26 Oct 2008
باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البْقَرَةُ:22]
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآيَةِ: (الأَنْدَادُ: هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ.
وَهُوَ أَنْ تَقُولَ: وَاللهِ وَحَيَاتِكِ يَا فُلاَنَةُ.
وَحَيَاتِي. وَتَقُولَ: لَوْلاَ كُلَيْبَةُ هَذَا لأََتَانَا اللُّصُوصُ.
وَلَوْلاَ الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأََتَى اللُّصُوصُ.
وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ.
وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلاَ اللهُ وَفُلاَنٌ، لاَ تَجْعَلْ فِيهَا فُلاَنًا، هَذَا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ) رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لأََنْ أَحْلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا).
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَا تَقُولُوا:مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يَكْرَهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَبِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، قَالَ: وَيَقُولُ: لَوْلَا اللَّهُ ثُمَّ فُلَانٌ، وَلَا تَقُولُوا: لَوْلَا اللَّهُ وَفُلَانٌ.
فِيهِ مَسَائِلُ :
الْأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْأَنْدَادِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ يُفَسِّرُونَ الْآيَةَ النَّازِلَةَ فِي الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ أَنَّهَا تَعُمُّ الْأَصْغَرَ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا فَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.
الْخَامِسَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاوِ وَثُمَّ فِي اللَّفْظِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
اعْلَمْ أنَّ مِنْ تحقيقِ التوحيدِ الاحترَازَ من الشركِ باللهِ في الألفاظِ، وإنْ
لمْ يَقْصِد المتكَلِّمُ بها معنًى لا يَجُوزُ، بلْ رُبَّمَا تجري على
لسانِهِ منْ غيرِ قصدٍ، كمَنْ يَجْرِي على لسانِهِ ألفاظٌ منْ أنواعِ
الشركِ الأصغرِ لا يَقْصِدُها. فإنْ قيلَ: الآيَةُ نزَلَتْ في الأكبرِ. قيلَ: السَّلفُ يَحْتَجُّونَ بما أُنْزِلَ في الأكبرِ على الأصغرِ، كما فسَّرَها ابنُ عبَّاسٍ وغيرُهُ، فيما ذكرَهُ المُصَنِّفُ عنهُ بأَنْوَاعٍ من الشركِ الأصغرِ، وفسَّرَها أيضًا بالشركِ الأكبرِ. ومعنى الآيَةِ: أنَّ
اللهَ تباركَ وتعالى نهَى الناسَ أنْ يجْعَلُوا لهُ أندادًا؛ أيْ:
أمْثَالاً في العبادةِ والطاعةِ، وهم يعلمونَ أنَّ الذي فعلَ تلكَ الأفعالَ
فهوَ ربُّهُم، وخالقُهم وخالقُ مَنْ قبْلَهم، وجاعلُ الأرضِ فراشًا،
والسماءَ بِنَاءً، والذي أَنْزَلَ من السماءِ ماءً فأَخْرَجَ بهِ منْ
أنواعِ الثمراتِ رزقًا لهم. فإذا كُنْتُمْ تعلمونَ ذلكَ فلا تجْعَلُوا لهُ
أندادًا. (2) هذا الأثرُ رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، كما قالَ المُصَنِّفُ وسَنَدُهُ جَيِّدٌ. فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللهُ أنْ يقولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ((قُولُوا: اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ نَعْلَمُهُ)) رواهُ أحمدُ والطَّبَرانيُّ. قولُهُ: ((وهوَ أنْ تقولَ: واللهِ وَحَيَاتِكِ يا فُلاَنةُ وحَياتِي)) أيْ: إنَّ مِن الْحَلِفِ بغيرِ اللهِ الحلفُ بحياةِ المخلوقِ، وسيأتي الكلامُ عليهِ. (3) قولُهُ: ((عنْ عمرَ بنِ الخطَّابِ)) هكذا وقَعَ في الكتابِ، وصَوَابُهُ عن ابنِ عُمَرَ. قالَ: (وَلأََنْ أُقْسِمَ باللهِ فَأَحْنَثَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ أُقْسِمَ بغَيْرِهِ فَأَبَرَّ). وقالَ مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ: (إنَّمَا
أَقْسَمَ اللهُ بهذهِ الأشياءِ لِيُعْجِبَ بها المخْلُوقِينَ،
ويُعَرِّفَهُمْ قُدْرَتَهُ؛ لِعِظَمِ شَأْنِهَا عندَهم، ولِدَلاَلَتِها على
خالقِها) ذكَرَهما ابنُ جريرٍ. فإنْ قيلَ: قدْ جاءَ في الحديثِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ للأعرابيِّ الذي سألَهُ عنْ أُمُورِ الإسلامِ، فَأَخْبَرَهُ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ)) رواهُ البخاريُّ. وقالَ للَّذِي سَأَلَهُ: أَيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ (( أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ)) رواهُ مسلمٌ ونحوُ ذلكَ من الأحاديثِ. قيل: ذكَرَ العلماءُ عنْ ذلكَ أَجْوِبَةً: أحدُها: ما قَالَهُ ابنُ عبدِ البرِّ في قولِهِ: ((أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ)) هذهِ اللفظةُ غيرُ محفوظةٍ، وقدْ جَاءتْ عنْ رَاوِيهَا إسماعيلَ بنِ جَعْفَرٍ: ((أَفْلَحَ وَاللهِ إِنْ صَدَقَ)). الثاني: أنَّ هذا اللفظَ كانَ يَجْرِي على ألْسِنَتِهم منْ غيرِ قَصْدٍ للقسمِ بهِ، والنهيُ إنَّما ورَدَ في حقِّ مَنْ قَصَدَ حقيقةَ الحلفِ، ذكَرهُ البيهقيُّ، وقالَ النوويُّ: (إنَّهُ المَرْضِيُّ). غايَةُ ما يُقَالُ: إنَّ
مَنْ جَرَى ذلكَ على لسانِهِ منْ غيرِ قَصْدٍ مَعْفُوٌّ عنهُ، أمَّا أنْ
يكونَ ذلكَ أمرًا جائزًا للمسلمِ أنْ يَعْتادَهُ فكلاَّ، وأيضًا فهذا
يَحْتَاجُ إلى نقلِ أنَّ ذلكَ كانَ يَجْرِي على ألسنتِهم منْ غيرِ قصدٍ
للقسمِ، وأنَّ النهيَ إنَّما وَرَدَ في حقِّ مَنْ قصَدَ حقيقةَ الحلفِ،
وأنَّى يُوجَدُ ذلكَ؟ الثالثُ: أنَّ مِثْلَ ذلكَ يُقْصَدُ بهِ التأكيدُ لا التعظيمُ، وإنَّما وَقَعَ النهيُ عمَّا يُقْصَدُ بهِ التعظيمُ. قُلْتُ :
وهذا أفْسَدُ من الذي قبلَهُ، وكَأَنَّ مَنْ قالَ ذلكَ لمْ يَتَصَّوَرْ ما
قالَ، فَهَلْ يُرَادُ بالحلفِ إلاَّ تأكيدُ المحلوفِ عليهِ بذِكْرِ مَنْ
يُعَظِّمُهُ الحالفُ والمحلوفُ لهُ؟ الرابعُ: أنَّ هذا كانَ في أوَّلِ الأمرِ ثمَّ نُسِخَ، فما
جاءَ من الأحاديثِ فيهِ ذِكْرُ شيءٍ من الحلفِ بغيرِ اللهِ فهوَ قبلَ
النَّسْخِ، ثمَّ نُسِخَ ذلكَ ونُهِيَ عن الحلفِ بغيرِ اللهِ. حتَّى قالَ ابنُ العَرَبِيِّ: (رُوِيَ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَحْلِفُ بأَبِيهِ، حتَّى نُهِيَ عنْ ذلكَ). وعنهُ أيضًا قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللهِ)) وكانتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بآبائِها، فقالَ: ((وَلاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ)) رواهُ مسلمٌ. وفي روايَةٍ ((فَلْيَسْتَغْفِرْ))فهذا
كَفَّارَةٌ لهُ في كونِهِ تَعاطَى صُورَةَ تعظيمِ الصَّنَمِ؛ حيثُ حلَفَ
بهِ، لا أنَّهُ لتجديدِ إسلامِهِ، ولوْ قُدِّرَ ذلكَ فهوَ تجديدٌ لإسلامِهِ
لنَقْصِهِ بذلكَ لا لِكُفْرِهِ. وهذا قولٌ باطلٌ ما أنزلَ اللهُ بهِ منْ سلطانٍ، فلا يُلْتَفَتُ إليهِ، وجوابُهُ المَنْعُ. (4) هكذا ذكَرَ المُصَنِّفُ هذا الأثرَ عن ابنِ مسعودٍ ولمْ يَعْزُهُ. (وإنَّمَا رجَّحَ ابنُ مسعودٍ رَضِي
اللهُ عَنْهُ الحلفَ باللهِ كاذبًا على الحلفِ بغيرِهِ صادقًا؛ لأنَّ
الحلفَ باللهِ توحيدٌ، والحلفَ بغيرِهِ شركٌ، وإنْ قُدِّرَ الصدقُ في
الحلفِ بغيرِ اللهِ فحسنةُ التوحيدِ أعظمُ منْ حسنةِ الصدقِ، وسيِّئَةُ
الكذبِ أسهلُ منْ سيِّئَةِ الشركِ) ذَكَرَهُ شيخُالإسلامِ. وفيهِ دليلٌ على أنَّ الشركَ الأصغرَ أكبرُ من الكبائرِ. وفيهِ شاهدٌ للقاعدةِ المشهورةِ، وهيَ: ارْتِكَابُ أَقَلِّ الشَّرَّيْنِ ضَرَرًا إذا كانَ لا بُدَّ منْ أحدِهِما. (5) هذا الحديثُ رَوَاهُ أبو داودَ، كما قالَ المُصَنِّفُ، ورواهُ أحمدُ، وابنُ أبي شَيْبَةَ، والنَّسائيُّ، وابنُ مَاجَهْ، والبيهقيُّ، ولهُ عِلَّةٌ، ولَهُ شواهدُ، وهوَ صحيحُ المعنى بلا رَيْبٍ.
وفسَّرَها غيرُهُ بشرطِ الطَّاعَةِ؛ وذلكَ لأنَّ الكُلَّ شِرْكٌ.
قال ابنُ القيِّمِ: (فتَأَمَّلْ
هذهِ، وشِدَّةَ لُزُومِها لتلكَ المُقَدِّمَاتِ قبلَها، وظَفَرَ العقلِ
بها بأوَّلِ وَهْلةٍ، وخُلوصَها منْ كُلِّ شُبْهةٍ ورَيْبٍ وقَادِحٍ، إذا
كانَ اللهُ وحدَهُ هوَ الذي فَعلَ هذهِ الأفعالَ فكيفَ تجعلونَ لهُ أندادًا
وقدْ علِمْتُم أنَّهُ لا نِدَّ لهُ يُشَارِكُهُ في فعلِهِ؟!).
قولُهُ: ((هوَ الشركُ أخْفَى منْ دَبيبِ النملِ)) إلى آخرِهِ؛ أيْ: إنَّ هذهِ الأمورَ من الشِّرْكِ خَفِيَّةٌ في الناسِ، لا يَكَادُ يَتَفَطَّنُ لها ولا يعْرِفُها إلاَّ القليلُ.
وضرَبَ المَثَلَ لخفائِها بما هوَ أخْفَى شيءٍ، وهوَ أثرُ النملِ؛ فإنَّهُ خَفِيٌّ، فكيفَ إذا كانَ على صَفَاةٍ؟
فكيفَ إذا كانتْ سَوْدَاءَ؟
فكيفَ إذا كانتْ في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ؟
وهذا يَدُلُّ على شِدَّةِ خفائِهِ على مَنْ يَدَّعِي الإسلامَ، وعُسْرِ التخلُّصِ منهُ.
ولهذا جاءَ في حديثِ أبي موسى قالَ: خَطَبَنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يومٍ فقالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ؛ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ))
قَالَ:
قولُهُ: ((وتقولُ: لَوْلا كَلْبَةُ هذا لأََتَانَا اللُّصوصُ)) أي: السُّرَّاقُ.
والمعنى أنَّ من الشركِ نِسْبَةَ عدمِ السرقةِ إلى الكَلْبَةِ التي إذا
رَأَت السُّرَّاقَ نَبَحَتْهُمْ، فاستيقظَ أهلُها وهَرَبَ السُّرَّاقُ،
ورُبَّما امتنَعُوا منْ إتيانِ المحلِّ الذي هيَ فيهِ خوفًا منْ نُبَاحِها،
فَيَعْلَمُ بهم أهلُها، كما روى ابنُ أبي الدُّنيا في (الصَّمْتِ)، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (إنَّ أحَدَكم لَيُشْرِكُ حتَّى يُشْرِكَ بِكَلْبِهِ، يقولُ: لَوْلاهُ لَسُرِقْنا اللَّيْلَةَ).
قولُهُ: ((ولَوْلا الْبَطُّ في الدَّارِ لأََتى اللُّصوصُ))
البَطُّ بفتحِ المُوَحَّدةِ: طائرٌ معروفٌ يُتَّخَذُ في البيوتِ، وإذا
دخلَها غريبٌ صاحَ واسْتَنْكَرَهُ، وهوَ الإِوَزُّ بكَسْرِ الهمزةِ وفتحِ
الواوِ، ومعناها كالَّذِي قبلَهُ.
والواجبُ نِسْبَةُ ذلكَ إلى اللهِ تعالى، فهوَ الذي يَحْفَظُ عبادَهُ ويَكْلَؤُهُم باللَّيْلِ والنهارِ، كما قالَ تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَـنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}.
قولُهُ: ((وقولُ الرجلِ لصاحبِهِ: ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ)) وسيأتي الكلامُ عليها إنْ شاءَ اللهُ.
قولُهُ: (وقولُ الرجلِ: لَوْلا اللهُ وفلانٌ. لا تَجْعَلْ فيها (فُلان)).
هكذا ثبَتَ بخطِّ المُصَنِّفِ بلا تَنْوينٍ.
والمعنى: لا تَجْعَلْ فيها، أيْ: في هذهِ الكلمةِ، فلانًا فتقولَ: لَوْلا
اللهُ وفلانٌ، بلْ قُلْ: لَوْلا اللهُ وَحْدَهُ، ولا تَقُلْ: لَوْلا اللهُ
وفلانٌ، فهوَ نهيٌ عنْ ذلكَ.
قولُهُ: ((هذا كُلُّهُ بِهِ)) أيْ: باللهِ شِرْكٌ.
وأعادَ الضميرَ على اللهِ، لأنَّهُ قدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اسمِهِ عزَّ
وجلَّ، فتبيَّنَ أنَّ هذهِ الأمورَ ونحوَها من الألفاظِ الشركيَّةِ
الخفيَّةِ كما نصَّ عليهِ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُ.
كذلكَ أخرجَهُ أحمدُ، وأبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والحاكمُ. وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ.
وقالَ الزَّيْنُ العِرَاقِيُّ في (أَمَالِيهِ): إسْنَادُهُ ثِقاتٌ.
قولُهُ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ)) قالَ بعضُهم ما معناهُ: رواهُ الترمذيُّ بأو الَّتي للشَّكِّ، وفي ابنِ حِبَّانَ والحاكمِ عَدَمُها، وفي روايَةٍ للحاكمِ: ((كُلُّ يَمِينٍ يُحْلَفُ بِهَا دُونَ اللهِ شِرْكٌ)).
وفي (الصحيحَيْنِ) منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ مرفوعًا: ((إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وعنْ بُرَيْدةَ مرفوعًا: ((مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا)) رواهُ أبو داودَ.
والأحاديثُ في ذلكَ كثيرةٌ، وقدْ تَقَدَّمَ كلامُ ابنِ عبَّاسٍ في عَدِّهِ ذلكَ من الأندادِ.
وقالَ كَعْبٌ: (إنَّكُم
تُشْرِكونَ في قولِ الرجلِ: كَلاَّ وأبيكَ، كَلاَّ والكعبةِ، كَلاَّ
وَحَيَاتِكَ، وأشْبَاهِ هذا، احْلِفْ بِاللهِ صادقًا أوْ كاذبًا، ولا
تَحْلِفْ بغيرِه) رَوَاهُ ابنُ أبي الدُّنيا في (الصَّمْتِ).
وأجْمعَ العلماءُ على أنَّ اليمينَ لا تكونُ إلاَّ باللهِ، أوْ بصفاتِهِ، وأجْمَعُوا على المَنْعِ من الحلفِ بغيرِهِ.
قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ: (لا يجوزُ الحلفُ بغيرِ اللهِ بالإجماعِ) انتهى.
ولا اعْتبَار بمَنْ قالَ مِن المتأخِّرينَ: إنَّ ذلكَ على سبيلِ كَرَاهَةِ
التَّنْزِيهِ؛ فإنَّ هذا قولٌ باطلٌ. وكيفَ يُقَالُ ذلكَ لِمَا أَطْلَقَ
عليهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كُفْرٌ أوْ شِرْكٌ،
بلْ ذلكَ مُحَرَّمٌ.
ولهذا اختارَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (أنْ يَحْلِفَ باللهِ كاذبًا ولا يَحْلِفَ بغيرِهِ صادقًا. فهذا يدلُّ على أنَّ الحلفَ بغيرِ اللهِ أكبرُ من الكذبِ).
معَ أنَّ الكذبَ من المُحَرَّماتِ في جميعِ الْمِلَلِ، فدلَّ ذلكَ أنَّ الحَلِفَ بغيرِ اللهِ منْ أكبرِ المحرَّماتِ.
فإنْ قيلَ: إنَّ اللهَ تعالى أَقْسَمَ بالمخلوقاتِ في القرآنِ؟
قيلَ: ذلكَ يَخْتَصُّ باللهِ تباركَ وتعالى، فهوَ
يُقْسِمُ بما شَاءَ مِنْ خلقِهِ؛ لِمَا في ذلكَ من الدلالةِ على قُدْرَةِ
الربِّ ووَحْدَانِيَّتِهِ وإِلَهِيَّتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ وغيرِ ذلكَ
منْ صفاتِ كمالِهِ. وأمَّا المخلوقُ فلا يُقْسِمُ إلاَّ بالخالقِ تعالى،
فاللهُ تعالى يُقْسِمُ بِمَا يَشاءُ مِنْ خلقِهِ.
وقدْ نَهَانَا عن الحلفِ بغيرِهِ، فيجبُ على العبدِ التسليمُ والإذعانُ لِمَا جاءَ منْ عندِ اللهِ.
قالَ الشعبيُّ: (الخالقُ يُقْسِمُ بما شاءَ منْ خلقِهِ، والمخلوقُ لا يُقْسِمُ إلاَّ بالخالق)
قالَ: وهذا أَوْلَى منْ روايَةِ مَنْ روى عنهُ بلفظِ ((أَفْلَحَ وَأَبِيهِ)) لأنَّها لَفْظَةٌ مُنْكَرةٌ تَرُدُّها الآثارُ الصِّحاحُ، ولمْ تَقَعْ في روايَةِ مالكٍ أصلاً.
وزَعمَ بعضُهُم أنَّ بعضَ الرُّوَاةِ عنهُ صحَّفَ قولَهُ: ((وَأَبِيهِ)) منْ قَوْلِهِ: ((وَاللهِ)) انتهى.
وهذا جَوَابٌ عنْ هذا الحديثِ الواحدِ فقطْ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُجابَ بهِ عنْ غيرِهِ.
قلتُ: هذا جوابٌ فاسدٌ، بلْ أحاديثُ النهيِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ، ليسَ فيها
تَفْرِيقٌ بينَ مَنْ قصَدَ القسمَ وبينَ مَنْ لمْ يَقْصِدْ، ويُؤَيِّدُ
ذلكَ أنَّ سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ حَلَفَ مَرَّةً باللاَّتِ والعُزَّى، ويَبْعُدُ أنْ يكونَ
أرادَ حقيقةَ الحَلِفِ بهما، ولكِنَّهُ جَرى على لسانِهِ منْ غيرِ قَصْدٍ
على ما كانوا يَعْتَادُونَهُ قبلَ ذلكَ، ومعَ هذا نَهَاهُ النبيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فتأكيدُ المحلوفِ عليهِ بذِكْرِ المحلوفِ بهِ مُسْتَلْزِمٌ لتعظيمِهِ،
وأيضًا فالأحاديثُ مُطْلَقَةٌ ليسَ فيها تفريقٌ، وأيضًا فهذا يحتاجُ إلى
نقلِ أنَّ ذلكَ جائزٌ للتأكيدِ دونَ التعظيمِ، وذلكَ معلومٌ.
وهذا الجوابُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، قالَ السُّهَيْليُّ: (أكثرُ الشُّرَّاحِ عليهِ)
قالَ السُّهَيْليُّ: (ولا يَصِحُّ ذلكَ، وكذلكَ قالَ غيرُهم).
وهذا الجَوَابُ هوَ الحقُّ، يُؤَيِّدُهُ أنَّ ذلكَ كانَ مُسْتَعْمَلاً شائعًا حتَّى وردَ النهيُ عنْ ذلكَ، كما في حديثِ ابنِ عُمَرَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدركَ عمرَ بنَ الخطَّابِ يسيرُ في رَكْبٍ يَحْلِفُ بأَبِيهِ، فقالَ: ((أَلاَ إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)) رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
وعنْ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: حَلَفْتُ مَرَّةً باللاَّتِ والعُزَّى، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ انْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاَثًا، وَتَعَوَّذْ وَلاَ تَعُدْ)) رواهُ النسائيُّ وابنُ مَاجَهْ، وهذا لفْظُهُ.
وفي هذا المعنى أحاديثُ، فما ورَدَ فيهِ ذِكْرُ الحلفِ بغيرِ اللهِ، فهوَ
جارٍ على العادةِ قبلَ النهيِ، لأنَّ ذلكَ هوَ الأصلُ حتَّى ورَدَ النهيُ
عنْ ذلكَ.
وقولُهُ: ((فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ))،
أخَذَ بهِ طائفَةٌ من العلماءِ فقالُوا: يَكْفُرُ مَنْ حَلَفَ بغيرِ اللهِ
كُفْرَ شِرْكٍ، قالُوا: ولهذا أمَرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بتجديدِ إسْلامِهِ بقَوْلِ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
فلولا أنَّهُ كُفْرٌ يَنْقُلُ عن المِلَّةِ لمْ يُؤْمَرْ بذلكَ.
وقالَ الجمهورُ: لا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُهُ عن المِلَّةِ، لكِنَّهُ من الشركِ الأصغرِ، كما نَصَّ على ذلكَ ابنُ عبَّاسٍ وغيرُهُ.
وأمَّا كَوْنُهُ أَمَرَ مَنْ حلَفَ باللاَّتِ والعُزَّى أنْ يقولَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فَلأَِنَّ هذا كَفَّارَةٌ لهُ معَ استغْفَارِهِ، كما قالَ في الحديثِ الصحيحِ: ((مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)).
لكنَّ الذي يفعَلُهُ عُبَّادُ القبورِ إذا طَلبْتَ منْ أحَدِهِم اليمينَ
باللهِ أَعْطَاكَ ما شِئْتَ من الأيْمَانِ صادقًا أوْ كاذبًا، فإذا طَلبْتَ
منهُ اليمينَ بالشَّيْخِ أوْ تُرْبَتِهِ أوْ حَيَاتِهِ ونَحْوِ ذلكَ، لمْ
يُقْدِمْ على اليمينِ بهِ إنْ كانَ كاذبًا.
فهذا شركٌ أكبرُ بلا رَيْبٍ؛ لأنَّ المحلوفَ بهِ عندَهُ أخوفُ وأجَلُّ
وأعظمُ من اللهِ. وهذا ما بَلَغَ إليهِ شِرْكُ عُبَّادِ الأصنامِ؛ لأنَّ
جَهْدَ اليمينِ عندَهم هوَ الحَلِفُ باللهِ، كما قالَ تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ}[النحل:37].
فمَنْ كانَ جَهْدُ يمينِهِ الحلفَ بالشَّيْخِ أوْ بحَيَاتِهِ أوْ
تُرْبَتِهِ فهوَ أكبرُ شِرْكًا منهم. فهذا هوَ تفصيلُ القولِ في هذهِ
المسألةِ.
والحديثُ دليلٌ على أنَّهُ لا تَجِبُ الكَفَّارَةُ بالحلفِ بغيرِ اللهِ
مُطْلَقًا؛ لأنَّهُ لمْ يُذْكَرْ فيهِ كَفَّارَةٌ للحلفِ بغيرِ اللهِ، ولا
في غيرِهِ من الأحاديثِ، فليسَ فيهِ كفَّارةٌ إلاَّ النُّطْقُ بكلمةِ
التوحيدِ والاستغفارُ.
وقالَ بعضُ المتأخِّرينَ: تَجِبُ الكفَّارَةُ بالحلفِ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصَّةً.
وقدْ ذَكَرَهُ ابنُ جريرٍ بغيرِ سندٍ أيضًا. قالَ: وقدْ جاءَ عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمرَ نحْوُهُ. ورواهُ الطبرانيُّ بإسنادٍ موقوفًا هكذا.
قالَ المُنْذِرِيُّ: (ورُوَاتُهُ رُوَاةُ الصحيحِ).
قولُهُ: ((لأَنْ أَحْلِفَ باللهِ)) إلى آخرِهِ.
(أنْ)، هيَ المصدَرِيَّةُ، والفعلُ بعدَها منصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ على الابتداءِ.
وَ(أَحَبُّ) خَبَرُهُ، ومعناهُ ظاهرٌ.
وفيهِ: دليلٌ على أنَّ الحلفَ بغيرِ اللهِ صادقًا أعظمُ من اليمينِ الغَمُوسِ.
وسيأتي الكلامُ على مَعْنَاهُ في بابِ (ما شاءَ اللهُ وَشِئْتَ) إنْ شاء اللهُ.
قالَ: (وجاءَ عنْ إِبراهيمَ النَّخَعِيِّ
أنَّهُ يَكْرَهُ أنْ يقولَ الرجلُ: أَعُوذُ باللهِ وبكَ، ويَجُوزُ أنْ
يقولَ: باللهِ ثُمَّ بك، قالَ: ويقولُ: لَوْلا اللهُ ثُمَّ فُلاَنٌ، ولا
تَقُولُوا: لَوْلا اللهُ وفُلاَنٌ).
هذا الأثرُ رَوَاهُ المُصَنِّفُ غيرَ مَعْزُوٍّ.
وقدْ رواهُ عبدُ الرزَّاقِ، وابنُ أبي الدُّنيا في كتابِ (الصَّمْتِ) عنْ مُغِيرَةَ قالَ: (كانَ
إبراهيمُ يَكْرَهُ أنْ يقولَ الرجلُ: أَعُوذُ باللهِ وبكَ، ويُرَخِّصُ أنْ
يقولَ: أَعُوذُ باللهِ ثمَّ بكَ، ويَكْرَهُ أنْ يقولَ: لولا اللهُ وفلانٌ،
ويُرَخِّصُ أنْ يقولَ: لولا اللهُ ثُمَّ فُلانٌ، لفظُ ابنِ أبي الدنيا).
وذلكَ واللهُ أعلمُ لأنَّ الواوَ تَقْتَضِي مُطْلَقَ الجمعِ، فَمَنَعَ منها
للجمعِ؛ لِئَلاَّ تُوهِمَ الجَمْعَ بينَ اللهِ وبينَ غيْرِهِ، كما مُنِعَ
منْ جَمْعِ اسمِ اللهِ، واسمِ رَسُولِهِ في ضميرٍ واحدٍ.
و(ثُمَّ) إنَّما تَقْتَضِي الترتيبَ فقطْ، فجازَ ذلكَ لعدمِ المانعِ.
ومُطَابَقَةُ الحديثَيْنِ والأثرَيْنِ للتَّرْجَمَةِ ظاهرةٌ على ما فسَّرَ بهِ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الآيَةَ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((بابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 22])). (النِّدُّ): المِثْلُ والنَّظيرُ، وجَعْلُ النِّدِّ للهِ: هُوَ صَرْفُ أنواعِ العبادةِ أوْ شَيْءٍ منها لغَيْرِ اللهِ؛
كَحَالِ عَبَدَةِ الأَوْثانِ الَّذينَ يعْتَقِدونَ فِيمَنْ دَعَوْهُ
وَرَجَوْهُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ ويَشْفَعُ لهمْ. فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغَهُنَّ. يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى امْتَلأََ الْمَسْجِدُ فَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ. - أُولاَهُنَّ
أَنْ تَعبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ فَإِنَّ مَثَلَ
ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ
أَوْ وَرِقٍ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ
سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ - وَأَمَرَكُمْ
بِالصَّلاَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا
لَمْ يَلْتَفِتْ؛ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا. - وَأَمَرَكُمْ
بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةُ
مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَإِنَّ خُلُوفَ
فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. - وَأَمَرَكُمْ
بِالصَّدقَةِ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ
الْعَدُوُّ، فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، وَقَدَّمُوهُ
لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ. - وَأَمَرَكُمْ
بِذِكْرِ اللهِ كَثِيرًا؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ
طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا
فَتَحَصَّنَ فِيهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ والشَّاهِدُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. تــَأَمَّلْ فـِي نـَبـاتِ الأرْضِ وَانــْظُرْ ....... إِلــَى آثــارِ مـَا صـَنـَعَ الـــْمـَلـــِيكُ وَقالَ ابْنُ المُعْتَزِّ: فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ ....... أمْ كـَيْفَ يَجْحَدُهُ الجاحِدُ؟ (2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآيَةِ: الأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبيبِ النَّمْلِ علَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ). (3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الحاكِمُ). قولُهُ: ((فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ)) يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ شَكًّا من الراوِي، وَيَحْتَمِلُ أنْ تكونَ (أوْ) بِمَعْنَى
الواوِ، فيكونُ قدْ كَفَرَ وأَشْرَكَ، وَيَكُونُ من الكفرِ الذي هوَ دونَ
الكفرِ الأَكْبَرِ، كما هوَ من الشركِ الأصغرِ، وَوَرَدَ مثلُ هذا عن ابنِ مَسْعُودٍ بهذا اللفظِ. (4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَالَ ابنُ مسعودٍ: لأََنْ أَحْلِفَ باللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أحلِفَ بِغيْرِهِ صَادِقًا)
ومِن المعلومِ أنَّ الحلفَ باللهِ كَاذبًا كبيرةٌ من الكبائرِ، لكنَّ
الشركَ أكبرُ من الكبائرِ وإنْ كانَ أَصْغَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ بيانُ
ذلكَ. كَفَّرَهُم تَعَالَى بِدَعْوَتِهِم مَنْ كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دونِهِ في الدَّارِ الدُّنيا، وقدْ قالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}[الجن:18]. - وقالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (.2) قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا}[الجن:20،21]. يـَا أَكـْرَمَ الـْخَلْقِ مـَا لِي مـَنْ أَلُوذُ بِهِ ........ سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَادِثِ الْعَمَمِ فَانْظُرْ إلى هذا الجهلِ العظيمِ؛ حيثُ
اعْتَقَدَ أنَّهُ لا نَجَاةَ لهُ إلاَّ بِعِيَاذِهِ وَلِيَاذِهِ بِغَيْرِ
اللهِ، وَانْظُرْ إلى هذا الإطراءِ العظيمِ الذي تَجَاوَزَ الحَدَّ في
الإِطراءِ الذي نَهَى عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) رَوَاهُ مَالِكٌ وغيرُهُ. (5) قولُهُ: ((وَعَنْ حُذيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ)) رَوَاهُ أبو دَاوُدَ بِسَنَدٍ وتسويَةُ المخلوقِ بالخالقِ شِرْكٌ، إنْ كانَ في الأصغرِ مثلَ هذا فهوَ أصغرُ، وإنْ كانَ في الأكبرِ فهوَ أكبرُ، كما قالَ تَعَالَى عنْهُم في الدارِ الآخرةِ: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:97،98]،
بخلافِ المعطوفِ بِثُمَّ؛ فإنَّ المعطوفَ بها يكونُ مُتَرَاخِيًا عن
المعطوفِ عليهِ بمُهْلَةٍ، فَلاَ محذورَ؛ لكونِهِ صارَ تَابِعًا. (6) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ إِبراهيمَ النَّخَعِيِّ، أنَّهُ
يَكْرَهُ أَنْ يقولَ الرَّجُلُ: أَعُوذُ بِاللهِ وبِكَ، وَيُجَوِّزُ أَنْ
يقولَ: باللهِ ثُمَّ بِك، قالَ وَيَقُولُ: لَولاَ اللهُ ثُمَّ فلانٌ، ولا
تَقُولُوا: لَوْلاَ اللهُ وَفُلاَنٌ) وقدْ تَقَدَّمَ الفَرْقُ بينَ ما يَجُوزُ وما لا يَجُوزُ منْ ذلكَ. أَخـِي لـَنْ تَنَالَ الـْعِلـْمَ إلاَّ بِسِتَّةٍ ........ سـَأُنـْبـِيكَ عنْ تَفْصِيلِهَا بِبَيَانِ وَأَعْظَمُ
مِنْ هذهِ السِّتَّةِ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى الفَهْمَ والحِفْظَ،
وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ في تَحْصِيلِهِ، فهوَ المُوَفِّقُ لِمَنْ شَاءَ منْ
عِبَادِهِ، كما قالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء:113]. والجـهـلُ دَاءٌ قـاتـلٌ وشـفاؤُهُ ........ أَمْرَانِ في التركيبِ مـُتَّفـِقَانِ والـلـهِ ما قالَ امْرُؤٌ مُتَحَذْلـِقٌ ........ بـِسـِوَاهـِمـَا إلاَّ مــِن الْهـَذَيَانِ
وهَذِهِ الآيَةُ في سياقِ قَوْلِهِ: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:21،22].
قالَ الْعِمادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قالَ أَبُو الْعالِيَةِ: (لا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدادًا؛ أيْ: عُدَلاَءَ شُرَكَاءَ. وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّيُّ، وأبُو مَالِكٍ، وَإِسْماعِيلُ بْنُ أبِي خَالِدٍ).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ({فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
أيْ: لا تُشْرِكُوا باللهِ شَيْئًا من الأَنْدَادِ الَّتِي لا تَنْفَعُ
ولا تَضُرُّ، وأنْتُمْ تعْلمُونَ أَنَّهُ لا رَبَّ لكُمْ يَرْزُقُكُمْ
غَيْرَهُ، وقدْ علِمْتُمْ أنَّ الَّذِي يَدْعُوكُم الرَّسُولُ إِلَيْهِ
منْ تَوْحِيدِهِ هُوَ الحقُّ الَّذِي لا شَكَّ فيهِ) وكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ.
وعنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ:( {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا} قالَ: أَكْفَاءَ مِن الرِّجَالِ تُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ).
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: (الأَنْدَادُ: الآلِهَةُ الَّتِي جَعَلُوها مَعَهُ، وجَعَلُوا لَهَا مِثْلَ مَا جَعَلُوا لَهُ).
وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا}(قال: أَشْباهًا).
وقالَ مُجَاهِدٌ:({فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قالَ: تَعْلمُونَ أنَّهُ إِلَهٌ واحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ).
وَذَكَرَ حَدِيثًا فِي مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ الْكَريمَةِ؛ وهُوَ ما فِي مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ عَن الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ
السَّلاَمُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، وَأَنَّهُ كَادَ أَنْ
يُبْطِئَ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلاَمُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ
بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنّ.َ
فَقالَ: يَا أَخِي، إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي.
قَالَ: فَجَمَعَ
فحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي
بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا
بِهِنَّ:
وَإِنَّ اللهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ؟
فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ.
وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللهِ)).
قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ:
- الْجَمَاعَةِ.
- وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ.
- وَالْهِجْرَةِ.
- وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ
الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِْسْلاَمِ مِنْ
عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يُرَاجِعَ.
وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ)).
فَقَالَ: ((وَإِنْ
صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ
بِأَسْمَائِهِمُ الَّتِي سَمَّاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ المُسْلِمِينَ
الْمُؤْمِنِينَ عِبَادِ اللهِ)) وهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وهَذِهِ الآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى بِالْعِبادَةِ
وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وقَد اسْتَدَلَّ بِهَا كَثيرٌ مِن
الْمُفَسِّرِينَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ؛ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ
بِطرِيقِ الأَوْلَى، والآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ فِي
القُرْآنِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَسُئِلَ أَبُو نُوَاسٍ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْشدَ:
عــُيــونٌ مــِنْ لــُجــَيــــْنٍ فـَاتِرَاتٌ ........ بـِأَحْدَاقٍ هيَ الذَّهَبُ السَبـِيكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ....... بــِأَنَّ الــلـــهَ لــــيـْسَ لــــهُ شَرِيـكُ
وفــِي كــُلِّ شــَيْءٍ لـــهُ آيـَةٌ ....... تـــَدُلُّ عـــَلـــــى أنَّهُ وَاحِدُ
وهُوَ أنْ تَقولَ: واللهِ وَحَيَاتِكَ يا فُلانُ.
وَحَيَاتِي.
وَتَقولَ: لَوْلا كُلَيْبَةُ هذا لأََتَانَا اللُّصوصُ.
وَلَوْلاَ البَطُّ في الدَّارِ لأََتَى اللُّصوصُ.
وقوْلُ الرَّجُلِ لصاحبِهِ: ما شاءَ اللهُ وَشِئْتَ.
وقوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلاَ اللهُ وَفُلاَنٌ، لا تَجْعَلْ فيها فُلاَنًا؛ هَذا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ) رَوَاهُ ابنُ أبي حاتِمٍ.
بَيَّنَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُما أنَّ هذا كُلَّهُ من الشِّرْكِ، وهوَ الواقعُ اليومَ على
أَلْسُنِ كثيرٍ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ التوحيدَ ولا الشِّرْكَ، فَتَنَبَّهْ
لهذهِ الأمورِ، فَإِنَّهَا من المُنْكَرِ العظيمِ الذي يَجِبُ النهيُ عنهُ
والتَّغْلِيظُ فيهِ؛ لِكَوْنِهِ أكبرَ الكبائرِ، وهذا من ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما تَنْبِيهٌ بالأَدْنَى من الشِّرْكِ على الأَعْلَى.
فإذا كانَ هذا حالَ الشركِ الأصغرِ فَكَيْفَ بالشركِ الأكبرِ المُوجِبِ
للخلودِ في النارِ؛ كَدَعْوَةِ غيرِ اللهِ والاستغاثةِ بهِ، والرغبةِ
إليهِ، وَإِنْزَالِ حَوَائِجِهِ بهِ، كما هوَ حالُ الأكثرِ منْ هذهِ
الأُمَّةِ في هذهِ الأزمانِ وما قَبْلَهَا؛ مِنْ تَعْظِيمِ القبورِ،
واتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا، والبناءِ عليها، واتِّخَاذِهَا مساجدَ،
وَبِنَاءِ المَشَاهِدِ باسمِ المَيِّتِ لعبادةِ مَنْ بُنِيَتْ باسمِهِ
وتَعْظِيمِهِ، والإِقبالِ عليهِ بالْقُلُوبِ والأقوالِ والأعمالِ؟!
وقدْ عَظُمَت البَلْوَى بهذا الشركِ الأكبرِ الذي لا يَغْفِرُهُ اللهُ،
وَتَرَكُوا ما دَلَّ عليهِ القرآنُ العظيمُ من النَّهْيِ عنْ هذا الشركِ
وما يُوصِلُ إليهِ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ
أُولَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}[الأعراف:37].
وهؤلاءِ المشركونَ عَكَسُوا الأمرَ فَخَالَفُوا ما بَلَّغَ بهِ الأُمَّةَ
وَأَخْبَرَ بهِ عنْ نفسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَامَلُوهُ
بما نَهَاهُم عنهُ من الشِّرْكِ باللهِ والتَّعَلُّقِ على غيرِ اللهِ،
حتَّى قالَ قائِلُهُم:
إِنْ لمْ تَكُنْ في مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي ........ فـَضـْلاً وَإِلاَّ فــَقـُلْ: يَا زَلـَّةَ الْقـَدَمِ
فـَإِنَّ مـِنْ جـُودِكَ الدُّنــْيَا وَضَرَّتَهَا ........ وَمـِنْ عـُلـُومـِكَ عـِلـْمَ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ
وقدْ قالَ تَعَالَى: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}[الأنعام:50].
فانْظُرْ إلى هذهِ المُعَارَضَةِ العظيمةِ للكتابِ والسُّنَّةِ، والمُحَادَّةِ للهِ ورسولِهِ.
وهذا الذي يَقُولُهُ هذا الشاعرُ هوَ الذي في نُفُوسِ كثيرٍ، خُصُوصًا
مِمَّنْ يَدَّعِي العلمَ والمعرفة، وَرَأَوْا قراءةَ هذهِ المنظومةِ
وَنَحْوِهَا لذلكَ وَتَعْظِيمَهَا من القُرُباتِ، فَإِنَّا للهِ وإنَّا
إليهِ رَاجِعُونَ.
صَحِيحٍ، وذلكَ لأنَّ المعطوفَ بالواوِ يَكُونُ مُسَاوِيًا للمعطوفِ
عليهِ؛ لِكَوْنِهَا إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمُطْلَقِ الجَمْعِ، فلا تَقْتَضِي
تَرْتِيبًا ولا تَعْقِيبًا.
وهذا إنَّمَا هوَ في الحيِّ الحاضرِ الذي لهُ قُدْرَةٌ وسببٌ في الشيءِ، وهوَ الذي يَجْرِي في حَقِّهِ مثلُ ذلكَ.
وأمَّا في حَقِّ الأمواتِ الذينَ لا إِحْسَاسَ لهم بمَنْ يَدْعُوهُم،
ولا قُدْرَةَ لهم على نَفْعٍ ولا ضَرٍّ، فلا يُقَالُ في حَقِّهِم شيءٌ
مِنْ ذلكَ، فلا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ عليهِ بشيءٍ مَا بِوَجْهٍ من
الوُجُوهِ.
والقرآنُ يُبَيِّنُ ذلكَ وَيُنَادِي بأنَّهُ يَجْعَلُهُم آلهةً إذا
سُئِلُوا شيئًا منْ ذلكَ؛ أوْ رَغِبَ إليهم أَحَدٌ بقولِهِ أوْ عَمَلِهِ
الباطنِ أو الظاهرِ، فمَنْ تَدَبَّرَ القرآنَ وَرُزِقَ فَهْمَهُ صَارَ على
بصيرةٍ مِنْ دِينِهِ، وباللهِ التوفيقُ.
والعِلْمُ لا يُؤْخَذُ قَسْرًا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بأسبابٍ ذُكِرَ بَعْضُها في قولِهِ:
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاجْتِهَادٌ وَبُلْغَةٌ ........ وَإِرْشـَادُ أُسـْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ
ولقدْ أَحْسَنَ العلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى حيثُ قالَ:
نـَصٌّ مـن الـقرآنِ أوْ مـِنْ سُنَّةٍ ........ وَطـَبـِيـبُ ذاكَ العَالِمُ الرَّبَّانِي
والـعـِلــْمُ أَقْسَامٌ ثلاثٌ مَا لـَهَا ........ مـنْ رَابـِعٍ والـْحـَقُّ ذُو تِبـْيَانِ
عـِلـْمٌ بأوصافِ الإِلـَهِ وَفِعـْلـِهِ ........ وكـذلـكَ الأسماءُ لــلــرَّحْمَنِ
والأمرُ والنَّهْيُ الذي هوَ دِينُهُ ........ وَجَزَاؤُهُ يـَومَ الـمـَعـَادِ الــثَّانِي
والكُلُّ في القرآنِ والسُّنَنِ التي ........ جَاءَتْ عن المَبْعُوثِ بالقُرْآنِ
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)
{فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
التَّرجمةُ السابِقةُ على قولِه تعالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا} الآيةَ، يقْصِدُ بها الشِّركَ الأكبرَ؛ بأنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا في العبادةِ والحبِّ والخوفِ والرجاءِ وغيرِها مِن العباداتِ. وهذه الترجمةُ المرادُ بها الشركُ الأصغرُ كالشركِ في الألفاظِ؛ كالحَلِفِ بغيرِ اللهِ، وكالتَّشريكِ بينَ اللهِ وبينَ خلْقِه في الألفاظِ، كـ: (( لَولا اللهُ وفلانٌ وهذا باللهِ وبِكَ )) وكإضافَةِ الأشياءِ ووقوعِهَا لغيرِ اللهِ، كـ: (( لَوْلا الحارسُ لأتَانا اللصوصُ، ولولا الدواءُ الفلانيُّ لهَلَكْتُ، ولَولا حَذَقُ فلانٍ في المكسبِ الفلانيِّ لَمَا حصَلَ )) فُكُلُّ هذا ينافي التوحيدَ.
والواجبُ أنْ تُضافَ الأمورُ ووقوعُها ونفعُ الأسبابِ إلى إرادةِ اللهِ
وإلى اللهِ ابتداءً، ويَذْكُرَ مع ذلِكَ مَرتَبَةَ السببِ ونفعَه، فيقولُ:
لولا اللهُ، ثمَّ كذا، ليعلَمَ أنَّ الأسبابَ مربوطةٌ بقضاءِ اللهِ
وقَدَرِه.
فلا يَتِمُّ توحيدُ العبدِ حتى لا يجعلَ للهِ ندًّا في قلبِه وقولِه وفعلِه.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
قولُهُ: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}لمَّا ذكرَ سبحانَهُ ما يُقِرُّ بهِ هؤلاءِ مِنْ أفعالِهِ التي لم يفعلْهَا غيرُهُ:{الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ}
فكلُّ مَنْ أقرَّ بذلكَ لزِمَهُ أنْ لا يَعْبُدَ إلاَّ المُقَرَّ لهُ؛
لأنَّهُ لا يستحقُّ العبادةَ مَنْ لا يفعلُ ذلكَ، ولا ينبغي أنْ يُعبدَ
إلاَّ منْ فعلَ ذلكَ، ولذلكَ أتَى بالفاءِ الدالَّةِ علَى التفريعِ
والسببيَّةِ؛ أيْ: فبسببِ ذلكَ لا تجعلُوا للهِ أندادًا.
و{لا}
هذه ناهيَةٌ، فلا تجعلُوا لَهُ أندادًا في العبادةِ، كما أنَّكمْ لم
تجعلُوا لهُ أندادًا في الربوبيَّةِ، وأيضًا لا تجعلُوا لَهُ أندادًا في
أسمائِهِ وصفاتِهِ؛ لأنَّهم قدْ يَصِفونَ غيرَ اللهِ بأوصافِ اللهِ عزَّ
وجلَّ: كاشتقاقِ العزَّى منَ العزيزِ، وتسميتِهِم رحمنَ اليمامةِ.
قولُهُ: {أندادًا} جمعُ: ندٍّ، وهوَ الشبيهُ والنظيُر، والمرادُ هنا: أندادًا في العبادةِ.
قولُهُ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الجملةُ في موضعِ نصبٍ حالٌ مِنْ فاعلِ {تجعلون}
أيْ: والحالُ أنَّكم تعلمونَ، والمعنَى: وأنتمْ تعلمونَ أنَّهُ لا أندادَ
لَهُ، يعني في الربوبيَّةِ؛ لأنَّ هذا محطُّ التقبيحِ مِنْ هؤلاءِ أنَّهم
يجعلونَ لهُ أندادًا، وهمْ يعلمونَ أنَّهُ لا أندادَ لَهُ في الربوبيَّةِ،
أمَّا في الألوهيَّةِ فيجعلونَ لهُ أندادًا.
قالُوا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
ويقولونَ في تلبيتِهِمْ: (لبيكَ لا شريكَ لكَ إلاَّ شريكًا هوَ لكَ،
تَمْلِكُهُ وما ملَكَ) وهذا مِنْ سَفَهِهِمْ، فإنَّهُ إذا صارَ مملوكًا،
فكيفَ يكونُ شريكًا؟
ولهذا أنكر اللهُ عليهم في قولِهِ: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
إذ الأندادُ بالمعنَى العامِّ - بقطعِ النظرِ عنْ كونِهِ يُخاطِبُ أقوامًا
يُقِرِّونَ بالربوبيَّةِ - يشملُ الأندادَ في الربوبيَّةِ، والألوهيَّةِ،
والأسماءِ والصفاتِ.
قال في (فتح المجيد) ص489: (وفي
هذه الآية دليل على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل
بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى،
والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرةٌ جداً) .
(2) قولُهُ: (وقالَ ابنُ عباسٍ في الآيَةِ) أيْ: في تفسيرِها. لأنَّ التفسيرَ تفسيرانِ: أحدهما: تفسيرٌ بالمرادِ، وهوَ المقصودُ بسياقِ الجملةِ بقطعِ النظرِ عنْ مفرداتِها. والآخر: تفسيرٌ بالمعنَى، وهوَ الذي يُسمَّى: تفسيرَ الكلماتِ. وقولُهُ: (دَبيبِ) أيْ: أثرِ دبيبِ النملِ، وليسَ فِعلَ النملِ. آدمَ أخْفَى مِنْ هذا، فنسألُ اللهَ أنْ يُعِينَ علَى التخلُّصِ منْهُ. قالَ: ((قُولوا: اللهُمَّ إِنَّا نعوذُ بِكَ أنْ نُشْرِكَ بِكَ شيئًا نَعْلَمُهُ، ونَسْتَغْفِركَ لِمَا لاَ نَعْلَمُ)). قولُهُ: (واللهِ وَحياتِكَ) فيها نوعانِ مِنَ الشركِ: الأولُ: الحلفُ بغيرِ اللهِ. الثاني: الإشراكُ معَ اللهِ بقولِهِ: واللهِ وحياتِكَ،
فضمُّها إلَى اللهِ بالواوِ المقتضيَةِ للتسويَةِ فيها نوعٌ مِنَ الشركِ،
والقسَمُ بغيرِ اللهِ إن اعتقدَ الحالفُ أنَّ المُقْسَمَ بهِ بمنزلةِ اللهِ
في العَظَمةِ فهوَ شِركٌ أكبرُ، وإلاَّ فهوَ شِركٌ أصغرُ. (3) قولُهُ: (وعَنْ عُمَرَ) صوابُهُ عن ابنِ عمرَ، نبَّهُ عليهِ في (تيسيرِ العزيزِ الحميدِ). والحلِفُ: تأكيدُ الشيءِ بذكرِ معظَّمٍ بصيغةٍ مخصوصةٍ، بالباءِ أو التاءِ أو الواوِ. وحروفُ القسمِ ثلاثةٌ: الباءُ، والتاءُ، والواوُ. والباءُ أعمُّها؛
لأنَّها تدخلُ علَى الظاهرِ والمُضْمَرِ، وعلَى اسمِ اللهِ وغيرِهِ،
ويُذكَرُ معهَا فعلُ القسمِ ويُحْذَفُ، فيذكرُ معهَا فعلُ القسَمِ كقولِهِ
تعالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ويُحذَفُ مثلَ قولِكَ: باللهِ لأفعلنَّ، وتدخلُ علَى المضمَرِ مثلَ قولِكَ: (اللهُ عظيمٌ أحلفُ بهِ لأفعلنَّ) وعلَى الظاهرِ كما في الآيَةِ، وعلَى غيرِ لفظِ الجلالةِ مثلَ قولِكَ: (بالسميعِ لأفعلنَّ)
وأمَّا الواوُ فإنَّهُ لا يُذكرُ معهَا فعلُ القسَمِ، ولا تدخلُ علَى
الضميرِ ويُحْلَفُ بها معَ كلِّ اسمٍ، وأمَّا التاءُ فإنَّهُ لا يُذكرُ
معهَا فعلُ القسمِ، وتختصُّ باللهِ وربِّ. والحلفُ بغيرِ اللهِ شركٌ أكبرُ إن اعتقدَ أنَّ المحلوفَ بهِ مساوٍ للهِ تعالَى في التعظيمِ والعظمةِ، وإلاَّ فهوَ شركٌ أصغرُ. وأمَّا قولُهُ تعالَى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}. - وقولُهُ: {لاَ أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ}. - وقولُهُ: {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}. الأوَّلُ: أنَّ هذا مِنْ فعلِ اللهِ، واللهُ لا يُسألُ عمَّا يفعلُ، ولَهُ أنْ يُقْسِمَ سبحانَهُ بما شاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وهوَ سائلٌ غيرُ مسؤولٍ، وحاكمٌ غيرُ محكومٍ عليهِ. الثاني: أنَّ قَسَمَ اللهِ بهذهِ الآياتِ دليلٌ علَى عظمتِهِ وكمالِ قدرتِهِ وحكمتِهِ،
فيكونُ القسَمُ بها الدالُّ علَى تعظيمِهَا ورفعِ شأنِهَا متضمِّنًا
للثناءِ علَى اللهِ عزَّ وجلَّ بما تقتضيهِ مِنَ الدلالةِ علَى عظمتِهِ. الأولُ: أنَّ بعضَ العلماءِ أنكرَ هذهِ اللفظةَ، وقالَ:
إنَّها لم تَثْبُتْ في الحديثِ؛ لأنَّها مُناقِضةٌ للتوحيدِ، وما كانَ
كذلكَ فلا تصحُّ نسبتُهُ إلَى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛
فيكونُ باطلاً. الثاني: أنَّها تصحيفٌ مِنَ الرواةِ، والأصلُ: ((أفْلَحَ واللهِ إِنْ صَدَقَ)) وكانوا في السابقِ لا يُشَكِّلُونَ الكلماتِ و(أبيهِ) تُشْبِهُ (اللهُ) إذا حُذِفَت النُّقَطُ السُّفلَى. الثالثُ: أنَّ هذا ممَّا يَجري علَى الألسنةِ بغيرِ قصدٍ، وقدْ قالَ تعالَى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} وهذا لم ينوِ فلا يُؤاخذُ. الرابعُ: أنَّهُ وقعَ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ،
وهوَ أبعدُ الناسِ عَنِ الشركِ، فيكونُ مِنْ خصائِصِهِ، وأمَّا غيرُهُ
فهمْ منهيُّونَ عنْهُ؛ لأنَّهم لا يُساوُونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ في الإخلاصِ والتوحيدِ. الخامسُ: أنَّهُ علَى حذفِ مضافٍ، والتقديرُ (أفْلَحَ وربِّ أبيهِ). السادسُ: أنَّ هذا منسوخٌ، وأنَّ النهيَ هوَ الناقلُ مِنَ الأصلِ، وهذا أقربُ الوجوهِ. فالجوابُ عنهُ: أنَّ هذا اليمينَ كانَ جاريًا علَى ألسنِتِهِمْ فتُرِكُوا حتَّى استقرَّ الإيمانُ في نفوسِهِمْ ثُمَّ نُهوا عنهُ، ونظيرهُ إقرارُهُمْ علَى شربِ الخمرِ أولاً، ثُمَّ أُمِروا باجتنابِهِ. أمَّا بالنسبةِ للوجهِ الأولِ: فضعيفٌ؛ لأنَّ الحديثَ ثابتٌ، وما دامَ يمكنُ حملُهُ علَى وجهٍ صحيحٍ فإنَّهُ لا يجوزُ إنكارُهُ. وأمَّا الوجهُ الثاني: فبعيدٌ، وإنْ أمكنَ فلا يمكنُ في قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لما سُئِل: أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ فقالَ: ((أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبِّأَنَّهُ)). وأمَّا الوجهُ الثالثُ: فغيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ النهيَ وارِدٌ معَ أنَّهُ كانَ يجريْ علَى ألسنتِهِم كمَا جَرَى علَى لسانِ سعدٍ
فنهاهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولوْ صحَّ هذا لصحَّ أنْ
يُقالَ لمنْ فعلَ شِرْكًا اعتادَهُ: لا يُنهَى؛ لأنَّ هذا مِنْ عادتِهِ،
وهذا باطلٌ. وأمَّا الرابعُ: فدعوَى الخصوصيَّةِ تحتاجُ إلَى دليلٍ، وإلاَّ فالأصلُ التأسِّي بهِ. وأمَّا الخامسُ: فضعيفٌ؛
لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ؛ ولأنَّ الحذفَ هنا يستلزمُ فهمًا باطلاً، ولا
يمكنُ أنْ يتكلمَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما يستلزمُ ذلكَ
بدونِ بيانِ المرادِ. (4) قولُهُ في أثرِ ابنِ مسعودٍ: ((لأنْ أحلِفَ باللهِ كاذِبًا)) اللامُ لامُ الابتداءِ، و(أنْ) مصدريَّةٌ فيكونُ قولُهُ: (أنْ أحلفَ) مُؤَوَّلاً بمصدرٍ مبتدأً تقديرُهُ لَحَلِفِي باللهِ. فالحلفُ كاذبًا باللهِ محرَّمٌ مِنْ وجهينِ: الأول: أنَّهُ كذبٌ، والكذبُ محرَّمٌ لذاتِهِ. والثاني: أنَّ هذا الكذبَ قُرِنَ باليمينِ،
واليمينُ تعظيمٌ للهِ عزَّ وجلَّ، فإذا كانَ علَى كذبٍ صارَ فيهِ شيءٌ
مِنْ تَنَقُّصٍ للهِ عزَّ وجلَّ، حيثُ جعلَ اسمَهُ مؤكَّدًا لأمرٍ كَذِبٍ،
ولذلكَ كانَ الحلفُ باللهِ كاذبًا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ مِنَ اليمينِ
الغَمُوسِ التي تَغْمِسُ صاحبَهَا في الإثمِ ثمَّ في النارِ. وأمَّا الحلفُ بغيرِ اللهِ صادقًا فهوَ محرَّمُ مِنْ وجهٍ واحدٍ وهوَ الشِّركُ، لكنَّ
سيئةَ الشركِ أعظمُ مِنْ سيئةِ الكذبِ، وأعظمُ مِنْ سيئةِ الحلفِ باللهِ
كاذبًا، وأعظمُ مِنَ اليمينِ الغموسِ، إذا قلنا: إنَّ الحلفَ باللهِ كاذبًا
مِنَ اليمينِ الغموسِ؛ لأنَّ الشركَ لا يُغْفَرُ، قالَ تعالَى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} وما أرسلَ اللهُ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ إلاَّ لإبطالِ الشركِ، فهوَ أعظمُ الذنوبِ، قالَ تعالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. (5) قولُهُ في حديثِ حُذيفةَ رضِيَ اللهُ عنْهُ: ((لا تَقُولوا)) (لا) ناهيَةٌ؛ ولهذا جُزِمَ الفعلُ بعدَها بحذفِ النونِ. فإنْ قيلَ: سبقَ أنَّ مِنَ الشركِ الاستعاذةَ بغيرِ اللهِ، وعلَى هذا يكونُ قولُهُ أعوذُ باللهِ ثُمَّ بِكَ محرَّمًا؟ أُجيبَ: أنَّ الاستعاذةَ بمَنْ يَقْدِرُ علَى أنْ يُعِيذَكَ جائزةٌ؛ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في (صحيحِ مسلمٍ) وغيرِه: ((مَنْ وَجَدَ مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ)). (7) فيهِ مَسائِلُ: الأولَى: (تفسيرُ آيَةِ البَقَرَةِ في الأندادِ) وقدْ سبقَ. (8) الثانيَةُ: (أنَّ الصحابَةَ يفسِّرونَ الآيَةَ النازِلَةَ في الشِّرْكِ الأكبرِ أَنَّها تَعُمُّ الأصغرَ) (9) الثالثةُ: (أنَّ الحَلِفَ بغيرِ اللهُ شِرْكٌ) لحديثِ ابنِ عمرَ رضِي اللهُ عنهما. (10) الرابعةُ: (أنَّهُ إذا حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ صادِقًا فهُوَ أكبرُ مِنَ اليمينِ الغَموسِ)
واليمينُ الغموسُ عندَ الحنابلةِ أنْ يَحْلِفَ باللهِ كاذبًا، وقالَ بعضُ
العلماءِ -وهوَ الصحيحُ- أنْ يحلفَ باللهُ كاذبًا ليَقْتَطِعَ بها مالَ
امرئٍ مسلمٍ. (11) الخامسةُ: (الفرقُ بينَ (الواوِ) و(ثُمَّ) في اللفظِ) لأنَّ (الواوَ) تقتضي المساواةَ فتكونُ شِرْكًا، و(ثمَّ) تقتضي الترتيبَ والتراخيَ فلا تكونُ شِرْكًا.
قولُهُ: (هُوَ الشِّرْكُ) هذا تفسيرٌ بالمرادِ؛
فإذا قُلْنَا: الأندادُ: الأشباهُوالنُّظَراءُ، فهوَ تفسيرٌ بالمعنَى، وإذا قُلْنَا الأندادُ: الشركاءُ أو الشِّرْكُ، فهوَ تفسيرٌ بالمرادِ، والمعنَى يقولُ رضيَ اللهُ عنه: ((الأندادُ هوَ الشركُ)) فإذًا النِدُّ: الشَّريكُ المشارِكُ للهِ سبحانهُ وتعالَى فيمَا يَخْتَصُّ بهِ.
وقولُهُ: (علَى صَفاةٍ) هيَ الصخرةُ المَلْساءُ.
وقولُهُ: (سَوْداء) وليسَ علَى بيضاءَ، إذ لوْ كانَ علَى بيضاءِ لبانَ أثرُ السيرِ أكثرَ.
وقولُهُ: (فِي ظُلْمَةِ الليلِ) وهذا أبلغُ ما يكونُ في الخفاءِ.
فإذا كانَ الشِّرْكُ في قلوبِ بني
ولهذا قالَ بعضُ السلفِ: (ما عالَجْتُ نفسِي معالجتَهَا علَى الإخلاصِ).
ويُرْوَى عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ لَمَّا قالَ مثلَ هذا قيلَ لَهُ: كيفَ نَتَخَلَّصُ منهُ؟
وقولُهُ: (وحَياتِي) فيهِ حِلْفٌ بغيرِ اللهِ فهوَ شِركٌ.
وقولُهُ: (لولا كُليبةُ هذا لأتانا اللُّصوصُ) (كُليبةٌ) تصغيرُ كلبٍ، والكلبُ يُنتفَعُ بهِ للصيدِ وحراسةِ الماشيَةِ والحَرْثِ.
وقولُهُ: (لولا كُليبةُ هذا) يكونُ فيهِ شركٌ إذا نُظِرَ إلَى
السببِ دونَ المسبِّبِ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، أمَّا الاعتمادُ علَى السببِ
الشرعيِّ أو الحسيِّ المعلومِ فقدْ تقدَّمَ أنَّهُ لا بأسَ بهِ، وأنَّ
النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((لَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))
لكنْ قَدْ يقعُ في قلبِ الإنسانِ - إذا قالَ: لولا كذا لحصلَ كذا، أوْ ما
كانَ كذا - قدْ يقعُ في قلبِهِ شيءٌ مِن الشركِ بالاعتمادِ علَى السببِ
بدونِ نظرٍ إلَى المسبِّبِ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: (ولولا البطُّ في الدَّارِ لأتَى اللُّصوصُ) البَطُّ طائرٌ معروفٌ، وإذا دخلَ اللصُّ البيتَ وفيهِ بَطٌّ، فإنَّهُ يَصْرَخُ، فينتبِهَ أهلُ البيتِ ثمَّ يَجْتَنِبَهُ اللصوصُ.
وقولُهُ: ((وقوْلُ الرَّجُلِ لصاحبِهِ: ما شاءَ اللهُ وشئْتَ))فيهِ: شِرْكٌ؛ لأنَّهُ شَرَكَ غيرَ اللهِ معَ اللهِ بالواوِ،
فإن اعتقدَ أنَّهُ يُساوِي اللهَ عزَّ وجلَّ في التدبيرِ والمشيئةِ فهوَ
شِرْكٌ أكبرُ، وإنْ لم يعتقدْ ذلكَ واعتقدَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالَى
فوقَ كلِّ شيءٍ فهوَ شِرْكٌ أصغرُ، وكذلكَ قولُهُ: (لولا اللهُ وفلانٌ).
وقولُهُ: (هَذا كلُّهُ بهِ شِرْكٌ) المشارُ إليهِ ما سبقَ، وهوَ شِرْكٌ أكبرُ أوْ أصغرُ حسْبَ ما يكونُ في قلبِ الشخصِ مِنْ نوعِ هذا التشريكِ.
قولُهُ في حديثِ ابنِ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهُمَا: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ) (مَنْ) شرطيَّةٌ، فتكونُ للعمومِ.
قولُهُ: (أَوْ أشرَكَ) شكٌّ مِنَ الراوي، والظاهرُ أنَّ صوابَ الحديثِ (أشركَ).
وقولُهُ: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ) يشملُ كلَّ محلوفٍ بهِ سوَى
اللهِ، سواءٌ: بالكعبة، أو الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أو السماءِ،
أوْ غيرِ ذلكَ، ولا يشملُ الحلفَ بصفاتِ اللهِ؛ لأنَّ الصفةَ تابعةٌ
للموصوفِ، وعلَى هذا فيجوزُ أنْ تقولَ: وعزَّةِ اللهِ لأفْعَلَنَّ كذا.
وقولُهُ: (بِغَيْرِ اللهِ) ليسَ المرادُ بغيرِ هذا الاسمِ، بل
المرادُ بغيرِ المُسَمَّى بهذا الاسمِ، فإذا حلَفَ باللهِ أوْ بالرحمنِ أوْ
بالسميعِ فهوَ حَلِفٌ باللهِ.
وما أشبهَ ذلكَ مِن المخلوقاتِ التي أقسمَ اللهُ بها، فالجوابُ عنه مِنْ وجهينِ:
وأمَّا نحنُ فلا نُقسمُ بغيرِ اللهِ أوْ صفاتِه؛ لأنَّنا منهيُّونَ عنْ ذلكَ.
وأمَّا ما ثبتَ في (صحيحِ مسلمٍ) مِنْ قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ)) فالجوابُ عنه مِنْ وجوهٍ:
ولوْ قالَ قائلٌ: (نحنُ نُقَلِّبُ عليكم الأمرَ) ونقولُ: إنَّ المنسوخَ هوَ
النهيُ؛ لأنَّهم لمَّا كانوا حديثِي عهدٍ بشركٍ نُهوا أنْ يُشرِكُوا بهِ
كما نُهيَ الناسُ حينَ كانوا حديثِي عهدٍ بشركٍ عنْ زيارةِ القبورِ ثُمَّ
أُذِنَ لهمْ فيها؟
وعلَى هذا يكونُ أقربَها الوجهُ السادسُ: (أنَّهُ منسوخٌ)
ولا نَجْزِمُ بذلكَ لعدمِ العلمِ بالتاريخِ، ولهذا قلنا أقربُها واللهُ
أعلمُ، وإنْ كانَ النوويُّ رحمَهُ اللهُ ارتَضَى أنَّ هذا ممَّا يجري علَى
اللسانِ بدونِ قصدٍ، لكنَّ هذا ضعيفٌ لا يُمكنُ القولُ بهِ.
ثُمَّ رأيتُ بعضَهُم جزَمَ بشُذُوذِها؛ لانْفِرادِ مُسْلِمٍ بها عن البُخاريِّ معَ مخالفةِ راويها للثقاتِ، فاللهُ أعلَمُ.
قولُهُ: ((أَحَبُّ إليَّ)) خبرُ المبتدأِ، ونظيرُ ذلكَ في القرآنِ قولُهُ تعالَى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.
قولُهُ: (كاذِبًا) حالٌ مِنْ فاعلِ (أحلِفُ).
قولُهُ: (أَحَبُّ إليَّ) هذا مِنْ بابِ التفضيلِ الذي ليسَ فيهِ
شيءٌ مِنَ الجانبينِ، وهذا نادرٌ في الكلامِ؛ لأنَّ التفضيلَ في الأصلِ
يكونُ فيهِ المعنَى ثابتًا في المفضَّلِ وفي المفضَّلِ عليهِ، وأحيانًا في
المفضَّلِ دونَ المفضَّلِ عليهِ، وأحيانًا لا يُوجدُ في الجانبينِ، فـابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ لا يحبُّ لا هذا ولا هذا، ولكنَّ الحلفَ باللهِ كاذبًا أهونُ عليهِ مِنَ الحلفِ بغيرِهِ صادقًا.
وسُئلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ الذنبِ أعظمُ؟
قالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)) والشركُ متضمِّنٌ للكذبِ، فإنَّ الذي جعلَ غيرَ اللهِ شريكًا للهِ كاذبٌ، بلْ مِنْ أكذبِ الكاذبينَ؛ لأنَّ اللهَ لا شريكَ لَهُ.
قولُهُ: ((ما شاءَ اللهُ وشاءَ فلانٌ)) والعلَّةُ في ذلكَ أنَّ الواوَ تقتضي تسويَةَ المعطوفِ بالمعطوفِ عليهِ، فيكونُ القائلُ: (ما شاءَ اللهُ وشئتَ) مسوِّيًا مشيئةَ اللهِ بمشيئةِ المخلوقِ، وهذا شركٌ، ثمَّ إن اعتقدَ أنَّ المخلوقَ أعظمُ مِنَ الخالقِ، أوْ أنَّهُ مساوٍ لهُ فهوَ شركٌ أكبرُ، وإن اعتقدَ أنَّهُ أقلُّ فهوَ شِركٌ أصغرُ.
قولُهُ: ((ولَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ))
لمَّا نَهَى عَنِ اللفظِ المحرَّمِ بيَّن اللفظَ المباحَ؛ لأنَّ (ثمَّ)
للترتيبِ والتراخي، فتفيدُ أنَّ المعطوفَ أقلُّ مرتبةً مِنَ المعطوفِ
عليهِ.
أمَّا بالنسبةِ لقولِهِ: (ما شاءَ اللهُ فشاء فُلان) فالحكمُ فيها أنَّها مرتبةٌ بينَ مرتبةِ (الواوِ)
ومرتبةِ (ثُمَّ)، فهيَ تختلفُ عَن (ثُمَّ) بأنَّ (ثمَّ) للتراخي والفاءَ
للتعقيبِ، وتُوافِقُ (ثمَّ) بأنَّها للترتيبِ، فالظاهرُ أنَّها جائزةٌ،
ولكنَّ التعبيرَ بـ(ثمَّ) أَوْلَى؛ لأنَّهُ اللفظُ الذي أرْشَدَ
إليهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولأنَّهُ أبينُ في إظهارِ الفرقِ
بينَ الخالقِ والمخلوقِ.
هذا محرَّمٌ؛ لأنَّهُ جمعٌ بينَ اللهِ والمخلوقِ بحرفٍ يقتضي التسويَةَ، وهوَ (الواو).
ويجوزُ (باللهِ ثُمَّ بِكَ) لأنَّ (ثمَّ) تدلُّ علَى الترتيبِ والتراخي.
لكنْ لوْ قالَ: (أعوذُ باللهِ ثُمَّ بفلانٍ) وهوَ ميِّتٌ، فهذا شِركٌ أكبرُ؛ لأنَّهُ لا يقدِرُ علَى أنْ يُعيذَكَ، وأمَّا استدلالُ الإمامِ أحمدَ علَى أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ بقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)).
ثمَّ قالَ رحمَهُ اللهُ:
(والاستعاذةُ لا تكونُ بمخلوقٍ، فيُحملُ كلامُهُ علَى أنَّ الاستعاذةَ
بكلامٍ لا تكونُ بكلامٍ مخلوقٍ، بلْ بكلامٍ غيرِ مخلوقٍ، وهوَ كلامُ اللهِ،
والكلامُ تابعٌ للمتكلِّمِ بهِ، إنْ كانَ مخلوقًا فهوَ مخلوقٌ، وإنْ كانَ
غيرَ مخلوقٍ فهوَ غيرُ مخلوقٍ).
لأنَّ قولَهُ تعالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، نازلةٌ في الأكبرِ؛ لأنَّ المخاطَبَ بها هم المشركونَ، وابنُ عباسٍ فسَّرها بما يَقْتَضِي الشِّرْكَ الأصغرَ؛ لأنَّ النِّدَّ يشملُ النظيرَ المساويَ علَى سبيلِ الإطلاقِ، أوْ في بعضِ الأمورِ.
(12) مناسبةُ هذا البابِ لكتابِ التوحيدِ: أنَّ الاقتناعَ بالحلفِ باللهِ مِنْ تعظيمِ اللهِ؛
لأنَّ الحالِفَ أكَّدَ ما حُلِفَ عليهِ بالتعظيمِ باليمينِ، وهوَ تعظيمُ
المحلوفِ بهِ، فيكونُ مِنْ تعظيمِ المحلوفِ بهِ أنْ يُصَدَّقَ ذلكَ
الحالفُ، وعلَى هذا يكونُ عدمُ الاقتناعِ بالحلفِ باللهِ فيهِ شيءٌ مِنْ
نقصِ تعظيمِ اللهِ، وهذا ينافي كمالَ التوحيدِ، والاقتناعُ بالحلفِ باللهِ لا يخلوْ مِنْ أمرينِ: الأولُ: أنْ يكونَ ذلكَ مِنَ الناحيَةِ الشرعيَّةِ، فإنَّهُ يجبُ الرضا بالحلفِ باللهِ فيما إذا توجَّهَت اليمينُ علَى المدَّعَى عليهِ فحلفَ، فيجبُ الرضا بهذا اليمينِ بمقتضَى الحكمِ الشرعيِّ. الثاني: أنْ يكونَ ذلكَ مِنَ الناحيَةِ الحسيَّةِ، فإنْ كانَ الحالفُ موضعَ صدقٍ وثقةٍ فإنَّكَ تَرْضَى بيمينِهِ، وإنْ كانَ غيرَ ذلكَ فلكَ أنْ تَرْفُضَ الرضا بيمينِهِ. قالوا: كَيْفَ نَرْضَى يا رَسولَ اللهِ بأَيْمَانِ اليهودِ؟ (13) قولُهُ في الحديثِ: (لاتَحْلِفوا) (لا): ناهيَةٌ؛ ولهذا جُزِمَ الفعلُ بعدَها بحذفِ النونِ، و(آبائِكم) جمعُ: أبٍ، ويشمَلُ الأبَ والجدَّ وإنْ علا، فلا يجوزُ الحلفُ بهمْ؛ لأنَّهُ شِرْكٌ وقَدْ سبقَ بيانُهُ. الأمرُ الأولُ للحالفِ: فقدْ أُمِرَ أنْ يكونَ صادقًا،والصدقُ هوَ: الإخبارُ بما يطابِقُ الواقعَ، وضدُّهُ الكذبُ وهوَ: الإخبارُ بما يخالفُ الواقعَ فقولُهُ: ((مَنْ حَلَفَ بِاللهِ فَلْيَصْدُقْ)) أيْ: فليكنْ صادقًا في يمينِهِ. وهلْ يُشترطُ أنْ يكونَ مطابقًا للواقعِ أوْ يكفي الظنُّ؟ الجوابُ: يكفي الظنُّ،
فلَهُ أنْ يحلفَ علَى ما يغلِبُ علَى ظنِّهِ، كقولِ الرجلِ للنَّبيِّ
صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: واللهِ ما بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بيْتٍ
أفْقَرُ مِنِّي، فأقرَّهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ. الثاني للمحلوفِ لَه: فقَدْ أُمِر أنْ يرْضَى بيمينِ الحالِفِ لَهُ،
فإذا قرَنْتَ هذينِ الأمرينِ بعضَهما ببعضٍ، فإنَّ الأمرَ الثاني يُنزَّلُ
علَى ما إذا كانَ الحالفُ صادقًا؛ لأنَّ الحديثَ جَمَعَ أمرينِ: أمرًا
مُوَجَّهًا للحالفِ، وأمرًا موجَّهًا للمحلوفِ لهُ، فإذا كانَ الحالفُ
صادقًا وجبَ علَى المحلوفِ لهُ الرضا. فإنْ قيلَ: إنْ كانَ صادقًا فإنَّنا نصدِّقُهُ، وإنْ لمْ يحلفْ؟ أجيبَ: أنَّ اليمينَ تزيدُهُ توْكيدًا. قولُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) أيْ: مَنْ لمْ يَرْضَ بالحلفِ باللهِ إذا حُلِف لَهُ فليسَ مِنَ اللهِ. بن قاسم في (حاشية كتاب التوحيد) ص 305: (أي
الوعيد لكونه من الفعل المنافي لكمال التوحيد، لدلالته على قلة تعظيمه
لجناب الربوبية، فإن القلب الممتلئ بمعرفة عظمة الله وجلاله لا يفعل ذلك) . (14) فيهِ مَسائِلُ: الأولَى: (النَّهيُ عنِ الحَلِفِ بالآباءِ) لقولُهُ: ((لاَ تَحْلِفُوا بآبائِكُم)) والنهيُ للتحريمِ. (15) الثانيَةُ: (الأمرُ للمَحْلوفِ لَهُ باللهِ أنْ يرضَى) لقولِهِ: ((وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللهِ فَلْيَرْضَ)) وسبقَ التفصيلُ في ذلكَ. (16) الثالثةُ: (وعيدُ مَنْ لَمْ يَرْضَ) لقولِهِ: ((وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ)). الرابعةُ : ولم يَذْكُرْها المؤلِّفُ -: أمرُ الحالفِ أن يَصْدُقَ؛ لأنَّ الصدقَ واجبٌ في غيرِ اليمينِ، فكيفَ باليمينِ، وقدْ سبقَ أنَّ مَنْ حَلَفَ علَى يمينٍ كاذبةٍ أنَّهُ آثِمٌ، وقالَ بعضُ العلماءِ: إنَّها اليمينُ الغَمُوسُ. وأمَّا بالنسبةِ للمحلوفِ لهُ: هلْ يلزَمُهُ أنْ يُصَدِّقَ أمْ لا؟ المسألةُ لا تخلُو مِنْ أحوالٍ خمسةٍ: الأولَى: أنْ يَعْلَمَ كذبَهُ، فلا أحدَ يقولُ: إنَّهُ يلزمُ تصديقُهُ. الثانيَةِ: أنْ يترجَّحَ كذبُهُ، فكذلكَ لا يَلْزَمُ تصديقُهُ. الثالثةِ: أنْ يَتَسَاوَى الأمرانِ فهذا يجبُ تصديقُهُ. الرابعةُ: أنْ يترجَّحَ صدقُهُ، فيجبُ أنْ يُصَدَّقَ. الخامسةُ: أنْ يَعْلَمَ صدقَهُ، فيجبُ أنْ يُصَدِّقَهُ. (17) مناسبةُ البابِ لكتابِ التوحيدِ: أنْ قولَ: ((ما شاءَ اللهُ وشئتَ))
مِنَ الشركِ الأكبرِ أو الأصغرِ؛ لأنَّهُ إن اعتقدَ أنَّ المعطوفَ مساوٍ
للهِ فهوَ شِرْكٌ أكبرُ، وإن اعتقدَ أنَّهُ دونَهُ لكنْ أشركَ بهِ في
اللفظِ فهوَ أصغرُ، وقدْ ذكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ: أنَّ مِنْ جملةِ ضوابطِ
الشركِ الأصغرِ أنَّ ما كانَ وسيلةً للأكبرِ فهوَ أصغرُ. (18) قولُهُ: (أنَّ يَهُوديًّا) اليهوديُّ هوَ: المنتسِبُ إلَى شريعةِ موسَى عليهِ السلامُ، وسُمُّوا بذلكَ مِنْ قولِهِ تعالَى: {إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ} أيْ: رَجَعْنَا، أوْ لأنَّ جدَّهم اسمُهُ يَهُوذَا بنُ يعقوبَ، فتكونُ النسبةُ منْ أجلِ النسبِ، وفي الأولِ تكونُ النسبةُ مِنْ أجلِ العملِ، ولا يَبْعُدُ أنْ تكونَ مِنَ الاثنينِ جميعًا. (19) قولُهُ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّ رجُلاً قالَ للنبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ) الظاهرُ أنَّهُ قالَهُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تعظيمًا، وأنَّهُ جعلَ الأمرَ مُفَوَّضًا لمشيئةِ اللهِ ومشيئةِ رسولِهِ. والندُّ هوَ: النظيرُ والمساوي؛ أيْ: أجَعَلْتَنِي للهِ مساويًا في هذا الأمرِ. وتعظيم النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بلفظٍ يقتضي مساواتَهُ للخالقِ شركٌ،
فإنْ كانَ يعتقدُ المساواةَ فهوَ شركٌ أكبرُ، وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّهُ
دونَ ذلكَ فهوَ أصغرُ، وإذا كانَ هذا شِرْكًا فكيفَ بمَنْ يجعلُ حقَّ
الخالقِ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؟ (20) قولُهُ في حديثِ الطُّفَيْلِ:((رأيتُ كَأنِّي أَتَيتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ اليهودِ)) أيْ: رؤيا في المنامِ. والروحُ: علَى الراجحِ عندَ أهلِ السُّنةِ: ذاتٌ لطيفةٌ تدخلُ الجسمَ وتَحُلُّ فيهِ، كما
يَحُلُّ الماءُ في الطينِ اليابسِ، ولهذا يَقْبِضُهَا المَلَكُ عندَ
الموتِ وتُكَفَّنُ ويُصْعَدُ بها، ويراها الإنسانُ عندَ موتِهِ. فالصحيحُ
أنَّها ذاتٌ، وإنْ كانَ بعضُ الناسِ يقولونَ: إنَّها صفةٌ، وليسَ كذلكَ،
بل الحياةُ صفةٌ والروحَ ذاتٌ، وقد أضافَ اللهُ رُوحَ عيسَى إليهِ، كمَا
أضافَ: البيتَ والمساجدَ والناقةَ إليهِ، وما أشبَهَ ذلكَ علَى سبيلِ
التشريفِ والتعظيمِ، ولا شكَّ أنَّ المضافَ إلَى اللهِ يَكْتَسِبُ شرفًا
وعظمةً. قولُهُ: ((وأثْنَى عليهِ)) أيْ: كرَّرَ ذلكَ الوصفَ. (21) فيهِ مَسائِلُ: الأولَى: (مَعْرِفَةُ اليهودِ بالشِّرْكِ الأصغَرِ) لقولِهِ: {إِنَّكُمْ لِتُشْرِكُونَ}. (22) الثانيَةُ: (فَهْمُ الإنسانِ إذا كَانَ لَهُ هَوًى)
أيْ: إذا كانَ لهُ هوًى فَهِمَ شيئًا، وإنْ كانَ هوَ يَرْتَكِبُ مثلَهُ
أوْ أشدَّ منهُ، فاليهودُ مثلاً أنكروا علَى المسلمينَ قولَهم: ((مَا شاءَ اللهُ وشِئْتَ)) وهمْ يقولونَ أعظمَ مِنْ هذا، يقولُونَ: عزيرٌ ابنُ اللهِ، ويَصِفُون اللهَ تعالَى بالنقائِصِ والعيوبِ. (23) الثالثةُ: ((قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّم: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا)) هوَ قولُهُ: (ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ)). يا أكرمَ الـخلـقِ مـا لي مـَنْ ألوذُ بِهِ سواكَ عندَ حلولِ الحادثِ العَمَمِ وهذا غايَةُ الكفرِ والغلوِّ، فلمْ يجعلْ للهِ شيئًا، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شرَفُهُ بكونِهِ عبدَ اللهِ ورسولَهُ، لا لمجرَّدِ كونِهِ محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ. (24) الرابعةُ: (أَنَّ هَذا ليسَ مِنَ الشِّركِ الأكبرِ لقولِهِ: ((يَمْنَعُني كَذا وكَذا)) لأنَّهُ لوْ كانَ مِنَ الشركِ الأكبرِ ما منعَهُ شيءٌ مِنْ إنكارِهِ. (25) الخامسةُ: (أنَّ الرُّؤيا الصَّالحةَ مِنْ أقْسامِ الوَحْيِ) تُؤخذُ مِنْ حديثِ الطُّفَيْلِ، ولقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ))
وهذا موافقٌ للواقعِ بالنسبةِ للوحيِ الذي أُوحِي إلَى النبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّ أولَ الوحيِ كانَ بالرؤيا الصالحةِ منْ ربيعٍ
الأولِ إلَى رمضانَ، وهذا سِتَّةُ أشهرٍ، فإذا نَسَبْتَ هذا إلَى بقيَّةِ
زمنِ الوحي كانَ جُزءًا منْ ستَّةٍ وأربعينَ جزءًا؛ لأنَّ الوحيَ كانَ
ثلاثًا وعشرينَ سنةً وستَّةَ أشهرٍ مقدِّمَةً لهُ. والرُّؤْيَا الصالِحةُ: هيَ التي تَتَضَمَّنُ الصَّلاحَ، وتأْتِي مُنَظَّمَةً وليستْ بأضغاثِ أحلامٍ. أما أضغاثُ الأحلامِ : فإنَّها مُشَوَّشةٌ غيرُ مُنَظَّمَةٍ، وذلكَ مثلُ التي قصَّها رجلٌ علَى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَأْسِي قدْ قُطِعَ. والغالبُ أنَّ الْمرائيَ المكروهةَ مِنَ الشيطانِ، قالَ اللهُ تعالَى: {إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ}،
ولذلكَ أرشدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَنْ رأَى ما يَكْرَهُ
أن يَتْفُلَ عنْ يسارِهِ، أوْ يَنْفُثَ ثلاثَ مراتٍ وأنْ يقولَ:((أَعوذُ
بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيطَانِ، وَمِنْ شرِّ مَا رَأيتُ، وَأَنْ
يتَحَوَّلَ إلَى الْجَانِبِ الآخَرِ وَأَنْ لاَ يُخْبِرَ أَحَدًا)) وفي روايَةٍ: (أَمَرَهُ أنْ يَتَوضَّأ وأنْ يُصلِّيَ). (26) السادسةُ: ((أنَّها قدْ تكونُ سببًا لِشَرْعِ بعضِ الأحكامِ)) مِنْ ذلكَ رؤيا إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنَّهُ يَذْبَحُ ابنَهُ، وهذا الحديثُ، وكذلكَ أثبتَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رؤيا عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في الأذانِ وقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((إِنَّهَا رُؤْيَا حَقٍّ)) وأبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ أثبتَ رؤْيَا مَنْ رأَى ثابتَ بنَ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ، فقالَ للذي رآه: إنكم سَتَجِدُونَ دِرْعِي تحتَ بُرْمةٍ، وعندهَا فَرَسٌ يَسْتَنُّ.
ولهذا لما قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لِحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ:((تُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا)).
فأقرَّهُم النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ علَى ذلكَ.
قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((مَنْ حَلَفَ بِاللهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللهِ فَلْيَرْضَ))هنا أمرانِ:
قال ا
وهذا تبرُّؤٌ منهُ يَدُلُّ علَى أنَّ عدمَ الرضا مِنْ كبائرِ الذنوبِ،
ولكنْ لا بدَّ مِنْ ملاحظةِ ما سبقَ، وقدْ أشرْنا أنَّ في حديثِ القَسامةِ
دليلاً علَى أنَّهُ إذا كانَ الحالفُ غيرَ ثقةٍ فلكَ أنْ تَرْفُضَ الرضا
بهِ؛ لأنَّهُ غيرُ ثقةٍ، فلوْ أنَّ أحدًا حلفَ لكَ.
وقالَ: (واللهِ
إنَّ هذه الحقيبةَ مِنْ خشبٍ، وهيَ منْ جلدٍ، فيجوزُ أنْ لا تَرْضَى بهِ؛
لأنَّكَ قاطعٌ بكذبِهِ، والشَّرْعُ لا يأمرُ بشيءٍ يُخالفُ الحِسَّ
والواقعَ، بلْ لا يأمرُ إلاَّ بشيءٍ يستحسِنُهُ العقلُ ويشهدُ لَهُ بالصحةِ
والحُسْنِ، وإنْ كانَ العقلُ لا يُدْرِكُ أحيانًا مدَى حسنِ هذا الشيءِ
الذي أمرَ بهِ الشرعُ، ولكنْ لِيُعْلَمْ علمَ اليقينِ أنَّ الشرعَ لا يأمرُ
إلاَّ بما هوَ حسنٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى يقولُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
فإذا اشتبهَ عليكَ حسنُ شيءٍ مِنْ أحكامِ الشرعِ فاتَّهِمْ نفسَكَ
بالقصورِ أوْ بالتقصيرِ، أمَّا أنْ تتَّهِمَ الشرعَ فهذا لا يمكنُ، وما
صحَّ عن اللهِ ورسولِهِ فهوَ حقٌّ وهوَ أحسنُ الأحكامِ).
وهذا في الأمورِ الحسيَّةِ، أمَّا الأمورُ الشرعيَّةُ في بابِ التحاكمِ
فيجبُ أنْ يَرْضَى باليمينِ، ويلتزمَ بمقتضاها؛ لأنَّ هذا مِنْ بابِ الرضا
بالحكمِ الشرعيِّ، وهوَ واجبٌ.
قولُهُ: (إِنَّكُم تُشرِكُونَ) أيْ: تَقَعونَ في الشركِ أيُّها المسلمونَ.
قولُهُ: ((ما شاءَ اللهُ وشئْتَ))
الشركُ - هنا - أنَّهُ جعلَ المعطوفَ مساويًا للمعطوفِ عليهِ، وهوَ اللهُ
عزَّ وجلَّ، حيث كانَ العطفُ بالواوِ المفيدةِ للتَّسْوِيَةِ.
قولُهُ: ((والكعبةِ))
الشركُ -هنا- أنَّهُ حَلِفٌ بغيرِ اللهِ، ولمْ يُنِكِر النبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما قالَ اليهوديُّ، بلْ أمَرَ بتصحيحِ هذا الكلامِ
فأمرهم إذا حلفوا أنْ يقولوا: وربِّ الكعبةِ، فيكونُ القسَمُ باللهِ.
وأمَرَهم أنْ يقولوا: ((ما شاءَ اللهُ ثمَّ شئتَ)) فيكونُ الترتيبُ بـ(ثمَّ)
بينَ مشيئةِ اللهِ ومشيئةِ المخلوقِ، وبذلكَ يكونُ الترتيبُ صحيحًا؛ أمَّا
الأولُ فلأن الحلفَ صارَ باللهِ، وأمَّا الثاني فلأنَّهُ جُعلَ بلفظٍ
يتبيَّنُ بهِ تأخُّرُ مشيئةِ العبدِ عنْ مشيئةِ اللهِ، وأنَّهُ لا مساواةَ
بينَهُمَا.
قولُهُ: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟))الاستفهامُ للإنكارِ، وقدْ ضُمِّنَ معنَى التعجُّبِ، ومَنْ جعلَ للخالقِ ندًّا فقدْ أتَى شيئًا عجابًا.
قولُهُ: (بلْ مَا شاءَ اللهُ وحْدَهُ) أرشدَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلَى ما يَقْطَعُ عنهُ الشركَ، ولمْ يرشدْهُ إلَى أنْ يقولَ: ((ما شاءَ اللهُ ثمَّ شئتَ)) حتَّى يَقْطَعَ عنه كلَّ ذريعةٍ عَنِ الشركِ وإنْ بَعُدَت.
هذا أعظمُ؛ لأنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ شيءٌ مِنْ خصائصِ
الربوبيَّةِ، بلْ يَلْبَسُ الدِّرْعَ، ويحملُ السلاحَ، ويجوعُ، ويتألَّمُ،
ويَمْرَضُ، ويعطشُ كبقيَّةِ الناسِ، ولكنَّ اللهَ فضَّلَهُ علَى البشرِ بما
أَوْحَى إليهِ مِنْ هذا الشرعِ العظيمِ، قالَ تعالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فهوَ بشرٌ، وأكَّدَ هذهِ البشريَةَ بقولِهِ: {مِثْلُكُمْ} ثمَّ جاءَ التمييزُ بينَهُ وبينَ بقيَّةِ البشرِ بقولِهِ تعالَى: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ}.
ولا شكَّ أنَّ اللهَ أعطاهُ مِنَ الأخلاقِ الفاضلةِ التي بها الكمالاتُ
مِنْ كلِّ وجهٍ: أعطاهُ مِنَ الصبرِ العظيمِ، وأعطاهُ مِنَ الكرمِ ومِنَ
الجودِ، لكنَّها كلَّها في حدودِ البشريَّةِ، أمَّا أنْ تَصِلَ إلَى خصائصِ
الربوبيَّةِ فهذا أمرٌ لا يمكنُ، ومَن ادَّعَى ذلكَ فقْد كفرَ بمحمدٍ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكفرَ بمَنْ أرسلَهُ.
فالمهمُّ أنَّنا لا نغلُو في الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فنُنَزِّلُهُ
في منزلةٍ هوَ يُنْكِرُهَا، ولا نَهْضِمُ حقَّهُ الذي يجبُ علينا، فنعطيهِ
مَا يجبُ لَهُ، ونسألُ اللهَ أنْ يعينَنا علَى القيامِ بحقِّهِ، ولكننَّا
لا نُنَزِّلُهُ منزلةَ الربِّ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: (كَأنَّ) اسمُها الياءُ، وجملةُ (أتَيْتَ) خبرُها.
وقولُهُ: (عَلَى نَفَرٍ) من الثلاثةِ إلَى التسعةِ، واليهودُ أتباعُ موسَى.
قولُهُ: ((لأنْتُمُ القَوْمُ)) كلمةُ مدحٍ، كقولِكَ: هؤلاءِ هم الرجالُ.
وقولُهُ: ((عُزَيْرٌ)) هوَ: رجلٌ صالحٌ ادَّعَى اليهودُ أنَّهُ ابنُ اللهِ،
وهذا مِنْ كَذِبهِمْ وهوَ كفرٌ، واليهودُ لهمْ مَثَالِبُ كثيرةٌ، لكنْ
خُصَّتْ هذهِ؛ لأنَّها مِنْ أعظمِهَا وأشهرِهَا عندَهُمْ.
قولُهُ: ((ما شاءَ اللهُ وشاءَ مُحَمدٌ))
هذا شِرْكٌ أصغرُ؛ لأنَّ الصحابةَ الذينَ قالُوا هذا، ولا شكَّ أنَّهم لا
يعتقدونَ أنَّ مشيئةَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مساويَةٌ لمشيئةِ
اللهِ، فانْتَقَدَ عليهمْ تسويَةَ مشيئةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ بمشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ باللفظِ، معَ عِظَمِ ما قالَهُ هؤلاء
اليهودُ في حقِّ اللهِ جلَّ جلالُهُ.
قولُهُ: ((تقولونَ:المسيحُ ابنُ اللهِ))هوَ: عيسَى ابنُ مريمَ، وسُمِّيَ مسيحًا بمعنَى: ماسحٍ، فهوَ (فَعِيلٌ) بمعنَى (فاعلٍ)؛ لأنَّهُ كانَ لايَمْسَحُ ذا عاهةٍ إلاَّ بَرِئَ بإذنِ اللهِ، كالأكْمَهِ والأبْرَصِ.
والشيطانُ لَعِبَ بالنصارَى فقالُوا: (هوَ ابنُ اللهِ؛ لأنَّهُ أتَى بدونِ أبٍ) كما في القرآنِ: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} قالُوا: هوَ جزءٌ مِنَ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ أضافَهُ إليهِ، والجزءُ هوَ الابنُ.
قولُهُ: ((فلَما أصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِها مَنْ أخبَرتُ)) المقصودُ بهذهِ العبارَةِ الإبهامُ، كقولِهِ تعالَى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} والإبهامُ قدْ يكونُ للتعظيمِ كما في الآيَةِ المذكورةِ، وقدْ يكونُ للتحقيرِ، حسَبَ السياقِ، وقدْ يُرادُ بهِ معنًى آخرُ.
قولُهُ: ((هلْ أَخْبَرْتَ بِها أحدًا؟))
سألَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هذا السؤالَ؛ لأنَّهُ لوْ قالَ:
لم أُخْبِرْ أحدًا؛ فالمتوقَّعُ أنَّ الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ
سيقولُ لَهُ: لا تُخْبِرْ أحدًا، هذا هوَ الظاهرُ، ثمَّ يُبَيِّنُ لهُ
الحكمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، لكنْ لمَّا قالَ إنَّهُ أخبرَ بها، صارَ لا
بدَّ مِنْ بيانِهَا للناسِ عمومًا؛ لأنَّ الشيءَ إذا انتشَرَ يَجِبُ أنْ
يُعلَنَ عنهُ، بخلافِ ما إذا كانَ خاصًّا فهذا يُخْبَرُ بهِ مَنْ وصَلَهُ
الخبرُ.
قولُهُ: ((فَحَمِدَ اللهَ))الحمدُ: وصفُ المحمودِ بالكمالِ معَ المحبةِ والتعظيمِ.
قولُهُ: ((أَمَّا بعدُ)) سبقَ أنَّها بمعنَى: مَهْمَا يكنْ مِنْ شيءٍ بعدُ؛ أيْ: بعدَ ما ذكرتُ فكذا وكذا.
قولُهُ: ((يَمْنَعُنِي كَذا وكَذا))
أيْ: يمنعهُ الحياءُ كما في روايَةٍ أخرَى، ولكنْ ليسَ الحياءُ مِنْ
إنكارِ الباطلِ، ولكنْ مِنْ أنْ يَنْهَى عنها دونَ أنْ يأمرَهُ اللهُ
بذلكَ، هذا الذي يجبُ أنْ تُحمَلَ عليهِ هذه اللفظةُ إنْ كانتْ محفوظةً،
أنَّ الحياءَ الذي يمنعُهُ ليسَ الحياءَ مِنَ الإنكارِ؛ لأنَّ الرسولَ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا يَسْتَحِي مِنَ الحقِّ، ولكنَّ الحياءَ مِنْ
أنْ ينكرَ شيئًا قدْ درَجَ علَى الألسنةِ، وألِفَهُ الناسُ قبلَ أنْ يؤمرَ
بالإنكارِ.
مثلَ: الخمرِ، بقيَ الناسُ يشربونَها حتَّى حُرِّمَتْ في سورةِ المائدةِ،
فالرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا لمْ يُؤْمَرْ بالنهيِ عنها
سكتَ، ولما حصلَ التنبيهُ علَى ذلكَ بإنكارِ هؤلاءِ اليهودِ والنصارَى رأَى
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ لا بدَّ مِنْ إنكارِها؛ لدخولِ اللومِ
علَى المسلمينَ بالنطقِ بها.
قولُهُ: ((قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)) نهاهُمْ عَنِ الممنوعِ، وبيَّنَ لهم الجائزَ.
قال في (فتح المجيد) ص499: (وهذا
الحديث والذي قبله: أمرهم أن يقولوا ما شاء الله وحده. ولا ريب أن هذا
أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك، من أن يقولوا: ثم شاء فلان؛ لأن فيه
التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، فالبصير يختار لنفسه أعلى
مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص) .
وقولُهُ: ((فكيفَ بمَنْ قالَ: مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِواكَ..)) والبيتينِ بعدَهُ: يُشيرُ رحمَهُ اللهُ إلَى أبياتٍ للبُوصِيرِيِّ في البُرْدةِ القصيدةِ المشهورةِ يقولُ فيها:
إنْلم تَكُنْ آخِذًا يومَ الـمَعادِ يدي عـفـوًا،وإلاَّ فــقـلْ يـا زَلـَّةَ الـقـَدَمِ
فـإنَّ مـِنْ جُودِكَ الدنــيا وضَرَّتَهَا ومـِنْ عـلـومـِكَ عـلمَ اللوحِ والقلمِ
وإِني جَعلتُ أشتَدُّ وراءهُ سعيًا.
فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((لاَ تُحَدِّثِ النَّاسَ بِتَلاَعُبِ الشَّيطَانِ بِكَ فِي مَنَامِكَ)).
فلما أصبحَ الرجلُ ذهبَ إلَى خالدِ بنِ الوليدِ وأخبرَهُ.
فذهبُوا إلَى المكانِ ورأوُا الدرعَ تحتَ البُرْمةِ عندَها الفرسُ، فنفَّذَ أبو بكرٍ وصيَّتَهُ؛ لوجودِ القرائنِ التي تدلُّ علَى صدقِهَا).
لكن لوْ دلَّتْ علَى مَا يُخَالِفُ الشريعَةَ فلا عِبْرَةَ بها، ولا يُلْتَفَتُ إليها؛ لأنَّها ليستْ رؤيا صالِحَةً.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا (باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}).
فيه بيان أن هناك ألفاظاً فيها التنديد. والتنديد معناه: أنْ تجعل غير الله ندّاً له، فيكون التنديد في نسبة النعم إلى غير الله. ويكون التنديد في: - ويكون التنديد في قول: ما شاء الله وشاء فلان، وغير ذلك من الألفاظ؛ فهذا الباب فيه بيان أنَّ التنديد يكون في الألفاظ. والتنديد هنا، المراد به: التنديد الأصغر الذي هو شرك أصغر في الألفاظ، وليس التنديد الكامل الذي هو الشرك الأكبر. وقوله جل وعلا: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}هذا عام يشمل: - ويشمل أيضاً: اتخاذ الأنداد بأنواع الإشراك التي دون الشرك الأكبر؛ لأن قوله: {أنداداً} هذا يعم جميع أنواع التنديد. والتنديد: - ومنه ما لا يخرج من الملة، ولهذا ساق عن ابن عباس، أنه
قال: (الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل) فجعل مما يدخل في هذه الآية:
الشرك الخفي، أو شرك الألفاظ التي تخفى على كثير من الناس. ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: وألا يتلفظ بشيءٍ فيه جَعْلُ غير الله
-جل وعلا- شريكاً له، أو ندّاً له (كمن حلف بغير الله) أو (كمن قال: ما شاء
الله وشاء فلان) أو (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص) ونحو هذه الألفاظ. الأول: ظاهر، وهو تبع للباب قبله، يعني: كلام ابن عباس على الآية، ثم قال في آخره: (لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك) يعني: لا تقل: (لولا الله وفلان) قل: لولا الله لحصل كذا، هذا هو الأكمل؛ فالذي ينبغي في استعمال هذه الألفاظ: أن تُنسب إلى الله؛ فظهر لنا هنا أن ثمةَ درجتين جائزة وغير ذلك لا يجوز، وهاتان الدرجتان: الأولى: هي الكاملة، وهي أن يقول: لولا اللهُ لما حصل كذا. ولهذا قال ابن عباس هنا: (لا تجعل فيها فلاناً) لأن
الكمال أنْ تقول: لولا الله لأتانا اللصوص، لولا نعمة الله لما حصل كذا،
لولا فضل الله لما حصل كذا؛ هذه هي المرتبة الكاملة؛ والجواز أنْ تقول:
لولا الله ثم فلان. وأما الذي لا يجوز،
- الحلف بغير الله.
- اتخاذ الأنداد بالشرك الأكبر.
- منه ما هو مخرج من الملة؛
ظاهرة من أنَّ حقيقة التوحيد أن لا يكون في القلب؛ إلا الله جل وعلا،
والذي قال فيه ابن عباس: (كله به شرك): أن يقول: (لولا الله وفلان) بـ(الواو) لأن (الواو) تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، دون تراخٍ في المرتبة.
أما (ثم) فتفيد التراخي في المرتبة، أو التراخي في الزمن على ما هو معلوم في هذا المبحث في حروف المعاني من النحو؛ فلهذا صار قول القائل: (لولا الله وفلان) شرك.أو (ما شاء الله وشاء فلان) أنّ هذا شرك أصغر.
والواجب أنْ يقول: (لولا الله)
أو أن يقول: (ما شاء الله وحده) كما سيأتي في بابٍ بعد ذلك.
فإذاً: تحصّل لنا أن الكمال أن ينسب ذلك إلى الله جل وعلا، وأن الجائز أن يقول: (لولا الله ثم فلان).قال: (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) رواه الترمذي وحسّنه، وصححه الحاكم).
(من حلف بغير الله) يعني: عقد اليمين بغير الله جل وعلا، (فقد كفر أو أشرك).
واليمين: هي تأكيد الكلام بمعظَّمٍ به بين المتكلم والمخاطب.
يؤكد الكلام بمعظَّمٍ به، بأحد حروف القسم الثلاثة: (الواو)
أو (الباء) أو (التاء) فاليمين أو الحلف يكون بتأكيد الكلام بمعظم به،
بـ(الواو) أو (الباء) أو (التاء).
والواجب ألا يؤكِّد الكلام، إلا بالله جل وعلا؛ لأن المعظَّم على الحقيقة هو الله جل وعلا.
وأما البشر فليسوا بمعظمين بحيث يُحلف بهم،
وإنما ربما عُظمّوا بشيءٍ يناسب ذاتهم، تعظيم البشر اللائق؛ أما التعظيم الذي يصل إلى حد أنْ يُحلف به: فهذا إنما هو لله جل وعلا.
فإذاً: الواجب ألاّ يُؤكِّد الكلام، إلا بالله -جل وعلا- إذا أراد الحلف؛ إذا أراد أن يكون حالفاً فليحلف بالله، فليؤكد الكلام بالله جل وعلا، باستخدام أحد الأحرف الثلاثة: (الواو) أو (الباء) أو (التاء).وأما إذا استخدم غير هذه الأحرف، كلفظ (في) ونحو ذلك، فإنه
لا يعدّ حلفاً إلا إن كان في قلبه أنه يمين، ولكنه أخطأ التعبير؛ فالعبرة
بما في ما في النفس من المعاني، وأما ما في اللفظ فإنه في هذا المقام يؤول
إلى ما في القلب؛ لهذا قال هنا: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)).
لماذا كفر أو أشرك؟
لأنه عظَّم هذا المخلوق كتعظيم الله -جل وعلا- في الحلف به،
وكفره وشركه شرك أصغر؛ وقد يصل إلى أن يشرك بالحلف شركاً أكبر، إذا عظّم المحلوفَ به كتعظيم الله -جل وعلا- في العبادة.
فإذاً: صار حقيقة الحلف بغير الله أنه تعظيم لذلك المحلوف به في الحلف؛ فإن انضاف إلى ذلك أنَّ المحلوف به معظم في العبادة، صار شركاً أكبر كحلف الذين يعبدون الأوثان بأوثانهم فإنه شرك أكبر؛ لأنه يعظم ذلك الوثن، أو ذلك القبر، أو تلك البقعة، أو ذلك المشهد، أو ذلك الولي، يعظمه كتعظيم الله في العبادة، فيكون حلفه حلفاً بمعظَّم به في العبادة.
فإذاً: صار هنا الشرك الأصغر حاصل بمجرد الحلف بغير الله؛
فكلُّ من حلف: بغير الله فهو مشرك الشرك الأصغر.
قد يصل في بعض الأحوال إلى أن يكون مشركاً الشرك الأكبر، إذا كان يعبد هذا الذي حلف به؛ وهناك يمينٌ بغير الله في اللفظ، فهذه أيضاً شرك، ولو لم يعقد القلب اليمين؛ كمن يكون دائماً على لسانه استعمال الحلف:- بالنبي.
- أو بالكعبة.
- أو بالأمانة.- أو بِوَلِيّ. - ونحو ذلك.
قال: (وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً، أحب إليّ من أحلف بغيره صادقاً) هذا لأجل عظم الحلف بغير الله جل وعلا، وأنَّ الحلف بغير الله شرك.
وأما الكذب: فإنه كبيرة،
والشرك الأصغر هذا أعظم من الكبائر؛ فلهذا استحب أنْ يكذب مع التوحيد، وألاّ يصدق مع الشرك؛ لأن حسنةَ التوحيد أعظم من سيئة الكذب، ولأن سيئة الشرك أشنع مِنْ سيئة الكذب.
قال: (وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) رواه أبو داود بسندٍ صحيح).هذا من جهة الإرشاد إلى ما ينبغي أن يُقال؛ فلا تُجعل مشيئة العبد مقارنة مشتركة مع مشيئة الله، بل الواجب أن ينزه العبد لفظه حتى يعظم الله جل وعلا؛ والقلب المعظم لله -جل وعلا- لا يمكن أن يستعمل لفظاً فيه جعل لمخلوق في مرتبة الله -جل وعلا- في:
- المشيئة.- أو في الحلف.
- أو في الصفات.
- ونحو ذلك.
لهذا قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان) وهذا النهي للتحريم؛ لأن هذا التشريك في المشيئة هذا شرك أصغر بالله جل وعلا.
قال: ولكن قولوا: ((ما شاء الله ثم شاء فلان)) لأن (ثمّ) تفيد التراخي في المشيئة، وهذا لأن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله جل وعلا، قال تعالى: {وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله ربُّ العالمين} فمشيئة العبد ناقصة، ومشيئة الله كاملة.
قال: (وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره (أعوذ بالله وبك)) (أعوذ بالله وبك) لأن (الواو) تقتضي التشريك في الاستعاذة.
والاستعاذة
- كما ذكرنا- لها جهتان:
- جهة ظاهرة.- وجهة باطنة.
أما الجهة الباطنة، وهي:
الالتجاء، والاعتصام، والرغب والرهب، وإقبال القلب على المستعاذ به؛ فهذا لا يصلح إلا لله.
والاعتماد في الاستعاذة على المخلوق فيما أقدره الله عليه: هذا جائز؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق ظاهراً فيما أقدره الله عليه ظاهراً، هذا جائز؛ لهذا كان يكره أن يقول: (أعوذ بالله وبك) والكراهة في استعمال السلف يراد منها غالباً: المحرم، وقد ترد لغير المحرم، ولكن يستعملونها فيما لا نص فيه.ومجيء الكراهة بمعنى التحريم في القرآن في قوله تعالى، لمّا ذكر الكبائر في سورة الإسراء: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً}[الإسراء:38].
- وفي القراءة الأخرى {كل ذلك كان سيئةً عند ربك مكروهاً}.
(مكروهاً)
أي: محرماً التحريم الشديد.
قال: (ويجوز أن يقول: بالله ثم بك) لما فيها من التراخي، قال: (ويقول: ((لولا الله ثم فلان)) ولا تقولوا: (لولا الله وفلان)).
العناصر
مناسبة باب قول الله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً...) لكتاب التوحيد
تفسير قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)
شرح أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (الأنداد: هو الشرك ...)
- بيان درجة أثر ابن عباس (الأنداد هو الشرك...)
- معنى قوله: (هو الشرك أخفى من دبيب النمل)
- معنى قوله: (وهو أن تقول: والله وحياتك...) إلخ
بيان أن السلف يستدلون بما أنزل في الشرك الأكبر على مسائل الشرك الأصغر
بيان أنواع التفسير(التفسير باللفظ والتفسير بالمعنى)
شرح حديث عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (من حلف بغير الله فقد كفر ...)
- تخريج حديث (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وبيان درجته
- بيان المراد بالكفر في قوله: (فقد كفر أو أشرك)، ومعنى (أو) فيها
شرح أثر ابن مسعود رضي الله عنه:(لأن أحلف بالله كاذباً...)
- السبب في تفضيله الحلف بالله كاذبا على الحلف بغيره صادقاً
- تخريج أثر ابن مسعود (لأن أحلف بالله...)، وبيان درجته
- بيان أن الكفارة لا تجب بالحلف بغير الله
شرح حديث حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ...)
- تخريج حديث حذيفة (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان..)
- بيان معنى حديث حذيفة
شرح أثر إبراهيم النخعي رحمه الله أنه يكره: (أعوذ بالله وبك...)
- تخريج أثر إبراهيم النخعي
مناسبة باب (ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله) لكتاب التوحيد
شرح مسائل باب قول الله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً...)
مناسبة باب (ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله) لما قبله
شرح ترجمة باب (ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله)
شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (لا تحلفوا بآبائكم ...)
- تخريج حديث (لا تحلفوا بآبائكم...)، وبيان درجته
- إقسام الله تعالى ببعض مخلوقاته لا يبيح للعباد أن يحلفوا بغيره جل وعلا
- الجواب عما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم (وأبيه)، (وأبيك)
- بيان أحوال الرضا بالحلف بالله