلاَ يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) أي لا يُحيطُ الخلقُ بشيءٍ من علمهِ إلا بما شاءَ أنْ يعلِّمَهُم إيَّاهُ، ويطلعَهُمْ عليهِ، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- عن الملائكةِ: (سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا).
قولُه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ): أي ملأ وأحاطَ، والكرسيُّ مخلوقٌ عظيمٌ، وهو مَوضِعُ القدمَينِ لله ِسُبْحَانَهُ وتعالى، كما يُروى عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرهِ، وقد قيلَ: إنَّهُ العرشُ، والصَّحيحُ أنَّه غيرُهُ، كما رَوى ابنُ أبي شيبةَ والحاكمُ وقال إنَّه على شرطِ الشَّيخينِ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ): أنَّه قالَ: الكُرسيُّ موضعُ القدمينِ، والعرشُ لا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلا اللهُ، وقد رُويَ مرفوعًا، والصَّوابُ أنَّه موقوفٌ على ابنِ عبَّاسٍ، وذكر ابنُ جريرٍ عن أبي ذرٍّ: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ)) وأمَّا مَا زعمَهُ بعضُهُم أنَّ معنى (كُرْسِيُّهُ) عِلْمُهُ، ونَسبَهُ إلى ابنِ عبَّاسٍ فليسَ بصحيحٍ، بل هو مِن كلامِ أهلِ البدعِ المذمومِ، وإنَّما هو كما قالَ غَيرُ واحدٍ من السَّلفِ: الكرسيُّ بين العرشِ كالمرقاةِ إليه.
قوْلُه: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يُكرثُه ولا يُثقِلُه ولا يُعجزهُ حفظُهما، أي حفظُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينهما، بل ذلك عليه سهلٌ يسيرٌ، وهذا النَّفيُ في قولِه: (ولا يؤودُه حفظهُما) لثبوتِ كمالِ ضدِّهِ، وكذلك كلُّ نفيٍ يأتي في صفاتِ اللهِ، وقد تقدَّمَت الإشارةُ إلى ذلك.
قولُه: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ): (ال) في قولِه: (وَهُوَ الْعَلِيُّ) للشُّمولِ والاستغراقِ، فله -سُبْحَانَهُ- العُلوُّ الكاملُ من جميعِ الوجوهِ: عُلوُّ القدرِ، وعلوُّ القهرِ، وعلوُّ الذَّاتِ، كما تواترتْ بذلك الأدلَّةُ، وطابقَ على ذلك دليلُ العقلِ، فدليلُ العلوِّ عقليٌّ ونقليٌّ، وهو من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ كصفةِ الفوقيَّةِ، فوصفُهُ -سُبْحَانَهُ- بالعلوِّ يجمعُ معانيَ العلوِّ جميعَها: علوِّ القهرِ، أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- علا كلَّ شيءٍ، بمعنى: أَنَّه قاهرٌ له قادرٌ عليه مُتصرِّفٌ فيه، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَـهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وعلوِّ القدرِ، أي أنَّه عالٍ عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، فهو عالٍ عن ذلك مُنَزَّهٌ عنه، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ) الآيةَ، وفي دعاءِ الاستفتاحِ ((وَتَعَالى جَدُّكَ)). وعلوِّ الذَّاتِ، أي أنَّهُ -سُبْحَانَهُ- عالٍ على الجميعِ فوقَ عرشِه، فتبيَّنَ أنَّ أنواعَ العلوِّ ثلاثةٌ، وأنَّ اسمَه العليُّ يتضمَّنُ اتِّصافَه بجميعِ صفاتِ الكمالِ والتَّنـزيهِ له -سُبْحَانَهُ- عمَّا ينافيها من صفاتِ النَّقصِ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
قولُه: (الْعَظِيمُ) أي الَّذي لا أعظَم منه ولا أجلَّ، لا في ذاتِه ولا في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، فهذه الآيةُ اشتملتْ على فوائدَ عظيمةٍ.
الأولى: إثباتُ ألوهيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- وانفرادُه بذلك، وبطلانُ ألوهيَّةِ كلِّ مَن سواه.
الثَّانيةِ: إثباتُ صفةِ الحياةِ له -سُبْحَانَهُ- وتعالى، الحياةِِ التَّامَّةِِ الدَّائمةِ الَّتي لا يلحقُها فناءٌ ولا اضمحلالٌ، فهي صفةٌ ذاتيَّةٌ تواطأَ على إثباتِها النَّقلُ والعقلُ.
الثَّالثةِ: إثباتُ صفةِ القيُّومِ، أي قيامِهِ بنفسِهِ وقيامِهِ بتدبيِرِ أمورِ خلقِه، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) وهذان الاسمانِ أعني الحيَّ والقيُّومَ – ذُكِرا معًا في ثلاثةِ مواضعَ من القرآنِ، وهما من أعظمِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه، ووردَ أنَّهما الاسمُ الأعظمُ، فإنَّهما مُتَضَمِّنان لصفاتِ الكمالِ أعظمَ تضمُّنٍ، فالصِّفاتُ الذَّاتيَّةُ كلُّها ترجعُ إلى اسمِ الحيِّ، والصِّفاتُ الفعليَّةُ ترجعُ إلى اسمِ القيُّومِ، ويَدُلُّ القيُّومُ على معنى الأزليَّةِ والأبديَّةِ، وعلى قيامِهِ بذاتِهِ وعلى قيامِ كلِّ شيءٍ به، وعلى أنَّه موجودٌ بنفسِه، وهذا معنى كونِه واجبَ الوجودِ.
الرَّابعةِ: تنـزيهُهُ -سُبْحَانَهُ- عن صفاتِ النَّقصِ، كالسِّنَةِ والنَّومِ والعجزِ والفقرِ ونحوِ ذلك، وهو تأكيدٌ للقيُّومِ؛ لأنَّ مَن جازَ عليه السِّنَةُ والنَّومُ استحَالَ أنْ يكونَ قيُّومًا.
الخامسةِ: سَعةُ ملكِهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى-، له ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلكًا وعبيدًا تحت قهرِه وسلطانِه.
السَّادسةِ: فيه دليلٌ على عظمتِه وسلطانِه، وأنَّ أحدًا لا يشفعُ عندَهُ إلا بعدَ إذنِهِ -سُبْحَانَهُ- ورضاه عن المشفوعِ له.
السَّابعةِ: فيه إثباتُ الشَّفاعةِ بقيودِها، وهو إذنُ اللهِ للشَّافعِ أنْ يشفعَ ورِضاهُ عن المشفوعِ له.
الثَّامنةِ: فيه الرَّدُّ على المشركين الَّذين يزعمونَ أنَّ أصنامَهم تشفعُ لهم، فظهرَ أنَّ الشَّفاعةَ تنقسمُ إلى قِسمين: شفاعةٌ منفيَّةٌ وشفاعةٌ مُثبتةٌ.
التَّاسعةِ: فيه إثباتُ صفةِ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وأنَّه يتكلَّمُ متى شاءَ، إذا شاءَ، وأنَّه يتكلَّمُ -سُبْحَانَهُ- بحرفٍ وصوتٍ يليقانِ بجلالِه وعظمتِه، وأنَّ كلامَهُ -سُبْحَانَهُ- يُسمَعُ لقولِه (إِلاَّ بإِذْنِهِ).
العاشرِ: فيها إثباتُ صفةِ العلمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وإحاطتِه بكلِّ معلومٍ، وأَنَّه يعلمُ ما كانَ وما يكونُ وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ يكونُ.
الحاديَ عشرَ: في ذكرِ إحاطةِ علمهِ -سُبْحَانَهُ- بالماضي والمستقبلِ إشارةٌ إلى أنَّه لا يَنسى، ولا يغفلُ، ولا يحدثُ له علمٌ، ولا يتجدَّدُ.
الثَّانيَ عشرَ: فيه الرَّدُّ على القدريَّةِ والرَّافضةِ ونحوِهم الَّذين يزعمون أنَّ اللهَ لا يعلمُ الأشياءَ إلا بعدَ وقوعِها، والرَّدُّ على من زعمَ أنَّ الله لا يعلمُ إلا الكلِّيَّاتِ، تعالى اللهُ عن قولهِم.
الثَّالثَ عشرَ: فيها اختصاصُه بالتَّعليمِ، وأنَّ الخلقَ لا يعلمونَ إلا ما علَّمَهم، كما قالتِ الملائكةُ: ( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا).
الرَّابعَ عشرَ: فيه إثباتُ عظمتِهِ -سُبْحَانَهُ- بعظمةِ مخلوقاتِه، فإذا كان عَظَمَةُ كرسيِّهِ هذه العظمةَ الَّتي جاءَتْ بها الأدلَّةُ، فمِن بابٍ أولى أَنْ يكونَ الخلقُ أعظمَ وأجلَّ.
الخامسَ عشرَ: فيها إثباتُ الكرسيِّ وعظمتِه، وأنَّه مخلوقٌ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- والرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كرسيَّهُ علمُه.
السَّادسَ عشرَ: فيه إثباتُ صفةِ المشيئةِ للهِ سُبْحَانَهُ.
السَّابعَ عشرَ والثَّامنَ عشرَ والتَّاسعَ عشرَ: فيه إثباتُ عظمتِهِ واقتدارِهِ، وفيه إثباتُ السَّماواتِ وتعدُّدِها، وإثباتُ عُلوِّهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وإثباتُ عظمتِهِ -سُبْحَانَهُ- ذاتًا وصفاتٍ وأفعالاً.
قال ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: قَرَنَ بين هذينِ الاسمين الدَّالَّينِ على عُلوِّهِ وعَظمتهِ -سُبْحَانَهُ- في آخرِ آيةِ الكرسيِّ، وفي سورةِ الشُّورى، وفي سورةِ الرَّعدِ، وسورةِ سبأٍ.
ففي آيةِ الكرسيِّ ذكرَ الحياةَ الَّتي هي أصلُ جميعِ الصِّفاتِ، وذكرَ معها قيُّوميَّتَه المقتضيةَ لدوامهِ وبقائهِ، وانتفاءِ الآفاتِ جميعِها عنه من السِّنَة والنَّومِ والعجزِ وغيرِها، ثمَّ ذكرَ كمالَ مُلكِهِ ثمَّ عقَّبهُ بذكرِ وحدانيَّتِه في مُلكِه، وأنَّهُ لا يشفعُ عندَهُ أحدٌ إلا بإذنِهِ، ثمَّ ذكرَ سعَةَ علمهِ وإحاطتِهُ، ثمَّ عقَّبهُ بأنَّهُ لا سبيلَ للخلقِ إلى علمِ شيءٍ من الأشياءِ إلا بعدَ مشيئتِهِ لهم أنْ يعلموه، ثمَّ ذكرَ سَعَةَ كرسيِّهِ منبِّهًا على سَعتِه -سُبْحَانَهُ- وعظمتِه وعلوِّهِ، وذلك تَوْطِئَةً بين يدي علوِّه وعظمتِهِ، ثمَّ أخبَرَ عن كمالِ اقتدارِه وحفظِه للعالمِ العلويِّ والسُّفليِّ من غيرِ اكتراثٍ ولا مشقَّةٍ ولا تعبٍ، ثمَّ ختمَ الآيةَ بهذين الاسمينِ الجليلينِ الدَّالَّينِ على علوِّ ذاتِه وعظمتِه. انتهى من الصَّواعقِ.

(2) قولُه: (ولهذا كانَ من قرأَ هذه الآيةَ في ليلةٍ لمَ يَزَلْ عليه من اللهِ حافظٌ، ولم يقربْه شيطانٌ ).
هذا الحديثُ في صحيحِ البخاريِّ، عن أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قال: وكَّلَنِي رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بحفظِ زَكاةِ رَمضانَ، فأتانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو من الطَّعامِ فَأَخذْتُهُ، وقلتُ: لأَرْفَعنَّكَ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-. قال: دَعْني فإنَّي مُحتاجٌ، وعَليَّ عيالٌ، لا أعودُ فَرَحِمْتُه وَخَلَّيْتُ سبيلَهُ، فأصبحتُ فقال لي رسولُ الله: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ )) قُلتُ: يا رسولَ اللهِ شَكَا حاجةً وعِيالاً فَرَحِمتهُ وخَلَّيْتُ سَبيلَه، قال: ((أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ)) فَعَرفْتُ أَنَّهُ سَيعُودُ، لقولِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: إِنَّه سيعودُ، فَرَصَدْتُهُ فجاءَ يحثُو مِن الطَّعامِ فَأَخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: دَعْنِي فإنِّي مُحتاجٌ وعليَّ عِيالٌ، لا أعودُ، فَرحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فقالَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟)) فقلتُ: يا رسولَ اللهِ شَكَا عِيالاً وحاجةً فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سبيلَه، قال: ((أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ)) فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثةَ فجاءَ يحثُو من الطَّعامِ فَأَخَذْتُهُ فَقلتُ: لأَرفَعَنَّكَ إلى رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وهذه آخِرُ ثلاثِ مرَّاتٍ تَزعُمُ فيها أَنَّكَ لا تعودُ ثمَّ تعودُ، فقال: دَعْني أُعَلِّمْكَ كلماتٍ يَنْفَعْكَ اللهُ بِها، قُلتُ: وَما هِي؟ فقالَ: إِذا أَوَيْتَ إِلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: (اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتَّى تختمَ الآيةَ فإنَّكَ لن يَزالَ عَليكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حتَّى تُصبحَ، وكانوا أَحْرَصَ شَيءٍ على الخَيْرِ، فَقَالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَمَا إنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ؟)) قلتُ: لا. قالَ: ((ذَاكَ الشَّيْطانُ)) كذا رواهُ البخاريُّ معلَّقًا بصيغةِ الجزمِ، وقد رواه النَّسَائيُّ في اليومِ والليلةِ عن إبراهيمَ بنِ يعقوبَ عن عثمانَ بنِ الهيثمِ فذكره، وقد رُوِيَ عن أبي هريرةَ بسياقٍ آخرَ قَريبٍ من هذا.
قولُه: (لَم يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حَافِظٌ): أي يحفظُهُ مِن الشَّياطينِ وغيرِهم، وفي روايةٍ: ((إِذَا قُلْتَهُنَّ لمَْ يَقْرَبْكَ ذَكَرٌ وَلا أُنْثى مِنَ الإِنْسِ وَلا مِنَ الجِنِّ)) وفي حديثِ عليٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ قَرَأَهَا – يَعْنيِ آيَةَ الكُرْسيِّ – حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ أمَّنَهُ اللهُ عَلى دَارِهِ وَدَارِ جَارِهِ وَأَهْلِ دُوَيْراتٍ حَوْلَهُ)). رواه البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ.
قولُه: (شَيْطانٌ): الشَّيطانُ يُطلقُ على كلِّ متمرِّدٍ عاتٍ مِن الجنِّ والإنسِ، مِن شَطَنَ إذا بَعُدَ لبعدِه عن رحمةِ اللهِ. أو من شَاطَ يَشيطُ إذا هلكَ واحترقَ.
في هذا الحديثِ فضلُ آيةِ الكرسيِّ، وَعظمُ منفعتِها وتأثيرُها العظيمُ في التحرُّزِ من الشَّيطانِ، وذلك لِما اشتملتْ عليهِ من العلومِ والمعارفِ، ولذلك إذا قَرَأها الإنسانُ عندَ الأحوالِ الشَّيطانيةِ بصدقٍ أبْطَلَتْهَا، مثلُ مَن يدخلُ النَّارَ بحالٍ شيطانيٍّ، أو يحضرُ المُكَاءَ والتَّصْدِيَةَ وتنـزلُ عليه الشَّياطينُ، وتتكلَّمُ على لسانِه كلامًا لا يُعلمُ، وربما لا يُفقهُ، وربما كاشفَ بعضَ الحاضرينَ بما في قلبِه، إلى غيرِ ذلك منَ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ، فأهلُ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ تنصرفُ عنهم شياطينُهم إذا ذُكرَ عندَهُم ما يطردُها. مثلُ آيةِ الكرسيِّ، أشارَ إلى ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ في كتابِه ((الفرقانِ بينَ أولياءِ الرَّحمنِ وأولياءِ الشَّيطانِ)).