11 Nov 2008
خطبة الواسطية
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (الْحَمدُ للهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَه بِالهُدَى ودِينِ الحقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَه لاَ شَرِيكَ لَهُ ؛ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا).
شرح العقيدة الواسطية للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (بِسِم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
الحَمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ إِقْرَاراً به وَتَوْحِيداً.وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه. صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم تَسْلِيماً مَزِيداً.(2)
الشرح:
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (مقدمةٌ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين. والصَّلاةُ
والسَّلامُ على نبيِّنا محمِّدٍ وعلى آلهِ وصحْبهِ أجمعين. وبعدُ، فهذا
شرحٌ مخْتَصَرٌ على العقيدةِ الوَاسِطيَّةِ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ
جمعتُه مِن المصادرِ التَّاليةِ:
1. الرَّوْضَةُ النَّدِيَّةُ شرحُ العَقيدةِ الوَاسِطيَّةِ، للشيخِ زيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ فيّاضٍ.
2. التنبِيهاتُ السَّنِيَّةُ على العقيدةِ الوَاسِطيَّةِ، للشيخِ عبدِ العزيزِ بنِ ناصرٍ الرشيدِ.
3. التنبِيهاتُ اللَّطيفةُ فيما احتَوت عليه الوَاسِطيَّةُ مِن المباحثِ المُنيفةِ للشيخِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ ناصرٍ السَّعْديِّ.
4. نقلتُ مِن فوائدَ علَّقْتُها على نسخَتي وقْتَ الطَّلَبِ.
5. وفيما
يتعلقُ بتفسيرِ الآياتِ، نقلتُ مِن كُتُبِ التفسيِر؛ كفتحِ القَديرِ،
للإمامِ محمدِ بنِ عليٍّ الشَّوْكَانيِّ، وتفسيرِ القرآنِ العظيمِ، للشيخِ:
إسماعيلَ بنِ كَثيرٍ، وكانت جامعةُ الإمامِ محمدِ بنِ سُعودٍ الإسلاميَّةُ
قد طَبعته عدّةَ مرَّاتٍ، ووزعتْه عَلى طَلبةِ المرحلةِ الثَّانويَّةِ،
فشكر اللهُ للقائمين عليها، وزادهم مِن الخيرِ والتَّوفيقِ لما فيه صَلاحُ
المسلمين.
كما أني أسألُ اللهَ أن ينفعَ به ويجعلَه
مُؤدِّياً للْمطلوبِ من توضيحِ هذه العقيدةِ العظيمة. وأَن يغفرَ لي ما
وقَع مني مِن خَطَأٍ. ويُثِيبَنِي عَلَى ما فيه مِن صَوابٍ، إنَّه سميعٌ
مُجيبٌ.
وصلى الله على نبيِّنا محمّدٍ وآلهِ وصحْبهِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
المؤلف
(1) ابتدأ
المصنِّفُ– رحمه اللهُ – كتابَه بالبسمَلَةِ؛ اقتداءً بالكِتابِ العزيزِ،
حيثُ جاءت البسمَلةُ في ابتداءِ كُلّ سُورةٍ، ماعدا سُورةَ بَرَاءةٍ.
واقتداءً بالنَّبيِّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ حيث كان يبدأُ بها في
مُكَاتَبَاتِهِ.
وقولهُ: (بِسْمِ اللهِ) الباءُ للاستعانةِ، والاسمُ في اللُّغةِ: ما دلَّ عَلى مُسَمًّى، وفي الاصطلاحِ:
ما دلَّ عَلى معنًى في نَفْسِه، وَلم يقْتَرِنْ بزَمانٍ. والجارُّ
والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذُوفٍ، ينبغي أن يُقَدَّرَ متأخراً؛ ليُفِيد
الحصْرَ. (والله):
عَلَمٌ عَلى الذَّاتِ المقدَّسةِ، ومعناه: ذو الألوهيَّةِ والعبوديَّةِ
عَلى خلْقِه أجمعين، مشْتقٌّ مِنْ أُلِه يُأْلَهُ ألوهةً، بمعنى: عُبدَ
يُعبدُ عبادةً. فاللهُ إِلَهٌ بمعنَى مَأْلُوهٍ، أي: مَعْبودٍ و(الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)
اسمانِ كَريمانِ مِن أسمائهِ الْحُسْنى، دالاَّنِ عَلى اتِّصَافهِ تَعالى
بالرَّحْمةِ، عَلى ما يَلِيقُ بجلالِهِ. فالرَّحْمنُ: ذو الرَّحمةِ
العامَّةِ لجميعِ المخلوقاتِ. والرَّحيمُ: ذو الرَّحْمةِ الخاصَّةِ
بالمؤمنين، كما قال تعالى: (وَكَانَ بِالمُؤْمِنينَ رَحِيماً).
(2) افتتح
هذه الرسالةَ الجليلةَ بهذه الخطبةِ المشْتَمِلَةِ عَلى حَمدِ اللهِ
والشهادتيْن والصَّلاةِ والسَّلامِ عَلى رَسُولِه، تأسِّياً بالرَّسولِ
صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ في أحاديثهِ وخُطبهِ, وعملاً بقولِه صَلى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللهِ، فَهُوَ أَقْطَعُ)) رواه أبو داود وغيرُه. ويُروى: (بِبِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ)
ومعنَى "أَقْطَعُ" أي: معْدومُ البَركةِ، ويُجْمعُ بين الرِّوايتيْن
للحَديثِ: بأنَّ الابتداءَ ببسمِ اللهِ حَقِيقيٌّ، وبالحمدِ للهِ نِسْبيٌّ
إضافيٌّ.
قولُه: (الحمدُ للهِ) الألفُ واللاَّمُ للاستغراقِ ـ أي: جميعُ المحامدِ للهِ مِلْكًا واستحقاقًا.
والحمدُ لغةً: الثَّناءُ بالصِّفاتِ الجميلةِ والأفعالِ الحسنةِ. وعُرْفًا: فِعْلٌ يُنْبئُ عَن تعْظيمِ المُنْعِمِ بسببِ كَوْنِه مُنْعِمًا، وهو ضِدُّ الذَّمِّ.
(لله) تقدَّم الكَلامُ عَلى لفظِ الجلالةِ.
(الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) اللهُ سبحانَه يُحْمَدُ عَلى نِعَمِهِ التي لا تُحْصَى، ومِن أَجلِّ هذه النِّعَمِ أَنْ (أَرْسَلَ) أي بعَثَ (رَسُولَهُ)
محمَّدًا صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ. والرَّسول لُغةً: مَن بُعِثَ
برسالةٍ. وشَرْعًا: هو إِنسانٌ ذَكَرٌ أُوحِيَ إليه بشَرْعٍ، وأُمِر
بتبليغِه (بالْهُدَى) أي: العِلْمِ النَّافِعِ،
وهو كُلُّ ما جاء به النبيُّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ من الإخباراتِ
الصَّادقةِ، والأوامرِ والنَّواهي، وسائرِ الشَّرائعِ النَّافعةِ.
والهُدَى نوعانِ:
النَّوْعُ الأوَّلُ: هُدًى بمعنَى الدَّلالةِ والبيانِ، ومنه قولُه تعالى: (وأمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلى الهُدَى) [الآية(17) فُصِّلتْ]. وهذا يقومُ به الرَّسولُ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، كما في قولهِ تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
النَّوعُ الثاني:
هدًى بمعنَى التَّوفيقِ والإلهامِ، وهذا هو المنفِيُّ عِن الرَّسولِ صَلى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ ولا يقْدِرُ عليه إلاَّ اللهُ تعالى، كما في قولهِ
تعالى: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [الآيةَ (56) القصص] (وَدِينُ الْحَقِّ) هو العملُ الصَّالحُ ـ والدِّينُ يُطْلقُ ويُرَادُ به الجزاءُ ـ كقولِه تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)
ويُطْلقُ ويُرادُ به الخضوعُ والانقيادُ ـ وإضافةُ الدِّينِ إلى الحقِّ
مِن إضافةِ الموصوفِ إلى صِفتهِ ـ أي: الدينُ الحقُّ ـ والحقُّ مصدرُ:
حَقَّ يَحِقُّ، بمعنَى ثَبَت ووَجَب ـ وضدُّه الباطلُ.
(لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ)
أي: ليُعْلِيَه عَلى جَميعِ الأديانِ بالحُجَّةِ والبيانِ والجِهاد,ِ حتى
يظْهرَ عَلى مُخَالفِيه مِن أهلِ الأرضِ مِن عَرَبٍ وعَجَمٍ ملِّيِّين
ومشركين. وقَد وقع ذلك، فإنَّ المسلمين جاهدوا في اللهِ حَقَّ جهَادِه حتّى
اتَّسعتْ رُقْعةُ البلادِ الإسلاميَّةِ، وانتشر هذا الدِّينُ في المشارقِ
والمغارِبِ.
(وَكَفَى باللهِ شَهِيداً)
أي: شاهدا أنَّه رَسُولُه ومطَّلِعٌ عَلى جميعِ أفعالِهِ, ونَاصِرُه عَلى
أعْدَائِه، وفي ذلك دَلالةٌ قاطِعةٌ عَلى صِدقِ هذا الرَّسولِ ـ إذْ لوْ
كان مفترِيًا، لعاجلَه اللهُ بالعقوبةِ، كما قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعَضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [(الآيتان 44ـ45) الحاقَّة]
(وَأَشْهَدُ أن لا إِلَه إِلاَّ اللهُ) أي أقرُّ وأعترفُ أَن لا معبودَ بحقٍّ إلاّ اللهَُ (وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ)
في هاتيْنِ الكلِمتيْنِ تأكيدٌ لما تضمَّنته شهادةُ أن لا إلهَ إلاَّ
اللهُ مِن النَّفْيِ والإثباتِ ـ نَفْيِ الإلهيَّةِ عمَّا سوى اللهِ
وإثباتِهَا للهِ، فقولُه (وَحْدَهُ) تأكيدٌ للإثباتِ، وقولُه (لاَ شَرِيكَ لَهُ) تأكيدٌ للنَّفْيِ.
وقولُه: (إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا) مَصْدرانِ مؤكدان لمعنَى الجملةِ السَّابقةِ. (وَأَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) أي: إقراراً باللِّسانِ و(توحيدا) أي إخلاصًا في كُلِّ عبادةٍ؛ قوليَّةٍ أو فعليَّةٍ أو اعتقاديَّةٍ.
وقولُه: (وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه)
أي أُقِرُّ بلِساني وأعتقدُ بقلبي: أنَّ اللهَ أرسَل عبدَه محمَّدا صَلى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ إلى النَّاسِ كافَّةً؛ لأنَّ الشَّهادةَ لهذا
الرَّسولِ بالرِّسالةِ مَقْرُونةٌ بالشَّهادةِ للهِ بالتَّوحيدِ، لا
تَكْفِي إحداهُما عِن الأخرى. وفي قولِه: (عَبْدُهُ وَرَسُولُه)
رَدٌّ عَلى أهلِ الإفراطِ والتَّفريطِ في حَقِّ الرَّسولِ صَلى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلمَ ـ فأهلُ الإفراطِ غَلَوْا في حَقِّه ورَفَعُوه فوْقَ
مَنْزِلةِ العبوديّةِ، وأهلُ التَّفْريطِ قد نبذُوا ما جاء به وراءَ
ظُهورِهمْ، كأنَّه غَيرُ رَسولٍ؛ فشهادةُ أنَّه عبدُ اللهِ، تنفي الغُلوَّ
فيه ورفْعَه فوقَ منزلتِه. وشهادةُ أنَّه رسولُ اللهِ، تقتضي الإيمانَ به
وطاعتَه فيما أَمر، وتصديقَه فيما أخْبرَ، واجتنابَ ما نَهى عنه،
واتِّباعَه فيما شَرَع.
وقوله: (صَلى اللهُ عَلَيْهِ) الصَّلاةُ لغةً:
الدُّعاءُ ـ وأَصحُّ ما قيل في معنَى الصَّلاة مِن اللهِ عَلى الرَّسولِ:
ما ذكره البخاريُّ في صحيحهِ عَن أبي العاليةِ، قال: صَلاةُ اللهِ عَلى
رَسُولِه: ثناؤه عليه في الملأ الأعْلى. (وَعَلى آلِهِ)
آلُ الشَّخْصِ مَن ينتمون إليه بصِلةٍ وثيقةٍ مِن قَرابةٍ ونحوِهَا.
وأحسنُ ما قيل في المرادِ بآلِ الرَّسولِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ هنا
أنَّهم أتباعُه عَلى دينِه. (وَأَصْحَابِهِ) جمعُ صاحبٍ, مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العَامِّ.
والصَّحابيُّ: هو مَن لَقِيَ النبيَّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ مؤمناً به، ومات عَلى ذلك.
(وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا) السَّلامُ بمعنَى التَّحيّةِ أو السَّلامةِ مِن النَّقائصِ والرَّذائلِ، وقولُه: (مَزِيدًا) اسمُ مفْعولٍ مِن الزِّيادةِ، وهي النُّمُوُّ. وجَمعَ بين الصَّلاة والسَّلامِ امتثالا لقولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الآية (56) مِن سورةِ الأحزابِ].
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة لابن سعدي رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): (الحمدُ لله الّذي أَرْسَلَ رَسُولَه بالهُدَى ودِينِ الحقِّ، ليُظْهِرَهُ على الدِّينِ كلِّهِ وكفى بالله شهيداً([1])، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ إقراراً به وتوحيداً([2])، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليماً مزيداً([3]).
الشرح:
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (([1]) (الحمد لله )
أي: أن جميع أوصاف الكمال ثابتة لله على أكمل الوجوه وأتمها، ومما يحمد
عليه نِعَمُهُ على العباد التي لا يُحصي أحدٌ من الخلق تعدادها، وأعظمها
إرساله محمّداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ( بالهُدى ) الذي هو العِلم النافع، (ودِين الحقّ) الذي هو العمل الصّالح، (ليُظهرَهُ على ) جميعِ الأديان، بالحُجّة والبرهان، وبالعزّ والسُّلطان، (وكفى بالله شهيداً )
على صدْقِ رسوله، وحقيقة ما جاء به، وشهادته تعالى: بقوله، وفعله،
وتأييدِه لرسوله: بالنصر، والمعجزات والبراهين المتنوعة، الدالّ كل واحد
منها، فكيف بجميعها على رسالته وصدقه وأن جميع ما جاء به هو الحقّ من عقائد
وأخلاق وآداب وأعمال وغيرها.
([2]) (وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ إقراراً به وتوحيداً) أي
أقرّ وأعترفُ مصدقاً ومعتقداً أنه لا يستحقّ الألوهية -وهي التفرُّد بكل
كمال- إلا الله، وأنّه لا يستحقّ العبادة إلا هو، وحده لا شريك له، ولهذا
قال: إقراراً به؛ أي بالقلب واللسان وتوحيداً أي إخلاصاً لله في كلّ عبادة
قوليةٍ أو عمليةٍ أو اعتقاديةٍ.
وأعظم ما يوحَّد به ويُتقرَّب إليه به
تحقيق العقيدة السّلفية المحتوي عليها هذا الكتاب، وبتحقيق العقيدة تصلحُ
الأعمال وتُقبلُ وتستقيم الأمور.
([3]) (وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليماً مزيداً)
الشهادة للرسول بالرسالة والعبودية مقرونة بالشهادة لله بالتوحيد لا تكفي
إحداهما عن الأخرى، ولا بدّ فيها من اعتراف العبد بكمال عبودية النبيِّ صلى
الله عليه وسلم وأنه فاق جميع البشر في كل خصلة كمال، ولا تُسمى شهادة حتى
يصدّقه ا لعبدُ في كل ما أخبر، ويطيعه في كلِّ ما أمرَ، وينتهي عما نهى
عنه، وبهذه الأمور تتحقق الشهادة لله بالتوحيد وللرسول بالرسالة.
شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ((بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ)):(1)((الحَمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ
رَسولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ على الدِّين كُلِّهِ
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً))(2).
((وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ إِقراراً به وَتَوْحِيداً))(3).
((وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه))(4).
((صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِه وَسَلَّم تَسْلِيماً مَزِيداً))(5).
الشرح:
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (1)
البُداءةُ بالبَسْملةِ هِيَ شأْنُ جميعِ المؤلِّفينَ؛ اقْتِداءً بكِتابِ
اللَّهِ؛ حَيْثُ أَنْزَلَ الْبَسْملةَ فِي ابْتِداءِ كُلِّ سُورةٍ،
واسْتِناداً إلى سنَّةِ الرسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإعرابُ البَسْمَلةِ
ومعناها تكلَّمَ فِيهِ النَّاسُ كثيراً، وفِي متعَلَّقِها، وأحْسَنُ ما
يُقالُ فِي ذلِكَ: أَنَّهَا متعلِّقةٌ بفِعلٍ محذوفٍ مُتأخِّرٍ مُناسِبٍ
للمَقامِ؛ فَإِذَا قَدَّمْتَهَا بَيْنَ يَدَيِ الأكْلِ يَكونُ التَّقديرُ:
بسمِ اللَّهِ آكُلُ، وبَيْنَ يَدَيِ القِراءةِ يَكونُ التَّقديرُ: بسمِ
اللَّهِ أَقْرَأُ.
نقدِّرُهُ فِعْلاً؛
لأنَّ الأصْلَ فِي العَملِ الأفعالُ لاَ الأسماءُ، وَلِهَذَا كَانَتِ
الأفعالُ تَعملُ بِلاَ شرطٍ، والأسماءُ لاَ تَعملُ إلاَّ بشرطٍ؛ لأنَّ
العَملَ أَصْلٌ فِي الأفعالِ، فَرْعٌ فِي الأسماءِ.
ونُقدِّرُهُ متأخِّراً لِفائِدتَيْنِ:
الأُولى: الحَصْرُ؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُفِيدُ الحَصْرَ، فيَكونُ: باسمِ اللَّهِ أَقْرَأُ؛ بمنْزِلَةِ: لاَ أقرأُ إلاَّ باسمِ اللَّهِ.
الثَّانِيَةُ: تَيَمُّناً بالبُداءةِ باسمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
ونُقَدِّرُهُ خاصاًّ؛
لأنَّ الخاصَّ أَدَلُّ عَلَى المقصودِ مِن العامِّ؛ إذْ مِنَ المُمْكِنِ
أنْ أَقولَ: التَّقديرُ: باسمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ، لكنْ (باسمِ اللَّهِ
أَبْتَدِئُ) لاَ تدلُّ عَلَى تَعْيينِ المقصودِ، لكنْ (باسمِ اللَّهِ
أَقْرأُ) خاصٌّ، والخاصُّ أَدَلُّ عَلَى المَعْنَى مِن العامِّ.
((اللَّهُ))
عَلَمٌ عَلَى نَفْسِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ولاَ يُسَمَّى بِهِ غيرُه،
ومَعْنَاهُ: المَأْلُوهُ؛ أيْ: المعبودُ محبَّةً وتعظيماً، وهو مُشْتَقٌّ
عَلَى القولِ الرَّاجِحِ لِقَولهِ - تَعَالَى -: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعامُ: 3]؛ فإنَّ (فِي السَّمَاوَاتِ) مُتعَلَّقٌ بلفْظِ الجَلاَلةِ؛ يَعْنِي: وَهُوَ المَأْلُوهُ فِي السَّمَاوَاتِ وفِي الأَرْضِ.
((الرَّحمنُ))،
فَهُوَ ذُو الرَّحمةِ الواسعةِ؛ لأنَّ (فَعْلان) فِي اللُّغةِ العربيةِ
تدلُّ عَلَى السَّعةِ والامتلاءِ؛ كما يُقالُ: رجلٌ غضبانُ إذَا امتلأَ
غضباً.
((الرَّحيمُ)): اسمٌ يَدُلُّ عَلَى الفِعلِ؛ لأنَّه فَعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ، فَهُوَ دالٌّ عَلَى الفِعلِ.
فيَجتمعُ مِن ((الرَّحمنِ الرَّحيمِ)):
أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ واسِعةٌ، وَأَنَّهَا واصِلةٌ إِلَى الخَلْقِ،
وَهَذَا هُوَ مَا أَوْمَأَ إليهِ بعضُهمْ بقولِهِ: الرَّحمنُ رَحمةٌ
عامَّةٌ، والرَّحيمُ رحمةٌ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، وَلَمَّا كانَتْ رَحمةُ
اللَّهِ للِكافرِ رحمةً خاصَّةً فِي الدُّنْيَا فقطْ؛ فكأَنَّهَا لاَ رحمةَ
لَهُمْ؛ لأَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ يَقولُ - تَعَالَى - لهم إِذَا سَأَلُوا
اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِن النَّارِ، وتَوسَّلُوا إِلَى اللَّهِ -
تَعَالَى - بِرُبوبِيَّتِهِ واعْتِرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنونَ: 107]؛ فلاَ تُدْرِكُهُم الرَّحمةُ، بلْ يُدْرِكُهُم العَدْلُ، فيقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لَهُمْ: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ) [المؤمنونَ: 108].
(2) قولُهُ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)):
اللَّهُ - تَعَالَى - يُحْمَدُ عَلَى كَمَالِهِ - عزَّ وجلَّ -، وعَلَى
إنعامِهِ؛ فنحنُ نَحْمَدُ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّهُ كَامِلُ
الصِّفاتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ونَحمَدُه أيضاً لأَنَّهُ كامِلُ الإنعامِ
والإحسانِ: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النَّحلُ: 53]،
وأَكْبَرُ نِعمةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الخَلْقِ إرسالُ الرَّسولِ
الَّذِي بِهِ هدايةُ الخَلْقِ، وَلِهَذَا يقولُ المؤَلِّفُ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ)).
والمرادُ بالرَّسُولِ
هُنَا الجِنْسُ؛ فإنَّ جميعَ الرُّسلِ أُرسِلُوا بالهُدَى ودِينِ الحقِّ،
ولكنَّ الَّذِي أكْمَلَ اللَّهُ بِهِ الرِّسالةَ محمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فإنَّهُ قد خَتَمَ اللَّهُ بِهِ الأنبياءَ، وَتَمَّ
بِهِ الْبِنَاءُ؛ كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ بالنِّسبةِ للرُّسِلِ؛ كرَجُلٍ بَنَى قَصْراً
وأَتمَّهُ؛ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَى
هَذَا القَصْرِ ويَتعجَّبُونَ مِنْهُ؛ إِلاَّ مَوْضِعَ هذِهِ اللَّبِنَةِ؛
يقولُ: ((فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ))، - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
وقولُهُ: ((بالهُدَى)):
البَاءُ هُنَا للمُصاحَبَةِ، والهُدَى هُوَ العِلْمُ النَّافِعُ،
ويُحتمَلُ أنْ تَكونَ الباءُ للتَّعدِيَةِ؛ أيْ: إنَّ المُرْسَلَ بِهِ هُوَ
الهُدَى ودِينُ الحقِّ.
و((دِينِ الحقِّ))
هُوَ العَملُ الصَّالِحُ؛ لأنَّ الدِّينَ هُوَ العَمَلُ أو الجَزَاءُ
عَلَى العَملِ؛ فمِن إطلاقِهِ عَلَى العَملِ: قولُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) [آلُ عِمرانَ: 19]، ومِن إطلاقِهِ عَلَى الجَزَاءِ: قولُهُ - تَعَالَى -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) [الانفطارُ: 17]، والحقُّ ضِدُّ البَاطلِ، وَهُوَ –أي الحقُّ- المتضمِّنُ لجَلْبِ المصالِحِ ودَرْءِ المفَاسِدِ، فِي الأحكامِ والأخبارِ.
قوله: ((لِيُظهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ)): اللاَّمُ للتَّعلِيلِ، ومعنى ((ليُظْهِرَهُ))؛
أيْ: يُعْلِيهِ؛ لأنَّ الظُّهُورَ بمعنَى العُلُوِّ، ومِنْهُ: ظَهْرُ
الدَّابَّةِ أَعْلاَهَا، وَمِنْهُ: ظَهْرُ الأرْضِ سَطْحُهَا؛ كَمَا قَالَ -
تَعَالَى -: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطرُ: 45].
والْهَاءُ فِي ((يُظْهِرُهُ)) هلْ هُوَ عائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ، أوْ عَلَى الدِّينِ؟ إِنْ كَانَ عائِداً عَلَى ((دينِ الحقِّ))؛ فكُلُّ مَنْ قَاتَلَ لدِينِ الحقِّ سَيَكُونُ هُوَ العَالِي؛ لأنَّ اللَّهَ يَقولُ: ((لِيُظْهِرَهُ))؛
يُظْهِرُ هَذَا الدِّينَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وعَلَى مَا لاَ دِينَ
لَهُ، فيُظْهِرَهُ عَليْهِمْ مِن بابٍ أَوْلَى؛ لأنَّ مَن لاَ يَدِينُ
أَخْبَثُ ممَّنْ يَدِينُ بباطلٍ؛ فإذاً: كُلُّ الأدْيانِ الَّتِي يَزْعُمُ
أَهْلُهُا أنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ سَيَكُونُ دِينُ الإسْلاَمِ عَلَيْها
ظاهِراً، ومَنْ سِوَاهُمْ مِنْ بَابٍ أَوْلى.
وَإِنْ كَانَ عائداً
إِلَى الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -؛ فإِنَّمَا يُظْهِرُ
اللَّهُ رسولَهُ لأنَّ مَعَهُ دِينَ الحَقِّ.
وعَلَى كِلاَ
التَّقدِيرَيْنِ؛ فإنَّ مَنْ تمسَّكَ بهَذَا الدِّينِ الحقِّ فَهُوَ
الظَّاهِرُ العَالِي، ومَن ابْتَغَى العِزَّةَ فِي غيرِهِ فَقَد ابْتَغَى
الذُّلَّ؛ لأنَّهُ لاَ ظُهُورَ ولاَ عِزَّةَ ولاَ كَرامةَ إِلاَّ بالدِّينِ
الحقِّ، وَلِهَذَا أنا أَدْعُوكُمْ مَعْشَرَ الإخْوةِ إِلَى التَّمَسُّكِ
بدِينِ اللَّهِ ظاهِراً وباطِناً، فِي العِبادَةِ، والسُّلوكِ، والأخلاقِ،
وفِي الدَّعْوةٍ إِلَيْهِ، حَتَّى تَقُومَ الملَّةُ، وَتَسْتَقِيمُ
الأُمَّةُ.
قولُه: ((وكَفَى بِاللَّهِ شَهِيَداً)): يقولُ أهلُ اللُّغةِ: إنَّ الباءَ هُنَا زائدةٌ، لتَحسينِ اللَّفظِ والمبالغةِ فِي الكفايةِ، وأصلُها: ((وكَفَى اللَّهُ)).
و((شهِيداً)): تمييزٌ محوَّلٌ عن الفاعلِ؛ لأنَّ أصْلَها ((وكفَتْ شَهادةُ اللَّهِ)).
المؤلِّفُ جاءَ بالآيةِ؛ ولو قَالَ قائلٌ: مَا مناسَبةُ ((كَفَى باللَّهِ شهِيَداً))؛ لقولِهِ: ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ))؟
قِيلَ: المناسَبةُ
ظاهِرةٌ؛ لأنَّ هَذَا النَّبيَّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - جَاءَ
يَدْعُو النَّاسَ ويقولُ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجنَّةَ، ومَنْ عَصَاني
دَخَلَ النَّارَ، ويقولُ بلِسانِ الحالِ: مَن أَطَاعَنِي سَالَمْتُهُ،
ومَنْ عَصانِي حاربْتُهُ، ويحارِبُ النَّاسَ بهَذَا الدِّينِ، ويَستبيحُ
دماءَهُم، وأموالَهُم، ونِساءَهُمْ، وذريَتهُمْ، وهُوَ فِي ذلِكَ مَنْصورٌ
مؤزَّرٌ غالِبٌ غيرٌ مَغلوبٍ، فهَذَا التَّمْكِينُ لَهُ فِي الأرْضِ أيْ:
تمكينُ اللَّهِ لِرَسولهِ فِي الأرْضِ، شهادةٌ مِن اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -
فِعليَّةٌ بأنَّهُ صادِقٌ، وأنَّ دينَهُ حقٌ؛ لأنَّ كُلَّ مَن افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِباً فمآلُهُ الخِذْلانُ والزَّوالُ والعَدَمُ، وانظر
إِلَى الَّذِينَ ادَّعَوُا النُّبوَّةَ مَاذَا كَانَ مآلُهُمْ؟ أنْ نُسُوا
وأُهلِكُوا؛ كمسيلِمةَ الكذَّابِ، والأسْوَدِ العَنْسِيِّ… وغيرِهِمَا
ممَّنْ ادَّعَوُا النُّبوَّةَ، كلُّهم تَلاَشَوْا، وبانَ بطلانُ
قَوْلِهِمْ، وحُرِمُوا الصَّوَابَ والسَّدَادَ، لكنَّ هَذَا النَّبِيَّ
محمَّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى العَكْسِ، دَعْوَتُه
إِلَى الآنَ - والحمدُ لِلَّهِ - باقِيةٌ، ونسألُ اللَّهَ أنْ يُثبِّتَنا
وإياكُم عَلَيْها، دَعْوَتُه إِلَى الآنَ باقِيةٌ، وإِلَى أنْ تَقومَ
السَّاعةُ، ثابتةٌ راسِخةٌ، يُستباحُ بدعوتِهِ إِلَى اليومِ دماءُ مَن
نَاوَأَهَا مِن الكفَّارِ وأَمْوالُهُم، وتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ
وذُرِّيَّتُهُم، هذِهِ الشَّهادةُ فِعليَّةٌ، مَا أخذَهُ اللَّهُ ولاَ
فَضَحَهُ ولاَ كذَّبَهُ، وَلِهَذَا جاءتْ بعدَ قولهِ: ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)).
(3) ((أَشْهَدُ))؛
بمعنى: أُقرُّ بقلَبْي ناطِقاً بلِسانِي؛ لأنَّ الشَّهَادَة نُطْقٌ
وإخبارٌ عمَّا فِي القلبِ؛ فأنتَ عِنْدَ القَاضِي تَشْهَدُ بحقِّ فُلانٍ
عَلَى فلانٍ؛ تَشْهَدُ باللِّسانِ المُعَبِّرِ عمَّا فِي القلبِ، واختيرتِ
الشَّهادةُ دُونَ الإقرارِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ أصْلُها مِن شُهودِ الشيءِ؛
أيْ: حُضورُهُ ورُؤْيَتُهُ؛ فكأنَّ هَذَا المُخْبِرَ عمَّا فِي قَلبِهِ
النَّاطِقَ بلسانِهِ؛ كأنَّهُ يُشاهِدُ الأمْرَ بعَيْنِهِ.
((لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ))؛ أيْ: لاَ مَعبودَ حَقٍّ إِلاَّ اللَّهُ، وعَلَى هَذَا يكونُ خَبَرُ "لا" محذوفاً، ولفْظُ الجَلالَةِ بَدَلاً مِنْهُ.
((وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ)): ((وحْدَهُ)): هِيَ مِن حَيْثُ المَعْنَى توكيدٌ للإثباتِ، ((لاَ شريكَ لهُ)): تَوْكيدٌ للنَّفْيِ.
((إقراراً بِهِ وتَوحِيداً)): ((إقراراً)) هَذِهِ مَصْدَرٌ، وإنْ شِئْتَ فقلْ: إِنَّهُ مَفعولٌ مُطلَقٌ؛ لأنَّهُ مَصْدرٌ معنويٌّ، لقولِهِ: ((أَشْهَدُ))،
وأهْلُ النَّحوِ يقولونَ: إِذَا كَانَ المَصْدَرُ بمعنى الفِعلِ دُونَ
حروفِهِ؛ فَهُوَ مَصْدرٌ معنويٌّ، أوْ مَفعولٌ مُطلَقٌ، وإِذَا كَانَ
بمعناهُ وحروفِهِ؛ فهوَ مَصْدَرٌ لَفْظيٌّ، فَقُمْتُ قِياماً، مصدرٌ
لفظيٌّ، وقمْتُ وُقوفاً، مصدرٌ معنويٌّ، وجلستُ جُلوساً: لَفظيٌّ، وجلستُ
قعوداً: معنويٌّ.
وقوله: ((وتوحيداً)): مَصدرٌ مُؤكِّدٌ لقولِهِ: ((لاَ إلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)).
(4) نقولُ فِي ((أَشْهَدُ)) مَا قلْنا فِي ((أَشْهَدُ)) الأُولى.
ومحمَّدٌ: هُوَ ابنُ
عبدِ اللَّهِ، بنِ عبدِ المطَّلِبِ، القُرَشيِّ، الهاشِميِّ، الَّذِي هُوَ
مِن سُلالةِ إسماعيلَ بنِ إبراهِيَمَ، أَشْرَفُ النَّاسِ نَسَباً، - عليْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
هَذَا النَّبِيُّ
الكريمُ هُوَ عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، وَهُوَ أَعْبَدُ النَّاسِ لِلَّهِ،
وأَشَدُّهُم تحقيقاً لعبادتِهِ، كَانَ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -
يقومُ فِي اللَّيلِ حَتَّى تَتورَّمَ قَدَماهُ، ويُقالُ لَهُ: كَيْفَ
تَصْنَعُ هَذَا وقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ مَا تَقدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا
تأخَّرَ؟! فيقولُ: ((أفلاَ أكونُ عبداً شكوراً؟))؛ لأنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أثنى عَلَى العبدِ الشَّكورِ حينَ قَالَ عن نُوحٍ: (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراءُ: 3]،
فأَرادَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - أنْ يَصِلَ إِلَى
هذِهِ الغايةِ، وأنْ يَعْبُدَ اللَّهَ - تَعَالَى - حقَّ عبادَتِهِ،
وَلِهَذَا كَانَ أَتْقَى النَّاسِ، وأخشى الناس لِلَّهِ، وأشدَّهَم رَغْبةً
فيمَا عنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -، فَهُوَ عبدٌ لِلَّهِ، ومُقْتَضَى
عُبوديَّتِهِ أنَّهُ لاَ يَمْلِكُ لنفسِهِ ولاَ لِغَيرِهِ نَفْعاً ولاَ
ضرًّا، وليسَ لهُ حقٌّ فِي الرُّبوبِيَّةِ إطلاقاً، بلْ هُوَ عبدٌ محتاجٌ
إِلَى اللَّهِ، مفتَّقِرٌ لَهُ يسألُهُ ويدعُوه، ويرجُوه، ويخافُهُ، بلْ
إنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أنْ يُعلِنَ وأنْ يُبلِّغَ بلاغاً خاصًّا بأنَّهُ
لاَ يَمْلِكُ شيئًا مِن هذِهِ الأمورِ، فقال: (قُلْ
لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَو كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ وَمَا
مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعرافُ: 188]، وأَمَرَهُ أنْ يَقولَ:
(قُل لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ
الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا
يُوحَى إِلَيَّ) [الأنعامُ: 50]، وأَمَرَه أنْ يقولَ: (قُلْ
إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَن
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً،
إِلاَّ بَلاَغًا) [الجن: 21-23] (إلاَّ): استثناءٌ مُنقطِعٌ، أيْ: لكنْ أُبلِغُ بَلاَغًا مِنَ اللَّهِ ورِسالاتِهِ.
فالحاصلُ أنَّ
محمَّداً - صَلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عليهِ - عبدٌ لِلَّهِ، ومُقتضَى هذِهِ
العُبوديَّةِ أنَّه لاَ حقَّ لَهُ فِي شيءٍ مِنْ شُئونِ الرُّبوبِيَّةِ
إطلاقاً…
وإِذَا كَانَ محمَّدٌ
رسولُ اللَّهِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عليهِ - بهذِهِ المَثَابَةِ؛
فمَا بالُكَ بمَنْ دُونَهِ مِنْ عِبادِ اللَّهِ؟! فإنَّهُم لاَ يَملِكونَ
لأنْفُسِهم نَفْعاً ولاَ ضرَّا، ولاَ لغيِرِهم أبداً، وبهَذَا يَتبيَّنُ
سفَهُ أُولَئِكَ القومِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ يَدْعُونَهُم أولياءَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -…
وقولُهُ: ((ورسولُه)):
هَذَا أيضاً وَصْفٌ لاَ يكونُ لأحدٍ بَعدَ رسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنَّهُ خاتَمُ النَّبيِّينَ؛ فَهُوَ رَسولُ
اللَّهِ الَّذِي بَلَغَ مكاناً لَمْ يَبْلُغْهُ أحدٌ مِنَ البَشرِ، بلْ
ولاَ مِن الملائكةِ فيمَا نَعلَمُ، اللَّهمَّ إِلاَّ حَمَلةَ العَرْشِ،
وَصَلَ إِلَى مَا فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ، وَصَل إِلَى مَوْضِعِ
سَمِعَ فيهِ صَرِيفَ أقلامِ القَضاءِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ اللَّهُ - عزَّ
وجلَّ - فِي خلْقِهِ، مَا وَصَلَ أحدٌ فيمَا نَعلَمُ إِلَى هَذَا
المستَوَى، وكلَّمَهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - بِدُونِ واسِطةٍ، وأرسَلَهُ
إِلَى الخَلْقِ كافَّةً، وأيَّدهُ بالآياتِ العظيمةِ الَّتِي لَمْ تكنْ
لأحدٍ مِنَ البَشَرِ أو الرُّسُلِ قَبْلَهُ، وهُوَ هَذَا القرآنُ العظيمُ؛
فإنَّ هَذَا القرآنَ لاَ نظيرَ لَهُ فِي آياتِ الأنبياءِ السَّابقينَ
أبداً، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا
لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ مِن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ
عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوتُ: 50-51]،
هَذَا يكفِي عَنْ كُلِّ شيءٍ، ولكنْ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أَلْقى
السَّمعَ وهُوَ شهِيَدٌ، أَمَّا المُعْرِضُ فسيَقولُ كَمَا قَالَ مَن
سَبقَهُ: هَذَا أساطيرُ الأوَّلِينَ!
الحاصِلُ أنَّ
محمَّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولُ اللَّهِ وخاتمُ
النَّبيِّينَ، ختَمَ اللَّهُ بهِ النُّبوَّةَ والرِّسالَةَ أيضاً؛ لأنَّهُ
إِذَا انْتَفَت النُّبوَّةُ –وهِيَ أَعَمُّ مِن الرِّسالَةِ- انْتَفَت
الرِّسالةُ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ؛ لأنَّ انتفاءَ الأعَمِّ يَستلزِمُ
انتفاءَ الأخَصِّ؛ فرَسولُ اللَّهِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - هُوَ
خاتَمُ النَّبِيِّينَ.
(5) مَعْنى ((صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ)): أحسنُ مَا قِيلَ: فِيهِ مَا قالَهُ أبو العالِيَةِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قالَ: ((صَلاةُ اللَّهِ عَلَى رسولِهِ، ثَناؤُهُ عَلَيْهِ فِي الملأِ الأعلَى)).
وأمَّا مَنْ فسَّرَ
صلاةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بالرَّحمةِ فقولُهُ ضعيفٌ؛ لأنَّ الرَّحمةَ تكونُ
لكُلِّ أحدٍ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ العُلماءُ عَلَى أنَّكَ يَجُوزُ أنْ
تَقولَ: فلانٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، واختلفُوا:هلْ يجوزُ أنْ تقولَ: فلانٌ
صَلَّى اللَّهُ عليْهِ؟ وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّ الصَّلاَةَ غيرُ
الرَّحمةِ، وأيضاً؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرةُ: 157]،
والعَطفُ يَقتضِي المُغايَرةَ، إذاً فالصَّلاَةُ أَخَصُّ مِنَ الرَّحمةِ؛
فَصَلاةُ اللَّهِ عَلَى رسولِهِ ثناؤهُ عليْهِ فِي الملأِ الأعلى.
وكذلِكَ قولُهُ: ((وعَلَى آلِهِ))، و(آلِهِ)
هنا: أتباعُه عَلَى دينِهِ، هَذَا إِذَا ذُكِرَت الآلُ وَحْدَها أوْ مَعَ
الصَّحْبِ، فإنَّها تكونُ بمعنى أتباعِهِ عَلَى دينِهِ منذُ بُعِثَ إِلَى
يومِ القيامةِ، ويدلُّ عَلَى أنَّ الآلَ بمعنى الأتباعِ عَلَى الدِّينِ
قولُه - تَعَالَى - فِي آلِ فِرعونَ: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ) [غافرٌ: 46] أيْ: أتباعُهُ عَلَى دِينِه.
أمَّا إِذَا قُرِنْتَ
بالأتباعِ، فقِيلَ: آلُهُ وأتباعُهُ، فالآلُ هُم المؤمنونَ مِنْ آلِ
البيتِ، أيْ: بيتِ الرَّسولِ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لَمْ يَذْكُر الأتْباعَ هُنا، قالَ: ((آلِهِ وصَحْبِهِ))،
فنقولُ: آلُهُ هُمْ أتْباعُهُ عَلَى دينِهِ، وصَحْبُهُ كُلُّ مَن
اجْتَمَعَ بالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤمِناً
بِهِ وماتَ عَلَى ذلِكَ.
وعَطْفَ الصَّحْبَ هُنَا عَلَى الآلِ مِن بابِ عَطْفِ الخاصِّ عَلَى العامِّ، لأنَّ الصُّحبَةَ أخَصُّ مِن مُطلَقِ الأَتْباعِ.
قولُه: ((وَسَلَّم تَسْلِيماً مَزِيداً)):
(سَلَّمَ) فيها السَّلامةُ مِن الآفاتِ، وفِي الصَّلاَةِ حُصولُ
الخَيْراتِ، فجمَعَ المؤلِّفُ فِي هذِهِ الصِّيغةِ بَيْنَ سُؤالِ اللَّهِ -
تَعَالَى - أنْ يُحَقِّقَ لنَبيِّهِ الخيراتِ –وأخصُّها: الثَّناءُ عليْهِ
فِي الملأِ الأعلَى- وأنْ يُزِيلَ عنْهُ الآفاتِ، وكذلِكَ مَن اتَّبعَهُ.
والجملةُ فِي قولِهِ: ((صلَّى)) و((سلَّمَ)) خَبَريَّةٌ لفظاً،طَلَبِيَّةٌ معنًى؛ لأنَّ المرادَ بِهَا الدُّعاءُ.
وقولُه: ((مَزيداً))، بمعنى: زائداً أوْ زيادةً، والمُرادُ تَسلِيماً زائداً عَلَى الصَّلاةِ، فيكونُ دعاءً آخَرَ بالسَّلامِ بَعْدَ الصَّلاةِ.
والرَّسولُ عِنْدَ أهلِ العِلمِ: مَن أُوحيَ إِلَيْهِ بشَرعٍ وأُمِرَ بتبليغِهِ.
وقد نُبِّئَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ب(اقْرَأْ)، وأُرْسِلَ بالمُدَّثِّرِ، فبقولِهِ - تَعَالَى -: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)… إِلَى قولِه: (عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلقُ: 1-5] كَانَ نبيًّا، وبقولِه: (يَأَيُّهَا المُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ)[المدثرُ: 1،2] كَانَ رسولاً - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -.
التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد رحمه الله
المتن:
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ): ( ( بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ )
الحَمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ( 1) بالهُدَى ودِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّين كُلِّهِ وكَفَى باللهِ شَهِيداً(2) وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ(3) وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ إِقْرَاراً بِه وتَوْحِيداً (4) وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ (5) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيداً).
الشرح:
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408هـ): ( (1) قولُه: ( الحمدُ للهِ ):
الألفُ واللامُ للاستغراقِ، فجميعُ أنواعِ المحامدِ كُلِّها للهِ سُبحانه
مُلكا واستحقاقاً. وهو لغةً الثَّناءُ بالصِّفاتِ الجميلةِ، والأفعالِ
الحسنةِ، وعُرفاً فعلٌ ينبئ عن تعظيمِ المُنْعِمِ بِسببِ كونهِ منعِمَاً.
قالَ
الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ: الحمدُ هو ذكرُ صفاتِ المحمودِ مع
حبِّهِ وتعظيمهِ وإجلالِه، فإن تَجرَّد عن ذلك فهو مدحٌ، فالفرقُ بينهما
أنَّ الإخبارَ عن محاسنِ الغيرِ إمّا أَنْ يكونَ إخباراً مجرَّداً من حبٍّ
وإرادةٍ أو مقروناً بحبِّهِ وإرادتِهِ. فإذا كان الأوَّلَ فهو مدحٌ، وإن
كان الثَّانيَ فهو الحمدُ.
قولُه: ( للهِ ): لفظُ الجلالةِ عَلَمٌ على ذاتِهِ سبحانه وهو أَعرفُ المعارفِ على الإطلاقِ.
وقالَ
بعضُ العلماءِ: إنّه الاسمُ الأعظمُ وذُكِرَ في القرآنِ في (2360) ألفين
وثلاثمائةٍ وستِّين موضعاً، وهو يتناولُ معانيَ سائرِ الأسماءِ بطريقِ
التَّضَمُّنِ، وهو مشتقٌّ من أَلَهَ يَأْلَهُ إذا عَبَدَ فهو إلهٌ بمعنى
مألُوهٍ أي معبودٍ، فالإلهُ هو المألوهُ والَّذي تألَهُهُ القلوبُ، وكونُه
مستحِقّاً للألوهيَّةِ مُستلزِماً لصفاتِ الكمالِ فلا يستحِقُّ أنْ يكونَ
معبوداً محبوباً لذاتِهِ إلا هُوَ، وكلُّ عملٍ لا يُرادُ به وجهُه فهو
باطلٌ، وعبادةُ غيرِه وحبُّ غيرِه يوجِبُ الفسادَ كما قالَ تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
قولُه: ( الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ):
أي بعثَ رسولَهُ. والرَّسولُ إنسانٌ ذكَرٌ أُوحِيَ إليه بشرعٍ وأُمِرَ
بتبليغِهِ، وأمَّا النَّبيُّ فهو مأخوذٌ من النَّبأِ وهو الإخبارُ؛ لأنَّهم
مُخْبِرون عن اللهِ أو من النّبوَةِ وهي الرِّفعةُ؛ لارتفاعِ رُتَبِ
الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وهو إنسانٌ أُوحِيَ إليه بشرعٍ ولم يُؤمَر
بتبليغِهِ، فكلُّ رسولٍ نبيٌّ ولا ينعكسُ، وعددُ الأنبياءِ عليهمُ
السَّلامُ مائَةُ ألفٍ وأربعةُ وعشرون ألفاً كما جاء في حديثِ أبي ذرٍّ،
وقيلَ لا يُعرَفُ عددُهم بدليلِ قولِهِ سبحانَه: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) الآيةَ، وأمّا عددُ الرُّسلِ فهم ثلاثمائةٍ وثلاثةَ عشرَ كما في الحديثِ المذكورِ.
وأولو
العَزْمِ مِنهم خمسةٌ كما ذَكَر ذلك البَغَويُّ عن ابنِ عباسٍ وغيره وهم:
محمَّدٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ونوحٌ عليهمُ السَّلامُ، وَنَظَمهُم
بعضُهم بقولِهِ:
محمَّدٌ ابراهيمُ موسى كليمُه فعيسى فنوحٌ هم أولوا العزمِ فاعلمِ.
وهم في الفضلِ على هذا التَّرتيبِ المذكورِ في البيتِ.
(2) قولُه: ( بالهدى ): أي العلمِ النـَّافعِ.
قولُه: (وَدِينِ الْحَقِّ ): أي العملِ الصَّالحِ.
قولُه: ( ليظهرَهُ ):
أي يُعْلِيَهُ وينصرَهُ ظهوراً بالحُجَّةِ والبيانِ، والسَّيفِ
والسِّنانِ، حتَّى يَظْهَرَ على مخالفيهِ، وقد وقعَ ذلك، فإنّ المسلمين
جاهدوا في اللهِ حقَّ جهادِه حتَّى فتحَ اللهُ عليهم فاتَّسعَتْ رُقعةُ
البلادِ الإسلاميَّةِ شرقاً وغرباً في مُدَّةٍ يسيرةٍ مع قلَّةِ عددِهِم
وعُدَّتِهِم بالنّسبةِ إلى جيوشِ سائرِ الأقاليمِ من الرّومِ والفرسِ
والتُّركِ والبَرْبَرِ وغيرِهم، فقهَروا الجميعَ حتَّى عَلتْ كلمةُ اللهِ،
وظهرَ دينُه على سائرِ الأديانِ وامتدَّتِ الممالكُ الإسلاميَّةُ في مشارقِ
الأرضِ ومغاربِها في أقلَّ من ثلاثين عاماً.
قولُه: ( على الدِّينِ كلِّه ): أي على سائرِ الأديانِ، كما ثبتَ في الصَّحيحِ مِن حديثِ ثَوْبانَ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((
إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا،
وَإَنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا )).
وما في هذا لحديثِ أخبَر بهِ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
أوَّلِّ الأمرِ, وأصحابُه في غايةِ القلَّةِ قبلَ فتحِ مكةَ فكانَ كما
أخبرَ فَإِنَّ مُلكَهُم انتشرَ في المشرقِ والمغربِ ما بينَ أرضِ الهندِ
أقصى المشرقِ إلى بحرِ طنجَةَ في المغربِ، حيث لا عِمارةَ وراءَه وذلك مالم
تَمْلِكْهُ أمَّةٌ من الأممِ، وفي حديثِ جابرٍ: ((
إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ
فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ
كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ )) أخرجاه في الصَّحيحينِ.
قولُه: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ):
أي شاهداً أَنَّه رسولُه، وهو ناصِرُه ومُعلِيهِ، وَكَفى بِشَهادَتِهِ
سُبحانَهُ إثباتاً لصدقِه، وكفى باللهِ شهيداً أي في علمِهِ، واطّلاعِه على
أمرِ مُحمَّدٍ، كفايةً في صدقِ هذا المخبِرِ عنهُ، إذ لو كان مُفْتَرِياً
لَعاجَلَه بالعقوبةِ البليغةِ، كما قالَ تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ) الآيةَ.
ومن أسمائهِ سبحانَه الشَّهيدُ، قالَ اللهُ تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي
أَنَّه لا يغيبُ عنه شيءٌ، ولا يعْزُبُ عنه، بل هو مُطَّلِعٌ على كلِّ
شيءٍ مُشاهِدٌ له عليمٌ بتفاصيلِه، فشهِدَ سبحانَهُ لرسولِه أنَّ ما جاء به
حقٌّ وصدقٌ، فلا يليقُ به سبحانه أن يُقِرَّ من يكذبُ عليه أعظمَ الكذبِ،
ويخبرُ عنهُ بخلافِ ما الأمرُ عليه ثمَّ ينصرَهُ, ويؤيِّدُه, ويُعْليَ
شأنَه، ويجيبَ دعوتَه، ويُظهِرَ على دينِهِ من الآياتِ والبراهينِ ما
يعجَزُ عن مثلِهِ قُوَى البشرِ، وهو مع ذلك كاذبٌ عليه ومُفترٍ، ومعلومٌ
أنَّ شهادتَهُ سبحانَهُ على كلِّ شيءٍ، واطّلاعَه وقدرتَهُ وحكمتَهُ
وعزَّتَهُ وكمالَهُ يَأبى ذلك أشدَّ الإباءِ، ومَن جَوَّزَ ذلك فهو مِنْ
أبعدِ النَّاسِ عن معرفتِه سُبحانه. انتهى من كلامِ ابنِ القيّمِ رحمهُ
اللهُ سبحانَهُ وتعالى باختصارٍ.
(3) قولُه: ( أشهدُ ): أي أُقِرُّ وأَعترفُ أنْ لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ إلا اللهُ، وتأتي ( شَهِدَ ) بمعنى أخبرَ كما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: (( شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُم عِنْدِي عُمَرُ )) أي: أخبرني، وتأتي بمعنى حَضَرَ، كما في قولِه سبحانَهُ: (فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أي حضَرَ، وتأتي بمعنى اطّلعَ كما في قولِهِ سبحانَهُ: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي مُطَّلِعٌ. أفاده ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في كتابِه ( بدائعُ الفوائدِ ).
قولُه: (أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ): أنْ مُخَفَّفةٌ من الثَّقيلةِ.
قولُه: (لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ)
أي لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ إلا اللهُ سُبحانَهُ، وهذا معنى هذه
الكلمةِ العظيمةِ الَّتي تدلُّ عليه الأدلَّةُ، خلافاً لمن زَعِمَ أنّ
معناها القدرةُ على الاختراعِ، كما يقولُه الأشاعِرةُ، فإنَّ المشركين
الَّذين بُعِثَ إليهم الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّون
بأنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازقُ المحيي المميتُ المدبِّرُ لجميعِ الأمرِ
ولم يُدخِلْهم ذلكَ في الإسلامِ، بل قاتلَهُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستحلَّ دماءَهم وأموالَهم، ولمَّا قالَ لَهم رسولُ
اللهِ: اعبدوا اللهَ واتركوا ما كانَ يَعبُدُ آباؤُكم، قولُوا لا إلهَ إلا
اللهُ، أنكروا ذلك ونَفَروا، وقالوا: أجعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً، فدلَّ
على أَنَّ معنى هذه الكلمةِ هو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وتركُ عبادةِ ما
سواه.
وهذه
الكلمةُ هي أوَّلُ واجبٍ وأعظمُ واجبٍ على الإطلاقِ، كما في الصَّحيحِ مِن
حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال
لمعاذٍ حينَ بعثَهُ إلى اليمنِ (( فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ )) وفي روايةٍ (( إِلى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ ))
فدلَّ على أنَّ التَّوحيدَ هو أولُ واجبٍ على العبادِ، خلافاً لمن زَعَمَ
أَنَّ أولَ واجبٍ معرفةُ اللهِ بالنَّظرِ أو القصدِ إلى النَّظرِ أو
الشّكِّ كما هي أقوالٌ لأهلِ الكلامِ المذمومِ، فإِنَّ معرفَةَ اللهِ
فِطْريَّةٌ فطرَ اللهُ عليها عبادَه، قالَ تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )
أي أفي وجودِهِ شكٌّ؟، فإنَّ الفِطَرَ شاهدةٌ بوجودِه مجبولةٌ على
الإقرارِ بِه، فإنَّ الاعترافَ به ضروريٌّ في الفِطَرِ السّليمةِ كما قالَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( كُلُّ مَوْلُودٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فَأَبَواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ )).
وَلهذه الكلمةِ أركانٌ وشروطٌ إلى غيرِ ذلك من الأبحاثِ المتعلّقةِ ِبهذه الكلمةِ العظيمةِ.
فأركانُ لا إلهَ إلا اللهُ اثنان:
النَّفيُ، والإثباتُ، فـ ( لا إلهَ ) نافياً لجميعِ المعبوداتِ، و ( إلا
اللهُ ) مثبِتاً العبادةَ للهِ سُبحانَهُ، وشروطُهما سبعةٌ: العلمُ،
واليقينُ، والإخلاصُ، والصّدقُ، والمحبَّةُ، والانقيادُ، والقبولُ،
ونَظَمَها بعضُهم بقولِه:- علمٌ يَقينٌ وإخلاصٌ وَصِدْقُكَ معْ محبّةٍ وانقيادٍ والقَبولِ لها
وَزِيدَ ثامِنُها الكُفرانُ مِنْكَ بما غيرُ الإلهِ من الأوثانِ قَدْ أُلِّها
وتحقيقُها أَنْ لا يُعبدَ إلا اللهُ, كما أَنَّ تحقيقَ شهادةِ أَنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ أَنْ لا يُعبدَ اللهُ إلا بما شرعَ.
وحقُّ
هذه الكلمةِ هو فعلُ الواجباتِ وتركُ المحرَّماتِ، وأَمّا فائدتُها
وثمرتُها فسعادةُ الدَّارين لِمن قالَها عارِفاً بمعنَاها، عامِلاً
بمقتضاها، وأمَّا مجرَّدُ النُّطقِ بِها فقط فإنّهُ لا ينفعُ.
قالَ
الشَّيخُ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ تعالى: مَنِ اعتقدَ أَنَّه بِمُجَرَّدِ
تلفُّظِهِ بِالشهادةِ يدخلُ الجنَّةَ ولا يدخلُ النَّارَ فهوَ ضالٌّ
مخالِفٌ للكتابِ والسُّنّةِ والإجماعِ".
وأمَّا
فضلُها فقد تكاثرتِ الأحاديثُ في فضلِ هذه الكلمةِ. منها حديثُ عبادَةَ
بنِ الصَّامتِ المتّفقُ عليه أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قالَ: (( مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
وَأَنَّ عِيسى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ،
أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ )). وفي
حديثِ أبي سعيدٍ الخدريّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ
عَلِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى:
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. الحديثَ".
وفي
هذا الحديثِ وغيرِه ردٌّ على من زَعَمَ أَنَّ الذِّكرَ بالاسمِ المفردِ (
اللهُ ) أفضلُ من الذكرِ بالجملةِ المركَّبةِ، كقولِه: سبحانَ اللهِ،
والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ وهذا فاسدٌ، فإنَّ
الذِّكرَ بالاسمِ المفردِ غيرُ مشروعٍ أصلاً، ولا مفيدٍ شيئاً، ولا هو
كلامٌ، ولا يدلُّ على مدحٍ ولا تعظيمٍ، ولا يتعلَّقُ به إيمانٌ ولا ثوابٌ،
ولا يدخُلُ الذَّاكرُ بهِ عقدَ الإسلامِ جُمْلَةً، فلو قالَ الكافرُ: (
اللهََ اللهَ ) طولَ عُمُرِهِ لم يصِرْ بذلك مسلماً، فضلاً أَنْ يكونَ مِنْ
جُملةِ الذِّكرِ، أو يكونَ أفضلَ الأذكارِ، إلى آخرِ ما ذكرهُ ابنُ
القَيِّمِ - رحمهُ اللهُ - في كتابهِ ( سَفَرُ الهِجْرَتَيْنِ ).
وأمَّا نواقضُ لا إلهَ إلا اللهُ فكثيرةٌ جدًّا، ذكرَها العلماءُ في بابِ حُكمِ المُرتدِّ، وأعظمُها الشّركُ باللهِ.
وأمَّا
إعرابُ هذه الكلمةِ: فـ ( لا ) نافيةٌ للجنسِ تعملُ عملَ إنَّ ( وإلهَ )
اسمُها مبنيٌّ معها على الفتحِ، وخبرُها محذوفٌ، والتَّقديرُ "حقٌّ" و (
إلاّ ) أداةُ استثناءٍ ملغاةٌ, ولفظُ الجلالةِ مرفوعٌ على البَدَلِيَّةِ.
وأمَّا
دَلالتُها على التَّوحيدِ فإنَّها دلَّتْ على أنواعِ التَّوحيدِ
الثّلاثةِ، فدلَّتْ على إثباتِ العبادةِ للهِ ونفيِها عَمَّنْ سواهُ، كما
دلَّتْ أيضاً على توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فإنَّ العاجزَ لا يَصْلُحُ إلهاً،
ودلَّتْ على توحيدِ الأسماءِ والصّفاتِ، فإنَّ مَسْلُوبَ الأسماءِ
والصّفاتِ ليس بشيءٍ، بل هو عدمٌ مَحْضٌ، كما قالَ بعضُ العلماءِ:
المُشَبِّهُ يَعْبُد صَنَماً، والمُعَطِّلُ يعبد عَدَماً، والمُوَحِّدُ
يعبدُ إِلهَ الأرضِ والسَّماءِ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدّينِ ابنُ تيميةَ رحمه اللهُ: وشهادةُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ فيها الإِلَهِيَّاتُ، وهي الأصولُ الثَّلاثةُ:
توحيدُ الرُّبوبيّةِ، وتوحيدُ الألوهيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ.
وهذه الأصولُ الثَّلاثةُ تدورُ عليها أديانُ الرّسلِ وما أُنزِلَ إليهم،
وهي الأصولُ الكبارُ الَّتي دلَّتْ عليها وشهدَتْ بها العقولُ والفِطَرُ".
(4) قولُه: ( وحدَهُ ): فيه تأكيدٌ للإثباتِ. وقولُهُ: ( لا شريكَ لهُ ): تأكيدٌ للنَّفيِ.
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ: تأكيدٌ بعدَ تأكيدٍ؛ اهتماماً ِبمَقَامِ التَّوحيدِ.
وقولُهُ: ( إقراراً به ): أي اعترافاً. وقولُه: ( وتوحيداً ):
مصدرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ تَوْحِيداً، أي: جعَلَهُ واحداً، أي فَرْداً، فهو
بالعبادةِ مع اعتقادِ وحدتِه ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، وسُمِّي دينُ
الإسلامِ توحيداً؛ لأنَّ مبناهُ على أَنَّ اللهَ واحدٌ في ملكِه وأفعالِه،
وواحدٌ في ذاتِهِ وصفاتِه لا نظيرَ له، وواحدٌ في ألوهيّتهِ وعبادتهِ لا
نِدَّ له، وإلى هذه الأنواعِ الثَّلاثةِ ينقسمُ توحيدُ الأنبياءِ
والمرسَلينَ، وهذه الثَّلاثةُ مُتَلازِمَةٌ, كلُّ نوعٍ منها لا يَنْفَكُّ
عن الآخرِ.
فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ:
هو الإقرارُ بأَنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازقُ المُحْيي المميتُ
المدبِّرُ لجميعِ الأمورِ، وهذا النَّوعُ من التَّوحيدِ أَقرَّ بهِ
المشركونَ ولم يُدْخِلْهُم إقرارُهم به في الإسلامِ.
النَّوعُ الثَّاني: توحيدُ الألوهيَّةِ: وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وهذا النَّوعُ هو الَّذي فيه الخُصُومَةُ بين الأنبياءِ وأممِهم.
النَّوعُ الثَّالثُ:
توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ: وهو أَنْ يُوصَفَ اللهُ بما وصفَ به نفسَهُ
وبما وصفَهُ بهِ رسولُه من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ ولا
تمثيلٍ، وإنْ شئْتَ قلتَ: التَّوحيدُ ينقسمُ إلى قسمينِ كما ذكرهُ ابنُ
القيّمِ في (( النُّونيَّةِ )).
( أحدِهما ):
التَّوحيدُ الفِعليُّ، وهو المسمَّى بتوحيدِ الألوهيَّةِ، سُمّيَ
فِعْليّاً: لأنَّه مُتَضمِّنٌ لأفعالِ القلوبِ والجوارحِ، فأفعالُ القلوبِ
كالرَّجاءِ، والخوفِ، والمحبَّةِ، والجوارحِ: كالصَّلاةِ، والزَّكاةِ،
والحجِّ، ونحوِ ذلك، فهو إفرادُ اللهِ بأفعالِ العبيدِ.
( النَّوعِ الثَّاني ):
التَّوحيدُ القوليُّ الاعتقاديُّ، سمّيَ بذلك لاشتمالهِ على أقوالِ
القلوبِ، وهو اعترافُها واعتقادُها، وعلى أقوالِ اللسانِ، وهذا النَّوعُ هو
المسمَّى توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وتوحيدُ الرّبوبيَّةِ.
والتَّوحيدُ القوليُّ ينقسمُ إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: النَّفيُ. والثَّاني: الإثباتُ.
فالنَّفيُ ينقسمُ إلى قسمينِ:
( الأوَّلِ ): نفىُ النَّقَائِصِ والعُيوبِ عن اللهِ.
( والثَّاني ): نفيُ التَّشبيهِ والتَّعطيلِ عن أسمائهِ وصفاتِه.
والثَّاني: الإثباتُ: وهو إثباتُ صفاتِ الكمالِ للهِ، ثمَّ السَّلْبُ أيضاً ينقسمُ إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: سَلْبٌ مُتَّصِلٌ. والثَّاني:
سَلْبٌ مُنْفَصِلٌ، فالأوَّلُ نفيُ ما يُنَاقِضُ ما وَصَفَ به نفسَه، أو
وَصَفَهُ به رسولُه من كلِّ ما يُضادُّ الصّفاتِ الكاملةَ من النَّقائصِ
والعيوبِ؛ كالموتِ والإِعْيَاءِ والنَّومِ والنُّعاسِ والجهلِ والعجزِ،
ونحوِ ذلك. والثَّاني سلبٌ منفصل,ٌ وهو تَنْزِيهُهُ سبحانَهُ عن أَنْ
يشارِكَهُ في خصائِصه الَّتي لا تكونُ لغيرِه، كالشَّريكِ، والظَّهِيرِ،
والشَّفيعِ بِغيرِ إذنِه، ونفيِ الزَّوجةِ والولدِ ونحوِ ذلك.
وأَمَّا
ضدُّ التَّوحيدِ: فتوحيدُ الرّبوبيَّةِضدُّه اعْتقَادُ مُدَبِّرٍ أو خالقٍ
مع اللهِ سبحانه وتعالى، وضدُّ توحيدِ الألوهيّةِ هو الإعراضُ عن
عبادتِهِ، أو عبادةُ غيرهِ معَهُ، وضدُّ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ شيئان:
التَّشبيهُ، والتَّعطيلُ.
(5) قولهُ: ( محمـَّدٌ ):
هذا أحدُ أسمائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيلَ: سُمِّيَ به؛
لكَثرةِ خِصَالِهِ الحَمِيدَةِ، وهو اسمهُ الَّذي في التَّوراةِ، وأمَّا
اسمُه أحمدُ فهو الذي بَشَّرَ به المسيحُ عليه السَّلامُ كما قال سبحانه
وتعالى: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الآية.
قولُه: ( عبدُه ):
أضافَه إِليه إِضافَةَ تشريفٍ وتعظيمٍ، وَوَصْفُهُ بالعبوديّةِ بأشرفِ
أحوالِهِ، مقامُ الإرسالِ والإسراءِ والتّحدِّي، ومعنى العبدِ هنا:
المملوكُ العابدُ، والعبوديَّةُ الخاصّةُ وصفُه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كما قال سبحانه وتعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)
وأعلى مراتبِ العبدِ العبوديّةُ الخاصّةُ والرِّسالةُ، والنَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكملُ الخلقِ في هاتينِ الصّفتينِ الشَّريفتينِ،
وأمَّا الرّبوبيَّةُ والألوهيَّةُ فهما حقٌّ للهِ لا يَشْرَكُهُ فيهما
أحدٌ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مرسَلٌ، فضلاً عن غيرِهما.
وفي قولِه: ( عبدُه ورسولُه ):
إشارةٌ للرّدِّ على أهلِ الإِفْرَاطِ والتَّفريطِ، أهلِ الإفراطِ الَّذين
غَلَوا فيهِ ورفعوُهُ عن مَنْزِلَتِهِ، وارتكبوا ما نهاهمُ النَّبيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغُلُوِّ. وأهلُ التفريطِ الَّذين
يشهدون أَنّه رسولُ اللهِ حقّاً وهم مع ذلك قد نَبَذُوا ما جاءَ به وراءَ
ظهورِهم، واعتمدوا على الآراءِ المُخَالفةِ لما جاءَ بهِ، فإنَّ شهادةَ
أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ تقتضي الإيمانَ به، وطاعتَه فيما أمرَ وتصديقَهُ
فيما أخبرَ، فما أثبتهُ وَجَبَ إثباتُه، وما نَفاهُ وَجَبَ نَفيُه،
فشهادةُ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ كما تقتضي الإيمانَ بهِ تقتضي الإيمانَ
بجميعِ الرّسلِ؛ لما بينهُما من التَّلازُمِ، وكذلك الكتُبُ الَّتي جاءَتْ
بها الرُّسلُ.
الروضة الندية للشيخ: زيد بن
عبد العزيز بن فياض رحمه الله
قال الشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ت: 1416هـ): ( ((الحَمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وكَفَى باللهِ شَهِيداً)) .
قالَ تعَالى :{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} .
والحمد ُ: إخبارٌ عن مَحَاسِنِ المحمودِ
مَعَ حُبِّهِ وتعظيمِهِ وإجلالِهِ ، وقالَ العَلاَّمةُ ابنُ القيِّمِ
رَحِمَهُ اللَّهُ : وإثباتُ الحمدِ الكاملِ له يقتضي ثُبُوتَ كُلِّ ما
يُحْمَدُ عليه مِنْ صفاتِ كمالِهِ ونُعُوتِ جلالِهِ ، إذْ مَن عَدِمَ صفاتِ
الكمالِ فلَيْسَ بمحمودٍ على الإطلاقِ ، وغايتُهُ أنَّهُ محمودٌ مِنْ
وَجْهٍ دونَ وَجْهٍ ولا يكونُ محموداً مِنْ كُلِّ وجهٍ وبِكُلِّ اعْتِبَارٍ
بجميعِ أنواعِ الحمدِ إلاَّ مَنِ استولَى على صفاتِ الكمالِ جميعِهَا ،
فَلَوْ عَدِمَ منها صفَةً واحدةً لنَقَصَ مِن حمْدِهِ بحَسَبِهَا .
وقالَ الشَّيْخُ : والحمدُ نَوعانِ
: حمْدٌ على إحسانِهِ إلى عِبادِهِ وهو مِنَ الشُّكْرِ ، وحمْدٌ لِمَا
يَسْتَحِقُّهُ هو بنفْسِهِ مِن نُعوتِ كمالِهِ. وهذا الحمدُ لا يكونُ إلاَّ
على ما هو في نفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلحمْدِ ، وإنَّما يَسْتَحِقُّ ذلك
مَنْ هو متَّصِفٌ بصِفاتِ الكمالِ ، وَهِيَ أمورٌ وُجوديَّةٌ . فإنَّ
الأُمورَ العدَميَّةَ المَحْضةَ لا حمْدَ فيها ولا خيْرَ ولا كمالَ .
ومعلومٌ أنَّ كُلَّ ما يُحْمَدُ فإنَّما
يُحْمَدُ على ما له مِن صفاتِ الكمالِ ، فَكُلُّ ما يُحْمَدُ به الْخَلْقُ
فهو مِنَ الخالِقِ . والذي منه ما يُحْمَدُ عليه هو أحَقُّ بالحمْدِ .
فثَبَتَ أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلمَحامِدِ الكامِلةِ ، وهو أحَقُّّ مِن
كُلِّ محمودٍ اهـ .
قولُهُ :(الذي أرْسَلَ رَسولَهُ)
. يعنِي مُحَمَّداً صلَّى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ، والرَّسولُ : هو إنسانٌ
ذَكَرٌ أُوحِيَ إليه بشَرْعٍ وأُمِـرَ بتبليغِهِ، فإنْ أُوحِيَ إليه ولم
يُؤمَرْ بالتَّبليغِ فهو نَبِيٌّ ."والهُدَى". هو ما جَاءَ به النَّبيُّ
صلَّى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ القَوِيمِ ، والدِّينِ
الكامِلِ ، وما أُنْزِلَ عليه مِنَ القرآنِ الذي به حياةُ القُلوبِ
وهِدَايةُ الخَلْقِ ، قَالَ ابنُ كَثِيرٍ : الهُدى هو ما جَاءَ به النبيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإخْبارَاتِ الصَّادِقةِ ،
والإيمانِ الصَّحِيحِ ، والعِلْمِ النَّافِعِ ، والعمَلِ الصَّالحِ . فإنَّ
الشَّريعةَ تشتمِلُ على شَيْئَيْنِ : عِلْمٌ ، وعَمَلٌ . فالعِلْمُ
الشَّرْعِيُّ صحيحٌ، والعمَلُ الشَّرْعيُّ مقبولٌ فإخباراتُها حقٌّ ،
وإنشاءَاتُها عَدْلٌ ؛ "لِيُظهرَهُ" . لِيُعْليَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ ،
أيْ : على أهْلِ جميعِ الأديانِ مِنْ أهْلِ الأرضِ مِن عَرَبٍ وعَجَمٍ ،
وَمِلِّيِّينَ ومُشْرِكينَ ، "وكفَى باللَّهِ شهيداً" . أَيْ : أنَّهُ
نَاصِرٍُِهُ .
وقالَ ابنُ القَيِّمِ : فقدْ تكفَّلَ
اللَّهُ لِهذا الأمـرِ بالتَّمامِ والإظهارِ على جميـعِ أديانِ أهلِ الأرضِ
. فَفِي هذا تقْوِيةٌ لِقُلوبِهِمْ، وبِشَارةٌ لَهُمْ، وتثْبِيتٌ لَهُمْ،
وأنْ يكونوا على ثِقَةٍ مِن هذا الوَعدِ الذي لا بُدَّ أنْ يُنجِزَهُ فَلا
تَظُنُّوا ما وَقَعَ مِنَ الْإِغْمَاضِ والقَهْرِ يَوْمَ الحُدَيْبِيةِ
نُصْرةً لِعَدُوِّهِ ولا تخَلِّياً عَن رَسُـولِهِ ودِينِهِ. كيفَ وقدْ
أرسلَهُ بِدِينِهِ الحَقِّ، ووَعدَهُ أَن يُظْهِـرَهُ على كُلِّ دِينٍ
سِوَاهُ .اهـ .
(وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ إِقْرَاراً بِه وتَوْحِيداً)
أيْ : أشهدُ شَهادةً عن عِلْمٍ ويقِينٍ وعَمَلٍ بمَدْلولِ هذه الكلمةِ
العظيمةِ ومُقْتضاها مِن إثباتِ الوَحْدَانيَّةِ للهِ ، فكَمَا أنَّه
واحِدٌ في رُبُوبِيَّتِهِ ، وتَدْبيرِهِ لِلكَوْنِ ، فكذلك هو واحدٌ في
إلهِيَّتِهِ، وهو المستحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لا شريكَ له ، وأنْ
يُفْرَدَ بصِفاتِ الكمالِ ، ونُعُوتِ الجَلالِ ، وأنْ يُنَزَّهَ عن كُلِّ
نقْصٍ وعَيْبٍ .
وفي قولِهِ :"وحْدَهُ" تأكيدٌ للإثْباتِ ،
وقولِهِ :"لا شريكَ له" . تأكيدٌ للنَّفْي ، قالَهُ الحافِظُ . وقَالَ
أيضاً : وحْدَهُ لا شريكَ له تأكيداً بعدَ تأكيدٍ اهْتِمَاماً بمَقامِ
التَّوْحيدِ .
وقدْ شهِدَ اللهُ لنفْسِهِ بالوحدانيَّةِ .
في قولِهِ :{شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ
الْعِلْمِ قَآئِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} .
فقدْ تضمَّنَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ :
إثباتَ حقيقةِ التوحيدِ، والرَدَّ على جميعِ طوائفِ الضَّلالِ ، فتضمَّنَتْ
أَجَلَّ شَهادةٍ وأعْظَمَها وأعْدَلَها وأصْدَقَها مِن أَجَلِّ شاهِدٍ
بأَجَلِّ مَشهودٍ به، وعِباراتُ السَّلَفِ في (شَهِدَ) تَدورُ على الحُكْمِ
والقضاءِ وَالإعلامِ والبيانِ ، والإخبارِ . وهذه الأقوالُ كلُّها حقٌّ لا
تنافِيَ بَيْنَها، فإنَّ الشَّهَادةَ تتضمَّنُ كلامَ الشَّاهدِ وخَبَرَهُ ،
وتتضمَّنُ إعلامَهُ وإخبارَهُ وبيانَهُ ، فلها أربعُ مَراتِبَ :
( فأوَّلُ مَراتِبِها ) عِلْمٌ ، ومَعْرِفَةٌ ، واعتِقادٌ لِصِحَّةِ المَشهودِ به وثُبُوتِهِ .
( وثانِيها ) تكلُّمُهُ بذلك ، وإنْ لم يَعْلَمْ به غيرُهُ ، بلْ يتكلَّمُ بِها مَعَ نفْسِهِ ، ويتذكَّرُها وينطِقُ بها أو يكتُبُها .
( وثالِثُها ) أنْ يُعْلِمَ غيرَهُ بِما يَشهدُ بهِ ويُخْبِرَهُ به ، ويُبَيِّنَهُ له .
( ورابِعُها )
أنْ يُلْزِمَهُ بمَضمُونِها ، ويأْمُرَهُ به ، فشهادةُ اللهِ سُبْحانَهُ
لِنَفْسِهِ بالوحدانيَّةِ والقيامِ بالقِسْطِ تضمَّنَتْ هذه المَرَاتِبَ الأربعَ : عِلْمَهُ بذلك سبحانَهُ ، وتكلُّمَهُ به ، وإخبارَهُ لخَلْقِهِ به ، وأمْرَهُمْ وإلزامَهُمْ به .
أمَّا مَرْتَبَةُ العِلْمِ فإنَّ
الشَّهادةَ تتضمَّنُها ضَرورةً ، وإلاَّ كان الشَّاهِدُ شاهِداً بما لا
عِلْمَ له به ، قَالَ تَعَالَى :{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"على مِثْلِهَا فاشْهَدْ" وأشَارَ إلى الشَّمْسِ .
وأمَّا مَرْتَبةُ التَّكَلُّمِ والخَبَرِ ، فَقَالَ تَعَالَى : {وَجَعَلُوا
الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}. فجُعِلَ ذلك منهم شَهادةً ، وإنْ لم يتلفَّظُوا بلَفْظِ الشَّهَادةِ ، ولم يُؤَدُّوها عندَ غيرِهِمْ .
وأمَّا مرتبةُ الإعلامِ والإخبارِ فنَوْعانِ :
إعلامٌ بالقولِ ، وإعلامٌ بالفعلِ ، وهذا شأنُ كُلِّ مُعْلِمٍ لغيرِهِ
بأمْرٍ ، تارَةً يُعْلِمُهُ به بِقوْلٍ ، وتارةً بفِعْلٍ ، ولهذا كان مَن
جَعَلَ دارَهُ مسجداً وأبْرَزَها ، وفتَحَ طريقَها ، وأَذِنَ للناسِ
بالدُّخولِ والصَّلاةِ فيها ، مُعْلِماً أنَّها وَقْفٌ وإنْ لم يتلفَّظْ
به، وكذلك مَنْ وُجِدَ متقَرِّباً إلى غيرِهِ بأنواعِ المَسارٍٍِِّ يكونُ
مُعْلِماً له ولغيرِهِ أنه يُحِبُّهُ، وإن لم يتلفَّظْ بقوْلِهِ، وكذلك
بالعكسِ .
وكذلك شهادةُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ،
وبيانُهُ ، وإعلامُهُ يكون بقوْلِهِ تارةً ، وبفِعْلِهِ أُخرى ، فالقوْلُ
ما أرْسَلَ به رُسلَهُ وأنزَلَ به كُتُبَهُ .
وأمَّا بيانُهُ وإعلامُهُ بفِعْلِهِ ،
فكَمَا قاله ابنُ كَيْسَانَ : شَهِدَ اللَّهُ بتَدْبيرِهِ العجيبِ ،
وأمورِهِ المُحْكَمَةِ عِند خَلْقِهِ أنَّه لاَ إلهَ إلاَّ هو . وقَالَ
آخَرُ :
وَفِي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ تدُلُّ على أنَّه وَاحِدُ
ومِمَّا يدُلُّ على أنَّ الشَّهادةَ تكونُ بالفِعْلِ قولُهُ تَعَالَى :{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}
، فهذه شَهادةٌ منهم على أنفُسِهِمْ بما يَفعلُونَهُ ، والمقصودُ أنَّه
سبحانَهُ يَشْهَدُ بما جعَلَ آياتِهِ المَخلُوقاتِ دالَّةً عليه ،
ودَلالَتُها إنَّما هي بخَلْقِهِ وجَعْلِهِ .
وأمَّا مرتبةُ الأمرِ بذلك، والإلزامِ به،
وأنَّ مُجَرَّدَ الشَّهادةِ لا يستلْزِمُهُ، لكنَّ الشَّهادةَ في هذا
الموضعِ تدُلُّ عليه وتتضمَّنُهُ . فإنَّه سبحانَهُ شَهِدَ به شهادةَ مَنْ
حَكَمَ به وَقَضَى ، وأَمَرَ ، وألْزَمَ عِبادَهُ كما قَالَ تَعَالَى :{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}. وقَالَ اللهُ تَعَالَى : {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ}. وقَالَ تَعَالَى : {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً}، {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً} ، {لاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} .
والقرآنُ كلُّه شاهِدٌ بذلك ، ووَجْهُ
استِلْزَامِ شَهادَتِهِ سبحانَهُ لذلك أنَّه إذا شَهِدَ أنَّه لاَ إِلهَ
إلاَّ هو ، فقدْ أخْبَرَ ونَبَّأَ وأَعْلَمَ وحَكَمَ وقَضَى أن ما سِوَاهُ
لَيْسَ بإلهٍ، وأنَّ إلهيَّةَ ما سِواهُ باطِلةٌ، فلا يستحِقُّ العِبادةَ
سِواهُ، كما لا تصلُحُ الإلهيَّةُ لغيرِهِ، وذلك يَسْتَلْزِمُ الأمْرَ
باتِّخاذِهِ وحدَهُ إلهاً، والنَّهْيَ عن اتِّخاذِ غيرِهِ معه إلهاً، وهذا
يَفهمُهُ المُخَاطَبُ من هذا النَّفْيِ والإثباتِ، فاللهُ سُبحانه لا
شَريكَ له في أيِّ نوْعٍ من أنواعِ التَّوْحِيدِ .
والتَّوْحِيدُ نَوْعانِ : نَوْعٌ في العِلْمِ والاعْتِقادِ ، ونَوْعٌ في الإرادةِ والقَصْدِ ، ويُسمَّى الأوَّلُ : التَّوْحِيدَ العِلْمِيَّ ، والثَّاني : التَّوْحِيدَ القَصْدِيَّ الإرادِيَّ ؛ لِتعلُّقِ الأوَّلِ بالأخبارِ والمعرفةِ ، والثَّاني بالقَصْدِ والإرادةِ ، وهذا الثَّاني أيضاً نوْعانِ : توحيدٌ في الرُّبوبيَّةِ ، وتوحيدٌ في الإلهيَّةِ . فهذه ثلاثةُ أنواعٍ .
قَالَ ابنُ القيِّمِ : وأمَّا التَّوْحِيدُ الذي دَعتْ إليه الرُّسُلُ ، ونزلَتْ بهِ الكُتُبُ فهو نَوْعانِ : توحيدٌ في المعرفةِ والإثباتِ، وتوحيدٌ في الطَّلَبِ والقَصْدِ . فالأوَّلُ :
هو إثباتُ حقيقةِ ذاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وصِفاتِهِ، وأفْعالِهِ ،
وأسْمائِهِ ، وتكَلُّمِهِ بكُتُبِهِ وتكْلِيمِهِ لِمَن شاءَ مِن عِبادِهِ،
وإثباتِ عُمومِ قَضائِهِ وقَدَرِهِ وحِكْمَتِهِ ، وقدْ أفْصَحَ القُرْآنُ
عن هذا النوعِ جِدَّ الإفْصاحِ ، كما في أَوَّلِ سُورةِ الحَديدِ ، وسُورةِ
طه ، وآخِرِ سُورةِ الحشرِ ، وأوَّلِ "تنزيلُ" السجدةِ ، وأوَّلِ آلِ
عِمْرانَ ، وسُورةِ الإخْلاصِ بكَمَالِها وغيرِ ذلك .
النَّوْعُ الثَّاني : ما تضمَّنَتْهُ سُورةُ {قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}و{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ
اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وأَوَّلُ سُورةِ "تنزيلُ
الكتابِ"، وآخِرُها، وأوَّلُ سُورةِ المُؤْمِنِ، ووسَطُها وآخِرُها،
وأوَّلُ سُورةِ الأعرافِ وآخِرُها، وجُمْلَةُ سُورةِ الأنْعامِ، وغَالِبُ
سُوَرِ القرآنِ، بلْ كُلُّ سُورةٍ في القرآنِ فهي متضَمِّنَةٌ لِنَوْعَيِ
التَّوْحِيدِ ، شاهِدَةٌ به ، داعِيَةٌ إليه . فإنَّ القرآنَ إمَّا خَبَرٌ
عن اللَّهِ وأسمائِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأقْوالِهِ ، فهو التَّوْحِيدُ
العِلْمِيُّ الخَبَرِيُّ ، وإمَّا دعْوةٌ إلى عِبادةِ اللَّهِ وحْدَهُ لا
شريكَ له ، وخَلْعُ عِبادةِ ما يُعْبَدُ من دُونِهِ ، فهو التَّوْحِيدُ
الإراديُّ الطَّلَبيُّ ، وإمَّا أمْرٌ ، ونَهْيٌ ، وإلْزَامٌ بِطاعتِهِ
وأمْرِهِ ونهْيِهِ ، فهوَ مِن حُقوقِ التَّوْحِيدِ ومُكَمِّلاتِهِ ، وإمَّا
خَبَرٌ عن إكْرامِ أهْلِ التَّوْحِيدِ ، وما فَعَلَ بهم في الدُّنْيَا ،
وما يُكْرِمُهمْ به في الآخِرةِ فهو جزاءُ توحيدِهِ ، وإمَّا خَبَرٌ عن
أهْلِ الشِّرْكِ وما فَعَلَ بهم في الدُّنْيَا مِن النَّكالِ ، وما يَحِلُّ
بهم في العُقْبى مِن العذابِ فهو جزاءُ مَن خَرَجَ عن حُكْمِ التَّوْحِيدِ
. فالقرآنُ كلُّه في التَّوْحِيدِ وحُقوقِهِ وجزائِهِ ، وفي شأْنِ
الشِّرْكِ وأهْلِهِ وجزائِهِم . اهـ .
{وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيداً} .
رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ :"كُلُّ كلامٍ لا يُبدأُ فيه بحمْدِ اللهِ
والصَّلاةِ علَيَّ فهو أقطَعُ أَبْتَرُ، مَمْحُوقُ البَركةِ" . ومِن
مَواطِنِ الصَّلاةِ عليْه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةُ
عليْه عندَ كُلِّ كلامِ خَيْرٍ ذِي بالٍ ، فإنَّهُ يُبْتدأُ بحمْدِ اللهِ
والثَّنَاءِ عليه ، ثُم بالصَّلاةِ على رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم يذْكُرُ كَلامَهُ بَعْدَ ذلك .
وأعْلَى ما يُوصَفُ به العبدُ مَرْتبةُ
العُبوديَّةِ والرِّسالةِ ، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمَلُ
الخَلْقِ في ذلك . فكَمالُ المَخْلوقِ في تحقيقِ عُبوديَّةِ اللَّهِ
تَعَالَى ، وكُلَّما ازدادَ العبدُ تحقيقاً للعُبوديَّةِ ازْدَادَ كمالُهُ
وعَلَتْ دَرَجتُهُ ، ومَن تَوَهَّمَ أنَّ المَخْلُوقَ يخرُجُ عن
العُبوديَّةِ بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ، وأنَّ الخُروجَ عنها أكمَلُ فهو مِن
أجْهَلِ الخلْقِ وأضَلِّهِمْ . قَالَ تَعَالَى : {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ}. إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ. وذَكَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ باسْمِ العبدِ في أشْرَفِ المَقاماتِ، فَقَالَ في ذِكْرِ الإسراءِ : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}، وقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}. وقَالَ تَعَالَى : {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، وقَالَ : {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}.
وبذلك استحَقَّ التَّقْدِيمَ على النَّاسِ في الدُّنْيَا والآخِرةِ ؛
ولذلك يقولُ المَسِيحُ عليه السَّلامُ يَوْمَ القِيامةِ إذا طَلَبُوا منه
الشَّفَاعةَ بعدَ الأنبياءِ . اذْهَبُوا إلى مُحمَّدٍ عبدٍ غُفِرَ له ما
تقدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ . فحَصلَتْ له تلك المَرْتبةُ بتكميلِ
عُبوديَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى . اهـ .
قولُهُ : "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
صلاةُ اللَّهِ على نبِيِّهِ أنْ يُثْنِيَ عليه في المَلأِ الأعْلَى عندَ
الملائكةِ ، هذا هو الذي عليْه المُحَقِّقُونَ ، ونَصَرَهُ الشَّيْخُ
وتلميذُهُ ابنُ القيِّمِ ، وصوَّبَهُ الشَّيْخُ المُجَدِّدُ مُحَمَّدُ بنُ
عَبْدِ الوَهَّابِ رحِمَهُمُ اللَّهُ . وقدْ يُرادُ بهذا الدُّعاءِ كمَا في
المُسْنَدِ عن عَلِيٍّ مَرْفُوعاً : "الملائكةُ تُصلِّي على أحدِكُم ما
دامَ في مُصَلاَّهُ . اللهُمَّ اغْفِرْ له ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ" .
والمشهورُ عندَ كثيرٍ مِن المُتأخِّرينَ أنَّ الصَّلاةَ مِن اللَّهِ بمعنى
الرَّحْمَةِ ، وقِيلَ : بمَعْنَى المَغْفِرةِ .
قَالَ ابنُ القيِّمِ : وهذا القولُ مِن جِنْسِ الذي قبْلَهُ ، وهُما ضَعيفانِ . اهـ .
(وعلى آلِهِ وصحْبِهِ)
، آلُ الشَّخصِ هُمُ القَوْمُ المُنْتَمُونَ إليه الذينَ تجمَعُهم به
صِلَةٌ وثيقةٌ مِن قَرابةٍ ونحوِها ، وأحسنُ الأقوالِ في آلِ النبيِّ صلَّى
اللهُ عليْهِ وسلَّمَ أنَّهم أَتْباعُهُ على دِينِهِ . قَالَ في
"القامُوسِ" : آلُهُ : أهْلُ الرجُلِ وأتباعُهُ وأوْلِياؤُهُ ولا
يُسْتَعْمَلُ إلاَّ فيما فيه شرَفٌ غالِباً ، فلا يُقالُ : آلُ الإسْكافِ
كما يُقالُ أهْلُهُ ، قَالَ : وأصلُهُ : أهْلٌ أُبْدِلَ الهاءُ همْزةً
فصارَتْ أَأْلُ ، تَوَالَتْ هَمْزتانِ ، فأُبْدِلَتِ الثَّانيةُ ألِفاً ،
تَصغيرُهُ : أُوَيْلٌ وأُهَيْلٌ . اهـ .وعَطْفُ الصَّحْبِ على الآلِ مِن
عَطْفِ الخاصِّ علَى العَامِّ . وَالصَّحَابيُّ هو مَن لَقِيَ النبيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِناً وماتَ علَى ذلك.
وسَلَّمَ تسْلِيماً مَزِيداً . هاتانِ
جُمْلتانِ خبَرِيَّتانِ لفْظاً، إنْشائِيَّتانِ معْنًى ، أعْنِي قَوْلَ
المُؤَلِّفِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وجمَعَ بينَ الصَّلاةِ والسَّلامِ : اقْتِداءً بالآيةِ الكَريمةِ : {إِنَّ
اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
والسَّلامُ هو طلَبُ السَّلامةِ مِن كُلِّ
مَكْروهٍ ، والسَّلامُ اسْمٌ مِن أسماءِ اللَّهِ، وحقيقةُ هذه اللفْظَةِ
البراءةُ والخلاصُ والنَّجَاةُ مِن الشَّرِّ والعُيوبِ وعلى هذا المعْنَى
تدُورُ جَميعُ تصارِيفِها. اهـ.
شرح العقيدة الوسطية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( مفرغ )
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (قال
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن
محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
تسليما كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد... فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم
النافع والعمل الصالح وأن ينور بصائرنا بالعلم والهدى وأن يقيم أعمالنا
بدين الحق الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن هذا الدرس -الذي أسأل الله جل وعلا أن يتمِّمه- ألا وهو شرح هذه
العقيدة الواسطية التي ألفها شيخ الإسلام والمسلمين علم الدين وتقي الدين
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي
الإمام المعروف المتوفى سنة 728 -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة. كتبها-
كتب هذه العقيدة- إلى أهل واسط يبين لهم فيها اعتقاد الفرقة الناجية
المنصورة أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة ومن تبعهم على هذا الاعتقاد
إلى وقته رحمه[ الله تعالى.
وهذه الرسالة على وجازتها واختصارها قد اعتنى بها العلماء بعد شيخ الإسلام
-رحمه الله- لأنها قد شملت من أصول عقائد أهل السنة والجماعة على الخلاصة
الوافية] فقد ذكر فيها -رحمه الله- كل أصول الاعتقاد، ذكر فيها شرح أركان
الإيمان الستة وذكر فيها ما يجب لله جل وعلا من صفات الكمال وما يوصف الله
جل وعلا به، والأصل في ذلك و مخالفة المبتدعين والضالين في باب الأسماء
والصفات وذكر ما يتصل بذلك من الإيمان بالأمور الغيبية والإيمان بالكتب
والرسل وبالقدر خيره وشره وبيَّن أن من أصول أهل السنة والجماعة الأحكام
المتعلقة بالإمامة العظمى وكذلك بما يجب لولاة الأمر من حق السمع والطاعة
مخالفة للخوارج وأشباههم ممن خالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك وذكر اعتقاد
السلف الصالح في صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن ذلك
من الواجبات الشرعية الاعتقادية لأن فيه مخالفة لأهل البدع من الروافض ومن
شابههم الذين لا يتولّون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر
أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر أحكام أو أصول الأخلاق عند
أهل السنة والجماعة، وبهذا الذي ذكره في هذه الرسالة العظيمة المختصرة
يتبين أن اعتقاد أهل السنة والجماعة يشمل ثلاثة أصول:
الأول: العقيدة العامة في الله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
ثم مسائل الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا هو الثاني: الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلام فيما يتصل بذلك من الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم.
ثم الثالث،
الأصل الثالث من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة: الكلام في أخلاق
أهل السنة والجماعة, وهذه هي الأمور الثلاثة التي فصل فيها شيخ الإسلام
-رحمه الله- في هذه الرسالة العظيمة.
وهذه الرسالة وجيزة ألفاظها لكن هي مدرسة للعلم باعتقاد أهل السنة والجماعة
وبمنهج أهل السنة والجماعة. وذلك الاعتقاد تفصيله في كتب شيخ الإسلام
-رحمه الله تعالى- فكتب شيخ الإسلام -رحمه الله- تعد شرحاً لهذه العقيدة
الواسطية. فأحسن شرح لهذه العقيدة ما نثره شيخ الإسلام-رحمه الله- في كتبه
وفصّله وبيّنه من أصول هذا الاعتقاد وكذلك تلميذه العلامة ابن القيم -رحمه
الله تعالى- إذ لا أحسن في فهم كلام شيخ الإسلام من شرحه هو نفسه في
مصنفاته الأخرى وكذلك في فهم تلميذه ابن القيم رحمه الله جل وعلا.
هذه الرسالة لها شروح كثيرة كما هو معلوم هذه العقيدة المباركة لها شروح
كثيرة ومن أعظمها نفعاً وأدقها لفظاً الشرح المسمى بـ(التنبيهات السنية على
العقيدة الواسطية) للشيخ العلامة عبد العزيز ابن رشيد -رحمه الله تعالى-
فإن هذا الشرح من أنفس شروح هذه العقيدة الواسطية؛ فقد بين من مسائل هذه
العقيدة ومن ألفاظها ما يكفي طالب العلم في هذا الباب، أعني باب الاعتقاد؛
لأنه ذكر فيها من العلم الواسع الغزير ما لو اكتفى به طالب علم في بيان
عقيدة أهل السنة والجماعة لكفاه، ولهذا أحضُّ من أراد شرحا لهذه العقيدة
على هذا الكتاب ألا وهو: ( التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية ) للشيخ
ابن رشيد رحمه الله تعالى.
من المقدمات المهمة قبل الشروع في شرحٍ لهذه العقيدة أن نبيّن أن هذه
العقيدة المباركة وكذلك سائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -بيّن فيها عقيدة
السلف وفصل فيها ما ذكره السلف في كتبهم من الاعتقاد، وكُتب شيخ الإسلام
تتميز على كتب السلف، يعني من كُتب أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم ومن تلاهم
زمناً تتميز هذه العقيدة وسائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عن تلكم الكتب
الكثيرة في الاعتقاد بمزايا منها:
أن شيخ الإسلام -رحمه الله- قد فهم ما قاله الأئمة من قبل فصاغه بصياغة تجمع أقوالهم بأدلتها وببيان معانيها فهو خير من فهم كلام الأئمة من قبل، ومن مزاياه
أعني مزايا كلام شيخ الإسلام في الاعتقاد, أنه رحمه الله تعالى قد بلغ في
فهم نصوص الكتاب والسنة المبلغ والدرجة التي شهد له بها أهل عصره ومن
تلاهم، ومن المعلوم أن أدلة الاعتقاد هي نصوص الكتاب والسنة ثم هو مع هذا
اطَّلع على كلام الصحابة وكلام التابعين ومن تبعهم في تفسير معاني نصوص
الكتاب والسنة، ولهذا كلام شيخ الإسلام في بيان معاني الكتاب والسنة يعد
أحسن كلام للعلماء المتأخرين يعني بعد الأئمة المشهورين.
ومن مزايا كلام شيخ الإسلام وهذه العقيدة أيضاً
أن شيخ الإسلام استحضر حين كتابتها استحضر أقوال أهل البدع والمخالفين
وحججهم فهو يذكر ما يذكر من الاحتجاجات مستحضراً تلك الأقوال وتلك
الاعتراضات من أهل البدع أو تلكم الأقوال المنحرفة من أهل البدع على اختلاف
أنواعهم، ومعلوم أن حال الكاتب أو المؤلف الذي يؤلف وهو على هذه الدرجة
العظيمة من الاستحضار أن كلامه يكون مُنبأ عمَّا يكون فصلاً في هذه
المسائل.
ومن مميزات هذه العقيدة وكذلك سائر كتب شيخ
الإسلام -رحمه الله- أن شيخ الإسلام أوضح فيها كثيراً من المجملات التي
ربما كانت في كلام السلف، وقد تجد في كلام المتقدمين من أهل القرون المفضلة
كلاماً في الاعتقاد ربما أُجمل في مواضع وفصّل في مواضع, وشيخ الإسلام
يستحضر هذا وذاك ويذكر الكلام المجمل والمفصل كلٌ في مكانه ويوضح ذلك بحيث
إن من فهم كلام شيخ الإسلام وفهم كتب شيخ الإسلام -رحمه الله- ثم بعد فهمه
لذلك وبراعته فيه رجع إلى كتب السلف فإنه يفهمها فهماً مصيباً, فهماً على
ما ينبغي، وأما من ترك التفقه في كتب شيخ الإسلام -رحمه الله- فربما زلّ في
فهمه لبعض كلام السلف وكلام الأئمة؛ لأن بعضهم ربما وقع في كلامه إجمال أو
وقع في كلامه رعاية لحال السائل أو نحو ذلك من الأسباب التي لا يمكن
المجيب معها أن يفصّل التفصيل المطلوب؛ لهذا نقول أن العناية بهذه العقيدة
مما حثَّ عليه العلماء قديماً وحديثاً فلا غرو أن أوصي إخواني -وفقهم الله
تعالى للخير- بهذه العقيدة وبفهم ألفاظها ومعاني الألفاظ ومعاني ما فيها من
الأدلة والاستدلال والحجج لأن فيها خيراً عظيماً.
قال- رحمه الله- تعالى في فاتحة هذه العقيدة المباركة: (الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً)
ابتدأ رحمه الله هذا الكتاب وهذه الرسالة بالثناء على الله بأنه هو المستحق
لجميع أنواع المحامد؛ لأن كلمة الحمد كما سبق أن أوضحت في غير هذا الدرس
هي مكونة من الألف واللام التي تدل على استغراق الجنس أو الأجناس وكلمة (حمد) ويكون معنى الحمد معناه جميع أجناس المحامد هي لله جل وعلا استحقاقاً فقوله هنا: (الحمد لله) أفادنا أن كل أنواع المحامد لله جل وعلا وقد ذكرت لك فيما مضى أن أنواع المحامد لله جل وعلا كثيرة تجتمع في خمسة وهي:
حمده جل وعلا على تفرّده بالربوبية دون مشارك له فيها وآثار الربوبية في خلقه أجمعين،
حمده جل وعلا على كونه ذا الألوهية على خلقه أجمعين وأنه المستحق للعبادة وحده دونما سواه،
حمده جل وعلا على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا،
حمده جل وعلا على شرعه وأمره ودينه،
حمده جل وعلا على قضائه وقدره وما أجرى في كونه،
وهذه هي أنواع المحامد أو جِماع أنواع المحامد وقد مرت بك مفصَّلة في أول شرح زاد المستقنع في الأسبوع الماضي.
وقوله هنا: (لله) اللام هنا للاستحقاق فإذا كان
ما قبل اللام من المعاني لا من الأعيان فإنها تفيد الاستحقاق وقد يكون مع
الاستحقاق المِلك والله جل وعلا له جميع أنواع المحامد استحقاقاً يستحقها
وهو جل وعلا مالك لها فله جميع المحامد مِلكاً واستحقاقاً مُلكاً له
واستحقاقاً له جل وعلا.
وقوله هنا: (الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) هذا اقتباس من آية في آخر سورة الفتح وهي قوله تعالى {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا }،
والهدى هو العلم النافع مما جاء في الكتاب والسنة، الله جل وعلا أرسل
رسوله بالهدى وهو العلم النافع سواء في ذلك ما كان من باب الأخبار وهي
أبواب الاعتقاد أو من باب الأمر والنهي، وهذا كله العلم النافع الذي يورث
الهدى وهو هدى في نفسه يعني مرشداً ودالاً على الطريق التي هي أقوم وكذلك
يورث الهدى الكامل في الدنيا وفي الآخرة، وأما دين الحق: فقد فسرها السلف
بأنه العمل الصالح الأعمال النافعة، الأعمال الصالحة للمؤمن في نفسه وللناس
في أنفسهم وكما يقال للمجتمعات وللأمم بأجمعها، الله جل وعلا أرسل رسوله
بالهدى يعني بالعلم النافع وبدين الحق الذي هو العمل الصالح وكفى بالله
شهيدا، كفى بالله شهيدا على ما ذكر فالله جل وعلا هو الذي شهد بأن ما بعث
به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الهدى وهو دين الحق وشهادة
الله جل وعلا فوق كل شهادة؛ إذ لا أعلم من الله ولا شاهد يُكتفى به إلا
الله جل وعلا في هذه المسائل العظيمة أو ما أوحى به إلى رسوله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن أتته شهادة الله جل وعلا كفى بها شهادة.
إذا كان كذلك فمن المتقرر أن نصوص الكتاب والسنة التي وصفت في هذه الآية
بأنها الهدى قد اشتملت على أنواع الأخبار التي هي في الأمور الغيبية عن
الله جل وعلا وعن أسمائه وصفاته وعمَّا يكون في يوم المعاد من الأمور
الغيبية، وإذا كانت هذه النصوص في هذه الأمور الخبرية وكذلك ما أخبر به
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأمور قد وصفها الذي يُكتفى
بشهادته بأنها هدى فيُعلم منه أن من لم يرضى بكون هذه النصوص وما دلت عليه
-الهدى الكامل والشفى الكامل فإنه يتضمن ذلك أنه لم يكتفِ بشهادة الله جل
وعلا. وهذا هو ما صنعه الذين سلكوا مسلك البدع من أنواع الفرق كالخوارج
والمرجئة والقدرية والمعتزلة والجهمية والأشاعرة والماتُريدية فإن كل فرقة
من هذه الفرق لم ترتض نصوص الكتاب والسنة ولم تجعلها كافية بل أعملت في ذلك
إما بعقولها أو بأقيسة ضالة, فمن أخذ بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وهي
القاعدة العظيمة في الاعتقاد بأننا لا نتجاوز في الاعتقاد القرآن والحديث
كما قال الإمام أحمد بهذا الأصل قال: (نُمرها كما جاءت) أي في نصوص الصفات (لا نتجاوز القرآن والحديث)
يعني لا نتأول كما تأول المتأولة ولا نعطل كما عطل المعطلة ولا نشبه أو
نمثل كما مثل المجسمة أو مثل الممثلة وإنما لا نتجاوز القرآن والحديث؛ وذلك
لأن أهل السنة قد اكتفوا بشهادة الله جل وعلا في هذه الآية بأن ما أرسل به
رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الهدى وهو دين الحق فقبلوه ولم
يتجاوزوا القرآن والحديث..
قال بعد ذلك (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً) وهذه تحتاج إلى شيء من التفصيل وذلك أن قوله هنا: (وأشهد)
هذه الشهادة معناها الاعتراف والإقرار الذي يتبعه إعلام وإخبار؛ لأن
الشهادة تشمل اعتقاد القلب وإخبار اللسان, فمن اعتقد بقلبه دون أن يتكلم
بلسانه لم يُعَدَّ شاهداً ومن تكلم بلسانه كحال المنافقين ولم يعتقد بقلبه
لم يكن شاهداً بما دلت عليه كلمة التوحيد، إذاً الشهادة في قولـه: (وأشهد)
يعني أعتقد وأعترف وأقرّ لله بأنه هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه
وأُخبر وأُعلم بذلك بأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه وهذا
هو الذي فسر به قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط}،
شهد الله: يعني أعلم وأخبر، والملائكة شهدوا بذلك أعلموا وأخبروا بذلك
واعتقدوا ذلك وأولوا العلم من خلقه شهدوا ذلك بمرتبتين مرتبة الاعتقاد
ومرتبة القول.
قال: (وأشهد أن لا إله إلا الله), و(أن)
هاهنا هي التفسيرية, وضابطها أنها هي التي تأتي بعد كلمة فيها معنى القول
دون حروف القول كـ أشهد, ونادى, وأوحى, وقضى, وأمر, ووصى, ونحو ذلك..، فـ (أن):
إذا أتت بعد هذه الألفاظ أو نحوها مما فيه معنى القول دون حروف القول هي
التفسيرية لأن ما بعدها يفسر ما قبلها كالتي جاءت في قول الله جل وعلا {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.. } الآية.
(لا إله إلا الله), (وأشهد أن لا إله إلا الله), وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد ولها ركنان: النفي والإثبات، النفي المستفاد من قوله: (لا إله) والإثبات المستفاد من قوله: (إلا الله)
النفي: نفي استحقاق العبادة عن كل أحد وإثبات استحقاق العبادة في الله جل
وعلا، فركنا هذه الكلمة النفي والإثبات فمن نفى ولم يثبت لم يكن قد أتى
بهذه الشهادة, بهذه الكلمة على صحتها إذا أتى بركن ولم يأت بالثاني وكذلك
من أثبت ولم ينفي فإنه لم يأتي بما دلت عليه هذه الشهادة, فلا بد أن يجتمع
في حق الشاهد أنه ينفي استحقاق العبادة عن أحد ويثبت استحقاق العبادة لله
جل وعلا وحده دونما سواه, والمشركون كانوا يثبتون ولا ينفون، يقولون: إن
الله جل جلاله مستحق للعبادة, فهو مستحق لأن يعبد لكنهم لا ينفون ولهذا لما
قال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا كلمة – لما قال لأبي طالب –قال: ((قل كلمة أحاج لك بها عند الله))
فأبى أن يقول وقال للمشركين ذلك، فقالوا: نقول: عشر كلمات, فلما قال لهم
قولوا لا إله إلا الله أبوا ذلك لأنهم يعلمون أنه لا يصلح الإقرار بهذه
الكلمة إلا بالجمع بين النفي والإثبات وهم إنما يثبتون لله جل وعلا أنه
معبود وأنه يعبد لكن ينفون كونه جل وعلا أحداً في استحقاقه للعبادة. قال
سبحانه: {إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} وقال جل وعلا في سورة ص مخبراً عن قولهم: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً}
وهذا هو الذي صنعه المشركون فيما بعدهم من مشركي هذه الأمة فإنهم أتوا
بركن من أركانه من ركني كلمة التوحيد ألا وهو الإثبات فقالوا إن الله جل
جلاله مستحق للعبادة لكن قالوا يمكن أن يكون معه من يستحق شيئاً من أنواع
العبادة لكن لا على وجه الأصالة ولكن على وجه الواسطة وهذا من الأمور
المهمة التي ينبغي العناية بها وهي أن كلمة التوحيد لها ركنان ركن النفي
وركن الإثبات.
أما معناها فإن الإله في قوله: (لا إله) هو
المعبود عن محبة وتعظيم لأن مادة أله في اللغة والتي جاء بها القرآن معناها
(العبادة) عَبَدَ, أَلَهَ, بمعنى: عبد مع المحبة والتعظيم, والألوهه هي
العبادة مع المحبة والتعظيم فالإله هو المعبود مع المحبة والتعظيم ويدل له
من قول العرب قول الشاعر في رَجَزِهِ المشهور:
للهِ درُّ الغَانياتِ المدَّه=سبَّحنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهي
يعني: من عبادتي.
وعليه قراءة ابن عباس في آية الأعراف في قوله تعالى: {ويذرك وإلاهتك} يعني: وعبادتك، فإذن معنى الإله والألوهة في كلام العرب يعني العبادة مع المحبة والتعظيم.
وهذا ينبئ ويثبت أن قول
الأشاعرة والماتريدية والمتكلمين في معنى الإله أنه قول باطل حيث إنهم
قالوا إن معنى الإله هو القادر على الاختراع، الإله عند المتكلمين ومن حذا
حذوهم ونحا نحوهم من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم يقولون: الإله هو القادر
على الاختراع وهذا هو معنى الرب أما الإله فليس فيه معنى الخلق ولا القدرة
على الخلق ولا القدرة على الاختراع وإنما فيه معنى العبادة.
ويقول آخرون من الأشاعرة
والماتريدية ونحوهم: إن لإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه ما عداه
كما قالها السنوسي في عقيدته المشهورة التي يسميها أصحابها ( أم البراهين )
يقول فيها ما نصه يقول: " فالإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما
عداه, فمعنى لا إله إلا الله – هذا من تتمة كلامه –فمعنى لا إله إلا الله:
لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله " ففسر
الألوهية بالربوبية وهذا من مناهج المتكلمين ومن عقيدة أهل الكلام إذ إنهم
يفسرون الإله بالرب ويفسرون الألوهية بالربوبية، وعلى هذا عندهم مَن اتخذ
مع الله جل وعلا إلهاً آخر يعبده يرجوه يخافه يدعوه يستغيث به ينذر له يذبح
له فإنه لا يكفر بذلك عندهم لأنه لم يخالف ما دلت عليه كلمة التوحيد إذا
كان معتقداً عندهم بأن الله جل وعلا هو المتفرد وحده بالقدرة على الاختراع
وبالاستغناء عما سواه وبافتقار كل شيء إليه جل وعلا.
فإذاً معنى لا إله: ليس معناها الربوبية وإنما معناها لا معبود, وخبر لا
النافية للجنس محذوف, والعرب تحذف خبر لا النافية للجنس إذا كان المراد مع
حذفه ظاهراً واضحاً لا إشكال فيه. وهذا على ما قال ابن مالك -رحمه الله- في
الألفية يقول: وشاع في ذا الباب – يعني باب لا النافية للجنس-
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد معْ سقوطـه ظهـروهنا في قوله: (لا إله إلا الله)،
ما خبر لا ؟ لم يُذكر لأنه معروف، لأن المعركة بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبين من بُعث إليهم كانت معروفة أنها لم تكن في نفي آلهة موجودة
وإنما كانت في نفي استحقاق شيء من هذه الآلهة للعبادة، ولهذا قدر أهل العلم
الخبر المحذوف بأنه كلمة (حق) لا إله حق إلا الله. أو لا معبود بحق إلا
الله، ومعنى ذلك أن كل معبود سوى الله جل وعلا فإنه معبود بغير الحق, معبود
بالباطل بالبغي بالظلم بالعدوان ليس بحق، وإنما المعبود بحق هو الله جل
وعلا.
ثم قال هنا: (إلا الله) و(إلا)
هذه إما أن تكون أداة حصر وإما أن تكون أداة استثناء ملغاة ولفظ الجلالة
بعدها بدل من (لا) مع اسمها لأنه في محل رفع بالابتداء. تحقيق لا إله إلا
الله بأن لا يعبد إلا الله فمن قال لا إله إلا الله وشهد بها يحققها إذا لم
يعبد إلا الله جل وعلا لم يتوجه في شيء من أنواع العبادة إلا إلى الله جل
وعلا. بهذا نقول تحقيق الشهادتين, تحقيق الشهادتين يكون بتحقيق لا إله إلا
الله محمد رسول الله، وتحقيق الأولى بأن لا تعبد إلا الله جل وعلا وتحقيق
الثانية بأن لا يعبد الله إلا بما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال هنا: (وحده لا شريك له), وهذا من التأكيد
بعد التأكيد, قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري على قوله وحده لا شريك له،
قال: تأكيد بعد تأكيد لبيان مقام التوحيد، وأن الله جل وعلا في استحقاقه
العبادة وحده لا شريك له في ذلك قال فهنا (لا شريك له)
وأنواع إدعاء الشريك كثيرة ومجملها أن إدُّعي له الشريك جل وعلا في
ربوبيته وأن ثم ظهير معه يصرف معه الأمر وادُّعي أن معه شريك في استحقاق
العبادة وادعي أن معه شريك في أسمائه وصفاته على وجه الكمال وادعي أن معه
شريك في الأمر والنهي في التشريع وادعي أن معه شريك في الحكمة التي قضاها
في كونه كما يقول الفلاسفة ونحوهم إذاً أنواع الاشتراك التي ادعي أن ثم من
يشارك الله جل وعلا فيها كثيرة وهذه الخمسة هي جماعها.
(لا شريك له) قال بعدها: (إقراراً به وتوحيداً) الإقرار: هو الإذعان والتسليم والاعتقاد بذلك، إقراراً به يعني بأنه وحده لا شريك له, (وتوحيداً)،
التوحيد مصدر وحَّد يوحِّد، وقد جاء استعمالها في السنة, وقد جاء في بعض
طرق حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن
قال: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله)) رواه البخاري في صحيحه وغيره، إلى أن يوحدوا الله، فكلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلى أن يوحدوا الله))؛
فمن دعى إلى توحيد الله معنى ذلك أنه يدعو إلى تحقيق الشهادتين وكذلك ما
ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهلَّ بالحج قال الراوي: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، كان أهل الشرك يهلون بكذا وكذا وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فإذاً كلمة التوحيد موجودة في السنة ومستعملة.
ودين الإسلام هو دين التوحيد والتوحيد أربعة أنواع, توحيد الله ثلاثة أنواع وهي: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات, قسمها
العلماء إلى هذه القسمة الثلاثية دليلهم فيها استقراء نصوص الكتاب والسنة
ويكثر ذلك في كلام ابن جرير الطبري -رحمه الله- في التفسير وكلام ابن عبد
البر -رحمه الله- في كتبه ثم شاعت في كلام العلماء وأشهرها كثيراً شيخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
فتوحيد الله ثلاثة أقسام:
توحيد الربوبية: وهو توحيد الله جل وعلا بأفعاله
يعني اعتقاد أن الله جل وعلا واحد في أفعاله, واحد في خلقه لا شريك له
واحد في جميع معاني الربوبية فهو جل وعلا المتفرد بالخلق وبالرزق وبالإحياء
والإماتة وبتدبير الأمر وبتصريف هذا الملكوت وبأنه الذي يجير ولا يجار
عليه وأنه الذي ينـزل الغيث وأنه الذي يحيي ويميت ويقبض ويبسط ونحو ذلك من
معاني الربوبية.
والثاني توحيد الألوهية: وهو توحيد الله بأفعال
العباد، فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله هو, وهذا يقر به أهل الشرك
فإنهم يوحدون الله في أفعاله كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} وقال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله},
ونحو ذلك فهم مقرون بتوحيد الله بأفعاله، يعني غالب العرب. أو بأكثر أفعال
الله، وأما توحيد الألوهية فهو توحيد العبادة، توحيد الله بأفعال العباد،
فإذاً توحيد الألوهية راجعٌ إلى فعل العبد، وتوحيد الربوبية راجع إلى فعل
الله جل وعلا.
والثالث: توحيد الأسماء والصفات: ومعناه اعتقاد
أن الله جل وعلا هو المتوحد في استحقاقه لما بلغ في الحسن نهايته من
الأسماء, ولما بلغ غاية الكمال من النعوت والصفات، الله جل وعلا لا يماثله
أحد بأسمائه وصفاته كما قال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}, هذه ثلاثة أنواع هي أنواع توحيد الله جل وعلا.
النوع الرابع: توحيد دلت عليه شهادة أن محمداً
رسول الله وهو أن لا يعبد الله إلا بما شرع ويسمى عند طائفة من أهل العلم
توحيد المتابعة، يعني: أن يكون المرء متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم
وحده، فلا أحد يستحق المتابعة على وجه الكمال إلا النبي صلى الله عليه
وسلم، كما قال ابن القيم في نونيته:
فلواحد كن واحداً في واحدٍ ... أعني سبيل الحق والإيمـان