باب التجويد
قال الحافظ محمد بن محمد ابن الجزري (ت: 833هـ) : (باب التجويد
وَالأَخْــذُ بالتَّجْـويـدِ حَـتْــمٌ لازِمُ ... مَـنْ لَـمْ يُـجِـوِّدِ الْـقُـرَانَ آثِــمُ
لأَنَّــهُ بِـــهِ الْإِلَـــهُ أَنْـــزَلاَ ... وَهَـكَـذَا مِـنْـهُ إِلَيْـنَـا وَصَـــلاَ
وَهْــوَ أَيْـضـاَ حِلْـيَـةُ الـتِّــلاَوَةِ ... وَزِيْــنَـــةُ الأَداءِ وَالْــقِـــرَاءَةِ
وَهُـوَ إِعْـطَـاءُ الْـحُـرُوفِ حَقَّـهَـا ... مِــنْ صِـفَـةٍ لَـهَـا وَمُسْتَحَقَّـهَـا
وَرَدُّ كُـــلِّ وَاحِـــدٍ لِأَصْـلِــهِ ... وَاللَّـفْـظُ فِــي نَظِـيْـرِهِ كَمِثْـلِـهِ
مُكَمَّـلاً مِـنْ غَـيْـرِ مَــا تَكَـلُّـفِ ... بِاللُّطْـفِ فـي النُّطْـقِِ بِـلاَ تَعَـسُّـفِ
وَلَـيْـسَ بَيْـنَـهُ وَبَـيْـنَ تَـرْكِــهِ ... إِلاَّ رِيَـاضَــةُ امْـــرِيءٍ بِـفَـكِّـهِ
الدقائق المحكمة لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري
قال الإمام زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاريِّ السُّنَيْكِيِّ
(ت: 926هـ) : (المتن:
(27) وَالأَخْذُ بالتَّجْويدِ حَتْمٌ لازِمُ = مَنْ لَمْ يُجِوِّدِ الْقُرَانَ آثِمُ
(28) لأَنَّهُ بِهِ الْإِلَهُ أَنْزَلاَ = وَهَكَذَا مِنْهُ إِلَيْنَا وَصَلاَ
(29) وَهْوَ أَيْضاَ حِلْيَةُ التِّلاَوَةِ = وَزِيْنَةُ الأَداءِ وَالْقِرَاءَةِ
(30) وَهُوَ إِعْطَاءُ الْحُرُوفِ حَقَّهَا = مِنْ صِفَةٍ لَهَا وَمُسْتَحَقَّهَا
(31) وَرَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَصْلِهِ = وَاللَّفْظُ فِي نَظِيْرِهِ كَمِثْلِهِ
(32) مُكَمَّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ = بِاللُّطْفِ في النُّطْقِ بِلاَ تَعَسُّفِ
(33) وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَرْكِهِ = إِلاَّ رِيَاضَةُ امْرِيءٍ بِفَكِّهِ
__________________
(27) "والأخْذُ بالتَّجويدِ حَتْمٌ" أيْ "لازِمٌ" للقَارئ؛ فحينَئِذٍ "مَنْ لَمْ يُجوِّدْ" – وفي نُسخَةٍ يُصَحِّح – "القُرْآنَ" بأَنْ يَقْرَأَهُ قِراءَةً تُخِلُّ بالمعنى، أوْ بالإِعْرابِ فهُوَ "آثمٌ". وَهْوَ أَيْضاَ حِلْيَةُ التِّلاَوَةِ = وَزِيْنَةُ الأَداءِ وَالْقِرَاءَةِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الْحُرُوفِ حَقَّهَا = مِنْ صِفَةٍ لَهَا وَمُسْتَحَقَّهَا
(28) "لأَنَّهُ" أَي القُرآنَ "بِهِ" أَي بالتَّجويدِ.
"الإلهُ أنْزَلاَ وهَكَذَا مِنْهُ إلَينَا وَصَلا". قالَ اللهُ تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4].
أيْ: إِيتِ بهِ على تَؤُدَةٍ، بتَبْيينِ الحُروفِ والحَركاتِ. وأَكَّدَ
الأمرَ بالتَّرتيلِ بالمصْدَرِ، تَعْظيمًا لِشَأْنِهِ، وتَرْغِيبًا في
ثَوابِهِ. فالقارئُ بِتَرْكِهِ ذلكَ مِنَ الدَّاخِلينَ في خَبَرِ: "رُبَّ قَارئٍ لِلْقُرآنِ، والقُرآنُ يَلْعَنُهُ".
وَعُلِمَ بذلِكَ طَلَبُ التَّحَرُّزِ عَنِ اللَّحْنِ. وَهُوَ هُنَا الخطأُ، والمَيْلُ عَن الصَّوابِ. وهُوَ جَليٌّ، وخَفَيٌّ.
فالجَليُّ: خَطأٌ يَعْرِضُ للفْظٍ، ويُخِلُّ بالمعنَى، أَوْ بالإعْرَابِ كَرَفْعِ المَجْرورِ، ونَصْبِهِ.
والخَفِيُّ: خَطَأٌ يَعْرِضُ لِلَفْظٍ، وَلاَ يخلُّ بالمَعنَى، وَلاَ بالإِعْرَابِ، كَتَرْكِ الإِخْفَاءِ والإِقْلاَبِ والغُنَّةِ.
أَنْواعُ القِراءَاتِ
جَمَالُ الأََدَاءِ
وَرَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ لِأَصْلِهِ = وَاللَّفْظُ فِي نَظِيْرِهِ كَمِثْلِهِ
"وَزِينَةُ الأَدَاءِ وَالقِرَاءَةِ".
أ- "التِّلاَوةُ" قِراءَةُ القُرآنِ مُتتابِعًا. كالأورَادِ، والأَسْبَاعِ، والدِّرَاسَةِ.
ب- وَ "الأَدَاءُ" الأخْذُ مِنَ المَشَايخِ.
ج- وَ "القِرَاءَةُ" تُطْلَقُ عَليْهِمَا. فهيَ أَعَمُّ مِنْهُمَا.
ومَرَاتِبُ التَّجْويدِ ثَلاثةٌ: تَرتيلٌ، وتَدْويرٌ، وحَدْرٌ. والأَوَّلُ أَتَمُّ، ثُمَّ الثَّاني:
1- فالتَّرتيلُ، التَّؤُدَةُ. وهوَ مَذْهَبُ وَرْشٍ، وعَاصِمٍ، وحَمْزَةَ.
2- والحَدْرُ: الإِسْرَاعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ كَثيرٍ، وَأَبي عَمْرٍو، وَقَالونَ.
3- والتَّدويرُ: الوَسَطُ بينَهُمَا. وهُوَ مَذْهَبُ ابنُ عامرٍ، والكِسَائيِّ
وَهَذَا هُوَ الغَالِبُ عَلى قِراءَاتِهِمْ. وإِلاَّ فَكُلٌّ مِنْهُمْ يُجيزُ الثَّلاثةَ.
(30) "وَهُو" – بِضَمِ الهَاءِ – أَي التَّجويدُ:
"إِعْطاءُ الحُروفِ حَقَّهَا مِنْ صِفَةٍ" لاَزِمَةٍ "لَهَا" مِنْ هَمْسٍ، وَجَهْرٍ، وَشِدَّةٍ، وَرَخَاوَةٍ، وَنَحْوِهَا – مِمَّا مَرَّ.
"وَ" إِعْطاؤُها "مُسْتَحِقَّهَا" مِمَّا يَنْشَأُ مِنَ الصِّفَاتِ المَذْكُورةٍ، كَتَرْقيقِ، المُسْتَفِلِ، وَتَفْخِيمِ المُسْتَعْلي، وَنَحْوِهِمَا.
(31) "وَرَدُّ كُلِّ واحِدٍ" منَ الحروفِ "لأصْلِهِ" أي حيِّزُهُ منْ مَخْرَجِهِ. وقَوْلُهُ: "واللَّفْظُ في نظيرِهِ" أيْ نَظيرِ ذلكَ الحرْفِ.
"كَمِثْلِهِ"
– بِزيادةِ الكَافِ- أَيْ وأنْ تَلْفِظَ بنَظيرهِ بعْدَ لَفْظِكَ بهِ،
مِثْلَ لَفْظِكَ بهِ أوَّلاً. إنْ كانَ الأوَّلُ مُرَقَّقًا فَنَظيرُهُ
كذلكَ، أَوْ مُفخَّمًا فنظيرُهُ كذلكَ، أَوْ غَيْرُهُ فغَيْرُهُ. لتكونَ
القراءَةُ على نِسْبَةٍ واحِدةٍ.
المَكْرُوهُ مِنَ القِرَاءاتِ
(32) "مُكْمِلاً" ذلِكَ "مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفٍ" في القراءَةِ – ومَا زَائدةٌ للتَّأكيدِ -, ولتكُن القِراءَةُ "باللُّطْفِ" – وفي نُسْخَةٍ "باللَّفْظِ" – "في النُّطْقِ بِلاَ تَعَسُّفٍ" بلاَ تَعَبٍ. فَيُحْتَرَزُ في التَّرتيلِ عَنْ التَّمْطِيطِ، وفي الحدْرِ عَن الإدْماجِ.
إذ القِراءَةُ كالبياضِ؛ إنْ قلَّ صَارَ سُمْرَةً، وإنْ زَادَ صَارَ بَ رَصًا.
وفي المُوطَّأِ والنَّسائِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وَسَلَّمَ قالَ:
"اقرَؤُوا
القُرْآنَ بِلُحُونِ العَرَبِ، وإيَّاكُمْ وَلُحونَ أَهْلِ الفِسْقِ
والكَبَائِر؛ فإنَّهُ سيَجيءُ أَقْوَامٌ مِنْ بَعْدِي يُرَجِّعونَ القَرآنَ
تَرْجيعَ الغِنَاءِ، والرَّهْبَانيَّةِ، والنَّوْحِ، لا يُجاوِزُ
حنَاجِرَهُمْ، مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ، وَقْلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ
شَأْنُهُمْ".
والمُرَادُ
بألحَانِ العَرَبِ: القِرَاءَةُ بالطَّبْعِ والسَّليقَةِ، كمَا جُبِلُوا
عَلَيْهِ. منْ غَيْرِ زيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ. وَ بِـ "أَلحانِ أهْلِ الفِسْقِ والكَبَائِر": الأَنْغَامُ المُسْتَفَادَةُ مِنْ عِلْمِ المُوسيقَى.
والأمْرُ
في الخَبَرِ مَحْمُولٌ على النَّدْبِ، والنَّهْيُ على الكَرَاهَةِ؛ إنْ
حَصَلَتْ "صِحَّةُ" المُحَافَظَةِ على صِحَّةِ ألْفَاظِ الحُروفِ؛ وإلاَّ
فَعلى التَّحريمِ.
والمُرَادُ بالَّذينَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ: الَّذينَ لا يَتَدبَّرونَهُ، ولا يَعْمَلُونَ بهِ.
واعلَمْ أنَّ قُرّاءَ زمَانِنَا؛ ابتَدَعُوا في القِراءَةِ شَيْئًا، يُسَمَّى بِـ "التَّرقيصِ" ! وهُوَ أَنْ يَرومَ السَّكْتَ على السَّاكِنِ ثُمَّ يَنْفُرُ مَعَ الحَرَكةِ في عَدْوٍ وهَرْوَلَةٍ! وآخَرُ يُسَمَّى بِـ "التَّرعيدِ"؛ وهُوَ أَنْ يُرَعِّدَ صَوْتَهُ، كالَّذي يَرْعُدُ مِنْ بَرْدٍ وَأَلَمٍ. وآخَرُ يُسَمَّى بِـ "التَّطْريبِ"
وهُوَ أَنْ يترنَّمَ بالقُرآنِ! فيَمُدَّ في غَيْرِ مَحَلِّ المَدِّ
ويَزيدَ في المدِّ مَا لا تُجيزُهُ العَرَبيَّةُ. وآخَرُ يُسَمَّى بِـ "التَّحزينِ"؛
وهُوَ أَنْ يتْرُكَ طِبَاعَهُ، وعَادَتَهُ في التِّلاوَةِ، ويَأْتي بِهَا
على وَجْهٍ آخَرَ، كأنَّهُ حَزينٌ! يَكَادُ يَبْكي مِنْ خُشُوعٍ وخُضُوعٍ.
وإنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لمَا فيهِ مِن الرِّيَاءِ.
وآخَرُ
أَحْدثَهُ هؤلاءِ الَّذينَ يجتمِعُونَ فيقَرَؤونَ كُلُّهمِ بِصَوْتٍ
واحدٍ، فيَقْطَعونَ القِرَاءَةَ، ويَأْتي بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ الكَلِمَةٍ،
والآخَرُ بِبَعْضِهَا، وهُوَ حَرَامٌ، ويُحَافِظونَ على مُرَاعَاةِ
الأَصْواتِ خاصَّةً! وَسَمَّاهُ بعضُهم: "التَّحريفَ".
والغَرَضُ
منَ القِراءَةِ إنَّمَا هُوَ تَصْحِيحُ أَلْفَاظِهَا، على مَا جاءَ بهِ
القُرْآنُ العَظِيمُ، ثُمَّ التَّفكُّرُ في مَعانِيهِ.
(33) "ولَيْسَ بيْنَهُ" أَي التَّجوْيدِ "وَبَيْنَ تَرْكِهِ" فَرْقٌ "إلاَّ رَياضَةَ امرئٍ" أَيْ: مُدَاوَمَتَهُ على القِراءَةِ.
"بِفكِّهِ"
أَيْ بِفَمِهِ. بالتَّكْرارِ، والسَّمَاعِ مِنْ أَفْواهِ المَشَايخِ، لاَ
بمُجَرَّدِ النَّقْلِ، والسَّماعِ. وإطْلاقِ الفَكِّ – وهُوَ اللَّحْيُ –
على الفَمِ مِنْ إِطْلاقِ الجُزْءِ على الكُلِّ؛ ولكُلِّ امْرِئٍ فكَّانِ.
المنح الفكرية لنور الدين علي بن سلطان محمد القاري
قال الإمام نور الدين علي بن سلطان محمد القاري
(ت:1014هـ): ( (والأَخْذُ بالتجويدِ حَتْمٌ لازمُ) جمعَ بينهما تأكيدًا للوجوبِ، وجعلَ الشيخُ زكريَّا الثانيَ تفسيرًا للأولِ؛ بِناءً على أنَّهُ عطفُ بيانٍ وقَدَّرَ بعدَهما: (للقارئِ)؛
لأنَّ الحُكْمَ ليسَ على إطلاقِه، والأظهرُ أنْ يقالَ: تقديرُه: وأَخْذُ
القارئِ بتجويدِ القرآنِ وهو تحسينُ ألفاظِه بإخراجِ الحروفِ عن
مَخَارِجِها وإعطاءِ حقوقِها مِن صفاتِها، وما يُتَرَتَّبُ على مفرداتِها
ومُرَكَّبَاتِها، فرضٌ لازمٌ وحتمٌ دائمٌ. ثُمَّ هذا العِلْمُ لا خلافَ في
أنَّهُ فرضُ كفايةٍ والعملُ به فرضُ عَيْنٍ في الجملةِ على صاحبِ كُلِّ
قراءةٍ وروايةٍ، ولو كانت القِراءةُ سُنَّةً، وأمَّا دقائقُ التجويدِ على
ما سيأتي بيانُه فإنَّما هو مِن مُسْتَحْسَنَاتِه، فالأظهرُ أنَّ المرادَ
هنا بالحتمِ أيضًا الوجوبُ الاصطلاحيُّ المُشْتَمِلُ على بعضِ أفرادِه مِن
الوجوبِ الشرعيِّ، لا الجمعُ بينَ الحقيقةِ والمجازِ، أو استعمالُ
المَعْنيينِ بالاشتراكِ، كما ذهبَ إليه الشرَّاحُ مِن الشافعيَّةِ؛ فإنَّ
اللحنَ على نوعينِ؛ جَلِيٌّ وخَفِيٌّ، فالجَلِيُّ: خطأٌ يَعْرِضُ للفظٍ ويُخِلُّ بالمعنى والإعرابِ، كرفعِ المجرورِ، ونصبِه، ونحوِهما، سواءٌ تغيَّرَ المعنى به أمْ لا، والخفيُّ:
خطأٌ يُخِلُّ بالحرفِ كَتَرْكِ الإخفاءِ، والقلبِ، والإظهارِ والإدغامِ،
والغُنَّةِ، وكترقيقِ المُفَخَّمِ، وعَكْسِه، ومَدِّ المقصورِ وقصرِ
الممدودِ، وأمثالِ ذلكَ، ولا شَكَّ أنَّ هذا النوعَ ممَّا ليسَ بفرضِ عينٍ
يترتَّبُ عليه العقابُ الشديدُ، وإنَّما فيه خوفُ العقابِ والتهديدُ.
وأمَّا تخصيصُ الوجوبِ بقراءةِ الفاتحةِ كما ذكرَه بعضُ الشرَّاحِ فليسَ
ممَّا يُنَاسِبُ المَرامَ في هذا المقامِ. (مَن لم يُجَوِّدِ القرآنَ آثِمٌ)
أي مَن لم يُصَحِّحْ – كما في نسخةٍ صحيحةٍ – بأنْ يَقْرَأَه قراءةً
مُخِلَّةً بالمعنى والإعرابِ – كما صرَّحَ به الشيخُ زكريَّا – خلافًا لما
أخذَه بعضُ الشرَّاحِ منهم ابنُ المصنِّفِ على وجهِ العمومِ الشاملِ للحنِ
الخفيِّ؛ فإنَّه لايصحُّ كما لا يخفى، وأغربُ مِن هذا أنَّ الشارحَ
المصريَّ ضَعَّفَ قولَ الشيخِ زكريَّا معَ أنَّهُ شيخُ الإسلامِ في مذهبِه،
ثمَّ لفظُ (القرآنِ) مَنْقُولٌ في البيتِ على قراءةِ ابنِ كثيرٍ، كما قالَ الشاطبيُّ رحمَهُ اللهُ:
*ونَقْلُ قُرَانٍ والقُرْآنُ دَوَاؤُنَا*
فلا يُحْمَلُ على ضرورةِ الوزنِ، هذا و (مَن) موصولةٌ، وإنْ جُعِلَتْ شرطيَّةً فحذفُ الفاءِ مِن قبيلِ: مَن يعملِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها. (وهو أيضًا حِلْيَةُ التلاوةِ = وزينةُ الأداءِ والقراءةِ) (وهو إعطاءُ الحروفِ حقَّها = منِ صِفَةٍ لها ومُسْتَحَقِّهَا) (وليسَ بينَه وبينَ تَرْكِه = إلا رياضةَ امرئٍ بفَكِّهِ)
(لأنَّهُ به الإلهُ أَنْزَلاَ)
بألفِ الإطلاقِ، والضميرُ في (لأنَّهُ) للشأنِ، أو للقرآنِ، وفي (بهِ)
للتجويدِ أي: لأنَّ اللهَ أنزلَ في القرآنِ الأمرَ بالتجويدِ حيثُ قالَ: {وَرَتِّل القرآنَ ترتيلًا}
مُؤَكِّدًا بالمصدرِ مُبَالَغَةً في الأمرِ، ومِن المَعْلومِ أنَّ النبيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ مُجَوِّدًا كما أُنْزِلَ، لكنه
خطابٌ له والمرادُ أُمَّتُه، ونُقِلَ عن عليٍّ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ أنَّهُ
قالَ: الترتيلُ هو تجويدُ الحروفِ ومَعْرِفَةُ الوقوفِ، لكن فيه أنَّ
مَعْرِفَةَ الوقوفِ ليستْ من الواجباتِ؛ لِقَوْلِ الناظمِ: (وليسَ في القرآنِ مِن وقفٍ يجبْ)
اللهمَّ إلا أنْ يقالَ: المرادُ بمَعْرفةِ الوقوفِ هو أنْ يَعْلَمَ كُلَّ
كلمةٍ إذا وقفَ عليها كيفَ يَقِفُ عليها، فإنَّه ربَّمَا يَقِفُ عليها مَن
ليسَ له وقوفٌ بها على وجهٍ يُخِلُّ بمعناها، وعن مجاهدٍ: أي: تَرَسَّلْ
فيه ترسيلًا، والمعنى تَمَهَّلْ في المَبْنَى ليتبيَّنَ لكَ المعنى كما
قالَ تعالى:{ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} و{لاَتُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
وعن الضحَّاكِ: انْبِذْهُ حرفًا حرفًا، وعن ابنِ عباسٍ: بيِّنْه
تَبْيِينًا، وقالَ بعضُ العلماءِ: أي: تَلَبَّثْ وَتَثَبَّتْ في قراءتِه
وافْصِل الحرفَ مِن الحرفِ الذي بعدَه ولا تَسْتَعْجِلْ فَتُدْخِل بعضَ
الحروفِ في بعضٍ ا. هـ ولا يَخْفَى أنَّ الآيةَ بهذه المَعْاني لا دلالةَ
فيها على المُدَّعَى، وكذا ما ذَكَرَهُ ابنُ المصنِّفِ أيضًا ومِن قولِه
سبحانَه {وقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على النَّاسِ على مُكْثٍ ونَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} وفُسِّرَ المُكْثُ بالترتيلِ، وهو غيرُ مستقيمٍ بحسبِ التفسيرِ والتأويلِ، وكذا في قولِه تعالى: {ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي:
أنزلْنَاهُ بالترتيلِ، أي بالتجويدِ، فإنَّه أنزلهَ بأفصحِ اللغاتِ، بل
معْناهُ بيَّنَّاهُ تَبْيِينًا وفصَّلْنَاهُ تفصيلًا كما دلَّ عليه صدرُ
الآيةِ. وأمَّا ما رُوِيَ عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: (رُبَّ قارىءٍ للقرآنِ والقرآنُ يَلْعَنُهُ) فإنَّهُ متناولٌ لِمَنْ يُخِلُّ بِمَبَانِيهِ أو معْانِيه أو بالعملِ بما فيه ( وهكذا منه إلينا وُصِّلاَ )
بألفِ الإطلاقِ أي: وَوَصَلَ القرآنُ مِن الإلهِ إلينا على لسانِ جبريلَ
عليه السلامُ، وبيانِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابهِ
رَضِيَ اللهُ عنهم ثمَّ تَعَلُّم التابعينَ، ثمَّ أتباعِهم منهم، وهلُمَّ
جرَّا إلى مشايخِنا رحمَهم اللهُ مُتَوَاتِرًا هكذا بوصفِ الترتيلِ
المُشْتَمِلِ على التجويدِ والتحسينِ وتبيينِ مَخَارِجِ الحروفِ وصفاتِها
وسائرِ مُتَعَلَّقَاتِها التي (هي) مُعْتَبَرَةٌ في لغةِ العربِ الذي نزلَ
القرآنُ العظيمُ بلسانِهم، لقولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فينبغي
أنْ يُرَاعى جميعُ قواعدِهم وجوبًا فيما يَتَغَيَّرُ به المَبْنَى
ويَفْسُدُ المعنى، واستحبابًا فيما يَحْسُنُ به اللفظُ ويُسْتَحْسَنُ به
النطقُ حالَ الأداءِ، وإنَّما قُلْنَا بالاستحبابِ في هذا النوعِ؛ لأنَّ
اللحنَ الخفيَّ الذي لا يعرفُه إلا مَهَرَةُ القُرَّاءِ مِن تكريرِ
الراآتِ، وتَطْنِينِ النوناتِ، وتغليظِ اللامَاتِ في غيرِ مَحَلِّها،
وترقيقِ الراآتِ في غيرِ موضِعِه، كما سيأتي بيانُها، لا يُتَصَوَّرُ أنْ
يكونَ فرضَ عينٍ يترتَّبُ العقابُ على فاعلِها لما فيه من حَرَجٍ عظيمٍ،
وقد قالَ تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حرجٍ} و{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا}.
بالإشباعِ فيهما، وجازَ الوقفُ عليهما، وهو بضمِّ الهاءِ ولا يجوزُ إسكانُها للوزنِ، وقولُه (أيضًا)
أي: معَ كونِه حَتْمًا، وأبعَدَ الشارحُ الروميُّ في قولِه: أي:
كمَخَارِجِ الحروفِ والصفاتِ؛ لأنَّهما داخلانِ في تعريفِ التجويدِ، ثمَّ
الحِلْيَةُ بمعنى الزينةِ هنا، وإنْ كانَ أخصَّ منها عُرْفًا، حيثُ
يَخْتَصُّ بالصيغةِ، فالمعنى أنَّهُ صفةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ للقراءةِ؛
كالحُلِيِّ للمرأةِ، والفرقُ بينَ الثلاثةِ أنَّ التلاوةَ قراءةُ القرآنِ
مُتَتَابِعَةً كالدراسةِ، والأورادِ المُوَظَّفَةِ، والأداءُ الأخذُ عن
الشيوخِ، والقِراءةُ أعمُّ، ذكرَهُ ابنُ المصنِّفِ.
والأَخْذُ عن الشيوخِ على نوعينِ: أحدُهما أنْ يَسْمَعَ مِن لسانِ المشائخِ، وهو طريقةُ المتقدِّمِينَ، وثانيهما:
أنْ يقرأَ في حضرتِهم وهم يسمعُونَها وهذا مَسْلَكُ المُتَأَخِّرينَ،
واخْتُلِفَ أيُّهُمَا أَوْلَى، والأظهرُ أنَّ الطريقةَ الثانيَةََ،
بالنسبةِ إلى أهلِ زمانِنا أقربُ إلى الحفظِ، وبهذا تبيَّنَ بطلانُ قولِ
الشارحِ المصريِّ: والحقُّ أنَّ الأداءَ القِراءةُ بحضرةِ الشيوخِ عَقِيبَ
الأخذِ مِن أفواهِهم لا الأخذُ نفسُه.
ثمَّ التجويدُ على ثلاثِ مراتبَ؛ ترتيلٌ، وتَدْوِيرٌ، وحَدْرٌ، فالترتيلُ: هو تُؤَدَةٌ وَتَأَنٍّ، وهو مُخْتَارُ وَرْشٍ، وعاصمٍ، وحمزةَ، والحَدْرُ: هو الإسراعُ، وهو مختارُ ابنِ كثيرٍ، وأبى عمرٍو، والتَّدْوِيرُ:
هو التوسُّطُ بينهما، وهو مختارُ ابنِ عامرٍ، والكسائيِّ، وهذا كُلُّه
إنَّما يُتَصَوَّرُ في مراتبِ الممدودِ، وأمَّا ما ذكرَه ابنُ المصنِّفِ
مِن أنَّ إسكانَ المُرَتِّلِ وتَحْرِيكَه وتشديدَهُ ومدَّهُ أتمُّ، وكذلكَ
المُتَوَسِّطُ بالنسبةِ إلى الحادِرِ فهو غيرُ الظاهرِ بل وخلافُ
المُتَبَادِرِ.
بفتحِ الحاءِ عطفًا على حقِّها، و(من ) بيانيَّةٌ لما قبلَها، وهذا تعريفُ التجويدِ، وما سبقَ نعتٌ له أي: التجويدُ:
هو إعطاءُ الحروفِ بعدَ إحسانِ مَخَارِجِها وتمكينِها في محَايزِها حقَّها
مِن كُلِّ صفةٍ مِن صفاتِها المتقدِّمَةِ وإعطاؤُها مُسْتَحَقَّها من
تفخيمٍ وترقيقٍ وسائرِ أوصافِها الآتيةِ، والفرقُ بينَ حقِّ الحرفِ
وَمُسْتَحَقِّهِ أنَّ حقَّ الحرفِ صفتُه اللازمةُ له مِن همسٍ، وجهرٍ،
وشدَّةٍ، ورخاوةٍ، وغيرِ ذلكَ مِن الصفاتِ الماضيةِ، ومُسْتَحِقُّه ما
يَنْشَأُ عن هذِه الصفاتِ كترقيقِ المُسْتَفِلِ وتفخيمِ المُسْتَعْلِي،
ونحوِ ذلكَ مِن ترقيقِ بعضِ الراءاتِ وتفخيمِ بعضِها، وكذا حُكْمُ
اللامَاتِ، ويدخلُ في الثاني ما ينشأُ مِن اجتماعِ بعضِ الحروفِ إلى بعضٍ
ممَّا حَكَمُوا عليه بالإظهارِ، والإدغامِ، والإخفاءِ، والقلبِ،
والغُنَّةِ، والمدِّ، والقصرِ، وأمثالِ ذلكَ، فالحقُّ صفةُ اللزومِ،
والمُسْتَحَقُّ صفةُ العروضِ، هذا ولا يَخْفَى أنَّ إخراجَ الحرفِ مِن
مَخْرَجِه أيضًا داخلٌ في تعريفِ التجويدِ كما صرَّحَ به الناظمُ في كتابِ
التمهيدِ، فكانَ ينبغي أنْ يُذْكَرَ فيه، وقد أَشَرْنَا إلى جوابٍ لطيفٍ في
ضمنِ تعريفِه، وهو أنَّ الحروفَ لا تتحقَّقُ إلا باعتبارِ إخراجِها مِن
حيِّزِها، لكن يبقي فيه إشكالٌ من جهةِ أنَّ بعضَ الصفاتِ أيضًا
مُمَيِّزَةٌ لها، لا يقالُ إنَّ المَخَارِجَ قد تقدَّمَ حُكْمُها فإنَّا
نقولُ الصفاتُ أيضًا قد تَبَيَّنَ عِلْمُهَا، والأظهرُ أنَّ المرادَ
بقولِه: (وردُّ كُلِّ واحدٍ لأصلِه) بيانُ مَخْرَجِ كُلِّ واحدٍ من الحروفِ؛ فإنَّ مَعْناهُ أنَّ التجويدَ هو ردُّ كُلِّ واحدٍ من الحروفِ، أي:صرفُه
إلى أصلِه من حيِّزِه ومَخْرَجِه، لكن يَرِدُ عليه أنَّهُ كانَ ينبغي أنْ
يُقَدِّمَ بيانَ المَخْرَجِ على الصفةِ؛ لأنَّ الأَوَّلَ بيانُ الحقيقةِ
والماهيَّةِ، والثاني بيانُ الصفةِ والكيفيَّةِ، وغايةُ ما يُتَكَلَّفُ في
الجوابِ عنه أنْ يقالَ: الواوُ لمطلَقِ الجمعيَّةِ، لا لإفادةِ الترتيبِ
بينَ الجُمَلِ المُتَعَاطِفَةِ.
(واللفظُ في نظيرِه كمثلِه)
المرادُ بالنظيرِ والمثلِ هنا واحدٌ، وكانَ الأَوْلَى أنْ يقولَ: واللفظُ
في شبيهِه كمثلِه، والكافُ زائدٌ، والمعنى أنَّ مِن التجويدِ أنْ
يُتَلَفَّظَ في اللفظِ الثاني مثلَ ما تُلُفِّظَ بمثلِه أَوَّلًا، يعني:
أنَّهُ إذا نطَقَ بالحرفِ مُرَقَّقًا، أو مُفَخَّمًا أو مُشَدَّدًا، أو
مقصورًا، أو ممدودًا، أو مُظْهَرًا، أو مُدْغَمًا وأمثالُ ذلكَ وجاءَ
شبيهُهُ ممَّا يقتضي تلكَ الصفاتِ السابقةَ فَيُتَلَفَّظُ به بلا تفاوُتٍ؛
لتكونَ القِراءةُ على المناسبةِ والمساواةِ، ولا يَبْعُدُ أنْ يكونَ
النظيرُ على بابِه، ويُرَادُ أنَّ مَدَّهُ بألفِ الرحمنِ يكونُ على
مِقْدَارِ مَدِّهِ بياءِ الرحيمِ، وأمثالَ ذلكَ.
(مُكَمِّلًا مِن غيرِ مَا تَكَلُّفِ)
بكسرِ الميمِ، أي: حالَ كونِ اللافظِ مُكَمِّلَ الصفاتِ حقًّا واستحقاقًا،
أو بفتحِ الميمِ، أي حالَ كونِ المَلْفُوظِ مُكَمِّلَ الأداءِ مَخْرَجًا
وصفةً من غيرِ تكَلُّفٍ وارتكابِ مَشَقَّةٍ في قراءتِه، بالزيادةِ على
أداءِ مَخْرَجِه، والمبالغةِ في بيانِه صفتَه، و(ما) زائدةٌ لتأكيدِ النفيِ.
(باللُّطْفِ في النطقِ بلا تَعَسُّفٍ)
أي: وأنْ يَتَلَطَّفَ في نطقِه بالقراءةِ، بلا خروجٍ عن استقامةِ جادَّةِ
الأداءِ إلى طَرَفَي الإفراطِ والتفريطِ، والمعنى: أنَّهُ ينبغي أنْ
يَتَحَفَّظَ في الترتيلِ عن التمطيطِ، وفي الحَدْرِ عن الإدماجِ والتخليطِ،
فإنَّ القِراءةَ بمنزلةِ البياضِ إنْ قلَّ صارَ سُمْرَةً وإنْ كَثُرَ صارَ
بَرَصًا، وزادَ الإمامُ حمزةُ: وما فوقَ الجُعُوَدَةِ فهو القَطَطُ وما
كانَ فوقَ القراءةِ فليسَ بقراءةٍ.
وأمَّا ماذكرَه الشيخُ زكريَّا مِن قولِه: وفي نسخةٍ: (باللفظِ في النطقِ ) فلا وجهَ لصحَّتِهَا فما كانَ ينبغي له ذِكْرُهَا إلا مَقْرُونًا بالتنبيهِ على ضعفِها.
ثمَّ
اعلمْ أنَّ كتابَ اللهِ تعالى يُقْرَأُ بالترتيلِ والتحقيقِ، وبالحدرِ
والتخفيفِ، والأَوَّلُ أَوْلَى لظهورِ المعنى والثانى أفضلُ لتكثيرِ
المَبْنَى وقد ورَدَ، أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: "مَن
أَحَبَّ أنْ يقرأَ القرآنَ غَضًّا كما أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قراءةَ ابنِ
أمِّ عبدٍ" يعني عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، والمرادُ
بالغَضِّ: الطَّرِيُّ فإنَّه رَضِيَ اللهُ كانَ قدْ أُعْطِيَ حظًّا عظيمًا
في تجويدِ القرآنِ وتحقيقِه وترتيلِه كمَا أنزلَه اللهُ تعالى، وقد أَمرَه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُسْمِعَه القرآنَ
فقالَ: أقرأُ عليكَ وعليكَ أُنْزِلَ؟ فقالَ: (نعم, أُحِبُّ أنْ أَسْمَعَه مِن غيري). فقرَأَ عليه سورةَ النساءِ إلى أنْ وصلَ إلى قولِه: {فكيفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنَا بِكَ على هؤلاءِ شهيدًا} فقالَ: حسبُكَ الآنَ،
وكانتْ عيناهُ تَذْرِفَانِ" وفي الحديثِ الواردِ في الصحيحينِ إيماءٌ إلى
بيانِ الطريقتينِ في أَخْذِ القراءةِ عن الشيوخِ ولمَّا كانَ عبدُ اللهِ
مِن أَجِلاَّءِ علماءِ القراءةِ مِن الصحابةِ خصَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذِه المَنْقَبَةِ. وتَجُوزُ القِراءةُ سِرًّا
وعَلاَنِيَةً، وبأيِّهما اقْتَرَنَ نيَّةٌ صالحةٌ كانَ أعلى وأغلى.
وفي الموطَّأِ وسُنَنِ النسائيِّ عن حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَءُوا القرآنَ بِلُحُونِ العربِ، وإيَّاكُم ولحونَ أهلِ الفسقِ والكتابِيينَ" وفي روايةٍ: "
أهلِ الفسقِ والكتابيينَ؛فإنَّه سيجيءُ أقوامٌ بعدِي يُرَجِّعُونَ القرآنَ
تَرْجِيعَ الغناءِ والرهبانيَّةِ والنَّوْحِ، لا يُجَاوِزُ حناجرَهُم،
مَفْتُونَةٌ قلوبُهم، وقلوبُ مَن يُعْجِبُهم شأنُهُم". والمرادُ
بألحانِ العربِ القِراءةُ بالطبائعِ والأصواتِ السَّليقيَّةِ، وبألحانِ
أهلِ الفسقِ الأنغامُ المستفادةُ مِن القواعدِ الموسيقيَّةِ، والأمرُ
مَحْمُولٌ على الندبِ، والنهيُ مَحْمُولٌ على الكراهةِ إنْ حَصَلَ له معَه
المحافظةُ على صحَّةِ ألفاظِ الحروفِ، وإلا فَمَحْمُولٌ على التحريمِ،
والقَوم الذين لا يجاوزُ حناجرَهم قراءتُهم, الذينَ لا يََدَبَّرُونَه ولا
يَعْمَلُونَ به، ومِن جملةِ العملِ به الترتيلُ والتلاوةُ حقَّ تلاوتِه،
ونقلَ الزَّيْلَعِيُّ مِن الأئمَّةِ الحنفيَّةِ أنَّهُ لا يَحِلُّ التطريبُ
فيه ولا الاستماعُ إليه؛ لأنَّ فيها تشبيهًا بفعلِ الفَسَقَةِ في حالِ
فِسْقِهِمْ وهو التغنِّي، ولا يُعَكِّرُ عليه قولُه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليسَ مِنَّا مَن لم يَتَغَنَّ بالقرآنِ"؛
لأنَّ المُرَادَ بالتغنِّي به الاستغناءُ، على ما اختارَه سفيانُ بنُ
عُيَيْنَةَ ونقلَه عنهُ شارحُ المصابيحِ، أو المرادُ بهِ تحسينُ الصوتِ
وتزيينُه على وَفْقِ التجويدِ وتبيينه، لقولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "زيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم". ومِن
القراءةِ المَنْهِيَّةِ ما أَحْدَثُه الجماعةُ الأزهريَّةُ حيثُ
يَجْتَمِعُونُ فَيَقْرَؤنَ بصوتٍ واحدٍ ويُقَطِّعُونَ القرآنَ فيأتي بعضُهم
ببعضِ الكلمةِ والآخرُ ببعضِها ويَحْذِفُونَ حرفًا ويزيدونَ آخرَ
ويُحَرِّكُونَ الساكنَ ويسكِّنُونَ المتحرِّكَ، وأمثالُها ويَمُدُّونَ
تارةً ويُقْصِرُونَ أخرى في غيرِ مَحَلِّها مراعاةً للأصواتِ خاصَّةً دونَ
أحوالِها معَ أنَّ الغرضَ الأهمَّ مِن القراءةِ إنَّما هوتصحيحُ مبانِيها
لظهورِ معَانيها ليُعْمَلَ بما فيها، كما قالَ اللهُ تعالى: {كتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِه ولِيَتَذَكَّرَ أولوا الألبابِ}
نعم إذا اجْتُلِيَت المباني على أسماعِ السامعِ والتالي في أعلى معَارضِها
وأجلى جهاتِ النطقِ بها كانَ تلقِّي القلوبِ وإقبالُ النفوسِ عليها زائدةً
في الحلاوةِ على ما لم يبلغْ ذلكَ المبلغَ منها، فحينئذٍٍ يَنْتِجُ
اكتسابَ أوامرِه، واجتنابَ زواجرِه، والرغبةَ في وعدِه، والرهبةَ مِن
وعيدِه، وتلكَ فائدةٌ جسيمةٌ، وعائدةٌ عظيمةٌ، وهذا معنى قولِه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم" أي: أظهرُوا زينَتَها بِحُسْنِ أصواتِكم. وهذا لا ينافي ما وردَ مِن قولِه صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: "زَيِّنُوا أصواتَكُم بالقرآنِ "
وبِمَا تحرَّرَ وتقرَّرَ مِن البيانِ تَبَيَّن حِكْمَةُ شرعِ الإنصاتِ
لقراءةِ القرآنِ وجوبًا في الصلاةِ وندبًا في غيرِها، وحُسْنُ دأبِ
الأئمَّةِ في السكوتِ على التمامِ من الكَلاَمِ؛ لِمَا في ذلكَ مِن سرعةِ
وصولِ المَعْاني إلى الأفهامِ هذا، ويؤيِّدُ الأخيرَ ما رواهُ
التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَهُ عن ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ تعالى عنه قالَ: قالَ
رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قرأَ حرفًا مِن كتابِ اللهِ فلَه حسنةٌ والحسنةُ بعشرِ أمثالِها". ولأنَّ عثمَانَ رَضِيَ اللهُ عنه وغيرَه قرأوا القرآنَ في ركعةٍ ويقوِّي الأَوَّلَ ما وردَ من حديثِ (مَن قرأَ القرآنَ أقلَّ مِن ثلاثٍ لم يَفْهَمْهُ) ومالَ إلى هذا القولِ ابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وغيرُهم مِن الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم.
هذا
وقالَ المصنِّفُ رحمَهُ اللهُ: رُوِّينا بسندٍ صحيحٍ عن أبي عثمَانَ
النَّهْدِيِّ قالَ:" صلَّى بنا ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه بـ {قلْ هوَ اللهُ أحدٌ }،
وواللهِ لَوَدِدْتُ أنَّهُ قَرَأَ سورةَ البقرةِ مِن حُسْنِ صوتِه
وتَرْتِيلِه". وهذه سُنَّةُ اللهِ تباركَ وتعالى فيمَن يقرأُ القرآنَ
مُجَوَّدًا مصحَّحًا كما أُنْزِلَ، تَلْتَذُّ الأسماعُ بتلاوتِه، وتَخْشَعُ
القلوبُ عندَ قراءتِه، حتى يكادَ أنْ يَسْلُبَ العقولَ عن حالتِه، قالَ:
ولقد أدركْنا مِن شيوخِنا مَن لم يكنْ له حُسْنُ صوتٍ ولا مَعْرفةٌ
بالألحانِ، إلا أنَّهُ كانَ جيَّدَ الأداءِ، قَيِّمًا باللفظِ والبناءِ،
فكانَ إذا أفرطَ أطربَ المسامعَ، وأخذَ القلوبَ بالمجامعِ، وكانَ الخَلْقُ
يزدحمونَ عليه، ويجتمعُونَ للاستماعِ إليه، قالَ: وأخبرني جماعةٌ من شيوخي
وغيرُهم أخبارًا بلَغَت التواترَ عن شيخِهم الإمامِ تقيِّ الدينِ محمدِ بنِ
أحمدَ الصائغِ المصريِّ رحمَهُ اللهُ وكانَ أُسْتاذًا في التجويدِ أنَّهُ
قرأَ يومًا في صلاةِ الصبحِ: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فقالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ}
وكرَّرَ هذه الآيةَ، فنزلَ طائرٌ على رأسِ الشيخِ يستمعُ قراءتَه حتى
أَكْمَلَها، فنظَرُوا إليه فإذا هو هدهدٌ. قالَ: وبَلَغَنَا عن الأستاذِ
الإمامِ أبي عليٍّ البغداديِّ المَعْروفِ بسِبْطِ الخيَّاطِ صاحبِ
(المُبْهِجِ) وغيرِه في القراءةِ أنَّهُ كانَ قد أُعْطِيَ حظًّا عظيمًا،
وأنَّهُ أَسْلَمَ على يدِه جماعةٌ مِن اليهودِ والنصارى مِن سماعِ قراءتِه
وحُسْنِ صوتِه. ا هـ.
وفي الحديثِ الشريفِ عن زيدٍ بنِ ثابتٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: " إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ يُقْرَأَ القرآنُ كَمَا أُنْزِلَ" خَرَّجَه ابنُ خُزَيْمَةَ في صحيحِه ويُؤَيِّدُه قولُه تعالى: {الذِينَ آتَيْنَاهُم الكِتَابَ يَتْلُونَه حقَّ تَلاوَتِهِ}.
وفي صحيحِ البخاريِّ عن أنسٍ أنَّهُ سُئِلَ عن قراءةِ رسولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: كانتْ مَدًّا أو مُدَاءً، بسمِ اللهِ
الرحمنِ الرحيمِ يَمُدُّ اللهَ ويَمُدُّ الرحمنَ ويَمُدُّ الرحيمَ. أمَّا
الأَوَّلانِ فَمَدُّهُمَا طبيعيٌّ قدرَ أَلِفٍ، وأمَّا الأخيرُ فَمَدُّهُ
عارضٌ بالسكونِ، فيجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: الطولُ وهو: مقدارُ ثلاثِ أَلِفَاتٍ، والتوسُّطُ وهو: قدرُ الألفينِ، والقِصَرُ: قدرُ ألفٍ.
وقالَ
قاضي خانَ في فتاواه: لو قَرَأَ القرآنَ في صلاتِه بالألحانِ إنْ غَيَّرَ
الكلمةَ تَفْسُدُ صلاتُه لِمَا عُرِفَ، فإنْ كانَ ذلكَ في حرفِ المدِّ
واللينِ لا يُغَيِّرُ المعنى إلا إذا فَحُشَ ا.هـ. وفيه بحثٌ إذ فُحْشُ
امتدادِ حروفِ المدِّ لا يُغَيِّرُ المعنى أبدًا، قالَ: وعندَ الشافعيِّ
الخطأُ في غيرِ الفاتحةِ لا يُفْسِدُ الصلاةَ؛ لأنَّ الكَلاَمَ عندَه لا
يقطعُ الصلاةَ إذا لم يكنْ مُتَعَمِّدًا وهذا ليسَ بِمُتَعَمِّدٍ؛ لأنَّه
يريدُ قراءةَ القرآنِ، وإنَّما تَفْسُدُ الصلاةُ بالخطأِ في الفاتحةِ؛
لأنَّه عندَه لا تجوزُ الصلاةُ بدونِ الفاتحةِ. وإنْ قرأَ بالألحانِ في
غيرِ الصلاةِ اخْتَلَفُوا في جوازِه، وعامَّةُ المشايخِ على منعِه،
وكرِهُوا الاستماعَ أيضًا؛ لأنَّه تشبيهٌ بالفَسَقَةِ بما يفعلونَه في
فِسْقِهم، وكذا الترجيعُ في الأذانِ ا.هـ ولعلَّ محَلَّ اختلافِ الجوازِ ما
لم يُغَيِّرِ المبنى والمعنى، واللهُ سبحانَه وتعالى أعلمُ. ثمَّ رأيتُ في
شرحِ (مُنْيَةِ المُصَلِّي): رجلٌ يقرأُ ويَلْحَنُ يَجِبُ على السامعِ أنْ
يَرُدَّهُ إلى الصوابِ إنْ عَلِمَ أنَّهُ لا يقعُ بسببِ ذلكَ عداوةٌ
وضِغْنٌ وإلا فهو في سَعَةٍ مِن تَرْكِِه.
ويُكْرَهُ
الترجيعُ والتلحينُ بقراءةِ القرآنِ عندَ عامَّةِ المشايخِ؛ لأنَّه شبيهٌ
بفعلِ الفَسَقَةِ، وهذا إذا كانَ لايُغَيِّرُ الحروفَ، أَمَّا اللحنُ
المُغَيِّرُ فحرامٌ بلا خلافٍ ا.هـ وهوَ الغايةُ في المُدَّعَى:
اسمُ (ليسَ) قولُه (بينَه) فإنَّه ظرفٌ لمُقَدَّرٍ هو اسمٌ حقيقةً وهو (فرقٌ) وإلا بمعنى غيرِ، و (رياضةَ) خبرُ ليسَ، و(بفكِّه)
متعلِّقٌ برياضةٍ، والمعنى ليسَ بينَ التجويدِ وتركِه فرقٌ، بمعنى فارقٍ،
إلا مداومةَ امرِىءٍ على التكرارِ، وسماعَه مِن ألفاظِ المشايخِ الحُذَّاقِ
الأبرارِ، لا مجرَّدَ اقتصارٍ على النقلِ مِن الكتبِ المدوَّنَةِ، أو
اكتفاءٍ بالعقلِ المُخْتَلِفِ الأفكارِ، والفكَّانِ مُلْتَقَى
الشِّدْقَيْنِ من الجانبينِ، على ما قالَه ابنُ المصنِّفِ وغيرُه، وهو
بالكسرِ ويُفْتَحُ، ودالُه مُهْمَلَةٌ، جانبُ الفمِ، وجمعُه الْأَشْدَاقُ،
كما في الصِّحَاحِ وقالَ بعضُ الشرَّاحِ: إنَّ الفكَّ اللَّحْيُ، وهو
مُوَافِقٌ لما في الصِّحاحِ والقاموسِ، والمرادُ به مَنْبتُ اللحيةِ، قالَ
خالدٌ: يريدُ بفكَّيْهِ يعني الإضافةَ للجنسِ، وقالَ ابنُ المصنِّفِ: أي
بفمِه، وهذا مِن إطلاقِ الجزءِ والمرادُ به الكُلُّ ا.هـ وتبِعَه غيرُه،
ويَرُدُّه تفسيرُ القاموسِ للفَكِّ بمنبتِ اللَّحْيِ، فإنه ليسَ من أجزاءِ
الفمِ أصلًا، والأظهرُ أنَّ المرادَ به ذِكْرُ المَحَلِّ وإرادةُ الحالِ،
وهوَ اللسانُ المُعَبِّرُ للبيانِ، هذا وللهِ دَرُّ الناظمِ حيثُ قالَ: ولا
أعلمُ سببًا لبلوغِ نهايةِ الإتقانِ والتجويدِ ووصولِ غايةِ التصحيحِ
والتسديدِ مثلَ رياضةِ الألسُنِ والتكرارِ على اللفظِ المُتَلَقَّّى من فمِ
المُحَسِّنِ. ا هـ.
الفوائد التجويدية للشيخ: عبد الرازق بن علي موسى
قال الشيخ عبد الرازق بن علي بن إبراهيم موسى المصري (ت: 1429هـ): (بابُ التجويدِ
لما فرَغَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى من مخارجِ الحروفِ وصفاتِها، شرَعَ في الكلامِ على ما يترتَّبُ على ذلك فقالَ: 27. والأخْذُ بالتجويدِ حَتْمٌ لازمُ = مَن لمْ يُجوِّد الْقُرْآنَ آثِمُ 28. لأنَّه بِهِ الإلهُ أَنْزَلاَ = وهكَذَا مِنْه إلَيْنَا وَصَلا 29. وهو أيضاً حِليةُ التلاوةِ = وزِينةُ الأداءِ والقرَاءةِ 30. وهو إعطاءُ الحروفِ حقَّها = من صِفةٍ لها ومستحَقَّها 31. ورَدُّ كلِّ واحدٍ لأصلِه = واللفظُ في نظيرِه كمثلِهِ 32. مكمَّلاً من غيرِ ما تكلُّفِ = باللُّطْفِ في النُّطقِ بلا تعسُّفِ 33. وليس بينَه وبينَ تركِه = إلا رياضةُ امرئٍ بفكِّهِ
أيْ:
تَجبُ قراءةُ القرآنِ العظيمِ كُلاّ أو بعضاً يعني ولو آيةً واحدةً
بالتجويدِ وجوباً لازماً مُحتَّماً على المكلَّفِ الذي لا يُحسنُ القراءةَ
إذا كانت قراءتُه تُخلُّ بالمعنى أو الإعرابِ ذكراً أو أُنثى، وكذلك يَجبُ
على وَلِيِّ الصبيِّ المميِّزِ أن يعلِّمَه ذلك؛ لأنه من جملةِ التكاليفِ
الشرعيَّةِ التي ذَكرَها الفقهاءُ رضيَ اللهُ عنهمْ، بل صلاتُه التي يُضربُ
عليها في صِغَرِه ويُحاسبُ عليها بعد البلوغِ متوقِّفةٌ على صحَّةِ
قراءتِه كما لا يَخفى قالَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى في النَّشْرِ: ولا
شكَّ أن الأمَّةَ كما هم متعبِّدون بفَهمِ معاني القرآن وإقامةِ حدودِه
متعبِّدون بتصحيحِ ألفاظِه وإقامةِ حروفِه على الصفةِ المتلقَّاةِ من
أئمَّةِ القراءةِ المتَّصِلةِ بالحضْرَةِ النبويَّةِ الأَفصحيَّةِ
العربيَّةِ التي لا يَجوزُ مخالفتُها ولا العُدولُ عنها، إلى غيرِها،
ويَنبغي لنا أن نُعرِّفَ التجويدَ لغةً واصطلاحاً وأحكامَه ودليلَه.
فالتجويدُ لغةً:التحسينُ.
واصطلاحاً:
هو عِلمٌ يُبحثُ فيه عن إخراجِ الحروفِ من مخارجِها مع معرفةِ صفاتِها وما
يَترتَّبُ على هذه الصفاتِ من ترقيقٍ وتفخيمٍ وغيرِ ذلك، وقيلَ: هو إخراجُ
كلِّ حرفٍ من مَخرجِه مع إعطائِه حقَّه ومستحَقَّه.
* فما هو الفرْقُ بينَ الحقِّ والمستحَقِّ؟
حقُّ الحرفِ: إخراجُه من مَخرجِه، ومستحَقُّه:
ما يترتَّبُ على الصفاتِ من ترقيقٍ وتفخيمٍ وغيرِ ذلك. وقد قالَ العلماءُ
إنَّ حُكمَ التجويدِ: العلْمُ به فرْضُ كفايةٍ بمعنى إذا قامَ به البعضُ
سقَطَ عن الكلِّ، والعملُ به فرْضُ عَيْنٍ بمعنى أنَّ قارئَ القرآنِ
يتعيَّنُ عليه تطبيقُ القراءةِ بالتجويدِ فينبغي علينا أن نفرِّقَ بينَ
تعلُّمِ علْمِ التجويدِ، وبينَ العملِ به، فالتجويدُ العِلْمِيُّ لم يقُلْ
أحدٌ بأنه لازمٌ لكل فردٍ وأنَّ من لم يتعلَّمْه آثمٌ، والناظمُ - رحِمَه
اللهُ - لا يريدُ بقولِه:
" من لم يجوِّد الْقُرْآنَ آثمٌ"
التجويدَ العِلْمِيَّ ولكنَّه يقصِدُ التجويدَ العمَلِيَّ وهي القراءةُ
الفعليَّة من القرَّاءِ وأئمَّةِ المساجدِ ونحوِهم ممن يقرأُ القرآنَ كلَّه
أو بعضَه، أمَّا التجويدُ العمَليُّ لمن يَحفظُ القرآنَ كلَّه أو شيئاً
منه، ولو آيةً فحكْمُ التجويدِ بالنسبةِ له واجبٌ شرعيٌّ ومن يَتركُه
ويقرأُ القرآنَ بدونِه يكونُ آثماً؛ لأنه تركَ واجباً شرعيًّا يأثمُ بتركِه
ويُثابُ على فعلِه لما يترتَّبُ على تركِ التجويدِ من تَغييرِ معاني
القرآنِ أو استبدالِ حرفٍ بآخرَ وتَسبُّبٍ في إفسادِ معاني القرآنِ وهذا ما
لا يَقبلُه مسلمٌ غَيُورٌ على كتابِ اللهِ، والناسُ في ذلك بينَ محسِنٍ
مأجورٍ ومسيءٍ آثمٍ أو معذورٍ، فمن قدَرَ على تصحيحِ كلامِ اللهِ تعالى
باللفظِ الصحيحِ العربيِّ الفصيحِ وعَدَلَ إلى اللفظِ الفاسدِ الأعجميِّ أو
النَبَطِيِّ القبيحِ استغناءً بنفسِه، واستبداداً برأيِه وحدَه،
واتِّكالاً على ما ألِفَ من حفظِه واستكباراً عن الرجوعِ إلى عالِمٍ
يُوقفُه على صحيحِ لفظِه فإنه مقصِّرٌ بلا شكَّ وآثمٌ بلا رَيْبَ وعاصٍ بلا
مِرْيَةٍ، فقد قالَ رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (الدِّينُ
النَّصِيحَةُ، قُلْنَا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: للهِ
وَلِكِتَابِهِ ولِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ).
أمَّا
من كان لا يُطاوعُه لسانُه، أو لا يَجدُ من يَهديه إلى الصوابِ، أي كأن
نَشأَ ببلدةٍ بعيدةٍ عن الإسلامِ ولا يَجدُ ما يَرتحلُ به لأجلِ التعليمِ
فلا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاَّ وُسعَها. انتهى. وفائدةُ التجويدِ
العملِيِّ هو: التحرُّزُ والتحفُّظُ من اللَّحنِ في القراءةِ، واللَّحنُ
معناه الخطأُ والميْلُ عن الصوابِ، واللَّحنُ قسمان: جلِيٌّ، وخفِيٌّ، وهو
بقِسمَيْه خَلَلٌ يطرأُ على الألفاظِ فيُخِلُّ بالمعنى، إلاَّ أن الجَلِيَّ
يُخلُّ إخلالاً ظاهراً يَشتركُ في معرفتِه علماءُ القراءةِ وغيرُهم،
كإبدالِ حرفٍ بآخرَ ورفعِ المنصوبِ وخفْضِ المرفوعِ وتشديدِ المخفَّفِ
وتخفيفِ المشدَّدِ، والخفِيُّ يُخلُّ إخلالاً لا يَعرفُه إلاَّ علماءُ
القراءةِ وأئمَّةُ الأداءِ، وهو ألاَّ يُوَفِّيَ الحرفُ حقَّه كأن يُقصِّرَ
القارئُ في صِفةِ الحرفِ التي استحقَّها، كتركِ الإخفاءِ، والإقلابِ
والغُنَّةِ من حروفِها، أو يزيدُ على صفتِه التي استحقَّها كالإفراطِ في
المُدودِ والتعسُّفِ في تفكيكِ الحروفِ فيَجبُ على القارئِ أن يُحكمَ
النُّطقَ بكلِّ حرفٍ على حِدَتِه حتى يُوفِّيَ حقَّه، وإذا أَتقنَ ذلك
بكلِّ حرفٍ منفرِداً فليُعْمِلْ لسانَه بإحكامِه حالةَ التركيبِ؛ لأنه
يَنشأُ عن التركيبِ ما لم يَنشأْ حالةَ الإفرادِ كما هو ظاهرٌ، فكم ممن
يُحسنُ النُّطقَ بالحروفِ مفرَدةً لا يُحسنُ النُّطقَ بها مركَّبةً بحسْبِ
ما يُجاورُها، من مُجانِسٍ ومقارِبٍ وقويٍّ وضعيفٍ، ومفخَّمٍ ومرقَّقٍ
وغيرِ ذلك، فيَجذبُ القويُّ الضعيفَ ويَغلبُ المفخَّمُ المرقَّقَ، فيَصعُبُ
على اللسانِ النُّطقُ بذلك على حقِّه المطلوبِ، إلاَّ بالرياضةِ الشديدةِ
حالةَ التركيبِ أيضاً فمَن أحكَمَ صحَّةَ التلفُّظِ حالةَ التركيبِ فقد
حَصَّلَ حقيقةَ التجويدِ بالإتقانِ والتدريبِ.
هذا وقد ثَبتتْ فرضيَّةُ التجويدِ بالكتابِ والسنَّةِ وإجماعِ الأمَّةِ.
فأما الكتابُ فقولُه تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمِّل: آية 4)،
قالَ البيضاويُّ: أيْ: جوِّدْه تجويداً، وقالَ غيرُه، أي ائْتِ به على
تُؤَدَةٍ وتمَهُّلٍ وطمأنينةٍ. ورياضةُ اللسانِ، أي التَّكرارُ والمداوَمةُ
على القراءةِ بترقيقِ المرقَّقِ، وتفخيمِ المفخَّمِ وقصْرِ المقصورِ،
ومدِّ الممدودِ، وغيرِ ذلك، وقد جاءَ عن عليٍّ كرَّمَ اللهُ وجهَه في قولِه
تعالى: {ورَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}
أنه قالَ: هو تجويدُ الحروفِ ومعرِفةُ الوقوفِ، ولم يَقتصرْ سبحانه على
الأمرِ حتى أكَّدَه بالمصدَرِ اهتماماً وتعظيماً له، ومن المعلومِ أن
الخِطابَ للرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمرادُ أمَّتُه، لأنه كان
يَقرأُ القرآنَ كما أُنزلَ.
وأما السنَّةُ: فمنها قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ (رُبَّ قَارِئٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ)،
أيْ: إذا أَخَلَّ بمَبانِيه أو معانيه أو بالعملِ بما فيه ومن جملةِ
العملِ بما فيه ترتيلُه وتلاوتُه حقَّ تلاوتِه، لأن اللهَ أنزلَه مرتَّلاً
مجوَّداً، وقد وَصَلَ إلينا كذلك عن المشايخِ العارفِين بتحقيقِه وتدقيقِه
المتَّصِلِ سندُهم بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن جبريلَ عن اللهِ
عزَّ وجلَّ ا هـ.
ومنها ما رواه مالكٌ في موطَّئِه، والنسائيُّ في سُننِه عن حذيفةَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنه قالَ:
(اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ
أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ مِنْ
بَعْدِي يُرَجِّعُونَ الْقُرْآنَ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ
وَالنَّوْحِ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ
وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ).
والمراد
بالقراءةِ بِلُحُونِ العربِ: قراءةُ الإنسانِ بحسْبِ جِبِلَّتِه وطبيعتِه
وسَليقتِه على طريقةِ عربِ العُرَبَاءِ الذين نزَلَ القرآنُ بلغتِهم،
والمرادُ بلُحونِ أهلِ الفسقِ والكبائرِ، مراعاةُ الأنغامِ المستفادةِ من
عِلمِ الموسيقى، ومعنى قولِه: "لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ" أيْ: لا
تُقبلُ منهم ولا تُرفعُ؛ لأنَّ من قرأَ القرآنَ على غيرِ ما أَنزلَ اللهُ
ولم يُراعِ فيه ما أُجمِعَ عليه، فقراءتُه ليست قرآناً وتَبطلُ به الصلاةُ
كما قررَّه ابنُ حجرٍ في الفتاوى وغيرُه قال شيخُ الإسلامِ: والمراد بالذين
لا يجاوزُ حناجرَهم الذين لا يتدبِّرونه ولا يَعملون به , ومن العملِ به
تجويدُه وقراءتُه على الصفةِ المتلَقَّاةِ من الحضرةِ النبويَّةِ ".
الردُّ على من يُنكرُ التجويدَ:
وبعد أن بيَّنَّا ضرورةَ التجويدِ وحُكمَه على قارئِ القرآنِ خُصوصاً
أئمَّةَ المساجدِ والوُعَّاظَ ونحوَهم، وبَيَّنَّا أنَّ من يَقرأُ القرآنَ
أو شيئاً منه بدونِ تجويدٍ فهو آثمٌ، نَجدُ واحداً يؤلِّفُ كتاباً و
يُقلِّلُ من شأنِ التجويدِ ويَستهينُ به , ولا يرى فَرضيَّتَه كما نَسمعُ
أحداً من العلماءِ يُفتي بعدَمِ وجوبِ التجويدِ للقرآنِ وأنَّ ابنَ
الجَزْرِيِّ لا حقَّ له في تأثيمِ من يَتركُه، ويقولون: كيف يأثمُ من
يَتركُ التجويدَ؟ ويُضعِّفون الحافظَ ابنَ الجَزْرِيِّ في قولِه " من لم يجوِّد القرآنَ آثمٌ" وقد يكونُ هذا المُفتِي من العلماءِ الذين يَستمعُ الناسُ إليهم، ويَعملون بفتواهم - هدانا اللهُ وإيَّاهم -.
وهنا أسألُ هؤلاءِ العلماءَ والمؤلِّفين سؤالاً وأقولُ لهم:
إذا كانت قراءةُ الْقُرْآنِ بدونِ تجويدٍ وبدونِ الأخْذِ عن المشايخِ
المُسنِدين، تؤدِّي إلى تغييرِ معاني القرآنِ وتغييرِ إعرابِه وبالتالي إلى
ضياعِ القرآنِ الذي هو دستورُنا، فهل تُوافقون على ذلك؟
الجوابُ:
أعتقدُ أنه لا يوجدُ مسلمٌ غيُور على كتابِ اللهِ يوافقُ على ذلك، ويَمنعُ
المحافَظةَ على كتابِ اللهِ في فتواه أو تأليفِه؛ ونضربُ أمثِلةً لتغييرِ
معاني الكلماتِ القرآنيَّةِ بسببِ عدَمِ مراعاةِ التجويدِ، فمثلاً من لم
يجوِّد القرآنَ يقرأُ الضادَ دالاً، كمن يَقرأُ {وَلاَ الضَّالِّينَ}
هكذا "ولا الدالِّينَ" فاللفظُ القرآنيُّ من الضلالِ ضِدُّ الهُدى،
والثاني من الدَّلالةِ، والفرْقُ بينَهما ترقيقُ الضادِ حتى انقلبَتْ إلى
دالٍ، ولو كان مجوَّداً لعُرفَ أن الضادَ حرفٌ حقُّه التفخيمُ لأنه حرفٌ
مستَعْلٍ مُطبَقٌ مستطيلٌ، مثالٌ آخَرُ: من يَقرأُ عسى من قولِه تعالى {عَسَى رَبُّهُ} (التحريم: آية 5) بالتحريمِ
مثلاً يَقرؤُها من لم يجوِّد القرآنَ بالصادِ فيقولُ "عصَى ربُّه" والمعنى
مختلِفٌ كما تَرى، والفرْقُ بينَهما في النُّطقِ أنَّ غيرَ المجوِّدِ
فخَّمَ السينَ فانقلبَتْ صاداً ولو كان مجوِّداً ما فَعلَ ذلك، ومثالُ
الطاءِ مع التاءِ، إذا فُخِّمَت التاءُ تتغيَّرُ إلى الطاءِ وإذا رُقِّقَت
الطاءُ تصير تاءً، مثلُ "طَائِعِينَ" من الطاعةِ، يَقرؤُها من لم يجوِّد
القرآنَ هكذا "تائعين" وهو لفظٌ لا معنى له، وكلُّ هذا يُعلمُ من علْمِ
التجويدِ عن الشيوخِ المتقِنين، ومَثلٌ آخَرُ كلمةُ "أَتَى" من قولِه
تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ} (النحل: آية 1) بمعنى المجيءِ بالقصْرِ (أيْ من غيرِ مدٍّ)، وإذا قُرئَتْ بالمَدِّ الطبيعيِّ، مثلَ كلمةِ "ءَاتَى" من قولِه تعالى: {وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (البقرة: آية 177)
فهي بمعنى الإعطاءِ والفرْقُ بينَ اللَّفْظتين أنها في موضعِ البقرةِ
تُمَدُّ مداً طبيعيًّا لتُؤدِّيَ معنى الإعطاءِ وفي سورةِ النحلِ لا
تُمَدُّ أصْلاً لتؤدِّيَ معنى المجيءِ، وقصْرُ المَدِّ الطبيعيِّ في مِثلِ
قولِه تعالى { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى } {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} يُصَيِّرُ
نونَ العظَمةِ نونَ النِّسوةِ وهذا على غير مرادِ اللهِ، والمدُّ وعدمُه
يُعلمُ من علْمِ التجويدِ والشيوخِ المسندِين، ومن لم يجوِّد القرآنَ ولم
يَقرَأْهُ على أحدِ الشيوخِ يَقْصُرُ الممدودَ ويَمُدُّ المقصورَ ويَصيرُ
ذلك عادةً له، ومألوفاً لديه، فيقرأُ القرآنَ حسْبَ ما ألِفَه من تغييرٍ
وتحريفٍ وقد يكون واعِظاً أو إماماً في مسجدٍ فيَقتدي به الناسُ فيضيعُ
القرآنُ بسببِ الاقتداءِ بهم، فيا أيُّها المسلمون اتَّقوا اللهَ في
القرآنِ وحافِظوا عليه من التحريفِ ينصرْكم على أعدائِكم، وقولوا قولاً
سديداً يُصلحْ لكم أعمالَكم ويَغفرْ لكم ذنوبَكم، ويا أيُّها المؤلِّفون
والمُفتُونَ اعلَموا أنَّ كلَّ علمٍ يُسألُ عنه أهلُه كما قالَ الإمامُ
مالكٌ رحِمَه اللهُ تعالى؛ فلا تُفتوا في غيرِ تخصُّصاتِكم وحافِظوا على
القرآنِ الكريمِ.
ثم إنَّ الناظمَ رحِمَه اللهُ تعالى بيَّنَ علَّة وجوبِ تعلُّمِ عِلمِ التجويدِ حيثُ قالَ:
ضميرُ
لأنه يَرجعُ إلى القرآنِ أو ضميرُ الشأنِ وضميرُ به يَرجعُ إلى التجويدِ،
أيْ: إنما وَجبَ تجويدُ القرآنِ الكريمِ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أَنزلَه
على نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مجوَّداً مرتَّلاً فيَجبُ
على الشخصِ أن يقرأَه على الصفةِ التي أنزلَه اللهُ تعالى بها اقتداءً
بالرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وقولُه " وهكذا منه إلينا وَصَلا"
وفي نسخةٍ وهكذا (عنه) إلينا وَصَلا، جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنَّ قائلاً
قالَ له: مِن أينَ يُعلمُ كيفيَّةُ نزولِ الْقُرْآنِ حتى يُقرأَ كما
أُنْزِلَ؟ فقالَ: "هكذا منه إلينا وَصَلا" أيْ: هكذا بالتجويدِ وَصلَ إلينا
من ربِّنا، وذلك أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أنزلَه إلى اللوْحِ المحفوظِ
إلى جبريلَ عليه السلامُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى
الصحابةِ إلى التابعين رضيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين إلى أئمَّة القرَّاء إلى
الرُّواةِ إلى الطُّرُقِ، إلى أن وَصلَ إلينا عن شيوخِنا مُتواتراً كما
أُنْزِلَ، قالَ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل:آية 6).
وأمَّا الإجماعُ:
فقد أجمَعَت الأمَّةُ مِن لَدُنْهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى يومِنا
هذا على وجوبِ التجويدِ، قالَ الإمامُ عَلَمُ الدين السخاويُّ رحِمَه اللهُ
تعالى: جاءَ رجلٌ إلى نافعٍ أحدِ القرَّاءِ السبعةِ فقالَ: خُذْ على
الحَدْرِ. فقالَ نافعٌ ما الحَدْرُ؟ ما أعرفُها أسمِعْنا. قالَ فقرأَ
الرجلُ , فقالَ نافعٌ رضيَ اللهُ عنه: حُذِّرْنا ألاَّ نُسقطَ الإعرابَ،
ولا نُشدِّدَ مخفَّفاً، ولا نخفِّفَ مشدَّداً، ولا نَقْصُرَ مَمدوداً، ولا
نَمُدَّ مقصوراً قراءتُنا قراءةُ أكابرِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ سهْلٌ جَزْلٌ لا نَمْضِغُ ولا نَلُوكُ، نسهِّلُ ولا نُشدِّدُ،
نقرأُ على أصحِّ اللغاتِ وأَمضاها ولا نلتفتُ إلى أقاويلِ الشعراءِ، أو
أصحابِ اللغاتِ، أصاغرَ عن أكابرَ، وقراءتُنا قراءةُ المشايخِ نَسمعُ
القرآنَ، ولا نَستعملُ فيه الرأيَ، ثم قرأ نافعٌ رضيَ اللهُ عنه قولَه
تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الاسراء: آية 88) انتهى.
قالَ العلاَّمةُ المسعديُّ في شرحِه: تنبيهٌ آخَرُ، يَنبغي للقارئِ إذا قرأَ نحوَ: قولِه تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} (التوبة: آيه 30) {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} (التوبة: أية 30) و{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} (المائدة: آية 64) {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً} (البقرة: آية 116) {قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ} (آل عمران:آيه 181) و {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (المائدة: آية 73)، أن يَخفِضَ صوتَه، كما كان يَفعلُه إبراهيمُ النَّخَعِيُّ رضيَ اللهُ عنه، نقلَه النوويُّ في التبيانِ، ثم كمَّلَ الناظمُ فقالَ:
أيْ:
التجويدُ حِليةٌ وزِينةٌ لكلٍّ من التلاوةِ والأداءِ والقراءةِ، والفرْقُ
بينَ الثلاثةِ، أنَّ القراءةَ تلاوةُ الْقُرْآنِ مُتتابِعاً؛ كالأورادِ
والأسباعِ، والدراسةُ والأداءُ هو الأخْذُ عن المشايخِ، والقِراءةُ تُطلقُ
عليهما، فهي أعمُّ منهما.
تنبيهٌ: مَراتبُ التجويدِ ثلاثةٌ: التحقيقُ، والحَدْرُ، والتدويرُ، فالتحقيقُ مذهبُ
وَرْشٍ وعاصمٍ وحمزةَ، وهو الطمأنينةُ والمبالَغةُ في الإتيانِ بالشيءِ
على حقِّه من نحوِ إشباعِ المَدِّ وتحقيقِ الهمز، وإتمامِ الحركاتِ إذ لا
يكون معه غالباً اختلاسٌ ولا قصْرٌ، ويُستحبُّ الأخْذُ به على المتعلِّمين
من غيرِ تَجاوُزِ حدِّ الإفراطِ من تحريكِ السواكنِ وتوليدِ الحروفِ من
إشباعِ الحركاتِ وتكريرِ الراءاتِ، وتطنينِ النوناتِ بالمبالَغةِ في
الغُنَّاتِ كما قالَ إمامُ المحقِّقين حمزةُ رضيَ اللهُ عنه لمن يُبالِغُ
في ذلك، أما علمْتَ أن ما كان فوقَ الجُعُودَةِ فهو قَطَطٌ، وما كان فوقَ
البياضِ فهو بَرَصٌ، وما كان فوقَ القراءةِ فليسَ بقراءةٍ، والترتيلُ نوعٌ
من التحقيقِ عندَ الأكثرين, وفرَّقَ بعضُهم بينَهما بأنَّ التحقيقَ يكونُ
للرياضةِ والتعليمِ والتمرينِ، وأنّ الترتيلَ يكونُ للتدبُّرِ والتفكيرِ
والاستنباطِ، فكلُّ ترتيلٍ تحقيقٌ ولا عكْسَ, والحَدْرُ
بالدالِ المهمَلةِ الساكنةِ مذهَبُ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو وقالونَ، وهو
الإسراعُ، فهو عبارةٌ عن إدراجِ الحروفِ وتخفيفِها بالقصْرِ والتسكينِ
والاختلاسِ وغيرِ ذلك، مع تمكينِ الحروفِ وتفكيكِها وبيانِها، وإخلاصِ
بعضِها من بعضٍ وإعطاءِ الحروفِ حقَّها من الحركاتِ والسَّكَنَاتِ
والتشديدِ وغيرِ ذلك، مع ملاحظةِ الجائزِ من الوقوفِ، إذ مراعاةُ الوقْفِ
والابتداءِ وُجوباً وامتناعاً، وحَسَناً وقبيحاً على ما يأتي بيانُه من
مَحاسنِ القراءةِ، يَزيدُها رَوْنَقاً وبَهاءً والتدويرُ مذهبُ ابنِ عامرٍ
والكِسائيِّ وهو التوسُّطُ بينَ المقامَيْن، وما ذُكِرَ من تخصيصِ كلِّ
مَرتبةٍ ببعضِ القرَّاءِ، هو الغالبُ على قراءةِ القرَّاءِ السبعةِ، وإلا
فكلُّ القرَّاءِ يُجيزون كُلاّ من المراتبِ الثلاثةِ المتقدِّمةِ.
(تَـتِـمَّــةٌ)
اختلفَ
العلماءُ - رحمَهم اللهُ - في الأفضلِ هل هو الترتيلُ مع قلَّةِ القراءةِ،
أو السرعةُ مع كثرةِ القراءةِ، فذهبَ بعضُهم إلى الثاني تمسُّكاً بما رواه
ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم أنه قالَ: (مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)
الحديثُ، قالَ الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى في النَّشْرِ: وأحسَنَ بعضُ
أئمَّتِنا، فقال: إنَّ ثوابَ قراءةِ الترتيلِ والتدبُّرِ أجَلُّ وأرفَعُ
قدْراً، وإنَّ ثوابَ كثرةِ القراءةِ أكثرُ عدداً فالأوَّلُ كمن تصدَّقَ
بجوهرةٍ عظيمةٍ أو أَعتقَ عبداً من العبيدِ قيمتُه نفيسةٌ، والثاني: كمن
تصدَّق بعددٍ كثيرٍ من الدراهمِ، أو أعتقَ عدداً كثيراً من العبيدِ قيمتُهم
رخيصةٌ.
وقالَ
الإمامُ أبو حامدٍ الغزاليُّ رحِمه اللهُ: واعلمْ أنَّ الترتيلَ مستحَبٌّ
لا لمُجرَّدِ التدبُّرِ فإنَّ العَجَميَّ الذي لا يَفهمُ معنى القرآنِ
يُستحَبُّ له أيضاً القراءةُ بالترتيلِ والتُّؤَدَةِ؛ لأنَّ ذلك أقربُ إلى
التوقيرِ، والاحترامِ وأشدُّ تأثيراً في القلبِ من الاستعجالِ
والهَذْرَمَةِ، ثم أخذَ الناظمُ في تعريفِ التجويدِ فقالَ:
اعلم أنَّ التجويدَ في اللغةِ: التحسينُ، وفي الاصطلاحِ:
ما ذَكرَه الناظمُ رحِمَه اللهُ تعالى في هذا البيتِ من إعطاءِ الحروفِ
حقَّها من صفاتِها السابقةِ ذاتيَّةً كانت أم عرَضِيَّةً، ومستحَقَّها مما
يَنشأُ عن صفاتِها الذاتيَّةِ مع بلوغِ الغايةِ والنهايةِ في إتقانِها
وتحسينِها وخُلوِّها من الزيادةِ والنقصِ.
تنبيهٌ
الفرْقُ بينَ حقِّ الحروفِ ومستحقِّها:
اعلمْ
أن حقَّ الحروفِ صفاتُها الذاتيَّةُ اللازمةُ لها كالجهْرِ والشِّدَّةِ
والاستعلاءِ، ومستحَقَّها: ما يَنشأُ عن تلك الصفاتِ كالتفخيمِ فإنه ناشئٌ
عن الاستِفَالِ، فإن قلتَ: هل هناك فرْقٌ آخَرُ بينَ الحقِّ والمستحَقِّ؟
فالجوابُ: نعم. إنَّ الحقَّ صِفةٌ لازمةٌ للحرفِ في كلِّ الأحوالِ
كالاستعلاءِ والتكريرِ والاستِفَالِ فإنها تكونُ في الحرفِ حالَ سكونِه
وتحريكِه بجميعِ الحركاتِ، وأما المستحَقُّ كالتفخيمِ والترقيقِ فإنهما لا
يكونان في الحرفِ إلاَّ في بعضِ أحوالِه، وذلك أنَّ التفخيمَ الناشئَ عن
الاستعلاءِ والتكريرِ المذكورَيْن يكونُ في الحرفِ حالَ سكونِه وتحريكِه
بالفتْحِ والضمِّ فقط، وأما حالَ الكسرِ فلا يوجَدُ فيه التفخيمُ بل ضِدُّه
وهو الترقيقُ؛ لأنَّ بينَ الكسرِ والتفخيمِ مانعَةُ الجمْعِ - كما ذكَرَه
المسعديُّ في شرحِه -، إذ الكسرُ يَستدعي انخفاضَ اللسانِ والتفخيمُ
يَستدعي ارتفاعَه، وأنَّ الترقيقَ الناشئََ عن الاستِفالِ المذكورِ يكون في
الراءِ حالَ كسرِها وفي اللامِ إذا لم تكنْ في لفظِ الجلالةِ وقبلَها فتحٌ
أو ضمٌّ، أما حالَ سكونِ الراءِ مع انتفاءِ سببِ الترقيقِ قبلَها
وتحريكِها بغيرِ الكسرِ فلا يكونُ فيها ترقيقٌ مع أنها مستفِلةٌ، هذا ما
ذكَرَه العلماءُ وفي هذا ردٌّ على مَن أَلزمَ غيرَه بترقيقِ الراءِ في
{وَنُذُرِ} وقْفاً في سورةِ القمرِ تكبُّراً وعِناداً؛ مع أنَّ ترقيقَها
غيرُ مستساغٍ وغيرُ عربيٍّ والقرآنُ نزلَ بلغةِ العربِ وهؤلاءِ يُخرجونَ
القرآنَ عن لغتِه التي أَنزلَه اللهُ تعالى بها - نسألُ اللهَ حُسنَ
الخاتمةِ - وكذلك اللامُ إذا كانت في الاسمِ الكريمِ فلا يكونُ فيها ترقيقٌ
مع أنها مستفِلةٌ، وأيضاً اللامُ إذا كانت في الاسمِ الجليلِ وقبلَها فتحٌ
أو ضمٌّ فلا يكونُ فيها ترقيقٌ مع أنها مستفِلةٌ،
ثم قالَ الناظمُ:
هذا
البيتُ تتمَّةٌ للبيتِ السابقِ، يعني: والتجويدُ في الاصطلاحِ أيضاً ردُّ
كلِّ حرفٍ لأصلِه أيْ: حيِّزُه الذي خرجَ منه، واللفظُ في نظيرِ ذلك الحرفِ
بعدَ لفظِك به مثلُ لفظِك به أوَّلاً, فإنْ كان الحرفُ الأوَّلُ مرقَّقاً
فنظيرُه يكونُ مرقَّقاً أو مفخَّماً فإنَّه يكونُ مفخَّماً ومشدَّداً فإنَّ
نظيرَه يكونُ مشدَّداً، أو ممدوداً فإنَّه يكونُ ممدوداً إلى غيرِ ذلك
والخُلاصةُ: جَعْلُ النظيرِ كنظيرِه لتكونَ القراءةُ على نَسَقٍ واحدٍ، ثم
قالَ الناظمُ:
أيْ:
مكمَّلاً ذلك كلُّه من إعطاءِ الحروفِ حقَّها من الصفاتِ ومستحَقَّها مما
يَنشأُ عن ذلك، وردِّها إلى مخارجِها يكونُ من غيرِ تكلُّفٍ ولا تعسُّفٍ
ولا مشقَّةٍ، بل يكونُ القارئُ متلطِّفاً في النُّطقِ بالحروفِ وهذا كلُّه
في حقِّ من كانت قراءتُه بالعُنْفِ طبْعاً أو صُنعاً، أما من كانت قراءتُه
بالرَّخاوَةِ واللِّينِ وخفْضِ الصوتِ فبالعكسِ لأن الغرضَ هو الإتيانُ
بالقدْرِ الجائزِ. و(ما) في قولِه: ما تكلُّفٍ، زائدةٌ للتأكيدِ، انتهى.
فائدةٌ:
قالَ العلاَّمةُ المسعديُّ في شرحِه: يُستحَبُّ للقارئِ تحسينُ صوتِه في
قراءةِ القرآنِ الكريمِ, فإنَّ النفوسَ كما لا يَخفى لها حظٌّ من الأصواتِ
الحَسَنةِ, فإنه إذا جُليَتْ ألفاظُ القرآنِ العزيزِ بالأصواتِ الطيِّبةِ,
مع مراعاةِ قوانينِ التجويدِ على الأسماعِ تَلقَّتْها القلوبُ وأَقبلَتْ
عليها النفوسُ, وربما أَثْمَرَ ذلك في تدبُّرِ آياتِه، والتفكُّرِ في
غوامضِه والتبحُّرِ في مقاصدِه، فيَحْصُلُ حينئذٍ للشخصِ الامتثالُ
لأوامرِه والانتهاءُ عن مناهِيهِ، والرغبةُ في وعدِه والرهبةُ من وعيدِه،
قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ)، وكذا يُستحَبُّ رفْعُ الصوتِ بالقرآنِ، قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم: (مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ)، وَمَحَلُّ أَفْضَلِيَّةِ رفْعِ الصوتِ إذا لم يَخفْ رياءً ولم يَتأذَّ به أحدٌ وإلا فالإسرارُ أفضلُ، واللهُ أعلمُ.
ثم قالَ الناظمُ:
أي:
ليس بينَ التجويدِ وتركِه فرْقٌ إلاَّ رياضةُ امرئٍ، أيْ: مداومةُ الإنسانِ
على القراءةِ بأخذِها من أفواهِ المشايخِ لا بمجرَّدِ النقلِ والسماعِ،
ويجبُ أن تكونَ تلك الرياضةُ بفكِّه أيْ: بفمِ القارئِ لا بمجرَّدِ
تخيُّلِها في ذِهنِه فإنّ ذلك من ترْكِ التجويدِ أيضاً، والفكُّ واحدُ
الفكَّيْنِ، أي: مُلتَقَى الشِّدْقَيْن من الجانبَيْن، وهو من إطلاقِ
الجزءِ وإرادةِ الكلِّ.
(تتمـةٌ)
يقولُ
المسعديُّ يرحَمُه اللهُ: من ترْكِ التجويدِ أيضاً أشياءٌ كثيرةٌ منها؛
القراءةُ باللِّينِ والرَّخاوةِ في الحروفِ وكونُها غيرَ صلْبَةٍ بحيثُ
تُشبهُ قراءةَ الكسلانِ أو النعسانِ، ومنها النَّفْرُ بالحروفِ عندَ
النُّطقِ بها بحيثُ يُشبهُ المشاجِرَ، ومنها تقطيعُ الحروفِ بعضَها من بعضٍ
بما يُشبهُ السكْتَ خصوصاً الحروفَ المظهَرةَ قصْدَ الزيادةِ في بيانِها،
إذ الإظهارُ له حدٌّ معلومٌ، ومنها عدمُ بيانِ الحروفِ الموقوفِ عليها حتى
لا يكادُ يُسمعُ لها صوتٌ، ومنها إشباعُ الحركاتِ بحيث يتولَّدُ منها حروفُ
مدٍّ، وربما يَفسدُ المعنى بذلك، ومنها أن يَبلغَ القارئُ بالقَلْقَلَةِ
في حروفِها رُتبةَ الحركةِ كُلاّ أو بعضاً، ومنها إعطاءُ الحرفِ صِفةَ
مجاوِرِه قويَّةً كانت أو ضعيفةً، ومنها تفخيمُ الراءِ الساكنةِ إذا كان
قبلَها سببُ ترقيقِها، أو ترقيقُها إذا كان قبلَها ضمَّةٌ كمن دعا إلى
ترقيقِ (وَنُذُرِ) وقْفاً في سورةِ القمرِ، ومنها إشباعُ الحرفِ الذي قبلَ
الحرفِ الموقوفِ عليه، بحيث يتولَّدُ منهما حرفُ مدٍّ، فكثيرٌ من الناسِ
يفعلُه، ومنها إبدالُ الحرفِ بغيرِه، ونكتفي بهذا القدرِ من شرحِ
المسعديِّ.
شرح المقدمة الجزرية للشيخ المقرئ: عبد الباسط هاشم
قال الشيخ عبد الباسط بن حامد بن محمد متولي [المعروف بعبد الباسط هاشم] (ت: 1441هـ):
(بسم
الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى
آله وصحابته ومن والاه، وبعد فهذا هو الشريط الثاني نتابع فيه تسجيل شرح
المقدمه المسماة بالجزرية في فن التجويد. تأليف الإمام العالم العامل محمد
بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري الدمشقي رضي الله تبارك وتعالى عنه ,
شرح وتحقيق الفقير إلى ربه/ عبد الباسط حامد محمد وشهرته عبد الباسط هاشم
فنقول وبالله التوفيق. والأخذ بالتجويد حتم لازم = من لم يجوَّد القرآن آثم *وهو أيضاً حلية التلاوة * *وزينة الأداء والقراءة * *وردكل واحد لأصله * *واللفظ في نظيره كمثله * *مكملاً من غير ما تكلف * *باللطف في النطق بلا تعسف * *وليس بينه وبين تركه * * إلا رياضة امرئ بفكه * وقل أعوذ إن أردت تقرا = كالنحل جهراً لجميع القرا إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ جهاراً من الشيطان بالله مسجلا إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ = وبالجهر عند الكل في الكل مسجلا ورقق الهمزة من أعوذ = وعين العين فذا مجذوذ *ولابد منها في ابتدائك سورة * * وفي ابتدا السورة كل بسملا * ومهما تصلها مع أواخر السور = فلا تقف وغيره لا يحتَجَرْ ومهما تصلها مع أواخر سورة = فلا تقفنَّ الدهر فيها فتثقلا وللكل قف صل في عليم براءة أو اسكت = وبين الناس والحمد بسملا * وبين الناس والحمد بسملا *
قال الناظم:
حتم: أي واجب , ولازم تأكيد لهذا الحتم أو حتم تأكيد للازم , (من لم يجوَّد القرآن آثم) وقد سبق أن قلنا أن هذه الحتمية على من فسدت قراءته؛ لذا فقد نسبه إلى الإثم، فقال: (من لم يجوَّد القرآن آثم).
وقوله: (لأنه به الإله أنزلا) أي أن الله تعالى أنزل القرآن مجوداً مرتلاً ولذا قال لنبيه:{فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} ولم يقل فاتبع قراءته. وقال:{ ولا تعجل بالقرآن} ولم يقل: ولا تعجل بالقراءة وقال: {وإنك لتلُقى القرآن}.
فالقرآن إذن نزل من عند الله تبارك وتعالى مجوداً محكماً مرتلاً، وهكذا
منه إلينا وصل، فمن قرأ القرآن قراءة مخلة بالمعنى أو الإعراب فهو آثم
وصلاته باطلة، قال تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً}
أي: ائت به على تؤدة مبينَّة حروفه تامة وقوفه، وأكد المصدر تعظيماً لشأنه
وترغيباً في ثوابه. وأي قارئ ترك ذلك دخل في حيزِّ الخبر: ((رب قارئ
للقرآن والقرآن يلعنه)).
قال الناظم:
فالترتيل: هو التأني بالتلاوة، كما نسمعه في الإذاعات والحفلات.
والتدوير: هو ما نسميه اصطلاحاً بيننا بالمرتل.
والحدر: أسرع منه بقليل.
وهناك مرتبة رابعة، وهي الهذرمة , والقراءة بها محرمة، إلا في النفس للمذاكرة خوف النسيان.
قال الناظم:
وهو _أي التجويد -إعطاء الحروف حقها , بتوفية صفاتها وإخراجها من مخرجها.
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقد
صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على باب أبي موسى الأشعري ليلة،
فلما صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح قال له: ((يا أبا موسى لقد وقفت على بابك أستمع إلى قراءتك وحسن صوتك لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) فقال أبو موسى: بأبي أنت وأمي يارسول الله لو علمت بوقوفك لحبرته لك تحبيراً. أي لحسنت صوتي أحسن وأحسن.
فدل على أن الصوت الجميل، والموسيقى السمحة الطيبة التي لا تجحف بالقرآن مستحبة، ثم يقول رسول الله: ((فإنه سيجيء أقوام من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم , مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم)). أعاذنا الله من ذلك بمنه إن شاء الله.
والفيصل
في ذلك أن القارئ إذا كان على علم بالموسيقى، وتعمد القراءة بمقام ما من
مقامات الموسيقى فإن كان متعمداً لذلك مع المحافظة على القرآن كره له ذلك
تنزيهاً، وإن تجاوز في التلاوة ومطط وزاد في المدود حرم ذلك ودخل في دائرة
من يلعنه القرآن والعياذ بالله, والمراد بالذين لا يجاوز حناجرهم من لا
يعملون به ولا يتدبرونه قال تعالى:{ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}.
قال الناظم:
الباب الأول
في الاستعاذة وأحكامها
وأتكلم أولاً: في حكمها.
ثانياً: في صيغها.
ثالثاً: في شروط الجهر بها.
رابعاً: في وجوهها مع البسملة والمبدوء به وتسمى بأوجه الاستفتاح.
خامساً: في كيفية النطق بها.
فأقول وبالله التوفيق:
أما حكمها فالمتفق عليه أنها مندوبة، وقال فقهاء الظاهرية وعلماؤهم أنها واجبة لقول الله تبارك وتعالى في سورة النحل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
جعلوا الأمر للوجوب قلنا: لو كانت واجبة لكتبت في المصحف ولو مرة , ولم
يكن ذلك فدل على أن الأمر للجواز والاستحباب , وقال الإمام النخعي: "بحسب
الإنسان أن يتعوذ في عمره مرة".
قلت:
يجوز ذلك بالنسبة لهم، أما بالنسبة لنا فلابد من التعوذ في كل لحظة، وقد
أوصاني أشياخي أن أتعوذ في أول القراءة وبعد انتهاء القراءة؛ أما في أول
القراءة فلئلا يلبِّس الشيطان علي القراءة، وأما بعد القراءة فلئلا أغتر
بحسن العمل، وذلك من الشرك الخفي.
وإذا كان الشيطان يوسوس للأنبياء والرسل فلم لا نتحرز منه دائماً وأبداً؟! قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولانبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} إذن فالشيطان لايترك ولياً ولانبياً ولا رسولاً ولا صدِّيقاً، فيستحب دوام التعوذ في كل حال.
وأما صيغها
فأفضلها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن زدت تنزيهاً لربك مما صح في
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
إنه هو السميع العليم , أو قلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم , أو قلت: أعوذ بالله العظيم ووجهه الكريم وسلطانه القديم من
الشيطان الرجيم - جاز ذلك كله إن شاء الله، مادام المصدر في هذا التنزيه
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.
قال الإمام ابن الجزري: في طيبته:
وإن تغير أو تزد لفظا فلا = تعد الذي قد صح مما نقلا
وقال الإمام الشاطبي:
على ما أتى في النحل يسرا وإن تزد = لربك تنزيهاً فلست مجهلا
وقد ذكروا لفظ الرسول فلم يزد = ولو صح هذا النقل لم يبق مجملاً
يريد
لوصحت الصيغة التي نزهت بها ربك تبارك وتعالى من سنة رسول الله لم تبق
مجملا ولا مفصَّلا في الثناء والمديح والتسبيح والتقديس إلا ذكرته ودعوى أن
ذلك شاذ لا يقوم عليها دليل؛ لأن الشاذة هي قراءة لآية من القرآن بقراءة
غير متواترة ولا صحيحة , والتعوذ ليس من القرآن بحال. والله أعلم.
والسنة في التعوذ الجهر بشروط أربع:
أولاً: بدء قراءة أو درس.
ثانياً: أن تكون القراءة كلها أو الدرس كله جهري، لا يجهر ببعضه ولا يُسَرُّ ببعضه.
ثالثاً: حضور من يسمع الدرس أو القراءة.
رابعاً: جوازه أي الجهر في النافلة لا في الفريضة.
أما ما سوى ذلك فسراً.
وأوجه التعوذ والبسملة والمبدوء به أربع:
1_ قطع الجميع، كأن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين , كل بنفس.
ثانيا: قطع الأول ووصل الثاني بالثالث هكذا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
فالأول بنفس، والثاني والثالث بنفس.
ثالثاً:
وصل الأول بالثاني وقطع الثالث، كأن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم - في نفس - الحمد لله رب العالمين , في نفس آخر.
رابعاً: وصل الجميع في نفس هكذا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين , ويسمى بوصل الجميع.
وفي حكمها وأوجه الاستفتاح وشروط الجهر، قال الإمام خلف الحسيني في إتحافه:
بشرط استماع وابتداء دراسة = ولا مخفياً أو في الصلاة ففصِّلا
ووقف عليه ثم وصل بأربع = لهم واستعذ ندباً أو اوجب ووهِّلا
وقوله: "إذا ما أردت الدهر" أي إذا أردت القراءة طول دهرك.
وقوله: "أو في الصلاة ففصلا" أي: اجهر بالتعوذ في النافلة دون الفريضة.
وقوله: "أو اوجب ووهِّلا " يريد أن الحكم بوجوبها ضعيف , والوهل هو الضعف.
وقد سألت شيخي يوماً أما قال أحد من العلماء قولاً في كيفية النطق بالتعوذ فقال: سمعت الإمام المتولي يقول:
وشنشن الشين من الشيطان = وفخم الطاء أخا العرفان
هذا
وتستحب الاستعاذة عند أي عمل، فعند لبس الثوب، ودخول الحمام ودخول المسجد،
وقرب الأهل. كل ذلك يستحب فيه التعوذ، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني في أحكام البسملة: ونتكلم:
أولاً: على أحكامها.
ثانياً: على وجوهها ما بين السورتين.
ثالثاً: كلمة في التنكيس وأحواله.
رابعاً: في حكم ما بين آخر الأنفال والتوبة.
فنقول وبالله التوفيق: للبسملة أربعة أحكام:
الوجوب والجواز والحرمة والكراهة.
أما الوجوب فهي واجبة عند من روايته البسملة في أول كل سورة قولاً واحداً. قال الإمام الشاطبي:
*وفي الأجزاء خير من تلا *
وقال ابن الجزرى:"ووسطا خيِّر".
وأما حرمتها فتحرم في أول براءة؛ لنزول السورة بالسيف قال الإمام الشاطبي:
ومهما تصلها أوبدأت براءة = لتنزيلها بالسيف لست مبسملا
وقال ابن الجزري " وفي ابتدا السورة كل بسملا سوى براءة".
وتحرم أيضاً إن وصلتها بآخر سورة ووقفت عليها، كأن قلت: { واتقوا الله لعلكم تفلحون }بسم الله الرحمن الرحيم. فهذا حرام لأنك نقلت البسملة إلى آخر السورة مع أنها من أول التي تليها.
قال ابن الجزري:
وقال الإمام الشاطبي:
أي: إياك طول دهرك أن تصل البسملة بآخر سورة وتقف، فتكون سمجاً ثقيلاً.
وأما الكراهة فوصل البسملة بما ينافي معناها، كأن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم{ الذين كفروا} , أو تقول: { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} بسم الله الرحمن الرحيم {الذين كفروا}، أو تقول: بسم الله الرحمن الرحيم {ويل} , أو بسم الله الرحمن الرحيم{نمتعهم قليلاً}...وما إلى ذلك , فلا توصل البسملة بما ينافيها.
وأما وجوه ما بين السورتين فثلاثة:
أولاً: قطع الجميع , كأن تقول:{فانصرنا على القوم الكافرين}بسم الله الرحمن الرحيم {الم}كل بنفس.
ثانياً: قطع الأول ووصل الثاني بالثالث، كأن تقول:{ فانصرنا على القوم الكافرين}وتتنفس بسم الله الرحمن الرحيم {الم}.
ثالثاً: وصل الجميع بشرط أن يكون المنتهي والمبتدأ به لائق بالبسملة حالاً ومقاماً كأن تقول: {فانصرنا على القوم الكافرين} بسم الله الرحمن الرحيم {آلم}.
والسنة المتبعة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كان يختار قطع الجميع في التعوذ والبسملة معاً.
أما وصل الأول بالثاني والوقف عليه فهو ممنوع كما تقدم. وليس في التحتي تنكيس فلا يضر وصل آخر البقرة مثلاً بأول مريم.
والتنكيس أربع أنواع:
الأول:
مكروه كراهة تنزيهية , وهو وصل السورة بالتي فوقها , والكراهة التنزيهية
هي ما يسميه الفقهاء بخلاف الأولى، وإن نقل أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلى بالنساء ثم بالبقرة ثم بآل عمران فهذا من خصائصه صلى الله عليه
وسلم أو ليدل على أن ذلك لا وزر فيه.
والنوع الثاني من التنكيس هو المكروه كراهة تحريمية، وهو تلاوة آيات متفرقات آية من هنا وآية من هنا وآية من هنا كأن يقول: {إن الله اصطفىآدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} {وسارعوا إلىمغفرة من ربكم} {واذكر في الكتاب مريم}...وهكذا
زاعماً أنه يتلو قرآناً، فهذا مكروه كراهة تحريمية، إلا إن كان في مجلس
علْم لزم منه سرد آيات لبيان موضوع درسه فمثل هذا يتجاوز عنه إن شاء الله.
النوع الثالث: من أنواع التنكيس وهو الحرام، وهو تلاوة الآيات منكوسة كأن يتلو آية ثم التي قبلها ثم التي قبلها مثال ذلك أن يقول: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} {الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} { أولئك هم الوارثون} والعياذ بالله من ذلك , فهذا حرام مطلقاً.
والنوع الرابع: هو الكفر بعينه , وهو أن يجعل أول الآية آخرها وآخرها أولها فذاك كفر والعياذ بالله إن تعمده.
هذا ما قاله العلماء فى التنكيس.
وبين الأنفال والتوبة ثلاثة أوجه:
أولاً: الوقف.
ثانياً: الوصل.
ثالثاً: السكت.
فالوقف أن يقول:{إن الله بكل شيء عليم} {براءة من الله ورسوله} متنفساً بينهما.
والوصل أن يقول: {إن الله بكل شيء عليم } {براءة من الله ورسوله}.
والسكت أن يسكت على اسمه عليم بأي وجه من وجوه العارض الآتية بلا تنفس، مقدار حركتين مستأنفاً براءة هكذا:{إن الله بكل شيء عليم} { براءة من الله ورسوله}.
قال الإمام الحسيني في إتحافه:
الوجــة الثـانــي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وسيق الذين اتقوا ربهم}
وهكذا في أي سورة مادام لا ينوي قراءتها من أولها، وعليه فوصل التعوذ بما
بعده في نفَس واحد جائز، إلا إن أخلَّ بالمعنى، كأن يقول: أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم {قل هو القادر}، أو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إليه يرد علم الساعة} ومثل ذلك كثير، وهو حرام. فليحترز القارئ من ذلك كله.
هذا ما أحاط به عقل الفقير في الكلام على البسملة والله تعالى أعلم.
ولم
يذكر إمامنا هذا الكلام في المقدمة، فأردت ذكره كما أريد أن يكون شرحي هذا
إن شاء الله يستغنى به عن كل ماسواه، ولا يستغنى عنه طالب لذا أرتب الأحكام
كما تعلمتها من أشياخي، بغض النظر عن التقديم والتأخير في المقدمة، وعلى
هذا سأذكر ما ذكره شيخنا في المقدمة ومالم يذكره أيضاً.
_____________________________
* نص الآية الصحيح (فإذا ) وليس وإذا , الآية سورة النحل رقم 98