26 Oct 2008
باب قول الله تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة}
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بابُ قولِ اللهِ تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـذَا لِي وَمَا أظُنُّ السَّاعةَ قَائِمَةً ولَئِن رُجِعتُ إلى رَبي إنَّ لي عِندَهُ لَلحُسنَى فَلَنُنَبِّئنَّ الَّذينَ كَفَرُوا بمَا عَمِلُوا ولَنُذِيقَنَّهُم مِن عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50].
قالَ مُجاهِدٌ:(هذا بِعَمَلي وأَنا مَحْقوقٌ بهِ). وقالَ ابنُ عبَّاسٍ:(يريدُ من عِنْدي). وقولُه: {قال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} قالَ قَتادةُ:(على عِلْمٍ مِنّي بِوجُوهِ المكاسِبِ).
وقالَ آخَرونَ: (عَلى عِلْمٍ مِنَ اللهِ أنّي لَهُ أهْلٌ).
وهَذا مَعنى قوْلِ مُجاهِدٍ:(أُوتِيتُهُ علَى شَرَف).
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنَّ ثلاثَةً مِنْ بَني إِسرائيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وأَعْمَى.
فأَرادَ اللهُ أنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً.
فَأتَى الأَبرَصَ، فقالَ: أيُّ شَيءٌ أحبُّ إِلَيْكَ؟
قالَ: لَونٌ حَسَنٌ، وجِلْدٌ حَسَنٌ، ويَذْهبُ عَنِّي الَّذي قَدْ قَذِرني النَّاسُ بهِ.
قال: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذرهُ؛ فأُعطيَ لوناً حَسَناً، وجِلْداً حَسَناً.
قال: أَيُّ المالِ أحبُّ إِلَيْكَ؟
قال: الإِبِلَ أو البَقَر -شكَّ إسحاق- فأُعطِيَ ناقةً عُشَرَاءَ.
فقال: بارَكَ اللهُ لكَ فِيها.
قالَ: فأَتَى الأقرَعَ.
فقالَ: أَيُّ شيءٍ أحبُّ إِلَيْكَ؟
قالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، ويَذْهَبُ عَنِّي الّذي قد قَذِرني الناسُ بِهِ.
فَمَسَحهُ فَذَهبَ عنْهُ، وَأُعطِـيَ شَعْراً حَسَناً.
قالَ: أيُّ المالِ أحبُّ إِليْكَ؟
قالَ: البقرُ أو الإِبِلُ، فأُعطِيَ بقَرةً حامِلاً.
قال: بارَكَ اللهُ لَكَ فيها.
فأَتَى الأَعْمى.
فقالَ: أَيُّ شَيْءٍ أحبُّ إِلَيْكَ؟
قالَ: أن يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.
قالَ: فأيُّ المالِ أحبُّ إِلَيْكَ.
قالَ: الغَنَم.
فأُعطِيَ شاةً والِداً فأنتَجَ هذان وولَد هذا.
فكانَ لِهذا وادٍ مِنَ الإِبِلِ، ولهذا وادٍ مِنَ البَقَرِ، ولِهذا وادٍ مِنَ الغَنَمِ.
قالَ:
ثُمَّ إِنّه أتى الأَبْرَصَ في صُورَتِهِ وهيْئَتِهِ فقال: رَجُلٌ
مِسْكينٌ، وابنُ سَبيلٍ قَد انقَطَعتْ بيَ الحِبالُ في سَفَريِ هذا فلا
بلاغَ لي اليومَ إلا باللهِ ثُمَّ بكَ.
أَسْأَلُكَ بالذي أَعطاكَ اللّونَ الحسَنَ، والجِلْدَ الحسَنَ، والمالَ، بعيراً أتَبلَّغُ بهِ في سَفَري.
فقالَ: الحقوقُ كثيرةٌ.
فقالَ لهُ: كَأَنّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أبرَصَ يقذُركَ الناسُ، فقيراً فَأَعطاكَ اللهُ المالَ؟
فقال: إِنّما وَرِثتُ هذا المالَ كابِراً عنْ كابِرٍ.
قال: إنْ كُنْتَ كاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلى ما كُنتَ.
قالَ: وأَتى الأقْرَعَ في صُورَتِهِ وهيئته.
فقالَ لهُ مثلَ ما قالَ لهذا وردّ عَلَيْهِ مِثلَ ما ردَّ عليه هذا.
فقالَ له: إنْ كُنتَ كاذِباً فصيّرَكَ اللهُ إِلى ما كُنْتَ.
قال:
وأتى الأعْمى في صُورَتِهِ وهيئَتِهِ فقالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وابنُ
سبيلٍ قَد انقَطَعَتْ بِيَ الحِبالُ في سَفَرِي، فلا بلاغَ لي اليومَ إلا
باللهِ ثُمَّ بكَ.
أَسْأَلُكَ بالذي ردَّ علَيْكَ بصَرَكَ شاةً أتَبلَّغُ بها في سَفَري.
فقالَ:
كُنْتُ أعمى فرَدَّ اللهُ عَلَيَّ بَصَري؛ فَخُذْ ما شِئْتَ، ودعْ ما
شِئتَ؛ فَواللهِ لا أجْهَدُكَ اليومَ بِشيءٍ أخَذْتَهُ للهِ.
فقالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّما ابتُليتُم فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عنْكَ وَسَخِطَ عَلى صَاحِبَيْكَ))(4) أخرجاهُ.
الأولى: تفسيرُ الآيةِ.
الثّانيةُ: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَـذَا لِي}.تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (4) ذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَن ابْنِ عَبَّاسٍ وغيرِهِ مِن المُفَسِّرِينَ في مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ وَمَا بَعْدَها مَا يَكْفِي في المَعْنَى ويَشْفِي.
قولُهُ: ((قالَ مُجَاهِدٌ: هذا بِعَمَلِي وأنا مَحْقُوقٌ بِهِ) وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: (يُريدُ مِنْ عِنْدِي). وقولُهُ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}[ القصص: 78]. قالَ قَتَادَةُ: (على عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ المَكَاسِبِ).
وقالَ آخَرُونَ: (على عِلْمٍ مِن اللهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ) وهذا مَعْنَى قولِ مُجَاهِدٍ: (أُوتِيتُهُ على شَرَفٍ). ولَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوهُ اخْتِلاَفٌ، وإِنَّمَا هِيَ أَفْرَادُ المَعْنَى.
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ في مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}[الزمر:49](
يُخْبِرُ أَنَّ الإِنْسَانَ في حَالِ الضُّرِّ يَضْرَعُ إلى اللهِ
تَعَالَى ويُنِيبُ إِلَيْهِ ويَدْعُوهُ، ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً
منهُ طَغَى وبَغَى، وقَالَ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أيْ: لِمَا يَعْلَمُ مِن اسْتِحْقَاقِي لهُ، ولَوْلاَ أَنِّي عندَ اللهِ حَظِيظٌ لَمَا خَوَّلَنِي هَذَا.
قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}
أيْ: لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُم، بلْ إِنَّمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ
بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، لِنَخْتَبِرَهُ فيما أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ،
أَيُطِيعُ أمْ يَعْصِي، مَعَ عِلْمِنَا المُتَقَدِّمِ بذلكَ، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}أي: اخْتِبَارٌ، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}فلِهَذَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ ويَدَّعُونَ مَا يَدَّعُونَ، {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}أيْ: قَدْ قَالَ هَذِهِ المَقَالَةَ، وزَعَمَ هَذَا الزَّعْمَ، وادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى كَثِيرٌ مِمَّنْ سَلَفَ مِن الأُمَمِ، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}أيْ: فَمَا صَحَّ قَوْلُهُم، وَلاَ نَفَعَهُم جَمْعُهم وما كَانُوا يَكْسِبُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عنْقَارُونَ:{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)وَابْتَغِ
فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ
الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77) قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ
قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ
قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ}[القصص:76-78].
وقَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:75]).
قَوْلُهُ: ((أَخْرَجَاهُ)) أي: البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
والنَّاقَةُ الْعُشَرَاءُ: بِضَمِّ العَيْنِ وفَتْحِ الشِّينِ وبِالْمَدِّ: هيَ الحَامِلُ.
قولُهُ: ((وَلَّدَ هَذَا))
هوَ بتَشْدِيدِ اللاَّمِ؛ أيْ: تَوَلَّى وِلاَدَتَهَا، وهوَ بمَعْنَى:
أَنْتَجَ في النَّاقَةِ، فالمُوَلِّدُ والنَّاتِجُ والقَابِلَةُ بمَعْنًى
واحِدٍ، لكنَّ هَذَا للْحَيَوَانِ، وذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: ((انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ)) هوَ بالحاءِ المُهْمَلَةِ والبَاءِ المُوَحَّدَةِ، هيَ الأَسْبَابُ.
قَوْلُهُ: ((لاَ أَجْهَدُكَ)) مَعْنَاهُ: لاَ أَشُقُّ عَلَيْكَ في رَدِّ شَيْءٍ تَأْخُذُهُ أوْ تَطْلُبُهُ مِنْ مَالِي، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ.
وهَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ،
وفيهِ مُعْتَبَرٌ؛ فَإِنَّ الأَوَّلَيْنِ جَحَدا نِعْمَةَ اللهِ، فَمَا
أَقَرَّا للهِ بنِعْمَتِهِ، ولاَ نَسَبَا النِّعْمَةَ إلى المُنْعِمِ
بِهَا، ولاَ أَدَّيَا حَقَّ اللهِ، فَحَلَّ عليهما السَّخَطُ.
وأَمَّا الأَعْمَى
فاعْتَرَفَ بنِعْمَةِ اللهِ، ونَسَبَها إلى مَنْ أَنْعَمَ عليهِ بِهَا،
وأَدَّى حَقَّ اللهِ فيها، فاسْتَحَقَّ الرِّضَى مِن اللهِ بقِيَامِهِ
بشُكْرِ النِّعْمَةِ لَمَّا أَتَى بأَرْكَانِ الشُّكْرِ الثَّلاَثَةِ التي
لاَ يَقُومُ الشُّكْرُ إِلاَّ بِهَا؛ وهيَ: الإِقْرَارُ بالنِّعْمَةِ،
ونِسْبَتُها إِلَى المُنْعِمِ، وبَذْلُها فيما يُحِبُّ.
قَالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:
(أَصْلُ الشُّكْرِ هوَ الاعْتِرَافُ بإِنْعَامِ المُنْعِمِ على وَجْهِ
الخُضُوعِ لهُ والذُّلِّ والمَحَبَّةِ، فمَنْ لَمْ يَعْرِف النِّعْمَةَ،
بلْ كَانَ جَاهِلاً بِهَا، لَمْ يَشْكُرْهَا.
ومَنْ
عَرَفَها وَلَمْ يَعْرِفِ المُنْعِمَ بِهَا لم يَشْكُرْها أيضًا، ومَنْ
عَرَفَ النِّعْمَةَ والمُنْعِمَ، لَكِنْ جَحَدَها كَمَا يَجْحَدُها
المُنْكِرُ لنِعْمَةِ المُنْعِمِ عليهِ بها، فَقَدْ كَفَرَها.
ومَنْ
عَرَفَ النِّعْمَةَ والمُنْعِمَ بِهَا وَأَقَرَّ بِهَا وَلَمْ يَجْحَدْها،
ولَكِنْ لَمْ يَخْضَعْ لَهُ وَلَمْ يُجِبْهُ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ وعنهُ،
لَمْ يَشْكُرْهُ أيضًا. ومَنْ عَرَفَها وعَرَفَ المُنْعِمَ بِهَا وأَقَرَّ
بِهَا وخَضَعَ للمُنْعِمِ بِهَا وأَحَبَّهُ ورَضِيَ بِهِ وعَنْهُ،
واسْتَعْمَلَها في مَحَابِّهِ وطَاعَتِهِ، فَهَذَا هوَ الشَّاكِرُ لَهَا.
فَلاَ
بُدَّ في الشُّكْرِ مِنْ عِلْمِ القَلْبِ، وعَمَلٍ يَتْبَعُ العِلْمَ،
وهوَ المَيْلُ إلى المُنْعِمِ، وَمحَبَّتُهُ وَالخُضُوعُ لَهُ).
قَوْلُهُ: ((قَذَرَنِي النَّاسُ)) بكَرَاهَةِ رُؤْيَتِهِ وقُرْبِهِ مِنْهُمْ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((بابُ قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}[فُصِّلَتْ: 50])).
ذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيرِهِ من المُفَسِّرِينَ في معنَى هذهِ الآيَةِ وما بَعْدَهَا ما يَكْفِي في المعنى وَيَشْفِي. قَوْلُهُ: ((قَالَ مُجَاهِدٌ: هذا بِعَمَلِي وَأَنَا مَحْقُوقٌ بهِ، وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ (مِنْ عِندِي). وقالَ تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:35]).
وقولُهُ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}[القصص: 78] قالَ قتادةُ: عَلى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ الْمَكاسِبِ.
وقالَ آخرونَ: على عِلْمٍ من اللهِ أَنِّي لهُ أَهْلٌ، وهذا معنَى قولِ مجاهدٍ: أُوتِيتُهُ عَلَى شَرَفٍ)).
وليسَ فيما ذَكَرُوهُ اخْتِلاَفٌ، وَإِنَّمَا هيَ أفرادُ المعنَى.
قالَ العمادُ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ في معنَى قولِهِ تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}[الزمر:49](
يُخْبِرُ أنَّ الإِنسانَ في حالِ الضُرِّ يَضْرَعُ إلى اللهِ عزَّ وَجَلَّ
ويُنِيبُ إليهِ ويَدْعُوهُ، ثمَّ إذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً منهُ طَغَى
وَبَغَى وَ{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}؛ أيْ: لِمَا يَعْلَمُ اللهُ اسْتِحْقَاقِي لَهُ، وَلَوْلاَ أَنِّي عندَ اللهِ حَظِيظٌ لَمَا خَوَّلَنِي هذا.
قالَ عَزَّ وجَلَّ:{بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}أيْ:
ليسَ الأمرُ كما زَعَمَ، بلْ إِنَّمَا أَنْعَمْنَا عليهِ بهذهِ النعمةِ
لِنَخْتَبِرَهُ فيما أَنْعَمْنَا عليهِ، أَيُطِيعُ أمْ يَعْصِي؟
معَ عِلْمِنَا المُتَقَدِّمِ بذلكَ.
{بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي: اختبارٌ، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}فلهذا يقولونَ ما يقولونَ، وَيَدَّعُونَ ما يَدَّعُونَ.{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أيْ: قدْ قالَ هذهِ المقالةَ، وَزَعَمَ هذا الزعمَ، وَادَّعَى هذهِ الدعوَى كثيرٌ مِمَّنْ سَلَفَ من الأُمَمِ.{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أيْ: فما صَحَّ قَوْلُهُم، ولا نَفَعَهُم جَمْعُهُم وما كانوا يَكْسِبُونَ، كَمَا قالَ تعالَى مُخْبِرًا عنْ قَارُونَ: {إِذْ
قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ(76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ
تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ
إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ
الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ
يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}[القصص:76،77].
قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ بِهِ.
قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا.
قَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الإِبِلُ أَوِ الْبَقَرُ - شَكَّ إِسْحَاقُ - فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ.
فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.
قَالَ: فَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ بِهِ..
فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا.
قَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الْبَقَرُ أَوِ الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً.
قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ عَلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ.
فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.
قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الْغَنَمُ.
فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا.
فَأَنْتَجَ هَذَانِ
وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ
مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ
أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ
وَابْنُ سَبِيلٍ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِيِ هَذَا،
فَلاَ بَلاَغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ.
أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي.
فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ.
فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللهُ الْمَالَ؟
فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.
قَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
قَالَ: وَأَتَى الأَقْرَعَ
فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا،
وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ لَهُ: إِنْ
كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
قَالَ: وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ.
فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ
وَابْنُ سَبِيلٍ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ
بَلاَغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ.
أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي.
فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ عَلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ.
فَوَاللهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ للهِ.
فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)). أَخْرَجَاهُ.
(أَخْرَجَاهُ)
أي: البخاريُّ ومسلمٌ. وَ((النَّاقَةُ العُشَرَاءُ)) بِضَمِّ العَيْنِ وفَتْحِ الشينِ وبالمَدِّ، هيَ الحاملُ.
قولُهُ: ((أَنْتَجَ))، وفي روايَةٍ: ((فَنَتَجَ)) مَعْنَاهُ: تَوَلَّى نِتَاجَهَا، والنَّاتِجُ للنَّاقَةِ كالْقَابِلَةِ للمرأةِ.
قولُهُ: ((وَلَّدَ هَذَا))
هوَ بِتَشْدِيدِ اللامِ؛ أيْ: تَوَلَّى وِلاَدَتَهَا، وهوَ بِمَعْنَى
(أَنْتَجَ) في الناقةِ، فَالمُولِّدُ والنَّاتجُ والقابلةُ بمعنًى واحدٍ،
لكنَّ هذا للحيوانِ، وذلكَ لغيرِهِ.
وقولُهُ: ((انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ)) هوَ بالحاءِ المهملةِ والباءِ المُوَحَّدَةِ؛ أي: الأسبابُ.
وقولُهُ: ((لاَ أَجْهَدُكَ)) مَعْنَاهُ: لا أَشُقُّ عَلَيْكَ في رَدِّ شَيءٍ تَأْخُذُهُ أوْ تَطْلُبُهُ منْ مَالِي، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ.
وهذا حديثٌ عظيمٌ، وفيهِ
مُعْتَبَرٌ؛ فإنَّ الأَوَّلَيْنِ جَحَدَا نِعْمَةَ اللهِ، فما أَقَرَّا
للهِ بِنِعْمَةٍ، وَلاَ نَسَبَا النعمةَ إلى المُنْعِمِ بها، ولا أَدَّيَا
حَقَّ اللهِ فيها بِنِعَمِهِ، فَحَلَّ عليهما السُّخْطُ.
وأمَّا الأَعْمَى؛
فاعْتَرَفَ بنعمةِ اللهِ؛ وَنَسَبَهَا إلى مَنْ أَنْعَمَ عليهِ بها،
وأَدَّى حَقَّ اللهِ فيها، فَاسْتَحَقَّ الرِّضَا من اللهِ بقيامِهِ
بِشُكْرِ النعمةِ لَمَّا أَتَى بأركانِ الشكرِ الثلاثةِ التي لا يَقُومُ
الشكرُ إلاَّ بها؛ وهيَ الإِقرارُ بالنعمةِ، وَنِسْبَتُهَا إلى المُنْعِمِ،
وَبَذْلُهَا فيما يَجِبُ.
قالَ العلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ: (أَصْلُ
الشكرِ هوَ الاعترافُ بإنعامِ المُنْعِمِ على وَجْهِ الخضوعِ لهُ
والذُّلِّ والمَحَبَّةِ. فمَنْ لمْ يَعْرِف النعمةَ بلْ كانَ جاهِلاً بها
لم يَشْكُرْهَا. ومَنْ عَرَفَهَا ولمْ يَعْرِف المُنْعِمَ بها لمْ
يَشْكُرْهَا أيضًا.
ومَنْ
عَرَفَ النِّعْمَةَ والمُنْعِمَ لكنْ جَحَدَهَا كما يَجْحَدُ الْمُنْكِرُ
لِنِعْمَةِ المُنْعِمِ عليهِ فقدْ كَفَرَهَا. ومَنْ عَرَفَ النِّعْمَةَ
والمُنْعِمَ وَأَقَرَّ بها ولمْ يَجْحَدْهَا، ولكنْ لمْ يَخْضَعْ لهُ
ويُحِبَّهُ وَيَرْضَ بهِ وَعَنْهُ، لم يَشْكُرْهُ أَيْضًا.
ومَنْ
عَرَفَهَا وَعَرَفَ المُنْعِمَ وَأَقَرَّ بها، وَخَضَعَ للمُنْعِمِ بها،
وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَ بهِ وعنهُ، وَاسْتَعْمَلَهَا في مَحَابِّهِ
وَطَاعَتِهِ، فهذا هوَ الشاكرُ لها. فلا بُدَّ في الشكرِ منْ عِلْمِ
القلبِ، وَعَمَلٍ يَتْبَعُ العلمَ، وهوَ المَيْلُ إلى المُنْعِمِ
وَمَحَبَّتُهُ والخضوعُ لهُ).
قولُهُ: ((قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ)) بِكَرَاهَةِ رُؤْيَتِهِ وَقُرْبِهِ منهم.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (2) {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}مقصودُ هذه التَّرجمةِ أنَّ كلَّ مَن زَعَم أنَّ ما أُوتيَهُ مِن النِّعَمِ والرِّزْقِ فهو بِكَدِّه وحَذَقِهِ وفِطْنَتِهِ، أو أنه مُسْتَحِقٌّ لذلك لِمَا يَظنُّ له على اللهِ من الحقِّ، فإنَّ هذا منافٍ للتوحيدِ؛ لأنَّ المؤمنَ حقًّا مَن يَعْتَرِفُ بنِعَمِ اللهِ الظاهرةِ والباطنةِ ويُثني على الله بها، ويضيفُها إلى فضلِه وإحسانِه، ويستعينُ بها على طاعتِه، ولا يرَى له حقًّا على اللهِ، وإنَّما الحقُّ كلُّه للهِ، وأنَّه عَبْدٌ مَحْضٌ من جميعِ الوجوهِ، فبهذا يتحقَّقُ الإِيمانُ والتوحيدُ، وبضدِّه يتحقَّقُ كُفْرانُ النِّعَمِ، والعُجْبُ بالنَّفْسِ، والإِدلالُ الذي هو مِن أعظمِ العيوبِ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: ( هذا
الباب كالأبواب التي قبله، في بيان وجوب تعظيم الله -جل وعلا- في الألفاظ؛
وأنّ النعم تنسب إليه؛ وأنْ يُشكر عليها فتُعزى إليه، ويقول العبد: (هذا
أنعم الله عليَّ به). والكذب في هذه المسائل؛ أو أن يتكلم المرء بكلامٍ ليس
موافقاً للحقيقة، أو هو مخالفٌ لما يعلمه من أن الله -جل وعلا- قد أنعم
عليه بذلك: هذا قد يوديه إلى المهالك، وقد يسلب الله -جل وعلا- عنه النعمة
بسبب لفظه. فالواجب على العبد أن يتحرَّز في ألفاظه، خاصةً فيما يتصل بالله جل وعلا أو بأسمائه، وصفاته، أو بأفعاله، وإنعامه، أو بعدله، وحكمته. ومن ذلك ما عقد له الشيخ هذا الباب، حيث قال: (باب ما جاء في قول الله تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرَّاء مسَّته ليقولَنَّ هذا لي} قال مجاهد في تفسيرها: (هذا بعملي وأنا محقوقٌ به). والواجب أنْ يعلم العبد: أنه فقيرٌ، غير مستحق لشيءٍ على الله جل وعلا، وأن الله هو الرب المستحق على العبد أن: - يشكره.
فالله - جل جلاله - يجب توقيره وتعظيمه في الألفاظ.
أما العبد فليس مستحقاًّ في الدنيا لحقٍّ واجبٍ على الله جل وعلا، إلاَّ ما أوجبه الله -جل وعلا- على نفسه. فهذا الذي قال:
((هذا بعملي وأنا محقوق به))يعني: بعد أن أتته رحمة من بعد الضراء، قال: ((هذا بعملي وأنا محقوق به)). وهذا يدخل فيه كثير مما يحصل في ألفاظ الناس؛ كقول الطبيب مثلاً: (هذا الذي حصل من شفاء المريض، هذا بسبب عملي، أو نجاحي؛ وتولي لهذا الأمر، هذا بسبب جهدي، وبسبب تعبي) ونحو ذلك، مما يجعل أنَّ فعل الله -جل وعلا- به ذلك بسبب استحقاقه؛ أو أنْ ينسى الله جل وعلا، وينسب الأشياء إلى نفسه.إذاً: فدخل في هذا الوصف الذي جاء في الآية، نوعان من الناس:
-من ينسب الشيء إلى نفسه ولا ينسبه إلى الله -جل وعلا- أصلاً.
- والثاني: أن ينسبه إلى نفسه من جهة الاستحقاق، وأنه
يرى نفسه مستحقَّاً لذلك الشيء على الله جل وعلا؛ كما يحصلمن بعض
المغرورين: أنه إذا أطاع الله واتقاه، وحصلت له نعمة، فيقول: (حصلت لي هذه
النعمة من جرّاء استحقاقي لها؛ فأنا العابد لله جل وعلا) ولا يستحضر أن
الله -جل وعلا- يرحم عباده، ولو حاسبه على عمله، لم تقم عباداته وعمله
بنعمةٍ من النِعم التي أسداها الله -جل وعلا- له.
هذا أبو بكر علَّمه -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: ((اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً)) فكيف بحال المساكين أمثالنا، أو أمثال أكثر هذه الأمة؟
كيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئاً ؟فعل العبد سبب؛ وهذا السبب: قد يتخلف، وقد يكون مؤثرا؛ وكان مؤثراً بإذن الله جل وعلا؛ فرجع الأمر إلى
أنه فضل الله، يؤتيه من يشاء.فهذا الباب معقود لما ذكرنا من تخليص القلب واللسان، من ألفاظ واعتقاداتٍ باطلةٍ؛ يظن المرء فيها أنه مستحق أشياء على الله جل وعلا.
والتوحيد: هو أن يكون
العبد ذليلاً خاضعاً بين يدي الله، يعلم أنه لا يستحق شيئاً على الله جل
وعلا، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال: (وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل) وهذا يشمل أحد الدرجتين اللتين ذكرتهما.
قال: (وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف).
ثم ساق حديث أبي هريرة الطويل؛ والدلالة منه ظاهرة؛ وأن الله -جل وعلا- عافى
هؤلاء؛ ولكنه لما عافاهم نسب اثنان منهم النعمة إلى أنفسهم، وثالث نسبها
إلى الله؛ فجزى الله الأخير خيراً، وأدام عليه النعمة، وعاقب ذينك الرجلين؛
وهذا فضل الله. ينعم، ثم يثبِّت النعمة لمن شاء، ويصرفها عمن يشاء.
ومن أسباب ثبات النعمة:
- أن يُعظم العبدُ ربَّه.
أسأل الله لي ولكم النور في القلوب، والصواب في الأقوال، والأعمال، والاعتقادات؛ وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
العناصر
مناسبة باب قوله: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرا مسته...) لكتاب التوحيد
بيان أهمية هذا الباب (قول الله تعالى ولئن أذقناه...)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته...) الآية
- معنى قوله: (ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم عندي)
شرح أثر مجاهد رحمه الله (هذا بعملي وأنا محقوق به)
شرح أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (يريد من عندي)
- بيان نوعي إرادة الله تعالى
- الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية
شرح أثر قتادة: (على علم مني بوجود المكاسب)
شرح حديث أبي هريرة: (إن ثلاثة من بني إسرائيل...)
- بيان الحكمة من إيراد القصص في القرآن والسنة
- بيان أصل الشكر، وأركانه، وفضله
- بيان أسباب ثبات النعمة
شرح مسائل باب: قول الله تعالى (ولئن أذقناه رحمة منا...) الآية