الدروس
course cover
باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

6546

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الثامن

باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

6546

0

0


0

0

0

0

0

باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وأكثَرُهُمُ الكَافِرُونَ}[ النَّحْلُ: 83].
قَالَ
مُجَاهِدٌ مَا مَعْنَاهُ: (هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: هَذَا مَالِي وَرِثْتُهُ عَنْ آبَائِي).

وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: (يَقُولُونَ: لَوْلاَ فُلاَنٌ لَمْ يَكُنْ كَذَا).

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: (يَقُولُونَ هَذَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا).

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بَعْدَ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الَّذِي فِيهِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ((أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ…)) الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَذُمُّ سُبْحَانَهُ مَنْ يُضِيفُ إِنْعَامَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيُشْرِكُ بِهِ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:(هُوَ كَقَوْلِهِمْ: كَانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً وَالْمَلاَّحُ حَاذِقًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ).


فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ مَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ وَإِنْكَارِهَا.

الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ أَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ.

الثَّالِثَةُ: تَسْمِيةُ هَذَا الْكَلاَمِ إِنْكَارًا لِلنِّعْمَةِ.

الرَّابِعَةُ: اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي الْقَلْبِ.

هيئة الإشراف

#2

28 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (بابُ قولِ اللهِ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83].
قالَ
مُجَاهِدٌ ما مَعْنَاهُ: (هوَ قَوْلُ الرجلِ: هذا مالِي وَرِثْتُهُ عنْ آبائِي).


وقالَ عَوْنُ بنُ عبدِ اللهِ: (يقولونَ: لولا فُلانٌ لمْ يَكُنْ كذا).

وقالَ ابنُ قُتَيْبَةَ: (يقولونَ: هذا بشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا).


ذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ ما ذَكَرَ بعضُ العلماءِ في مَعْنَاهَا.
وقالَ
ابنُ جَرِيرٍ: (فإنَّ أهلَ التأويلِ اخْتَلَفُوا في المَعْنِيِّ بالنِّعْمَةِ).


فَذَكَرَ عنْ سفيانَ عن السُّدِّيِّ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قالَ: (مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
وقالَ آخرونَ: (بلْ مَعْنَى ذلكَ أنَّهُم يَعْرِفُونَ أنَّ ما عَدَّدَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ في هذهِ السورةِ من النِّعَمِ منْ عندِ اللهِ، وأنَّ اللهَ هوَ المُنْعِمُ عليهم بذلكَ، ولكنَّهُم يُنْكِرُونَ ذلكَ فَيَزْعُمُونَ أنَّهُم وَرِثُوهُ عنْ آبَائِهِم).
وَأَخْرَجَ عنْ
مجاهدٍ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قالَ: (هيَ المساكنُ والأنعامُ وَمَا يُرْزَقُونَ منها، والسَّرابيلُ من الحديدِ والثيابِ، تَعْرِفُ هذا كُفَّارُ قريشٍ ثمَّ تُنْكِرُهُ بأنْ تقولَ: هذا كانَ لآبَائِنَا فَوَرَّثُونَا إيَّاهُ).
وقالَ آخرونَ: (معنى ذلكَ أنَّ الكُفَّارَ إذا قِيلَ لهم: مَنْ رَزَقَكُمْ؟
أَقَرُّوا بأنَّ اللهَ هوَ الذي رَزَقَهُم، ثمَّ يُنْكِرُونَ ذلكَ بِقَوْلِهِم: رُزِقْنَا ذلكَ بشفاعةِ آلِهَتِنَا).
وَذَكَرَ
المُصَنِّفُ مثلَ هذا عن ابنِ قُتَيْبَةَ، وهوَ أبو مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ مُسْلِمِ بنِ قُتَيْبَةَ الدَّيْنَوَرِيُّ قاضي مصرَ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، صاحبُ المُصَنَّفَاتِ البَدِيعَةِ المُفِيدَةِ المُحْتَوِيَةِ على عُلُومٍ جَمَّةٍ، اشْتَغَلَ ببغدادَ وسَمِعَ الحديثَ على إسحاقَ بنِ رَاهُوَيْهِ وَطَبَقَتِهِ، تُوُفِّيَ سنةَ سِتٍّ وسبعينَ ومائتَيْنِ.
وقالَ آخرونَ ما ذَكَرَهُ
المُصَنِّفُ عنْ عَوْنِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ الهُذَلِيِّ؛ أبو عبدِ اللهِ الكوفيُّ الزاهدُ، رَوَى عنْ أبيهِ وعائشةَ، وابنِ عَبَّاسٍ، عنهُ قتادةُ، وأبو الزُّبَيْرِ، والزُّهْرِيُّ، وَثَّقَهُ أحمدُ، وابنُ مَعِينٍ.
وقالَ
البخاريُّ: (ماتَ بعدَ العشرينَ وَمِائَةٍ).
{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قالَ: (إِنْكَارُهُم إيَّاهَا أنْ يقولَ الرجلُ: لَوْلاَ فلانٌ ما كانَ كذا وكذا، ولَوْلاَ فلانٌ ما أَصَبْتُ كذا وكذا).
وَاخْتَارَ
ابنُ جَرِيرٍ القولَ الأَوَّلَ، واخْتَارَ غَيْرُهُ أنَّ الآيَةَ تَعُمُّ ما ذَكَرَهُ العلماءُ في مَعْنَاهَا.
وهوَ الصوابُ، واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قالَ
مُجاهِدٌ) هوَ شيخُ التفسيرِ: الإِمامُ الرَّبَّانِيُّ مجاهدُ بنُ جَبْرٍ المَكِّيُّ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، يقولُ: (عَرَضْتُ المُصْحَفَ على ابنِ عَبَّاسٍ ثلاثَ مَرَّاتٍ؛ أَقِفُهُ عندَ كلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ: فِيمَ نَزَلَتْ؟ وَكَيْفَ مَعْنَاهَا؟).
تُوُفِّيَ سنةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَةٍ، وَلَهُ ثلاثٌ وثمانونَ سنةً.
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وقالَ أبو العبَّاسِ بعدَ حديثِ زَيْدِ بنِ خالِدٍ الذي فيهِ: وهذا كثيرٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، يَذُمُّ سُبْحَانَهُ مَنْ يُضيفُ إِنعامَهُ إلى غيرِهِ ويُشْرِكُ بِهِ، قالَ بعضُ السَّلَفِ: هوَ كقوْلِهم: كانَت الرِّيحُ طَيِّبَةً، والمَلاَّحُ حاذِقًا، ونحوِ ذلكَ ممَّا هوَ جَارٍ على أَلْسِنَةِ كثيرٍ).


(6)

قولُهُ: (وقالَ أبوالعَبَّاسِ) هوَ شيخُ الإِسلامِ أحمدُ بنُ عبدِ الحليمِ بنِ عبدِ السلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ الإِمامُ الجليلُ (بعدَ حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ) قدْ تَقَدَّمَ في بابِ ما جاءَ في الاستسقاءِ بالأَنْوَاءِ.
قالَ:
(وهذا كثيرٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، يَذُمُّ سُبْحَانَهُ مَنْ يُضِيفَ إِنْعَامَهُ إلى غيرِهِ وَيُشْرِكُ بهِ)
قالَ بعضُ السَّلَفِ: (هوَ كقولِهِم: كانت الريحُ طَيِّبَةً، والمَلاَّحُ حَاذِقًا، ونحوِ ذلكَ مِمَّا هوَ جَارٍ على أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ) انتهَى.
وكلامُ
شيخِالإِسلامِ يَدُلُّ على أنَّ حُكْمَ هذهِ الآيَةِ عامٌّ فِيمَنْ نَسَبَ النِّعَمَ إلى غيرِ اللهِ الذي أَنْعَمَ بها، وَأَسْنَدَ أَسْبَابَهَا إلى غيرِهِ، كما هوَ مذكورٌ في كلامِ المُفَسِّرِينَ المذكورِ بَعْضُهُ هُنَا.
قالَ
شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِيهِ اجتماعُ الضِّدَّيْنِ في القَلْبِ، وَتَسْمِيَةُ هذا الكلامِ إِنْكَارًا لِلنِّعْمَةِ).

هيئة الإشراف

#3

28 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (2)

{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}

الواجبُ على الخلقِ إضافةُ النِّعَمِ إلى اللهِ قولاً واعْتِرَافًا كمَا تقدَّمَ، وبذلك يَتِمُّ التوحيدُ، فَمَن أَنْكَرَ نِعَمَ اللهِ بقلبِه ولسانِه فذلك كافرٌ ليس معه مِن الدينِ شيءٌ.


ومَن أَقَرَّ بقلبِه أنَّ النِّعَمَ كُلَّها مِن اللهِ وحدَه،

وهو بلسانِه؛ تَارَةً يُضيفُها إلى اللهِ، وتارَةً يُضيفُها إلى نَفْسِهِ وعملِه وإلى سعْيِ غيرِه كمَا هو جارٍ على أَلسِنَةِ كثيرٍ مِن الناسِ، فَهَذا يَجِبُ على العبدِ أنْ يتوبَ منه، وأنْ لا يُضيفَ النِّعَمَ إلاَّ إلى مُوَلِّيها، وأنْ يجُاهِدَ نَفْسَه على ذلك، ولا يتحقَّقُ الإِيمانُ إلا بإضافةِ النِّعَمِ إلى اللهِ قولاً واعْتِرَافًا.

فإنَّ الشُّكرَ الَّذي هو رأسُ الإِيمانِ مبنيٌّ على ثلاثةِ أركانٍ:

- اعترافُ القلبِ بنِعمِ اللهِ كلِّها عليه وعلى غيِره.

- والتَّحَدُّثِ بها والثناءُ على اللهِ بها.

- والاستعانةُ بها على طاعةِ المُنْعِمِ وعبادتِه.


واللهُ أعلَمُ.

هيئة الإشراف

#4

28 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (11)

قولُه تعالى: {يَعْرِفُونَ} أيْ: يُدْرِكونَ بحَواسِّهِمْ أنَّ النعمةَ مِنْ عندِ اللهِ، قولُه: {نِعْمَةَ اللهِ} واحدةٌ والمرادُ بها الجمعُ فهيَ ليستْ واحدةً، بل هيَ لا تُحْصَى، قالَ تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا}والقاعدةُ الأصوليَّةُ: (أنَّ المفردَ المضافَ يَعُمُّ) والنِّعمةُ تكونُ بجلبِ المحبوباتِ، وتُطلَقُ أحياناً على رفعِ المكروهاتِ.
قولُه:
{ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} أيْ: ينكرونَ إضافتَهَا إلى اللهِ؛ لكونِهِمْ يُضِيفونهَا إلى السببِ مُتَناسِينَ المسبِّبَ الذي هوَ اللهُ سبحانَهُ، وليسَ المعنى أنَّهمْ يُنكرونَ هذهِ النعمةَ، مثلَ أنْ يقولوا: ما جاءَنَا مطرٌ أو ولدٌ أو صحَّةٌ، ولكنْ ينكرونهَا بإضافتِهَا إلى غيرِ اللهِ متناسينَ الذي خلَقَ السببَ فوُجِدَ به المسبَّبُ.
قولُه: (الآيةَ) أيْ: إلى آخرِ الآيةِ، وهيَ منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه أكْمِل الآيةَ.
قولُه:
{وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} أيْ: أكثرُ العارفين بأنَّ النِّعْمَةَ من اللهِ. الكافِرون، أيْ: الجاحِدون كونَها مِن اللهِ، أو الكافرون باللهِ عزَّ وجلَّ.
وقولُه:
{أَكْثَرُهُمُ} بعدَ قولِهَ {يعرفون} الجملةُ الأُولى أضافَهَا إلى الكلِّ، والثانيةُ أضافهَا إلى الأكثرِ، وذلكَ؛ لأنَّ منهمْ مَنْ هوَ عامِّيٌّ لا يعرِفُ ولا يفهمُ، ولكنَّ أكثَرَهم يعرفونَ ثمَّ يكفرونَ.


ومناسبةُ هذا البابِ للتوحيدِ:

هي أنَّ مَنْ أضافَ نِعْمَةَ الخالقِ إلى غَيْرِه فقدْ جعلَ معَهُ شريكاً في الربوبيَّةِ؛

لأنَّه أضافَها إلى السببِ على أنَّه فاعلٌ، هذا مِنْ وجهٍ، ومِنْ وجهٍ آخرَ أنَّه لم يقمْ بالشكرِ الذي هو عبادةٌ من العباداتِ، وتركُ الشكرِ منافٍ للتوحيدِ؛ لأنَّ الواجبَ أنْ يَشْكُرَ الخالقَ المنعِمَ سبحانَهُ وتعالَى، فصارتْ لها صلةٌ بتوحيدِ الربوبيةِ وبتوحيدِ العبادةِ، فمِنْ حيثُ إضافتُهَا إلى السببِ على أنَّه فاعِلٌ هذا إخلالٌ بتوحيدِ الربوبيَّةِ، ومنْ حيثُ تركُ القيامِ بالشكرِ الذي هوَ العبادةُ، هذا إخلالٌ بتوحيدِ الألوهيَّةِ.


(12)

قولُه: ((قالَ مُجاهِدٌ)) هو: إمامُ المفسِّرينَ في التابعينَ،عرَضَ المصحفَ على ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما يُوقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ، ويسأَلُهُ عنْ تفسيرِهَا.
وقالَ
سُفْيانُ الثوريُّ: (إذا جاءك التفسيرُ عنْ مُجاهدٍ فحسْبُكَ بهِ) أيْ: كافيكَ، ومعَ هذا فليسَ معصوماً عَنِ الخطأِ.
قولُه:
((ما مَعْناه)) أيْ: كلاماً معنَاه، وعلى هذا فـ (مَا) نكِرَةٌ موصوفةٌ، وفيه أنَّ الشيخَ رحِمَه اللهُ لم يَنْقُلْه بلفْظِه.
قولُه:
((هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ)) هذا مِنْ بابِ التغليبِ والتشريفِ؛ لأنَّ الرجلَ أشرفُ مِنَ المرأةِ وأحقُّ بتوجيهِ الخطابِ إليه مِنْها، وإلاَّ فالحكمُ واحِدٌ.
قولُه:
((هَذا مالي ورِثْتُهُ عَنْ آبائِي)) ظاهرُ هذهِ الكلمةِ أنَّه لا شيءَ فيها، فلوْ قالَ لكَ واحدٌ: منْ أينَ لكَ هذا البيتُ؟
قلتَ: ورِثْتُهُ عنْ آبائِي؛ فليسَ فيهِ شيءٌ؛ لأنَّه خبرٌ محضٌ.
لكنْ مرادُ
مجاهدٍ أنْ يضيفَ القائلُ تَملُّكَه للمالِ إلى السببِ الذي هوَ الإِرْثُ متناسياً المسِّببَ الذي هوَ اللهُ، فبتقديرِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنعمَ على آبائِكَ، وملَكُوا هذا البيتَ، وبشرعِ اللهِ عزَّ وجلَّ انتقلَ هذا البيتُ إلى مُلكِكَ عنْ طريقِ الإرْثِ، فكيفَ تَتَناسَى المسبِّبَ للأسبابِ القدَرِيَّةِ والشرعيَّةِ، فتُضِيفَ الأمرَ إلى مِلكِ آبائِكَ وإرثِكَ إيَّاهُ بعدَهُمْ؟ فمِنْ هنا صارَ هذا القولُ نوعاً مِنْ كُفْرِ النعمةِ.
أمَّا إذا كانَ قصدُ الإنسانِ مجردَ الخبرِ كمَا سبقَ فلا شيءَ في ذلكَ، ولهذا ثبتَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قيلَ له يومَ الفتحِ: أَتَنْزِلُ في دَارِكَ غداً؟
فقالَ:
((وَهَلْ تَرَكَ لنا عَقيلٌ مِنْ دارٍ أو رِباعٍ))فبيَّنَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ هذه الدُّورَ انتقلتْ إلى عَقيلٍ بالإرثِ.
فتبيَّن أنَّ هناكَ فَرْقاً بينَ إضافةِ المُلْكِ إلى الإنسانِ على سبيلِ الخبرِ، وبينَ إضافتِهِ إلى سببِهِ متناسِيًا المسبِّبَ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
قولُه:
((وقالَ عوْنُ بنُ عبدِ اللهِ)) يقولونَ: (لولا فُلانٌ لَمْ يَكُنْ كَذا).


وهذا القولُ فيه تفصيلٌ:

فإنْ أرادَ بها الخبرَ وكانَ الخبرُ صِدقاً مطابِقاً للواقعِ فهذا لا بأسَ بِهِ، وإنْ أرادَ بها السببَ فلذلكَ ثلاثُ حالاتٍ:


الأولى:

أنْ يكونَ سبباً خفيّاً لا تأثيرَ لهُ إطلاقاً كأنْ يقولَ: لولا الوليُّ الفلانيُّ ما حصلَ كذا وكذا، فهذا شِرْكٌ أكبرُ؛ لأنَّه يَعتقدُ بهذا القولِ أنَّ لهذا الوليِّ تصرُّفاً في الكونِ مع أنَّه مَيِّتٌ فهو تصرُّفٌ سرِّيٌّ خفيٌّ.


الثانيةُ:

أنْ يضيفَه إلى سببٍ صحيحٍ ثابتٍ شرعاً،

أو حسّاً، فهذا جائزٌ بشرطِ أنْ لا يعتقِدَ أنَّ السببَ مؤثِّرٌ بنفسِهِ، أو أنْ لا يَتَنَاسَى المُنْعِمَ بذلكَ.


الثالثةُ:

أنْ يضيفَهُ إلى سببٍ ظاهرٍ،

لكنْ لمْ يثبتْ كونُهُ سبباً لا شرعاً ولا حسّاً، فهذا نوعٌ مِنَ الشركِ الأصغرِ، وذلكَ مثلَ: التِّوَلَةِ والقلائِدِ التي يُقالُ: إنها تمنَعُ العينَ، وما أشبهَ ذلكَ؛ لأنَّه أثبتَ سبباً لمْ يجعلْهُ اللهُ سبباً، فكانَ مشارِكاً للهِ في إثباتِ الأسبابِ.
ويدلُّ لهذا التفصيلِ أنَّه ثبتَ إضافةُ (لولا) إلى السببِ وحدَه بقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في عمِّه
أبي طالبٍ: ((لَوْلا أَنَا لَكانَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ)) ولا شكَّ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أبعدُ الناسِ عَنِ الشرْكِ، وأخلصُ الناسِ توحيداً للهِ تعالى، فأضافَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الشيءَ إلى سببِهِ، لكنَّه شرعيٌّ حقيقيٌّ؛ فإنَّه أُذِنَ لَهُ بالشفاعةِ لعمِّه بأنْ يُخَفَّفَ عنْهُ، فكانَ في ضَحْضَاحٍ مِنَ النارِ عليهِ نعلانِ يَغْلِي منهمَا دِماغُهُ، لا يَرَى أنَّ أحداً أشدُّ منهُ عذاباً؛ لأنَّه لوْ يرى أنَّ أحداً أشدُّ منْهُ عذاباً أو مثلُه هانَ عليه بالتسلِّي.
قولُه: وقالَ
ابنُ قُتيبةَ: (يَقولونَ هَذا بِشفاعَةِ آلِهَتنا) هؤلاءِ أخبثُ ممن سبَقَهم؛ لأنهمْ مشركونَ يعبدونَ غيرَ اللهِ ثمَّ يقولونَ: إنَّ هذهِ النعمَ حصلتْ بشفاعةِ آلهتِهِمْ.
فالعُزَّى مثلاً شَفَعَتْ عندَ اللهِ أنْ يُنزِلَ المطرَ، فهؤلاءِ أثبتوا سبباً مِنْ أبطلِ الأسبابِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يقبلُ شفاعةَ آلهتِهِمْ؛ لأن الشفاعةَ لا تَنفَعُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً، واللهُ عزَّ وجلَّ لا يأذَنُ لهذه الأصنامِ بالشفاعةِ.


فهذا أبطلُ مِنَ الذي قبلَهُ؛ لأنَّ فيهِ محذورينِ:

- الشركَ بهذهِ الأصنامِ

- وإثباتَ سببٍ غيرِ صحيحٍ.


(13)

قولُه: ((وهَذا كثيرٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ يَذُمُّ سبحانَهُ مَنْ يُضيفُ إِنعامَهُ إلى غَيْرِهِ)) وذلكَ مثلَ الاستسقاءِ بالأنْوَاءِ، وإنَّما كانَ هذا مذموماً؛ لأنَّه لو أتى إليكَ عبدُ فلانٍ بهديَّةٍ مِنْ سيِّدِهِ فشكَرْتَ العبدَ دونَ السيِّدِ، كانَ هذا سُوءَ أدبٍ معَ السيدِ وكفراناً لنعمتِهِ.


وأقبحُ مِنْ هذا لو أضفتَ النعمةَ إلى السببِ دونَ الخالقِ لثلاثة أمور:


الأول:

أنَّ الخالقَ لهذه الأسبابِ هو اللهُ،

فكانَ الواجبُ أنْ يُشْكَرَ وتُضافَ النعمةُ إليهِ.


الثاني:

أنَّ السببَ قد لا يؤثِّرُ

كما ثبتَ في (صحيحِ مسلمٍ) أنَّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ: ((لَيْسَ السَّنَةُ أن لا تُمْطَروا، بل السَّنَةُ أنْ تُمْطَروا ثُمَّ لا تُنْبِتُ الأرضُ)).


الثالث:

أنَّ السببَ قدْ يكونُ له مانعٌ يمنعُ مِنْ تأثيرِهِ،

وبهذا عُرِفَ ضعفُ إضافةِ الشيءِ إلى سببِهِ دونَ الالتفاتِ إلى المسبِّبِ جلَّ وعلا.
قولُه:
((كانَتِ الرِّيحُ طَيِّبةً)) هذا في السفنِ الشِّراعيَّةِ التي تجريْ بالريحِ، قالَ تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} فكانوا إذا طابَ سيرُ السفينةِ قالُوا: كانت الريحُ طيِّبَةً، وكانَ الملاَّحُ -وهو قائدُ السفينةِ- حاذقاً أيْ: مُجِيداً للقِيادةِ، فيُضِيفون الشيءَ إلى سبَبِه ويَنْسَوْنَ الخالِقَ جَلَّ وعلا.


(14)

فيهِ مَسائِلُ:


الأولى:

(تفسيرُ معْرِفةِ النِّعمةِ وإنكارِها)

وسبقَ ذلكَ.


(15)

الثانيةُ: (مَعْرِفَةُ أنَّ هذا جَارٍ علَى ألسِنةٍ كثيرةٍ)

وذلكَ مثلُ قولِ بعضِهِمْ: كانت الريحُ طيبةً، والملاَّحُ حاذقاً وما أشبهَ ذلكَ.


(16)

الثالثةُ: (تَسمِيةُ هَذا الكلامِ إنكاراً للنِّعمَة)

يعني: إنكاراً لتفضُّلِ اللهِ تعالى بها، وليسَ إنكاراً لوجودِهَا؛ لأنَّهم يعرفونَهَا ويُحِسُّونَ بوجودِهَا.


(17)

الرابعةُ: (اجتماعُ الضِّديْنِ في القلْبِ)

وهذا مِنْ قولِهِ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} فجَمَعَ بينَ المعرفةِ والإنكارِ، وهذا كما يَجْتَمِعُ في الشخصِ الواحدِ خَصْلَةُ إيمانٍ وخصلةُ كُفرٍ، وخصلةُ فسوقٍ وخصلةُ عدالةٍ.

هيئة الإشراف

#5

28 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

قال مجاهد ما معناه: (هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي).

وقال عون بن عبد الله: (يقولون لولا فلان لم يكن كذا).

وقال ابن قتيبة: (يقولون هذا بشفاعة آلهتنا).

وقال أبو العباس بعد حديثزيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ….)) الحديث، وقد تقدم.

(وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به).
قال بعض السلف: (هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير).
هذا الباب من الأبواب العظيمة في هذا الكتاب خاصةً في هذا الزمن؛ لشدة الحاجة إليه، وترجمه المصنف ـ رفع الله مقامه في الجنة ـ بقوله: (باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}) فوصف الكفار في سورة النحل- التي تُسمى سورة النِّعم- وصفهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وإنكار النعمة: بأن تنسب إلى غير الله.
إنكارها بأشياء:
- ومن ذلك أن تُنسب إلى غير الله.

- وأن يجعل المتفضل بالنعمة غير الذي أسداها، وهو الله جل جلاله.

فالواجب على العبد أن يعلم أنَّ كل النعم من الله جل وعلا؛ وأنَّ كمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة كلِّ نعمة إلى الله جل وعلا؛ وأنَّ إضافة النعم إلى غير الله نقص في كمال التوحيد، ونوع شرك بالله جل وعلا.

ولهذا تكون مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن ثمة ألفاظاً يستعملها كثير من الناس في مقابلة النعم، أو في مقابلة اندفاع النقم؛ فيكون ذلك القول منهم نوع شرك بالله جل وعلا، بل شرك أصغر بالله جل وعلا؛ فنبه الشيخ -رحمه الله- بهذا الباب على ما ينافي كمال التوحيد من الألفاظ، وأن نسبة النعم إلى الله -جل وعلا- واجبة.

قال: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية: (أن لفظ المعرفة إنما يأتي في الذم؛ وأن النافع هو العلم، وأما المعرفة فتستعمل في القرآن، وفي السنة غالباً فيما يُذم من أخذ المعلومات؛ كقوله جل علا: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}.
وكقوله في هذه الآية: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} وهذا على جهة الأكثرية، وإلاّ فقد ورد أن المعرفة بمعنى العلم، كما جاء في (صحيح مسلم) في حديث ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعرفوا الله؛ فإن هم عرفوا الله..)).
فهذا يدل على أنَّ بعض من روى الحديث من التابعين،

جعل معنى العلم بالمعرفة، وهم حجة في هذا المقام؛ فيدل على أن استعمال المعرفة بمعنى العلم: لا بأس به.

هذا الباب معقود لألفاظ يكون استعمالها من الشرك الأصغر،

ذلك أن فيها إضافة النعمة إلى غير الله، والله -جل وعلا- قال: {وما بكم من نعمة فمن الله} وهذا نص صريح في العموم؛ لأن مجيء النكرة في سياق النفي: يدل على الظهور في العموم؛ فإن سبقت النكرة بـ(مِنْ) حرف جر الذي هو شبيهٌ بالزائد، فيكون العموم نصّاً فيه؛ والتنصيص في العموم: بمعنى أنه: لا يخرج شيءٌ من أفراده.

فدلت الآية على أنه لا يخرج شيءٌ من النعم، أيّاً كان ذلك الشيء،: صغيراً كان، أو كبيراً؛ عظيماً جليلاً، أو حقيراً وضيعاً، لا يكون إلا من الله جل وعلا؛ فكل النعم صغرت، أو عظمت: هي من الله -جل جلاله- وحده.

وأما العباد: فإنما هم أسباب تأتي النعم على أيديهم:

- يأتي واحد ويكون سبباً في إيصال النعمة إليك.

- أو يكون سبباً في معالجتك.

- أو سبباً في تعيينك.

- أو سبباً في نجاحك.

- أو نحو ذلك، لا يدل على أنه هو ولي النعمة، وهو الذي أنعم؛ فإن ولي النعمة هو الرب جل وعلا، وهذا من كمال التوحيد.

فإن القلب الموحد يعلم أنه ما ثمَّ شيء في هذا الملكوت إلا والله -جل وعلا- هو الذي يفتحه، وهو الذي يغلق ما يشاء، كما قال سبحانه: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} فكل النعم من الله جل وعلا، والعباد أسباب في ذلك.

فالواجب إذاً: أن تنسب النعمة إلى المسدي، لا إلى السبب؛ لأن السبب: لو أراد الله جل وعلا؛ لأبطل كونه سبباً؛ وهذا السبب إذا كان آدمياً، فقلبه بين إصبعين من أصابع الله جل وعلا؛ لو شاء لصده عن أن يكون سبباً، أو أن ينفعك بشيء؛ فالله -جل وعلا- هو ولي النعمة.

قد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ما من أحدٍ تعلق بمخلوق إلا وخُذل؛ ما من أحد تعلق بمخلوق: في حصول شيء له، أو اندفاع مكروه عنه، إلا خذل).
وهذا في غالب المسلمين؛ وذلك لأن الواجب على المسلم: أن يعلق قلبه بالله، وأن يعلم أن النعم إنما هي من عند الله، والعباد أسباب يسخرهم الله جلا جلاله؛ وهذا هو حقيقة التوحيد، ومعرفة تصرف الله جل وعلا في ملكوته.
قال:(قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي).
هذا القول: (مالي، ورثته عن آبائي)

منافٍ لكمال التوحيد، ونوع شركٍ؛ لأنه نسب هذا المال إليه ونسبه إلى آبائه؛ وفي الواقع أنَّ هذا المال أنعم الله به على آبائه، ثم أنعم الله به على هذا المؤمن؛ إذ جعل الله -جل وعلا- القسمة؛ قسمة الميراث تصل إليه؛ وهذا كله من فضل الله -جل وعلا- ومن نعمته؛ والوالد سبب في إيصال المال إليه.

ولهذا في قسمة الميراث: لا يجوز للوالد أنْ يقسم الميراث، أو لصاحب المال أن يقسم الميراث على ما يريد هو؛ لأن المال في الحقيقة ليس مالاً له؛ كما قال جل وعلا: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} فهو مال الله جل وعلا، يقسمه كيف يشاء إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم.

فالواجب على العبد: أن يعلم أن ما وصله من المال، أو وصله من النعمة عن طريق آبائه، هو من فضل الله -جل وعلا- ونعمته؛ ووالده، أو والدته، أو قريبه: سبب من الأسباب؛ فيحمد الله -جل وعلا- على هذه النعمة؛ ويسأل الله -جل وعلا- لذلك السبب؛ ويقابل ذلك السبب بجزائه: إما بدعاء، وإما بغيره.

قال: (وقال عون بن عبدالله: يقولون: (لولا فلان لم يكن كذا)

(لولا فلان لم يكن كذا) كقول القائل: (لولا قائد الطيارة)، (لولا الطيار لذهبنا في هلكة)، (لولا أن السائق كان ماهراً، لذهبنا في كذا وكذا).

أو يقول: (لولا أنَّ الشيخ كان معلماً وأفهمنا المسألة، لما فهمناها أبداً).

أو يقول: (لولا المدير الفلاني، لفُصلتُ) ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها تعليق حصول الأمر بهذه الواسطة؛ والأمر إنما حصل بقضاء الله، وبقدره، وبفضل الله وبنعمته، من حصول النعم، أو اندفاع المكروه والنقم.
ولهذا الواجب على العبد: أن يوحد، فيقول: (لولا الله ثم فلان) فيجعل مرتبة فلان ثانية، ولا يجعل مرتبة فلان هي الأولى، أو الوحيدة؛ لأن الله -جل وعلا- هو المسدي للنعم، المتفضل بها.
(لولا فلان لم يكن كذا)

هنا قال: (فلان) من جهة كثرة الاستعمال، أما في الواقع فقد يأتي (لولا) في استعمالها بالناس، أو بتعلق بجمادات: بيت ونحو ذلك، أو سيارة، أو طيارة، يعني: من جهة صناعتها؛ أو التعلق ببقاع؛ أو التعلق بشيء من خلق الله: مطر، ماء، سحاب، هواء، ونحو ذلك؛ فنسبة النعمة إلى إنسان، أو إلى بقعة، أو إلى فعل فاعلٍ، أو إلى صنعة، أو إلى مخلوق: كل ذلك من

نسبة النعم إلى غير الله، وهو نوع من أنواع الشرك في اللفظ، وهو من الشرك الأصغر بالله جل وعلا؛ كما سيأتي في الباب بعده إن شاء الله.


قال: (وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا)
(هذا بشفاعة آلهتنا)

يعني: إذا حصلت لهم نعمة:

- جاءتهم أمطار.

- جاءهم مال.

- نجحوا في تجارتهم.

إذا حصل لهم ذلك، تذكروا أنهم توجهوا للأولياء؛ أو توجهوا للأنبياء؛ أو توجهوا للأصنام، أو للأوثان، تذكروا أنهم قد توجهوا لهم، فصرفوا لهم شيئاً من العبادة؛ فقالوا: الآلهة شفعت لنا، فلذلك جاءنا هذا الخير.
فيتذكرون آلهتهم وينسون أن المتفضل بذلك هو الله جل وعلا، وأن الله سبحانه لا يقبل شفاعةً شركيةً من تلك الشفاعات التي يذكرونها.
قال: (وقال أبو العباس، بعد حديث زيد بن خالد) وقد تقدم.
وهذا كثير في الكتاب والسنة؛ يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به.
(قال بعض السلف: (هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير)
وهذا باب ينبغي الاهتمام به،

وتنبيه الناس عليه؛ لأن نعم الله علينا في هذه البلاد، بل نعم الله على أهل الإيمان في كل مكان: كثيرة لا حصر لها.

ولهذا: الواجب أن تُنسب النعم إلى الله جل وعلا، وأن يذكر بها، وأن يشكر؛ لأن من درجات شكر النعمة: أن تضاف إلى من أسداها، هذه أول الدرجات {وأما بنعمة ربك فحدث}.

أول درجات التحديث بالنعمة: أن تقول: (هذا من فضل الله، هذه نعمة الله) فإذا التفت القلب إلى مخلوقٍ، فإنه يكون قد أشرك هذا النوع من الشرك المنافي لكمال التوحيد.

هيئة الإشراف

#6

8 Aug 2022

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): (بابُ قولِ اللهِ تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}[ النحل: 83])

(5)

المرادُ بهذهِ الترجمةِ التأدُّبُ معَ جَنَابِ الرُّبُوبِيَّةِ عن الألفاظِ الشركيَّةِ الخفيَّةِ، كنِسْبَةِ النِّعَمِ إلى غيرِ اللهِ؛ فإنَّ ذلكَ بابٌ منْ أبوابِ الشركِ الخَفِيِّ.
وضدُّهُ بابٌ مِنْ أبوابِ الشُّكْرِ، كما في الحديثِ الذي رواهُ

ابنُ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ) عنْ جابرٍ مرفوعًا: ((مَنْ أُولِيَ مَعْرُوفًا فَلَمْ يَجِدْ لَهُ جَزَاءً إِلاَّ الثَّنَاءَ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ)).


وفي روايَةٍ جَيِّدَةٍ

لأبي داودَ: ((مَنْ أُبْلِيَ فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ)).
قالَ
المُنذِرِيُّ: (مَنْ أُبْلِيَ) أيْ: منْ أُنْعِمَ عليهِ، الإِبْلاءُ: (الإنعامُ).
فإذا كانَ ذِكْرُ المعروفِ الذي يُقَدِّرُهُ اللهُ على يَدَيْ إنسانٍ منْ شُكْرِهِ، فَذِكْرُ معروفِ ربِّ العالمينَ وآلائِهِ وإحسانِهِ ونِسْبَةُ ذلكَ إليهِ أَوْلَى بأَنْ يكونَ شُكْرًا.


(6)

هذا الأثرُ رواهُ

ابنُ جَريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ، ولفظُهُ كما في (الدُّرَرِ) قالَ: (المساكنُ والأنعامُ وسَرابيلُ الثيابِ والحديدِ يَعْرِفُهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ ثمَّ يُنْكِرُونَهُ بأنْ يقُولُوا: هذا كانَ لآبائِنا وَرِثْناهُ عنهم).
قالَ
ابنُ القَيِّمِ ما معناهُ: (لمَّا أضَافُوا النِّعْمَةَ إلى غيرِ اللهِ فقدْ أنْكَروا نعمةَ اللهِ بنِسْبَتِها إلى غيرِهِ؛ فَإِنَّ الذي يقولُ هذا جاحدٌ لنعمةِ اللهِ عليهِ غيرُ مُعْتَرِفٍ بها، وهوَ كالأبرصِ والأقرعِ اللَّذَيْنِ ذَكَّرَهُمَا المَلَكُ بنِعَمِ اللهِ عليهما فَأَنْكَرَاهَا وقالاَ: إنَّمَا ورِثْنا هذا كَابِرًا عنْ كَابِرٍ، وكَوْنُها موروثةً عن الآباءِ أبلغُ في إنعامِ اللهِ عليهم؛ إذْ أنعمَ بها على آبائِهم، ثمَّ ورَّثَهُم إيَّاها، فتَمَتَّعوا هم وآباؤُهم بنعمِهِ).


(7)

هذا الأثرُ رواهُ

ابنُ جريرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أبي حاتمٍ، ولفظُهُ كما في (الدُّرَرِ): (لَوْلا فُلاَنٌ أَصَابَنِي كذا وكذا، ولَوْلا فلانٌ لمْ أُصِبْ كذا وكذا).
و
عَوْنٌ هذا هوَ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ بنِ مسعودٍ الهُذَلِيُّ، أبو عبدِ اللهِ الكُوفيُّ، ثِقَةٌ عابدٌ، ماتَ قبلَ سنةِ عشرينَ ومائةٍ.
قولُهُ: (لَوْلا فلانٌ) إلى آخرِهِ.
قالَ
ابنُ القَيِّمِ ما معناهُ: (هذا يَتَضَمَّنُ قَطْعَ إضافةِ النعمةِ عنْ مَنْ لَوْلاهُ لمْ تَكُنْ، وإضافتَها إلى مَنْ لم يَمْلِكْ لنفسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا فضلاً عنْ غيرِهِ.
وغايتُهُ أنْ يكونَ جُزْءًا منْ أجزاءِ السببِ أجْرَى اللهُ نِعْمَتَهُ على يَدِهِ، والسببُ لا يَسْتَقِلُّ بالإيجادِ، وجَعْلُهُ سببًا هوَ منْ نِعَمِ اللهِ عليهِ، فهوَ المُنْعِمُ بتلكَ النعمةِ، وهوَ المُنْعِمُ بما جَعلَهُ منْ أسبابِها، فالسببُ والمُسَبَّبُ منْ إنعامِهِ، وهوَ تعالى كما أنَّهُ قدْ يُنْعِمُ بذلكَ السببِ، فقدْ يُنْعِمُ بدونِهِ ولا يكونُ لهُ أثرٌ، وقدْ يَسْلُبُهُ سَبَبِيَّتَهُ، وقدْ يَجْعَلُ لها مُعارِضًا يُقاوِمُها، وقدْ يُرَتِّبُ على السببِ ضدَّ مُقْتَضَاهُ، فهوَ وَحْدَهُ المنعمُ على الحقيقةِ)
.


(8)

ابنُ قُتَيْبَةَ

هوَ: عبدُ اللهِ بنُ مسلمِ بنِ قُتَيْبَةَ الدَّيْنَوَرِيُّ الحافظُ، صاحبُ التفسيرِ والمعارفِ وغيرِها، وثَّقَهُ الخطيبُ وغيرُهُ، ماتَ سنةَ سبعٍ وستِّينَ ومائتَيْنِ، أوْ قَبْلَها.
قولُهُ: (يقولونَ هذا بشفاعةِ آلهتِنا).
قالَ
ابنُ القَيِّمِ: (هذا يتضَمَّنُ الشِّرْكَ معَ إضافةِ النعمةِ إلى غيرِ وليِّها).
فالآلهةُ التي تُعْبَدُ منْ دونِ اللهِ أحقرُ وأذلُّ مِنْ أنْ تَشْفَعَ عندَ اللهِ، وهيَ مُحْضَرةٌ في الهَوانِ والعذابِ معَ عابدِيها.
وأقربُ الخلقِ إلى اللهِ وأحبُّهم إليهِ لا يشفعُ عندَهُ إلاَّ مِنْ بعدِ إذْنِهِ لِمَن ارْتَضَاهُ، فالشفاعةُ بِإِذْنِهِ منْ نِعَمِهِ، فهوَ المُنْعِمُ بالشفاعةِ، وهوَ المنعمُ بقبولِها، وهوَ المنعمُ بتأهيلِ المشفوعِ لهُ؛ إذ ليسَ كلُّ أحدٍ أهلاً أنْ يُشْفَعَ لهُ.
فَمَن المُنْعِمُ على الحقيقةِ سِوَاهُ؟
قالَ تعالى:
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل:53].
فالعبدُ لا خُرُوجَ لهُ عنْ نعمةِ اللهِ وفضلِهِ ومِنَّتِهِ وإحسانِهِ طَرْفةَ عَيْنٍ، لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ ولهذا ذمَّ سبحانَهُ وتعالى مَنْ آتَاهُ شيئًا منْ نِعَمِهِ فقالَ:
{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}[القصص:78].


(9)

قولُهُ: (وقالَ أبوالعبَّاسِ) هوَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ.
قولُهُ: (قالَ بعضُ السَّلَفِ) لمْ أقِفْ على تسميَةِ هذا البعضِ.
قولُهُ: (كانت الريحُ طَيِّبَةً، وَالْمَلاَّحُ حاذِقًا).


المَلاَّحُ:

هوَ سَائِسُ السفينة.
والمعنى أنَّ السُّفُنَ إذا جَرَيْنَ بريحٍ طيِّبَةٍ بأَمْرِ اللهِ جَرْيًا حسنًا نَسَبُوا ذلكَ إلى طِيبِ الريحِ وحِذْقِ الملاَّحِ في سِيَاسَةِ السفينةِ، ونَسُوا رَبَّهم الذي أجْرَى لهم الفُلْكَ في البحرِ رحمةً بهم.
كما قالَ تعالى:
{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[الإسراء:66] فيكونُ نسبةُ ذلكَ إلى طِيبِ الريحِ وحِذْقِ الملاَّحِ منْ جِنْسِ نسبةِ المطرِ إلى الأنْواءِ، وإنْ كانَ المُتَكَلِّمُ بذلكَ لمْ يَقْصِدْ أنَّ الريحَ والملاَّحَ هوَ الفاعلُ لذلكَ منْ دُونِ خَلْقِ اللهِ وأمْرِهِ، وإنَّما أرادَ أنَّهُ سَبَبٌ.
لكنْ لا ينبغي أنْ يُضِيفَ ذلكَ إلاَّ إلى اللهِ وحدَهُ؛ لأنَّ غايَةَ الأمرِ في ذلكَ أنْ يكونَ الريحُ والملاَّحُ سببًا أوْ جُزْءَ سببٍ، ولوْ شاءَ الربُّ تباركَ وتعالى لَسَلَبَهُ سَبَبِيَّتَهُ، فلمْ يكُنْ سببًا أصْلاً.
فلا يَلِيقُ بالمُنْعَمِ عليهِ المطلوبِ منهُ الشُّكْرُ أنْ يَنْسَى مَنْ بيدِهِ الخيرُ كلُّهُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، ويُضِيفَ النِّعَمَ إلى غيرِهِ، بلْ يَذْكُرُها مضافةً منسوبةً إلى مَوْلاها والمُنْعِمِ بها، وهُوَ المُنْعِمُ على الإطلاقِ، كما قالَ تعالى:
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}[النحل:53].
فهوَ المُنْعِمُ بجميعِ النِّعَمِ في الدنيا والآخرةِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ. فإنَّ ذلكَ مِنْ شُكْرِها، وضدَّهُ منْ إنكارِها.
ولا يُنَافِي ذلكَ الدعاءُ والإحسانُ إلى مَنْ كانَ سببًا أوْ جُزْءَ سببٍ في بعضِ ما يَصِلُ إليكَ من النِّعَمِ من الخَلْقِ.
قالَ
المُصَنِّفُ: (وفيهِ اجتماعُ الضِّدَّيْنِ في القَلْبِ).