26 Oct 2008
باب لا يقول: عبدي وأمتي
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بابٌ لا يَقولُ: عَبْدِي وأَمَتي
في (الصَّحيحِ) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال:((لا
يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وضِّئْ ربَّكَ، ولْيَقلْ:
سَيِّدي ومَوْلاي، ولا يَقُلْ أحَدُكُم عَبدِي وأَمَتي وَلْيَقُلْ: فَتَايَ
وفَتاتِي وغُلامِي)). فيه مسائل:
الأُولى: النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ: عَبْدي وَأَمَتي.
الثَّالِثَةُ: تعليمُ الأَوَّلِ قولَ: فَتايَ وفَتاتِي وغُلامِي.
الرَّابِعةُ: تعليمُ الثَّانِي قولَ: سَيِّدي ومَوْلايَ.
الخامِسَةُ: التَّنْبيهُ للمرادِ وهُوَ تحقيقُ التَّوحيدُ حتّى في الألْفاظِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (5) أيْ:
لِمَا في ذلكَ من الإيهامِ من المشاركةِ في الرُّبُوبِيَّةِ، فَنُهِيَ عنْ
ذلكَ أَدَبًا معَ جَنَابِ الرُّبُوبِيَّةِ، وحمايَةً لِجَنَابِ التوحيدِ.
(6) قولُهُ: (في الصحيحِ)؛ أي: (الصحيحَيْنِ). قولُهُ:
(لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ) هوَ بالْجَزْمِ على النَّهْيِ، والمرادُ أنْ
يقولَ ذلكَ لمملوكِهِ أوْ مملوكِ غيرِهِ؛ فالكلُّ مَنْهِيٌّ عنهُ.
أحدُهما: وهوَ الأظهرُ: أَنَّ هذا جائزٌ في شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا،وقدْ وردَ شَرْعُنا بخلافِهِ.
قولُهُ: (أَطْعِمْ رَبَّكَ) بفتحِ الهمزةِ من الإطعامِ.
قولُهُ: (وَضِّئْ رَبَّكَ) أَمْرٌ من الوضوءِ، وفيهما في هذا الحديثِ زيادةُ: (اسْقِ رَبَّكَ) وكأنَّ المُؤَلِّفَ اختصَرَهَا.
قالَ الْخَطَّابِيُّ: (وسببُ
المنعِ أنَّ الإنسانَ مَرْبُوبٌ مُعَبَّدٌ بإخلاصِ التوحيدِ للهِ تعالى
وتَرْكِ الإشراكِ بهِ، فَتَرَكَ المُضَاهَاةَ بالاسمِ لِئَلاَّ يَدْخُلَ في
معنى الشركِ، ولا فَرْقَ في ذلكَ بينَ الحُرِّ والعبدِ، وأمَّا مَنْ لا
تَعَبُّدَ عليهِ منْ سائرِ الحيواناتِ والجماداتِ، فلا يُكْرَهُ أنْ
يُطْلَقَ ذلكَ عليهِ عندَ الإضافةِ، كقولِهِ: رَبُّ الدَّارِ والثَّوْبِ).
قالَ ابنُ مُفْلِحٍ في (الفُرُوعِ): (وظاهرُ النهيِ التحريمُ، وقدْ يَحْتَمِلُ أنَّهُ للكراهَةِ، وجزمَ بهِ غيرُ واحدٍ من العلماءِ).
فإنْ قُلْتَ: قدْ قالَ اللهُ تعالى حِكَايَةً عنْ يُوسُفَ عليهِ السلامُ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ }[يوسف:42]، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أَشْرَاطِ الساعةِ: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)) فهذا يدلُّ على الجوازِ.
وأمَّا الحديثُ؛ فليسَ منْ
هذا البابِ للتأنيثِ، والنهيُ عنهُ أنْ يقولَ ذلكَ للذَّكَرِ لِمَا فيهِ
منْ إيهامِ المشاركةِ، وهوَ معدومٌ في الأنثى.
أوْ يُقَالُ بِحَمْلِهِ
على الكَرَاهَةِ في الأنثى أيضًا؛ لوُرُودِ الحديثِ بذلكَ دُونَ الذَّكَرِ؛
لأنَّهُ لم يَرِدْ فيهِ إلاَّ النهيُ.
ويُقَالُ، وهوَ أظهرُ:
إنَّ
هذا ليسَ فيهِ إلاَّ وَصْفُها بذلكَ لا دُعَاؤُهَا بهِ وتَسْمِيَتُها بهِ،
وفَرْقٌ بينَ الدعاءِ والتسميَةِ وبينَ الوصفِ، كما تقولُ: زيدٌ فاضلٌ،
فَتَصِفُهُ بذلكَ، ولا تُسَمِّهِ بهِ ولا تَدْعُهُ بهِ. قولُهُ: (وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي) قيلَ:إنَّ الفرقَ بينَ الربِّ والسيِّدِ، أنَّ الربَّ منْ أسماءِ اللهِ تعالى اتِّفَاقًا. واخْتُلِفَ في السيِّدِ، هلْ هوَ منْ أسماءِ اللهِ تعالى؟
قُلْتُ: وحديثُ ابنِ الشِّخِّيرِ لا
ينفي إطلاقَ لفظِ السيِّدِ على غيرِ اللهِ، بل المرادُ أنَّ اللهَ هوَ
الأحقُّ بهذا الاسمِ بأنواعِ العباراتِ، كما أنَّ غيرَهُ لا يُسَمَّى بهِ.
قالَ في (الفُرُوعِ): (ولا يَقُلْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُم عبيدُ اللهِ وَإِمَاءُ اللهِ، ولا يَقُل العبدُ لسَيِّدِهِ: رَبِّي).
قالَ عِيَاضٌ: (وحَذْفُها
أصحُّ، فَظَهَرَ أنَّ اللفظَ الأوَّلَ أَرْجَحُ، وإنَّما صِرْنَا للترجيحِ
للتعارُضِ بيْنَهُما، والجمعُ مُتَعَذِّرٌ، والعلمُ بالتاريخِ مفقودٌ،
فلمْ يَبْقَ إلاَّ الترجيحُ).
وفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي؛ فَإِنَّ كُلَّكُمْ عَبِيدُ اللهِ)).
قولُهُ: (وَلْيَقُلْ: فتايَ وفتاتِي وغُلامِي) أيْ: لأنَّها لَيْسَتْ دالَّةً على الْمِلْكِ كَدَلالَةِ عبْدِي وأَمَتِي.
ولمْ يَأْتِ في القرآنِ أنَّهُ منْ أسماءِ اللهِ، لكنْ في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ: ((السَيِّدُ اللهُ)) وسيأتي.
فإنْ قُلْنَا: ليسَ منْ أسماءِ اللهِ، فالفرقُ واضحٌ؛ إذْ لا التباسَ.
وأمَّا
منْ حيثُ اللُّغَةُ؛ فالسيِّدُ من السُّؤْدُدِ، وهوَ التقدُّمُ، يُقَالُ:
سادَ قومَهُ إذا تقدَّمَهُم، ولا شُكْرَ في تقديمِ السيِّدِ على غُلامِهِ.
فلمَّا حصلَ الافتراقُ جازَ الإطلاقُ.
قُلْتُ: فظاهرُ روايَةِ مُسْلِمٍ مُعَارِضَةٌ لحديثِ البابِ.
وأُجِيبَ بأنَّ مُسْلِمًا قدْ بَيَّنَ الاختلافَ فيهِ عن الأعمشِ، وأنَّ منهمْ مَنْ ذَكَرَ هذهِ الزيادةَ، ومنهم مَنْ حَذَفَها.
قُلْتُ: الجمعُ مُمْكِنٌ بِحَمْلِ النهيِ على الكراهةِ، أوْ على خلافِ الأَوْلَى.
قالَ في (مصابيحِ الجامِعِ): (النهيُ
إنَّما جاءَ مُتَوَجِّهًا إلى السيِّدِ؛ إذْ هوَ في مَظِنَّةِ الاستطالةِ.
وأمَّا قولُ الْغَيْرِ: هذا عَبْدُ زَيْدٍ، وهذهِ أَمَةُ خالدٍ، فجائزٌ؛
لأنَّهُ يقولُ إخبارًا أوْ تعريفًا، وليسَ في مَظِنَّةِ الاستطالةِ).
وقالَ أبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: (لا
نَعْلَمُ بينَ العلماءِ خلافًا أنَّهُ لا ينْبَغِي لأحدٍ أنْ يقولَ لأحدٍ
من المخلوقينَ: مولايَ، ولا يقولَ: عبدُكَ وعبْدِي، وإنْ كانَ مملوكًا،
وقدْ حَظَرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المملوكينَ،
فكيفَ للأحرارِ؟)
فَأَرْشَدَ عليهِ السلامُ
إلى ما يُؤَدِّي المعنى من السلامةِ من الإيهامِ والتَّعَاظُمِ، معَ أنَّها
تُطْلَقُ على الحُرِّ والمملوكِ، لكنَّ إضافَتَهُ تَدُلُّ على الإخلاصِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ لا يَقولُ: عَبْدِي وأَمَتِي).
(5) في (الصَّحيحِ) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ((لاَ
يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ:
سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ. وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي،
وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي)). قولُهُ: (بَابُ لاَ يَقُولُ: عَبْدِي وأَمَتِي) ذَكَرَ الحديثَ الذي في وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي)).
هذهِ الألفاظُ
الْمَنْهِيُّ عنها وإنْ كانتْ تُطْلَقُ لُغةً، فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عنها؛ تَحقيقًا للتوحيدِ وسدًّا لذرائعِ
الشِّرْكِ، لِمَا فيها من التشريكِ في اللَّفْظِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى هوَ
رَبُّ العِبادِ جَمِيعِهم، فإذا أُطْلِقَ على غيرِهِ شَارَكَهُ في هذا
الاسمِ، فيُنْهَى عنهُ لذلكَ وإنْ لمْ يَقْصِدْ بذلكَ التشريكَ في
الرُّبوبيَّةِ التي هيَ وَصْفُ اللهِ تعالى.
وإنَّما المعنى أنَّ هذا مالِكٌ لهُ، فيُطْلَقُ عليهِ هذا اللفظُ بهذا الاعتبارِ.
فالنهيُ عنهُ حَسْمًا
لِمَادَّةِ التشريكِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، وتَحقيقًا للتوحيدِ، وبُعدًا
عن الشرْكِ حتَّى في اللَّفْظ، وهذا منْ أَحْسَنِ مَقاصِدِ الشريعةِ؛ لِمَا
فيهِ منْ تَعظيمِ الربِّ تَعَالَى، وبُعْدِهِ عنْ مُشابَهَةِ المخلوقِينَ.
فأَرْشَدَهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما يَقومُ مَقامَ هذهِ الألفاظِ، وهوَ قولُهُ: ((سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ))، وكذلكَ قولُهُ: ((وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي)) لأنَّ العَبيدَ عَبيدُ اللهِ، والإِماءَ إماءُ اللهِ، قالَ اللهُ تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93]،
ففي إطلاقِ هاتيْنِ الكَلِمَتَيْنِ على غيرِ اللهِ تَشريكٌ في اللفظِ،
فنَهَاهُم عنْ ذلكَ؛ تَعظيمًا للهِ تعالى وأَدَبًا، وإبْعادًا عن
الشِّرْكِ، وتَحقيقًا للتوحيدِ، وأَرْشَدَهم إلى أنْ يَقُولُوا: ((فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي))
وهذا منْ بابِ حِمايَةِ الْمُصطفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَنابَ التوحيدِ، فقدْ بَلَّغَ أُمَّتَهُ كلَّ ما فيهِ لهم نَفْعٌ،
ونَهاهُمْ عنْ كلِّ ما فيهِ نَقْصٌ في الدِّينِ، فلا خَيرَ إلاَّ دَلَّهُمْ
عليهِ، خُصوصًا في تحقيقِ التوحيد، ولا شَرَّ إلاَّ حَذَّرَهم عَنْهُ
صَلَوَاتُ اللهِ وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، خُصوصًا ما يُقَرِّبُ من الشرْكِ
لَفْظًا وإنْ لم يُقْصَدْ.
وباللهِ التوفيقُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((3) وهذا على وجْهِ الاسْتِحْبابِ أنَّ يَعْدِلَ الْعَبْدُ عن قولِ: عبدْي وأَمَتِي،إلى: فَتايَ وفتاتي؛ تَحَفُّظًا عن اللَّفْظِ الَّذي فيه إيهامٌ ومحذورٌ ، ولو على وجْهٍ بعيدٍ، وليسَ حرامًا، وإنَّما الأدبُ كمالُ التَّحَفُّظِ بالألفاظِ الطيِّبَةِ الَّتي لا تُوهِمُ محذورًا بوجْهٍ، فَإِنَّ الأَدَبَ في الألفاظِ دليلٌ على كمالِ الإِخلاصِ، خُصوصًا هذه الألفاظَ التي هي أَمَسُّ بهذا المقامِ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((15) هذهِ الترجمةُ تحتَمِلُ كراهَةَ هذا القولِ وتحريمَهُ، وقد اختَلَفَ العلماءُ في ذلكَ.
وسيأتي التفصيلُ. قولُهُ: (لا يَقُلْ) أي: الإنسانُ، (عَبْدِي) أيْ: للغُلامِ، و(أَمَتِي) أيْ: للجاريَةِ. الأُولَى: أنْ يكونَ بصيغةِ الخبرِ، مثلُ:
(أَطْعَمْتُ عَبْدِي) (كَسَوْتُ عَبْدِي) (أعْتَقْتُ عَبْدِي) فإنْ قالَهُ
في غَيْبَةِ العبدِ أو الأَمَةِ فلا بأسَ فيهِ، وإنْ قالَهُ في حَضْرَةِ
العبدِ أو الأمَةِ فإنْ ترَتَّبَ عليهِ مَفْسَدَةٌ تَتَعَلَّقُ بالعبدِ أو
السَّيِّدِ مُنِعَ، وإلاَّ فلا؛ لأنَّ القائلَ بذلكَ لا يَقْصِدُ
العبوديَّةَ الَّتي هيَ الذُّلُّ، وإنَّما يَقْصِدُ أنَّهُ مَمْلُوكٌ.
والحكمُ في ذلكَ يَنْقَسِمُ إلى قسمَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ يُضِيفَهُ إلى غيرِهِ، مثلُ أنْ يقولَ: عبدُ فُلانٍ أوْ أَمَةُ فُلانٍ، فهذا جائزٌ؛ قالَ تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، وقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ)).
وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في النَّهْيِ هلْ هوَ للكراهَةِ أو التَّحْريمِ؟ والراجِحُ التَّفْصيلُ في ذلكَ، وأقلُّ أحوالِهِ الكراهَةُ.
القسمُ الأوَّلُ: أنْ تكونَ الإضافةُ إلى ضميرِ المُخَاطَبِ، مثلُ: (أَطْعِمْ رَبَّكَ) (وَضِّئْ رَبَّكَ).
والصَّحيحُ عدمُ الفارقِ؛ لأنَّ البهيمةَ تَعْبُدُ اللهَ عبادةً خاصَّةً، قالَ تعالى: {أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ}.
(16) قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ))
إلخ أيْ: لا يَقُلْ أحدُكُم لعبدِ غَيْرِهِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَشْمَلَ
قوْلَ السَّيِّدِ لعبْدِهِ، حيثُ يَضَعُ الظاهِرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ
تَعَاظُمًا.
واعْلَمْ أنَّ إضافةَ الرَّبِّ إلى غيرِ اللهِ تَنْقَسِمُ إلى أقسامٍ:
أحدهما: منْ جهةِ الصِّيغَةِ؛لأنَّهُ
يُوهِمُ معنًى فاسدًا بالنِّسبةِ لكلمةِ ربٍّ؛ لأنَّ الرَّبَّ منْ
أسمائِهِ سبحانَهُ، وهوَ سبحانَهُ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ، وإنْ كانَ بلا
شكٍّ أنَّ الرَّبَّ هنا غيرُ الرَّبِّ الَّذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ.
والآخر: منْ جهةِ المعنى؛لأنَّهُ يُشْعِرُ العبدَ أو الأمَةَ بالذُّلِّ؛ فإذا كانَ السيِّدُ ربًّا كانَ العبدُ أو الأَمَةُ مَرْبُوبًا.
القسمُ الثَّاني: أنْ تكونَ الإضافةُ إلى ضميرِ الغائبِ، فهذا لا بأسَ بهِ، كقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ في حديثِ أشراطِ السَّاعةِ: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا)).
وأمَّا لفظُ ((رَبَّتَهَا))
فلا إشكالَ فيهِ لوجودِ تاءِ التَّأنيثِ فلا اشتراكَ معَ اللهِ في اللفظِ؛
لأنَّ اللهَ يُقالُ لهُ: رَبٌّ، ولا يُقَالُ لهُ: رَبَّةٌ، وفي حديثِ
الضَّالَّةِ، وهوَ مُتَّفَقٌ عليهِ: ((حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا)).
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: (إنَّ حديثَ الضَّالَّةِ في بهيمةٍ لا تَتَعَبَّدُ ولا تَتَذَلَّلُ كالإنسانِ).
وقالَ في النَّاسِ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} ليسَ جميعَهُم، {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}.
وعلى هذا؛ فيَجوزُ أنْ نقولَ: أَطْعَمَ الرقيقُ رَبَّهُ، ونَحْوَهُ.
القسمُ الثَّالثُ: أنْ تكونَ الإضافةُ إلى ضميرِ المُتَكَلِّمِ، بأنْ يقولَ العبدُ: هذا رَبِّي.
قدْ يقولُ قائلٌ: إنَّ هذا جائزٌ؛ لأنَّ هذا من العبدِ لسيِّدِهِ، وقدْ قالَ تعالى عنْ صاحبِ يوسفَ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أيْ: سَيِّدي؛ ولأنَّ المحذورَ منْ قولِ: (رَبِّي) هوَ إذلالُ العبدِ، وهذا مُنْتَفٍ؛ لأنَّهُ هوَ بنفسِهِ يقولُ: هذا ربِّي.
القسمُ الرَّابعُ: أنْ يُضافَ إلى الاسمِ الظَّاهرِ، فيُقالُ: هذا رَبُّ الغلامِ، فظاهرُ الحديثِ الجوازُ.
وهوَ كذلكَ ما لمْ يُوجَدْ محذورٌ فَيُمْنَعُ، كما لوْ ظَنَّ السَّامعُ أنَّ السَّيِّدَ رَبٌّ حقيقيٌّ خالقٌ.
قولُهُ: (وَلِيَقُلْ:
سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ) المُتَوَقَّعُ أنْ يقولَ: ولْيَقُلْ: سيِّدُكَ
ومَوْلاَكَ؛ لأنَّ مُقْتَضَى الحالِ أنْ يُرْشِدَ إلى ما يُناسِبُ اللفظَ
المنهيَّ عنهُ، وهنا ورَدَ النَّهيُ بلفظِ الخطابِ، والإرشادُ بلفظِ
التَّكَلُّمِ، ((وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ)).
ففهِمَ المُؤَلِّفُ
رَحِمَهُ اللهُ -كما سيأتي في المسائلِ- أنَّ فيهِ إشارةً إلى أنَّهُ إذا
كانَ الغيرُ قدْ نُهِيَ أنْ يقولَ للعبدِ: (أَطْعِمْ رَبَّكَ) فالْعَبْدُ
منْ بابِ أَوْلَى أنْ يُنْهَى عنْ قولِ: هذا رَبِّي أوْ لَرَبِّي، ولا
يَقُلْ: أَطْعَمْتُ رَبِّي، بلْ يَقُلْ: سيِّدي ومَوْلايَ.
وأمَّا إذا قُلْنَا: بأنَّ ((أَطْعِمْ رَبَّكَ))
خاصٌّ بمَنْ يُخاطِبُ العبدَ؛ لِمَا فيهِ منْ إذلالِ العبدِ، بخلافِ ما
إذا قالَ هوَ بنفسِهِ: سَأُطْعِمُ رَبِّي، فإنَّهُ يَنْتَفِي الإذلالُ؛
فإنَّهُ يُقَالُ: إنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ لمَّا
وَجَّهَ الخطابَ لمْ يَتَكَلَّمْ في شأنِ العبدِ، بلْ وَجَّهَ الخطابَ إلى
العبدِ نفسِهِ فقالَ: ((وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ)).
وقولُهُ: (سَيِّدِي)، السِّيَادَةُ في الأصلِ الشَّرفُ؛ لأنَّها من السُّؤْدُدِ والشَّرفِ والجاهِ وما أشبهَ ذلكَ.
- منها المالكُ.
- والشَّريفُ المُطاعُ.
و(سيِّدِي) هنا مضافةٌ إلى ياءِ المتكلِّمِ، وليْسَتْ على وجهِ الإطلاقِ؛ فالسَّيِّدُ على وجهِ الإطلاقِ لا تُقالُ إلاَّ للهِ عزَّ وجلَّ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ:
((السَّيِّدُ اللهُ)).وأمَّا السَّيِّدُ مُضَافَةً فإنَّها تكونُ لغيرِ اللهِ.
قالَ تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
والفقهاءُ يقولونَ: إذا قالَ السَّيِّدُ لعبدِهِ؛ أيْ: سَيِّدُ العَبْدِ لعَبْدِهِ.
قولُهُ: (وَمَوْلاَيَ) أيْ: لِيَقُلْ مَوْلاَيَ.
والمَوْلَى ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
القسمُ الأوَّلُ: وِلايَةٌ مطلقةٌ، وهذهِ للهِ عزَّ وجلَّ، كالسِّيادةِ المطلقةِ، وهيَ نوعانِ:
فالسَّيِّدُ مَنْهِيٌّ أنْ
يقولَ ذلكَ؛ لأنَّهُ إذا قالَ: عَبْدِي وأَمَتي؛ فقدْ تَشَبَّهُ باللهِ
عزَّ وجلَّ، ولوْ منْ حيثُ ظاهرُ اللفظِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُخاطِبُ
عبادَهُ بقولِهِ: عَبْدِي، كما في الحديثِ: ((عَبْدِي اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي...)) وما أشبهَ ذلكَ.
وإنْ كانَ السَّيِّدُ
يُرِيدُ بقولِهِ: (عَبْدِي) أيْ: مَمْلُوكِي، فالنَّهيُ منْ بابِ
التَّنَزُّهِ عن اللفظِ الَّذي يُوهِمُ الإشراكَ، وقدْ سبَقَ بيانُ حُكْمِ
ذلكَ.
وقولُهُ: (أَمَتِي) الأَمَةُ الأُنثى من المَملوكاتِ، وتُسمَّى جاريَةً.
والعِلَّةُ من النَّهيِ: أنَّ فيهِ إشعارًا بالعبوديَّةِ، فهيَ
تُقَابِلُ عَبْدِي، وكلُّ هذا منْ بابِ حِمَايَةِ التَّوحيدِ والبعدِ عن
التَّشريكِ حتَّى في اللفظِ؛ ولهذا ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ، ومنهم شيخُنا عبدُ الرَّحمنِ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، إلى أنَّ النَّهيَ في الحديثِ ليسَ على سبيلِ التَّحريمِ، وأنَّهُ على سبيلِ الأدبِ والأفضلِ والأكملِ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب لا يقول: عبدي وأمتي
هذا
الباب مع الأبواب قبله وما بعده، كلها في تعظيم ربوبية الله جل وعلا،
وتعظيم أسماء الله -جل وعلا- وصفاته؛ لأن تعظيم ذلك من كمال التوحيد؛
وتحقيق التوحيد لا يكون إلا بأن يُعظَّم الله -جل وعلا- في ربوبيته، وفي
إلهيته، وفي أسمائه وصفاته؛ فتحقيق التوحيد لا يكون إلا بالاحتراس من
الألفاظ التي يكون فيها إساءة أدب مع ربوبية الله -جل وعلا- على خلقه، أو
مع أسماء الله -جل وعلا- وصفاته.
ولهذا عقد هذا الباب فقال: (باب لا يقول: عبدي وأمَتي) العبودية؛ عبودية البشر لله جلا وعلا عبودية حقيقية.
وإذا قيل: هذا عبد الله،
فهو عبدٌ لله -جل وعلا- إمَّا قهراً أو اختيارًا؛ فكلُّ منْ في السماوات
والأرض عبدٌ لله جل؛ وعلا كما قال جل وعلا: {إنْ كل مَنْ في السماوات والأرض إلاَّ آتي الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدَّهم عدّاً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}
فعبودية الخلق لله -جل وعلا- ظاهرة: - لأنه هو الربّ. هذا النهي في هذا الحديث اختلف فيه أهل العلم على قولين: الأول: أنه للتحريم؛ لأن النهي، الأصل فيه للتحريم، إلاَّ إذا صرفه عن ذلك الأصل صارِف. (مولاي) أجازه طائفة من أهل العلم بناءً على هذا الحديث؛ قال: ((وليقل سيدي ومولاي)).
- وهو المتصرِّف.
- وهو سيد الخلق.
- وهو المدبِّر لشؤونهم.
فالله -جل وعلا- هو
المتفرِّدُ بذلك سبحانه؛ فإذا قال الرجل لرفيقه: هذا عبدي، وهذه أَمَتي،
كان في نسبة العبودية عبودية أولئك له؛ وهذا فيه منافاة لكمال الأدب الواجب
مع الله جل وعلا، ولهذا كان هذا اللفظ غير جائز عند كثيرٍ من أهلِ العِلم،
ومكروه عند طوائف آخرين.
فإذاً: سبب النهي عن لفظ (عبدي وأمتي) ما ذكرنا مِنْ تعظيم الربوبية، وعدم اهتضام عبودية الخلق لله جل وعلا.
قال: (في (الصحيح) عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:((لا يقُل أحدكم: أطعم ربك، وضِّئ ربك، وليقل: سيّدي ومولاي؛ ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتايَ وفتاتي وغلامي))
قال: ((وليقُل: سيدي ومولاي)) السيادة مع كون الله -جل وعلا- هو السيد؛ لكن السيادة بالإضافة لا بأس بها؛ لأن للبشر سيادة تناسبه.
(ومولاي) المولى يأتي على معانٍ كثيرة، أن يخاطب البشر بقوله:
وهذا الحديث أعلَّهُ بعض أهل العلم بأنه نُقل بالمعنى؛ فهو شاذٌّ من جهة اللفظ، وهو مُعارِضٌ لهذا الحديث الذي هو نصّ في إجازة ذلك.
فيكون
إذاً الصحيح: جواز إطلاق لفظ (مولاي) هنا سيدي، مولاي، ونحو ذلك… لأن
السيادة هناك سيادة تناسب البشر، وقول: (مولاي) هناك ما يناسب البشر من
ذلك.
فليست في مقام (ربِّك) أو
(عبدي وأمَتي) لأن ذاك أعظم درجة؛ وواضح أنَّ فيها اختصاص العبودية بالله
جل وعلا، وإطلاق ذلك على البشر لا يجوز.
قال: ((ولا يقل أحدكم عبدي وأمَتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي)) لأجل ما ذكرنا.
فتحصَّل من ذلك أنَّ هذه
الألفاظ يجب -كما ذكرنا- أن يُحترز فيها ما لا يكون معه الأدب مع مقام
ربوبية الله جل وعلا، وأسمائه سبحانه وتعالى؛ وعليه فلا يكون جائزاً أن
يقول: ((عبدي وأمتي)) أو أن يقول: ((أطِعم ربك، وضِّئ ربك)) ونحو ذلك؛ هذا كله مختص بالتعبيد، أو الربوبية للمكلفين.
أما إضافة الربوبية إلى غير المكلّف فلا بأس بها؛ لأن
حقيقة العبودية لا تتصوَّر فيها، كأن تقول: (رب الدار، ورب المنزل، ورب
المال) ونحو ذلك فإن الدار، والمنزل، والمال: ليست بأشياء مكلفة بالأمر
والنهي؛ فلهذا لا تنصرف الأذهان، أو يذهب القلب إلى أن ثمة نوع مِنْ عبودية
هذه الأشياء لمن أضيفتْ إليه؛ بل إنَّ ذلك معروف أنه إضافة مِلك؛ لأنها
ليست مخاطبة بالأمر والنهي، وليس يحصل منها خضوعٌ أو تذلل.
العناصر
مناسبة باب: (لا يقول عبدي وأمتي) لكتاب التوحيد
بيان أهمية هذا الباب (باب: لا يقول عبدي)
شرح ترجمة الباب (لا يقول عبدي)
- التفصيل في حكم قول: عبدي، وأمتي، ونحوه
شرح حديث أبي هريرة: (لا يقولن أحدكم أطعم ربك ...)
- المراد بالنهي في قوله: (لا يقل أحدكم)
- بيان الحكمة في النهي عن قول: (أطعم ربك) ونحوه
- أقسام إضافة لفظ (الرب) إلى غير الله
- الجواب عن قول يوسف عليه السلام: (اذكرني عند ربك)
- الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربها)
- الفرق بين (الرب) و(السيد)، والتفصيل في حكم إطلاق السيادة لغير الله
- أقسام الولاية، وحكم كل قسم
- الجمع بين حديث الباب: (وليقل مولاي)، ورواية مسلم: (ولا مولاي فمولاكم الله)
- بيان اختصاص النهي عن قول: (عبدي، وأمتي) بالسيد
- الحكمة في النهي عن قول السيد لمملوكه: (عبدي، وأمتي)
- بيان أن من نهج الشارع أنه إذا نهى عن شيء أرشد إلى ما يقوم مقامه
شرح مسائل باب (لا يقول: عبدي وأمتي)