26 Oct 2008
باب ما جاء في اللو
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي اللَّوْ وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}[آل عِمْرَانَ:16].
فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((احْرِصْ
عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزَنَّ، وَإِنْ
أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا
وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ
تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)). الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَتَيْنِ فِي آلِ عِمْرَانَ.
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْـرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَـاهُنَا}[آل عِمْرَانَ:154].
الثَّالِثَةُ: تَعْلِيلُ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ.
الرَّابِعَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى الْكَلاَمِ الْحَسَنِ.
الْخَامِسَةُ: الأَمْرُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُ مَعَ الاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ.
السَّادِسَةُ: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَجْزُ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ((1) اعْلَمْ أنَّ منْ كمالِ التوحيدِ الاستسلامَ للقضاءِ والقدرِ رضًا باللهِ رَبًّا؛ فإنَّ هذا منْ جنسِ المصائبِ، والعبدُ مأمورٌ عندَ المصائبِ بالصبرِ والإرجاعِ والتوبةِ.
وقولُ:
(لوْ) لا يُجْدِي عليهِ إلاَّ الحزنَ والتحَسُّرَ، مَعَ ما يُخَالِطُ
تَوْحيدَهُ منْ نوعِ المعاندةِ للقدرِ الذي لا يكادُ يَسْلَمُ منها مَنْ
وَقَعَ منهُ هذا إلاَّ ما شاءَ اللهُ. قالَ اللهُ تَعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أيْ: هذا قدرٌ مُقَدَّرٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ، وحُكْمٌ حَتْمٌ لازمٌ لا مَحِيدَ عنهُ ولا مَنَاصَ منهُ. وعن ابنِ جُرَيْجٍ في الآيَةِ قالَ: (هوَ عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ {الَّذِينَ قَعَدُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} الذينَ خرجُوا معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أُحدٍ) رواهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ. {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} قالَ ابنُ كثيرٍ: (لوْ سَمِعُوا مَشُورَتَنا عليهم في القعودِ وعدمِ الخروجِ ما قُتِلُوا معَ مَنْ قُتِلَ، قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
أيْ: إنْ كانَ القعودُ يَسْلَمُ بهِ الشخصُ من القتلِ والموتِ، فينبغي
أنَّكم لا تموتُونَ، والموتُ لا بُدَّ آتٍ إليكم ولوْ كنْتُم في بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ، فادْفَعُوا عنْ أنفسِكُم الموتَ إنْ كنتم صادقينَ). قُلْتُ: وكانَ أشارَ على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أُحُدٍ بعدمِ الخروجِ. ولفظُهُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْمُؤْمِنُ
الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ،
وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) إلى آخرِهِ. قُلْتُ: الظاهرُ
أَنَّ المرادَ القُوَّةُ في أَمْرِ اللهِ وتنفيذِهِ، والمسابقةُ بالخيرِ،
والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ، والصبرُ على ما يُصِيبُ في ذاتِ
اللهِ، ونحوُ ذلكَ، لا قُوَّةُ البدنِ؛ ولهذا مَدَحَ اللهُ الأنبياءَ بذلكَ
في قولِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}[ص:45]، فالأيْدِي: القُوَّةُ والعزائمُ في تنفيذِ أَمْرِ اللهِ، وقولِهِ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:17]. وفيهِأَنَّ محبَّةَ المؤمنينَ تَتَفَاضَلُ، فَيُحِبُّ بعْضَهم أكثرَ منْ بعضٍ. - وأَنْ يكونَ حِرْصُهُ على ما ينتفعُ بهِ. قولُهُ: (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ) قالَ ابنُ القيِّمِ: (لمَّا
كانَ حرصُ الإنسانِ وفعلُهُ إنَّما هوَ بمعونةِ اللهِ ومشيئتِهِ
وتوفيقِهِ، أمرَهُ أَنْ يستعينَ بهِ لِيَجْتَمِعَ لهُ مَقَامُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ فإنَّ حرصَهُ على ما ينفعُهُ عبادةٌ للهِ، ولا تَتِمُّ إلاَّ بمعونتِه، فَأَمَرَهُ بأَنْ يعْبُدَهُ ويستعينَ بهِ). وقالَ القاضي:
(قالَ بعضُ العلماءِ: هذا النهيُ إنَّما هوَ لِمَنْ قالَهُ مُعْتَقِدًا
ذلكَ حَتْمًا، وأنَّهُ لوْ فعلَ ذلكَ لمْ يُصِبْهُ قَطْعًا. و ((لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ)). و ((لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ باِلسِّوَاكِ)) وشِبْهِ ذلكَ.
(فإنْ قيلَ: ما تصنعونَ بقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قِيلَ: هذا كقولِهِ: ((لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ))ونحْوِهِ
ممَّا هوَ خَبَرٌ عنْ مستقبلٍ لا اعتراضَ فيهِ على قَدَرٍ، بلْ هوَ إخبارٌ
لهم أَنَّهُ لو استقبلَ الإحرامَ بالحجِّ ما ساقَ الهَدْيَ ولا أَحْرَمَ
بالعمرةِ بقولِهِ لهم لمَّا أمرَهُم بفَسْخِ الحجِّ إلى العمرةِ؛ حثًّا
لهُمْ وتَطْيِيبًا لقلوبِهِم لمَّا رآهُم تَوَقَّفُوا في أمرِهِ، فليسَ من
المنهيِّ عنهُ، بلْ هوَ إخبارٌ لهمْ عمَّا كانَ يفعلُ في المستقبلِ لوْ
حَصَلَ، ولا خلافَ في جوازِ ذلكَ، وإنَّما يُنْهَى عنْ ذلكَ في معارضةِ
القَدَرِ معَ اعتقادِ أَنَّ ذلكَ المانعَ لوْ يَقَعُ لَوَقَعَ خلافُ
المقدورِ.
فإنْ
قِيلَ: ليسَ في هذا رَدٌّ للقدرِ ولا تكذيبٌ بهِ؛ إذْ تلكَ الأسبابُ التي
تمَنَّاها من القدرِ، فهوَ يقولُ: لوْ أنِّي وُفِّقْتُ لهذا القَدَرِ
لاَنْدَفَعَ بهِ عنِّي ذلكَ الْقَدَرُ، فإنَّ القدرَ يُدفَعُ بعضُهُ
ببَعْضٍ.
فـهذا وجهُ إيرادِهِ هذا البابَ في التوحيدِ.
(2) قالَ ابنُ كثيرٍ: (فسَّرَ ما أَخْفَوْهُ في أنْفُسِهم بقولِهِ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} أيْ: يُسِرُّونَ هذهِ المقالةَ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قالَ ابنُ إسحاقَ: (حدَّثَنِي يحيى بنُ عبَّادِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، عنْ أبيهِ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ
قالَ: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ اشْتَدَّ الخَوْفُ عَلَيْنَا، أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْنَا
النَّوْمَ، فَمَا مِنَّا رَجُلٌ إِلاَّ ذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، فَوَاللهِ
إِنِّي لأَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ ما أَسْمَعُهُ إلاَّ كالْحُلْمِ: {لَوْ كَانَ لَنَا مِن الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} فحَفِظْتُهَا منهُ، وفي ذلكَ أَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} لقولِ مُعَتِّب) رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ.
قُلْتُ: فَتَبَيَّنَ وجهُ إيرادِ المصِّنفِ
الآيَةَ على الترجمةِ؛ لأنَّ قولَ: (لَوْ) في الأمورِ المُقَدَّرَةِ منْ
كلامِ المنافقينَ؛ ولهذا ردَّ اللهُ عليهم ذلكَ بأَنَّ هذا قَدَرٌ، فمَنْ
كُتِبَ عليهِ شيءٌ فلا بُدَّ أَنْ ينالَهُ، فماذا يُغْنِي عنكم قولُ (لَوْ)
و(لَيْتَ) إلاَّ الحسرةَ والندامةَ؟ فالواجبُ عليكُم في هذهِ الحالةِ
الإيمانُ باللهِ والتعزِّي بقَدَرِهِ معَ ما تَرْجُونَ منْ حُسْنِ ثوابِهِ،
وفي ذلكَ عينُ الفلاحِ لكم في الدُّنيا والآخرةِ، بلْ يَصِلُ الأمرُ إلى
أَنْ تَنْقَلِبَ المخاوفُ أمانًا، والأحزانُ سُرورًا وفرحًا، كما قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: (أَصْبَحْتُ وما لي سُرُورٌ إلاَّ في مواقعِ القضاءِ والقدر).
فَلَمَّا خَرَجُوا رَجَعَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ فِي ثَلاثِمِائَةٍ، فَتَبِعَهُمْ أَبُو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ يَدْعُوهُمْ، فَلَمَّا غَلَبُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَا نَعْلَمُ قِتَالاً، وَلَئِنْ أَطَعْتَنَا لَتَرْجِعَنَّ مَعَنَا، فَنَزَلَ: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}[آل عمران: 168]).
فَعَلَى هذا؛ إخوانُهم هم المسلمونَ المجاهدونَ، وسُمُّوا إخوانَهُم؛ لموافقتِهم في الظَّاهِرِ.
وقِيلَ: إخوانُهُم في النَّسَبِ لا في الدِّينِ.
فعُلِمَ أنَّ ذلكَ بقضاءِ
اللهِ وقدَرِهِ؛ أيْ: يَسْتَوِي الذي في وَسَطِ الصفوفِ والذي في البروجِ
المشَيَّدةِ في القتلِ والموتِ، بلْ {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران:154] فلا يُنجِّي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ.
وفي ضِمْنِ ذلكَ قولُ
(لوْ) ونحْوِهِ في مثلِ هذا المَقَامِ؛ لأنَّ ذلكَ لا يُجْدِي شيئًا، إذ
المُقَدَّرُ قدْ وقعَ فلا سبيلَ إلى دَفْعِهِ أبدًا، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[الطور:48].
(4) قولُهُ: (في الصحيحِ) أيْ: صحيحِ مسلمٍ.
قولُهُ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) إلخ، هذا الحديثُ اختصرَهُ المصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ.
فقولُهُ عليهِ السلامُ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) فيهِ أنَّ اللهَ سبحانَهُ موصوفٌ بالمَحَبَّةِ، وأنَّهُ يُحِبُّ على الحقيقةِ كما قالَ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:57].
وفيهِ أَنَّهُ سبحانَهُ يُحِبُّ مُقْتَضَى أسمائِهِ وصفاتِهِ، وما
يُوَافِقُها فهوَ القَوِيُّ، ويُحِبُّ المؤمنَ القَوِيَّ، وهوَ وِتْرٌ
يُحِبُّ الْوِترَ، وجميلٌ يُحِبُّ الجمالَ، وعليمٌ يُحِبُّ العلماءَ،
ومحسِنٌ يُحِبُّ المحسنينَ، وصَبورٌ يُحِبُّ الصابرينَ، وشكورٌ يُحِبُّ
الشاكرينَ.
وقولُهُ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) هوَ بفَتْحِ الراءِ وكسْرِها.
قالَ ابنُ القيِّمِ: (سعادةُ
الإنسانِ في حِرْصِهِ على ما ينفعُهُ في معاشِهِ ومعادِهِ، والْحِرْصُ:
هوَ بَذْلُ الْجَهْدِ واستفراغُ الْوُسْعِ؛ فإذا صادفَ ما ينتفِعُ بهِ
الحريصُ كانَ حرصُهُ محمودًا، وكمالُهُ كُلُّهُ في مجموعِ هذيْنِ
الأمرَيْنِ:
- أَنْ يكونَ حريصًا.
وقالَ غيرُهُ: (اسْتَعِنْ بِاللهِ) أي: اطْلُب الإعانةَ في جميعِ أُمُورِكَ مِن اللهِ لا مِنْ غيرِهِ، كما قالَ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4]
فإنَّ العبدَ عاجزٌ لا يَقْدِرُ على شيءٍ إنْ لمْ يُعِنْهُ اللهُ عليهِ،
فلا مُعِينَ لهُ على مصالحِ دينِهِ ودُنْيَاهُ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ.
فمَنْ أعانَهُ اللهُ فهوَ
المُعانُ، ومَنْ خَذَلَهُ فهوَ المخذولُ، وقدْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ في خُطْبَتِهِ ويُعَلِّمُ أصحابَهُ أَنْ
يقُولُوا: ((الْحَمْدُ للهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ)) ومنْ دُعَاءِ الْقُنُوتِ: ((اللهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ)) وأمرَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ أَنْ لا يَدَعَ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ أنْ يقولَ: ((اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) وكانَ ذلكَ منْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهُ أيضًا: ((اللهُمَّ أَعِنِّي، وَلاَ تُعِنْ عَلَيَّ)).
وإذا حقَّقَ العبدُ
مَقَامَ الاستعانةِ وعملَ بهِ كانَ مُستعينًا باللهِ عزَّ وجلَّ،
مُتَوَكِّلاً عليهِ، راغبًا وراهبًا إليهِ؛ فَيُسْتَحَقُّ لهُ مَقَامُ
التوحيدِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
قولُهُ: ((وَلاَ تَعْجَزْ))وهوَ
بكسرِ الجيمِ وفتحِها: اسْتَعْمِل الحرصَ والاجتهادَ في تحصيلِ ما ينفعُكَ
منْ أَمْرِ دينِكَ ودُنْيَاكَ التي تستعينُ بها على صيانَةِ دينِكَ،
وصيانَةِ عيالِكَ، ومكارمِ أخلاقِكَ، ولا تُفَرِّطْ في طَلَبِ ذلكَ، ولا
تَتَعَاجَزْ عنهُ مُتَّكِلاً على القَدَرِ، أوْ مُتَهَاوِنًا بالأمرِ؛
فَتُنْسَبَ للتقصيرِ، وتُلامَ على التفريطِ شرعًا وعقلا، معَ إنهاءِ
الاجتهادِ نهايتَهُ، وبلاغِ الحرصِ غايتَهُ، فلا بُدَّ من الاستعانةِ
باللهِ والتوكُّلِ عليهِ والالتجاءِ في كلِّ الأمورِ إليه، فمَنْ ملكَ
هذَيْنِ الطريقَيْنِ حَصَلَ على خيرِ الدارَيْنِ.
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (العجزُ
يُنَافِي حِرْصَهُ على ما ينفعُهُ، ويُنَافِي استعانتَهُ باللهِ، فالحريصُ
على ما ينْفَعُهُ المستعينُ باللهِ ضدُّ العاجزِ، فهذا إرشادٌ لهُ قبلَ
رجوعِ المقدورِ إلى ما هوَ مِنْ أعظمِ أسبابِ حُصُولِهِ، وهوَ الحَرِيصُ
عليهِ معَ الاستعانةِ بِمَنْ أَزِمَّةُ الأمورِ بيَدِهِ، ومصدرُها منهُ،
وَمَرَدُّها إليهِ).
قولُهُ: (فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ) إلى آخرِه، العبدُ إذا فاتَهُ ما لمْ يُقَدَّرْ لهُ؛ فلهُ حالتانِ:
- حالةُ عَجْزٍ،
وهيَ مِفْتَاحُ عملِ الشيطانِ، فَيُلْقِيهِ العجزُ إلى (لَوْ)، ولا فائدَة
في (لوْ) هَا هُنَا، بلْ هيَ مِفْتَاحُ اللَّوْمِ والجَزَعِ والسَّخَطِ
والأسفِ والحزنِ، وذلكَ كلُّهُ منْ عملِ الشيطانِ، فنهاهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن افتتاحِ عملِهِ بهذا المفتاحِ.
- وأمرَهُ بالحالةِ الثانيَةِ، وهيَ النظرُ إلى القدرِ ومُلاحَظَتُهُ،
وأنَّهُ لوْ قُدِّرَ لهُ لمْ يَفُتْهُ، ولمْ يَغْلِبْهُ عليهِ أحدٌ، فلمْ
يَبْقَ لهُ ها هنا أَنْفَعُ منْ شهودِ القَدَرِ، ومشيئةِ الرَّبِّ
النافذةِ، التي تُوجِبُ وُجُودَ المقدورِ، وإذا انْتَفَت امتنعَ وُجُودُهُ؛
فلهذا قالَ: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ)؛ أيْ: غَلَبَكَ الأمرُ ولمْ يَحْصُل المقصودُ بعدَ بَذْلِ جَهْدِهِ والاستعانةِ باللهِ، فلا تَقُلْ: (لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ) فأرشدَهُ إلى مَا ينفعُهُ في الحالتَيْنِ؛ حالةِ حصولِ مطلوبِهِ، وحالةِ فواتِهِ.
فأمَّا مَنْ ردَّ ذلكَ إلى مشيئةِ اللهِ تعالى، وأنَّهُ لنْ يُصِيبَهُ إلاَّ ما شاءَ اللهُ، فليسَ مِنْ هذا) واستدَلَّ بقولِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ في الغارِ: (لوْ أَنَّ أحَدَهُم رفعَ رأسَهُ لَرَآنَا).
قالَ القاضي: (وهذا ما لا حُجَّةَ فيهِ؛ لأنَّهُ أخبرَ عنْ مُسْتَقْبَلٍ، وليسَ فيهِ دَعْوَى لردِّ الْقَدَرِ بعدَ وقوعِهِ).
قالَ: (وكذا جميعُ ما ذكرَهُ البخاريُّ فيما يجوزُ مِن الـ(لَوْ)، كحديثِ: ((لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لأََتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ)).
قيلَ:
هذا حقٌّ، ولكنْ ينفعُ قبلَ وقوعِ القدرِ المكروهِ، فأمَّا إذا ما وقعَ
فلا سبيلَ إلى دفعِهِ، وإنْ كانَ لهُ سببٌ إلى دفْعِهِ أوْ تخفيفِهِ
بقَدَرٍ آخَرَ فهوَ أوْلَى بهِ منْ قولِ: لوْ كُنْتُ فَعَلْتُ.
بلْ
وحقيقَتُهُ في هذهِ الحالِ أنْ يستقبلَ فِعْلَهُ الذي يدفعُ بهِ المكروهَ،
ولا يتمَنَّى ما لا مَطْمَعَ في وقوعِهِ؛ فإنَّهُ عَجْزٌ مَحْضٌ، واللهُ
يلومُ على العجزِ، ويُحِبُّ الكَيْسَ ويأمرُ بهِ، والكَيْسُ مباشرةُ
الأسبابِ التي رَبَطَ اللهُ بها بمُسَبَّبَاتِها النافعةِ للعبدِ في
معاشِهِ ومعادِهِ).
انتهى ملخَّصًا منْ كلامِ ابنِ القيِّمِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ في الـ (لَوْ)) أيْ: من النَّهْيِ عنه عندَ الأمورِ الْمَكروهةِ، كالمصائبِ إذا جَرَى بها الْقَدَرُ؛ لِمَا فيهِ من الإِشعارِ بعَدَمِ الصبرِ والأَسَى علَى ما فَاتَ، مِمَّا لا يُمْكِنُ استدراكُهُ، فالوَاجِبُ التسليمُ للقَدَرِ، والقيامُ بالعُبوديَّةِ الواجِبةِ وهوَ الصبرُ علَى ما أَصابَ العَبدَ مِمَّا يَكْرَهُ، والإِيمانُ بالقَدَرِ أَصْلٌ منْ أُصولِ الإِيمانِ السِّتَّةِ.
وأَدْخَلَ
الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أَداةَ التعريفِ علَى (لوْ)، وهذه في هذا
الْمَقامِ لا تُفيدُ تَعريفًا كنَظائرِها؛ لأنَّ الْمُرادَ هذا اللفظُ، كما
قالَ الشاعرُ: رَأَيـْتُ الوليدَ بنَ الْيَزِيدِ مُبارَكًا شديدًا بأعباءِ الخِلافةِ كاهِلُهْ (2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((وقولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا}) [آل عمران:154] قالَهُ بعضُ الْمُنافقينَ يومَ أُحُدٍ؛ لِخَوْفِهم وجَزَعِهم وخَوَرِهم.
قالَ اللهُ تعالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أيْ: هذا قَدَرٌ مُقدَّرٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ وحُكْمٌ حَتْمٌ لازِمٌ لا مَحيدَ عنه، ولا مَنَاصَ منهُ.
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وقولُهُ: {الَّذِينَ قَالُوا لإَِّخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:169].
قالَ العِمادُ ابنُ كثيرٍ: ({الَّذِينَ قَالُوا لإَِّخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} أيْ: لوْ سَمِعُوا مَشُورَتَنا عليهم بالقُعودِ وعَدَمِ الخروجِ ما قُتِلوا معَ مَنْ قُتِلَ، قالَ اللهُ تعالَى: {قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
أيْ: إذا كان القُعودُ يَسْلَمُ بهِ الشخْصُ من القَتلِ والموتِ؛ فيَنبغِي
لكم أن لا تَمُوتوا، والموتُ لا بُدَّ آتٍ إليكم؛ ولوْ كنتمْ في بُروجٍ
مُشَيَّدَةٍ، فادْفَعُوا عنْ أنفسِكم الموتَ إنْ كُنتمْ صَادقينَ).
قالَ مُجاهِدٌ: (عنْ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ: (نَزَلَتْ هذه الآيَةُ في عبدِ اللهِ بن أُبَيٍّ) يعنِي أنَّهُ هوَ الذي قالَ ذلكَ.
وأَخْرَجَ البيهقيُّ عنْ أَنَسٍ أنَّ أبا طَلحةَ قالَ: (غَشِيَنا
النُّعاسُ وَنَحْنُ في مَصافِّنا يَومَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ
مِنْ يَدِي وآخُذُهُ ويسْقُطُ وآخُذُهُ، قالَ: والطَّائفةُ الأُخرَى -
الْمُنافقونَ - لَيْسَ لَها هَمٌّ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ، أَجْبَنُ قَوْمٍ؛
وَأَرْعَبُهُ، وأخْذَلُهُ لِلحَقِّ {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}[آل عمران:154] إنَّما هُمْ أهْلُ رَيْبٍ وَشَكٍّ باللهِ عزَّ وَجَلَّ).
قولُهُ: (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يعني: لا يَغشاهُم النُّعاسُ من القَلَقِ والْجَزَعِ والخوفِ {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}.
قالَ شيخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ: (لَمَّا ذَكَرَ ما وَقَعَ منْ عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ في غَزوةِ أُحُدٍ قالَ: فلَمَّا انْخَذَلَ يومَ أُحُدٍ وقالَ: (يَدَعُ رَأْيِي ورَأْيَهُ ويأخُذُ بِرَأْيِ الصِّبيانِ؟)
أوْ كما قالَ.. انْخَذَلَ معه خَلْقٌ كثيرٌ، كان كثيرٌ منهم لم يُنَافِقْ
قبلَ ذلكَ، فأولئكَ كانوا مُسلمينَ وكان معهم إيمانٌ، هوَ الضوءُ الذي
ضَرَبَ اللهُ بهِ الْمَثَلَ.
فلوْ
مَاتُوا قبلَ الْمِحْنَةِ والنِّفاقِ مَاتُوا علَى الإِسلامِ، ولم يَكونوا
من المؤمنينَ حقًّا الذينَ امْتُحِنُوا فثَبَتُوا، ولا من الْمُنافقينَ
حقًّا الذينَ ارْتَدُّوا عن الإِيمانِ بالْمِحْنَةِ، وهذا حالُ كثيرٍ من
المسلمينَ في زَمانِنا أوْ أَكْثَرِهم إذا ابْتُلوا بالْمِحْنَةِ التي
يَتَضَعْضَعُ فيها أهلُ الإِيمانِ يَنْقُصُ إيمانُهم كثيرًا ويُنافِقُ
كثيرٌ منهم، ومِنهم مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذا كان العَدُوُّ غالبًا،
وقدْ رَأَيْنَا منْ هذا ورأَى غيرُنا مِنْ هذا ما فيهِ عِبرةٌ.
وإذا
كانت العافيَةُ، أوْ كان المسلمونُ ظاهرينَ علَى عَدُوِّهم كانوا
مُسلمينَ، وهم مؤمنون بالرُّسُلِ باطنًا وظاهرًا، ولكن إيمانٌ لا يَثْبُتُ
علَى الْمِحْنَةِ؛ ولهذا يَكْثُرُ في هؤلاءِ تَرْكُ الفرائضِ وانتهاكُ
الْمَحارِمِ، وهؤلاءِ من الذينَ قالوا: آمَنَّا، فقيلَ لهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَـكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات:14]
أي: الإيمانُ الْمُطْلَقُ الذي أَهْلُهُ هم المؤمنونَ حَقًّا، فإنَّ هذا
هوَ الإيمانُ إذا أُطْلِقَ في كتابِ اللهِ تعالَى، كما دَلَّ عليهِ الكتابُ
والسُّنَّةُ، فلم يَحْصُلْ لهم رَيْبٌ عندَ الْمِحَنِ التي تُقَلْقِلُ
الإيمانَ في القلوبِ) انتهَى.
قولُهُ: ((وقدْ رَأَيْنَا منْ هذا ورَأَى غيرُنا ما فيهِ عِبْرَةٌ)).
قلتُ: ونحنُ
كذلكَ رَأَيْنَا منْ ذلكَ ما فيهِ عِبرةٌ عندَ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ، منْ
إعانتِهم العدُوَّ علَى المسلمينَ، والطعْنِ في الدِّينِ، وإظهارِ
العَداوةِ والشَّمَاتَةِ؛ وبَذْلِ الْجِدِّ في إطفاءِ نورِ الإسلامِ
وذَهابِ أَهْلِهِ، وغيرِ ذلكَ مِمَّا يَطولُ ذِكْرُهُ، واللهُ الْمُستعانُ.
(4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في (الصَّحيحِ) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ((احْرِصْ
عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزَنَّ، وَإِنْ
أَصابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَذا لَكَانَ كَذَا
وكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ (لَوْ)
تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).
قولُهُ: (في(الصَّحيحِ)) -أيْ: (صحيحِ مسلِمٍ)- عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( احْرِصْ))الحديثَ، اخْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ هذا الحديثَ، وتَمامُهُ: عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ))؛ أيْ: في مَعاشِكَ ومَعَادِكَ.
والمرادُ الحِرْصُ علَى فِعلِ الأسبابِ التي تَنفَعُ العَبْدَ في دُنياهُ وأُخراهُ مِمَّا شَرَعَهُ اللهُ تعالَى لعِبادِهِ من الأسبابِ الوَاجبةِ والْمُسْتَحَبَّةِ والْمُباحَةِ، ويكونُ العَبدُ في حالِ فِعْلِهِ السببَ مُستَعِينًا باللهِ وَحْدَهُ دونَ كلِّ ما سِواهُ ليَتِمَّ لهُ سَبَبُهُ ويَنْفَعُهُ.
قولُهُ: ((وَلا تَعْجِزَنْ))
النونُ نونُ التأكيدِ الْخَفيفةُ، نَهَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن العَجْزِ وذَمَّهُ؛ والعَجْزُ مَذمومٌ شَرْعًا وعَقلاً، وفي
الحديثِ: ((الكَيِّسُ
مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَالْعَاجِزُ مَنْ
أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمانِيَّ))
فأَرْشَدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ إذا أَصابَهُ
ما يَكْرَهُ فلا يَقُلْ: لوْ أَنِّي فَعَلْتُ كذا وكذا، ولكن يَقولُ:
قَدَّرَ اللهُ وما شاءَ فَعَلَ؛ أيْ: هذا قَدَرُ اللهِ والواجبُ التسليمُ
للقَدَرِ، والرِّضَى بهِ، واحتسابُ الثوابِ عليهِ.
قولُهُ: ((فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ))؛
أيْ: لِمَا فيها من التأَسُّفِ علَى ما فاتَ والتحَسُّرِ ولَوْمِ
القَدَرِ، وذلكَ يُنافِي الصَّبْرَ والرِّضَى، والصبْرُ واجبٌ، والإِيمانُ
بالْقَدَرِ فَرْضٌ، قالَ تعالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ
تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ
لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد:22،23].
قالَ أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (الصبرُ من الإِيمانِ بِمَنْزِلَةِ الرأسِ من الْجَسَدِ)، وقالَ الإِمامُ أحمدُ: (ذَكَرَ اللهُ الصبرَ في تِسعينَ مَوضِعًا من القرآنِ).
قالَ شيخُ الإِسلامِ -وذَكَرَ حديثَ البابِ بتَمامِهِ- ثمَّ قالَ في معناهُ: (لا
تَعْجِزْ عنْ مأمورٍ، ولا تَجْزَعْ عَن مَقدورٍ، ومن الناسِ مَنْ يَجْمَعُ
كِلاَ الشَّرَّيْنِ، فأَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالحِرْصِ علَى النافعِ والاستعانةِ باللهِ، والأَمْرُ يَقْتَضِي الوُجوبَ،
وإلاَّ فالاستحبابَ؛ ونَهَى عن العَجْزِ وقالَ:((إِنَّ اللهَ يَلُومُ عَلَى العَجْزِ))، والعاجِزُ ضِدُّ:{الَّذينَ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}، فالأمْرُ بالصبْرِ والنَّهْيُ عن العَجْزِ مأمورٌ بهِ في مَواضِعَ كثيرةٍ؛ وذلكَ لأنَّ الإِنسانَ بينَ أَمْرَيْنِ:
- أمرٌ أُمِرَ بفِعْلِهِ، فعليهِ أن يَفعلَهُ ويَحْرِصَ عليهِ ويَستعينَ اللهَ ولا يَعْجِزَ.
فالأفعالُ: -مِثْلُ قولِهِ تعالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}[الأنعام:160]
- ومثلُ قولِهِ تعالَى:{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}[الإسراء:7]
وأَظُنُّ شَيخَ الإِسلامِ ذَكَرَهُ في هذا الْمَوْضِعِ ولَعَلَّ الناسخَ أَسقَطَهُ واللهُ أَعْلَمُ.
ثم قالَ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (فإنَّ
الإِنسانَ ليسَ مَأمورًا أن يَنْظُرَ إلَى القَدَرِ عندَما يُؤْمَرُ بهِ
من الأفعالِ، ولكن عندَما يَجْرِي عليهِ من الْمَصائِبِ التي لا حِيلةَ لهُ
في دَفْعِها، فما أَصابَكَ بفِعْلِ الآدَمِيِّينَ أوْ بغيرِ فِعْلِهم
فاصْبِرْ عليهِ وارْضَ وسَلِّمْ، قالَ تعالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن:11]؛ ولهذا قالَآدَمُ لِمُوسَى: ((أتَلُومُني عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى))؛ لأنَّ مُوسَى قالَ لهُ:((لِماذا أَخْرَجْتَنا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟))فَلاَمَهُ علَى الْمُصيبةِ التي حَصَلَتْ بسببِ فِعْلِهِ، لا لأَِجْلِ كَوْنِها ذَنبًا.
وأَمَّا لأَجْلِ الذَّنْبِ -كما يَظُنُّهُ طوائفُ من الناسِ- فليسَ مُرادًا بالحديثِ، فإنَّ آدَمَ عليهِ السلامُ كان قدْ تَابَ من الذَّنْبِ، والتائبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنْبَ لهُ، ولا يَجوزُ لَوْمُ التائبِ باتِّفاقِ الناسِ) انتهَى.
قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (فتَضَمَّنَ هذا الحديثُ أُصولاً عَظيمةً منْ أُصولِ الإِيمانِ:
أَحَدُها: أنَّ اللهَ سُبحانَهُ مَوصوفٌ بالْمَحَبَّةِ وأنَّهُ يُحِبُّ حَقيقةً.
ولَمَّا
كان حِرْصُ الإنسانِ وفِعْلُهُ إنما هوَ بِمَعونةِ اللهِ ومَشيئتِهِ
وتَوفيقِهِ أَمَرَهُ أن يَستعينَ باللهِ ليَجْتِمَعَ لهُ مَقامُ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}فإنَّ
حِرْصَهُ علَى ما يَنْفَعُهُ عِبادةٌ للهِ تعالَى، ولا يَتِمُّ إلاَّ
بِمَعُونَتِهِ، فأَمَرَهُ أن يَعْبُدَهُ وأن يَستعينَ به، فالحريصُ علَى ما
يَنْفَعُهُ، المستعينُ باللهِ ضِدُّ العاجزِ، فهذا إرشادٌ لهُ قبلَ وُقوعِ
المقدورِ إلَى ما هوَ منْ أَعْظَمِ أسبابِ حُصولِهِ، وهوَ الْحِرْصُ عليهِ
معَ الاستعانةِ بِمَنْ أَزِمَّةُ الأمورِ بِيَدِهِ، ومَصْدَرُها منهُ،
ومَوْرِدُها إليهِ. فإنْ فاتَهُ ما لم يُقَدَّرْ لهُ فلهُ حَالتانِ:
- عَجْزٌ: وهوَ
مِفتاحُ عَمَلِ الشيطانِ؛ فيُلْقِيهِ العَجْزُ إلَى (لوْ) ولا فائدةَ في
(لوْ) ها هنا، بلْ هيَ مِفتاحُ اللَّوْمِ والعَجْزِ والسُّخْطِ والأَسَفِ
والْحُزْنِ، وذلكَ كُلُّهُ منْ عَمَلِ الشيطانِ فنَهاهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن افتتاحِ عَمَلِهِ بهذا الافتتاحِ.
- وأَمَرَهُ بالحالةِ الثانيَةِ: وهيَ النَّظَرُ إلَى القَدَرِ ومُلاحظتُهُ، وأنَّهُ
لوْ قُدِّرَ لم يَفُتْهُ ولم يَغْلِبْهُ عليهِ أَحَدٌ، فلم يَبْقَ لهُ ها
هنا أَنْفَعُ منْ شُهودِ القَدَرِ ومَشيئةِ الربِّ النافذةِ التي تُوجِبُ
وُجوبَ الْمَقدورِ، وإن انْتَفَت امْتَنَعَ وُجودُهُ؛ ولهذا قالَ: ((فَإِنْ غَلَبَكَ أَمْرٌ فلا تقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لكانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ))، فأَرْشَدَهُ إِلَى ما يَنفَعُهُ في الحالتينِ:
- حالةِ حُصولِ المطلوبِ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1) اعْلَمْ أنَّ اسْتِعمَالَ العبْدِ للَفْظَةِ (لَو) تَقَعُ على قِسمين؛ مَذمومٍ، ومحمودٍ.
أمَّا المذمومُ فكأَنْ يقعَ منه أو عليه أَمْرٌ لاَ يُحِبُّه فيقولُ: لو أنِّي فعلتُ كذا لكانَ كذا. الثَّاني: أنَّ في ذلك سوءَ أَدَبٍ على اللهِ وعلى قدَرِه؛فإنَّ
الأمورَ كُلَّهَا والحوادثَ؛ دَقيقَها وجليلَها بقضاءِ اللهِ وقدَرِهِ،
ومَا وَقَعَ مِن الأمورِ فلا بُدَّ مِن وقوعِه، وَلاَ يُمْكِنُ ردُّهُ،
فكأنَّ في قولِه: ((لَو كانَ كذا أوْ لَو فعلتَ كذا كانَ كذا)) نَوْعَ اعتراضٍ وَنَوْعَ ضَعْفِ إيمانٍ بقضاءِ اللهِ وقدَرِه. و: ((لوْ صَبَرَ أَخِي مُوسَى لَقَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ نَبَأِهِمَا)) أي: في قِصَّتِهِ مع الخَضِرِ.
فاسْتِعْمَالُ (لو) تَكونُ بحسَبِ الحالِ الحاملِ عليها.
فَهذا مِن عملِ الشيْطَانِ؛ لأنَّ فيه محذورَيْنِ:
أحدُهُما: أنَّها تَفْتَحُ عليه بابَ الندمِ والسَّخَطِ والحُزْنِ الَّذي ينْبَغِي لَه إِغْلاَقُه ، ولَيسَ فيها نَفْعٌ.
وأمَّا المحمودُ مِن ذلك فأنْ يقولَها العبدُ تَمنِّيًا للخيرِ، كقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ وَلأَهْلَلْتُ بِالعُمْرَةِ)).
وقولِه في الرَّجُلِ المُتَمَنِّي للخيرِ: ((لوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَالِ فُلاَنٍ لَعَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ عَمَلِ فُلاَنٍ)).
إنْ حَمَلَ عليها الضَّجَرُ والحزْنُ وضعفُ الإِيمانِ بالقضاءِ والقدرِ أو تَمَنِّي الشرِّ كانَ مَذمومًا،
وإن حَمَلَ عَلَيْها الرَّغْبَةُ في الخيرِ والإِرشادِ والتعليمِ كانَ محمودًا ، ولهذا جَعَلَ المصنِّفُ التَّرجَمَةَ مُحْتَمِلَةً للأمرَيْنِ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((1) قولُهُ: (في الـ (لو) دَخَلت (أل) علَى (لو) وهيَ لا تدخلُ إلاَّ علَى الأسماءِ).
لأنَّ المقصودَ بهذا اللفظُ، أي: بابُ ما جاء في هذا اللفظِ. قال في (فتح المجيد) (ص:551): (وأدخل
المصنف ـ رحمه الله ـ أداة التعريف على (لو) وهذه في هذا المقام لا تفيد
تعريفاً لنظائرها، لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر. الرابعُ: أنْ تُسْتَعْمَلَ في الاحتجاجِ بالقدرِ علَى المعصيَةِ، كقولِ المشركين: {لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} وقولِهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وهذا باطِلٌ. السادسُ: أن تُسْتَعْمَلَ في الخبرِ المحضِ، وهذا جائزٌ، مثلُ: لوْ حضرْتَ الدَّرسَ لاستفدْتَ، ومنهُ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم:((لَوِ استَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا استَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ ولأََحْلَلْتُ مَعَكُم))
فأخبرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ أنَّهُ لوْ علِمَ أنَّ هذا
الأمرَ سيكونُ من الصَّحابةِ ما ساقَ الهدْيَ ولأََحَلَّ، وهذا هوَ
الظَّاهرُ لي. فالظَّاهرُ: أنَّهُ أخبرَ لِمَا رَأَى مِنْ أصحَابِهِ، والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم لا يتمنَّى شيئًا قدَّرَ اللهُ خلافَهُ. قولُهُ: ((لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ))،
(لو) شرطيَّةٌ، وفعلُ الشَّرطِ (كانَ)، وجوابُهُ (ما قُتِلْنا)، ولم
يَقْتَرِنِ الجوابُ باللامِ؛ لأنَّ الأفصحَ إذا كانَ الجوابُ منفيًّا عدمُ
الاقترانِ، فقولُكَ: لوْ جاءَ زيدٌ ما جاءَ عمرٌو، أفصحُ منْ قولِكَ: لوْ جاءَ زيدٌ لَمَا جاءَ عمرٌو، وقدْ ورَدَ قليلاً اقترانُها معَ النفيِ كقولِ الشَّاعرِ: وَلَوْ نُعْطَى الْخِيارَ لَمَا افْتَرَقْنا = ولـَكـِنْ لا خـِيارَ مَع الـلـَّيالـِي قولُهُ: (هَا هُنَا) أي: في أُحُدٍ. الثاني: الجُبنِ عنْ تنفيذِ الشَّرعِ (الجهادِ) بقولِهِم: {وَقَعَدُوا}
أوْ تكونَ الواوُ للحالِ، والجملةُ حاليَّةً علَى تقديرِ (قدْ) أي:
والحالُ أنَّهم قدْ قعَدوا، ففيهِ توبيخٌ لهم حيثُ قالوا معَ قعودِهِم،
ولوْ كانَ فيهم خيرٌ لخَرَجوا معَ النَّاسِ، لكنْ فيهم الاعتراضُ علَى
المؤمنين وعلَى قضاءِ اللهِ وقدرِهِ. أنَّ منْ جملةِ أقسامِ (لو) الاعتراضَ علَى القدرِ، ومَن
اعترَضَ علَى القدرِ فإنَّهُ لم يَرْضَ باللهِ ربًّا، ومَنْ لم يَرْضَ
باللهِ ربًّا، فإنَّهُ لم يحقِّق التَّوحيدَ توحيدَ الربوبيَّةِ. قولُهُ: (احْرِصْ عَلَى ما يَنْفَعُكَ) الحرصُ: بذلُ الجهدِ لنيلِ ما ينفعُ منْ أمرِ الدِّينِ أو الدُّنيا. الأولى: نافعةٌ، وهذه مأمورٌ بها.
رأيـت الوليد بن اليزيد مباركا شديداً بأعباء الخلافة كاهلُه).
والمؤلِّفُ رحمه اللهُ جعلَ التَّرجمةَ مفتوحةً ولم يَجْزِمْ بشيءٍ؛ لأنَّ (لو) تُستعمَلُ علَى عدَّةِ أوجهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أن تستعملَ في الاعتراضِ علَى الشَّرعِ، وهذا محرَّمٌ، قال تعالَى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} في غزوةِ أُحُدٍ حينَما تخلَّفَ أثناءَ الطَّريقِ عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ في
نحوِ ثُلثِ الجيشِ، فلمَّا اسْتُشْهِدَ من المسلمينَ سبعونَ رجلاً اعترضَ
المنافقونَ علَى تشريعِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، وقالوا:
لوْ أطاعونَا ورجعوا كما رجَعْنا ما قُتِلوا؛ فَرَأْيُنا خيرٌ منْ شرعِ محمَّدٍ، وهذا محرَّمٌ، وقدْ يصلُ إلَى الكفرِ.
الثَّالثُ: أن تُستعملَ للنَّدمِ والتَّحسُّرِ، وهذا محرَّمٌ أيضًا؛
لأنَّ كلَّ شيءٍ يَفْتَحُ النَّدمَ عليكَ فإنَّهُ منهيٌّ عنه؛ لأنَّ
النَّدمَ يُكسِبُ النَّفسَ حزنًا وانقباضًا، واللهُ يريدُ منَّا أن نكونَ
في انشراحٍ وانبساطٍ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((احْرِصْ
عَلَى مَا ينْفَعُكَ، واستَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ
شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ
(لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ)).
مثالُ ذلك: رجلٌ
حرَصَ أن يشتريَ شيئًا يظنُّ أنَّ فيهِ ربحًا فخسِرَ، فقالَ: لوْ أنِّي ما
اشتريتُهُ ما حصَلَ لي خَسارةٌ، فهذا نَدمٌ وتَحسُّرٌ، ويقعُ كثيرًا وقدْ
نُهِي عنه.
فهذا تمنَّى خيرًا.
وقالَ الثَّاني: ((لَوْ أنَّ لي مالاً لعَمِلْتُ بعَمَلِ فلاَنٍ)) فهذا تمنَّى شرًّا.
فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في الأوَّلِ: ((فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فأجرُهما سَواءٌ)).
وقالَ في الثَّاني: ((فَهوَ بِنِيَّتِهِ، فوِزرُهما سواءٌ)).
قولُهُ: (مَا قُتِلْنَا) أي: ما قُتل بعضُنا؛ لأنَّهُم لم يُقْتَلُوا كلُّهم؛ ولأنَّ المقتولَ لا يقولُ.
وقولُهُم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}
هذا من الاعتراضِ علَى الشَّرعِ؛ لأنَّهم عتَبوا علَى الرَّسولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وسلَّم حيثُ خرجَ بدونِ موافقتِهِم، ويمكنُ أنْ يكونَ
اعتراضًا علَى القدَرِ أيضًا، أي: لوْ كانَ لنا منْ حُسنِ التَّدبيرِ
والرَّأيِ شيءٌ ما خَرَجْنا فنُقْتَلَ.
(3) قولُهُ: ((وَقَعَدُوا)) الواوُ إمَّا أن تكونَ عاطفةً، والجملةُ معطوفةً علَى (قالوا) ويكونُ وصَف هؤلاءِ بأمْريْنِ:
الأول: الاعتراضِ علَى القدرِ بقولِهِم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}.
قولُهُ: ((لإِخْوَانِهِمْ)) قيل: في النَّسبِ لا في الدِّينِ.
وقيل: في الدِّينِ ظاهرًا؛ لأنَّ المنافقينَ يَتَظاهَرُون بالإسلامِ.
ولوْ قيل: إنَّهُ شاملٌ للأمْرينِ لكان صحِيحًا.
قولُهُ: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} هذا غيرُ صحيحٍ، ولهذا ردَّ اللهُ عليهم بقولِهِ: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وإن كنتم قاعِدينَ فلا تَسْتَطِيعونَ أيضًا أنْ تَدْرءوا عنْ أنفسِكُم الموتَ.
فهذه الآيَةُ والَّتي قبلَها تدلُّ علَى أنَّ الإنسانَ محكومٌ بقدرِ اللهِ، كما أنَّهُ يجبُ أن يكونَ محكومًا بشرعِ اللهِ.
ولهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((عَجَبًا
لأِمْرِ الْمُؤمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذلكَ لأحدٍ
إلاَّ للمؤمنِ: إِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ، وإنْ
أصَابَتْهُ سرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ))ومهْما
كانَ، فالأمرُ سيكونُ علَى ما كانَ، فلوْ خرجْتَ مثلاً في سَفَرٍ ثمَّ
أُصِبْتَ في حادثٍ، فلا تقلْ: لوْ أنِّي ما خرَجتُ في السَّفرِ ما
أُصِبْتُ؛ لأنَّ هذا مُقَدَّرٌ لا بُدَّ منه.
(4) قولُهُ: (وفي الصَّحيحِ) أيْ: (صحيحِ مسلمٍ) والمؤلِّفُ -رحمه اللهُ- حذفَ منهُ جملةً، وأتَى بما هوَ مناسِبٌ للبابِ، والمحذوفُ قولُهُ: ((الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وأَحَبُّ إلَى اللهِ مِنَ الْمُؤمِنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ)).
الثانية: ضارَّةٌ، وهذه مُحَذَّرٌ منها.
الثالثة: فيها نفعٌ وضررٌ.
الرابعة: لا نفْعَ فيها ولا ضررَ، وهذه
لا يتعلَّقُ بها أمرٌ ولا نهيٌ، لكنَّ الغالبَ أنْ لا تقعَ إلاَّ وسيلةً
إلَى ما فيهِ أمرٌ أوْ نهيٌ، فَتَأْخُذُ حكمَ الغايَةِ؛ لأنَّ الوسائلَ لها
أحكامُ المقاصدِ.
فالأمرُ لا يخلُو منْ نفعٍ
أوْ ضررٍ، إمَّا لذاتِهِ أوْ لغيرِهِ، فحديثُنا العامُّ قدْ لا يكونُ فيهِ
نفعٌ ولا ضررٌ، لكن قدْ يتكلَّمُ الإنسانُ ويتحدَّثُ لأجلِ إدخالِ
السُّرورِ علَى غيرِهِ فيكونُ نفعًا، ولا يمكنُ أن تجدَ شيئًا من الأمورِ
والحوادثِ ليسَ فيها نفعٌ ولا ضررٌ، إمَّا ذاتيٌّ أوْ عارضٌ، إنَّما
ذَكَرْنَاهُ لأجلِ تمامِ السَّبْرِ والتَّقسيمِ.
والعاقلُ يَشِحُّ بوقتِهِ أنْ يصرفَهُ فيما لا نفعَ فيهِ ولا ضررَ، قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((مَنْ كانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ)).
واتِّصالُ هذه الجملةِ بما قبلَها ظاهرٌ جدًّا؛ لأنَّ من القوَّةِ الحرصَ علَى ما ينفعُ.
و(ما) اسمٌ موصولٌ بفعلِ
(ينفع) والاسمُ الموصولُ يُحَوَّلُ بصلتِهِ إلَى اسمِ فاعلٍ كأنَّهُ قالَ:
احْرِصْ علَى النَّافعِ، وإنَّما قلْتُ ذلكَ لأجلِ أنْ أقولَ: إنَّ
النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أَمَرَنا بالحرصِ علَى النَّافعِ،
ومعناهُ أن نقدِّمَ الأنفعَ علَى النَّافعِ؛ لأنَّ الأنفعَ مشتملٌ علَى
أصلِ النَّفعِ وعلَى الزِّيادةِ، وهذه الزِّيادةُ لا بدَّ أن نحرصَ عليها؛
لأنَّ الحكمَ إذا عُلِّقَ بوصفٍ كانَ تأكُّدُ ذلكَ الحكمِ بحسبِ ما يشتملُ
عليهِ تأكُّدُ ذلكَ الوصفِ، فإذا قلتَ: (أَنَا أَكْرَهُ الفاسِقِينَ) كانَ
كلُّ مَنْ كانَ أشدَّ في الفسقِ إليكَ أكرَهَ؛ فنقدِّمُ الأنفعَ علَى النَّافعِ لوجهينِ:
أحدهما: أنَّهُ مشتملٌ علَى النَّفعِ وزيادةٍ.
والآخر: أنَّ الحكمَ إذا عُلِّقَ بوصفٍ كانَ تَأكُّدُ ذلكَ الحكمِ بحسَبِ تَأكُّدِ ذلكَ الوصفِ وقوَّتِهِ.
وجوبُ الابتعادِ عن الضَّارِّ؛ لأنَّ الابتعادَ عنه انتفاعٌ وسلامةٌ لقولِهِ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)). قولُهُ: ((واسْتَعِنْ باللهِ))
الواوُ تَقْتَضِي الجمعَ، ولم يقلْ: استعنْ لتكونَ الاستعانةُ مقرونةً
بالحرصِ، والحرصُ سابقٌ علَى الفعلِ، فلا بدَّ أن تكونَ الاستعانةُ
مقارِنةً للفعلِ منْ أوَّلِه.
والاستعانةُ : طلبُ العونِ بلسانِ المقالِ، كقولِكَ: (اللهمَّ أعِنِّي) أوْ: (لا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ) عندَ شروعِكَ بالفعلِ.
أوْ بلسانِ الحالِ وهيَ
أن تشعرَ بقلبِكَ أنَّكَ محتاجٌ إلَى ربِّكَ -عزَّ وجلَّ- أن يُعِينَكَ
علَى هذا الفعلِ، وأنَّهُ إنْ وَكَلَكَ إلَى نفسِكَ وكلَكَ إلَى ضعفٍ وعجزٍ
وعورةٍ، أوْ طلبُ العونِ بهما جميعًا، والغالبُ أنَّ مَن استعانَ بلسانِ
المقالِ فقد استعانَ بلسانِ الحالِ.
ولو احتاجَ الإنسانُ إلَى
الاستعانةِ بالمخلوقِ -كحملِ صندوقٍ مثلاً- فهذا جائزٌ، ولكن لا تُشعِرْ
نفسَكَ أنَّها كاستعانتِكَ بالخالقِ، وإنَّما عليكَ أن تشعرَ أنَّها
كمعونةِ بعضِ أعضائِكَ لبعضٍ، كما لوْ عجَزْتَ عنْ حملِ شيءٍ بيدٍ واحدةٍ
فإنَّكَ تستعينُ علَى حملِهِ باليدِ الأخرَى، وعلَى هذا فالاستعانةُ
بالمخلوقِ فيما يقدرُ عليهِ كالاستعانةِ ببعضِ أعضائِكَ، فلا تُنافِي
قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((اسْتَعِنْ باللهِ)).
قولُهُ: ((ولا تَعْجَزَنْ))
فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ علَى الفتحِ؛ لاتِّصالِهِ بنونِ التَّوكيدِ الخفيفةِ،
و(لا) ناهيَةٌ، والمعنَى: لا تفعلْ فعلَ العاجزِ من التَّكاسُلِ وعدمِ
الحزمِ والعزيمةِ، وليسَ المعنَى: لا يصيبُكَ عجزٌ؛ لأنَّ العجزَ عن
الشَّيءِ غيرُ التَّعاجُزِ، فالعجزُ بغيرِ اختيارِ الإنسانِ؛ لأنَّ ذلكَ لا
طاقةَ لهُ بهِ فلا يتوجَّهُ عليهِ نهيٌ، ولهذا قالَ النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((صلِّ قَائِمًا، فإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعلَى جَنْبٍ)).
فإذا اجتمعَ الحرصُ وعدمُ
التَّكاسُلِ، اجتمعَ في هذا صدقُ النِّيَّةِ بالحرصِ والعزيمةِ بعدمِ
التَّكاسلِ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ يَحْرِصُ علَى ما يَنْفَعُهُ ويَشْرَعُ
فيه، ثمَّ يَتَعاجَزُ ويَتَكاسَلُ ويَدَعُهُ، وهذا خلافُ ما أمرَ بهِ
الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، فما دمْتَ عرفتَ أنَّ هذا نافعٌ
فلا تدعْهُ؛ لأنَّكَ إذا عجَزَتْ نفسُكَ خسِرْتَ العملَ الَّذي عمِلْتَ
ثمَّ عوَّدْتَ نفسَكَ التَّكاسلَ والتَّدنيَ منْ حالةِ النَّشاطِ والقوَّةِ
إلَى حالةِ العجزِ والكسلِ، وكم منْ إنسانٍ بدأ العملَ -ولا سيَّما
النَّافعُ- ثمَّ أتَى الشَّيطانُ فثبَّطَهُ، لكن إذا ظهَرَ في أثناءِ
العملِ أنَّهُ ضارٌّ فيجبُ عليهِ الرُّجوعُ عنه؛ لأنَّ الرُّجوعَ إلَى
الحقِّ خيرٌ من التَّمادي في الباطلِ.
قولُهُ: ((وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلتُ كَذا لَكانَ كَذا وكَذا)) هذه هيَ المرتبةُ الرابعةُ ممَّا ذُكِرَ في هذا الحديثِ العظيمِ إذا حصلَ خلافُ المقصودِ.
فالمرتبةُ الأولَى: الحرصُ.
والمرتبةُ الثَّانيَةُ: الاستعانةُ باللهِ.
والمرتبةُ الثالثةُ: المُضِيُّ في الأمرِ والاستمرارُ فيه، وهاتانِ المرتبتانِ إليكَ.
قولُهُ: ((وَإنْ أَصابَكَ شَيءٌ)) أي: ممَّا لا تحبُّهُ ولا تريدُهُ، وممَّا يعوقُكَ عن الوصولِ إلَى مَرامِكَ فيما شرعْتَ فيهِ منْ نفعٍ.
الأولَى: أنْ يقولَ: لوْ لم أَفْعَلْ ما حصَلَ كذا.
الثَّانيَةُ: أنْ يقولَ: لوْ فعلْتُ كذا - لأمرٍ لم يفعلْهُ - لكانَ كذَا.
مثالُ الأوَّلِ: قولُ القائلِ: لوْ لمْ أسافرْ ما فاتنِي الرِّبحُ.
ومثالُ الثَّانِي: أنْ يقولَ لوْ سافرتُ لربِحْتُ.
وذكَرَ النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وسلَّم الثَّانيَ دونَ الأوَّلِ؛ لأنَّ هذا الإنسانَ عاملٌ
فاعلٌ، فهوَ يقولُ: لوْ أنِّي فعلتُ الفعلَ الفلانيَّ دونَ هذا الفعلِ
لَحَصَّلْتُ مطلوبِي، بخلافِ الإنسانِ الَّذي لم يفعلْ وكانَ موقفُهُ
سلبيًّا من الأعمالِ.
قولُهُ: ((كذا)) كنايَةٌ عنْ مُبْهَمٍ، وهيَ مفعولٌ لفعلْتُ.
قولُهُ: ((لَكَانَ كَذَا)) فاعلُ (كانَ)، والجملةُ جوابُ (لو).
قولُهُ: ((قَدَرُ اللهِ)) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: هذا قدرُ اللهِ.
و((قدرُ))
بمعنَى: مقدور؛ لأنَّ قدرَ اللهِ يُطلَقُ علَى التَّقديرِ الَّذي هوَ فعلُ
اللهِ، ويُطلَقُ علَى المقدورِ الَّذي وقعَ بتقديرِ اللهِ، وهوَ المرادُ
هنا؛ لأنَّ القائلَ يتحدَّثُ عنْ شيءٍ وقعَ عليهِ، فقدرُ اللهِ أيْ:
مقدورُهُ، ولا مُقَدَّرَ إلاَّ بتقديرٍ؛ لأنَّ المفعولَ نتيجةُ الفعلِ.
والمعنَى أنَّ هذا الَّذي
وقعَ قَدَرُ اللهِ وليسَ إِليَّ، أمَّا الَّذي إليَّ فقدْ بذَلْتُ ما أراهُ
نافعًا كما أُمِرْتُ، وهذا فيهِ التَّسليمُ التَّامُّ لقضاءِ اللهِ -عزَّ
وجلَّ- وأنَّ الإنسانَ إذا فعَلَ ما أُمرَ بهِ علَى الوجهِ الشَّرعيِّ
فإنَّهُ لا يُلامُ علَى شيءٍ، ويفوِّضُ الأمرَ إلَى اللهِ.
قولُهُ: ((وَما شَاءَ فَعَلَ))
جملةٌ مُصَدَّرةٌ بـ(ما) الشَّرطيَّةِ و(شاء) فعلُ الشَّرطِ، وجوابُهُ
(فعل) أي: ما شاءَ اللهُ أن يفعلَهُ فعلَهُ؛ لأنَّ اللهَ لا رادَّ لقضائِهِ
ولا مُعَقِّبَ لحكمِهِ، قالَ تعالَى: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
وقدْ سبقَ ذِكْرُ قاعدةٍ، وهيَ: أنَّ كلَّ فعلٍ مُعَلَّقٍ بالمشيئةِ فإنَّهُ مقرونٌ بالحكمةِ، وليسَ هناكَ شيءٌ معلَّقٌ بالمشيئةِ المجرَّدةِ؛ لأنَّ اللهَ لا يَشْرَعُ ولا يَفْعَلُ إلاَّ لحكمةٍ.
وبهذا التَّقريرِ نفهمُ
أنَّ المشيئةَ يَلْزَمُ منها وقوعُ المُشَاءِ؛ ولهذا كانَ المسلمونَ
يقولونَ: ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لمْ يشأْ لمْ يكُنْ.
فالإرادةُ الشَّرعيَّةُ لا يَلْزَمُ منها وُقُوعُ المراد ، وهيَ الَّتي بمعنَى المحبَّةِ، قالَ تعالَى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، بمعنَى يُحِبُّ، ولوْ كانَتْ بمعنَى يَشَاءُ لتابَ اللهُ علَى جميعِ النَّاسِ.
أما الإرادةُ الكَوْنِيَّةُ فيَلْزَمُ منها وُقُوعُ المرادِ، كما قالَ اللهُ تعالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَـكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
قولُهُ: ((فإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ)) (لوْ) اسمُ (إِنَّ) قَصَدَ حكايتَهَا؛ أيْ: فإنَّ هذا اللفظَ يفتحُ عملَ الشَّيطانِ.
وعَمَلُهُ: ما يُلْقِيهِ في قلبِ الإنسانِ من الحسرةِ والنَّدمِ والحزنِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يُحِبُّ ذلكَ، قالَ تعالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ}.
حتَّى في المنامِ يُرِيهِ
أحلامًا مُخِيفةً ليُعَكِّرَ عليهِ صَفْوَهُ ويُشَوِّشَ فِكْرَهُ، وحينئذٍ
لا يتفرَّغُ للعبادةِ علَى ما ينبغي.
ولهذا نهَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ عن الصَّلاةِ حالَ تشوُّشِ الفكرِ، فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ)).
فإذا رَضِيَ الإنسانُ
باللهِ ربًّا وقالَ: هذا قضاءُ اللهِ وقَدَرُهُ، وأنَّهُ لا بُدَّ أنْ
يَقَعَ؛ اطْمَأَنَّتْ نفسُهُ، وانْشَرَحَ صَدْرُهُ.
(8) الرَّابِعَةُ: (الإرشادُ إلَى الكلامِ الحَسَنِ) يعني قَوْلَهُ: ((وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ)).
(9) الخامِسَةُ: (الأمْرُ بالحِرْصِ عَلَى ما يَنْفَعُ معَ الاسْتِعانةِ باللهِ) لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)).
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (فالكل مُوافق لحكمته سبحانه وتعالى.
قال: (وقول الله تعالى: {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا}). -جل وعلا- المال، بخلو به وتولوا وهم معرضون؛ فهذا فيه نوع تحكّم على القدر وتعاظم. فاستعمال (لو) في المستقبل إذا كانت في الخير مع رجاء ما عند الله بالإعانة على أسباب الخير، فهذا جائز.
قال: (وقوله: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتلوا}).
ذكرنا أنَّ قول: (لَوْ) في الماضي أنّ هذا لا يجوز، وأنه محرم؛ ودليل ذلك من الآيتين.
وهذا في قصة غزوة أُحد كما هو معروف؛ فهذا من كلام المنافقين؛ فيكون إذاً استعمال (لو) من خصال النفاق، وهذا يَدُلُّ على حُرْمتها.
قال: في (الصحيح) عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((احرص
على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنّ؛ وإنْ أصابك شيء فلا تقل: لو أني
فعلت لكان كذا وكذا، ولكنْ قُل قدّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل
الشيطان)).
وجه مناسبة هذا الحديث
قوله: ((وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا))(لو) هنا كانت على الماضي، ((إن أصابك شيء فلاَ تقل)) وهذا النهي للتحريم((لو أني فعلت لكان كذا)) وهذا لأنه سوء ظن، ولأنه فتحُ عمل الشيطان.
فالشيطان يأتي المصاب فيغريه بـ ((لو)) حتى
إذا استعملها ضَعُف قلبه، وعَجِزَ، وظنّ أنه سيغير من قدر الله شيئا؛ وهو
لا يستطيع أنْ يغير من قدر الله شيئاً، بل قدر الله ماضٍ؛ ولهذا أرشده
-عليه الصلاة والسلام- أن يقول: ((قدّر الله وما شاء فعل))لأن ذلك راجع إلى قَدَرِه وإلى مشيئته.
هذا كله من النهي والتحريم، راجع إلى ما كان من استعمال ((لو))، أو ((ليت)) وما شابههما من الألفاظ في التحسر على الماضي، وتمنّي أن لو فعل كذا حتى لا يحصل له ما سبق، كل ذلك في ما يتصل بالماضي.
أما المستقبل أن يقول:
(لو يحصل لي، لو فعلت كذا وكذا) في المستقبل فإنه لا يدخل في النهي؛ وذلك لاستعمال النبي -عليه الصلاة والسلام- لذلك، حيث قال مثلاً: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سُقْتُ الهدي ولجعلتها عمرة)) ونحو ذلك من الأدلة.
فاستعمال (لو) في المستقبل الأصل فيه الجواز؛
إلاّ إن اقترن به، إلاّ إن اقترن بقول القائل (لو) يريد المستقبل اعتقاد
أنّ فعله سيكون حاكماً على القدر؛ كاعتقاد بعض الجاهليين: (لو حصل لي كذا
لفعلت كذا) تكبّراً، وأنفة، واستعظاماً لفعلهم وقدرتهم؛ فإن هذا يكون من
المنهي؛ لأن فيه تجبراً، وفيه تعاظماً.
والواجب على العبد أن يكون
ذليلاً؛ لأن القضاء والقدر ماضٍ، وقد يحصل له الفعل ولكن ينقلب على عقبيه،
كحال الذي قال الله -جل وعلا- فيه: {ومنهم من عاهد
الله لئن آتانا من فضله لنصّدّقنّ ولنكوننّ من الصالحين، فلما آتاهم من
فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه
بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}فإنهم قالوا: (لو كان لنا كذا وكذا؛ لفعلنا كذا وكذا) فلما أعطاهم الله
أما إذا كان على وجه التجبر، والاستعظام، فإنه لا يجوز؛ لأن فيه نوع تحكم على القدر.
العناصر
مناسبة باب (ما جاء في اللو) لكتاب التوحيد
بيان أهمية باب (باب ما جاء في اللو)
وجه إدخال المصنف (أل) على (لو) في قوله: (باب ما جاء في اللو)
تفسير قوله تعالى: (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء...) الآية
- مناسبة إيراد قوله تعالى: (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء...) في باب (ما جاء في اللو)
- معنى قوله: (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا)، وسبب نزولها
بيان معنى قوله: (الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم...) الآية، وسبب نزولها
شرح حديث أبي هريرة: (احرص على ما ينفعك ...)
- ما يستفاد من قوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)
- بيان أن المراد بالقوة في قوله: (المؤمن القوي) قوة الدين لا البدن، والدليل على ذلك
- معنى قوله: (وفي كل خير)
- معنى قوله: (احرص على ما ينفعك)
- أقسام أفعال العباد من حيث الضرر والنفع
- معنى قوله: (واستعن بالله)، ومناسبة ذكر هذه الجملة بعد قوله: (احرص على ما ينفعك)
- معنى قوله: (ولا تعجزن)
- ذم العَجْز
- أحاديث في فضل الصبر
- معنى قوله: (وإن أصابك شيء...)، وبيان أحوال العبد إذا فاته ما لم يُقَدَّر له
- بيان أقسام ما يقع في الماضي
- استعمالات (لو) من حيث الجواز والتحريم
- معنى قوله: (قدر الله)
- الاحتجاج بالقدر في المصائب دون المعائب
- توجيه احتجاج آدم بالقدر على موسى
- معنى قوله: (وما شاء فعل)، وبيان أن كل فعل معلق بالمشيئة مقرون بالحكمة
- بيان نوعي الإرادة، والفرق بينهما
- بيان وجه فتح (لو) عمل الشيطان
- التحذير من وساوس الشيطان في هذا الباب
- بيان المراتب المذكورة في حديث أبي هريرة
كلام لشيخ الإسلام في شرح حديث (احرص على ما ينفعك)
جملة من فوائد حديث (احرص على ما ينفعك...)
بيان أهمية باب (النهي عن سب الريح)
شرح مسائل باب (ما جاء في اللو)