26 Oct 2008
باب النهي عن سب الريح
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ النَّهْيِ عَنِ سبِّ الرِّيحِ
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لاَ
تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا:
اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا
فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ
الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ)) صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الرِّيحِ.
الثَّالِثَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا قَدْ تُؤْمَرُ بِخَيْرٍ وَقَدْ تُؤْمَرُ بِشَرٍّ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ((5) أيْ: لأنَّها مأمُورَةٌ ولا تأثيرَ لها في شيءٍ إلاَّ بأمرِ اللهِ، فسبُّها كَسَبِّ الدهرِ. وقدْ تقدَّمَ النهيُ عنهُ، فكذلكَ الريحُ.
(6) قولُهُ: ((عنْ أُبَيِّ بنِ كعبٍ)) أي: ابنِ قيسِ بنِ عُبَيْدِ بنِ زيدِ بنِ معاويَةَ بنِ عمرِو بنِ مالكِ بنِ النجَّارِ الأنصاريِّ الخزرَجيِّ، أبو المُنْذِرِ، صحابيٌّ بدريٌّ جليلٌ، وكانَ منْ قُرَّاءِ الصحابةِ وقُضاتِهِم وعلمائِهم، ولهُ مناقبُ مشهورةٌ، اختُلِفَ في سنةِ موْتِهِ، فقالَ الهيثمُ بنُ عديٍّ: ماتَ سنةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. قلتُ: وقيلَ غيرُ ذلكَ. وكوْنُها قدْ تأتي بالعذابِ لا يُنَافِي كَوْنَها منْ رحمةِ اللهِ.
قولُهُ: ((فقولُوا: اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ)) أمرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرجوعِ إلى خالقِهَا وآمرِها الذي أزِمَّةُ الأمورِ كلِّها بيَدِهِ، ومصدرُها عنْ قضائِهِ.
وقالَ خليفةُ بنُ خَيَّاطٍ: (سنةَ اثنتَيْنِ وثلاثينَ، يُقَالُ: فيها ماتَ أُبيُّ بنُ كعبٍ، ويُقَالُ: بلْ ماتَ في خلافةِ عمرَ).
وعن ابنِ عبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً لعنَ الريحَ عندَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: ((لاَ
تَلْعَنُوا الرِّيحَ؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ
شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ إِلَيْهِ)) رواهُ الترمذيُّ وقالَ: (غريبٌ).
قالَ الشافعيُّ: (
لا ينبغي شَتْمُ الرِّيحِ؛ فإنهَّا خَلْقٌ مُطِيعٌ للهِ، وجُنْدٌ منْ
جنودِهِ، يجعلُها اللهُ رحمةً إذا شاءَ، ونِقْمَةً إذا شاء، ثمَّ روى
بإسنادِهِ حديثًا منقطعًا، أَنَّ رَجُلاً شَكَى إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفَقْرَ، فَقَالَ لَهُ: ((لَعَلَّكَ تَسُبُّ الرِّيحَ))).
وقالَ مُطَرِّفٌ: (لوْ حُبِسَت الريحُ عن الناسِ لأََنْتَنَ ما بينَ السماءِ والأرض).
فما استُجْلِبَتْ نعمةٌ
بمثلِ طاعتِهِ وشُكْرِهِ، ولا استُدْفِعَتْ نِقْمَةٌ بمثلِ الالتجاءِ إليهِ
والتعوُّذِ بهِ، والاضطرارِ إليهِ والاستكانةِ لهُ، ودُعائِهِ والتوبةِ
إليهِ والاستغفارِ من الذنوبِ.
قَالَتْ عائشةُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَت الرِّيحُ قَالَ:((اللهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهَا وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا
أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ
مَا أُرْسِلَتْ بِهِ)).
وَإِذَا تَخَيَّلَت
السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَدْبَرَ وَأَقْبَلَ،
فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: ((لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَـذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}[الأحقاف:24]))، رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
فهذا ما أمرَ بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفَعَلَهُ عندَ الريحِ وغيرِها من الشدائدِ المكروهاتِ.
فأينَ هذا مِمَّنْ يستغيثُ بغيرِ اللهِ من الطواغيتِ والأمواتِ، فيقولونَ: يا فلانُ الْزَمْها، أوْ أزِلْها؟! فاللهُ المستعانُ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (5) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ النَّهْيِ عنْ سَبِّ الرِّيحِ).
(6) (عنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ
تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ما تَكْرَهونَ فَقُولوا: اللهُمَّ
إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا،
وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ،
وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ)) صَحَّحَهُ التِّرمذيُّ).
لأنَّها إنما تَهُبُّ عنْ
إيجادِ اللهِ تعالَى وخَلْقِهِ لها وأَمْرِهِ؛ لأنَّهُ هوَ الذي أَوْجَدَها
وأَمَرَها، فمَسَبَّتُها مَسَبَّةٌ للفاعِلِ، وهوَ اللهُ سُبحانَهُ. كما تَقَدَّمَ في
النَّهْيِ عنْ سَبِّ الدَّهْرِ وهذا يُشْبِهُهُ، ولا يَفْعَلُهُ إلاَّ أهلُ
الْجَهْلِ باللهِ ودِينِهِ وبما شَرَعَهُ لعِبادِهِ؛ فنَهَى صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ الإِيمانِ عمَّا يَقولُهُ أهلُ الْجَهْلِ
والْجَفاءِ وأَرشَدَهم إلَى ما يَجِبُ أن يُقالَ عندَ هُبوبِ الرياحِ
فقالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ
فَقُولوا: اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ،
وخَيْرِ ما فِيها، وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ)) يعنِي إذا رَأَيْتُم ما تَكرهونَ من الرِّيحِ إذا هَبَّتْ فارْجِعُوا إلَى رَبِّكُم بالتوحيدِ وقُولوا: ((اللهُمَّ
إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا،
وَخَيْرِ ما أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ،
وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ))،
ففي هذا عُبُودِيَّةٌ للهِ وطاعةٌ لهُ ولرسولِهِ، واسْتِدْفَاعٌ للشُّرورِ
بهِ؛ وَتَعرُّضٌ لفَضْلِهِ ونِعمتِهِ، وهذه حالُ أهلِ التوحيدِ والإيمانِ،
خِلافًا لحالِ أهلِ الفُسوقِ والعِصيانِ الذينَ حُرِموا ذَوْقَ طَعْمِ
التوحيدِ الذي هوَ حَقيقةُ الإيمانِ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((2) وهذا نظيرُ ما سَبَقَ في سبِّ الدَّهْرِ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ البابَ عامٌّ في سبِّ جميعِ حوادثِ الدَّهْرِ، وهذا خاصٌّ بالرِّيحِ، ومع تحريمِه فإنَّه حُمْقٌ وضَعْفٌ في العقلِ والرأْيِ، فإنَّ الرِّيحَ مُصَرَّفَةٌ مُدَبَّرَةٌ بتدبيرِ اللهِ وتسخيرِه فالسَّابُّ لها يقعُ سبُّه على مَن صَرَّفَها، ولولاَ أنَّ المتَكَلِّمَ بِسَبِّ الريحِ لا يخطُرُ هذا المعنى في قلْبِهِ غَالِبًا لكان الأمرُ أفظعَ مِن ذلك، ولكنْ لا يكادُ يخطُرُ بقَلْبِ مُسلمٍ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (11) المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أطْلَقَ النَّهيَ ولمْ يُفْصِحْ هل المرادُ بهِ التَّحريمُ أو الكراهةُ. وَسَيَتَبَيَّنُ إنْ شاءَ اللهُ من الحديثِ.
قولُهُ: (الرِّيحِ) الهواءُ الَّذي يُصَرِّفُهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وجَمْعُهُ رياحٌ. وأُصُولُهَا أربعةٌ: الشَّمَالُ والجَنُوبُ والشَّرْقُ والغَرْبُ. وتصريفُهَا منْ آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فأحيانًا
تكونُ شديدةً تَقْلَعُ الأشجارَ، وتَهْدِمُ البيوتَ، وتَدْفِنُ
الزُّرُوعَ، ويَحْصُلُ معها فَيَضَانَاتٌ عظيمةٌ، وأحيانًا تكونُ هادئةً،
وأحيانًا تكونُ باردةً، وأحيانًا حَارَّةً، وأحيانًا عاليَةً، وأحيانًا
نازلةً، كلُّ هذا بقضاءِ اللهِ وقدَرِهِ.
ولو اجتمَعَتْ جميعُ الْمَكائِنِ العالَمِيَّةِ النَّفَّاثَةِ لِتُوجِدَ هذهِ الرِّيحَ الشَّديدةَ ما استطاعَتْ إلَى ذلكَ سبيلاً.
ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ بقُدْرَتِهِ يُصَرِّفُها كيفَ يشاءُ وعلَى ما يُرِيدُ.
فهلْ يَحِقُّ للمسلمِ أنْ يَسُبَّ هذهِ الرِّيحَ؟
الجوابُ: لا؛
لأنَّ هذهِ الرِّيحَ مُسَخَّرةٌ مُدَبَّرةٌ، وكما أنَّ الشَّمسَ أحيانًا
تَضُرُّ بإحراقِهَا بعضَ الأشجارِ فَمَعَ ذلكَ لا يجوزُ لأحدٍ أنْ
يَسُبَّها؛ ولهذا قالَ:((لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ)).
(12) قولُهُ: (لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ) (لاَ): ناهيَة، والفعلُ مجزومٌ بحذفِ النُّونِ، والواوُ فاعلٌ، والرِّيحُ مفعولٌ بهِ. والسَّبُّ: الشَّتمُ والعيبُ والقَدْحُ واللَّعْنُ، وما
أشبهَ ذلكَ؛ لأنَّ سَبَّ المخلوقِ سَبٌّ لِخَالِقِهِ، فلوْ وَجَدْتَ
قَصْرًا مَبْنِيًّا وفيهِ عَيْبٌ فَسَبَبْتَهُ، فهذا السَّبُّ يَنْصَبُّ
علَى مَنْ بَنَاهُ. وكذلكَ سبُّ الرِّيحِ؛ لأنَّها مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ
علَى ما تقتضيهِ حكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ.
قولُهُ: (مِنْ خَيْرِ
هَذِهِ الرِّيحِ) الرِّيحُ نفسُهَا فيها خيرٌ وشرٌّ؛ فقدْ تكونُ عاصفةً
تَقْلَعُ الأشجارَ وتَهْدِمُ الدِّيارَ وتُفِيضُ البحارَ والأنهارَ، وقدْ
تكونُ هادئةً تُبَرِّدُ الجوَّ وتُكْسِبُ النَّشاطَ.
(15) الثالِثَةُ: (الإِرشادُ إلَى أنَّها مأْمورةٌ) لقولِهِ: ((مَا أُمِرَتْ بِهِ...)).
ولكنْ إذا كانت الرِّيحُ مُزْعِجةً فقدْ أَرْشدَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ إلَى ما يُقالُ حينَئذٍ في قولِهِ: ((وَلَكِنْ قُولُوا: اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ...)) إلخ.
قولُهُ: (وَخَيْرِ مَا
فِيهَا) أيْ: ما تَحْمِلُهُ؛ لأنَّها قدْ تحملُ خيرًا كتلقيحِ الثِّمَارِ،
وقدْ تحملُ رائحةً طَيِّبةَ الشَّمِّ، وقدْ تحملُ شرًّا كإزالةِ تلقيحِ
الثِّمَارِ، وأمراضٍ تَضُرُّ الإنسانَ والبهائمَ.
قولُهُ: (وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ) مثلِ: إثارةِ السَّحابِ وسَوْقِهِ إلَى حيثُ شاءَ اللهُ.
قولُهُ: (وَنَعُوذُ بِكَ) أيْ: نَعْتَصِمُ ونَلْجَأُ.
قولُهُ: (مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ) أيْ: شَرِّها بنفسِها، كَقَلْعِ الأشجارِ، ودفْنِ الزُّرُوعِ، وهدْمِ البيوتِ.
قولُهُ: (وشَرِّ مَا فِيهَا) أيْ: ما تحملُهُ من الأشياءِ الضَّارَّةِ، كَالأَنْتَانِ والقَاذُورَاتِ والأوْبِئَةِ وغيرِهَا.
قولُهُ: (وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ) كالإهلاكِ والتَّدميرِ، قالَ تعالَى في ريحِ عادٍ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}
وتَيْبِيسِ الأرضِ من الأمطارِ، ودَفْنِ الزُّرُوعِ، وطَمْسِ الآثارِ
والطُّرُقِ؛ فَقَدْ تُؤْمَرُ بشرٍّ لحكمةٍ بالغةٍ قدْ نَعْجَزُ عنْ
إدراكِهَا.
وقولُهُ: (مَا أُمِرَتْ
بِهِ) هذا الأمرُ حقيقيٌّ؛ أيْ: يأمُرُها اللهُ أنْ تَهُبَّ ويَأْمُرُهَا
أنْ تَتَوَقَّفَ. وكلُّ شيءٍ من المخلوقاتِ فيهِ إدراكٌ بالنِّسْبَةِ إلَى
أمْرِ اللهِ، قالَ تعالَى للأَرْضِ والسَّماءِ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وقالَ للقلمِ: ((اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ)).
قال في (فتح المجيد) (ص:561): (ففي
هذا عبوديةٌ لله، وطاعة له ولرسوله، واستدفاعٌ للشرور به وتعرض لفضله
ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان، خلافاً لحال أهل الفسوق والعصيان
الذين حرموا ذوق طعم التوحيد الذي هو حقيقة الإيمان) .
الأُولَى: (النَّهْيُ عنْ سَبِّ الرِّيحِ)وهذا النَّهيُ للتَّحريمِ؛ لأنَّ سبَّها سَبٌّ لمَنْ خلقَهَا وأرسلَهَا. (14) الثَّانيَةُ: (الإِرشادُ إلَى الكلامِ النَّافِعِ إذا رَأَى الإِنسانُ ما يَكْرَهُ)
وهوَ أنْ يقولَ: ((اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهَا...))الحديثَ، معَ فِعْلِ الأسبابِ الحِسِّيَّةِ أيضًا، كالاتِّقَاءِ بالجُدْرَانِ أو الجبالِ منْ شَرِّ هذهِ الرِّيحِ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بابٌ النهي عن سب الريح:
الريح
مخلوق من مخلوقات الله، مُسخّر؛ وهي واحدة الرياح، يجريها الله -جل وعلا-
كما يشاء؛ وهي لا تملك شيئاً؛ كالدهر لا يملك شيئاً؛ ولا يُدبّر أمراً،
فسبّ الريح كسبّ الدهر، يرجع في الحقيقة إلى أذيّة الله جل وعلا؛ لأن الله
هو الذي يُصرّف الريح كيف يشاء.
- يأتي بالرّيح بأمر مكروه؛ فيذكر العباد بالتوبة والإنابة.
- ويذكر العباد بمعرفة قدرته عليهم.
وأنه لا غنى لهم عنه -جل وعلا- طرفةَ عينٍ.
- ويأتي بالريح فيجعلها رياحاً؛ فيسخرها -جل وعلا- لما فيه مصلحة العباد؛ فالريح إذاً لا تملك شيئاً،.
فهذا الباب عقده لبيان تحريم سبّ الريح؛
كما عقد ما قبله لبيان أنَّ سبّ الدهر لا يجوز، ومُحرّم؛ لأنه أذّية لله
جل وعلا؛ وهذا الباب من جنس ذاك؛ لكنْ هذا يكثر وقوعه؛ فأفرده لكثرة وقوعه،
وللحاجة إلى التنبيه عليه.
قال: (باب، النهي عن سبّ الريح) النهي للتحريم، وسبّ الريح:
- يكون بشتمها.
- أو بلعنها.
وكما ذكرنا لكم في باب الدهر، ليس من سبّها أنْ توصف بالشدة؛ كقول الله جل وعلا: {ريحٍ صرصرٍ عاتية، سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً}.
{ريحٍ صرصرٍ عاتية} هذا وصف لها؛ ووصفها بالشدة، أو وصفها بالأوصاف التي يكون فيها شرّ على من أتت عليه؛ كقوله: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}، ليس هذا مِن المنهيّ عنه.
قال: (عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تسبّوا الريح؛ فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به)).
هذا
يدل على أنَّ الريح يكون فيها أمر، ويكون عليها أمر ونهي؛ والله -جل وعلا
-يُرسلُ الرياح كيف يشاء، ويَصْرِفها أيضاً -جل وعلا- عمّن يشاء؛ فهي مسخرة
بأمره جلّ وعلا.
والملائكة
هي التي تُصرِّف الريح بأمره جل وعلا؛ فللريح ملائكة تُصرّفها كيف شاء
ربنا جل وعلا، وتقدَّس، وتعاظم؛ فيها خير وقد يكون فيها عذاب؛ ولهذا قال
عليه الصلاة والسلام:((إذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا))فأرشدهم إلى القول الآتي.
(( وما يكرهون)) قد يكون من جهة صفة الريح.
- وقد يكون من جهة لون الريح، يعني: صفتها من جهة السرعة، أو الاتجاه.
- وقد يكون من جهة لونها.
- وقد يكون من جهة أثرها.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا رأى شيئاً في السماء، أقبل وأدبر، ودخل وخرج، ورُئي ذلك في وجهه حتى تُمطر السماء؛ فيُسرّى عنه، ويُسرّ عليه الصلاة والسلام؛ قالت له عائشة: (يا رسول الله، لم ذاك؟)
قال: ((ألم تسمعي لقول أولئك)).
أو كما قال عليه الصلاة والسلام: {فلمَّا رأوه عارضاً مستقبلَ أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذاب أليم تدمّر كل شيء بأمر ربها}.
فإذاً: الخوف من الله جل جلاله، إذا ظهرت هذه الحوادث، أو التغيرات في السماء، أو في الأرض: واجب، والله -جل وعلا- يتعرّف إلى عباده بالرخاء؛ كما أنه يتعرف إلى عباده بالشدة؛ حتى يَعرفوا ويعلموا:
- ربوبيته.
- وقهره.
- وجبروته.
ويعلموا:
- حلمه.
- وتودده.
- ورحمته أيضاً لعباده.
فإذاً: إذا رأى العبد ما يكره، ضرع إلى الله، واستغاث بالله، وسأل الله بقوله:
((اللهم إنا نسألك مِنْ خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُمرت به؛ ونعوذ بك مِنْ شرّ هذه الريح، وشرِّ ما فيها، وشرّ ما أُمرت به)). صححه الترمذي.
العناصر
شرح ترجمة الباب (النهي عن سب الريح)
- بيان أن الريح من آيات الله
- بيان حكمة النهي عن سب الريح، ومشابهته لسب الدهر
شرح حديث أبي بن كعب: (لا تسبوا الريح ...)
- ترجمة أبيّ بن كعب رضي الله عنه
- معنى قوله: (لا تسبوا الريح)، وذكر نظائر له من السنة
- الإرشاد إلى ما يقال عند اشتداد الريح
شرح مسائل باب (النهي عن سب الريح)