26 Oct 2008
باب قول الله تعالى: {ألم ترإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنوا بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (62) وإذَا قيِلَ لهَم تَعَالَوا إِلَى
مَا أَنزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسولِ رَأيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ
عَنكَ صُدُودًا (63) فَكَيفَ إذا أصَابَتهُم مُّصِيبةٌ بما قَدَّمتْ
أَيدِيهِمْ ثمَّ جَاءوكَ يَحْلِفونَ بِاللهِ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَانًا
وتَوْفِيقًا}[النِّسَاءُ:60-62].
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [الْبَقَرَةُ:11].
وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادْعُوهُ خَوفًا وطَمَعًا إنَّ رَحمةَ اللهِ قَريبٌ مِّنَ المحسِنِينَ}[الأَعْرَافُ:56].
وَقَوْلِهِ: {أَفَحُكمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أحسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ}[الْمَائِدَةُ:50].
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)).
قَالَ النَّوَوِيُّ: (حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْحُجَّةِ) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ.
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ.
عَرَفَ أَنَّهُ لاَ يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ.
وَقَالَ الْمُنَافِقُ: نَتَحَاكَمُ إِلَى الْيَهُودِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ.
فَاتَّفَقَا أَنْ يَأْتِيَا كَاهِنًا فِي جُهَيْنَةَ، فَيَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ فَنَزَلَتْ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}[النِّسَاءُ:60-62]الآيَةَ).
وَقِيلَ:(نَزَلَتْ
فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فَقَالَ أَحَدُهُمْ: (نَتَرَافَعُ إِلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ الآخَرُ: (إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ) ثُمَّ تَرَافَعَا إِلَى عُمَرَ فَذَكَرَ لَهُ أَحَدُهُمَا الْقِصَّةَ.
فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يَرْضَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَكَذَلِكَ؟)
قَالَ: (نَعَمْ)؛ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَه).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ النِّسَاءِ وَمَا فِيهَا مِنَ الإِعَانَةِ عَلَى فَهْمِ الطَّاغُوتِ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الْبَقَرَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ}.
الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الأَعْرَافِ: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}.
الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}.
الْخَامِسَةُ: مَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ الأُولَى.
السَّابِعَةُ: قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ الْمُنَافِقِ.
الثَّامِنَةُ: كَوْنُ الإِيمَانِ لاَ يَحْصُلُ لأَِحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
السَّادِسَةُ: تَفْسِيرُ الإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
لما كانَ التوحيدُ الذي هو معنى شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ مشتملاً على الإيمانِ بالرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مستلزِمًا له،
وذلكَ هو الشهادتانِ، ولهذا جعلَهُما النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركنًا واحدًا في قولِه: ((بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ؛ شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأَنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، وحجِّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً)) نَبَّه في هذا البابِ على ما تضَمَّنَهُ التوحيدُ، واستلزمَهُ من تحكيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ النزاعِ؛ إذ هذا هو مُقْتَضَى شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، ولازِمُها الذي لا بُدَّ منه لكلِّ مؤمنٍ، فإنَّ مَن عَرَفَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، فلا بد من الانقيادِ لحكمِ اللهِ والتسليمِ لأمرِهِ الذي جاءَ من عندِهِ على يدِ رسولِه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمَن شَهِدَ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، ثم عدلَ إلى تحكيمِ غيرِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ النزاعِ، فقد كَذَبَ في شهادتِه. ومِن لوازمِ
ذلكَ متابعتُه وتحكيمُه في مواردِ النزاعِ، وتركُ التحاكمِ إلى غيرِه،
كالمنافقينَ الذين يَدَّعُونَ الإيمانَ به، ويَتَحَاكَمُونَ إلى غيرِهِ،
وبهذا يَتَحَقَّقُ العبدُ بكمالِ التوحيدِ وكمالِ المتابعةِ، وذلك هو كمالُ
سعادَتِه، وهو معنى الشهادتينِ. قال ابنُ كثيرٍ: (والآيةُ ذامَّةٌ لمن عدَلَ عنِ الكتابِ والسنةِ وتحاكَمَ إلى ما سواهُما من الباطلِ، وهو المرادُ بالطَّاغُوتِ ههنا). وفي الآيةِ دليلٌ على أَنَّ تركَ التحاكُمِ إلى الطاغُوتِ، الذي هو ما سِوى الكتابِ والسنةِ من الفرائضِ وأَنّ المتحاكِمَ إليهِ غيرُ مؤمنٍ، بل ولا مُسْلِمٍ. وقال ابنُ القَيِّمِ: (قيل:
المصيبةُ فَضِيحتُهُم إذا أُنزِلَ القرآنُ بحالِهِم، ولا ريبَ أَنَّ هذا
أعظمُ المصيبةِ والإضرارِ، فالمصائبُ التي تُصِيبُهم بما قدَّمَتْ أيديهِم
في أبدانِهِم وقلوبِهِم وأديانِهِم بسببِ مخالفةِ الرَّسُولِ عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ، أعظمُها مصائبُ القلبِ والدِّينِ، فيرَى المعروفَ
مُنكرًا، والهُدى ضَلالاً، والرشادَ غَيًّا، والحقَّ باطلاً، والصلاحَ
فسادًا، وهذا من المصيبةِ التي أُصيبَ بها في قلبِهِ، وهو الطبعُ الذي
أوجَبَهُ مخالفةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحكيمُ
غيرِه). وقولُهُ تعالى: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}[النساء:61]. وقال غيرُهُ: ( {إِلاَّ إِحْسَانًا}أي: لا إساءةً، {وتوفيقًا}أي: بينَ الخَصْمَيْنِ، ولم نُرِدْ مُخالفةً لكَ، ولا تَسَخُّطًا لحكمِكَ). وقولُه تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}[النساء:62] أحدُها: عِظَمُ معناه، وتَأَثُّرُ النفوسِ به. الثاني: فَخامةُ ألفاظِه وجَزالتُها. الثالثُ: كيفيةُ القائلِ في إلقائِهِ إلى المخاطَبِ فإنّ القولَ كالسّهمِ، والقلبَ كالقوسِ الذي يَدْفَعُه، وكالسّيفِ، والقلبَ كالسّاعدِ الذي يُضْرَبُ به. والقولُ الثاني: أنَّه متعلِّقٌ بـ{قُلْ} وفي المعنى على هذا قولانِ: أحدُهما: قُلْ لهم في أنفسِهم خاليًا بهِم ليسَ معهم غيرُهم بل مُسِرًّا لهم النصيحةَ. والثاني: أنَّ معناه قُلْ لهم في معنى أنفسِهم، كما يُقالُ: قل لفلانٍ في كَيْتَ وكَيْتَ، أي: في ذلكَ المعنى). والمعنى
أنَّكَ واحدٌ منهم تَجِبُ طاعتُك، وتَتَعَيَّنُ عليهم كما وَجَبَتْ طاعةُ
مَنْ قبلَك منَ المرسَلين، فإنْ كانوا قد أطاعُوهم كما زعَمُوا وآمَنُوا
بهم، فما لهم لا يُطِيعونَك، ويُؤْمِنونَ بك؟! ويصحُّ أنْ يكونَ الإذنُ ههنا إذنًا كونيًّا قدريًّا،
ويكونَ المعنى: ليُطاعَ بتوفيقِ اللهِ وهدايتِهِ، فتُضَمَّنُ الآيةُ
الأمرينِ؛ الشرعَ والقدَرَ، ويكونُ فيها دليلٌ على أنَّ أحدًا لا يطيعُ
رسُلَه إلا بتوفيقِه وإرشادِه وهدايتِه، وهذا حسنٌ جدًّا. والمقصودُ أنَّ الغايةَ من الرسلِ هي طاعتُهم ومتابعتُهم، فإذا كانَتِ الطاعةُ والمتابعةُ لغيرِهم، لم تحصلِ الفائدةُ المقصودةُ من إرسالِهم. فإن قلتَ:
فما حظُّ مَن ظَلَمَ نفسَه بعدَ موتِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من هذهِ الآيةِ؟ وهل كلامُ بعضِ الناسِ في دعوى المجيءِ إلى
قبرِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاستغفارِ عندَه، والاستشفاعِ
بهِ، والاستدلالِ بهذه الآيةِ على ذلكَ صحيحٌ أم لا؟ وأمّا المجيءُ إلى قبرِه، والاستغفارُ عندَه، والاستشفاعُ بهِ،
والاستدلالُ بالآيةِ على ذلك، فهو استدلالٌ على ما لا تدلُّ الآيةُ عليهِ
بوجهٍ من وجوهِ الدلالاتِ؛ لأنّه ليسَ في الآيةِ إلا المجيءُ إليه صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا المجيءُ إلى قبرِه؛ واستغفارُه لهم، لا
استشفاعُهم به بعدَ موتِه، فعُلِمَ أَنَّ ذلك باطلٌ، يُوَضِّحُ ذلك أنَّ
الصحابةَ الذين هم أعلمُ الناسِ بكتابِ اللهِ وسنّةِ نبيِّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فهِموا هذا من الآيةِ، فعُلِم أنّ ذلك بدعةٌ. ثم قالَ تعالى: {وَإِذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}فهذه أربعةُ أنواعٍ من الجزاءِ المرتَّبِ على طاعةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحدُها: حصولُ الخيرِ المُطْلَقِ بها. الثاني: التثبتُ والقوةُ المتضمِّنُ للنصرِ والغَلَبةِ. والثالثُ: حصولُ الأجرِ العظيمِ لهم في الآخرةِ. والرابعُ: هدايتُهم الصراطَ المستقيمَ. وهذه الهدايةُ هي
هدايةٌ ثانيةٌ أوْجَبَتْها طاعةُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
فطاعتُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمرةُ الهدايةِ السابقةِ عليها فهيَ محفوفةٌ بهدايتينِ: هدايةٌ قبلَهَا: وهي سببُ الطاعةِ. وهدايةٌ بعدَها: هي ثمرةٌ لها، وهذا يدلُّ على انتفاءِ هذه الأمورِ الأربعةِ عندَ انتفاءِ طاعةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. - النبيونَ وهم أفضلُهم. - ثم الصدِّيقونَ وهم بعدَهم في الدرجةِ. - ثم الشهداءُ. - ثم الصالحونَ فهؤلاءِ المُنعَمُ عليهم النعمةَ التامَّةَ، وهم السعداءُ
الفائزونَ، ولا فلاحَ لأحدٍ إلا بموافقتِهم والكونِ معَهم، ولا سبيلَ إلى
مرافقتِهم إلا بطاعةِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا
سبيلَ إليها إلا بمعرفةِ سُنَّتِه وما جاءَ به، فدلَّ على أنَّ مَنْ عدِمَ
العلمَ بسنَّتِه وما جاءَ به، فليسَ له إلى مرافقةِ هؤلاءِ سبيلٌ، بل هو
ممَّنْ يَعَضُّ على يديهِ يومَ القيامة، ويقولُ: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}). قلتُ: مَا
لمن لم يُحَكِّمِ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواردِ
النزاعِ إلى مرافقةِ هؤلاءِ المنعَمِ عليهم سبيلٌ، وكيفَ يكونُ له سبيلٌ
إلى ذلكَ، وعندَهُ أنَّ مَن حَكَّمَ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في مواردِ النزاعِ فهو إما زِنْدِيقٌ أو مُبْتَدِعٌ، وأنَّى له
بطاعةِ اللهِ ورسولِهِ، وهذا أصلُ اعتقادِه الذي بنَى عليه دينَه، ومعَ
ذلكَ يَحْسَبونَ أنهَّم مُهْتَدونَ إذا حَكَّمُوا غيرَ الرسولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونَبَذُوا حُكمَهُ وراءَ ظهورِهِم كأنهَّم لا
يَعْلَمُونَ. قلتُ: وفي الآيةِ إشارةٌ إلى أَنَّ مَن ابتغى غيرَ حكمِ اللهِ ورسولهِ، فقد ابتغى حكمَ الجاهليَّةِ كائنًا مَا كانَ. (2) هذا الحديثُ رواهُ الشيخُ أبو الفتحِ نصرُ بنُ إبراهيمَ المقدسيُّ الشافعيُّ في كتابِ (الحُجةِ على تاركِ المَحَجَّةِ) بإسنادٍ صحيحٍ كما قالَ المصنفُ عن النوويِّ، وهو كتابٌ يتضمَّنُ ذكْرَ أصولِ الدينِ على قواعدِ أهلِ الحديثِ والسُّنَّةِ. - وقولِه: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}[القصص:50] وغيرِ ذلك من الآياتِ، فلا يَضُرُّ عدمُ صحةِ إسنادِه. (3) هذا الأثرُ رواهُ ابنُ جريرٍ، وابنُ المنذرِ بنحوِهِ. (4) هذه القصةُ قد رُوِيتْ من طرقٍ متعددةٍ، مِن أَقْرَبِهَا لسياقِ المصنفِ ما رواه الثعلبيُّ وذكَرَهُ البَغَويُّ، عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا}[النساء:59] قالَ: (نَزَلتْ
في رجلٍ من المنافقين يُقالُ له: بِشْرٌ خاصَم يهوديًّا فدعاه اليهوديُّ
إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعاهُ المنافقُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ، ثم إنهما احْتَكَما للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقضَى لليهوديِّ، فلم يَرْضَ المنافقُ، وقالَ: (تَعالَ نَتَحَاكمْ إلى عمرَ بنِ الخطابِ) ورواهُ أبو إسحاقَ بنُ دُحَيْمٍ في (تفسيرِهِ) على ما ذكَرهُ شيخُ الإسلامِ، وابنُ كثيرٍ، ورواهُ ابنُ أبي حاتمٍ،وابنُ مَرْدَويْه من طريقِ ابنِ لَهِيعةَ عن أبي الأسودِ، وذكرَ القصةَ. وفي القصةِ من الفوائدِ: - أنَّ الدعاءَ إلى تحكيمِ غيرِ اللهِ ورسولِهِ من صفاتِ المنافقينَ، ولو كانَ الدعاءُ إلى تحكيمِ إمامٍ فاضلٍ. وفيها: الغضبُ للهِ تعالى، والشدةُ في أمرِ اللهِ، كما فعلَ عمرُ رَضِي اللهُ عَنْهُ. وفيها: جوازُ تغييرِ المُنْكَرِ باليدِ، وإنْ لم يأذَنْ فيه الإمامُ. وكذلكَ: تَعْزِيرُ مَن فَعَلَ شيئًا من المنكراتِ التي
يُسْتَحَقُّ عليها التعزير، لكنْ إذا كانَ الإمامُ لا يَرْضَى بذلك، وربما
أَدَّى إلى وقوعِ فُرْقةٍ أو فتنةٍ فيُشْتَرَطُ إذنُهُ في التعزيرِ فقط. وفيها: أنَّ معرفةَ الحقِّ لا تَكْفِي عن العملِ والانقيادِ، فإنَّ اليهودَ يَعْلَمون أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ ويَتَحَاكَمونَ إليهِ في كثيرٍ من الأمورِ.
وإنْ شئتَ قلتَ: لمَّا كانَ التوحيدُ مبنيًّا على الشهادتينِ؛ إذ لا
تَنْفَكُّ إحداهما عنِ الأخرى لتلازُمِهمَا، وكانَ ما تقدَّمَ من هذا
الكتابِ في معنى شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ التي تَتَضَمَّنُ حقَّ
اللهِ على عبادِه، نَبَّهَ في هذا البابِ على معنى شهادةِ أَنَّ محمدًا
رسولُ اللهِ، التي تتضمنُ حَقَّ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فإنها تتضمنُ أَنَّهُ عبدٌ لا يُعْبَدُ، ورسولٌ صادقٌ لا يُكَذَّبُ، بل
يُطاعُ ويُتَّبَعُ؛ لأنه المبلِّغُ عنِ اللهِ تعالى.
فلَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ مَنْصِبُ الرسالةِ والتبليغِ عن اللهِ،
والحكمِ بينَ الناسِ فيما اختلفُوا فيهِ؛ إذ هو لا يَحْكُمُ إلا بحكمِ
اللهِ، وتقديم محبتِه على النفسِ والأهلِ والمالِ والوطنِ، وليسَ لَهُ مِنَ
الإلهيةِ شيءٌ، بل هُوَ عبدُ اللهِ ورسولُهُ، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن: 19] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)).
إذَا تبيَّنَ هذا فمعنى الآيةِ المُتَرْجَمِ لها: أَنَّ اللهَ تباركَ
وتعالى أنكرَ على مَنْ يَدَّعي الإيمانَ بما أنْزلَ اللهُ على رسولِه، وعلى
الأنبياءِ قبلَهُ، وهو مَعَ ذلك يريدُ أَنْ يتحاكَمَ في فصلِ الخصوماتِ
إلى غيرِ كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ، كما ذكرَ المصنفُ في سببِ نزولها، قالَ
ابنُ القيِّمِ: (والطاغوتُ:
كلُّ مَن تُعُدِّيَ بهِ حَدُّه من الطُّغْيانِ، وهو مجاوزةُ الحدِّ، فكلُّ
ماتحاكَمَ إليهِ متنازعانِ غيرَ كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو طاغوتٌ إذ قد تُعُدِّيَ بهِ حدُّه.
ومِنْ هذا كلُّ مَن عَبَدَ شيئًا دونَ اللهِ فإنَّما عبَدَ الطاغوتَ،
وجاوزَ بمعبودِهِ حدَّهُ فأعطَاهُ العبادةَ التي لا تنبغِي لَهُ، كما أَنَّ
مَن دعَا إلى تحكيمِ غيرِ اللهِ تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فقد دعَا إلى تحكيمِ الطاغوتِ.
وتعلَّلَ تصديرُه سبحانَه الآيةَ منكِرًا لهذا التحكيمِ على مَنْ زعَمَ
أَنّه قَدْ آمَنَ بما أنزلَهُ اللهُ على رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وعلى مَن قَبلَهُ، ثم هو مع ذلك يَدْعُو إلى تحكيمِ غيرِ اللهِ
ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويَتَحَاكَمُ إليهِ عندَ
النزاعِ، وفي ضِمنِ قولِهِ: {يَزْعُمُون}
نفيٌ لمَا زعَمُوهُ من الإيمانِ، ولهذا لم يقُلْ: ألم تَرَ إلى الذينَ
آمنُوا، فإنهم لو كانُوا من أهلِ الإيمانِ حقيقةً لم يُرِيدوا أَنْ
يَتَحَاكَموا إلى غيرِ اللهِ تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
ولم يَقُلْ فيِهِم :(يَزْعُمونَ) فإنَّ هذا إنمَّا يقالُ غالبًا لمنِ
ادَّعَى دعوَى هو فيها كاذبٌ، أو منزَّلٌ منزلةَ الكاذبِ، لمخالفتِه
لمُوجَبِهَا وعملِه بمَا يُنافِيها).
وقولُهُ تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}
أي: بالطاغوتِ، وهو دليلٌ على أَنَّ التحاكُمَ إلى الطاغوتِ مُنافٍ
للإيمانِ، مضادٌّ لهُ، فلا يَصِحُّ الإيمانُ إلا بالكفرِ به، وتركِ
التحاكمِ إليهِ، فمَنْ لم يكفرْ بالطاغوتِ لم يؤمنْ باللهِ.
وقولُه: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}
أي: لأَنَّ إرادةَ التحاكُمِ إِلى غيرِ كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن طاعةِ الشيطانِ، وهو إنمَّا يدعُو أحزابَهُ
ليكونُوا من أصحابِ السعيرِ.
وقولُه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}[النساء:60] أي: إذا دُعُوا إلى التحاكُمِ إلى ما أنْزَلَ اللهُ وإلى الرّسُولِ أعْرَضُوا إعراضًا مُسْتَكْبِرِينَ، كما قالَ تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ}[النور:48] قال ابنُ القيِّمِ: (هذا دليلٌ على أَنَّ مَن دُعِيَ إلى تحكيمِ الكتابِ والسنةِ، فلم يَقْبَلْ، وأَبَى ذلك أَنَّهُ من المنافقينَ.
و{يَصُدُّونَ}
هنا لازمٌ لا مُتَعَدٍّ، وهو بمعنى يُعْرِضُونَ، لا بمعنى يَمْنَعونَ
غيرَهم، ولهذا أتَى مصدرُه على صُدُودٍ، ومصدرُ المُتَعَدِّي (صَدًّا).
فإذا كانَ المُعرِضُ عن ذلك قد حكَمَ اللهُ سبحانَه بنفاقِهم، فكيفَ بمَنِ
ازْدَادَ إلى إعراضِه منْعُ الناسِ من تحكيمِ الكتابِ والسُّنّةِ،
والتحاكُمِ إليهمَا بقولِهِ وعملِهِ وتصانيفِه؟! ثم يزعُمُ مَعَ ذلك
أَنَّهُ إنمَّا أرادَ الإحسانَ والتوفيقَ: الإحسانَ في فعلِهِ ذلك،
والتوفيقَ بينَ الطاغوتِ الذي حَكَّمَهُ، وبينَ الكتابِ والسُّنَّةِ).
قلتُ: وهذا
حالُ كثيرٍ ممن يدَّعي العلمَ والإيمانَ في هذهِ الأزمانِ، إذا قيل لهم:
تَعَالَوْا نَتَحَاكَمْ إلى ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسولِ رأيْتَهُم
يَصُدُّونَ وهم مُسْتَكْبِرونَ، ويَعْتَذِرونَ أنهَّم لا يَعْرِفُون ذلك،
ولا يَعْقِلونَ، بل لعَنَهمُ اللهُ بكفرِهم فقليلاً ما يُؤْمِنون.
وقولُه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} قالَ ابنُ كثيرٍ: (أي: فكيفَ بهم إذا ساقَتهم المقاديرُ إليكَ في المصائبِ بسببِ ذنوبِهم، واحتاجُوا إليك في ذلك).
قالَ سفيانُ الثوريُّ في قولِهِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قال: (هي أَنْ تُطبَعَ على قلوبهِم).
قال ابنُ كثيرٍ: (أي: يَعْتَذِرونَ ويَحْلِفُون إنْ أرَدْنَا بذَهابِنا إلى غيرِك إلا الإحسانَ والتوفيقَ، أي: المداراةَ والمصانعةَ).
قُلْتُ: فإذا
كانَ هذا حالَ المنافِقين يَعْتَذِرونَ عن أمرِهم، ويُلَبِّسونَهُ؛ لئلاَّ
يُظَنَّ أَنهَّم قصَدُوا المخالفةَ لحكمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أو التسخطَ، فكيفَ بِمَنْ يُصَرِّحُ بما كان المنافقون
يُضْمِرُونَه حتى يَزْعُمَ أَنَّهُ مِنْ حُكمِ الكتابِ والسنَّة في مواردِ
النِّزاعِ، فهو إمَّا كافرٌ وإمَّا مبتدِعٌ ضَالٌّ!؟
وفعلُ المنافقينَ الذي ذكَرَهُ اللهُ عنهم في هذهِ الآيةِ هو بعينِهِ الذي
يَفْعَلُه المُحَرِّفُونَ للكَلِمِ عن مواضِعِه الذين يقولُون: إنما
قصَدْنَا التوفيقَ بينَ القواطعِ العقليةِ بزعمِهم التي هي الفلسفةُ
والكلامُ، وبينَ الأدلةِ النقليَّةِ، ثم يجعلونَ الفلسفةَ التي هي سفاهةٌ
وضلالةٌ الأصلَ، ويَرُدُّون بها ما أنزلَ اللهُ على رسولِهِ من الكتابِ
والحكمةِ، زَعَمُوا أنَّ ذلك يخالفُ الفلسفةَ التي يسمُّونها القواطعَ،
فَتَطَلَّبوا له وجوهَ التأويلاتِ البعيدةِ، وحملوهُ على شواذِّ اللغةِ
التي لا تَكادُ تُعرَفُ.
وقولُه تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} قالَ ابنُ كثيرٍ: (أي:
هذا الضَّرْبُ مِن النَّاسِ هم المنافقون، واللهُ أعلمُ بما في قلوبِهِم،
وسيَجْزِيهم على ذلكَ، فإنّه لا تَخْفَى عليه خافيةٌ، فاكتفِ به يا محمدُ
فيهم، فإنّه عالمٌ ببواطِنِهم وظواهرِهم).
قالَ ابنُ القيمِ: (أمرَ اللهُ رسولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم بثلاثةِ أشياءَ:
أحدُها: الإعراضُ عنهم إهانةً لهم، وتحقيرًا لشأنِهِم، وتصغيرًا لأمرِهِم، لا إعراضُ مُتاركةٍ وإهمالٍ، وبهذا يُعلمُ أنها غيرُ منسوخةٍ.
الثاني: قولُه:{وعِظْهُمْ}وهوَ تخويفُهم عقوبةَ اللهِ وبأسَه ونِقْمتَه إن أصَرُّوا على التحاكمِ إلى غيرِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أُنزِلَ عليه.
الثالثُ: قولُه: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}
أي: يَبْلُغُ تأثيرُه إلى قلوبِهم، ليسَ قولاً لينًا لا يتأثرُ به
المقُولُ له، وهذه المادةُ تدلُّ على بلوغِ المرادِ بالقولِ، فهو قولٌ
يُبْلَغُ به مرادُ قائِلِهِ من الزَّجْرِ والتخويفِ ويُبْلَغُ تأثيرُه إلى
نفسِ المقولِ له، ليسَ هو كالقولِ الذي يمرُّ على الأذُنِ صَفْحًا وهذا القولُ البليغُ يَتَضَمَّنُ ثلاثةَ أمورٍ:
وفي متعلَّق قولِه: {فِي أَنفُسِهِمْ} قولانِ:
أحدُهما: بقولِهِ {بَلِيغًا} أي: قولاً بليغًا في أنفسِهِم، وهذا حسنٌ من جهةِ المعنى، ضعيفٌ من جهةِ الإعرابِ؛ لأنَّ صفةَ الموصوفِ لا تَعْمَلُ فيما قبلَها.
قلتُ: وهذا القولُ أحسنُ.
ثم قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ}[النساء:63] قالَ ابنُ كثيرٍ: (أي: إنمَّا فُرِضَتْ طاعتُه على مَنْ أرسلهُ إليهم).
وقالَ ابنُ القيّمِ: (هذا
تنبيهٌ على جلالةِ مَنْصِبِ الرّسالةِ وعِظَمِ شأنها، وأنّه سبحانَهُ لم
يُرْسِلْ رسلَه عليهمُ الصلاةُ والسلامُ إلّا ليُطاعُوا بإذنه، فتكونُ
الطاعةُ لهم لا لغيرِهم؛ لأنّ طاعتَهُم طاعةُ مُرْسِلِهِمْ، وفي ضمنِه أنَّ
مَنْ كذَّبَ رسولَهُ محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَدْ
كذَّبَ الرُّسُلَ).
والإذنُ ههنا هو الإذنُ الأمريُّ لا الكونيُّ؛ إذ لو كانَ إذنًا كونيًّا
قدريًّا لَمَا تَخَلَّفتْ طاعتُهم، وفي ذِكرِهِ نكتةٌ وهي أَنَّه بنفسِ
إرسالِهِ تَتَعَيَّنُ طاعتُه، وإرسالُه نفسُه إذنٌ في طاعتِه، فلا تتوقَّفُ
على نصٍّ آخرَ سوى الإرسالِ بأمرٍ فيه بالطاعةِ، بل متى تَحَقَّقَتْ
رسالتُهُ وجبتْ طاعتُه، فرسالتُه نفسُها متضَمِّنةٌ للإذنِ في الطاعةِ.
وقولُه: {وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}[النساء:63].
قالَ ابنُ القَيِّمِ: (لمّا
علِمَ سبحانَه أنَّ المرسَلَ إليهِم لا بُدَّ لهم من ظلمٍ لأنفسِهِم،
واتباعٍ لأهوائِهم، أرْشَدَهُم إلى ما يَدْفَعُ عنهم شرَّ ذلك الظلمِ
ومُوجَبَه، وهو شيئانِ:
أحدُهما:منهم، وهو استغفارُهم ربَّهُم عزّ وجلَّ.
والثاني:من غيرِهم
وهو استغفارُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم إذا جاؤُوه،
وانقادُوا له، واعْتَرفوا بظلمِهم، فمتى فعلُوا ذلك وجدُوا اللهَ توابًا
رحيمًا يتوبُ عليهم فيمحو أثرَ سيئاتِهِم ويَقِيهِم شرَّها، ويَزِيدُهم معَ
ذلك رحمتَه وبِرَّهُ وإحسانَه).
قيلَ: أمّا حظُّ مَن ظَلمَ نفسَهُ بعدَ موتِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
هذهِ الآيةِ فالاستغفارُ، وأَنْ يتوبَ إلى اللهِ توبةً نَصُوحًا في كلِّ
زمانٍ ومكانٍ، ولا يُشْتَرَطُ في صحةِ التوبةِ المجيءُ إلى قبرِه،
والاستغفارُ عندَه بالإجماعِ.
وأكثرُ ما استدلَّ بهِ مَنْ أجازَ ذلك روايةُ العتبيِّ عن أعرابيٍّ مجهولٍ، على أنَّ القصةَ لا نَعْلَمُ لها إسنادًا.
ومثلُ هذا لو كانَ حديثًا، أو أثرًا عن صحابيٍّ لم يَجُزِ الاحتجاجُ به،
ولم يَلْزَمْنَا حكمُهُ لعدمِ صحتِهِ، فكيفَ يجوزُ الاحتجاجُ في هذا بقصةٍ
لا تَصِحُّ عن بدويٍّ لا يُعرَفُ؟!.
ثم قال تعالى: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:64].
قال ابنُ القيِّمِ: (أقسمَ
سبحانَهُ بأجَلِّ مُقْسَمٍ بهِ، وهو نفسُهُ عزَّ وجلَّ على أَنَّهُ لا
يَثْبُتُ لهم الإيمانُ، ولا يكونونَ من أهلِه حتى يُحَكَّمَ لرسولهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميعِ مواردِ النزاعِ، وفي جميعِ أبوابِ
الدِّينِ فإنَّ لفظةَ (ما) من صيغِ العمومِ، ولم يَقْتَصِرْ على هذا حتى
ضَمَّ إليه انشراحَ صدورِهِم بحكمِه، بحيثُ لا يَجِدُون في أنفسِهم حرجًا،
وهو الضيقُ والحصرُ مِنْ حكمِه، بل يقبلونَ حكمَهُ بالانشراحِ،
ويُقابلونَهُ بالقَبُولِ، لا يأخذونَهُ على إغماضٍ، و(لا)يَشْرَبُونه على
قذًى، فإنَّ هذا مُنافٍ للإيمانِ، بل لا بُدَّ أَنْ يكونَ أخْذُهُ بقبولٍ
ورِضًى وانشراحِ صدرٍ.
ومتى أرادَ العبدُ شاهدًا فلينظُرْ في حالِهِ، ويُطالِعْ قلبَه عندَ ورودِ
حُكمِه على خلافِ هواه وغرضِه، أو على خلافِ ما قلَّدَ فيه أسلافَهُ من
المسائلِ الكبارِ وما دونهَا {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة: 14-15] فسبحانَ اللهِ! كم مِنْ حَزازةٍ في نفوسِ كثيرٍ من النصوصِ، وبوُدِّهم أَنْ لو لم تَرِدْ.
وكم من حرارةٍ في أكبادِهم منها، وكم من شَجًى في حُلوقِهِم من مورِدِها،
ثم لم يَقْتَصِرْ سبحانَهُ على ذلكَ حتى ضَمَّ إليهِ قولَه: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
فذكرَ الفعلَ مؤكِّدًا له بالمصدرِ القائمِ مقامَ ذكرِهِ مرتينِ، وهو
الخضوعُ والانقيادُ لما حكَمَ به طَوْعًا ورِضًى وتسليمًا، لا قهرًا أو
مصابرةً، كما يُسلِّمُ المقهورُ لمَنْ قهَرَهُ كَرْهًا، بل تسليمُ عبدٍ
مطيعٍ لمولاهُ وسيدِه الذي هو أحبُّ شيءٍ إليه، يعلمُ أَنَّ سعادَتَه
وفلاحَهُ في تسليماتِه) انتهى.
وقد وردَ في (الصحيحِ) أَنَّ سببَ نزولهِا قصةُ الزبيرِ
لمّا اخْتَصَمَ هو والأنصاريُّ في شِراجِ الحَرَّةِ، ولكنّ الاعتبارَ
بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ فإذا كان سببُ نزولِها مُخاصَمةً في
مَسِيلِ ماءٍ قَضَى فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بقضاءٍ، فلم يرضَه الأنصاريُّ، فنَفَى تعالى عنه الإيمانَ بذلكَ، فما
ظنُّكَ بمَنْ لم يَرْضَ بقضائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحكامِه
في أصولِ الدينِ وفروعِه؟!
بل إذا دُعُوا إلى ذلكَ توَلَّوا وهم مُعْرِضُونَ، ولم يَكْفِهِم ذلكَ حتى
صَدُّوا الناسَ عنهُ، ولم يَكْفِهم ذلكَ حتى كفَّروا، أو بدَّعُوا مَن
اتَّبعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكَّمَهُ في أصولِ الدينِ
وفروعِه، ورضِيَ بحكمِه في ذلكَ، ولم يَبْغِ عنهُ حِوَلاً.
وقولُهُ تعالى: {وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا
مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}
المعنى واللهُ أعلمُ أي: لو أوْجَبْنَا عليهم مثلَ ما أوْجَبْنَا على بني
إسرائيلَ مِن قتلِهم أنفسَهم، أو خروجِهم من ديارِهم حينَ استُتِيبوا من
عبادةِ العجلِ {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}
وهذا توبيخٌ لمَنْ لم يُحَكِّمِ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في مواردِ الشِّجارِ، أي: نحنُ لم نكتبْ عليهم ذلكَ، بل إنمّا أَوْجَبْنَا
عليهم مَا في وُسْعِهِم، فما لهم لا يُحَكِّمونكَ، ولا يَرْضَون بحكمِك؟!.
ثم قالَ تعالى: {وَلَوْ
أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ
وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (65) وَإِذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْرًا
عَظِيمًا (66) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}[النساء:65،66].
قالَ ابنُ القيّمِ: (أخبرَ
تعالى أَنهم لو فعلُوا ما يَعِظُهُم به، وهو أمرُهُ ونهيُهُ المقرونُ
بوعدِهِ ووعيدِهِ لكانَ فعلُ أمرِهِ وتركُ نهيِه خيرًا لهم في دينِهِم
ودنياهُم، وأشدَّ تثبيتًا لهم على الحقِّ، وتحقيقًا لإيمانِهِم، وقوةً
لعزائِمِهِم وإراداتِهِم، وثَباتًا لقلوبِهِم عندَ جيوشِ الباطلِ، وعندَ
وارداتِ الشبهاتِ المُضِلَّةِ، والشهواتِ المُرْدِيَةِ.
فطاعةُ اللهِ تعالى ورسولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي سببُ ثباتِ
القلبِ، وقوتُه قوةُ عزائمِه وإرادتِه، ونفاذُ بصيرتِه، وهذا دليلٌ على
أنَّ طاعةَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُثْمِرُ الهدايةَ،
وثباتَ القلبِ عليها، ومخالفتَه تُثْمِرُ زَيْغَ القلبِ، واضطرابَه، وعدمَ
ثباتِه).
ثم قالَ تعالى: {وَمَن
يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا}[النساء: 68]).
قالَ ابنُ القيِّمِ: (فأخبرَ
سبحانَهُ أَنَّ طاعتَهُ وطاعةَ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُوجِبُ مُرافقةَ المُنْعَمِ عليهم، وهُمْ أهلُ السعادةِ الكاملةِ، وهم أربعةُ أصنافٍ:
قالَ المصنفُ: وقولُهُ: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}[الأعراف:55]، قالَ أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ في الآيةِ: (إنَّ اللهَ بعثَ محمدًا صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهلِ الأرضِ، وهم في فسادٍ فأصلَحَهم اللهُ
بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمَنْ دعَا إلى خلافِ ما جاءَ به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو من المُفْسِدينَ في الأرضِ).
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (قالَ
أكثرُ المفسِّرينَ: لا تُفْسِدُوا فيها بالمعاصي والدعاءِ إلى غيرِ طاعةِ
اللهِ بعدَ إصلاحِ اللهِ إيَّاها ببعثِ الرُّسلِ وبيانِ الشريعةِ والدعاءِ
إلى طاعةِ اللهِ؛ فإنَّ عبادةَ غيرِ اللهِ والدعوةَ إلى غيرِه والشِّركَ به
هُوَ أعظمُ فسادٍ في الأرضِ، بل فسادُ الأرضِ في الحقيقةِ إنمَّا هو
بالشركِ بهِ ومخالفةِ أمرِهِ.
فالشركُ والدعوةُ إلى غيرِ اللهِ، وإقامةُ معبودٍ غيرِه، ومطاعٍ مُتَّبَعٍ
غيرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو أعظمُ الفسادِ في
الأرضِ، ولا صلاحَ لها ولا لأهلِها إلاَّ أَنْ يكونَ اللهُ وحدَه هو
المعبودَ، والدعوةُ له لا لغيرِه، والطاعةُ والاتباعُ لرسولهِ ليسَ إلاّ.
وغيرُه إنما تجبُ طاعتُه إذا أمرَ بطاعةِ الرّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فإذا أمرَ بمعصيتهِ وخلافِ شريعتهِ، فلا سمعَ لهُ، ولا طاعةَ،
ومَن تَدبَّر أحوالَ العالمِ وجَدَ كلَّ صلاحٍ في الأرضِ فسببُهُ توحيدُ
اللهِ وعبادتُهُ، وطاعةُ رسولِهِ، وكلَّ شرٍّ في العالمِ، وفتنةٍ وبلاءٍ،
وقحطٍ وتسلُّطِ عدوٍّ وغيرِ ذلكَ، فسببُه مخالفةُ رسولِهِ، والدعوةُ إلى
غيرِ اللهِ ورسولِهِ). انتهى.
وبهذا يتبيّنُ وجهُ مطابقةِ الآيةِ للترجَمةِ؛ لأنَّ مَنْ يدعو إلى
التحاكُمِ إلى غيرِ ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسولِ، فقد أتى بأعظمِ الفسادِ.
قالَ: وقولُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}[البقرة:11]،
قالَ أبو العاليةِ: (في
الآيةِ يعني: لا تَعْصُوا في الأرضِ، وكان فسادُهُم ذلك معصيةً للهِ؛
لأنَّ مَنْ عَصَى اللهَ في الأرضِ، أو أَمَرَ بمعصيةِ اللهِ، فقد أفسَدَ في
الأرضِ؛ لأنَّ صلاحَ الأرضِ والسماءِ بالطاعةِ).
قلتُ: ومطابقةُ الآيةِ للترجمةِ ظاهرٌ؛ لأنَّ مَنْ دعَا إلى التحاكُمِ إلى غيرِ مَا أنزلَ اللهُ فقد أتَى بأعظمِ الفسادِ.
وفي الآيةِ دليلٌ على وجوبِ اطِّراحِ الرأيِ مع السّنةِ، وإن ادَّعى صاحبُه
أنه مُصْلِحٌ، وأَنَّ دعوى الإصلاحِ ليسَ بعذرٍ في تركِ ما أنزلَ اللهُ،
والحذرُ من العُجْبِ بالرأيِ.
قالَ: (وقولُهُ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ})[المائدة:53].
قال ابنُ كثيرٍ: (يُنْكِرُ
تعالى على مَنْ خرجَ عن حكمِ اللهِ تعالى المشتملِ على كلِّ خيرٍ وعدلٍ،
الناهي عن كلِّ شرٍّ إلى ما سواه من الآراءِ والأهواءِ والاصطلاحاتِ التي
وضَعَها الرجالُ بلا مستندٍ من شريعةِ اللهِ كمَا كانَ أهلُ الجاهليةِ
يُحَكِّمونَ به من الضلالاتِ والجَهالاتِ.
كما يَحْكُمُ به التَّتَارُ من السياساتِ المأخوذةِ عن جنكز خان
الذي وضَعَ لهم كتابًا مجموعًا مِن أحكامٍ اقتبسَها من شرائعَ شتَّى من
الملةِ الإسلاميَّةِ وغيرِها، وفيها كثيرٌ من الأحكامِ أخذَهَا عن مجردِ
نظرِه، فصارَ في بَنِيهِ شرعًا يقدِّمُونَه على الحكمِ بالكتابِ والسُّنةِ،
ومَن فعلَ ذلك فهو كافرٌ يَجِبُ قتالُهُ حتى يَرْجِعَ إلى حكمِ اللهِ
ورسولِهِ.
فلا يُحَكَّمُ سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ، قالَ تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي: يريدونَ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
أي: ومَنْ أعدلُ مِنَ اللهِ في حكمِهِ لمَنْ عقَلَ عن اللهِ شرعَهُ، وآمنَ
وأيقنَ، وعَلِمَ أنَّهُ تعالى أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بعبادِه من الوالدةِ
بولدِهَا فإنه تعالى العالِمُ بكلِّ شيءٍ، القادرُ على كلِّ شيءٍ، العادلُ
في كلِّ شيءٍ).
ورواهُ الطبرانيُّ وأبو بكرِ بنُ عاصمٍ، والحافظُ أبو نُعيمٍ في (الأربعينَ) التي شرَطَ في أولِها أَنْ تكونَ من صِحاحِ الأخبارِ.
وقال ابنُ رجبٍ: (تصحيحُ هذا الحديثِ بعيدٌ جدًّا من وجوهٍ ذكَرَهَا، وتَعقَّبهُ بعضُهم).
قلتُ: ومعناهُ صحيحٌ قطعًا، وإنْ لم يصحَّ إسنادُه، وأصلُه في القرآنِ كثيرٌ كقولِه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء:64].
- وقولِه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36].
قولُه:((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ)) أي: لا يحصلُ له الإيمانُ الواجبُ ولا يكونُ من أهلِه.
قولُه: ((حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ))
قالَ بعضُهم: هواهُ بالقَصْرِ، أي: ما يَهْواهُ، أي: تُحِبُّهُ نفسُه
وتميلُ إليهِ، ثم المعروفُ في استعمالِ الهوى عندَ الإطلاقِ أَنَّهُ الميلُ
إلى خلافِ الحقِّ، ومنهُ: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ}[ص:26]
وقد يُطْلَقُ على الميلِ والمحبةِ ليشملَ الميلَ للحقِّ وغيرِهِ، وربما
اسْتُعْمِلَ في محبةِ الحقِّ خاصةً، والانقيادِ إليه، كما في حديثِ صَفْوانَ بنِ عَسَّالٍ(أنه سُئِلَ هل سَمِعْتَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الهوى…) الحديثَ.
قالَ ابنُ رجبٍ: (أما
معنى الحديثِ، فهو أَنَّ الإنسانَ لا يكونُ مؤمنًا كامِلَ الإيمانِ
الواجبِ، حتى تكونَ محبتُه تابعةً لما جاءَ به الرسولُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوامرِ والنواهي وغيرِها، فيُحِبُّ ما أمرَ بهِ
ويَكْرَهُ ما نهَى عنه.
وقد وردَ القرآنُ بمثلِ هذا في غيرِ موضعٍ، وذَمَّ سبحانَه مَنْ كَرِهَ ما
أحبَّهُ اللهُ تعالى، أو أحَبَّ ما كرِهَ اللهُ، كمَا قالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] وقال: {ذلكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
[محمد:28] فالواجبُ على كلِّ مؤمنٍ أَنْ يحبَّ ما أحبَّهُ اللهُ محبةً
تُوجِبُ له الإتيانَ بما وجَبَ عليهِ منهُ، فإن زادَتِ المحبةُ حتى أتَى
بما نُدِبَ إليهِ منهُ كانَ ذلكَ فضلاً.
وأَنْ يكرَهَ ما كرِهَهُ اللهُ كراهةً تُوجِبُ له الكَفَّ عمَّا حرُمَ عليه
منه، فإن زادتِ الكراهةُ حتى أوْجَبَت الكفَّ عما كرِهَهُ تنزيهًا كانَ
ذلكَ فضلاً.
فمَن أحَبَّ اللهَ ورسولَه محبةً صادقةً من قلبِهِ، أوْجَبَ ذلك لَهُ أَنْ
يُحِبَّ بقلبهِ ما يحبُّه اللهُ ورسولُهُ ويَكْرَهَ ما يَكْرَهُهُ اللهُ
ورسولُهُ، ويَرْضَى بِمَا يَرْضَى به اللهُ ورسولُهُ، ويَسْخَطُ ما
يَسْخَطُ اللهُ ورسُولُهُ، وأَنْ يعملَ بجوارِحِه بمقتضى هذا الحبِّ
والبغضِ.
فإن عمِلَ بجوارحِه شيئًا يخالفُ ذلكَ، بأن ارتكبَ بعضَ ما يَكْرَهُهُ
اللهُ ورسولُهُ، أو ترَكَ بعضَ ما يُحبُّهُ اللهُ ورسولُه معَ وجوبِهِ
والقدرةِ عليه، دلَّ ذلكَ على نقصِ محبتهِ الواجبةِ، فعليه أَنْ يتوبَ من
ذلكَ، ويَرْجِعَ إلى تكميلِ المحبةِ الواجبةِ. فجميعُ المعاصي تَنْشَأُ من
تقديمِ هَوَى النفسِ على محبةِ اللهِ ورسولِهِ، وقد وصَفَ اللهُ المشركينَ
باتباعِ الهوى في مواضعَ من كتابِهِ، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُم} [القصص:50].
وكذلكَ البدعُ إنما تَنْشَأُ من تقديمِ الهوى على الشرعِ، ولهذا سُمِّيَ
أهلُها أهلَ الأهواءِ، وكذلك المعاصي إنمّا تقعُ من تقديمِ الهوى على
محبّةِ اللهِ ومحبّةِ ما يُحِبُّه اللهُ، وكذلك حبُّ الأشخاصِ الواجبُ فيه
أَنْ يكونَ تَبَعًا لِمَا جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فيَجِبُ على المؤمنِ محبةُ ما يُحِبُّهُ اللهُ من الملائكةِ والرسلِ والصديقين، والأنبياءِ والشهداءِ والصالحينَ عمومًا.
ولهذا كانَ علامةُ وجودِ حلاوةِ الإيمانِ ((أَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ)) وتحرُمُ موالاةُ أعداءِ اللهِ ومَن يَكْرَهُه اللهُ عمومًا، وبهذا يكونُ الدينُ كلُّه للهِ.
و((مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)).
ومَن كان حبُّه، وبُغْضُه، وعَطَاؤُهُ، ومنعُهُ لهوَى نفسِه، كانَ ذلك
نقصًا في إيمانِه الواجبِ، فتَجِبُ عليه التوبةُ من ذلكَ، والرجوعُ إلى
اتِّباعِ ما جاء به الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تقديمِ
محبةِ اللهِ ورسولِهِ، وما فيه رضى اللهِ ورسولِهِ على هَوَى النفسِ
ومرادِها). انتهى ملخصًا.
ومطابقةُ الحديثِ للبابِ ظاهرةٌ من جهةِ أنَّ الرجلَ لا يُؤْمِنُ حتى يكونَهواهُ
تبعًا لما جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلِّ شيءٍ
حتى في الحكمِ وغيرِه. فإذا حكَم بحكمٍ أو قَضَى بقضاءٍ، فهو الحقُّ الذي
لا محيدَ للمؤمنِ عنهُ، ولا اختيارَ له بعدَهُ.
قولُه: (كانَ بينَ رجلٍ من المنافِقين، ورجلٍ مِن اليهودِ خُصومةٌ) لم أقفْ على تسميةِ هذين الرجلينِ، وقد رَوَى ابنُ إسحاقَ وابنُ المنذرِ، وابنُ أبي حاتمٍ قال: كانَ الجلاسُ بنُ الصامتِ قبلَ توبتهِ، ومُعَتِّبُ بنُ قشيرٍ، ورافعُ بنُ زيدٍ وبَشِيرٌ، كانوا
يدَّعُون الإسلامَ، فدعَاهُم رجالٌ من قومِهِم من المسلمينَ في خُصومةٍ
كانتْ بينَهُم إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعَوْهم
إلى الكُهَّانِ حُكَّامِ الجاهليةِ، فأنزلَ اللهُ فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآيةَ.
فيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المنافقُ المذكورُ في قصةِ الشعبيِّ أحدَ هؤلاءِ، بل روى الثعلبيُّ عن ابنِ عباسٍ أَنَّ المنافقَ اسمُهُ بشرٌ.
قولُه: ((عرَفَ أنه لا يَأخُذُ الرِّشْوَةَ)) هي بتثليثِ الراءِ، قال أبو السعاداتِ:
(وهو الوصلةُ إلى الحاجةِ بالمصانعةِ، وأصلُه من الرِّشَاءِ الذي
يُتَوَصَّلُ به إلى الماءِ، والراشِي: مَن يُعْطِي الذي يُعِينُه على
الباطلِ، والمُرْتَشِي: الآخِذُ).
قلتُ: فعلى هذا رِشوةُ الحاكمِ هي ما يُعْطَاهُ ليَحْكُمَ بالباطلِ، سواءً طلَبهَا أم لاَ.
وفيه: دليلٌ على شهادةِ أَنَّ محمدًا رسولُ اللهِ؛ لأنَّ أعداءَهُ يعلمونَ عدلَهُ في الأحكامِ، ونزاهتَهُ عن قَذَرِ الرِّشْوةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلافِ حكامِ الباطلِ.
قولُهُ: ((فاتَّفَقَا على أَنْ يَأتِيا كاهنًا في جُهَيْنَةَ)) لم أقِفْ على تسميةِ هذا الكاهنِ، وفي قصةٍ رواها ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ، عن السُّدِّيِّ في سببِ نزولِ الآيةِ قالَ: (فتفاخَرتِ النضيرُ وقُريظةُ؛ فقالتِ النضيرُ: نحنُ أكرمُ مِن قُريظةَ.
وقالتْ قريظةُ: نحنُ أكرمُ منكم، فدخلوا المدينةَ إلى أبي بُرْدَةَ الأسلميِّ) وذكَرَ القصةَ.
فقالَ اليهوديُّ لعمرَ: (قضَى لنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يَرْضَ بقضائِه)
فقالَ للمنافقِ: (أكذلكَ؟)
قالَ: (نعم)
فقال عمرُ: (مكانَكُمَا حتى أَخْرُجَ إليكما) فدخَلَ عمرُ فاشْتَملَ على سيفِهِ، ثم خرَجَ فضرَبَ عُنُقَ المنافقِ حتى بَرَدَ.
ثم قالَ: (هكذا أَقْضِي لِمَن لم يَرْضَ بقضاءِ اللهِ ورسولِهِ) فنَزَلَتْ.
وروَى الحَكِيمُ الترمذيُّ في (نوادرِ الأصولِ) هذهِ القصةَ عن مكحولٍ، وقالَ في آخرِها: (فأتَى جبريلُ عليه السلامُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: (إنَّ عمرَ قد قتَلَ الرجلَ، وفرَّقَ اللهُ بينَ الحقِّ والباطلِ على لسانِ عمرَ، فسُمِّيَ الفاروقَ).
وفيه: (فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَجْتَرِئَ عُمَرُ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ)) فأنزلَ اللهُ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآيةَ)، فهَدَرَ دمَ ذلك الرجلِ، وبَرِئَ عمرُ من قتلِهِ، فكرِهَ اللهُ أَنْ يَسُنَّ ذلكَ بعدُ، فقالَ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} إلى قولِه: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}.
وبالجملةِ فهذهِ القصةُ مشهورةٌ مُتَدَاولةٌ بينَ السلفِ والخلفِ تَداولاً
يُغْنِي عن الإسنادِ، ولها طرقٌ كثيرةٌ، ولا يضرُّها ضعفُ إسنادِها، وكعبُ بنُ الأشرفِ المذكورُ هنا هو طاغوتٌ من رؤساءِ اليهودِ وعلمائِهم.
ذكَر ابنُ إسحاقَ وغيرُه: (أنَّهُ كَانَ مُوادِعًا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جملةِ مَن وَادَعه من يهودِ المدينةِ.
وكانَ عربيًّا مِن بني طَيِّئٍ وكانَتْ أمُّه مِن بني النَّضيرِ.
قالُوا: فلمَّا قُتِلَ أهلُ بدرٍ شَقَّ ذلك عليهِ، وذَهَبَ إلى مكةَ ورَثَاهُم لقريشٍ.
وفضَّلَ دينَ الجاهليةِ على دينِ الإسلامِ حتى أنْزَلَ اللهُ فيه: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ
أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنوا سَبِيلاً}[النساء:50] ثم لما رَجَعَ إلى المدينةِ أخَذَ يُنْشِدُ الأشعارَ يَهْجُو بها رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وشبَّبَ بنساءِ المسلمينَ حتى آذاهم، حتى قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ)) وذكَرَ قصةَ قتلهِ.
وقتَلَهُ محمدُ بنُ مَسْلَمةَ، وأبو نائلةَ، وأبو عَبْسِ بنُ جَبْرٍ، وعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُم).
ومعرفةُ أعداءِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما كانَ عليهِ من العلمِ والعدلِ في الأحكامِ.
وفيها أَنَّ مَن طعَنَ في أحكامِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في شيءٍ من دينهِ قُتِلَ كهذا المنافقِ بل أوْلَى.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
بابُ قولِ اللهِ تعالى: {ألَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا(.6) وإذَا قيِلَ لهَم تَعَالَوا إلى مَا
أَنزَلَ اللهُ وإلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ
صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ
إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}[النساء:60-62].
قالَ العِمادُ ابنُ كثيرٍ: (والآيةُ ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عن الكتابِ والسُّنَّةِ وَتَحَاكَمَ إلى ما سِوَاهُمَا من الباطلِ؛ وهوَ المرادُ بالطاغوتِ هَهُنَا).
وَتَقَدَّمَ ما ذَكَرَهُ العلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في حَدِّهِ للطاغوتِ، وأنَّهُ: كلُّ مَا تَجَاوَزَ بهِ العبدُ حَدَّهُ منْ معبودٍ أوْ مَتْبُوعٍ أوْ مُطَاعٍ،
فكلُّ مَنْ حَاكَمَ إلى غيرِ كتابِ اللهِ وَسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقدْ حَاكَمَ إلى الطاغوتِ الذي أَمَرَ اللهُ تعالى
عِبَادَهُ المؤمنينَ أنْ يَكْفُرُوا بهِ؛ فإنَّ التحاكمَ ليسَ إلاَّ إلى
كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ ومَنْ كانَ يَحْكُمُ بِهِمَا، فمَنْ
تَحَاكَمَ إلى غَيْرِهِمَا فقدْ تَجَاوَزَ بهِ حَدَّهُ، وَخَرَجَ عَمَّا
شَرَعَهُ اللهُ ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَهُ
مَنْزِلَةً لا يَسْتَحِقُّهَا.
وكذلكَ: مَنْ عَبَدَ شَيْئًا دونَ اللهِ فَإِنَّمَا عبَدَ الطاغوتَ؛ فإنْ كانَ المعبودُ صَالِحًا صارَتْ عبادةُ العابدِ لهُ راجعةً إلى الشيطانِ الذي أَمَرَهُ بها، كما قالَ تعالى: {وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ
أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمُ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ
مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
هُنَالِكَ تَبْلُوا كَلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلى اللهِ
مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[يونس: 28-30]. وكذلكَ: مَنْ دَعَا إلى تَحْكِيمِ غيرِ اللهِ تعالَى ورسولِهِ فقدْ تَرَكَ ما جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغِبَ
عنهُ، وَجَعَلَ للهِ شَرِيكًا في الطاعةِ، وخَالَفَ ما جاءَ بهِ رسولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمَا أَمَرَهُ اللهُ تعالى بهِ في
قولِهِ: {وَأَنِ
احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}[المائدة:49]. فَفِي هَذِهِ الآيةِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: الأَوَّلُ: أنَّهُ مِنْ إرادةِ الشيطانِ. الثاني: أنَّهُ ضَلاَلٌ. الثالثُ: تَأْكِيدُهُ بِالْمَصْدَرِ. الرَّابِعُ: وَصْفُهُ بالبُعْدِ عنْ سبيلِ الحقِّ والهُدَى. فَسُبْحَانَ اللهِ ما
أَعْظَمَ هذا القرآنَ وَمَا أَبْلَغَهُ، وَمَا أَدَلَّهُ على أنَّهُ كلامُ
ربِّ العالمينَ، أَوْحَاهُ إلى رسولِهِ الكريمِ، وَبَلَّغَهُ عَبْدَهُ
الصادقَ الأمينَ صلواتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عليهِ. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}.
بَيَّنَ تعالى أنَّ هذهِ صفةُ المُنَافِقِينَ، وأنَّ مَنْ فَعَلَ ذلكَ أوْ
طَلَبَهُ، وإنْ زَعَمَ أنَّهُ مُؤْمِنٌ فإنَّهُ في غايةِ البُعدِ عن
الإيمانِ. (2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}[البقرة:11] قالَ أبو العاليَةِ في الآيةِ: (يَعْنِي
لا تَعْصُوا في الأرضِ؛ لأنَّ مَنْ عَصَى اللهَ في الأرضِ أوْ أَمَرَ
بِمَعْصِيَةِ اللهِ فقدْ أَفْسَدَ في الأرضِ؛ لأنَّ صلاحَ الأرضِ والسماءِ
إِنَّمَا هوَ بطاعةِ اللهِ ورسولِهِ). ومناسبةُ الآيةِ للترجمةِ: أنَّ التحاكُمَ إلى غيرِ اللهِ ورسولِهِ منْ أعمالِ المنافقينَ، وهو مِن الفسادِ في الأرضِ. (3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}[الأعراف: 56]، قال أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ في الآيةِ: (إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهلِ الأرضِ وهم في فسادٍ، فَأَصْلَحَهُم اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ فَمَنْ دَعَا إلى خلافِ ما جاءَ بهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهوَ من المُفْسِدِينَ في الأرضِ). وَوَجْهُ مطابقةِ هذهِ الآيةِ للترجمةِ:
أنَّ التحاكمَ إلى غيرِ اللهِ ورسولِهِ منْ أعظمِ ما يُفْسِدُ الأرضَ من
المعاصِي، فَلاَ صَلاَحَ لها إلاَّ بِتَحْكِيمِ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ
رسولِهِ، وهوَ سبيلُ المؤمنِينَ، كَمَا قالَ تعالى: {وَمَن
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115]. (4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى: وقولُه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة:50]. قولُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
استفهامُ إنكارٍ، أيْ: لا حُكْمَ أَحْسَنُ منْ حُكْمِهِ تعالى، وهذا منْ
بابِ استعمالِ أَفْعَلِ التفضيلِ فيما لَيْسَ لهُ في الطَّرفِ الآخرِ
مُشَارِكٌ، أيْ: ومَنْ أَعْدَلُ مِن اللهِ حُكْمًا لِمَنْ عَقَلَ عن اللهِ
شَرْعَهُ وآمَنَ وَأَيْقَنَ أنَّ اللهَ تعالَى أَحْكَمُ الحاكِمِينَ،
وَأَرْحَمُ بِعِبَادِهِ من الوالدةِ بِوَلَدِهَا، العليمُ بِمَصَالِحِ
عِبَادِهِ، القادرُ على كلِّ شيءٍ، الحكيمُ في أقوالِهِ وأفعالِهِ
وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ؟ (5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) قالَ النَّوَوِيُّ: (حديثٌ صحيحٌ رُوِّينَاهُ فِي كِتابِ (الحُجَّةِ) بإسنادٍ صحيحٍ) . يَعْنِي:
أنَّهُ بالمعصيةِ يَنْتَفِي عنهُ كمالُ الإِيمانِ الواجبِ وَيَنْزِلُ عنهُ
في درجةِ الإِسلامِ وَيَنْقُصُ إيمانُهُ، فلا يُطْلَقُ عليهِ الإِيمانُ
إلاَّ بِقَيْدِ المعصيةِ، أو الفسوقِ، فَيُقَالُ: مؤمنٌ عاصٍ، أوْ يُقَالُ:
مُؤْمِنٌ بإيمانِهِ فاسقٌ بِمَعْصِيَتِهِ؛ فيكونُ مَعَهُ مطلقُ الإِيمانِ
الذي لا يَصِحُّ إسلامُهُ إلاَّ بهِ، كما قالَ تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}[النساء:92]. والأدلَّةُ على ما عليهِ سَلَفُ الأُمَّةِ
وَأَئِمَّتُهَا أنَّ الإِيمانَ قولٌ وعملٌ ونِيَّةٌ، يَزِيدُ بالطاعةِ
ويَنْقُصُ بالمعصيةِ، منْ كتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ أنْ تُحْصَرَ، فمِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى:
{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:142] أيْ: صَلاَتَكُمْ إلى بيتِ المَقْدِسِ قبلَ تحويلِ القبلةِ، وقولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عبدِ القَيْسِ:((آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؟ شَهادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))الحديثَ، وهوَ في (الصحيحَيْنِ) و(السُّنَنِ). (6) قولُهُ: (وقالَ الشَّعْبِيُّ) هوَ عامرُ بنُ شَرَاحِيلَ الكُوفِيُّ، عالمُ أهلِ زَمَانِهِ، وكانَ حافظًا عَلاَّمَةً ذا فُنُونٍ، كانَ يقولُ: (مَا كَتَبْتُ سوداءَ في بيضاءَ) وَأَدْرَكَ خَلْقًا من الصحابةِ، وَعَاشَ بِضْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، قالَهُ الذهبيُّ. قالَ: ائْذَنْ لِي فَلأَقُل. ((قُلْ))
فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ، وَذَكَرَ مَا بَيْنَهُمَا وَقَالَ: إِنَّ هَذا
الرَّجُلَ قَدْ أَرَادَ صَدَقَةً وَقَد عَنَانَا، فَلَمَّا سَمِعَهُ قالَ: ((وَأَيضًا وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ)). قالَ: فَجَاؤُوا فَدَعَوْهُ لَيلاً فَنَزَلَ إِلَيْهِم. سفيانُ: قالَ غيرُ عمرٍو: قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنِّي لأَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ صَوْتُ دَمٍ. .
وَكَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ
إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (.4) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا
مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم
مُّؤْمِنُونَ}[سبأ:40-41]
وإن كانَ مِمَّنْ يَدْعُو إلى عبادةِ نفسِهِ أوْ كانَ شَجَرًا أوْ حَجَرًا
أوْ قَبْرًا أوْ غيرَ ذلكَ مِمَّا كانَ يَتَّخِذُهُ المشركونَ لَهم
أَصْنَامًا على صِوَرِ الصالحِينَ والملائكةِ وَغَيْرِ ذلكَ، فهيَ من
الطاغوتِ الذي أَمَرَ اللهُ تعالى عبادَهُ أنْ يَكْفُرُوا بعبادتِهِ،
وَيَتَبَرَّؤُوا منهُ؛ ومِنْ عبادةِ كلِّ معبودٍ سِوَى اللهِ كَائِنًا مَنْ
كانَ، وهذا كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ الشيطانِ وَتَسْوِيلِهِ، فهوَ الذي دَعَا
إلى كلِّ باطلٍ وَزَيَّنَهُ لِمَنْ فَعَلَهُ، وهذا يُنَافِي التوحيدَ الذي
هوَ مَعْنَى شهادةِ أنَّ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ.
فالتوحيدُ: هوَ الكفرُ بِكُلِّ طاغوتٍ عَبَدَهُ العابدونَ مِنْ دونِ اللهِ، كما قالَ تعالى: {قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة:4] وكلُّ مَنْ عَبَدَ غيرَ اللهِ فَقَدْ جَاوَزَ بهِ حَدَّهُ وأعطاهُ من العبادةِ ما لا يَسْتَحِقُّهُ.
قالَ الإمامُ مالكٌ: (الطَّاغُوتُ مَا عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ).
- وقولِهِ: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65].
فمَنْ خَالَفَ ما أَمَرَ اللهُ بهِ رسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، بِأَنْ حَكَمَ بينَ الناسِ بغيرِ ما أَنْزَلَ اللهُ، أوْ طَلَبَ
ذلكَ اتِّبَاعًا لِمَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُهُ فقدْ خَلَعَ رِبْقَةَ
الإسلامِ والإيمانِ منْ عُنُقِهِ، وإنْ زَعَمَ أنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ فإنَّ
اللهَ تعالى أَنْكَرَ على مَنْ أَرَادَ ذلكَ، وَأَكْذَبَهُم في زَعْمِهِم
الإيمانَ، لِمَا في ضمنِ قَوْلِهِ: {يَزعُمُونَ} منْ نَفْيِ إِيمَانِهِم، فإنَّ {يَزْعُمُونَ}
إِنَّمَا يُقَالُ غالبًا لِمَن ادَّعَى دَعْوَى هوَ فيها كاذِبٌ
لِمُخَالَفَتِهِ لِمُوجَبِهَا وَعَمَلِهِ بما يُنَافِيهَا، يُحَقِّقُ هذا
قولُهُ: {وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}
لأنَّ الكفرَ بالطاغوتِ رُكْنُ التوحيدِ، كَمَا في آيةِ البقرةِ، فإذا لم
يَحْصُلْ هذا الركنُ لم يَكُنْ مُوَحِّدًا، والتوحيدُ هوَ أساسُ الإيمانِ
الذي تَصْلُحُ بهِ جميعُ الأعمالِ وَتَفْسُدُ بِعَدَمِهِ.
كما أنَّ ذلكَ بَيِّنٌ في قولِهِ تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا} الآيةَ [البقرة:256]، وذلكَ أنَّ التحاكُمَ إلى الطاغوتِ إيمانٌ بهِ.
وقولُهُ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}
يُبَيِّنُ تَعَالَى في هذهِ الآيةِ أنَّ التحاكمَ إلى الطاغوتِ مِمَّا
يَأْمُرُ بهِ الشيطانُ وَيُزَيِّنُهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ: وَيُبيِّنُ أَنَّ
ذلكَ مِمَّا أَضَلَّ بهِ الشيطانُ مَنْ أَضَلَّهُ، وَأَكَّدَهُ بالمصدرِ،
وَوَصَفَهُ بالبُعدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذلكَ منْ أَعْظَمِ الضَّلاَلِ
وَأَبْعَدِهِ عَنِ الْهُدَى.
قولُهُ:
قالَ الْعَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (هذا دليلٌ على أنَّ مَنْ دُعِيَ إلى تَحْكِيمِ الكتابِ والسُّنَّةِ فَأَبَى أنَّهُ مِنَ المُنَافِقِينَ.
قولُهُ: {وَيَصُدُّونَ} لاَزِمٌ، وهو بِمَعْنَى يُعْرِضُونَ؛ لأنَّ مَصْدَرَهُ {صُدُودًا}
فَمَا أَكْثَرَ مَنِ اتَّصَفَ بهذا الوصفِ، خُصُوصًا مِمَّنْ يَدَّعِي
العلمَ، فإنَّهُم صَدُّوا عَمَّا تُوجِبُهُ الأَدِلَّةُ منْ كتابِ اللهِ
وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أقوالِ مَنْ
يُخْطِئُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلى الأَئِمَّةِ الأربعةِ في
تَقْلِيدِهِم مَنْ لا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، واعتمادِهِم على قَوْلِ مَنْ لا
يَجُوزُ الاعتمادُ على قولِهِ، وَيَجْعَلُونَ قولَهُ المُخَالِفَ لِنَصِّ
الكتابِ والسُّنَّةِ وقواعدِ الشريعةِ هوَ المُعْتَمَدَ عندَهُم الذي لا
تَصِحُّ الفَتْوَى إلاَّ بهِ.
فَصَارَ المُتَّبِعُ للرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
أولئكَ غَرِيبًا، كما تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ على هذا في البابِ الذي
قَبْلَ هذا.
فَتَدَبَّرْ هذهِ الآياتِ وَمَا بَعْدَهَا يَتَبَيَّنْ لكَ ما وَقَعَ فيهِ
غالبُ الناسِ من الإعراضِ عن الحقِّ وَتَرْكِ العملِ بهِ في أكثرِ
الوقائعِ) واللهُ المُسْتَعَانُ.
وقدْ أَخْبَرَ تعالى عنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ عليهِ السلامُ في قولِهِ تعالى: {ثُمَّ
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (.7)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ
صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ
زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ
فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}[يوسف:70-72] فَدَلَّت الآيةُ على أنَّ كلَّ مَعْصِيَةٍ فسادٌ في الأرضِ.
وفي الآيةِ: التَّنْبِيهُ على عَدَمِ الاغترارِ بأقوالِ أهلِ الأهواءِ وإنْ زَخْرَفُوهَا بالدَّعْوَى، وفيها
التحذيرُ من الاغترارِ بالرَّأْيِ ما لم يَقُمْ على صِحَّتِهِ دَلِيلٌ منْ
كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ، فما أَكْثَرَ مَنْ يُصَدِّقُ بالكَذِبِ
ويُكَذِّبُ بالصِّدْقِ إذا جَاءهُ، وهذا مِن الفسادِ في الأرضِ،
وَيَتَرَتَّبُ عليهِ من الفسادِ أُمُورٌ كثيرةٌ، تُخْرِجُ صَاحِبَهَا عن
الحقِّ وتُدْخِلُهُ في الباطلِ، ونَسْأَلُ اللهَ العفوَ والعافيةَ
والمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ في الدينِ والدنيا والآخرةِ.
فَتَدَبَّرْ تَجِدْ ذلكَ في حالِ الأكثرِ إلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ ومَنَّ
عليهِ بقوَّةِ دَاعِي الإيمانِ، وَأَعْطَاهُ عَقْلاً كَامِلاً عندَ
وُرُودِ الشهواتِ؛ وَبَصَرًا ناقدًا عندَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ، وذلكَ
فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ.
وقالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (قالَ
أكثرُ المُفَسِّرِينَ: لا تُفْسِدُوا فيها بالمعاصِي والدعاءِ إلى غيرِ
طاعةِ اللهِ بعدَ إصلاحِ اللهِ لها إياها بِبَعْثِ الرُّسُلِ، وبيانِ
الشريعةِ والدعاءِ إلى طاعةِ اللهِ؛ فإنَّ عبادةَ غيرِ اللهِ والدعوةَ إلى
غيرِهِ والشِّرْكَ بهِ هوَ أَعْظَمُ فسادٍ في الأرضِ، بلْ فَسَادُ الأرضِ
في الحقيقةِ إِنَّمَا هوَ بالشِّرْكِ بهِ ومُخَالَفَةِ أَمْرِهِ،
فَالشِّرْكُ والدعوةُ إلى غيرِ اللهِ وإقامةُ مَعْبُودٍ غيرِهِ، ومُطَاعٍ
مُتَّبَعٍ غيرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هوَ أعظمُ
فَسَادٍ في الأرضِ، ولا صَلاَحَ لها ولا لأَِهْلِهَا إلاَّ أنْ يكونَ اللهُ
وَحْدَهُ هوَ المعبودَ المُطَاعَ؛ والدعوةُ لهُ لا لِغَيْرِهِ؛ والطاعةُ
والاتباعُ لرسولِهِ ليسَ إلاَّ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا تَجِبُ طاعتُهُ إذا
أَمَرَ بطاعةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَمَرَ
بِمَعْصِيَتِهِ وخلافِ شَرِيعَتِهِ فلا سَمْعَ له ولا طاعةَ.
ومَنْ تَدَبَّرَ أحوالَ العالمِ وَجَدَ كلَّ صلاحٍ في الأرضِ فَسَبَبُهُ
تَوْحِيدُ اللهِ وعبادتُهُ وطاعةُ رسولِهِ، وكلَّ شَرٍّ في العالمِ
وَفِتْنَةٍ وبلاءٍ وَقَحْطٍ وتَسْلِيطِ عَدُوٍّ وغيرِ ذلكَ فَسَبَبُهُ
مُخَالَفَةُ رسولِهِ والدعوةُ إلى غيرِ اللهِ ورسولِهِ) انتهَى.
قالَ ابنُ كثيرٍ: (يُنْكِرُ
تعالى على مَنْ خَرَجَ عنْ حُكْمِ اللهِ تعالى المُشْتَمِلِ على كلِّ
خيرٍ، النَّاهِي عنْ كلِّ شرٍّ، وَعَدَلَ إلى ما سِوَاهُ من الآراءِ
والأهواءِ والاصطلاحاتِ التي وَضَعَهَا الرجالُ بلا مُسْتَنَدٍ مِنْ شريعةِ
اللهِ، كما كانَ أهلُ الجاهليَّةِ يَحْكُمُونَ بهِ من الجَهالاتِ
والضَّلالاتِ كما يَحْكُمُ بهِ التَّتَارُ من السياساتِ المأخوذةِ عنْ
جِنْكِيزْخَانَ الذي وَضَعَ لهم كتابًا مَجْمُوعًا مِن أحكامِ أقيِسَةٍ
مِنْ شرائعَ شَتَّى، وفيها كثيرٌ من الأحكامِ أَخَذَهَا عنْ مُجَرَّدِ
نَظَرِهِ وَهَوَاهُ، فَصَارَتْ في بَنِيهِ شَرْعًا يُقَدِّمُونَهَا على
الحكمِ بالكتابِ والسُّنَّةِ، ومَنْ فَعَلَ ذلكَ فهو كافرٌ يَجِبُ
قِتَالُهُ حتَّى يَرْجِعَ إلى حُكْمِ اللهِ ورسولِهِ، فلا يُحْكَمُ
بِسِوَاهُ في قليلٍ ولا كثيرٍ).
وفي الآيةِ: التحذيرُ منْ حُكْمِ الجاهليَّةِ واختيارِهِ على حُكْمِ اللهِ
ورسولِهِ؛ فمَنْ فَعَلَ ذلكَ فقدْ أَعْرَضَ عن الأحسنِ، وهو الحقُّ، إلى
ضِدِّهِ من الباطلِ.
هذا الحديثُ رَوَاهُ الشيخُ أبو الفتحِ نصرُ بنُ إبراهيمَ المَقْدِسِيُّ الشافعِيُّ في كتابِ (الحُجَّةُ على تارِكِ المَحَجَّةِ) بإسنادٍ صحيحٍ كما قالَ المُصَنِّفُ عن النَّوَوِيِّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وأبو بكرِ بنُ عاصمٍ، والحافظُ أبو نُعَيْمٍ في (الأَرْبَعِينَ) التي شَرَطَ لها أنْ تكونَ مِنْ صحيحِ الأخبارِ، وشاهِدُهُ في القرآنِ: قالَ تعالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآيةَ [النساء:65]، وقولُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36]. وقولُهُ: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}[القصص:50] ونحوَ هذهِ الآياتِ.
قولُهُ: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ))
أيْ: لا يَكُونُ منْ أهلِ كمالِ الإِيمانِ الواجبِ الذي وَعَدَ اللهُ
أَهْلَهُ عليهِ بدخولِ الجنَّةِ والنَّجَاةِ من النارِ، وقدْ يكونُ في
درجةِ أهلِ الإساءةِ والمعاصِي منْ أهلِ الإِسلامِ.
قولُهُ: ((حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ))((الهَوَى))
بالقَصْرِ، أيْ: ما يَهْوَاهُ وَتُحِبُّهُ نَفْسُهُ وَتَمِيلُ إليهِ، فإنْ
كانَ الذي تُحِبُّهُ وَتَمِيلُ إليه نفسُهُ وَيَعْمَلُ بهِ تابعًا لِمَا
جَاءَ بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَخْرُجُ عنهُ إلى ما
يُخَالِفُهُ، فهذهِ صفةُ أهلِ الإِيمانِ المُطْلَقِ، وإنْ كانَ بخلافِ ذلكَ
أوْ في بعضِ أحوالِهِ أوْ أَكْثَرِهَا انْتَفَى عنهُ من الإِيمانِ كمالُهُ
الواجبُ، كما في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
والدليلُ على أنَّ الإِيمانَ يَزِيدُ قولُهُ تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}[المُدَّثِّر:31] الآيةَ، وقولُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[التوبة:124] خِلاَفًا لِمَنْ قالَ: إنَّ الإِيمانَ هوَ القولُ، وهم المُرْجِئَةُ، ومَنْ قالَ: (إنَّ الإِيمانَ هوَ التصديقُ كالأشاعرة)
ومِن المعلومِ عَقْلاً وَشَرْعًا أنَّ نِيَّةَ الحَقِّ تَصْدِيقٌ، والعملَ
بهِ تصديقٌ وقولَ الحقِّ تصديقٌ، وليسَ معَ أهلِ البِدَعِ ما يُنَافِي
قولَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وللهِ الحمدُ والمِنَّةُ، قالَ اللهُ
تعالى: {لَّيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا}[البقرة:177] أيْ: فيما عَمِلُوا بهِ في هذهِ الآيةِ من الأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ، وشاهدُهُ في كلامِ العربِ قَوْلُهُم: (جملةٌ صادقةٌ).
وقدْ سَمَّى اللهُ تعالى الهَوَى المُخَالِفَ لِمَا جاءَ بهِِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَهًا، فقالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ}[الفرقان:43] قالَ بعضُ المُفَسِّرِينَ: (لا يَهْوَى شيئًا إلاَّ رَكِبَهُ).
قالَ ابنُ رَجَبٍ: (أمَّا
مَعْنَى الحديثِ: فهو أنَّ الإِنسانَ لا يكونُ مُؤْمِنًا كاملَ الإِيمانِ
الواجبِ حتَّى تَكُونَ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَا جاءَ بهِ الرسولُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوامرِ والنواهِي وغيرِهَا،
فَيُحِبُّ ما أَمَرَ بهِ وَيَكْرَهُ ما نَهَى عنهُ، وقدْ وَرَدَ القرآنُ
بِمِثْلِ هذا المعنَى في غيرِ مَوْضِعٍ، وذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَرِهَ ما
أَحَبَّهُ اللهُ أوْ أَحَبَّ مَا كَرِهَهُ اللهُ كَمَا قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد: 28].
فالواجبُ على كلِّ مؤمنٍ أنْ يُحِبَّ ما أَحَبَّهُ اللهُ مَحَبَّةً تُوجِبُ
لهُ الإِتيانَ بما أَوْجَبَ عليهِ منهُ؛ فإنْ زَادَت المَحَبَّةُ حتَّى
أَتَى مَا ندَبَ إليهِ منهُ كانَ ذلكَ فَضْلاً، وأنْ يَكْرَهَ ما
يَكْرَهُهُ اللهُ كَرَاهَةً تُوجِبُ لهُ الكَفَّ عَمَّا حَرَّمَ عليهِ
منهُ، فإنْ زَادَت الكراهةُ حتَّى أَوْجَبَت الكَفَّ عَمَّا كَرِهَهُ
تَنْزِيهًا كانَ ذلكَ فَضْلاً.
فمَنْ أَحَبَّ اللهَ ورسولَهُ مَحَبَّةً صادقةً مِنْ قلبِهِ، أَوْجَبَ ذلكَ
لهُ أنْ يُحِبَّ بِقَلْبِهِ ما يُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ، وَيَكْرَهَ ما
يَكْرَهُهُ اللهُ ورسولُهُ، فَيَرْضَى بِمَا يَرْضَى بهِ اللهُ ورسولُهُ،
وَيَسْخَطَ ما يُسْخِطُ اللهَ ورسولَهُ، وَيَعْمَلُ بِجَوَارِحِهِ
بِمُقْتَضَى هذا الحُبِّ والبُغْضِ.
فإنْ عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ شَيْئًا يُخَالِفُ ذلكَ بأنِ ارْتَكَبَ بَعْضَ
مَا يَكْرَهُهُ اللهُ ورسولُهُ وَتَرَكَ ما يُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ معَ
وُجُوبِهِ والقدرةِ عليهِ، دَلَّ ذلكَ على نَقْصِ مَحَبَّتِهِ الواجبةِ،
فَعَلَيْهِ أنْ يَتُوبَ منْ ذلكَ وَيَرْجِعَ إلى تكميلِ المَحَبَّةِ
الواجبةِ التي هيَ رُكْنُ العبادةِ إذا كَمُلَتْ، فجميعُ المعاصِي تَنْشَأُ
من تقديمِ هَوَى النفسِ على مَحَبَّةِ اللهِ ورسولِهِ.
وقدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِينَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى في مواضعَ مِنْ كتابِهِ، فقالَ تعالى: {فَإِن
لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ}[القصص: 50].
وكذلكَ البِدَعُ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى على الشرعِ،
ولهذا سُمِّيَ أَهْلُهَا أَهْلَ الأهواءِ، وكذلكَ المَعَاصِي إِنَّمَا
تَنْشَأُ منْ تقديمِ الهَوَى على مَحَبَّةِ اللهِ ومحبَّةِ ما يُحِبُّهُ،
وكذلكَ حُبُّ الأشخاصِ: الواجبُ فيهِ أنْ يكونَ تَبَعًا لِمَا جاءَ بهِ
الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِبُ على المؤمنِ مَحَبَّةُ
ما يُحِبُّهُ اللهُ من الملائكةِ والرُّسُلِ والأنبياءِ والصِّدِّيقِينَ
والشهداءِ والصالحينَ عُمُومًا؛ ولهذا كانَ منْ علاماتِ وجودِ حَلاوةِ
الإِيمانِ أنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إلاَّ للهِ، فَتَحْرُمُ
مُوالاةُ أعداءِ اللهِ ومَنْ يَكْرَهُهُ اللهُ عُمُومًا، وبهذا يكونُ
الدينُ كُلُّهُ للهِ وحدَه.
ومَنْ أَحَبَّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ ومَنَعَ للهِ فقد
اسْتَكْمَلَ الإِيمانَ، ومَنْ كانَ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وعَطَاؤُهُ
وَمَنْعُهُ لِهَوَى نَفْسِهِ كانَ ذلكَ نَقْصًا في إيمانِهِ الواجبِ،
فَتَجِبُ التوبةُ منْ ذلكَ) انْتَهَى مُلَخَّصًا.
ومناسبةُ الحديثِ للترجَمَةِ: بيانُ الفَرْقِ بينَ أهلِ الإيمانِ وأهلِ النِّفاقِ والمعاصي في أقوالِهِم وأفعالِهِم وإِرَادَاتِهِم.
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: وقالَ الشَّعْبِيُّ: (كانَ بَيْنَ رجُلٍ مِنَ المنافقينَ ورَجُلٍ مِنَ اليهودِ خُصُومَةٌ).
فقالَ اليهوديُّ: نَتَحاكَمُ إلى مُحمدٍ.
عَرَفَ أنَّهُ لا يأْخُذُ الرِّشْوَةَ.
وقالَ المُنَافِقُ: نَتَحَاكَمُ إلى اليهودِ، لعِلْمِهِ أَنَّهُمْ يأخذونَ
الرِّشْوَةَ، فاتَّفَقَا أنْ يأْتِيَا كاهِنًا في جُهَيْنَةَ،
فيَتَحَاكَمَا إليهِ، فنَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآيةَ.
وَقيلَ: نزَلتْ في رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فقالَ أحدُهُم: نَتَرَافَعُ إلى النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
وقالَ الآخَرُ: إلى كَعْبِ بنِ الأشرَفِ.
ثُمَّ تَرَافَعَا إلى عُمَرَ بنِ الخطَّابِ.
فذَكَر لَهُ أحدُهما القِصَّةَ، فقال للَّذي لَمْ يَرْضَ برسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أكذلِكَ؟
قالَ: نَعَم؛ فَضَرَبَهُ بالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ).
وفيما قالَهُ الشعبيُّ
ما يُبَيِّنُ أنَّ المنافقَ يكونُ أَشَدَّ كَرَاهَةً لِحُكْمِ اللهِ
ورسولِهِ من اليهودِ والنصارَى، ويكونُ أَشَدَّ عَدَاوَةً منهم لأهلِ
الإِيمانِ، كما هوَ الواقعُ في هذهِ الأزمنةِ وَقَبْلَهَا مِنْ إعانةِ
العدوِّ على المسلمينَ، وَحِرْصِهِم على إطفاءِ نورِ الإِسلامِ والإِيمانِ،
ومَنْ تَدَبَّرَ ما في التاريخِ وما وَقَعَ منهم في الوَقائِعِ عَرَفَ
أنَّ هذا حالُ المنافقينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وقدْ حَذَّرَ اللهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
طَاعَتِهِم والقربِ منهم، وَحَضَّهُ على جِهَادِهِم في مواضعَ منْ كتابِهِ،
قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصَيرُ}[التحريم:9].
وفي قِصَّةِ عُمَرَ وَقَتْلِهِ المُنَافِقَ الذي طَلَبَ التَّحَاكُمَ إلى كَعْبِ بنِ الأشرفِ اليَهُودِيِّ دليلٌ على قَتْلِ مَنْ أَظْهَرَ الكفرَ والنفاقَ، وكانَ كعبُ بنُ الأشرفِ
هذا شديدَ العَداَوَةِ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأَذَى
لهُ وإِظهارِ عَدَاوَتِهِ فَانْتَقَضَ بهِ عَهْدَهُ، وَحَلَّ بهِ قَتْلُهُ.
وَرَوَى مسلمٌ في (صحيحِهِ) عنْ عُمَرَ: سَمِعْتُ جابرًا يقولُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأشْرَفِ؟ فإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسولَهُ)).
قالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: يا رسولَ اللهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟
قَالَ: ((نَعَم))
قَالَ:
قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ الآنَ، وَنَكْرَهُ أنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلى أَيِّ شَيءٍ يَصِيرُ أَمْرُهُ.
قالَ: وَقَدْ أَرَدْتُ أنْ تُسْلِفَنِي سَلَفًا، قالَ: فَمَا تَرْهَنُنِي؟
قالَ: ما تُريدُ، قال: تَرهَنُنِي نِساءكُم؟
قالَ: أَنتَ أَجْمَلُ العربِ، أَنَرْهَنُكَ نِسَاءنَا؟
قالَ: تَرْهَنُونِي أَوْلاَدَكُمْ؟
قالَ: يُسَبُّ ابنُ أَحَدِنَا، فَيُقَالُ: رُهِنَ في وَسْقَيْنِ مِنْ
تَمْرٍ، وَلَكِنْ نَرْهَنُكَ اللأَّْمةَ - يَعْنِي السِّلاَحَ - قالَ:
فَنَعَمْ، وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالحارِثِ، وَأَبي عَبْسِ بنِ جَبْرٍ، وَعَبَّادِ بنِ بِشْرٍ.
قالَ
قال: إِنَّما هَذا مُحمَّدُ بنُ مَسْلَمَة وَرَضيعُهُ وَأَبو نَائِلَةَ، إِنَّ الكَرِيمَ لَو دُعِيَ إلى طَعْنِهِ لَيْلاً لأَجَابَ.
قَالَ مُحمَّدٌ: إِنِّي إِذَا جَاءَ فَسَوْفَ أَمُدُّ يَدِي إِلى رَأْسِهِ، فَإِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَدُونَكُم.
قالَ: فَلَمَّا نَزَلَ، نَزَلَ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ.
فقالُوا: نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الطِّيبِ.
قالَ: نَعَمْ، تَحْتِي فُلاَنةُ أَعْطَرُ نِساءِ العَرَبِ.
قالَ: أَتَأْذَنُ لِي أنْ أَشُمَّ مِنْهُ؟
قالَ: نَعَمْ، فَشُمَّ، فَتَنَاوَلُهُ فَشَمَّ، ثُمَّ قَالَ: أَتأْذَنُ لِي أَنْ أَعُودَ؟
قالَ: فَاسْتَمْكَنَ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ قالَ: فَقَتَلُوهُ)
وفي قِصَّةِ عُمَرَ: بيانُ أنَّ المنافقَ المَغْمُوصَ بالنِّفَاقِ إذا أَظْهَرَ نِفَاقَهُ قُتِلَ، كما في (الصحيحَيْنِ)
وَغَيْرِهِمَا: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا
تَرَكَ قَتْلَ مَنْ أَظْهَرَ نِفَاقَهُ منهم تَأْلِيفًا للناسِ، فإنَّهُ
قالَ: ((لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أَصْحَابَهُ)) فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)
{أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}
ووجهُ ما ذَكَرَه المصنِّفُ ظاهِرٌ، فإنَّ الربَّ والإِلهَ هو الَّذي لَه:
- الحُكمُ القدريُّ. - والحكمُ الشرعيُّ. - والحكمُ الجزائِيُّ. وهو الذي يُؤْلَهُ ويُعْبَدُ وحدَه لا شريكَ لَه، ويُطاعُ طاعةً مطلَقَةً؛ فلا يُعْصَى، بحيثُ تكونُ الطاعاتُ كلُّها تبعًا لطاعَتِه. فمَنْ تَحَاكَمَ إلى غيرِ اللهِ ورسولِه فقد اتَّخَذَ ذلك ربًّا وقدْ حَاكَمَ إلى الطَّاغوتِ.
فإذا اتَّخَذَ العبدُ العلماءَ والأمراءَ على هذا الوجهِ، وجعلَ طاعَتَهم
هي الأصلَ، وطاعةَ اللهِ ورسولِه تبعًا لها، فقَد اتَّخَذَهُم أرْبابًا مِن
دونِ اللهِ يتأَلَّهُهُم، ويتحاكمُ إليهم، ويقدِّمُ حكمَهم على حكمِ اللهِ
ورسولِه؛ فهذا هو الكفرُ بعينِه، فإنَّ الحكمَ كلَّه للهِ، كما أنَّ
العبادةَ كلَّها للهِ.
والواجبُ على كلِّ أحدٍ أنْ لا يتَّخِذَ غيرَ اللهِ حَكَمًا، وأَنْ يَرُدَّ
ما تنازع فيه الناسُ إلى اللهِ ورسولِه، وبذلك يكونُ دينُ العبدِ كلُّه
للهِ، وتوحيدُه خالِصًا لوجهِ اللهِ.
وكلُّ مَن حَاكَمَ إلى غيرِ حُكمِ اللهِ ورسولِه فقدْ حاكَمَ إلى الطاغوتِ، وإنْ زَعَمَ أنَّه مؤمنٌ فهو كاذِبٌ.
فالإِيمانُ لا يَصِحُّ ولا يَتِمُّ إلا بِتَحْكيمِ اللهِ ورسولِه في أصولِ
الدينِ وفروعِه، وفي كلِّ الحقوقِ كَمَا ذَكَرَه المصنِّفُ في البابِ
الآخَرِ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
هذا البابُ لهُ صِلَةٌ قويَّةٌ بما قَبْلَهُ؛ لأنَّ
ما قبلَهُ فيهِ حُكْمُ مَنْ أطاعَ العلماءَ والأمراءَ في تحليلِ ما حرَّمَ
اللهُ، أوْ تحريمِ ما أحلَّ اللهُ، وهذا فيهِ الإنكارُ على مَنْ أرادَ
التَّحَاكُمَ إلى غيرِ اللهِ ورسولِهِ، قولُهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ}. - وقولُهُ: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} يُعْرِضُونَ عنكَ إعراضًا. الأولى: أنَّ هؤلاءِ الذينَ يزعمونَ الإيمانَ كانوا منافقينَ. الثانيةُ: أنَّ هذا لا يَصْدُرُ إلاَّ مِنْ منافقٍ؛ لأنَّ المؤمنَ حقًّا لا بُدَّ أنْ يَنْقَادَ لأمرِ اللهِ ورسولِهِ بدُونِ صُدودٍ. الأوَّلُ: أنَّ الجارَّ والمجرورَ {في أنْفُسِهِمْ} مُتَعَلِّقٌ ببليغٍ، أيْ: قُلْ لهمْ قولاً بليغًا في أنفسِهِمْ، أيْ: يبلُغُ في أنفسِهِمْ مبلغًا مُؤَثِّرًا. الثالثُ: أنَّ
المعنى: (قُلْ لهُمْ في أنْفُسِهِمْ) أيْ: في شأنِهِم وحالِهِم، قولاً
بليغًا في قلوبِهِم يُؤَثِّرُ عليها، والصحيحُ: أنَّ الآيةَ تَشْمَلُ
المعانيَ الثلاثةَ؛ لأنَّ اللفظَ صالحٌ لها جميعًا، ولا مُنَافَاةَ بينَها.
(2) قَوْلُهُ تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ}. الإفسادُ في الأرضِ على نوعَيْنِ: الأوَّلُ: إفسادٌ حِسِّيٌّ مادِّيّ، وذلكَ مثلُ هَدْمِ البيوتِ وإفسادِ الطُّرُقِ، وما أشبهَ ذلكَ. - وقالَ تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.
قولُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وهذهِ دعوى مِنْ أَبْطَلِ الدَّعَاوَى، حيثُ قالُوا: ما حَالُنا وما شَأْنُنا إلاَّ الإصلاحُ؛ ولهذا قالَ تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}{ألا} أداةُ استفتاحٍ، والجملةُ مُؤَكَّدَةٌ بأربعةِ مُؤَكِّدَاتٍ، وهيَ: {ألا} و{إنَّ} وضميرُ الفصلِ{هُمْ}
والجملةُ الاسمِيَّةُ، فاللهُ قَابَلَ حَصْرَهُمْ بأعظمَ مِنْهُ، فهؤلاءِ
الذينَ يُفْسِدُونَ في الأرضِ ويدَّعُونَ الإصلاحَ هم المفسدونَ حقيقةً لا
غَيْرُهُم. (3) قولُهُ تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ}. ومناسبةُ الآيةِ للبابِ: أنَّ التَّحَاكُمَ إلى ما أنزلَ اللهُ هوَ الإصلاحُ، وأنَّ التَّحَاكُمَ إلى غيْرِهِ هوَ الإفسادُ. (4) قولُهُ تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الاستفهامُ للتوبيخِ، و{حُكْمَ} مفعولٌ مُقَدَّمٌ لـ{يبغونَ} وقُدِّمَ لإفادةِ الحصرِ، والمعنى: أفلا يبغونَ إلاَّ حُكْمَ الجاهليَّةِ، و{يبغونَ} يَطْلُبُونَ. أحدُهُمَا: أنْ يكونَ المعنى: أَفَحُكْمَ أهلِ الجاهليَّةِ الذينَ سَبَقُوا الرسالةَ يَبْغُونَ، فَيُرِيدُونَ
أنْ يُعِيدُوا هذهِ الأُمَّةَ إلى طريقِ الجاهليَّةِ التي أحكامُها
معروفةٌ، ومنها: الْبَحَائِرُ وَالسَّوَائِبُ وقَتْلُ الأولادِ. وقولُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
خبرٌ لا يَدْخُلُهُ الكذبُ ولا النسخُ إطلاقًا، ولذلكَ هدى اللهُ الذينَ
آمَنُوا لِمَا اختلَفُوا فيهِ مِن الحقِّ بإذنِهِ، فجمعُوا بينَ
المتشابهاتِ والمختلفاتِ من النصوصِ. (5) قوْلُهُ في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ))
أيْ: إيمانًا كاملاً، إلاَّ إذا كانَ لا يَهْوَى ما جاءَ بهِ النبيُّ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالكُلِّيَّةِ، فإنَّهُ ينْتَفِي عنْهُ الإيمانُ
بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّهُ إذا كَرِهَ ما أَنْزَلَ اللهُ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ لِكُفْرِهِ، قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}. {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقالَ تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
وغيرُها مِن الآياتِ الدالَّةِ على ذمِّ مَن اتبَّعَ هواهُ، ولكنْ إذا
كانَ الهوى تَبَعًا لما جاءَ بهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ
محمودًا، هُوَ مِنْ كمالِ الإيمانِ. (6) قولُهُ في أَثَرِ الشَّعْبِيِّ: (وقالَ الشَّعْبِيُّ) أيْ: في تفسيرِ الآيةِ. فإنْ قيلَ: كيفَ يَقْتُلُهُ عمرُ رضيَ اللهُ عنْهُ والأمرُ إلى الإمامِ، وهوَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهَ وسلَّمَ؟ أُجِيبُ: إنَّ الظَّاهِرَ أنَّ عُمَرَ
لمْ يَمْلِكْ نفسَهُ لِقُوَّةِ غَيْرَتِهِ فقتلَهُ؛ لأنَّهُ عَرَفَ أنَّ
هذا رِدَّةٌ عَن الإسلامِ، وقدْ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)). (7) فيهِ مَسائِلُ: الأولى: (تَفسيرُ آيةِ النِّساءِ وما فيها مِن الإعانةِ علَى فَهْمِ الطاغوتِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}. (8) الثانيةُ: (تفسيرُ آيةِ البقرةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}) ففيها دليلٌ على أنَّ النفاقَ فسادٌ في الأرضِ؛ لأنَّها في سياقِ المنافقينَ، والفسادُ يشمَلُ جميعَ المعاصي. (9) الثالثةُ: (تفسيرُ آيةِ الأعرافِ: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}) وقدْ سبقَ. (10) الرابعةُ: (تفسيرُ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}) وقدْ سبقَ ذلكَ، وقَدْ بيَّنَّا أنَّ المرادَ بحُكْمِ الجاهليَّةِ كلُّ ما
خالفَ الشرعَ، وأُضيفَ للجاهليَّةِ للتنفيرِ منْهُ وبيانِ قُبْحِهِ،
وأنَّهُ مَبْنِيٌّ على الجهلِ والضلالِ. (11) الخامسةُ: (ما قالَ الشَّعبِيُّ في سببِ نزولِ الآيةِ الأولى) وقَدْ سَبَقَ. (12) السادسةُ: (تفسيرُ الإيمانِ الصَّادقِ والكاذِبِ) فالإيمانُ الصادقُ يَسْتَلْزِمُ الإذعانَ التامَّ والقَبُولَ والتسليمَ لحُكْمِ اللهِ ورسولِهِ، والإيمانُ الكاذبُ بخلافِ ذلكَ. (13) السابعةُ: (قِصَّةُ عُمَرَ معَ المنافقِ) حيثُ جَعَلَ عُدُولَهُ عَن التَّرَافُعِ إلى
النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمِ مُبِيحًا لِقتلِهِ لِرِدَّتِهِ،
وأَقْدَمَ على قتلِهِ لقُوَّةِ غَيْرَتِهِ، فلمْ يمْلِكْ نفسَهُ. (14) الثامنةُ: (كوْنُ الإيمانِ لا يَحصُلُ لأحدٍ حَتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لِما جاءَ بهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) وهذا واضحٌ مِن الحديثِ.
الاستفهامُ يُرَادُ بهِ التقريرُ والتعجُّبُ مِنْ حالِهِمْ، والخطابُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}،
هذا يُعَيِّنُ أنْ يكونَ الخطابُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هنا،
ولم يَقُل: الذينَ آمَنُوا؛ لأنَّهم لمْ يُؤْمِنُوا بلْ يَزْعُمُونَ ذلكَ
وهمْ كاذبونَ.
والذي أُنْزِلَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الكتابُ والحكمةُ، قالَ تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
قالَ المُفَسِّرونَ: (الحكمةُ السُّنَّةُ، وهمْ يزعُمُون أنَّهم آمَنُوا
بذلكَ، لكنَّ أفعالَهم تُكذِّبُ أقوالَهُم حيثُ يُرِيدُونَ أنْ
يَتَحَاكَمُوا إلى الطاغوتِ لا إلى اللهِ ورسولِهِ).
قولُهُ: {إِلَى الطَّاغُوتِ} صيغةُ مبالغةٍ مِن الطغيانِ، ففيهِ اعتداءٌ وبَغْيٌ.
والمرادُ بهِ هنا: كلُّ حُكْمٍ خالفَ حكمَ اللهِ ورسولِهِ، وكلُّ حاكمٍ
يَحْكُمُ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ على رسولِهِ. أمَّا الطاغوتُ بالمعنى
الأَعَمِّ فقدْ حَدَّهُ ابنُ القيِّمِ بأنَّهُ: (كُلُّ ما تجاوزَ العبدُ بهِ حَدَّهُ منْ معبودٍ أوْ متبوعٍ أوْ مُطَاعٍ) وقَدْ تقدَّمَ الكلامُ عليهِ في أوَّلِ كتابِ التوحيدِ.
قولُهُ: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا}
أيْ: أَمرَهُم اللهُ بالكفرِ بالطاغوتِ أمْرًا ليسَ فيهِ لَبْسٌ ولا
خَفَاءٌ، فمَنْ أرادَ التَّحَاكُمَ إليهِ فهذهِ الإرادةُ على بصيرةٍ؛ إذ
الأمرُ قدْ بُيِّنَ لَهُمْ.
قولُهُ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ} جنسٌ يَشْمَلُ شياطينَ الإنسِ والجنِّ.
قولُهُ: {أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}
أيْ: يُوقِعَهُمْ في الضلالِ البعيدِ عن الحقِّ، ولكنْ لا يَلْزَمُ مِنْ
ذلكَ أنْ يَنْقُلَهُمْ إلى الباطلِ مَرَّةً واحدةً، ولكنْ بالتدريجِ.
فقولُهُ: {بَعِيدًا} أيْ: ليسَ قريبًا، لكنْ بالتدريجِ شيئًا فشيئًا، حتَّى يُوقِعَهُمْ في الضلالِ البعيدِ.
قولُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أيْ: قالَ لهم الناسُ: أقبِلُوا، {إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ}من القرآنِ {وَإِلَى الرَّسُولِ} نفسِهِ في حياتِهِ وسُنَّتِهِ بعدَ وفاتِهِ، والمُرَادُ هنا الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ نفسُهُ في حياتِهِ.
- قولُهُ: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} الرُّؤْيَةُ هنا رُؤْيَةُ حالٍ لا رُؤْيَةُ بَصَرٍ؛ بدليلِ قولِهِ: {تَعَالَوْا} فهيَ تَدُلُّ على أنَّهم لَيْسُوا حاضِرِينَ عندَهُ، والمعنى: كأنَّما تُشَاهِدُهُم.
- وقولُهُ: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ} إظهارٌ في مَوْضِعِ الإضمارِ لثلاثِ فوائدَ:
الثالثةُ: التنبيهُ؛ لأنَّ الكلامَ إذا كانَ على نَسَقٍ واحدٍ فقدْ يَغْفُلُ الإنسانُ عنهُ، فإذا تَغَيَّرَ حصلَ لهُ انْتِبَاهٌ.
وقولُهُ: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ}جوابُ {إِذَا}
وكلمةُ (صَدَّ) تُسْتَعْمَلُ لازمةً، أيْ: يُوصَفُ بها الشخصُ ولا
يَتَعَدَّاهُ إلى غيرِهِ، ومصدرُها: صُدُودٌ، كما في هذهِ الآيةِ،
ومُتَعَدِّيَةً، أيْ: صَدَّ غَيْرَهُ، ومصدرُها صَدٌّ، كما في قوْلِهِ
تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وقَوْلُهُ: {فَكَيْفَ
إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ
جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا
وَتَوْفِيقًا} الاستفهامُ هنا يُرَادُ بهِ التَّعَجُّبُ، أيْ: كيفَ حالُهُم إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ.
والمصيبةُ هنا تشملُ المصيبةَ الشرعيَّةَ والدُّنيويَّةَ؛ لعدمِ تَضَادِّ المعنيَيْنِ:
فالدُّنيويَّةُ: مثلُ: الفقرِ والجَدْبِ،وما
أشبَهَ ذلكَ، فيأتونَ يَشْكُونَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
فيقولونَ: أَصَابَتْنَا هذهِ المصائبُ، ونحنُ ما أَرَدْنا إلاَّ الإحسانَ
والتوفيقَ.
والشَّرْعِيَّةُ: إذا أظهرَ اللهُ رسولَهُ على أمرِهِمْ خافُوا وقالُوا: يا رسولَ اللهِ، ما أَرَدْنَا إلاَّ الإحسانَ والتوفيقَ.
قولُهُ: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} الباءُ هنا للسببيَّةِ. و(ما) اسمٌ موصولٌ، و{قَدَّمَتْ} صلتُهُ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ: بما قدَّمَتْهُ أيديهِمْ.
وفي اللغةِ العربيَّةِ يُطْلَقُ هذا التعبيرُ ويُرادُ بهِ نفسُ الفاعلِ، أيْ: بما قدَّمُوهُ مِن الأعمالِ السيِّئَةِ.
وقولُهُ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}، {إنْ}
بمعنى (ما)، أيْ: ما أردْنا إلاَّ إحسانًا بكونِنِا نَسْلَمُ من الفضيحةِ
والعارِ، وتوفيقًا بينَ المؤمنينَ والكافرينَ، أوْ بينَ طريقِ الكفرِ
وطريقِ الإيمانِ، أيْ: نمشي معَكُمْ ونمشي معَ الكُفَّارِ، وهذهِ حالُ
المنافقينَ، فهمْ قالُوا: أردْنَا أنْ نُحْسِنَ المنهجَ والمسلكَ معَ
هؤلاءِ وهؤلاءِ، ونُوَفِّقَ بينَ الطرفَيْنِ.
قولُهُ: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} تَوَعَّدَهُم اللهُ بأنَّهُ يَعْلَمُ مَا في قلوبِهِم مِن النفاقِ والمكرِ والخداعِ، فاللهُ عَلاَّمُ الغيوبِ، قالَ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} بلْ إنَّ اللهَ أعلمُ منكَ بما فيكَ، قالَ تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وهذا منْ أعظمِ ما يكونُ مِن العلمِ والخبرةِ، أنَّ اللهَ يَحُولُ بينَ المرءِ وقلبِهِ.
ولهذا قيلَ لأعرابيٍّ: (بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟
قالَ: بِنَقْضِ الْعَزَائِمِ وَصَرْفِ الْهِمَمِ) فالإنسانُ يَعْزِمُ على
الشيءِ، ثمَّ لا يَدْرِي إلاَّ وعزيمَتُهُ مُنْتَقَضَةٌ بدونِ سببٍ ظاهرٍ.
قولُهُ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وهذا مِنْ أَبْلَغِ ما يكونُ مِن الإهانةِ والاحتقارِ.
قولُهُ: {وَعِظْهُمْ}
أيْ: ذَكِّرْهُمْ وخَوِّفْهُمْ، لكنْ لا تَجْعَلْهُمْ أكبرَ هَمِّكَ، فلا
تَخَفْهُمْ وقُمْ بما يَجِبُ عليكَ مِن الموعظةِ؛ لِتَقُومَ عليهم
الحُجَّةُ.
قولُهُ: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}اختلفَ المفسِّرونَ فيها على ثلاثةِ أقوالٍ:
الثاني: أنَّ المعنى: انْصَحْهُمْ سِرًّا.
وهذهِ قاعدةٌ في التفسيرِ ينبغي التَّنَبُّهُ لها، وهيَ:
أنَّ المعانيَ المُحْتَمَلَةَ للآيةِ والتي قالَ بها أهلُ العلمِ، إذا
كانت الآيةُ تَحْتَمِلُهَا وليسَ بينَها تَعارُضٌ، فإنَّهُ يُؤخَذَ بجميعِ
المعاني.
الثاني: إفسادٌ معنويٌّ، وذلكَ بالمعاصي، فهيَ مِنْ أكبرِ الفسادِ في الأرضِ، قالَ تعالى: {ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
ومناسبةُ الآيةِ للبابِ ظاهرةٌ، وذلكَ أنَّ التَّحَاكُمَ إلى غيرِ ما أنْزَلَ اللهُ مِنْ أكبرِ أسبابِ الفسادِ في الأرضِ.
يشمَلُ الفسادَ المادِّيَّ والمعنويَّ كمَا سبقَ.
قال في (فتح المجيد) (وفي الآية: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء، وإن زخرفوها بالدعوى.
وفيها: التحذير من الاغترار بالرأي، ما لم يقم على صحته دليل من الكتاب والسنة.
فما أكثر من يُصدِّق بالكذب ويُكذَّب بالصدق إذا جاءه، وهذا من الفساد في الأرض.
فتدبر هذا تجده في حال الأكثر إلامن عصمه الله، وأعطاه عقلاً كاملاً عند
ورود الشهوات، وبصراً ناقداً عند ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء والله ذو الفضل العظيم) .
قولُهُ: {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}
مِنْ قِبَلِ المُصْلِحِينَ. ومِنْ ذلكَ الوُقُوفُ ضدَّ دعوةِ أهلِ العلمِ،
والوقوفُ ضدَّ دعوةِ السلفِ، وضدَّ مَنْ يُنَادِي بأنْ يكونَ الحُكْمُ بما
في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
وقولُهُ: {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}
مِنْ بابِ تأكيدِ اللَّوْمِ والتوبيخِ، إذْ كيفَ يُفْسِدُ الصالحَ؟! وهذا
غايةُ ما يكونُ مِن الوقاحةِ والخُبْثِ والشَّرِّ؛ فالإفسادُ بعدَ الإصلاحِ
أعظمُ وأشدُّ مِنْ أنْ يمضيَ الإنسانُ في فسادِهِ قبلَ الإصلاحِ، وإنْ
كانَ المطلوبُ مِن الجميعِ هوَ الإصلاحَ بعدَ الفسادِ.
والإضافةُ في قولِهِ: {حُكْمَ الجاهليَّةِ} تحتملُ معنييْنِ:
ثانيها: أن يكونَ المعنى: أَفَحُكْمَ الجهلِ الذي لا يُبْنَى على العِلْمِ يبغونَ، سواءٌ كانتْ عليهِ الجاهليَّةُ السابقةُ أمْ لمْ تَكُنْ، وهذا أعمُّ.
والإضافةُ للجاهليَّةِ تقتضي التقبيحَ والتنفيرَ، وكلُّ
حُكْمٍ يُخَالِفُ حُكمَ اللهِ فهوَ جَهْلٌ وَجَهَالَةٌ، فإنْ كانَ معَ
العلمِ بالشرعِ فهوَ جهالةٌ، وإنْ كانَ معَ خفاءِ الشرعِ فهوَ جَهْلٌ.
والجهالةُ هيَ: العملُ بالخطأِ سَفَهًا لا جَهْلاً، قالَ تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} وأمَّا مَنْ يعملُ السُّوءَ بجهلٍ فلا ذنبَ عليهِ، لكنْ عليهِ أنْ يتَعَلَّمَ.
قولُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا}، {مَنْ}
اسمُ استفهامٍ بمعنى النفيِ، أيْ: لا أحدَ أحسنُ من اللهِ حُكْمًا، وهذا
النفيُ مُشْرَبٌ معنى التَّحَدِّي، فهو أبلغُ مِنْ قولِ: لا أحسنَ مِن
اللهِ حُكْمًا؛ لأنَّهُ مُتَضَمِّنٌ للنفيِ والزيادةِ.
وقولُهُ: {حُكْمًا} تمييزٌ؛ لأنَّهُ بعدَ اسمِ التفضيلِ، وهو مُبْهَمٌ، فَبَيَّنَ هذا التمييزُ المُبْهَمَ ومَيَّزَهُ، والحُكْمُ هنا يشملُ: الكونيَّ والشرعيَّ.
وقالُوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
وعَرَفُوا حُسْنَ أحكامِ اللهِ تعالى، وأنَّها أحسنُ الأحكامِ، وأنْفَعُها
للعبادِ، وأقْوَمُها لمصالحِ الخلقِ في المعاشِ والمعادِ؛ فلمْ يَرْضَوْا
عنها بديلاً.
قولُهُ: ((حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) الهَوَى بالقَصْرِ هوَ الميلُ، وبالمَدِّ هوَ الريحُ، والمرادُ الأوَّلُ.
و((حَتَّى)) للغايةِ، والذي جاءَ بهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هوَ القرآنُ والسُّنَّةُ.
وإذا كانَ هَوَاهُ تَبَعًا لما جاءَ بهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
لَزِمَ مِنْ ذلكَ أنْ يُوَافِقَهُ تصديقًا بالأخبارِ، وامتثالاً للأوامرِ،
واجتنابًا للنواهي.
واعلمْ أنَّ أكثرَ ما يُطْلَقُ الهوى على هَوَى الضلالِ، لا على هَوَى الإيمانِ، قالَ تعالى:
وقدْ سبقَ بيانُ أنَّ مَن اعتقدَ أنَّ حُكْمَ غيرِ اللهِ مساوٍ لحُكْمِ
اللهِ، أوْ أحسنُ، أوْ أنَّهُ يجوزُ التَّحَاكُمُ إلى غيرِ اللهِ فهوَ
كافرٌ.
وأمَّا مَنْ لمْ يكُنْ هواهُ تَبَعًا لما جاءَ بهِ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ، فإنْ كانَ كارهًا لهُ فهوَ كافرٌ، وإنْ لمْ يكُنْ كارهًا ولكنْ
آثرَ محبَّةَ الدُّنيا على ذلكَ فليسَ بكافرٍ، لكنْ يكونُ ناقصَ الإيمانِ.
قولُهُ: (قالَ النَّوَوِيُّ: حديثٌ صحيحٌ) صحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وغيرُهُ، وضَعَّفَهُ جماعةٌ مِنْ أهلِ العلمِ، منْهُم ابنُ رَجَبٍ في كتابِهِ (جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ) ولكنْ معناهُ صحيحٌ.
قولُهُ: (رجُلٍ مِن المنافقينَ) هوَ مَنْ يُظْهِرُ الإسلامَ
ويُبْطِنُ الكفرَ، وسُمِّيَ منافقًا مِن النَّافِقَاءِ، وهيَ: جُحْرُ
الْيَرْبُوعِ، واليربوعُ لَهُ جُحرٌ لهُ بابٌ ولهُ نَافِقَاءُ، أيْ:
يَحْفِرُ إلى الأرضِ خَنْدَقًا حتَّى يَصِلَ مُنْتَهَى جُحْرِهِ، ثمَّ
يَحْفِرُ إلى أعلى، فإذا بقِيَ شيءٌ قليلٌ بحَيْثُ يتَمَكَّنُ مِنْ
دَفْعِهِ برأسِهِ تَوَقَّفَ، فإذا حُجِرَ عليهِ مِن البابِ خَرَجَ من
النَّافِقَاءِ.
قولُهُ: (ورَجُلٍ مِن اليهودِ) اليهودُ هم: المُنْتَسِبُونَ إلى دينِ موسى عليهِ السلامُ، وسُمُّوا بذلكَ إمَّا مِنْ قولِهِ: {إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ} أيْ: رَجَعْنَا، أوْ نسبةً إلى أبيهِم يَهُوذَا، ولكنْ بعدَ التعريبِ صَارَتْ بالدَّالِ.
قولُهُ: (إلى مُحَمَّدٍ)
أي: النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولم يَذْكُرْهُ بوصفِ الرسالةِ؛
لأنَّهمْ لا يُؤْمِنُونَ برسالتِهِ، ويَزْعُمُونَ أنَّ النبيَّ الموعودَ
بهِ سيأتي.
قولُهُ: (عَرَفَ أَنَّهُ لاَ يَأْخُذُ الرِّشوَةَ) تعليلٌ لطلبِ التَّحَاكُمِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
والرِّشْوَةُ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ؛ فيجوزُ الرِّشوةُ، الرَّشوةُ، والرُّشوةُ، وهيَ: المالُ المدفوعُ للتَّوَصُّلِ إلى شيءٍ.
قالَ أهلُ العلمِ: (لا تكونُ مُحَرَّمَةً إلاَّ إذا أرادَ الإنسانُ أنْ
يتَوَصَّلَ بها إلى باطلٍ أوْ دَفْعِ حقٍّ، أمَّا مَنْ بَذَلَها
لِيَتَوَصَّلَ بها إلى حقٍّ لهُ مُنِعَ منْهُ، أوْ لِيَدْفَعَ بها باطلاً
عنْ نفسِهِ فلَيْسَتْ حرامًا على البَاذِلِ، أمَّا على آخذِهَا فحرامٌ).
قولُهُ: (فَاتَّفَقَا أنْ يَأْتِيَا كاهنًا في جُهيْنَةَ) كأنَّهُ صارَ بينَهُمَا خلافٌ، وأَبَى المنافقُ أنْ يَتَحَاكَمَا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
والكاهنُ: مَنْ يَدَّعِي عِلْمَ الغيبِ في المستقبلِ، وكانَ
للْعَرَبِ كُهَّانٌ تَنْزِلُ عليهم الشياطينُ بخبرِ السماءِ، فيقولونَ:
سيحدثُ كذا وكذا، فربَّما أصابُوا مَرَّةً مِن المَرَّاتِ، ورُبَّما
أخطأُوا، فإذا أصابُوا ادَّعَوْا عِلْمَ الغيبِ، فكانَ العربُ يتحاكمونَ
إليهمْ، فنزلَ قولُهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ..} الآيةَ.
قال في (فتح المجيد) ص471: (وفيما
قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشدَّ كراهة لحكم الله ورسوله من
اليهود والنصارى، ويكون أشد عداوة لأهل الإيمان، كما هو الواقع في هذه
الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام
والإيمان.
ومن تدبر ما في التاريخ، وما وقع منهم في الوقائع؛ عرف أن هذا حال المنافقين قديماً وحديثاً) .
قولُهُ: (وقيلَ) ذكرَ هذهِ القِصَّةَ بصيغةِ التَّمْرِيضِ، لكنْ ذَكَرَ في (تيسيرِ العزيزِ الحميدِ): (أنَّها
رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ مُتعدِّدَةٍ، وأنَّها مشهورةٌ مُتَدَاوَلَةٌ بينَ
السلفِ والخلفِ تداولاً يُغْنِي عن الإسنادِ، ولها طُرُقٌ كثيرةٌ، ولا
يَضُرُّهَا ضعفُ إسنادِهَا) اهـ
قولُهُ: (رَجُلَيْنِ) هُما مُبْهَمَانِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يكُونا من
المسلمينَ المؤمنينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يكُونَا مِن المنافقينَ،
ويُحْتَمَلُ غيرُ ذلكَ.
قولُهُ: (إلى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ) وهوَ رجلٌ مِنْ زُعَمَاءِ بَنِي النَّضِيرِ.
قولُهُ: (أَكَذَلِكَ) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، التقديرُ: أكذلكَ الأمرُ.
قولُهُ: (فَضَرَبَهُ بالسَّيْفِ) الضاربُ عُمَرُ.
وهذهِ القِصَّةُ والتي قبلَها تَدُلُّ على: أنَّ مَنْ لمْ يَرْضَ بحُكْمِ
رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كافرٌ يجبُ قَتْلُهُ؛ ولهذا
قَتَلَهُ عمرُ رضيَ اللهُ عنْهُ.
وقولُهُ: (وما فيها مِن الإعانةِ علَى فَهْمِ الطاغوتِ) أيْ: أنَّ
الطاغوتَ مُشْتَقٌّ مِن الطُّغيانِ، وإذا كانَ كذلكَ فيشمَلُ كلَّ ما
تجاوزَ بهِ العبدُ حَدَّهُ مِنْ متبوعٍ أوْ معبودٍ أوْ مطاعٍ، فالأصنامُ
والأمراءُ والحُكَّامُ الذينَ يُحِلُّونَ الحرامَ ويُحَرِّمُونَ الحلالَ
طواغيتُ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا الباب من الأبواب العظيمة، المهمة في هذا الكتاب، وذلك لأن إفراد الله -جل وعلا- بالوحدانية في: - وفي إلهيته. يتضمنْ ويقتضي، ويستلزم جميعاً أن يُفرد في الحكم؛
فكما أنه -جلّ وعلا- لا حكم إلا حكمه في ملكوته، فكذلك يجب أن يكون لا حكم
إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس؛ وفي الفصل بين الناس، فالله -جل وعلا- هو
الحَكَم، وإليه الحُكم سبحانه وتعالى. قال جل وعلا: {فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِـيِّ الْكَبِيرِ} وقال جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ}.
فتوحيد الله -جل وعلا- في الطاعة، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله؛ وأن محمداً رسول الله: لا يكون إلا بأن يكون العباد محكِّمين لما أنزل الله -جل وعلا- على رسوله.
وتَرْك تحكيم ما أنزل الله على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالحكم:
- بحكم الجاهلية.
- بحكم القوانين.
- أو بحكم سواليف البادية.
- أو بكل حكمٍ مخالفٍ لحكم الله جل وعلا؛ هذا من الكفر الأكبر بالله جل جلاله، ومما يناقض كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله؛ وأن محمداً رسول الله.
لهذا عقد الشيخ -رحمه
الله- هذا الباب؛ ليبين أن الحكم بما أنزل الله فرض؛ وأن ترك الحكم بما
أنزل الله، وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين، وتنـزيل ذلك
منـزلة القرآن: أن ذلك شرك أكبر بالله جل وعلا، وكفر مخرج من ملة الإسلام.
قال الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- في أول رسالته (تحكيم القوانين): (إنَّ
من الكفر الأكبر المستبين: تنـزيل القانون اللعين، منـزلة ما نزل به الروح
الأمين، على قلب سيد المرسلين،؛ ليكون حَكَماً بين العالمين؛ مناقضة
ومحادّة لما نزل من رب العالمين) أو نحو ما قال رحمه الله تعالى.
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة، وإفراد الله بالحكم، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، محمد رسول
الله: يقتضي أن لا يُحكم إلا بشرعه؛ فلهذا الحكم بالقوانين الوضعية، أو
الحكم بسواليف البادية: هذا كله من الكفر الأكبر بالله جل وعلا.
وتحكيم القوانين كفر بالله جل وعلا؛ لقوله تعالى هنا في هذه الآية: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنواْ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى
الطَّاغُوتِ}.
فإذاً: مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة،
- أن التحاكم إلى غير شرع الله، هذا قدح في أصل التوحيد.
- وأن الحكم بشرع الله واجب.
- وأنَّ تحكيم القوانين، أو سواليف البادية، أو أمور الجاهلية: هذا مُنافٍ لشهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله.
فإن من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله:
- أنْ يُطاع فيما أمر.
- وأنْ يصدَّق فيما أخبر.
- وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر.
- وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
فالحكم بين المتخاصمين: هذا لابد أنْ يُرجع فيه إلى حكم من خلق المتخاصمين، ومن خلق الأرض والسموات.
فالحكم الكوني القدري: لله جل وعلا،
كذلك الحكم الشرعي لله جل وعلا؛ فيجب أن يكون العباد ليس بينهم إلا تحكيمُ
أمر الله جل وعلا، إذ ذلك هو حقيقة التوحيد في طاعة الله -جل وعلا- في
مسائل التخاصم بين الخلق.
قال رحمه الله: (باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنواْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}) قوله: (يزعمون) يدل على أنهم كذبة، فلا يجتمع الإيمان مع إرادة الحكم والتحاكم إلى الطاغوت، قال: (( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت )) وقوله: يريدون، هذا ضابط مهم، وشرط في نفي أصل الإيمان عمن حاكم إلى الطاغوت.
فإن من تحاكم إلى الطاغوت:
- قد يكون بإرادته: وهي الطواعية، والاختيار، والرغبة في ذلك، وعدم الكراهة.
- وقد يكون بغير إرادته،
بأن يكون مجبراً على ذلك، وليس له في ذلك اختيار، وهو كارهٌ لذلك.
فالأول: هو الذي ينتفي عنه الإيمان؛ لا يجتمع الإيمان
بالله، وبما أنزل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أنزل من
قبله، مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت.
فالإرادة شرط؛ لأن الله -جل وعلا- جعلها في ذلك مساق الشرط،
فقال: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} و(أن يتحاكموا) هذا مصدر، يعني: يريدون التحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت:اسم لكل ما تجاوز به العبد حده، من متبوع، أو معبود، أو مطاع.قال جل وعلا: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}
يعني: أن يكفروا بالطاغوت، أن يكفروا بكل تحاكمٍ إلى غير شرع الله جل
وعلا؛ فالأمر بالكفر بالتحاكم إلى الطاغوت، هذا أمرٌ واجبٌ، ومن أفراد
التوحيد، ومن أفراد تعظيم الله -جل وعلا- في ربوبيته.
فمن تحاكم إلى الطاغوت بإرادته،
فهذا انتفى عنه الإيمان أصلاً؛ كما دلت عليه الآية. قال: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} دلّ ذلك على أن هذا من وحي الشيطان، ومن تسويله.قال: (وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}) الإفساد في الأرض بتحكيم غير شرع الله، وبالإشراك بالله؛ فالأرض إصلاحها: بالشريعة وبالتوحيد، وإفسادها: بالشرك بأنواعه الذي منه الشرك في الطاعة؛ ولهذا ساق الشيخ هذه الآية تحت هذا الباب:
- لأجل أن يبين لك أنَّ صلاح الأرض بالتوحيد، الذي منه إفراد الله -جل وعلا -بالطاعة.
- وأن لا يُحاكم إلا إلى شرعه.
- وأن إفساد الأرض بالشرك، الذي منه أن يُجعل حكم غير الله -جل وعلا- جائزاً في التحاكم إليه.
قال: وقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} والآية التي قبلها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
ظاهرة في أنَّ من خصال المنافقين: أنهم يسعون في الشرك، وفي وسائله،
وأفراده؛ ويقولون: (إنما نحن مصلحون) وفي الحقيقة أنهم هم المفسدون، ولكن
لا يشعرون؛ لأنهم إذا أرادوا الشرك، ورغبوا فيه، وحاكموا وتحاكوا إلى غير
شرع الله؛ فإن ذلك هو الفساد، والسعيُ: فيه سعيٌ في الإفساد.
قال: (وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}).
الجاهلية يحكم بعضهم على بعض،
والله -جل وعلا- هو الذي خلق العباد؛ وهو أعلم بما يُصلحهم، وما فيه العدل في الفصل بين تخاصماتهم، والفصل في أقضيتهم وخصوماتهم.
فمن حاكم إلى شرائع الجاهلية، فقد حكّم البشر؛ ومعنى ذلك: أنه اتخذه مطاعاً من دون الله، أو جعله شريكاً لله -جل وعلا- في عبادة الطاعة.
والواجب: أن العبد يجعل حكمه، وتحاكمه إلى الله جل وعلا، دون ما سواه.
والله -جل وعلا- حكمه هو أحسن الأحكام {أفغير الله أبتغي حكماً} وقال هنا: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
فدلّ على أن حكم غيره: إنما هو؛ كما قال طائفة: (زُبالة أذهان؛ ونُحاتة
أفكار، لا تساوي شيئاً عند مَنْ عقل تصرف الله -جل وعلا- في ملكه وملكوته،
وأنْ ليس ثَمَّ حكم إلا حكم الربّ جل وعلا).
هذه المسألة، وهي مسألة التحاكم إلى غير شرع الله،
من المسائل التي يقع فيها خلق كثير، خاصة عند الشباب وذلك في هذه البلاد
وفي غيرها، وهي من أسباب تفرق المسلمين؛ لأن نظر الناس فيها لم يكن واحداً،
والواجب أن يتحرى طالب العلم:
- ما دلت عليه الأدلة.
- وما بيّن العلماء من معاني تلك الأدلة.
- وما فقهوه من أصول الشرع والتوحيد.
- وما بيّنوه في تلك المسائل.
ومن أوجه الخلط في ذلك:
- أنهم جعلوا المسألة في مسالة الحكم والتحاكم واحدة، يعني جعلوها صورة واحدة، وهي متعددة الصور، فمن صورها:
- أن يكون هناك تشريع لتقنين مستقل يضاهَى به حكم الله جل وعلا:
يعني قانون مستقل يشرع هذا التقنين من حيث وضعه كفر، والواضع له، يعني
المشرع والسانّ لذلك، وجاعل هذا التشريع منسوباً إليه، وهو الذي حكم بهذه
الأحكام، هذا المشرع كافر، وكفره ظاهر؛ لأنه جعل نفسه طاغوتاً فدعى الناس
إلى عبادته، وهو راضٍ عبادة الطاعة.
وهناك من يحكم بهذا التقنين هذه الحالة الثانية:
-فالمشرع حالة.
- ومن يحكم بذلك التشريع حالة.
- ومن يتحاكم إليه حالة.
- ومن يجعله في بلده من جهة الدول هذه حالة رابعة، فصارت عندنا الأحوال أربع.
المشرّع، ومَنْ أطاعه في جعل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، ومناقضة شرع الله: هذا كافر؛ ومَنْ أطاعه في ذلك، فقد اتخذه رباً مِنْ دون الله.
والحاكم بذلك التشريع فيه تفصيل:
فإن حكم مرة، أو مرتين، أو أكثر من ذلك، ولم يكن ذلك ديدناً له، وهو يعلم أنه عاصٍ، يعني: من جهة القاضي الذي حكم، يعلم أنه عاصٍ وحكم بغير شرع الله، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب، ولا يكفّر حتى يَسْتَحل؛ ولهذا تجد أنَّ بعض أهل العلم يقول: (الحكم بغير شر ع الله: لا يكْفُر فيه إلا إذا استحل) وهذا صحيح؛ ولكن لا تنـزّل هذه الحالة على حالة التقنين، والتشريع.- فالحاكم؛ كما قال ابن عباس: (كفرٌ دون كفر، ليس الذي يذهبون إليه؛ هو كفر دون كفر) يعني: من حكم في مسألة أو مسألتين بهواه، بغير شرع الله، وهو يعلم أنه عاصٍ ولم يستحل، هذا كفر دون كفر.
- أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتاً، ويحكم دائماً ويُلزم الناس بغير شرع الله؛ فهذا من أهل العلم من قال: (يكفر مطلقاً) ككفر الذي سنّ القانون؛ لأن الله -جل وعلا-قال: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقاً، جعله طاغوتاً، وقال: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} .
- ومن أهل العلم من قال: (حتى هذا النوع، لا يكفر حتى يستحل) لأنه قد يعمل ذلك ويحكم، وهو في نفسه عاصي؛ فله حكم أمثاله من المدمنين على المعصية، الذين لم يتوبوا منها.
والقول الأول: منْ أنَّ الذي يحكم دائماً بغير شرع الله، ويُلزم الناس بغير شرع الله، أنه كافر: هو الصحيح عندي،
وهو قول الجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، في رسالته (تحكيم القوانين) لأنه لا يصدُر في الواقع من قلبٍ قد كفر بالطاغوت؛ بل لا يصدر إلا ممن عظّم القانون، وعظّم الحكم بالقانون.الحال الثالثة: حال المتحاكم.
الحال الأولى: - ذكرنا - حال المشرّع.
الحال الثاني: حال الحاكم.
الحالة الثالثة: حال المتحاكم، يعني: الذي يذهب هو وخصمه يتحاكمون إلى القانون؛ فهذا فيه تفصيل أيضاً، وهو:
-إن كان يريد التحاكم، له رغبة في ذلك،
ويرى أنَّ الحكم بذلك سائغ، وهو يريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ولا يكره ذلك،
فهذا كافر أيضاً؛ لأنه داخل في هذه الآية، ولا يجتمع ذلك؛ كما قال
العلماء: (إرادة التحاكم إلى الطاغوت مع الإيمان بالله، بل هذا ينفي هذا)
والله -جل وعلا- قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}.
الحال الثانية: أنه لا يريد التحاكم،ولكنه حَاكَم.
- إما بإجباره على ذلك؛ كما يحصل في البلاد الأخرى، أنه يُجبر أن يُحضَر مع خصمه إلى قانوني، إلى قاضٍ يحكم بالقانون.
- أو أنه عَلِمَ أنَّ الحق له في الشرع؛
فرفع الأمر إلى القاضي في القانون؛ لعلمه أنه يوافق حكم الشرع. فهذا الذي
رفع أمره في الدعوى على خصمه إلى قاضٍ قانوني؛ لعلمه أنَّ الشرع يعطيه حقه،
وأن القانون وافق الشرع في ذلك؛ فهذا الأصح أيضاً عندي أنه جائز.
وبعض أهل العلم يقول: (يتركه ولو كان الحق له) والله -جل وعلا- وصف المنافقين بقوله: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}
فالذي يرى أن الحق ثبت له في الشرع، وما أجاز لنفسه أن يترافع إلى غير
الشرع، إلا لأنه يأتيه ما جعله الله -جل وعلا- له مشروعاً: فهذا لا يدخل في
إرادة التحاكم إلى الطاغوت؛ فهو كاره، ولكنه حاكَم إلى الشرع، فعلم أن
الشرع يحكم له؛ فجعل الحكم الذي عند القانون، جعله وسيلة لإيصال الحق الذي
ثبت له شرعاً إليه؛ هذه ثلاثة أحوال.
الحال الرابع: حال الدولة التي تحكم بغير الشرع، تحكم بالقانون؛ الدول التي تحكم بالقانون أيضاً بحسب كلام الشيخ محمد بن إبراهيم، وتفصيل الكلام في هذه المسألة في فتاويه أو مقتضى كلامه وحاصله: (أنَّ الكفر بالقانون فرض؛ وأن تحكيم القانون في الدول: إنْ كان خفيّاً نادراً، فالأرض أرض إسلام) يعني: الدولة دولة إسلام، فيكون له حكم أمثاله من الشركيّات التي تكون في الأرض.
قال: (وإن كان ظاهراً، فاشياً، فالدار دار كفر) يعني: الدولة دولة كفر، فيصبح الحكم على الدولة راجع إلى هذا التفصيل.
- إن كان تحكيم القانون قليلاً وخفيّاً، فهذه لها حكم
أمثالها من الدول الظالمة، أو التي لها ذنوب وعصيان، وظهور أو وجود بعض
الشركيات في دولتها؛ وإنْ كان ظاهراً فاشياً.
الظهور: يضاده الخفاء، والفشو: يضاده القلة.
قال: (فالدار دار كفر) وهذا التفصيل هو الصحيح؛
لأننا نعلم أنه في دول الإسلام صار هناك تشريعات غير موافقة لشرع الله جل
وعلا؛ والعلماء في الأزمنة الأولى ما حكموا على الدار بأنها دار كفر، ولا
على تلك الدول بأنها دول كُفرية؛ ذلك لأن الشرك له أثر على الدار - إذا
قلنا: الدار، يعني: الدولة - فمتى كان ظاهراً، فاشياً: فالدولة دولة كفر.
ومتى كان قليلاً خفيّاً، أو كان قليلاً ظاهراً، وينكر: فالأرض أرض إسلام، والدار دار إسلام، وبالتالي الدولة دولة إسلام.
فهذا التفصيل: يتضح به هذا المقام، وبه تجمع بين كلام
العلماء، ولا تجد مضادة بين قول عالمٍ وعالم، ولا تشتبه المسألة إن شاء
الله تعالى.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ قولِ اللهِ تَعالَى: {ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل قبلك وما أنزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم
ضلالا بعيدا} الآيات… الخ. عنْ عبْدِ اللهِ بنِ عمرٍو أنَّ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا يؤمـِنُ أحدُكُمْ حتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ)) أخرجـَهُ ابنُ أبي عاصمٍ، والبغويُّ، والخطيبُ البغداديُّ، والحكيمُ التّرمذيُّ، وأبو القاسمِ الأصبهانيُّ،
من طريقِ نعيمِ بنِ حمَّادٍ نَا عبدُ الوهَّابِ بنُ عبدِ المجيدِ
الثّقفيُّ عن هشامِ بنِ حسَّانَ عن محمَّدِ بنِ سيرينَ عن عقبةَ بنِ أوسٍ
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ بهِ. وقالَ المُبَارَكْفُوري: (الحديثُ أخرجَهُ أيضاً أبو نعيمٍ في كتابِ (الأربعينَ)، والطَّبرانيُّ وأبو بكرِ بنِ عاصمٍ الأصبهانيُّ والحكيمُ التّرمذيُّ وأبو نصرٍ السجزيُّ في (الإِبانةِ) وقالَ: حسنٌ غريبٌ، والخطيبُ. درجةُ هذا الحديثِ عندَ أهلِ العلمِ. 1- ذكرَهُ البغويُّ في (الأحاديثِ الحسانِ). 2- وتقدَّمَ قولُ السّجزيِّ بأنَّهُ حسنٌ غريبٌ. 3- وتقدَّمَ قولُ النَّوويِّ بأنَّهُ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. 4- وقالَ الخطيبُ التَّبريزيُّ: (حديثٌ صحيحٌ، رويناهُ في كتابِ الحجَّةِ بإسنادٍ صحيحٍ) وأقرَّهُ عليٌّ القاري على ذلِكَ. 5- وقالَ ابنُ رجبٍ: (وقدْ خرَّجَ هذا الحديثَ الحافظُ أبو نعيمٍ في كتابِ (الأربعينَ)
وشرطَ في أوَّلِهَا أن تكونَ من صحاحِ الأخبارِ وجيادِ الآثارِ ممَّا
أجمعَ النَّاقلونَ على عدالةِ ناقليهِ، وخرَّجَتْهُ الأئمَّةُ في
مسانيدِهِمْ) اهـ. 6- وقالَ سليمانُ بنُ عبدِ اللهِ بنُ محمَّدٍ: (إسنادُهُ صحيحٌ كمَا قالَ المصنِّفُ عن النَّوويِّ، وكذلك قالَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ حسنٍ). 7- وقالَ ابنُ مفلحٍ:(قالَ النَّوويُّ: حديثٌ صحيحٌ رويْنَاهُ في كتابِ (الحجَّةِ) بإسنادٍ صحيحٍ) ولم يتعقـَّبه. 8- وكذلِكَ ساقَهُ المصنِّفُ محتَجّاً بهِ. منها: أنَّهُ حديثٌ يتفرَّدُ بهنعيمُ بنُ حمَّادٍ المروزيُّ، ونعيمٌ هذا وإنْ كانَ وثَّقَهُ جماعةٌ من الأئمَّةِ وخرَّجَ له البُخاريُّ،
فإنَّ أئمَّةَ الحديثِ كانُوا يحسنُونَ به الظَّنَّ؛ لصلابتِهِ في
السّنَّةِ، وتشدُّدِهِ في الرَّدِّ على أهلِ الأهواءِ، وكانُوا ينسبونَهُ
إلى أنَّهُ يَهِمُ ويشبهُ عليه في بعضِ الأحاديثِ، فلمَّا كثرَ عثورُهُمْ
على مناكيرِهِ حكمُوا عليه بالضَّعفِ … الخ. ومنها: أنَّهُ اختلفَ على نعيمٍ في إسنادِهِ فرُوِيَ عنه عن الثَّقفيِّ عن هشامٍ ورُوِيَ عنه عن الثَّقفيِّ حدَّثَنَا بعضُ مشيخَتِنَا هشامٌ أو غيرُهُ. ومنها: أنَّ في إسنادِهِ عقبةَ بنَ أوسٍ البصريَّ،ويُقالُ فيهِ: يعقوبُ بنُ أوسٍ أيضاً، وقد خرَّجَ له أبو داودَ والنّسائيُّ وابنُ ماجه حديثاً عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو، ويُقالُ: عبدُ اللهِ بنُ عمرَ. وقد اضطربَ في إسنادِهِ وقد وثَّقَهُ العجليُّ وابنُ سعدٍ وابنُ حبَّانَ، وقالَ ابنُ خزيمةَ: روى عنه ابنُ سيرينَ مع جلالتِهِ. اهـ باختصارٍ. قلتُ: وقولُ ابنِ عديٍّ فيهِ بعدَ أن ذكرَ الأحاديثَ الَّتِي وَهِمَ فيها هذا نصُّهُ:((ولنعيمِ بنِ حمَّادٍ غيرُ
ما ذكرْتُ وقد أثنَى عليه قومٌ، وضعَّفَهُ قومٌ، وكانَ ممَّنْ يتصلَّبُ في
السّنَّةِ، وماتَ في محنةِ القرآنِ في الحبسِ، وعامَّةُ ما أُنكِرَ عليه
هو هذا الَّذي ذكرتُهُ. وأرجُو أنْ يكونَ باقي حديثِهِ مستقيماً)) اهـ.
وأخرجَهُ أيضاً البيهقيُّ، قالَهُ ابنُ مفلحٍ.
ونسبَهُ الشَّيخُ الألبانيُّ للحسنِ بنِ سفيانَ وابنِ عساكرَ، قالَ: أخرَجَاهُ في أربعينِهِمَا) اهـ.
وقالَ النَّوويُّ: (حديثٌ حسنٌ صحيحٌ روينَاهُ في كتابِ (الحجَّةِ) بإسنادٍ صحيحٍ).
قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ:(قلتُ: تصحيحُ هذا الحديثِ بعيدٌ جدّاً من وجوهٍ:
وعلى هذه الرِّوايةِ فيكونُ شيخُ الثَّقفيِّ غيرَ معروفٍ عينُهُ، ورُوِيَ عنه عن الثَّقفيِّ حدَّثَنا بعضُ مشيخَتِنَا: حدَّثَنَا هشامٌ أو غيرُهُ، فعلى هذه الرِّوايةِ فالثَّقفيُّ رواهُ عن شيخٍ مجهولٍ، وشيخُهُ رواهُ عن غيرِ معيَّنٍ فتزدادُ الجهالةُ في إسنادِهِ.
وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ: هو مجهولٌ.
وقالَ الغلابيُّ في (تاريْخِهِ): يزعمُونَ أنَّهُ لم يسمعْ من عبدِ اللهِ بنِ عمرو.
وإنَّمَا يقولُ: قالَ عبدُ اللهِ بنُ عمرو. فعلَى هذا تكونُ رواياتُهُ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو منقطعةً، واللهُ أعلمُ)
قلتُ: أمَّا قولُ ابنِ رجبٍ إنَّ أئمَّةَ الحديثِ حكمُوا على نعيمِ بنِ حمَّادٍ بالضَّعفِ ففيه نظرٌ ظاهرٌ؛ وذلك لوجودِ الخلافِ فيه عندَهُمْ.
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: (قالَ النّسائيُّ: ليسَ بثقةٍ، وإنَّهُ في حدِّ ممَّنْ لا يُحْتَجُّ بهِ، وإنَّهُ ضعَّفَهُ).
ونقلَ عن يَحيى أنَّهُ يروي عن غيرِ الثِّقاتِ، ومرَّةً قالَ: ليسَ بشيءٍ وأنَّهُ ذمَّهُ.
وقالَ أبو عروبةَ:(هو مظلِمُ الأمرِ).
وقالَ ابنُ عديٍّ: (قالَ لنا ابنُ حمَّادٍ - يعني الدُّولابيّ-: نعيمٌ يروي عن ابنِ المباركِ قالَ النّسائيُّ: ضعيفٌ).
وقالَ غيرُهُ: (كانَ يضعُ الحديثَ في تقويةِ السّنَّةِ وحكاياتٍ في ثلبِ أبي حنيفةَ كلُّهَا كذبٌ).
قالَ ابنُ عديٍّ:(وابنُ حمَّادٍ متَّهَمٌ فيما يقولُهُ عن نعيمٍ؛ لصلابتِهِ في أهلِ الرَّأيِ).
وقالَ أبو الفتحِ الأزديُّ:(قالُوا: كانَ يضعُ الحديثَ في تقويةِ السُّنَّةِ وحكاياتٍ مزوَّرَةً في ثلبِ أبي حنيفةَ كلُّهَا كذبٌ) اهـ.
ثمَّ أجابَ الحافظُ عن اتِّهامِهِ بذلك بما نصُّهُ:( وقدْ تقدَّمَ نحوَ ذلك عن الدُّولابيِّ واتَّهَمَهُ ابنُ عديٍّ في ذلك وحاشَ للدُّولابيِّ
أن يُتّهَمَ، وإنَّمَا الشَّأنُ في شيخِهِ الَّذِي نقَلَ ذلك عنهُ؛
فإنَّهُ مجهولٌ متَّهَمٌ. وكذلك مَنْ نقلَ عنه الأزديُّ بقولِهِ: (قالـُوا)
فلا حجـَّةَ في شيءٍ من ذلِكَ؛ لعدمِ معرفةِ قائلِهِ).
وأمَّا نعيمٌ فقد ثبتَتْ عدالتُهُ وصدقُهُ، ولكنْ في حديثِهِ أوهامٌ معروفةٌ.
وقدْ قالَ فيه الدَّار قطنيُّ: (إمامٌ في السّنَّةِ كثيرُ الوهمِ).
وقالَ أبو أحمدَ الحاكمُ: (ربَّمَا يُخالِفُ في بعضِ حديثِهِ، وقد مضى أنَّ ابنَ عديٍّ يتتبَّعُ ما وَهِمَ فيهِ؛ فهذا فصلُ القولِ فيهِ) اهـ.
وعليه فهذَا الحديثُ مستقيمٌ عندَ ابنِ عديٍّ؛ لأنَّهُ لم يذكرْهُ في منكراتِ نعيمٍ.
ثمَّ قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: إنَّ الإِمامَ أحمدَ سُئِلَ عنهُ فقالَ: لقد كانَ من الثِّقاتِ، وقالَ ابنُ معينٍ: ثقةٌ، ومرَّةً قالَ: صدوقٌ ثقةٌ رجلُ صدقٍ أنا أعرَفُ النَّاسِ بهِ كانَ رفيقِي بالبصرةِ، وروَى عنهُ.
وقالَ
أبو حاتمٍ: محلُّهُ الصِّدقُ وروَى عنهُ. وقالَ مسلمةُ بنُ قاسمٍ: كانَ صدوقاً كثيرَ الخطأ وله أحاديثُ منكرَةٌ في الملاحمِ انفرَدَ بهَا)) اهـ كلامُ الحافظِ.
وقالَ العجليُّ: ثقةٌ، وذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثّقاتِ)، وقالَ: ربَّمَا أخطأَ ووَهِمَ.
وقالَ الذَّهبيُّ فيهِ: ((أحدُ الأئمَّةِ الأعلامِ على لينٍ في حديثِهِ)).
وذكرَهُ في معرفةِ الرُّواةِ المتكلَّمِ فيهم بما لا يُوجِبُ الرَّدَّ، وقالَ: حافظٌ وثَّقَهُ أحمدُ وجماعةٌ واحتجَّ به البخاريُّ … وقالَ أبو الفتحِ الأزديُّ: قالُوا: كانَ يضعُ الحديثَ.
وكذلك ذكرَ أبو أحمدَ الابنُ عنهُ)) اهـ باختصارٍ.
ثمَّ قالَ في القولِ باتِّهامِهِ بالوضعِ: ((ما أظنـُّهُ يضعُ))اهـ.
إذا تقرَّرَ هذا فهل يسُوغُ القولُ بأنَّ أئمَّةَ الحديثِ
حكمُوا عليهِ بالضَّعفِ مع وجودِ أقوالِهِم الَّتِي تنصُّ على توثيقِهِ
وتعديلِهِ وإمامتِهِ وعلى رأسِهِم إمامُ أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ الإِمامُ
أحمدُ وإمامُ الصَّنعةِ يَحيى بنُ معينٍ والإِمامُ أبو حاتمٍ الرَّازيُّ - معَ تشدُّدِ هذين في التَّوثيقِ - والعجليُّ وابنُ حبَّانَ والدَّار قطنيُّ والذَّهبيُّ والحافظُ ابنُ حجرٍ، واحتجاجِ البخاريِّ بهِ؟!
وأمَّا الاختلافُ على نعيمِ بنِ حمَّادٍ في إسنادِهِ فيجوزُ أن يُقالَ: الرِّوايةُ عنه عن الثَّقفيِّ عن هشامِ بنِ حسَّانَ - وهو القردوسيُّ - قد عيَّنْتُ شيخَ الثَّقفيَّ بلا شكٍّ ولا تردُّدٍ.
وهذه الرِّوايةُ عندَ البغويِّ والخطيبِ البغداديِّ من طريقِ الحسنِ بنِ سفيانَ النّسويِّ - وهو حافظٌ ثبتٌ كما نصَّ عليهِ الذَّهبيُّ- وتابعَهُ الحسنُ ابنُ شقيقٍ عندَ الخطيبِ أيضاً وقدْ ذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثِّقاتِ)، كلاهما قالا: نَا محمَّدُ بنُ الحسنِ الأعينُ أبو بكرٍ - الحافظُ الثِّقةُ قالَهُ الذَّهبيُّ - نَا نعيمُ بنُ حمَّادٍ نَا عبدُ الوهَّابِ بنُ عبدِ المجيدِ الثَّقفيُّ عن هشامِ بنِ حسَّانَ عن محمَّدِ بنِ سيرينَ عن عقبةَ بنِ أوسٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ بهِ.
وهو كذلكَ عندَ البيهقيِّ كما أوردَهُ ابنُ مفلحٍ.
فشيخُ الثَّقفيِّ
هو هشامُ بنُ حسَّانَ القردوسيُّ عندَ هؤلاءِ. وأمَّا ما رُوِيَ عن نعيمِ بنِ حمَّادٍ عن الثَّقفيِّ حدَّثَنا مشيخَتُنَا حدَّثَنَا هشامٌ أو غيرُهُ فلم أقفْ على مَنْ رواهَا عن نعيمٍ. وهي نفسُ روايةِ ابنِ وارةَ:
وأمَّا الرِّوايةُ الواردةُ بالشَّكِّ بلفظِ: ((حدَّثَنَا بعضُ مشيختِنَا هشامٌ أو غيرُهُ - كما عندَ ابنِ أبي عاصمٍ من طريقِ محمَّدِ بنِ مسلمِ بنِ وارةَ - وهو ثقةٌ حافظٌ قالَهُ الحافظُ في (التَّقريبِ) - حدَّثَنَا نعيمُ بنُ حمَّادٍ بهِ، ففيها ذكرُ هشامٍ بدونِ جزمٍ بهِ، وروايةُ محمَّدِ بنِ الحسنِ الأعينِ جاءَتْ بالقطعِ عن غيرِ شكٍّ بأنَّهُ هو فتعاضدَتِ الرِّوايتانِ على تعيينِ شيخِ الثَّقفيِّ على أنَّهُ هشامٌ. وعليهِ فلا اختلافَ بينَ هاتينِ الرِّوايتينِ.
((حدَّثَنا بعضُ مشيختِنَا هشامٌ أو غيرُهُ، وذلك أنَّ قولَهُ: ((حدَّثَنَا هشامٌ أو غيرُهُ)) بدلا من قولِهِ: ((حدَّثَنَا بعضُ مشيختِنَا)) بلا ريبٍ.
وأمَّا قولُ ابنِ رجبٍ عن ابنِ عبدِ البرِّ: ((إنَّ عقبةَ بنَ أوسٍ السَّدوسيَّ البصريَّ هو
مجهولٌ ففيهِ نظرٌ؛ لأنَّهُ قد وثَّقَهُ أهلُ العلمِ، وروى عنه أئمَّةٌ من
كبارِ التَّابعينَ، ومثلُ هذا لا يُقالُ فيه مجهولٌ، وإليكَ البيانَ: قالَ
العجليُّ: بصريٌّ تابعيٌّ ثقةٌ. وقالَ ابنُ سعدٍ: كانَ ثقةً قليلَ الحديثِ.
وذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثِّقاتِ).
وقالَ الذَّهبيُّ: وُثِّقَ.
وقالَ الحافظُ في (التَّقريبِ): صدوقٌ.
قالَ السّيوطيُّ: ((تثبتُ
العدالةُ بتنصيصِ عدلينِ عليهَا. وقدْ عدَّله خمسةٌ من أهلِ العلمِ
بالجرحِ والتَّعديلِ. والتَّعديلُ فرعٌ عن المعرفةِ. وروى عنه من
التَّابعينَ محمَّدُ بنُ سيرينَ، والقاسمُ بنُ ربيعةَ وعليُّ بنُ زيدِ بنِ جدعانَ.
وتقدَّمَ نقلُ
ابنِ رجبٍ عن ابنِ خريمةَ أنَّهُ قالَ: روَى عنه ابنُ سيرينَ مع جلالتِهِ.
وقدْ نصَّ أهلُ العلمِ بالرِّجالِ على أنَّ روايةَ عدلينِ عن المجهولِ ترفَعُ عنه الجهالةَ، قالَ النَّوويُّ: ((وأقلُّ ما يرفعُ الجهالةَ روايةُ اثنينِ مشهورينِ. ونقلَ ابنُ عبدِ البرِّ عن أهلِ الحديثِ نحوَهُ)) اهـ.
وأمَّا قولُ الغلابيِّ: يزعمونَ أنَّهُ لم يسمعْ من عبدِ اللهِ بنِ عمرو ففيه نظرٌ لوجوهٍ:
الأوَّلِ:
أنَّهُ ليسَ لهُ دليلٌ إلا قولَهُ: ((وإنـَّما يقولُ: قالَ عبدُ اللهِ بنُ عمرو)) وهذا دليلٌ ضعيفٌ جدّاً.
الثَّانِي:
أنَّ الغلابيَّ يقولُ: ((يزعمـُونَ أنَّهُ لم يسمَعْ منهُ)) فَعَبَّر بالزَّعمِ، وإنَّمَا يُقالُ: ((زَعمـُوا)) في حديثٍ لا سندَ لهُ ولا ثَبَتَ فيهِ، كما في حديثِ ((بئسَ مطيَّةُ الرَّجلِ زَعمُوا)) قالـَهُ ابنُ الأثيرِ.
الثَّالثِ:
أنَّهُ ثبتَ لُقْيَهُ لعبدِ اللهِ بنِ عمرو.
قالَ الخطيبُ البغداديُّ: ((أخبرَنَا أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ مخلدِ بنِ جعفرِ المعدلُ، أخبرَنَا أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ إبراهيمَ الحكيميُّ، حدَّثَنَا عليُّ بنُ داودَ القنطريُّ، حدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ كاتبُ الليثِ، حدَّثَنِي
الليثُ بنُ سعدٍ، حدَّثني جريرُ بنُ حازمٍ عن أيّوبَ السّختيانيِّ وعبدُ
اللهِ بنُ عونِ بنِ أرطبانَ وهشامُ بنُ حسَّانَ عن محمَّدِ بنِ سيرينَ قالَ: حدَّثَنِي عقبةُ بنُ أوسٍ السّدوسيُّ، قالَ: كنَّا عندَ عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ في بيتِ المقدسِ فقالَ: ((أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ الأمينُ، أصبْتُمُ اسمَهُ، عمرُ الفاروقُ وأصبْتُمُ اسمَهُ … الحديثَ)) اهـ.
رجالُهُ ثقاتٌ رجالُ الصَّحيحِ، غيرَ كاتبِ الليثِ فمختلَفٌ في حالِهِ، بعضُهُمْ ضعَّفَهُ وبعضُهُمْ وثَّقَهُ، قالَ أبو حاتمٍ الرَّازيُّ: صدوقٌ أمينٌ ما علمتُهُ، وروى له البخاريُّ في (الصَّحيحِ) نصَّ عليه الحافظُ الذَّهبيُّوالحافظُ ابنُ حجرٍ في ترجمتِهِ عندَهُمَا.
وتوسَّطَ فيه آخرونَ فحسَّنُوا حديثَهُ.
قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: سألْتُ أبا زرعةَ عنهُ فقالَ: لم يكنْ عندي ممَّنْ يتعمَّدُ الكذبَ، وكانَ حسنَ الحديثِ)).
وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: ((وقالَ ابنُ القطَّانِ:هو حسنُ الحديثِ، ولم يثبُتْ عليه ما يُسْقِطُ حديثَهُ إلا أنَّهُ مختلَفٌ فيهِ، فحديثُهُ حسنٌ)) اهـ
الحاصلُ
أنَّ حديثَ: ((لا يؤمنُ أحدُكُمْ حتَّى يكونَ هواه…)) الخ حسنٌ أو صحيحٌ سنداً ومتناً.
أمَّا السَّندُ فقدْ أوضحْنَاهُ وأمَّا صحَّةُ المتنِ فيقولُ شارحُهُ سليمانُ بنُ عبدِ اللهِ في (تيسيرِ العزيزِ الحميدِ): ((قلـْتُ: ومعنَاهُ صحيحٌ قطعاً وإنْ لم يصحَّ إسنادُهُ، وأصلُهُ في القرآنِ كثيرٌ، كقولِهِ تَعالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بينهم} وقولـِهِ {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم} وقوله: {فَإِن لَّم يَستَجِيبوُا لك فاعلمْ أنما يَتَّبِعُونَ أهواءَهُمْ} وغيرِ ذلِكَ من الآياتِ فلا يضرُّ عدمُ صحَّةِ إسنادِهِ)) اهـ.
قالَ المصنِّفُ: ((وقالَ الشَّعبيُّ: كانَ بينَ رجلٍ من المنافقينَ ورجلٍ من اليهودِ خصومةٌ … الأثرَ، أخرجَهُ ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، من طرقٍ عن داودَ بنِ أبي هندَ عن عامرٍ الشَّعبيِّ قالَ: فذكرَهُ.
إسنادُهُ صحيحٌ إلا أنَّهُ مرسَلٌ. وأخرجَهُ البغويُّ معلّقاً عن الشَّعبيِّ.
وقالَ المصنِّفُ أيضاً: وقيلَ: نزلَتْ في رجلينِ اختَصَمَا فقالَ أحدُهُمَا: نترافَعُ … الخ. أخرجَهُ الواحديُّ، والبغويُّ معلّقاً عن الكلبيِّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ: نزلَتْ في رجلينِ من المنافقينَ … الخ.
وإسنادُهُ واهٍ. فيه الكلبيُّ متَّهَمٌ بالكذبِ قالَهُ الحافظُ في (التَّقريبِ).
وقدْ أخرجَ الطَّبرانيُّ، والواحديُّ من طريقِ أبي اليمانِ حدَّثَنَا صفوانُ بنُ عمرو عن عكرمةَ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: كانَ أبو بردةَ الأسلميُّ كاهناً يقضِي بينَ اليهودِ فيما يتنافرُونَ إليهِ.
فتنافرَ إليهِ ناسٌ من المسلمينَ فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ:{أَلَم تَرَ إِلىَ الذَّينَ يَزعُمُونَ أَنَّهم } إلى قولـِهِ: {إن أَرَدنَا إِلاَّ إِحَساناً}.
قالَ الهيثميُّ: رجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ. وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: إِسنادُهُ جيِّدٌ.
وقالَ السّيوطيُّ: ((أخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ والطَّبرانيُّ بسندٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: كانَ أبو برزةَ … الخ.
العناصر
مناسبة باب قول الله تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون...) لكتاب التوحيد
مناسبة باب قوله: (ألم تر إلى الذين يزعمون...) لما قبله بيان أهمية هذا الباب (باب قول الله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون...) تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم...) الآيات
- معنى قوله: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله...) الآية تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به...) الآيات
- معنى قوله: (ومن يطع الله والرسول...) الآية تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض...) الآية
- بعض الفوائد المستفادة من قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض...) الآية تفسير قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) - مناسبة قوله تعالى (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون...) الآية - كلام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فيمن بدل الشريعة أحوال وأحكام الحكم والتحاكم إلى الطاغوت
- أحوال المتحاكمين إلى الطاغوت وأحكامهم شرح حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه...) الحديث
- ذكر إطلاقات الهوى شرح أثر الشعبي (كان بين رجل من المنافقين...) الأثر
- ترجمة الشعبي قاعدة في التفسير: إذا احتملت الآية معاني لا تعارض بينها حملت عليها شرح أثر قتل عمر للمنافق
- ترجمة كعب بن الأشرف
- معنى قوله: (فكيف إذا أصابهم مصيبة...) الآية
- معنى قوله: (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم...) الآية
- معنى قوله: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)
- معنى قوله: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم...) الآية
- معنى قوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك...) الآية ، وبيان سبب نزولها
- معنى قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم...) الآية
- بيان أنواع الإفساد
- أحوال الدول التي تحكم القوانين وأحكامها
- بعض الفوائد من أثر قتل عمر لمن لم يرض بحكم رسول الله