26 Oct 2008
باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وإليهِ مَتَابِ} [الرَّعْدُ:30].
وَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) قَالَ عَلِيٌّ: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ).
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:أَنَّهُ
رَأَى رَجُلاً انْتَفَضَ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فِي الصِّفَاتِ اسْتِنْكَارًا لِذَلِكَ فَقَالَ: (مَا فَرَقَ
هَؤُلاَءِ؟ يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ
مُتَشَابِهِهِ) انْتَهَى.
وَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الرَّحْمَنَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ}[الرَّعْدُ:30].
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: عَدَمُ الإِيمَانِ بِجَحْدِ شَيْءٍ مِنَ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الرَّعْدِ. الثَّالِثَةُ: تَرْكُ التَّحْدِيثِ بِمَا لاَ يَفْهَمُ السَّامِعُ. الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ الْعِلَّةِ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْمُنْكِرُ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
أيْ: منْ أسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ، والمُرَادُ: ما حُكْمُهُ، هلْ هُوَ ناجٍ أوْ هالكٌ؟ - توحيدُ الرُّبُوبِيَّةِ. - وتوحيدُ الأسماءِ والصفاتِ. - وتوحيدُ العبادةِ. والأَوَّلاَنِ وسيلةٌ
إلى الثالثِ، فهوَ الغايَةُ والحكمةُ المقصودُ بالخلقِ والأمرِ، وكلُّها
مُتلازِمَةٌ؛ فناسَبَ التنبيهُ على الإيمانِ بتوحيدِ الصفاتِ. فقالُوا: (لا نَعْرِفُ الرحمنَ ولا الرحيمَ) وأمَّا كثيرٌ منْ أهلِ الجاهليَّةِ فيُقِرُّونَ بهذا الاسمِ، كما قالَ بعضُهم: وما يَشَأ الرحمنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ قال ابنُ كثيرٍ: ({وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ}أيْ:
لا يُقِرُّونَ بِه؛ لأنَّهُم يَأْبَوْنَ منْ وَصْفِ اللهِ بالرحمنِ
الرحيمِ، ومطابقةُ الآيَةِ للترجمةِ ظاهرةٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى سَمَّى
جحودَ اسمٍ منْ أسمائِهِ كُفْراً، فدلَّ على أَنَّ جحودَ شيءٍ منْ أسماءِ
اللهِ وصفاتِهِ كُفْرٌ. (وقولُهُ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}[الرعد:32]. قالَهُ ابنُ جريرٍ. (2) هذا الأثرُ رواهُ البخاريُّ مُسْنَداً لا مُعَلَّقاً، لكنَّهُ في بعضِ الرواياتِ عَلَّقَهُ أوَّلاً ثمَّ ذَكَرَ إسنادَهُ، وفي بعضِها ساقَ إسنادَهُ أوَّلاً. ومثلُهُ قولُ ابنِ مسعودٍ: (ما أَنْتَ محُدِّثٌ قوماً حديثاً لا تَبْلُغُهُ عقولُهُم إلاَّ كانَ لِبَعْضِهِم فتنةً).. رواهُ مسلمٌ. وعن الحسنِ أنَّهُ أنكرَ تحديثَ أنسٍ لِلْحجَّاجِ بقِصَّةِ
الْعُرَنِيِّينَ؛ لأنَّهُ اتَّخذهَا وسيلةً إلى ما كانَ يَعْتَمِدُهُ من
المبالغَةِ في سَفْكِ الدِّمَاءِ بتأويلِهِ الْوَاهِي. وضابطُ ذلكَ أَنْ
يكونَ ظاهرُ الحديثِ يُقَوِّي البدْعَةَ، وظاهرُهُ في الأصلِ غيرُ
مُرَادٍ، فالإمساكُ عنهُ عندَ مَنْ يُخْشَى عليهِ الأخذُ بظاهرِهِ مطلوبٌ)
انتهى. (3) قولُهُ: (رَوَى عبدُ الرزَّاقِ) هوَ ابنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ، الإمامُ الحافظُ صاحبُ التصانيفِ كَـ(المُصَنَّفِ) وغيرِهِ. أحدُهُما: أَنْ تكونَ ما استفهامِيَّةً إنكارِيَّةً، وفَرَقُ بفتحِ الفاءِ والراءِ، وهوَ الخوفُ والفزعُ، أيْ: ما فَزَعُ هذا وأضْرَابُهُ منْ أحاديثِ الصفاتِ واستنكارُهم لها؟. والثاني: أنْ يكونَ بفتحِ الفاءِ وتشديدِ الراءِ، ويجُوزُ تخفيفُها. وأمَّا قولُهُ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ}[آل عمرانَ:7]. وقيلَ: الوقفُ على قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أيْ: ما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاَّ اللهُ والراسخونَ في العلمِ، فأمَّا أهلُ الزَّيْغِ فلا يَعْلَمُونَ تأويلَهُ. وفي الأثرِ المشروحِ دليلٌ على ذِكْرِ آياتِ الصفاتِ
وأحاديثِها بحَضْرَةِ عَوَامِّ المؤمنينَ وخواصِّهم، وأَنَّ مَنْ رَدَّ
شيئًا منها أو اسْتَنْكَرَهُ بعدَ صِحَّتِهِ فَهُوَ ممَّنْ لمْ يُفَرِّقْ
بينَ الحقِّ والباطلِ، بلْ هوَ من الهَالِكِينَ، وأَنَّهُ يُنْكَرُ عليهِ
اسْتِنْكَارُهُ. (4) هكذا ذكَرَ المُصَنِّفُ هذا الأثرَ بالمعنى، وقدْ رَوَى ابنُ جريرٍ، وابنُ المنذرِ، عَن ابنِ جُرَيْجٍ، في الآيَةِ قالَ: (هذا لمَّا كاتَبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قُرَيْشًا في الحُدَيْبِيَةِ، كَتَبَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وفيهِ: دليلٌ على أَنَّ مَنْ أنْكَرَ شيئًا مِن الصفاتِ، فهوَ من الهالكينَ؛ لأنَّ الواجبَ على العبدِ الإيمانُ بذلكَ، سواءٌ فهِمَهُ أوْ لمْ يَفْهَمْهُ، وسواءٌ قَبِلَهُ عَقْلُهُ أمْ أنْكَرَهُ، فهذا هوَ الواجب على العبدِ في كلِّ ما صحَّ عن اللهِ ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ الذي ذكَرَ اللهُ تعالى عن الراسخينَ في العلمِ أنَّهُم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمرانَ:6].
ولمَّا كانَ تحقيقُ التوحيدِ بَل التوحيدُ لا يحصلُ إلاَّ بالإيمانِ باللهِ والإيمانِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، نَبَّهَ المُصَنِّفُ على وُجُوبِ الإيمانِ بذلكَ.
وأيضاً فالتوحيدُ ثلاثةُ أنواعٍ:
قالَ: (وقولِ اللهِ تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ}[الرعد: 32]).
أيْ: يَجْحَدونَ هذا الاسمَ،لا أنَّهم يجحدونَ يَجْحَدونَ اللهَ؛ فَإِنهَّم يُقِرُّونَ بهِ، كمَا قالَ تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ}[الزخرف:87].
والمرادُ بهذا كُفَّارُ قريشٍ أوْ طائفةٌ منهم، فإنَّهُم جحَدُوا هذا
الاسمَ عِناداً أوْ جهلاً، ولهذا لمَّا قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ يومَ الحُدَيْبِيَةِ: ((اكْتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))
وفي بعضِ الرواياتِ: (لا نَعْرِفُ الرحمنَ إلاَّ رحمنَ الْيَمَامَةِ)
يَعْنُونَ مُسَيْلِمةَ الكَذَّابَ، فإنَّهُ قبَّحَهُ اللهُ كانَ قدْ تَسَمَّى بهذا الاسمِ.
فمَنْ جحَدَ شيئاً منْ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ من الفلاسفَةِ، والجهمِيَّةِ
والمعتزلةِ ونحوِهم، فَلَهُ نصيبٌ من الكفرِ بقدرِ ما جحدَ من الاسمِ أو
الصفةِ؛ فإنَّ الجهميَّةَ والمعتزِلَةَ ونحوَهم، وإنْ كانُوا يُقِرُّونَ
بجنسِ الأسماءِ والصفاتِ، فعندَ التحقيقِ لا يُقِرُّونَ بشيءٍ، لأنَّ
الأسماءَ عندهُم أعلامٌ مَحْضَةٌ، لا تدلُّ علىصفاتٍ قائمةٍ بالرَّبِّ
تباركَ وتعالى وهذا نصفُ كُفْرِ الذينَ جحَدُوا اسمَ الرحمنِ).
أيْ: {قُلْ} يا مُحَمَّدُ رَادّاً عليهم في كفرِهِم بالرحمنِ تباركَ وتعالى: {هُوَ} أي: الرحمنُ عزَّ وجلَّ {رَبِّي لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} أيْ: لا معبودَ سواهُ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أيْ: إليهِ مَرْجِعِي وَأَوْبَتِي، وهوَ مصدرٌ منْ قولِ القائلِ: تُبْتُ مَتَاباً وتَوْبَةً)
وفي الآيَةِ دليلٌ علىأَنَّ التوكُّلَ عبادةٌ، وعلىأَنَّ التوبةَ عبادةٌ.
وإذا كانَ كذلكَ فالتَّوْبَةُ إلى غيرِهِ شركٌ.
ولما قالَ سَارِقٌ، وقدْ قُطِعَتْ يَدُهُ، للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ إِنِّي أتُوبُ إليكَ، ولا أَتُوبُ إلى مُحَمَّدٍ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَرَفَ الْحَقَّ لأَِهْلِهِ)) رواهُ أحمدُ.
فَرَوَاهُ عنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوسى، عنْ معروفِ بنِ خَرَّبُوذَ، عنْ أبي الطُّفَيْلِ، عنْ عَلِيٍّ بِهِ، ولفظُهُ: (أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ).
قوْلُهُ: (بِمَا يَعْرِفُونَ) أيْ: بما يفهمونَ.
قال الحافظُ: (وزادَ آدمُ بنُ أبي إِيَاسٍ في كتابِ (العلمِ) لهُ عنْ عبدِ اللهِ بنِ دَاوُدَ، عنْ معروفٍ، في آخرِهِ: (وَدَعُوا ما يُنْكِرونَ) أيْ: ما يَشْتَبِهُ عليهم فَهمُه) قالَ: (وفيهِ دليلٌ على أَنَّ المُتَشابِهَ لا ينبغِي أَنْ يُذْكَرَ عندَ العامَّةِ).
قالَ: (وممَّنْ رأَى التحديثَ ببعضٍ دونَ بعضٍ أحمدُ في الأحاديثِ التي ظاهِرُها الخروجُ على السلطانِ، ومالكٌ في أحاديثِ الصفاتِ، وأبو يوسُفَ في الغرائبِ، ومِنْ قَبْلِهم أبو هريرةَ كما تَقَدَّمَ عَنْهُ في الجِرَابَيْنِ، وأَنَّ المرادَ ما يَقَعُ من الفتنِ، ونحْوُهُ عنْ حُذَيْفَةَ.
وما ذكَرَهُ عنْ مالكٍ في أحاديثِ الصفاتِ ما أظُنُّهُ يَثْبُتُ عنْ مالكٍ، وهلْ في أحاديثِ الصفاتِ أكثرُ منْ آياتِ الصفاتِ التي في القرآنِ؟
فهلْ يقولُ مالكٌ أوْ غيرُهُ منْ علماءِ الإسلامِ: (إِنَّ آياتِ الصفاتِ لا تُتْلَىعلى العَوَامِّ)
وما زالَ العلماءُ قديماً وحديثاً مِنْ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ بعْدَهم يَقْرَءُونَ آياتِ الصفاتِ، وأحاديثَها
بحَضْرَةِ عوَامِّ المؤمنينَ وخواصِّهم، بلْ شرطُ الإيمانِ هوَ الإيمانُ
باللهِ، وصفاتِ كمالِهِ التي وَصَفَ بها نفسَهُ في كتابِهِ، أوْ على لسانِ
رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيفَ يُكْتَمُ ذلكَ عنْ عوامِّ
المؤمنينَ؟!
بلْ نقولُ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بذلكَ فليسَ من المؤمنينَ، ومَنْ وجَدَ في قلْبِهِ حَرَجاً منْ ذلكَ فَهُوَ من المنافقِينَ.
ولكنْ هذا منْ بِدَعِ الجهميَّةِ وأتباعِهم الذينَ يَنْفُونَ صفاتِ الربِّ تباركَ وتعالى.
فلَمَّا رَأَوْا أحاديثَ الصفاتِ مُبطِلَةً لمذاهبِهم، قامِعَةً لبدَعِهم
تَوَاصَوْا بكِتْمَانِهَا عنْ عوامِّ المؤمنينَ، لئلاَّ يعْلَمُوا
ضَلالَهُمْ، وفسادَ اعتقادِهِم، فَاعْلَمْ ذلكَ.
وفي الأثرِ دليلٌ على أَنَّهُ إذا خُشِيَ ضَرَرٌ منْ تحديثِ الناسِ ببعضِ ما يعرفونَ فلا ينبغِي تحديثُهُم بهِ، وليسَ ذلكَ على إطلاقٍ،
وإِنَّ كثيراً من الدِّينِ والسُّنَنِ يَجْهَلُهُ الناسُ، فإذا حُدِّثُوا
بهِ كَذَّبُوا بذلكَ وأعْظَمُوهُ، فلا يَتْرُكُ العالمُ تحديثَهُم، بلْ
يُعَلِّمُهُم بِرِفْقٍ، ويَدْعُوهم بِالَّتِي هيَ أحسنُ.
روَى عنهُ أحمدُ بنُ حنبلٍ ويَحْيَى بنُ مَعِينٍ، وخَلْقٌ لا يُحْصَوْنَ، ماتَ سنةَ إحدى عَشْرَةَ ومائتَيْنِ..
ومَعْمَرٌ هوَ ابنُ راشدٍ الأَزْدِيُّ أَبو عُرْوَةَ البَصْرِيُّ، نزلَ اليمنَ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ، ماتَ سنَة أربعٍ وخمسينَ ومائةٍ، ولهُ ثمانٌ وخمسونَ سنةً..
وابنُ طَاوُسٍ هوَ عبدُ اللهِ بنُ طَاوُسٍ اليَمانِيُّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ، ماتَ سنةَ اثنتَيْنِ وثلاثينَ ومائةٍ.
وأبوهُ طاوسُ بنُ كَيْسَانَ الْيَمَانِيُّ، ثِقَةٌ فَقِيهٌ فاضِلٌ منْ جِلَّةِ أصحابِ ابنِ عبَّاسٍ وعُلَمَائِهم، ماتَ سنةَ ستٍّ ومِائَةٍ.
قولُهُ: (أَنَّهُ رَأَى رجُلاً) لمْ يُسَمِّ هذا الرجلَ..
قولُهُ: (انْتَفَضَ) أي: ارْتَعَدَ لمَّا سمِعَ حديثاً عَن النبيِّ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فاسْتَنْكَرَهُ، إمَّا لأنَّ عَقْلَهُ لا
يَحْتَمِلُ، أوْ لكَوْنِهِ اعتقدَ عدمَ صحَّتِهِ فأنكَرَهُ.
قولُهُ: (فقالَ) أيْ: ابنُ عبَّاسٍ، وهوَ عبدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
قولُهُ: (ما فَرَقُ هَؤُلاءِ؟) يحتمِلُ وجهَيْنِ:
والمرادُ الإنكارُ عَلَيْهِمْ، فإنَّ الواجبَ على العبدِ التَّسْلِيمُ
والإذعانُ والإيمانُ بما صَحَّ عن اللهِ وعنْ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ، وإنْ لمْ يُحِطْ بِهِ عِلْماً.
ولهذا قالَ الشافعيُّ: (آمَنْتُ باللهِ، وبما جاءَ عن اللهِ على مُرَادِ اللهِ، وآمَنْتُ برسولِ اللهِ، وما جاءَ عنْ رسولِ اللهِ على مُرَادِ رسولِ اللهِ).
و(ما) نافيَةٌ أيْ: ما فَرَّقَ هذا وأضرابُهُ بينَ الحقِّ والباطلِ،
ولا عَرَفُوا ذلكَ؛ فَلِهَذَا قالَ: يَجِدُونَ رِقَّةً، وهيَ ضِدُّ
القسوةِ؛ أيْ: لِينًا وقَبُولاً للمُحْكَمِ، ويَهْلِكُونَ عندَ
مُتشابِهِهِ؛ أيْ: ما يَشْتَبِهُ عليهمْ فَهْمُهُ؛ لأنَّ آياتِ الصفاتِ هيَ
المُتَشَابِهُ كما تقولُ الجهميَّةُ ونحْوُهُم.
ولأَنَّ في القرآنِ متشابِهًا لا يُعْرَفُ معناهُ كالألفاظِ الأعجمِيَّةِ؛
فإنَّ لفظَ التَّشَابُهِ والمُتَشَابِهِ يدُلاَّنِ على بُطْلاَنِ ذلكَ،
وإنَّمَا المرادُ بالمتشابِهِ أيْ: ما يَشْتَبِهُ فهمُهُ على بعضِ الناسِ
دونَ بعضٍ، فالمُتَشَابِهُ أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ؛ فقدْ يكونُ مُشْتَبِهًا
بالنسبةِ إلى قَوْمٍ بيِّنًا جليًّا بالنسبةِ إلى آخرِينَ.
ولهذا قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا خرَجَ على قومٍ يَتَراجَعونَ في القرآنِ فَغَضِبَ وقالَ: ((بِهَذَا
ضَلَّتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ؛ بِاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ،
وَضَرْبِ الْكِتَابِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ
لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنْ نَزَلَ لأَِنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُ
بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ
عَلَيْكُمْ فَآمِنُوا بِهِ)) رواهُ ابنُ سعدٍ، وابنُ الضُّرَيْسِ، وابنُ مَرْدَوَيْهِ.
فقالَ ابنُ كثيرٍ: (يُخْبِرُ
تعالى أنَّ في القرآنِ آياتٍ مُحْكَماتٍ؛ أيْ: بَيِّناتٍ واضحاتِ
الدلالةِ، لا التباسَ فيها على أحدٍ، ومنهُ آياتٌ أُخَرُ فيها اشْتِبَاهٌ
في الدلالةِ على كثيرٍ من الناسِ أوْ بعضِهم، فمنْ رَدَّ ما اشْتَبَهَ
عليهِ إلى الواضحِ منهُ، وحكَّمَ مُحْكَمَهُ على مُتَشَابِهِهِ عندَهُ فقد
اهتدى، ومنْ عكَسَ انعكسَ).
ولهذا قالَ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أيْ: أَصْلُهُ الذي يُرْجَعُ إليهِ عندَ الاشتباهِ، {وأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ}
أيْ: تحتمِلُ دلالتُها موافقةَ المُحْكَمِ، وقدْ تحتملُ أشياءَ أُخْرَى
مِنْ حيثُ اللفظُ والتركيبُ، لا منْ حيثُ المُرَادُ؛ ولهذا قالَ تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}
أيْ: ضَلالٌ وخُروجٌ عن الحقِّ إلى الباطلِ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ
منهُ؛ أيْ: إنَّما يَأْخُذُونَ منهُ بالمُتَشَابِهِ الذي يُمْكِنُهم أَنْ
يُحَرِّفوهُ إلى مقاصدِهم الفاسدةِ، ويُنْزِلُوهُ عليها لاحتمالِ لفظِهِ
لِمَا يَصْرِفونَهُ. فأمَّا المحُـْكَمُ فلا نصيبَ لهم فيهِ؛ لأنَّهُ دافعٌ
لهم، وحُجَّةٌ عليهم؛ ولهذا قالَ: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: الإضْلالِ لأتباعِهِم؛ إيهامًا لهم أنَّهُم يَحْتَجُّونَ على بِدْعَتِهم بالقرآنِ، وهوَ حُجَّةٌ عليهم لا لهم. انتهى.
وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: ({فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعني أهلَ الشَّكِّ) فيحملُونَ المُـحْـكَمَ على المتشابِهِ، والمتشابِهَ على المُحْكَمِ ويُلَبِّسُونَ، فَلَبَّسَ اللهُ عليهم.
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} قالَ: تَأْوِيلُهُ يَوْمَ القيامةِ لا يعلَمُهُ إلاَّ اللهُ، رواهُ ابنُ جريرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أبي حاتمٍ.
وقولُهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} تقدَّمَ كلامُ ابنِ عبَّاسٍ.
وقالَ مُقاتِلٌ والسُّدِّيُّ: (يبتغونَ أَنْ يَعْلَموا ما يكونُ، وما عواقبُ الأشياءِ من القرآنِ.
قُلْتُ: فهذا التأويلُ الذي انفردَ اللهُ بعلمِهِ هوَ العلمُ بحقائقِ
الأشياءِ وما تَؤُولُ إليهِ، وعواقبِها؛ كالإخبارِ بما يكونُ، وما في
الجنَّةِ من النعيمِ، وما في النارِ من العذابِ؛ فإنَّ هذهِ الأمورَ وإنْ
عَلِمْنَاهَا لكنَّ العلمَ بحقائقِها ممَّا لا يعلمُهُ إلاَّ اللهُ).
ولهذا قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (ليسَ في الدنيا ممَّا في الجنَّةِ إلاَّ الأسماءُ؛ فعلى هذا يكونُ الوقفُ على الجلالةِ، كما رُوِيَ عنْ جماعةِ السَّلَفِ).
وعلى هذا؛ فالمرادُ بتأويلِهِ هوَ تفسيرُهُ وفَهْمُ معناهُ، وهذا هوَ المَرْوِيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ وجماعةٍ من السَّلَفِ.
قال ابنُ أبي نَجِيحٍ: عنْ مجاهدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ: (أنَا من الراسخينَ الذينَ يعْلَمُونَ تأويلَهُ).
وقالَ مجاهدٌ: ({وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَعْرِفونَ تأويلَهُ ويقولونَ: آمَنَّا بهِ).
وكذا قالَ الربيعُ بنُ أنسٍ وغيرُهُ.
فقدْ تبيَّنَ وللهِ الحمدُ أنَّهُ ليسَ في الآيَةِ حُجَّةٌ للمُبْطِلينَ في
جَعْلِهم ما أخبرَ اللهُ بهِ منْ صفاتِ كمالِهِ هوَ المتشابِهَ،
ويَحْتَجُّونَ على باطلِهم بهذهِ الآيَةِ، فَيُقَالُ: وأينَ في الآيَةِ ما
يدُلُّ على مَطْلُوبِكُم؟
وهلْ جاءَ نصٌّ عن اللهِ أوْ عَنْ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنهُ
جعَلَ ما وصَفَ اللهُ بهِ نفسَهُ، أوْ وصَفَهُ بهِ رسولُهُ مُتَشابِهًا؟!.
ولَكِنْ أَصْلُ ذلكَ أنَّهُم ظَنُّوا أَنَّ التأويلَ المرادَ في الآيَةِ
هوَ صرفُ اللفظِ عنْ ظاهِرِهِ إلى ما يَحْتَمِلُهُ اللفظُ لدليلٍ
يَقْتَرِنُ بذلكَ.
وهذا هوَ اصطلاحُ كثيرٍ من المُتَأَخِّرِينَ، وهوَ اصطلاحٌ حادِثٌ،
فأرادُوا حَمْلَ كلامِ اللهِ على هذا الاصطلاحِ، فضلُّوا ضلالاً بعيدًا،
وظنُّوا أَنَّ لِنُصُوصِ الصفاتِ تأويلاً يُخالِفُ ما دلَّتْ عليهِ، لا
يعلمُهُ إلاَّ اللهُ كما يقولُهُ أهلُ التجهيلِ، أوْ يَعْلَمُهُ
الْمُتَأَوِّلُونَ كما يقولُهُ أهلُ التأويلِ.
فقالُوا: (لا نكْتُبُ الرحمنَ، ولا نَدْرِي ما الرحمنُ، ولا نكتبُ إلاَّ: بِاسْمِكَ اللهُمَّ)؛ فأنزلَ اللهُ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ}).
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ مَنْ جَحَدَ شَيئًا مِن الأسماءِ والصِّفاتِ. وقولِ اللهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ} [الرعد: 30]). سَبَبُ نُزُولِ هذهِ الآيَةِ مَعْلُومٌ مذكورٌ في كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا، وهوَ أنَّ مُشْرِكِي قريشٍ جَحَدُوا اسمَ (الرَّحْمَنِ) عِنَادًا. (والرَّحْمَنُ) اسمُهُ وَصِفَتُهُ، دَلَّ هذا الاسمُ على أنَّ الرحمةَ وَصْفُهُ سبحانَهُ؛ وهيَ منْ صفاتِ الكمالِ. ولـقدْ تَقَلَّدَ كُفْرَهُم خمسونَ في عـَشـْرٍ مـن العـلماءِ في البُلْدَانِ فَإِنَّ هؤلاءِ
الجهميَّةَ ومَنْ وَافَقَهُم على التعطيلِ جَحَدُوا ما وَصَفَ اللهُ بهِ
نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بهِ رسولُهُ منْ صفاتِ كمالِهِ، وَنُعُوتِ جَلاَلِهِ، وَبَنَوْا هذا التعطيلَ على أصلٍ باطلٍ أَصَّلُوهُ مِنْ عندِ أَنْفُسِهِم. هذا مَنْشَأُ ضَلاَلِ عُقُولِهِم، لمْ
يَفْهَمُوا مِنْ صفاتِ اللهِ إلاَّ ما فَهِمُوهُ مِنْ خصائصِ صفاتِ
المخلوقينَ، فَشَبَّهُوا اللهَ في ابتداءِ رَأْيِهِم الفاسِدِ بِخَلْقِهِ،
ثمَّ عَطَّلُوهُ منْ صفاتِ كمالِهِ، وَشَبَّهُوهُ بالناقصاتِ والجماداتِ
والمعدوماتِ؛ فشبَّهُوا أَوَّلاً، وَعَطَّلُوا ثانِيًا، وَشَبَّهُوا
ثَالِثًا بِكُلِّ ناقصٍ أوْ معدوم. (2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِي (صحيحِ البخاريِّ) قالَعَلِيٌّ: (حَدِّثُوا الناسَ بِما يَعْرِفونَ، أَتُرِيدُونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُهُ؟) (3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ورَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَن ابنِ طَاوسٍ، عَنْ أبيهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ
رَأَى رَجُلاً انْتَفَضَ لَمَّا سَمِعَ حَديثًا عَن النَّبيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصِّفاتِ اسْتِنْكَارًا لِذلكَ، فقالَ: ما
فَرَقُ هَؤُلاءِ؟ يَجِدُونَ رِقَّةً عِندَ مُحْكَمِهِ، ويَهْلِكُونَ عِنْدَ
مُتَشَابِهِهِ) انتهى. قِيلَ: اسْمُهُ ذَكْوَانُ، قالَهُ ابنُ الجَوْزِيِّ. قُلْتُ: وهوَ مِنْ أَئِمَّةِ التفسيرِ، وَمِنْ أَوْعِيَةِ العلمِ. قالَ: قُلْتُ: مِنْ مَكَّةَ. عَطَاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ. قالَ: فَمِن العَرَبِ أَمْ مِن المَوَالِي؟ طَاوُسُ بنُ كَيْسَانَ. قالَ: فمِن العربِ أمْ من الموالي؟ عَطَاءٌ. قالَ: إنَّهُ لَيَنْبَغِي ذلكَ. يَزِيدُ بنُ أبي حَبِيبٍ. قالَ: فَمِن العربِ أمْ مِن الموالِي؟ مَكْحُولٌ. قالَ: فَمِن العربِ أَمْ من الموالِي؟ مَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ. قالَ: فمِن العربِ أمْ مِن الموالي؟ الضَّحَّاكُ بنُ مُزَاحِمٍ. قالَ: فَمِن العربِ أمْ مِن الموالي؟ الحسَنُ البَصْرِيُّ. قالَ: فَمِن العربِ أمْ مِن الموالي؟ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ. قالَ: فَمِن العربِ أمْ من الموالِي؟ ذِكْرُ ما وَرَدَ عنْ علماءِ السَّلَفِ في الْمُتَشَابِهِ قالَ في (الدُّرِّ المَنْثُورِ) أَخْرَجَ الحاكمُ وَصَحَّحَهُ، عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كَانَ الْكِتَابُ الأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ. (4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وَلَمَّا سَمِعَتْ قريشٌ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الرَّحمنَ أَنْكَرُوا ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}[الرعد:30]). فَلَمَّا
كَتَبَ الكاتِبُ (بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قالتْ قريشٌ: (أمَّا
الرَّحمنُ فَلاَ نَعْرِفُهُ) وكانَ أهلُ الجاهليَّةِ يَكْتُبُونَ باسْمِكَ
اللهُمَّ. وَرَوَى أيضًا عنْ مجاهدٍ قالَ: قَوْلُهُ {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ}[الرعد:30]، قالَ: (هَذا
لِمَا كَاتَبَ عَليْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قُرَيشًا في الْحُدَيْبِيَةِ، كَتَبَ: بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ. قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ}.
قالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء:110].
فإذا كانَ المشركونَ جَحَدُوا اسمًا منْ أسمائِهِ تَعَالَى، وهوَ من
الأسماءِ التي دَلَّتْ على كمالِهِ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، فَجُحُودُ
مَعْنَى هذا الاسمِ وَنَحْوِهِ من الأسماءِ يكونُ كذلكَ؛ فإنَّ جَهْمَ بنَ صَفْوَانَ وَمَنْ تَبِعَهُ يَزْعُمُونَ أنَّها لا تَدُلُّ على صفةٍ قائمةٍ باللهِ تَعَالَى.
وتَبِعَهُم على ذلكَ طوائفُ من المُعْتَزِلَةِ، والأشاعرةِ وغيرِهِم؛ فلهذا كَفَّرَهُم كَثِيرُونَ منْ أهلِ السُّنَّةِ، قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
وَاللاَّلْكَائِيُّ الإمامُ حَكَاهُ عنهم بــلْ حـَكـَاهُ قـَبــلـَهُ الــطَّبــَرانِي
فقالُوا: هذهِ الصفاتُ هيَ صفاتُ الأجسامِ، فَيَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهَا أنْ يكونَ اللهُ جِسْمًا،
فَتَرَكُوا ما دَلَّ عليهِ الكتابُ والسُّنَّةُ منْ إثباتِ ما وَصَفَ اللهُ
بهِ نفسَهُ، وَوَصَفَهُ بهِ رسولُهُ، على ما يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ
وَعَظَمَتِهِ، هذا هوَ الذي عليهِ سَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، فَإِنَّهُم
أَثْبَتُوا للهِ ما أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهُ لهُ رسولُهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا بلا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا
بلا تَعْطِيلٍ.
فإنَّ الكلامَ في الصفاتِ فَرْعٌ عن الكلامِ في الذَّاتِ
يَحْتَذِي حَذْوَهُ، فَكَمَا أنَّ هَؤُلاَءِ المُعَطِّلَةَ يُثْبِتُونَ
للهِ ذَاتًا لا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ ذلكَ،
وَيُثْبِتُونَ ما وَصَفَ اللهُ بهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ
مِنْ صفاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلاَلِهِ، لاَ تُشْبِهُ صِفَاتُهُ
صِفَاتِ خَلْقِهِ؛ فَإنَّهُم آمَنُوا بكتابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَنَاقَضُوا.
وَأُولَئِكَ المُعَطِّلَةُ كَفَرُوا بما في الكتابِ والسُّنَّةِ منْ ذلكَ،
فَتَنَاقَضُوا، فَبَطَلَ قولُ المُعَطِّلِينَ بالعقلِ والنقلِ -وللهِ
الحمدُ والمِنَّةُ- وإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ من الصحابةِ والتابعينَ
وتَابِعِيهِم، وَأَئِمَّةِ المسلمينَ.
وقدْ صَنَّفَ العلماءُ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى في الرَّدِّ على
الجَهْمِيَّةِ، والمُعَطِّلَةِ، والمُعْتَزِلَةِ، والأشاعرةِ وغيرِهِم، في
إبطالِ هذهِ البِدَعِ وما فيها من التناقُضِ والتَّهَافُتِ؛ كالإِمامِ
أحمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في رَدِّهِ المشهورِ.
وكتابِ (السُّنَّةِ) لابنِهِ عبدِ اللهِ.
وصاحبِ (الْحَيْدَةِ)عبدِ العزيزِ الْكِنَانِيِّ في رَدِّهِ على بِشْرٍ المِرِّيسِيِّ.
وكتابِ (السُّنَّةِ) لأبي عبدِ اللهِ الْمَرْوَزِيِّ، وَرَدِّ عُثْمَانَ بنِ سَعِيدٍ على الكافرِ العنيدِ، وهوَ بِشْرٌ المِرِّيسِيُّ.
وكتابِ (التوحيدِ) لإمامِ الأَئِمَّةِ مُحَمِّدِ بنِ خُزَيْمَةَ الشافعيِّ.
وكتابِ (السُّنَّةِ)لأبي بَكْرٍ الخَلاَّلِ، وأبي عثمانَ الصَّابُونِيِّ الشافعيِّ، وشيخِ الإِسلامِ الأَنْصَارِيِّ، وأبي عمرَ بنِ عبدِ البَرِّ النَّمَرِيِّ، وَخَلْقٍ كثيرٍ منْ أصحابِ الأَئِمَّةِ الأربعةِ وأتباعِهِم، وأهلِ الحديثِ.
ومنْ مُتَأَخِّرِيهِم أبو مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ قُدَامَةَ، وشيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ وَأَصْحَابُهُ، وَغَيْرُهُم، فللهِ الحمدُ والمِنَّةُ على بقاءِ السُّنَّةِ وَأَهْلِهَا معَ تَفَرُّقِ الأهواءِ وَتَشَعُّبِ الآراءِ، واللهُ أَعْلَمُ.
عَلِيٌّ: هوَ أميرُ المؤمنينَ أبو الحسنِ عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ، وأَحَدُ الخلفاءِ الراشدينَ.
وسَبَبُ هذا القولِ -واللهُ أَعْلَمُ- ما
حَدَثَ في خلافتِهِ منْ كَثْرَةِ إقبالِ الناسِ على الحديثِ وكَثْرَةِ
القُصَّاصِ وَأَهْلِ الوَعْظِ، فَيَأْتُونَ في قَصَصِهِم بأحاديثَ لا
تُعْرَفُ منْ هذا القبيلِ، فَرُبَّمَا اسْتَنْكَرَهَا بعضُ الناسِ
وَرَدَّهَا، وقدْ يَكُونُ لِبَعْضِهَا أَصْلٌ أوْ معنًى صَحِيحٌ، فَيَقَعُ
بَعْضُ المفاسدِ لذلكَ.
فَأَرْشَدَهُم أميرُ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى أنَّهُم لا
يُحَدِّثُونَ عامَّةَ الناسِ إلاَّ بِمَا هوَ معروفٌ، يَنْفَعُ الناسَ في
أصلِ دِينِهِم وَأَحْكَامِهِ؛ مِنْ بيانِ الحلالِ والحرامِ الذي كُلِّفُوا
بهِ عِلْمًا وَعَمَلاً، دونَ ما يَشْغَلُ عنْ ذلكَ مِمَّا قدْ يُؤَدِّي إلى
رَدِّ الحقِّ وعَدَمِ قَبُولِهِ فَيُفْضِي بهم إلى التكذيبِ، لا سِيَّمَا
معَ اختلافِ الناسِ في وَقْتِهِ، وَكَثْرَةِ خَوْضِهِم وَجَدَلِهِم.
وقدْ كانَ شَيْخُنَا المُصَنِّفُ
رَحِمَهُ اللهُ لا يُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ على الناسِ إلاَّ ما يَنْفَعُهُم
في أَصْلِ دِينِهِم، وَعِبَادَاتِهِم، ومُعَامَلاَتِهِم الذي لا غِنَى لهم
عنْ مَعْرِفَتِهِ، وَيَنْهَاهُم عن القراءةِ في مِثْلِ كُتُبِ ابنِ الجَوْزِيِّ؛(كالمُنْعِشِ)، و(المُرَعِّشِ)، و(التَّبْصِرَةِ)؛
لِمَا في ذلكَ من الإعراضِ عَمَّا هوَ أَوْجَبُ وَأَنْفَعُ، وفيها ما
اللهُ بهِ أَعْلَمُ مِمَّا لا يَنْبَغِي اعتقادُهُ، والمعصومُ مَنْ
عَصَمَهُ اللهُ.
وقدْ كانَ أميرُ المؤمنينَ مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سفيانَ يَنْهَى القُصَّاصَ عن القَصَصِ؛ لِمَا في قَصَصِهِم من الغرائبِ والتَّسَاهُلِ في النقلِ وغيرِ ذلكَ، وَيَقُولُ: (لا يَقُصَّ إلاَّ أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ).
وكلُّ هذا مُحَافَظَةٌ على لزومِ الثباتِ على الصراطِ المستقيمِ عِلْمًا
وعَمَلاً، وَنِيَّةً وَقَصْدًا، وَتْرَكُ كُلِّ ما كانَ وَسِيلَةً إلى
الخروجِ عنهُ من البِدَعِ وَوَسَائِلِهَا، واللهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ،
وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَى عبدُالرَّزَّاقِ) هوَ ابنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ المُحَدِّثُ، مُحَدِّثُ اليَمَنِ صاحبُ التصانيفِ، أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عنْ مَعْمَرِ بنِ رَاشِدٍ صاحبِ الزُّهْرِيِّ، وهوَ شيخُ عبدِ الرَّزَّاقِ يَرْوِي عنهُ كَثِيرًا.
ومَعْمَرٌ بِفَتْحِ المِيمَيْنِ وَسُكُونِ العَيْنِ، أبو عُرْوَةَ بنُ أبي عمرٍو راشدٍ الأَزْدِيُّ الحَرَّانِيُّ، ثمَّ اليَمَانِيُّ، أَحَدُ الأعلامِ منْ أصحابِ مُحَمَّدِ بنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، يَرْوِي عنهُ كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: (عن ابنِطَاوُسٍ) هوَ عبدُ اللهِ بنُ طاوسٍ اليَمَانيُّ.
قالَ مَعْمَرٌ: (كانَ منْ أَعْلَمِ الناسِ بالعربيَّةِ).
وقالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: (مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ).
قَوْلُهُ: (عنْ أبيهِ) هوَ طاوسُ بنُ كَيْسَانَ الْجَنَدِيُّ -بفتحِ الجيمِ والنونِ- الإمامُ العَلَمُ.
قالَ في (تهذيبِ الكمالِ) عن الوليدِ المُوَقَّرِيِّ، عن الزُّهْرِيِّ قالَ: (قَدِمْتُ على عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ قَدِمْتَ يا زُهْرِيُّ؟
قالَ: ومَنْ خَلَّفْتَ يَسُودُهَا وَأَهْلَهَا؟
قُلْتُ:
قُلْتُ: مِن الموالي.
قالَ: فَبِمَ سَادَهُم؟
قالَ: قُلْتُ: بالدِّيَانَةِ والروايَةِ.
قالَ: إنَّ أهلَ الديانةِ والروايَةِ ليَنْبَغِي أنْ يَسُودُوا.
قالَ: فَمَنْ يَسُودُ أهلَ اليَمَنِ؟
قلتُ:
قالَ: قُلْتُ: من الموالِي.
قالَ: فَبِمَ سَادَهُم؟
قُلْتُ: بِمَا سَادَ بهِ
قالَ: فَمَنْ يَسُودُ مِصْرَ؟
قُلْتُ:
قالَ: قُلْتُ: مِن المَوَالِي.
قالَ: فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ الشامِ؟
قُلْتُ:
قُلْتُ: من الموالي؛ عبدٌ نُوبِيٌّ أَعْتَقَتْهُ امرأةٌ منْ هُذَيْلٍ.
قالَ: فَمَنْ يَسُودُ أهلَ الجزيرةِ؟
قُلْتُ:
قالَ: قُلْتُ: مِن الموالي.
قالَ: فَمَنْ يَسُودُ أَهْلَ خُرَاسَانَ؟
قالَ: قُلْتُ:
قُلْتُ: مِن الموالي.
قالَ: فمَنْ يَسُودُ أهلَ البَصْرَةِ؟
قالَ: قُلْتُ:
قُلْتُ: من الموالِي.
قالَ: وَيْلَكَ، ومَنْ يَسُودُ أَهْلَ الكوفةِ؟
قالَ: قُلْتُ:
قالَ: قُلْتُ: من العرب.
قالَ: وَيْلَكَ يا زُهْرِيُّ، فَرَّجْتَ عَنِّي، واللهِ لَتَسُودَنَّ
المَوَالِي على العربِ في هذا البلدِ حتَّى يُخْطَبَ لها على المنابرِ
والعَرَبُ تَحْتَهَا.
قالَ: قُلْتُ: يا أميرَ المؤمنِينَ، إِنَّمَا هوَ دِينٌ، مَنْ حَفِظَهُ سَادَ، ومَنْ ضَيَّعَهُ سَقَطَ).
قَوْلُهُ: (عن ابنِ عَبَّاسٍ) قدْ تَقَدَّمَ، وهوَ حَبْرُ الأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ القرآنِ، وَدَعَا لهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: ((اللهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأوِيلَ)).
وَرَوَى عنهُ أصحابُهُ أَئِمَّةُ التفسيرِ كَمُجَاهِدٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ، وَطَاوُسٍ، وَغَيْرِهِم.
قَوْلُهُ: (مَا فَرَقُ هَؤُلاءِ) يَسْتَفْهِمُ منْ أصحابِهِ،
يُشِيرُ إلى أُنَاسٍ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ منْ عامَّةِ الناسِ، فإذا
سَمِعُوا شيئًا منْ مُحْكَمِ القرآنِ وَمَعْنَاهُ حَصَلَ معهم فَرَقٌ؛
أيْ: خَوْفٌ، فإذا سَمِعُوا شَيْئًا منْ أحاديثِ الصفاتِ انْتَفَضُوا
كالمُنْكِرِينَ لهُ، فَلَمْ يَحْصُلْ منهم الإيمانُ الواجبُ الذي
أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى على عبادِهِ المؤمنينَ.
قالَ الذهبيُّ: (حَدَّثَ وَكِيعٌ عنْ إسرائيلَ بِحَدِيثِ:((إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عَلَى الْكُرْسِيِّ)) فَاقْشَعَرَّ رَجُلٌ عندَ وكيعٍ، فَغَضِبَ وَكِيعٌ.
وقالَ: أَدْرَكْنَا الأعمشَ، وسُفْيَانَ، يُحَدِّثُونَ بهذهِ الأحاديثِ ولا يُنْكِرُونَهَا، أَخْرَجَهُ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ في كتابِ (الرَّدِّ على الجَهْمِيَّةِ)).
ورُبَّمَا حَصَلَ معهم مِنْ عَدَمِ تَلَقِّيهِ بالقبولِ تَرْكُ ما وَجَبَ
من الإيمانِ بهِ، فَتُشْبِهُ حَالُهُم حالَ مَنْ قالَ اللهُ فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة:85].
فَلاَ يَسْلَمُ من الكفرِ إلاَّ مَنْ عَمِلَ بما وَجَبَ عليهِ في ذلكَ في
الإيمانِ بِكِتَابِ اللهِ كُلِّهِ وَاليقِينِ، كما قالَ تَعَالَى: {هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}[آل عِمْرَانَ:7].
فهؤلاءِ الذينَ ذَكَرَهُم ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُما تَرَكُوا ما وَجَبَ عليهم من الإيمانِ بما لمْ يَعْرِفُوا
مَعْنَاهُ من القرآنِ، وهوَ حَقٌّ لا يَرْتَابُ فيهِ مُؤْمِنٌ.
وبعضُهُم يَفْهَمُ منهُ غيرَ المرادِ من المَعْنَى الذي أَرَادَ اللهُ،
فَيَحْمِلُهُ على غيرِ مَعْنَاهُ، كَمَا جَرَى لأهلِ البِدَعِ؛ كالخوارجِ، والرافضةِ، والقدريَّةِ، وَنَحْوِهِم مِمَّنْ يَتَأَوَّلُ بعضَ آياتِ القرآنِ على بِدْعَتِهِ.
وقدْ وَقَعَ منهم ما وَقَعَ من الابتداعِ والخروجِ عن الصراطِ المستقيم،
فإنَّ الواقعَ منْ أهلِ البِدَعِ وَتَحْرِيفِهِم لِمَعْنَى الآياتِ
يُبَيِّنُ مَعْنَى قولِ ابنِعَبَّاسٍ.
وسببُ هذهِ البِدَعِ جَهْلُ أَهْلِهَا وَقُصُورُهُم في الفَهْمِ، وعَدَمُ
أخذِ العلومِ الشرعيَّةِ على وَجْهِهَا وَتَلَقِّيهَا منْ أهلِهَا
العارفِينَ لِمَعْنَاهَا؛ الذينَ وَفَّقَهُم اللهُ تَعَالَى لمعرفةِ
المرادِ والتوفيقِ بينَ النصوصِ، والقطعِ بأنَّ بَعْضَهَا لا يُخَالِفُ
بَعْضًا، وَرَدِّ المُتَشَابِهِ إلى المُحْكَمِ. وهذهِ طريقةُ أهلِ
السُّنَّةِ والجماعةِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ فَلِلَّهِ الحمدُ لا نُحْصِي
ثناءً عليهِ.
عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَجْرٍ، وَأَمْرٍ، وَحَلاَلٍ، وَحَرَامٍ، ومُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ.
فَأَحِلُّوا حَلاَلَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ.
وَافْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ.
وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بُمُتَشَابِهِهِ.
وَقُولُوا: آمَنَّا بِهِ؛ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)).
قالَ: وَأَخْرَجَ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ عنْ قَتَادَةَ في قَوْلِهِ تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، قَالَ: طَلَبَ القومُ التأويلَ، فَأَخْطَأُوا التأويلَ وَأَصَابُوا الفتنةَ، وَطَلَبُوا ما تَشَابَهَ منهُ فَهَلَكُوا بينَ ذلكَ.
وَأَخْرَجَ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ وابنُ جَرِيرٍ وابنُ أبي حاتمٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ في قَوْلِهِ: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}، قالَ: (مِنْ هُنَا{قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام:151-153] إلى ثلاثِ آياتٍ. وَمِنْ هُنَا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء:23-39]ثلاثُ آياتٍ بعدَها).
وأَخْرَجَ ابنُ جَرِيرٍ مِنْ طريقِ أبي مالكٍ، عنْ أبي صالحٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، وعنْ مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ وَنَاسٍ من الصحابةِ: (المُحْكَمَاتُ: النَّاسِخَاتُ التي يُعْمَلُ بِهِنَّ، والمُتَشَابِهَاتُ: المَنْسُوخَاتُ).
وأَخْرَجَ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ وابنُ جَرِيرٍ وابنُ أبي حاتمٍ عنْ إسحاقَ بنِ سُوَيْدٍ، أنَّ يَحْيَى بنَ يَعْمَرَ وَأَبَا فَاخِتَةَ تَرَاجَعَا هذهِ الآيَةَ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} فَقَالَ أبو فَاخِتَةَ: (هُنَّ فَواتِحُ السُّوَرِ، منها يُسْتَخْرَجُ القُرْآنُ: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} منها اسْتُخْرِجَت البقرةُ: {الم(1) اللهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} منها اسْتُخْرِجَتْ آلُ عِمْرَانَ).
وقالَ يَحْيَى: (هُنَّ اللاَّتِي فيهِنَّ الفرائضُ والأمرُ والنهيُ والحلالُ والحدودُ وعِمَادُ الدينِ).
وَأَخْرَجَ ابنُ جَرِيرٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ قالَ: (المُحْكَمَاتُ
حُجَّةُ الرَّبِّ، وعِصْمةُ العِبَادِ، ودَفْعُ الخصومِ والباطلِ، وليسَ
فيها تصريفٌ ولا تحريفٌ عَمَّا وُضِعَتْ عليهِ.
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
في الصِّدْقِ، لَهُنَّ تصريفٌ وتحريفٌ وتأويلٌ، ابْتَلَى اللهُ فيهِنَّ
العبادَ كما ابْتَلاَهُم في الحلالِ والحرامِ، لا يُصْرَفْنَ إلى الباطلِ،
ولا يُحَرَّفْنَ عن الحقِّ).
وَأَخْرَجَ ابنُ أبي حاتمٍ عنْ مُقَاتلِ بنِ حَيَّانَ: (إِنَّمَا قالَ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}؛ لأنَّهُ ليسَ منْ أهلِ دينٍ لا يَرْضَى بِهِنَّ.
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يَعْنِي فيمَا بَلَغَنَا: {الم} و{المص} و{المر}).
قُلْتُ: وليسَ في هذهِ الآثارِ وَنَحْوِهَا ما يُشْعِرُ بأنَّ أسماءَ اللهِ
تَعَالَى وصفاتِهِ من المُتَشَابِهِ، وَمَا قالَهُ النُّفَاةُ منْ أنَّهَا
من المُتَشَابِهِ دَعْوَى بلا بُرْهَانٍ).
رَوَى ابنُ جَرِيرٍ عنْ قتادةَ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}ذُكِرَ لنا أنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ حينَ صَالَحَ قُرَيْشًا كَتَبَ: ((هَذَا مَا صَالَحَ عَليهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
فَقَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ: (لَئِنْ كُنْتَ رسولَ اللهِ ثُمَّ
قَاتَلْنَاكَ لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ، وَلكِن اكتُبْ: هذا ما صَالَحَ عَلَيهِ
مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ)
فَقَالَ أَصحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعْنَا يَا رَسولَ اللهِ نُقَاتِلْهُم)
فَقَالَ: ((لاَ، اكْتُبُوا كَمَا يُرِيدُونَ: إِنِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ))
فقالَ أصحابُهُ: (يا رسولَ اللهِ، دَعْنَا نُقاتِلْهُم) قالَ: ((لاَ، وَلكِنِ اكْتُبُوا كَمَا يُرِيدُونَ)).
قالُوا: لا تَكْتُب الرَّحْمَنَ؛ لا نَدْرِي ما الرَّحمنُ؟
لاَ نَكْتُبُ إِلاَّ بِاسْمِكَ اللهُمّ).
ورَوَى أيضًا عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو سَاجِدًا: ((يَا رَحْمَنُ، يَا رَحِيمُ)).
فَقَالَ المُشْرِكُونَ: هذا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو واحِدًا وَهُو يَدْعُو مَثْنَى مَثْنَى.
فَأَنْزَلَ اللهُ: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الآيَةَ [الإسراء:110].
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)
أصلُ الإِيمانِ وقاعِدَتُه التي ينْبَنِي عليها هو الإِيمانُ باللهِ، وبأسمائِه، وصفاتِه.
وكُلَّمَا قَوِيَ
عِلْمُ العبدِ بذلك وإيمانُه به، وَتَعَبَّدَ للهِ بذلك، قَوِيَ توحيدُه،
فإذا عَلِمَ أنَّ اللهَ مُتَوَحِّدٌ بصفاتِ الكمالِ مُتَفَرِّدٌ بالعظمةِ
والجلالِ والجمالِ ليسَ له في كمالِه مثيلٌ، أَوْجَبَ له ذلك أنْ يَعْرِفَ
ويتحقَّقَ أنه هو الإِلهُ الحقُّ، وأنَّ إلهيَّةَ ما سواه باطِلَةٌ، فَمَنْ جَحَدَ شيئًا مِن أسماءِ اللهِ وصفاتِه فقدْ أَتَى بما يُنَاقِضُ التوحيدَ وينافيه، وَذلك من شُعَبِ الكُفرِ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
الجحدُ: هو الإنكارُ.
والإنكارُ نوعانِ: الأوَّلُ: إنكارُ تكذيبٍ. وهذا كفرٌ بلا شكٍّ،
فلوْ أنَّ أحداً أنكرَ اسماً مِنْ أسماءِ اللهِ، أو صِفَةً مِنْ صفاتِهِ
الثابتةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ، مثلَ أنْ يقولَ: ليسَ للهِ يدٌ، أو أنَّ
اللهَ لم يَسْتَوِ على عرشِهِ، أو ليسَ له عينٌ فهوَ كافرٌ بإجماعِ
المسلمينَ؛ لأنَّ تكذيبَ خبرِ اللهِ ورسولِهِ كفرٌ مخرِجٌ عن الملَّةِ
بالإجماعِ. الثاني: إنكارُ تأويلٍ، وهو أنْ لا يُنْكِرَهَا ولكنْ يتأوَّلُها إلى معنًى يخالِفُ ظاهرَهَا وهذا نوعانِ: أحدهما: أنْ يكونَ للتأويلِ مسوِّغٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ فهذا لا يُوجِبُ الكفرَ. والآخر: أنْ لا يكونَ له مسوِّغٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ، فهذا حُكْمُهُ الكفرُ؛ لأنَّه إذا لم يكنْ له مسوِّغٌ صارَ في الحقيقةِ تكذيباً، مثلَ أنْ يقولَ المرادُ بقولِهِ تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} تجري بأَراضِينَا، فهذا كافِرٌ؛ لأنَّه نَفَاهَا نفياً مطلَقاً، فهو مُكذِّبٌ. وَكَمْ لِظَلامِ الليلِ عندَك من يدٍ تُحـَدِّثُ أنَّ الـمـَانـَوِيَّةَ تـَكْذِبُ فقولُه: (مِنْ يدٍ) أيْ: مِنْ نعمةٍ؛ لأنَّ المانويَّةَ يقولونَ: إنَّ الظُّلمةَ لا تخلُقُ الخيرَ، وإنَّما تخلُقُ الشرَّ. ((مِنَ الأسماءِ))جمعُ اسمٍ واختُلِفَ في اشتقاقِهِ: فقيلَ: مِنَ السُّمُوِّ وهو الارتفاعُ، ووجهُ هذا أنَّ المسمَّى يرتفعُ باسمِهِ ويتبيَّنُ ويظهرُ. وقيلَ: مِنَ السِّمَةِ وهي العلامةُ، ووجهُه: أنَّه علامةٌ على مسمَّاهُ، والراجحُ أنَّه مشتَقٌّ مِنْ كِلَيْهِمَا.
الثاني: أنْ تكونَ في وقتِ قَبولِ التوبةِ، وذلكَ قَبلَ طلوعِ الشمسِ من مغربِهَا، وقبلَ حضورِ الموتِ. (3) قولُه في أثرِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنْه: ((حدِّثُوا الناسَ)) أيْ: كلِّموهُم بالمواعِظِ وغيرِ المواعظِ. ظاهِرةٌ؛ لأنَّ بعضَ الصفاتِ لا تحتملُها أفهامُ العامةِ، فيمكنُ إذا حدَّثْتَهُمْ بها كانَ لذلكَ أثرٌ سيئٌ عليهِمْ، كحديثِ النزولِ إلى السماءِ الدنيا مع ثبوتِ العلوِّ، فلوْ
حدَّثْتَ العامَّةَ بأنَّه ينزِلُ إلى السماءِ الدنيا بذاتِهِ مع علوِّهِ
على عرشِهِ، فقدْ يَفْهَمُ أنَّه إذا نزلَ صارَت السماواتُ فوقَه وصارَ
العرشُ خالياً منهُ، وحينئذٍ لا بدَّ في هذا مِنْ حديثٍ تبلغُهُ عقولهُمْ،
فتبيِّنُ لهمْ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ نزولاً لا يماثِلُ نزولَ
المخلوقينَ مع علوِّهِ على عرشِهِ، وأنَّه لكمالِ فضلِهِ ورحمتِهِ يقولُ: ((مَنْ يَدعونِي فأَسْتَجيبَ لهُ..)) الحديثَ. (4) قولُه في أثرِ ابنِ عبَّاسٍ: (انتَفَضَ)
أيْ: اهتزَّ جسمُه، والرجلُ مُبْهَمٌ، والصفةُ التي حُدِّثَ بها لم
تُبَيَّنْ، وبيانُ ذلكَ ليسَ مهمّاً، وهذا الرجلُ انتفضَ استنكاراً لهذهِ
الصفةِ، لا تعظيماً للهِ، وهذا أمرٌ عظيمٌ صعبٌ؛ لأنَّ الواجبَ على المرءِ
إذا صحَّ عندَهُ شيءٌ عَن اللهِ ورسولِهِ أنْ يُقِرَّ بهِ ويُصدِّقَ؛
ليكونَ طريقُهُ طريقَ الراسخينَ في العلمِ، حتى وإنْ لم يسمعْهُ مِنْ قبلُ
أو يتصوَّرْهُ. والمتشابهُ: هو الذي يَخْفَى معناهُ، فلا
يعلَمُهُ الناسُ، وهذا إذا جُمِعَ بينَ المحكمِ والمتشابهِ، وأمَّا إذا
ذُكِر المحكمُ مفرداً دونَ المتشابهِ فمعناه المُتْقَنُ الذي ليسَ فيه
خَلَلٌ، لا كذِبَ في أخبارِهِ ولا جَوْرَ في أحكامِهِ، قالَ تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}. والتشابهُ نوعانِ: تشابهٌ نسبيٌّ، وتشابهٌ مطلَقٌ. والفرقُ بينَهما: أنَّ المطلقَ يخفَى على كلِّ أحدٍ. والنِّسبيَّ يخفَى على أحدٍ دونَ أحدٍ، وبناءً على هذا التقسيمِ ينبني الوقفُ على قولِهِ تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فعلى الوقفِ على{إلاَّ اللهُ} يكونُ المرادُ بالمتشابهِ التشابهَ المطلقَ، وعلى الوصلِ {إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يكونُ المرادُ بالمتشابهِ المتشابهَ النسبيَّ، وللسلفِ في ذلكَ قولانِ:
قال في (فتح المجيد) ص480:(بعدما
سرد الآثار الواردة عن السلف في المتشابه: قال: قلت: وليس في هذه الآثار
ونحوها ما يُشعر بأن الأسماء والصفات من المتشابه، وما قاله النفاةُ: من
أنها من المتشابه، دعوى بلا برهان) (5) قولُه: ((وَلَمَّا سمِعتْ قُريشٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَذْكُرُ الرَّحمنَ)) أصلُ ذلكَ أنَّ سُهَيْلَ بنَ عمرٍو،
أحدَ الذينَ أرسلتْهُمْ قريشٌ لمفاوضةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
في صلحِ الحديبيَّةِ، وأمرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ
يَكْتُبَ (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ). وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ مَنْ أنكرَ اسماً مِنْ أسماءِ اللهِ الثابتةِ في الكتابِ أو السُّنَّةِ فهو كافرٌ؛ لقولِهِ تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ}. (6) فيهِ مَسائِلُ: الأُولَى: (عَدَمُ الإيمانِ بِجَحدِ شيءٍ منَ الأسماءِ والصِّفاتِ) (عدمُ) بمعنى انتفاءٍ أي: انتفاءُ الإيمانِ بسببِ جحْدِ شيءٍ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ، وسبقَ التفصيلُ في ذلكَ. (7) الثانيةُ: (تفسيرُ آيةِ الرَّعدِ) وهيَ قولُه تعالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ} وسبقَ تفسيرُهَا. (8) الثالثةُ: (تَرْكُ التَّحديثِ بِما لا يَفْهَمُ السَّامعُ) وهذا ليسَ على إطلاقِهِ، وقدْ سبقَ التفصيلُ فيهِ عندَ شرحِ الأثرِ. (9) الرابعةُ: (ذكْرُ العِلَّةِ أَنَّهُ يُفضِي إِلى تَكذيبِ اللهِ ورسولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدِ المُنْكِرُ)
وهي أنَّ الذي لا يبلُغُ عقلُهُ ما حُدِّثَ بهِ يُفْضِي به التحديثُ إلى
تكذيبِ اللهِ ورسولِهِ، فيُكَذِّبُ ويقولُ: هذا غيرُ ممكنٍ، وهذا يوجَدُ من
بعضِ الناسِ في أشياءَ كثيرةٍ مما أخبرَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ مما يكونُ يومَ القيامةِ، كما أخبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ: ((أنَّ الأرضَ يَوْمَ القِيامةِ تكون خُبْزةً واحدةً يَتكَفَّؤُها الجبَّارُ بِيَدِهِ كَما يَتَكَفَّأُ أحدُكم خُبزَتَه))
وما أشبهَ ذلكَ، وكمَا أنَّ الصِّراطَ أحدُّ مِنَ السيفِ وأدقُّ مِنَ
الشعرةِ، وغيرُ هذهِ الأمورِ لوْ حدَّثَنا بها إنساناً عامِّيًّا لأوشكَ
أنْ يُنكِرَ، لكنْ يجبُ أنْ تُبَيِّنَ له بالتدريجِ حتَّى يتمكَّنَ مِنْ
عَقْلِها مثْلَمَا نعلِّمُ الصبيَّ شيئاً فشيئاً. (10) الخامسةُ: ((كلامُ ابْنِ عبَّاسٍ لِمَن اسْتَنْكَرَ شَيئاً مِنْ ذلِكَ وأَنَّهُ أَهْلَكَهُ)) وذلكَ قولُه: ((ما فَرَّقَ هؤلاءِ؟ يَجِدونَ رِقَّةً - أي لِيناً- عند مُحْكَمِهِ -فيَقْبَلونَهُ- ويَهْلِكُونَ عِنْدَ متشابِهِهِ)) فينكرونَهُ.
ولو قالَ في قولِهِ تعالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}
المرادُ بيديهِ السمواتُ والأرضُ، فهو كُفْرٌ أيضاً؛ لأنَّه لا مسوِّغَ له
في اللُّغةِ العربيَّةِ، ولا هوَ مُقْتَضَى الحقيقةِ الشرعيَّةِ فهو
منكِرٌ ومكذِّبٌ، لكنْ إنْ قالَ: المرادُ باليدِ النِّعْمةُ أو القوَّةُ
فلا يُكَفَّرُ؛ لأنَّ اليدَ في اللُّغةِ تطلَقُ بمعنى النعمةِ، قالَ
الشاعرُ:
قولُه:
والمرادُ بالأسماءِ -هنا-: أسماءُ
اللهِ عزَّ وجلَّ، وبالصفاتِ صفاتُ اللهِ عزَّ وجلَّ، والفرقُ بينَ الاسمِ
والصفةِ أنَّ الاسمَ ما تَسَمَّى بهِ اللهُ، والصفةَ: ما اتَّصَفَ بهِ،
وأحسن من هذا أن يقال: إن الاسم ما دل على الذات، والصفة ما دل على معنى
قائم بالذات (2)
قولُه تعالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ} الآيةَ: {وَهُمْ} أيْ: كُفَّارُ قُريشٍ.
{يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ} المرادُ: أنَّهمْ يكفرونَ بهذا الاسمِ لا بالمسمَّى، فهمْ يُقِرُّونَ بهِ، قالَ تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} وفي حديثِ سُهَيْلِ بنِ عمرٍو: (لَمَّا
أرادَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ أنْ يَكْتُبَ الصُّلْحَ في
غَزْوَةِ الحُدَيبِيَّةِ قالَ للكاتبِ: اكْتُبْ: (بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ
الرَّحيمِ).
قالَ سُهيلٌ: أمَّا الرحمَنُ، فَواللهِ ما أَدْرِي مَا هي؟
ولكنْ اكْتُبْ: (باسمِك اللهُمَّ).
وهذا مِنَ الأمثلةِ التي يُرادُ به الاسمُ دونَ المسمَّى).
وقدْ قالَ تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
أيْ: بأيِّ اسمٍ مِنْ أسمائِه تدعونَهُ فإنَّ لَهُ الأسماءَ الحسنَى فكلُّ
أسمائِهِ حُسنَى فادعُوا بما شِئْتمْ مِنَ الأسماءِ، ويُرادُ بهذهِ الآيةِ
الإنكارُ على قريشٍ.
وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ مَنْ أنكرَ اسماً مِنْ أسمائِهِ تعالى فإنَّه يَكْفُرُ؛ لقولِهِ تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ} ولأنَّه مكذِّبٌ للهِ ولرسولِهِ وهذا كُفرٌ، وهذا وجهُ استشهادِ المؤلِّفِ بهذه الآيةِ.
قولُه: {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} خبرُ (لا) النافيةِ للجنسِ محذوفٌ، والتقديرُ: لا إلهَ حقٌّ إلا هوَ، وأمَّا الإلهُ الباطِلُ فكثيرٌ، قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ}.
قولُه: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}
أيْ: عليهِ وحدَه؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يدلُّ على الحصرِ، فإذا قلتَ
مثلاً: (ضرَبْتُ زيداً) فإنَّه يدلُّ على أنَّكَ ضرَبْتَهُ، ولكنْ لا يدلُّ
على أنَّكَ لم تضرِبْ غيرَه، وإذا قلتَ: (زيداً ضربتُ) دلَّتْ على أنَّكَ ضربتَ زيداً ولم تضرِبْ غيرَه، وسبَقَ معنى التوَكُّلِ وأحكامُه.
قولُه: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أيْ: إلى اللهِ، و{متاب} أصلُها متابي، فحُذِفَت الياءُ تخفيفاً، والمتابُ بمعنى: التوبةِ، فهو مصدرٌ مِيميٌّ، أيْ: وإليهِ تَوْبَتِي.
والتوبةُ: هي الرُّجوعُ إلى اللهِ تعالَى مِنَ المعصيَةِ إلى الطاعةِ، ولها شروطٌ خمْسةٌ:
الثالث: الندمُ على ما مضى مِنْ فِعْلِه، وذلكَ بأنْ يَشْعُرَ بالتحسُّرِ على ما سبقَ ويتمنَّى أنَّه لمْ يكنْ.
الرابع: الإقلاعُ عَنِ الذنبِ، وعلى هذا فإذا كانت التوبةُ مِنْ مظالمِ الخلْقِ فلا بُدَّ مِنْ ردِّ المظالمِ إلى أهلِهِا واستحلالِهِم منْها.
الخامس: العزمُ على عدمِ العودةِ، والتوبةُ
التي لا تكونُ إلا للهِ هي توبةُ العبادةِ، كما في الآيةِ السابقةِ،
وأمَّا التوبةُ التي بمعنى الرجوعِ فإنها تكونُ له ولغيرِه، ومنهُ قولُ عائشةَحينَ جاءَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فوجَدَ نُمْرُقةً فيها صورٌ، فوقفَ بالبابِ ولمْ يدخُلْ وقالتْ:(أتوبُ إلى اللهِ ورسولِهِ، ما أَذْنَبْتُ)
فليسَ المرادُ بالتوبةِ هنا توبةَ العبادةِ؛ لأنَّ توبةَ العبادةِ لا
تكونُ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولا لغيرِهِ مِنَ الخلقِ، بل
للهِ وحدَه، ولكنْ هذهِ توبةُ رجوعٍ، ومِنْ ذلكَ أيضاً حينَ يَضْرِبُ
الإنسانُ ابنَهُ لسوءِ أدبِهِ، يقولُ الابنُ: أتوبُ.
قولُه: ((بِما يَعْرِفونَ)) أيْ: بما يُمكنُ أنْ يَعْرِفوه وتَبْلُغَهُ عقولُهُمْ حتى لا يُفتَنوا، ولهذا جاءَ عَن ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: (إنَّكَ لَنْ تُحدِّثَ قوْماً حَديثاً لا تبلُغُه عقولهُمْ إلا كانَ لبعضِهِم فتنةً)
ولهذا كانَ مِنَ الحكمةِ في الدعوةِ ألاَّ تُباغِتَ الناسَ بما لا
يُمكِنُهم إدراكُه، بل تَدْعُونَهُم رُوَيْداً رُوَيْداً حتّى تستقِرَّ
عُقولُهم، ولَيسَ مَعنى ((بِما يَعرِفون)) أيْ: بما يعرفونَهُ مِنْ قبلُ؛ لأنَّ الذيْ يعرفونَهُ مِنْ قبلُ يكونُ التحديثُ بهِ تحصيلَ الحاصلِ.
قال في (فتح المجيد) ص476: (وقد كان شيخنا المصنف ـ
رحمه الله ـ لا يُحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم
وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في
مثل كتب ابن الجوزي (كالمنعش) و(المرعش) و(التبصرة) لما في ذلك من الإعراض عمّا هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده ـ والمعصوم من عصمه الله) .
قولُه: ((أتريدونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُهُ)) الاستفهامُ للإنكارِ، أيْ: أتريدونَ إذا حدّثْتُم الناسَ بما لا يعرفونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه؟
لأنكَ إذا قلتَ: قالَ اللهُ وقالَ رسولُه كذا وكذا، قالوا: هذا كذبٌ إذا
كانتْ عقولهُم لا تبلُغُهُ، وهمْ لا يُكذِّبونَ اللهَ ورسولَه، ولكنْ
يكذِّبونكَ بحديثٍ تَنْسِبُهُ إلى اللهِ ورسولِهِ، فيكونونَ مكذِّبينَ للهِ
ورسولِهِ لا مباشرةً، ولكنْ بواسطةِ الناقلِ.
فإنْ قيلَ: هل نَدَعُ الحديثَ بما لا تبلُغُهُ عقولُ الناسِ وإن كانوا محتاجين لذلك؟
أُجِيبَ: لا ندعُهُ،
ولكنْ نُحدِّثُهُمْ بطريقٍ تبلُغُهُ عقولُهُمْ، وذلكَ بأنْ نَنْقُلَهُمْ
رُوَيْداً رُوَيْداً حتى يتقبَّلوا هذا الحديثَ ويَطْمَئِنُّوا إليهِ، ولا
ندعُ مالا تبلُغُه عقولهُم ونقولُ: هذا شيءٌ مُسْتَنْكَرٌ لا نَتَكلَّمُ
بِهِ.
ومثلَ ذلكَ العملُ بالسُّنةِ التي لا يَعْتَادُها الناسُ
ويَسْتَنْكِرُونها، فإنَّنا نعملُ بها ولكنْ بعدَ أنْ نُخْبِرَهم بها؛
حتَّى تَقْبَلَها نفوسُهُم ويطمَئِنُّوا إليها.
مناسبةُ هذا الأثرِ لبابِ الصفاتِ:
والعامِّيُّ يكفيهِ أنْ يتصوَّرَ مُطلقَ المعنى، وأنَّ المرادَ بذلكَ بيانُ فضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ في هذهِ الساعةِ مِنَ الليلِ.
قولُه: (ما فرق) فيها: ثلاثُ رواياتٍ:
الأولى: (فَرَقُ) بفتحِ الرَّاءِ وضَمِّ القافِ.
الثانية: (فَرَّقَ) بتشديدِ الرَّاءِ وفتحِ القافِ.
الثالثة: (فَرَقَ) بفتحِ الراءِ مخَفَّفَةً وفتحِ القافِ.
فعلى روايةِ (فَرَقُ) تكونُ (ما) استفهاميَّةً مبتدأً، و(فَرَقُ)
خبرُ المبتدأِ، أيْ: ما خوْفُ هؤلاءِ من إثباتِ الصفةِ التي تُلِيَتْ
عليهمْ وبلغَتْهُمْ، لماذا لا يُثبتونها للهِ عزَّ وجلَّ كما أثبتَها اللهُ
لنفسِهِ وأثبتَها لهُ رسولُه؟
وهذا يَنْصَبُّ تماماً على أهلِ التَّعْطِيلِ والتَّحْريفِ الذينَ ينكِرونَ
الصفاتِ، فما الذي يخوِّفُهُمْ من إثباتِهَا، واللهُ تعالى قدْ أثبتَها
لنفسِهِ.
وعلى روايةِ: (فرَّقَ أو فَرَقَ) تكونُ فِعْلاً ماضياً بمعنى: ما فرَّقهم كقولِهِ تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ}
أي: فرَّقْنَاه و(ما) يُحتملُ أنْ تكونَ نافيةً، والمعنى: ما فرَّقَ
هؤلاءِ بينَ الحقِّ والباطلِ، فجَعَلُوا هذا مِنَ المُتَشَابِهِ وأنكروهُ
ولم يحملوهُ على المُحْكَمِ، ويُحتملُ أنْ تكونَ استفهاميَّةً والمعنى:
أيُّ شيءٍ فرَّقهمْ فجعلَهُمْ يؤمنونَ بالْمُحْكَمَ ويَهْلِكُونَ عِنْدَ
المتشابهِ؟
قولُه: ((يَجدونَ رِقَّةً عِندَ مُحْكَمِهِ)) الرِّقةُ: اللِّينُ والقبولُ، و(مُحْكَمِهِ) أي: محكمِ القرآنِ.
قولُه: ((ويَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتشابِهِهِ)) أي: مُتَشَابِهِ القرآنِ.
والمُحْكَمُ: الذي اتَّضَحَ معناهُ وتبيَّنَ.
وقدْ ذكرَ اللهُ الإحكامَ في القرآنِ دونَ المتشابهِ وذلكَ مثلَ قولِهِ تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} وقالَ تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}.
وإذا ذُكِر المتشابهُ دونَ المحكمِ صارَ المعنى أنَّه يُشبهُ بعضُهُ بعضاً
في جودتِهِ وكمالِهِ، ويُصَدِّقُ بعضُه بعضاً ولا يتناقَضُ، قالَ تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ}.
والقولُ الثاني: بالوصلِ فيُقرأُ: {إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}
وعلى هذا فالمرادُ بالمتشابهِ المتشابهُ النسبيُّ وهذا يعلَمُهُ الراسخونَ
في العلمِ ويكونُ عندَ غيرِهم متشابهاً، ولهذا يُرْوَى عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ قالَ: (أَنا مِنَ الرَّاسخين في العِلْمِ الذينَ يعلمونَ تأويلَهُ)
ولم يقلْ هذا مَدْحاً لنفسِهِ أو ثناءً عليها، ولكنْ ليَعْلَمَ الناسُ
أنَّه ليسَ في كتابِ اللهِ شيءٌ لا يُعْرَفُ معناه، فالقرآنُ معانيهِ
كلُّها بيِّنَةٌ، لكنَّ بعضَ القرآنِ يشتبِهُ على ناسٍ دونَ آخرينَ، حتى
العلماءُ الراسخونُ في العلمِ يختلفونَ في معنى القرآنِ، وهذا يدلُّ على
أنَّه خَفِيَ على بعضِهم، والصوابُ بلا شكٍّ مع أحدِهم إذا كانَ
اختلافُهُمْ اختلافَ تضادٍّ لا تنوُّعٍ، أمَّا إذا كانت الآيةُ تحتملُ
المعنيينِ جميعاً بلا منافاةٍ ولا مُرَجِّحٍ لأحدِهِما فإنَّها تُحْمَلُ
عليْهِما جميعاً.
فقالَ: أَمَّا الرحمنُ فلا واللهِ ما أدريْ ما هي؟
وقالُوا: إنَّنا لا نعرِفُ رَحْماناً إلا رحمنَ اليَمامةِ، فأنكرُوا الاسمَ دونَ المسمَّى.
فأنزلَ اللهُ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ}) أيْ: بهذا الاسمِ مِنْ أسماءِ اللهِ.
وقولُه: (وَلَمَّا سمِعَتْ قريشٌ) الظاهِرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّه مِنْ بابِ العامِّ الذي أُريدَ بهِ الخاصُّ، وليسَ كلُّ قريشٍ
تُنْكِرُ ذلكَ بلْ طائفةٌ منهم، ولكنْ إذا أقَرَّت الأمَّةُ الطائفةَ على
ذلكَ ولمْ تُنكِرْ صحَّ أنْ يُنسَبَ لهم جميعاً، بلْ إنَّ اللهَ نسبَ إلى
اليهودِ في زمنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما فعلَهُ أسلافُهُمْ
في زمنِ موسى عليهِ السلامُ، قالَ تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} وهذا لمْ يكنْ في عهدِ المخاطَبِينَ.
وقولُه: ((وَلَوْ لَمْ يَتَعَمَّدِ المنْكِرُ))
أيْ: ولوْ لمْ يقصِد المنكِرُ تكذيبَ اللهِ ورسولِهِ، ولكنْ كذَّبَ نسبةَ
هذا الشيءِ إلى اللهِ ورسولِهِ، وهذا يعودُ بالتالي إلى ردِّ خبرِ اللهِ
ورسولِهِ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه. - الجهمية. - والمعتزلة. - والرافضة. - والأشاعرة. ونحو هؤلاء: تجد أنهم لما انحرفوا في باب توحيد الأسماء والصفات، لم يعلموا حقيقةَ معنى توحيد الإلهية؛ ففسروا الإله بغير معناه؛ وفسّروا (لا إله إلا الله) بغير معناها الذي دلّت عليه اللغة، ودلّ عليه الشرع. وكذلك: لم يعلموا متعلّقات الأسماء والصفات، وآثار الأسماء والصفات في ملك الله ومعنى الإيمان بالتوحيد هذا، يعني: بتوحيد الله في أسمائه وصفاته:أن يتيقن ويؤمن بأن الله
أما بعد:
فهذا الباب ترجم له إمام هذه الدعوة بقوله: (باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات) يعني: وما يلحقه من الذم؛ وأنَّ جحد شيءٍ من الأسماء والصفات، مُنافٍ لأصل التوحيد، ومن خصال الكفار والمشركين.
وقد ذكرنا لكم فيما سبق: أنَّ توحيد الإلهية عليه براهين، ومن براهينه:
توحيد المعرفة والإثبات:
-وهو توحيد الربوبية.
- وتوحيد الأسماء والصفات.
فمن أدلة توحيد الإلهية: توحيد الربوبية،؛ كما سبق أن مرَّ معنا في باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
وكذلكتوحيد الأسماء والصفات: برهان على توحيد الإلهية؛ ومَنْ حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات، فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الإلهية؛ ولهذا تجد أن المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله، وفي صفاته من هذه الأمة، من:
- والماتريدية.
والواجب على العباد، على أهل هذه الملة: أن يؤمنوا بتوحيد الله -جل وعلا- في أسمائه وصفاته.
-جل وعلا- ليس له مثيل في أسمائه، وليس له مثيل في صفاته؛ كما قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فنفى وأثبت؛ فنفى أن يماثل الله شيء جل وعلا، وأثبت له صفتي السمع والبصر.
قال العلماء: (قدّم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية
المعروفة أن التخلية تسبق التحلية، حتى يتخلى القلب من كل براثن التمثيل،
ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه أو تشبيه خلق
الله به؛ فإذا خلا القلب من كل ذلك، من براثن التشبيه والتمثيل، أثبت ما
يستحقه الله -جل وعلا- من الصفات؛ فأثبت هنا صفتين، وهما: السمع، والبصر).
وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات،
دون ذكر غير السمع والبصر من الصفات، أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء؛ لأن صفتي السمع والبصر مشترَكة بين أكثر المخلوقات الحية؛ وجُلّ المخلوقات الحية التي حياتها بالروح بالنفس، وليست حياتها بالنماء: فإن السمع والبصر موجود فيها جميعاً.
فالإنسان له سمع وبصر، وسائر أصناف الحيوانات: كلٌّ له سمع وبصر:- الذباب له سمع وبصر يناسبه.
- والبعير له سمع وبصر يناسبه.
- وسائر الطيور.
- والسمك في الماء.
- والدوابّ الصغيرة، والحشرات: كلٌّ له سمع وبصر يناسبه.
ومن المتقرر عند كل عاقل: أنَّ سمع هذه
الحيوانات ليس متماثلاً، وأن بصرها ليس متماثلاً؛ وأن سمع الحيوان ليس
مماثلاً لسمع الإنسان، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من
الحيوانات؛ وكذلك البصر.
فإذا كان كذلك، كان اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في
السمع والبصر: اشتراك في أصل المعنى؛ ولكلٍّ سمعٌ وبصر بما قدِّر له، وما
يناسب ذاته.
فإذا كان كذلك، ولم يكن وجود السمع
والبصر، في الحيوان وفي الإنسان، مقتضياً لتشبيه الحيوان بالإنسان؛ فكذلك
إثبات السمع والبصر للمَلك الحيّ القيوم، ليس على وجه المماثلة للسمع
والبصر في الإنسان، أو في المخلوقات.
فلله -جل وعلا- سمع وبصر يليق به،
كما أنَّ للمخلوق سمع وبصر يليق بذاته الحقيرة الوضيعة؛ فسمع الله كامل، مطلق، من جميع الوجوه، لا يعتريه نقص؛ وبصره كذلك.
واسم الله السميع: هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع.وكذلك اسم الله البصير:
هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر.
فدلّ ذلك على أنَّ النفي مقدم على الإثبات، والنفي يكون مجملاً، والإثبات يكون مفصلاً.فالواجب على العباد أنْ يعلموا أنَّ الله -جل جلاله- متصف
بالأسماء الحسنى، وبالصفات العُلى؛ وأن لا يجحدوا شيئاً من أسمائه وصفاته؛
ومن جحد شيئاً من أسماء الله وصفاته فهو كافر؛ لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين.
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله، وهو سببٌ لمعرفة الله والعلم به، بل إنَّ العلم بالله.
ومعرفة الله -جل وعلا- تكون:
- بمعرفة أسمائه وصفاته.
وهذا باب عظيم، ربّما يأتي له زيادة إيضاح عند (باب قول الله تعالى: {وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}).
إذاً: تلخص هنا أنَّ قوله: (باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات) صلة ذلك (بكتاب التوحيد)من جهتين:الجهة الأولى: أنَّ من براهين توحيد العبادة: توحيد الأسماء والصفات.
الجهة الثانية: أن جحد شيء من الأسماء والصفات: شركٌ وكفر مخرج من الملة؛ إذا ثبت الاسم، أو ثبتت الصفة، وعَلِمَ أن الله -جل وعلا- أثبتها
لنفسه، وأثبتها له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جحدها
أصلاً، يعني: نفاها أصلاً، فإن هذا كفر؛ لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة.
قال: (وقول الله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن} الآية) الرحمن: من أسماء الله جل وعلا،
والمشركون والكفار في مكة، قالوا: (لا نعلم الرحمن؛ إلا رحمن اليمامة)
فكفروا باسم الله الرحمن، وهذا كفر بنفسه؛ ولهذا قال جل وعلا: {وهم يكفرون بالرحمن}يعني: باسم الله الرحمن؛ وهذا اسم من أسماء الله الحسنى وهو مشتمل على صفة الرحمة؛ لأن الرحمن مشتق، أو فيه صفة الرحمة، ومبنيٌ على وجه المبالغة.
- فالرحمن: أبلغ في اشتماله على صفة الرحمة من اسم الرحيم؛ ولهذا لم يتسمَّ به على الحقيقة إلا الله جل وعلا؛ فهو من أسماء الله العظيمة التي لا يَشْرَكه فيها أحد.
- أما الرحيم: فقد أطلق الله -جل وعلا- على بعض عباده بأنهم رحماء، وأن نبيه -صلى الله عليه وسلم- رحيم؛ كما قال: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
الاسم والصفة: بينهما ارتباط من جهة أنَّ كل اسمٍ لله -جل وعلا- مشتمل على صفة، أسماء الله ليست جامدة، ليست مشتملة على معانٍ، بل كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة؛ فالاسم من أسماء الله يدل على مجموع شيئين بالمطابقة، وهما: الذات والصفة التي اشتمل عليها الاسم.ويدل على أحد هذين: الذات، أو الصفة، بالتضمن؛ ولهذا نقول: (كل اسمٍ من أسماء الله: متضمّنٌ لصفة من صفات الله) ومطابقة الاسم لمعناه بأنه دال على كلٍ من الذات، وعلى الصفة.
الذات المتصفة بالصفة، حتى اسم (الله)
لفظ الجلالة (الله) الذي هو علَم على المعبود بحق جل وعلا: مشتق على الصحيح
من قولي أهل العلم، مشتق لأن أصله الإله، ولكن أُطلق (الله) تخفيفاً؛
لكثرة دعائه وندائه بذلك في أصل العربية؛ فهو مأخوذ من الإلهة وهي العبادة؛
فالله هو المعبود، ليس اسماً جامداً، بل هو مشتق من ذلك.
وهكذا جميع الصفات التي تتضمنها الأسماء، كلها دالة على
كمال الله -جل وعلا- وعلى عظمته؛ فالعبد المؤمن إذا أراد أن يُكمّل توحيده،
فليُعْظِم العناية بالأسماء والصفات؛ لأنَّ معرفة الاسم والصفة يجعل العبد
يراقب الله جل وعلا، وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده، وقلبه، وعلمه
بالله، ومعرفته؛ كما سيأتي في تقاسيم الأسماء والصفات.
قال: (وفي (صحيح البخاري) قال: قالعليٌّ: (حدّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله)
هذا فيه دليل على أنَّ بعض العلم لا يصلح لكلِّ أحد؛ فإن من العلم ما هو
خاص، ولو كان نافعاً في نفسه، ومن أمور التوحيد؛ لكن ربما لم يعرفه كثير من
الناس.
وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات، من مثل بعض
مباحث الأسماء والصفات، وذكر بعض الصفات لله جل وعلا؛ فإنها لا تناسب كل
أحد؛ حتى إنّ بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليه بعض المسائل الدقيقة
في الأسماء والصفات: ولكن يُؤمرون بالإيمان بذلك إجمالاً، والإيمان
بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب والسنة.
أما دقائق البحث في الأسماء والصفات؛ فإنما هي للخاصة، ولا تناسب العامة، ولا تناسب المبتدئين في طلب العلم.
- لأن منها ما يُشكل.
- ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يُكذب الله ورسوله؛ كما قال هنا علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله).
فمناسبة هذا الأثر لهذا الباب:
أنَّ من أسباب جحد الأسماء والصفات:- أن يُحدِّث المرء الناس بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات.
الناس عندهم إيمان إجمالي بالأسماء
والصفات يصح معه توحيدهم، وإيمانهم، وإسلامهم؛ فالدخول في تفاصيل ذلك غير
مناسب، إلا إذا كان المخاطَب يعقل ذلك ويعيه، وهذه ليست بحالة أكثر الناس.
ولهذا الإمام مالك -رحمه الله- لمّا حُدِّث عنده بحديث الصورة فنهى المتحدث بذلك؛ لأن العامة لا يحسنون فهم مثل هذه المباحث.
وهكذا في بعض المسائل في الأسماء والصفات لا تناسب العامة،
فقد يكون سبب الجحد: أنْ حدثت من لا يعقل البحث، فيؤول به ذلك ـ وهو أن
البحث فوق عقله، وفوق مستواه، وفوق ما تقدمه من العلم - أن يؤدي به ذلك إلى
أنْ يجحد شيئاً من العلم بالله جل وعلا، أو أن يجحد شيئاً من الأسماء
والصفات.
فالواجب على المسلم، وخاصة طالب العلم: أنْ لا يجعل الناس
يكذِّبون شيئاً مما قاله الله جل وعلا، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه
وسلم؛ ووسيلة ذلك التكذيب:
-أن يحدث الناس بما لا يعرفون.
- يحدث الناس بحديث لا تبلغه عقولهم؛ كما جاء في الحديث الآخر: ((ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)).
وقد بوّب على ذلك
البخاري في (الصحيح) في كتاب العلم بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقْصُر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدَّ منه).
وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي:
- للمعلم.
- وللمتحدث.
- وللواعظ.
- وللخطيب: أن يعيه، في أن يحدث الناس بما يعرفون.
وأن يجعل تقوية التوحيد، وإكمال توحيدهم، والزيادة في إيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون.قال: (وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصفات استنكاراً لذلك.
فقال: (ما فَرَقُ هؤلاء، يجدون رقةً عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه).
هذا لما لم يعرف هذه الصفة انتفض؛ لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه؛ فخاف من تلك الصفة.
والواجب على المسلم: أنه إذا سمع
صفة من صفات الله، في كتاب الله، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن
يجريها مجُرى جميع الصفات، وهو:
- أن إثبات الصفات لله جل وعلا: إثبات بلا تكييف.
- إثبات بلا تمثيل.
فإثباتنا للصفات على وجه تنـزيه الله -جل وعلا- عن المثيل والنظير، في صفاته وأسمائه؛ فله من كل اسمٍ وصفة أعلى وأعظم ما يشتمل عليه من المعنى.ولهذا قال ابن عباس هنا: (ما فَرَقُ هؤلاء) يعني: ما سبب خوف هؤلاء؟
لماذا فرقوا؟
خافوا من هذه الصفة ومن إثباتها، (يجدون رقة عند محكمه) يعني: إذا خوطبوا بالمحكم الذي يعرفونه.
- المحكم: هو ما يعلم، والذي يعلمه سامعه؛ هذا هو المحكم.
(ويهلكون عند متشابهه) فإذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئاً لا تعقله عقولهم، هلكوا عنده، وخافوا، وفرقوا، وأولوا، ونفوا أو جحدوا؛ وهذا من أسباب الضلال.
وهنا استعمل ابن عباس رحمه الله ورضي عنه، استعمل كلمة المحكم، وكلمة المتشابه؛ ويريد بها هنا، المحكم: الذي يُعلم؛ يعلمه سامعه.
والمتشابه:
- وكلها متشابهة.
- ومنها: محكم.
- ومنها: متشابه.
فهذه ثلاثة أقسام:
فالأول: المحكم؛ كما قال جل وعلا: {الر، كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ألاّ تعبدوا إلا الله} فالقرآن كله محكم، بمعنى: أنَّ معناه واضح، وأن الله
-جل وعلا- أحكمه، فلا اختلاف فيه ولا تباين، وإنما بعضه يصدق بعضاً؛ كما قال جل وعلا: {ولو كان مِنْ عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
- والقرآن والشريعة أيضاً متشابه
كله، بمعنى: أن بعضه يشبه بعضاً؛ فهذا الحكم وهذه المسألة: تشبه تلك؛
لأنها تجري معها في قاعدةٍ واحدة؛ فنصوص الشريعة يصدق بعضها بعضاً، ويؤول
بعضها إلى بعض؛ وقد قال جل وعلا: {الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانيَ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم}.
قال: {كتاباً متشابهاً} فالقرآن متشابه، يعني: بعضه يشبه بعضاً؛
هذا خبر في الجنة، وهذا خبر في الجنة؛ بعض الأخبار يفصل بعضاً؛ وهذه قصة
وهذه قصة، هذه تصدق هذه وتزيدها تفصيلاً؛ وهكذا في كل ما في القرآن.
- والقرآن أيضاً، والشريعة، والعلم: منه محكم، ومنه متشابه باعتبار ثالث؛ فالمحكم والمتشابه هنا: هو الذي جاء في آية آل عمران:{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات} فمنه محكم: وهو الذي اتضح لك علمه.
بل ربما اشتبه على بعض الناس، وبعضهم يعلم المعنى؛ كما قال جل وعلا: {وما يعلم تأويله إلا اللهُ والراسخون في العلم} على أحد وجهي الوقف.
فهذا المتشابه الموجود الذي هو قسيمٌ للمحكم،
هذا يشتبه على بعض الناس؛ فإذا اشتبه عليك علم شيءٍ من التوحيد، أو مِن الشريعة، فإنَّ الواجب: ألاّ تفرق عنده، وألاّ تخاف، وألا تتهم الشرع، أو يقع في قلبك شيء من الزيغ؛ لأن الذين يتبعون المتشابه، بمعنى: لا يؤمنون به، فإن هؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ.
وهذا هو الذي عناه
ابن عباس -رضي الله عنهما- حين قال: (يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه) يريد به هذا الوجه من أن الذين يهلكون عند المتشابه، هم أهل الزيغ الذين قال الله جل وعلا فيهم: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} فأهل الزيغ يستعملون في المتشابه هاتين الطريقتين:
- إما أن يبتغوا بالمتشابه الفتنة.
- وإما أن يبتغوا بالمتشابه التأويل.
والواجب أن يُرَدَّ المتشابه إلى المحكم؛ فنعلم أن الشريعة يصدق بعضها بعضاً، وأن التوحيد بعضه يدل على بعض؛ وكالقاعدة المعروفة في الصفات التي ذكرها عدد من الأئمة:
كالخطابي، وكشيخ الإسلام في (التدمرية): (أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وأن القول في الصفات كالقول في الذات: يُحتذى فيه حذوه؛ ويُنهج فيه على منواله).
قال: (ولما سمعت قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن، أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم:
{وهم يكفرون بالرحمن}) فإنكار الصفة، أو إنكار الاسم، بمعنى: عدم التصديق بذلك، هذا جحدٌ.
وهذا يختلف عن التأويل؛ فالتأويل والإلحاد له مراتب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ مَنْ جَحَدَ شيئاً مِنَ الأسْمَاءِ والصِّفاتِ
ولمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكُرُ الرَّحْمَنَ أنكرُوا ذلِكَ فأنْزَلَ اللهُ فيهِمْ: {وَهُم يَكفُرُونَ بِالرَّحمَنِ}أخرجَهُ ابنُ جريرٍ. حدَّثَنَا بشرٌ قالَ: حدَّثَنَا يزيدُ قالَ: حدَّثَنَا سعيدٌ عن قتادةَ: قولُهُ: {وَهُم يَكفُرُونَ بِالرَّحمَنِ} ذكرَ لنا أنَّ نبيَّ اللهِ زمنَ الحُدَيْبِيَةِ حينَ صالحَ قريشاً كتَبَ: هذا ما صالحَ عليه محمَّدٌ رسولُ اللهِ … وفيه فلمَّا كتبَ الكاتبُ: (بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ) قالتْ قريشٌ: أمَّا الرَّحمنُ فلانعرفْهُ … الخ. الحسينُ هذا هو ابنُ داودَ المصّيصيُّ الملقَّبُ بسنيدٍ قالَ الحافظُ في (التَّقريبِ): (ضعيفٌ مع إمامتِهِ ومعرفتِهِ؛ لكونِهِ كانَ يلقِّنُ حجَّاجَ بنَ محمَّدٍ شيخَهُ).
إسنادُهُ صحيحٌ رجالُهُ ثقاتٌ.
وأخرجَ ابنُ جريرٍ أيضاً: حدَّثَنَا القاسمُ قالَ: حدَّثَتَا الحسينُ قالَ: حدَّثَنِي حجَّاجُ عن ابنِ جريجٍ عن مجاهدٍ قالَ: قوله: {كَذَلِكَ أَرسَلنَكَ فىِ أُمَّةٍ قَدخَلَت}
الآيةَ: هذا لمَّا كاتَبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قريشاً في الحُدَيْبِيَةِ كتبَ (بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ).
قالُوا: لا نكتبُ (الرَّحمنَ) وما ندرِي مَا (الرَّحمنُ)؟
ولا نكتبُ إلا باسمِكَ اللهمَّ).
قالَ اللهُ تَعالَى: {وَهُم يَكفُرُونَ بِالرَّحمَنِ قُل هُوَ رَبّيِ لاَ إِلَهَ هُوَ}.
وذكرَهُ البغويُّ معلّقاً هكذا: وقالَ قتادةُ ومقاتلٌ وابنُ جريجٍ … الخ وجزَمَ به الحافظُ ابنُ كثيرٍ بقولِهِ: (أيْ:
هذه الأمَّة الَّتي بعثناكَ فيهِمْ يكفرُونَ بالرَّحمنِ لا يقرُّونَ بهِ؛
لأنَّهُم كانوا يأنَفُونَ من وصفِ اللهِ بالرَّحمنِ الرَّحيمِ.
ولهذا أَنِفُوا يومَ الحديببةِ أنْ يكتبُوا (بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ وقالـُوا: ما ندرِي ما الرَّحمنُ) قالـَهُ قتادةُ، والحديثُ في (صحيحِ البخاريِّ )) اهـ.
العناصر
مناسبة باب (من جحد شيئاً من الأسماء والصفات) لكتاب التوحيد
شرح قول المصنف (باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات)
- بيان تعريف توحيد الأسماء والصفات قواعد في أسماء الله تعالى
- ذكر بعض مصنفات الأئمة في الرد على الأشاعرة، والجهمية، والمعتزلة تفسير قوله تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن...) الآية
- ذكر أسبابٍ لنزول قوله تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن...) شرح أثر علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (حدثوا الناس بما يعرفون...)
- تخريج أثر علي (حدثوا الناس...) شرح أثر ابن عباس (أنه رأى رجلاً انتفض...)، وذكر نظير له
- ترجمة معمر بن راشد بيان معنى المحكم والمتشابه
- أقسام التشابه بيان عدم صحة ما نقل عن مالك أن آيات الصفات لا تتلى على العوام بيان سبب البدع شرح مسائل باب (من جحد شيئا من الأسماء والصفات) مناسبة باب قول الله تعالى: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) لكتاب التوحيد تفسير قوله تعالى: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها...) الآية
- بيان قبح إضافة النعمة إلى السبب دون الخالق تفسير قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) شرح أثر مجاهد رحمه الله: (هو قول الرجل هذا مالي...)
- ترجمة مجاهد بن جبر شرح أثر عون بن عبد الله رحمه الله: (يقولون لولا فلان لم يكن كذا) - تخريج أثر عون بن عبد الله، وذكره بتمامه شرح أثر ابن قتيبة (يقولون هذا بشفاعة آلهتنا) - ترجمة ابن قتيبة التعليق على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شرح قول بعض السلف: (هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً...) إلخ
مسائل في الصفات
- مناسبة أثر علي لباب الصفات
- ما يستفاد من أثر علي
- ترجمة عبدالله بن طاووس
- ترجمة طاووس بن كيسان
- ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما
- ذكر ما ورد عن السلف في معنى المتشابه
سبب نزول قوله تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن)
- ترجمة عون بن عبد الله
شرح مسائل باب قول الله تعالى: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)