26 Oct 2008
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَنْ أَطَاعَ الْعُلَمَاءَ وَالأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ أَوْ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ فَقَدِ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ). فَقُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: ((فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ النُّورِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ((بَرَاءةٌ)). الثَّالِثَةُ:التَّنْبِيهُ عَلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا عَدِيٌّ. الرَّابِعَةُ: تَمْثِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَتَمْثِيلُ أَحْمَدَ، بِسُفْيَانَ. الْخَامِسَةُ: تَحَوُّلُ
الأَحْوَالِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ حَتَّى صَارَ عِنْدَ الأَكْثَرِ
عِبَادَةُ الرُّهْبَانِ هِيَ أَفْضَلَ الأَعْمَالِ، وَتُسَمَّى
الْوَلاَيَةَ، وَعِبَادَةُ الأَحْبَارِ هِيَ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ، ثُمَّ
تَغَيَّرَتِ الأَحْوَالُ إِلَى أَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَيْسَ
مِنَ الصَّالِحِينَ، وَعُبِدَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مَنْ هُوَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: (عَجِبْتُ لِقَوْمٍ عَرَفُوا الإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ يَذْهَبُونَ إِلَى رَأْيِ سُفْيَانَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النُّورُ:63]،
أَتَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ الْفِتْنَةُ: الشِّرْكُ، لَعَلَّهُ إِذَا
رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ
فَيَهْلِكَ).
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ: {اتَّخَذُواْ
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ
ابنَ مَرْيمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيعبُدوا إلهًا وَاحِدًا لا إلهَ إلاَّ
هُوَ سُبحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[ التَّوْبَةُ: 31] قُلْتُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ.
قَالَ: ((أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ؟)).
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ من أطاعَ العلماءَ والأمراءَ في تحريمِ ما أحلَّ اللهُ أو تحليلِ ما حرَّمَهُ اللهُ فقدِ اتَّخَذَهُمْ أرباباً من دونِ اللهِ
ابنُ عبَّاسٍ: (يـُوشـِكُ
أنْ تَنْزِلَ عليكُمْ حجارةٌ منَ السَّماءِ، أقولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَقُولُونَ: قالَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرَ).
فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: سلْ أمَّكَ يا عروةُ. فقالَ عروةُ: أمَّا أبو بكرٍ وعمرُ فلم يفعلا. . فقلتُ: بلى. ((فتلْكَ عبادَتُهُم)) رواهُ أحمدُ والتّرمذيُّ وحسَّنَهُ. اهـ. وقالَ السّيوطيُّ: أخرجَ ابنُ سعدٍ وعبدُ بنُ حميدٍ والتّرمذيُّ وحسَّنَهُ وابنُ المنذرِ وابنُ أبي حاتمٍ والطَّبرانيُّ وأبو الشَّيخِ وابنُ مردويهِ والبيهقيُّ في (سننِهِ).. فذكرَهُ وكذلِكَ قالَ الشَّوكانيُّ، ونقلَ تحسينَ التّرمذيِّ له المُبَارَكْفُوري في (تحفَتِهِ). قلْتُ: غطيفُ بنُ أعين ذكرَهُ الدَّارقطنيُّ في (الضُّعفاءِ) وقالَ الذَّهبيُّ في (الكاشفِ): ليَّنَهُ بعضُهُم. وذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثِّقاتِ). وعطاءٌ صدوقٌ اختلَطَ إلا أنَّ روايةَ السُّفيانينِ عنه قبلَ الاختلاطِ، نصَّ عليها ابنُ الكيَّالِ.
وأخرجَهُ ابنُ جريرٍ أيضاً: (حدَّثَني محمَّدُ بنُ سعدٍ قالَ: حدَّثَنِي أبي قالَ: حدَّثَنِي عمِّي قالَ: حدَّثَنِي أبي عن أبيهِ عن ابنِ عبَّاسٍ قولُهُ:{اتَّحَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَاباً مِّن دُونِ اللهِ} يقولُ: زيَّنُوا لهم طاعَتَهُمْ). الأوَّلِ: أنَّ حديثَ عديٍّ في سندِهِ غطيفُ بنُ أعين وقد ذكرَهُ الدَّارقطنيُّ في (الضُّعفاءِ)، وذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثِّقاتِ). الثَّانِي: أنَّهُ خرَّجَتْهُ مصادرُ -ذكرَهَا الحافظُ ابنُ كثيرٍ والسّيوطيُّ -كثيرةٌ ولم نطَّلِعْ على أسانيدِهَا. الثَّالثِ: أنَّ حديثَ حذيفةَ صحيحٌ إلا أنَّ فيه إرسالَ أبي البختريِّ وهو ثقةٌ ثبتٌ. الرَّابعِ: حديثُ ابنِ عبَّاسٍ وفي سندِهِ ضعافٌ؛ فهذه الطُّرُقُ يُقَوِّي بعضُهَا بعضاً ويكونُ الحديثُ حسناً، والعلمُ عندَ اللهِ.
هذا الأثرُ بهذا اللفظِ احتجَّ بهِ ابنُ القيِّمِ في (إعلامِ الموقعينَ)، وفي (الصَّواعقِ المرسَلَةِ) ولم يعزُهُ، ولم أقِفْ على مصدرِهِ، ولكنَّ معناهُ ثابتٌ، فقدْ أخرجَ أحمدُ،وابنُ عبدِ البرِّ من طريقِ حجَّاجِ بنِ محمَّدٍ ثنَا شريكٌ عن الأعمشِ عن الفضيلِ بنِ عمرو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ:(تمتـَّعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ عروةُ بنُ الزُّبيرِ: نَهى أبو بكرٍ وعمرُ عن المتعةِ.
فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: أراهُمْ سيهلكُونَ!
أقولُ: قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقولُ: نهى أبو بكرٍ وعمرُ) اهـ.
قالَ ابنُ مفلحٍ: (حديثٌ حسنٌ، ورواهُ في (المختارةِ) من طريقِهِ) يعني طريقَ أحمدَ.
قلتُ: شريكٌ هو ابنُ عبدِ اللهِ قالَ الحافظُ في (التَّقريبِ): (صدوقٌ يخطىءُ كثيراً، تغيَّرَ حفظُهُ منذُ وَلِيَ القضاءَ بالكوفةِ) إلا أنَّ الأثرَ جاءَ من طريقٍ آخرٍ:
فقالَ ابنُ عبَّاسٍ:
واللهِ ما أراكُمْ منتهِينَ حتَّى يعذِّبَكُمُ اللهُ، نحدِّثُكم عنِ
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحدِّثُونَا عن أبي بكرٍ
وعمرَ)
إسنادُهُ صحيحٌ.
طريقٌ أخرى، قالَ الطَّبرانيُّ: حدَّثَنَا أحمدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ - هو ابنُ نجدةَ الحوطيُّ - قالَ: حدَّثَنا أبي قالَ: حدَّثَنا محمَّدُ بنُ حِمْيَر عن إبراهيمَ بنِ أبي عبلةَ عن ابنِ أبي مليكةَ الأعمى عن عروةَ بنِ الزُّبيرِ أنَّهُ أتى ابنَ عبَّاسٍ، فقالَ: (يا ابنَ عبَّاسٍ طالما أضللْتَ النَّاسَ! قالَ: وما ذاك يا عُروةُ؟!
قالَ: الرَّجلُ يخرجُ محرِماً بحجٍّ أو عمرةٍ.
فإذا طافَ زعمْتَ أنَّهُ قدْ حَلَّ.
فقدْ كانَ أبو بكرٍ وعمرُ ينهيانِ عن ذلِكَ!
فقالَ: أهُمَا - ويحَكَ - آثرُ عندَكَ أمْ ما في كتابِ اللهِ وما سَنَّ
رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصحابِهِ وفي أمَّتِهِ؟!
فقالَ عروةُ: هما كانَا أعلمَ بكتابِ اللهِ وما سَنَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منِّي ومنْكَ.
قالَ ابنُ أبي مليكةَ: فخصَمَهُ عروةُ).
قالَ الهيثميُّ: (إسنادُهُ حسنٌ).
وأخرجَ أبو مسلمٍ الكجِّي - كما قالَ ابنُ القيِّمِ - عن سليمانَ بنِ حربٍ عن حمَّادِ بنِ زيدٍ عن أيُّوبَ السُّختيانيِّ عن ابنِ أبي مليكةَ عن عروةَ بنِ الزُّبيرِ،(قالَ
لرجلٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأمرُ
النَّاسَ بالعمرةِ في هؤلاءِ العشرِ، وليسَ فيها عمرةٌ؟! قالَ: أولا تسألُ
أمُّكَ عن ذلكَ؟
قالَ عروةُ: فإنَّ أبا بكرٍ وعمرَ لم يفعلا ذلكَ.
قالَ الرَّجلُ: مِنْ ها هُنَا هلكْتُمْ.
ما أرى اللهَ -عزَّ وجلَّ- إلا سيعذِّبُكُم إنِّي أحدِّثُكُم عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخبروني بأبي بكرٍ وعمرَ.
قالَ عروةُ: إنَّهُمَا واللهِ كانَا أعلمَ بسنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكَ، فسكتَ الرَّجلُ) اهـ. رجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ.
وأوردَهُ الحافظُ في (المطالبِ العاليةِ)، وعزاهُ لإِسحاقَ، وقالَ المعلِّقُ عليهَا: (في (المسندِ)سندُهُ صحيحٌ) اهـ.
عن عديِّ بنِ حاتمٍ أنَّهُ سمعَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأُ هذه الآيةَ: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} الآيةَ، فقلْتُ له:إنَّا لسنَا نعبدُهُمْ.
قالَ:((أليسَ يحرِّمُونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرّمونَهُ، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَهُ؟!))
قالَ:
أخرجَهُ التّرمذيُّ والبخاريُّ والطّبرانيُّ وابنُ جريرٍ والبيهقيُّ والمزّيُّ، من طريقِ عبدِ السَّلامِ بنِ حربٍ الملائيِّ عن غطيفِ بن أعينٍ عن مصعبٍ بنِ سعدٍ عن عديِّ بنِ حاتمٍ بهِ وعزَاهُ المصنِّفُ والحافظُ ابنُ كثيرٍ لأحمدَ.
والَّذِي وقفتُ عليه قولَهُ فيهِ: (هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ إلا من حديثِ عبدِ السَّلامِ بنِ حربٍ، وغطيفُ بنِ أعين ليسَ بمعروفٍ في الحديثِ) اهـ.
فلعلَّ ذلك التَّحسينَ وقعَ في بعضِ النُّسخِ، وقدْ حسَّنَهُ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّةَ بقولِهِ: ((وهو حديثٌ حسنٌ طويلٌ…))اهـ.
وقالَ الألبانيُّ: (حسنٌ) وقالَ بشير عيون:(حسنٌ بشواهدِهِ).
واحتجَّ به الإِمامُ ابنُ عبدِ البرِّ على فسادِ التَّقليدِ.
ويشهدُ له ما أخرجَهُ عبدُ
الرَّزَّاقِ، وابنُ جريرٍ، والبيهقيُّ وسفيانُ الثَّوريُّ، وابنُ عبدِ
البرِّ من طريقِ حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ عن أبي البختريِّ سعيدِ بنِ فيروز
الطَّائيِّ عن حذيفةَ - رَضِي اللهُ عنهُ - سُئلَ عن قولِهِ تَعالَى: {اتَّحّذواْ أَحبَارَهُم وَرٌهبَانَهُم أَربَاباً مِنّ دوٌنِ اللهِ}أكانُوا يعبدونَهُمْ؟
قالَ: لا.
كانُوا إذا أحلُّوا لهم شيئاً استحلُّوهُ،وإذا حرَّمُوا عليهم شيئاً حرَّمُوهُ) أي: موقوفـاً عليهِ.
وحبيبُ بنُ أبي ثابتٍ ثقةٌ ثبتٌ صدوقٌ حجَّةٌ، وقد صحَّحَ له الدَّارقطنيُّ مع العَنْعَنَةِ كما تقدَّمَ، وقد تابعَهُ عطاءُ بنُ السَّائبِ عن أبي البختريِّ عن حذيفةَ.
قالَ ابنُ جريرٍ: حدَّثني بشرُ بنُ سويدٍ قالَ: حدَّثَنا سفيانُ عن عطاءِ بنِ السَّائبِ عن أبي البختريِّ عن حذيفةَ … فذكرَ نحوَهُ.
إسنادُهُ ضعيفٌ رواتُهُ كلُّهُم ضعفاءُ؛ إلا أنَّ الحافظَ ابنَ كثيرٍ جزَمَ بأنَّ ابنَ عبَّاسٍ وحذيفةَ قالا بذلِكَ، وهذا نصُّهُ بعدَ إيرادِهِ لحديثِ عديٍّ: (وهكذا قالَ حذيفةُ بنُ اليمانِ وعبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ وغيرُهُمَا في تفسيرِ: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} أنـَّهم اتـَّبعوهم فيما حلـَّلوا وحرَّمُوا) اهـ.
فالحاصلُ أنَّ هذا الحديثَ ثابتٌ وله أصلٌ؛ وذلك لأمورٍ:
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
لما كانتِ الطاعةُ من أنواعِ العبادةِ، بل هي العبادةُ فإنها طاعةُ اللهِ بامتثالِ ما أمرَ به على ألسنةِ رُسُلِهِ عليهم السلامُ؛ نبَّه المصنفُ رحمهُ اللهُ تعالى بهذه الترجمةِ على وجوبِ اختصاصِ الخالقِ تبارك وتعالى بها، وأنَّهُ لا يُطاعُ أحدٌ من الخلقِ إلا حيثُ كانَتْ طاعتُه مُنْدَرِجةً تحتَ طاعةِ اللهِ، وإلا فلا تجبُ طاعةُ أحدٍ من الخلقِ استقلالاً.
والمقصودُ هنا الطاعةُ الخاصةُ في تحريمِ الحلالِ أو تحليلِ الحرامِ،
فمَن أطاعَ مخلوقًا في ذلك غيرَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فإنّهُ لا يَنْطِقُ عن الهوى، فهو مشركٌ، كما بيَّنَهُ اللهُ تعالى في
قولِه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}[التوبة:32] أي: علماءَهم {أَرْبَابًا
مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ
لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ} وفسَّرَهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطاعتِهم في تحريمِ الحلالِ، وتحليلِ الحرامِ كما سيأتي في حديثِ عَديٍّ. وقيلَ: همُ الأمراءُ، وهما روايتان عن أحمدَ. (2) قولُه: (يُوشِكُ) بضمِّ أولِه وكسرِ الشينِ المعجمةِ. فإنْ جاءَهُم فيه الدليلُ موافِقًا لمـَا كـانَ لــلـــآبا إلــيهِ ذَهابُ ولا ريبَ أَنَّ هذا داخلٌ في قولِهِ تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}[التوبة:32]. (3) هذا الكلامُ عن أحمدَ رواه عنه الفضلُ بنُ زيادٍ وأبو طالبٍ، قال الفضلُ عن أحمدَ: (نظَرْتُ في المصحفِ فوجَدْتُ طاعةَ الرسولِ في ثلاثةٍ وثلاثينَ مَوضِعًا، ثم جعل يتلُو:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}الآيةَ،
وجعَل يُكَرِّرُها ويقولُ: وما الفتنةُ إلا الشركُ لعلّهُ إذا ردَّ بعضَ
قولِه أَنْ يقعَ في قلبِه شيءٌ من الزَّيْغِ فيَزِيغَ قلبُهُ، فيُهْلِكُهُ،
وجعَلَ يتلوُ هذهِ الآيةَ:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء:64] فقالَ: عَجِبتُ لقومٍ سمِعُوا الحديثَ وعرَفُوا الإسنادَ وصحتَهُ يَدَعُونَهُ ويَذْهَبُونَ إلى رأيِ سفيانَ وغيرِهِ. ذكَرَ ذلك شيخُ الإسلامِ. - إمَّا بأَنَّ الأخذَ بالحديثِ اجتهادٌ، والاجتهادُ انقطعَ منذُ زمانٍ. - وإمَّا - وإمَّا
بأَنَّ ذلك اجتهادٌ، ويُشْتَرَطُ في المجتهدِ أَنْ يكونَ عالمًا بكتابِ
اللهِ عالمًا بسنةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وناسخِ
ذلك ومنسوخِه، وصحيحِ السنةِ وسقيمِها، عالمًا بوجوهِ الدَّلالاتِ، عالمًا
بالعربيةِ والنحوِ والأصولِ، ونحوِ ذلكَ من الشُّرُوطِ التي لعلَّها
لاتوجدُ تامّةً في أبي بكرٍ وعمرَ رَضِي اللهُ عَنْهُما. كما قالَهُ المصنفُ. - وقال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[النور:54]
فشهِدَ تعالى لمن أطاع الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالهدايةِ، وعندَ جُفاةِ المقلِّدينَ أَنَّ مَنْ أطاعَهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بِمُهْتَدٍ، إنمَّا المهتدي مَنْ عصاهُ، وعدَلَ عن
أقوالِه، ورغِبَ عن سنتِهِ إلى مذهبٍ أو شيخٍ ونحوِ ذلك. وقد وقَعَ في هذا التقليدِ المحرَّمِ خلقٌ كثيرٌ ممن يَدَّعِي العلمَ والمعرفةَ بالعلومِ،
ويُصَنِّفُ التصانيفَ في الحديثِ والسننِ، ثم بعدَ ذلك تَجِدُهُ جامِدًا
على أحدِ هذهِ المذاهبِ، ويَرَى الخروجَ عنهَا من العظَائِمِ. وفي كلامِ أحمدَ إشارةٌ إلى أَنَّ التقليدَ قبلَ بلوغِ الحُجَّةِ لا يُذَمُّ، إنما المذمومُ المُنْكَرُ الحرامُ: الإقامةُ على ذلكِ بعدَ بلوغِ الحُجَّةِ. قيل: يجوزُ مِنْ ذلكَ قراءتُها على سبيلِ الاستعانةِ بها على
فَهْمِ الكتابِ والسنةِ، وتصويرِ المسائلِ، فتكونُ من نوعِ الكتبِ
الآليةِ، أمَّا أَنْ تكونَ هي المقدَّمةَ على كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحاكمةَ بينَ الناسِ فيما اختلفُوا فيه،
المدعوَّ إلى التحاكُمِ إليها دونَ التحاكُمِ إلى اللهِ والرسولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ريبَ أن ذلكَ مُنافٍ للإيمانِ مُضادٌّ له
كما قال تعالى: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:64]. فإذا كانَ التحاكمُ عندَ المُشاجرةِ إليها دونَ اللهِ ورسولِهِ،
ثم إذا قَضَى اللهُ ورسولُه أمرًا وجَدْتَ الحرجَ في نفسِكَ، وإنْ قضَى
أهلُ الكتابِ بأمرٍ لم تَجِدْ حرجًا، ثم إذا قضى الرسولُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمرٍ لم تُسَلِّمْ له، وإذا قضَوْا بأمرٍ سلَّمْتَ له،
فقد أقْسَمَ اللهُ تعالى سبحانَهُ وهو أصدقُ القائلينَ بأجلِّ مُقْسَمٍ
بهِ، وهو نفسُه تباركَ وتعالى أنَّك لستَ بمؤمنٍ، والحالةُ هذه، وبعدَ ذلك،
فقدْ قالَ اللهُ تعالى: {بلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة:14،15]. فلم يقُلْ هذا
الإمامُ ما يدَّعيِه جُفاةُ المقلِّدينَ لَهُ أَنَّهُ لا يقولُ قولاً
يُخالِفُ كتابَ اللهِ، حتى أنْزَلُوه بمنزلةِ المعصومِ الذي لا يَنْطِقُ
عنِ الهَوَى. وكلامُ
الأئمةِ مثلَ هذا كثيرٌ، فخالَفَ المقلِّدونَ ذلك، وجمَدُوا على ما وجَدُوه
في الكتبِ المَذْهَبِيَّةِ، سواءً كان صوابًا أم خطًا مع أنَّ كثيرًا من
هذهِ الأقوالِ المنسوبةِ إلى الأئمةِ ليسَتْ أقوالاً لهم منصوصًا عليها،
وإنما هي تفريعاتٌ ووجوهٌ واحتمالاتٌ وقياسٌ على أقوالِهم، ولسْنَا نقولُ:
إن الأئمةَ على خطأٍ، بل هُمْ إنْ شاءَ اللهُ على هدًى من ربِّهم، وقد
قامُوا بما أوجبَ اللهُ عليهم مِنَ الإيمانِ بالرسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومتابعتِه، ولكنَّ العصمةَ منتفيةٌ عن غيرِ الرسولِ،
فهو الذي {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (2) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:2،3] فما العذرُ في اتِّباعِهم وتركِ اتباعِ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى؟! (4) هذا الحديثُ قد رُوِيَ من طُرُقٍ فرواهُ ابنُ سعدٍ، وعبدُ بنُ حميدٍ، وابنُ المنذرِ، وابنُ جريرِ وابنُ أبي حاتمٍ، والطبرانيُّ، وأبو الشيخِ، وابن مَرْدُويَه، والبيهقيُّ في (السننِ) وفيه قصةٌ اختصرَها المصنفُ. أحدُهما: أنهم يَعْلَمونَ أنهم بدَّلُوا دينَ اللهِ،
فيَتَّبِعونَهم على التبديلِ فيَعْتَقِدونَ تحليلَ ما حرَّمَ اللهُ،
وتحريمَ ما أحلَّ اللهُ اتباعًا لرؤسائِهم مَعَ علمِهم أنهم خالفُوا دينَ
الرُّسلِ فهذا كفرٌ، وقد جَعلَه اللهُ ورسولُهُ شِرْكًا وإنْ لم يكونُوا
يُصَلُّون لهم ويَسْجُدونَ. الثاني: أن يكونَ اعتقادُهم وإيمانُهم بتحريمِ الحلالِ وتحليلِ الحرامِ ثابتًا،
لكنهم أطاعُوهم في معصيةِ اللهِ كما يفعلُ المسلمُ ما يفعلهُ من المعاصي
التي يعتقدُ أَنَّها معاصٍ، فهؤلاءِ لهَمُ حكمُ أمثالهِم من أهلِ الذنوبِ،
كما ثبتَ في (الصحيحينِ) عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ)). انتهى ملخصًا. قولُه: ((صارَ عندَ الأكثرِ عبادةُ الرهبانِ هي أفضلَ الأعمالِ))
يُشِيرُ إلى ما يَعْتَقِدُهُ كثيرٌ من الناسِ فيمَنْ يَنْتَسِبُ إلى
الولايةِ من الضُّرِّ والنَّفعِ، والعَطَاءِ والمَنْعِ، ويسمُّونَ ذلك
الولايةَ والسرَّ ونحوَ ذلك، وهو الشركُ.
فإن قيل: قد قال اللهُ تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[النساء:58].
قيل: هُمُ العلماءُ.
قال ابنُ القيِّمِ: (والتحقيقُ بأَنَّ الآيةَ تَعُمُّ الطائفتينِ).
قيل: إنما تجبُ طاعتُهم إذا أَمَروا بطاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولِهِ،
فكان العلماءُ مبلِّغينَ لأمرِ اللهِ وأمرِ رسوله، والأمراءُ مُنَفِّذينَ
له، فحينئذٍ تجبُ طاعتُهم تَبَعًا لطاعةِ اللهِ ورسولِهِ، كما قالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ)).
- وقال: ((عَلَى
المَرْءِ المُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ مَا لَمْ يُؤْمَرْ
بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ)) حديثانِ صحيحانِ فليس في هذه الآيةِ ما يُخالِفُ آيةَ (براءةٌ).
قال أبو السعاداتِ:( أي: يَقْرُبُ ويَدْنُو ويُسْرِعُ، وهذا الكلامُ قالَهُ ابنُ عباسٍ لِمَن ناظَرَهُ في مُتعةِ الحجِّ).
وكان ابنُ عباسٍ يأمرُ بها، فاحْتَجَّ عليهِ المناظِرُ بنهيِ أبي بكرٍ وعمرَ عنها، أي: هما أعلمُ منكَ وأحقُّ بالاتباعِ.
فقالَ هذا الكلامَ الصادرَ عن محضِ الإيمانِ وتجريدِ المتابعةِ للرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنْ خالفَهُ مَنْ خالفه كائنًا مَن كانَ،
كما قالَ الشافعيُّ: (أجمعَ العلماءُ على أَنَّ مَن استبانَتْ له سنةُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكنْ لَهُ أَنْ يدعَها لقولِ أحدٍ).
فإذا كان هذا كلامَ ابنِ عباسٍ لمن عارَضَهُ بأبي بكرٍ وعمرَ وهُما
هُما، فماذا تَظُنُّهُ يَقولُ لمن يُعارِضُ سُنَنَ الرسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإمامِه وصاحبِ مذهبِه الذي يَنْتَسِبُ إليه؟ ويَجْعَلُ
قولَهُ عِيارًا على الكتابِ والسنةِ، فما وافقَهُ قَبِلَهُ، وما خالَفَهُ
ردَّهُ، أو تَأَوَّلَهُ فاللهُ المستعانُ. وما أحسنَ ما قالَ بعضُ
المتأخِّرين:
رضـُوهُوإلا قـيـلَ: هـذا مُؤَوَّلٌ ويـُرْكـَبُ لـلتأويـلِ فيـه صِعابُ
وقالَ أبو طالبٍ عن أحمدَ: (وقيلَ لَهُ: إنَّ قومَا يدَعُونَ الحديثَ، ويَذْهَبُون إلى رأيِ سفيانَ؟
- قالَ اللهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63] وتَدْرِي ما الفتنةُ؟
الكفرُ، قالَ اللهُ تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة:190].
فَيَدَعُونَ الحديثَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَغْلِبُهم أهواؤُهم إلى الرأيِ)
قُلْتُ: وكلامُ أحمدَ في ذمِّهِ التقليدَ وإنكارِ تأليفِ كُتُبِ الرأيِ كثيرٌ مشهورٌ.
قولُه: (عرفُوا الإسنادَ) أي: إسنادَ الحديثِ وصحتَهُ، أي: صحةَ الإسنادِ، وصحّتُهُ دليلٌ على صحةِ الحديثِ.
قولُه: (يَذْهَبُون إلى رأيِ سفيانَ) أي: الثوريِّ الإمامِ الزاهدِ العابدِ الثقةِ الفقيهِ، وكانَ له أصحابٌ ومذهبٌ مشهورٌ فانقطعَ.
ومرادُ أحمدَ الإنكارُ على مَن يَعْرِفُ إسنادَ الحديثِ وصحتَهُ، ثم بعدَ ذلك يُقَلِّدُ سفيانَ أو غيرَه، ويَعْتَذِرُ بالأعذَارِ الباطِلَةِ:
فيقالُ له: هذا إنْ صَحَّ فمرادُهُم بذلكَ المجتهدُ المُطْلَقُ، أَمَّا
أَنْ يكونَ ذلك شرطًا في جوازِ العملِ بالكتابِ والسُّنَّةِ، فكَذِبٌ على
اللهِ، وعلى رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى أئمةِ
العلماءِ، بل الفرضُ والحَتْمُ على المؤمنِ إذا بلَغَه كتابُ اللهِ وسنةُ
رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلِمَ معنىَ ذلك في أيِّ شيءٍ
كان أَنْ يَعْمَلَ به ولو خالفَهُ مَن خالفه، فبذلك أمَرَنَا ربُّنا
تَباركَ وتعالى ونبيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأجمع على ذلك العلماءُ قاطبةً؛ إلا جُهَّالَ المقلِّدين وجُفَاتَهم، ومثلَ
هؤلاءِ ليسُوا من أهلِ العلمِ، كما حكَى الإجماعَ على أنَّهم ليسُوا من
أهلِ العلمِ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ وغيرُه، -- قالَ اللهُ تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:2] .
نعم ويُنْكَرُ الإعراضُ عن كتابِ اللهِ، وسنةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإقبالُ على تعلُّمِ الكتبِ المصنَّفةِ في الفقهِ
استغناءً بها عن الكتابِ والسنةِ، بل إنْ قَرَؤُوا شيئًا من كتابِ اللهِ
وسنةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما يَقْرَؤُون تَبرُّكًا
لا تعلُّمًا وتفقُّهَا، أو لكونِ بعضِ المُوقِفِينَ وقَفَ على مَنْ قرَأ (البخاريَّ) مثلاً، فيَقْرَؤُونه لتحصيلِ الوظيفةِ لا لتحصيلِ الشريعةِ، فهؤلاءِ مِنْ أحقِّ الناسِ بدخولهِم في قولِ اللهِ تعالى: {وَقَدْ
آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا _(99) مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ
يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (102) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}[طه:99-102] .
- وقولِهِ تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى}[طه:124] إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}[طه:127].
فإن قلتَ: فماذا يجوزُ للإنسانِ من قراءةِ هذه الكتبِ المصنَّفةِ في المذاهبِ؟
على أَنَّ الأئمةَ الأربعةَ وغيرَهُم من أهلِ العلمِ، قد نهَوْا عن تقليدِهم معَ ظهورِ السُنَّةِ، فكلامُ أحمدَ الذي ذكرُه المصنفُ كافٍ عن تكثيرِ النقلِ عنه.
وقال أبو حنيفةَ:
(إذا جاءَ الحديثُ عنِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلى
الرأسِ والعينِ، وإذا جاء عن الصحابةِ فعلى الرأسِ والعينِ، وإذا جاءَ عن
التابعينَ، فنحنُ رجالٌ وهم رجالٌ).
وفي (روضةِ العلماءِ): (سُئِلَ أبو حنيفةَ: (إذا قلتَ قولاً وكتابُ اللهِ يخالفُه؟)
قالَ: (اتْرُكُوا قولي لكتابِ اللهِ)
قيل: (إذا كان قولُ الرسولِ يخالِفُه؟)
قالَ: (اتْرُكوا قولي لخبرِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)
قيل: (إذا كانَ قولُ الصحابةِ يخالفُه؟)
قالَ: (اتْرُكُوا قُولي لقولِ الصحابةِ).
وروَى البيهقيُّ في (السننِ) عن الشافعيِّ أَنَّهُ قالَ: (إذا
قلتُ قولاً، وكانَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافُ
قولي، فما يَصِحُّ من حديثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْلَى، فلا تُقَلِّدُوني).
وقال الربيعُ: (سَمِعْتُ الشافعيَّ يقولُ:
إذا وجَدْتُم في كتابي خلافَ سنةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فقولوا بسنةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ودعُوا ما قلتُ).
وتواتَرَ عنه أنه قال: (إذا صحَّ الحديثُ -أي: بخلافِ قولي- فاضْرِبُوا بقولي الحائطَ).
وقال مالكٌ: (كلُّ أحدٍ يُؤْخَذُ من قولِه ويُترَكُ إلا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قولُه: (لعلَّهُ) أي: لعلَّ الإنسانَ الذي تَصِحُّ عندَهُ سنةُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُه: (إذا ردَّ بعضَ قولهِ) أَيْ: قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُه: (أَنْ يقعَ في قلبِه شيءٌ من الزَّيْغِ فيَهْلِكَ) هذا
تنبيهٌ على أَنَّ ردَّ قولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سببٌ
لزيغِ القلبِ الذي هو سببُ الهلاكِ في الدنيا والآخرةِ، فإذا كانَتْ إساءةُ
الأدبِ مَعَهُ في الخطابِ سببًا لحبوطِ الأعمالِ كما قالَ تعالى: {لاَ
تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ
لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2] فما ظَنُّكَ بردِّ أحكامِهِ وسنتِه لقولِ أحدٍ من الناسِ كائنًا مَنْ كانَ؟
قال شيخُ الإسلامِ: (فإذا
كانَ المخالِفُ عن أمرِه قد حُذِّرَ مِنَ الكُفْرِ والشّركِ، أو من
العذابِ الأليمِ، دَلَّ على أنه قد يكونُ مُفْضِيًا إلى الكفرِ والعذابِ
الأليمِ، ومعلومٌ أَنَّ إفضاءَهُ إلى العذابِ هو مجردُ فِعلِ المعصيةِ،
فإفضاؤُه إلى الكفرِ إنمَّا هوَ لما يَقْتَرِنُ بهِ مِن استخفافٍ بحقِّ
الآمرِ، كما فَعَلَ إبليسُ لعنَهُ
الله فإذا علمتَ أَنَّ المخالفةَ عن أمرِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سببٌ للفتنةِ التي هي الشركُ والعذابُ الأليمُ في الدنيا
والآخرةِ، علِمْتَ أَنَّ مَن ردَّ قولَهُ وخالَفَ أمرَهُ لقولِ أبي حَنيفةَ، أو مالكٍ أو
غيرِهما، لهم النصيبُ الكاملُ، والحظُّ الوافرُ من هذهِ الآيةِ وهذا
الوعيدِ على مخالفةِ أمرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد استدلَّ
بهذه الآيةِ كثيرٌ من العلماءِ على أَنَّ أصلَ الأمرِ للوجوبِ حتى يقومَ
دليلٌ على استحبابِه).
قوله: (عن عديِّ بنِ حاتمٍ) أي: الطائيِّ المشهورِ، وهو ابنُ عبدِ اللهِ بنِ سعدِ بنِ الحَشْرَجِ- بفتحِ المهملةِ وسكونِ المعجمةِ، وآخرهُ جيمٌ- ماتَ مشرِكًا، وعَدِيٌّ يُكَنَّى أبَا طَرِيفٍ بفتحِ المهملةِ، صحابيٌّ شَهِيرٌ، حَسَنُ الإسلامِ، ماتَ سنةَ ثمانٍ وستينَ، وله مائةٌ وعشرونَ سنةً.
قولُه: ((فقلتُ: إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهم)) ظَنَّ عديٌّ أَنَّ العبادةَ المرادُ بها التقرُّبُ إليهم بأنواعِ العبادةِ، من السجودِ والذبحِ والنذرِ ونحوِ ذلك، فقالَ: (إنَّا لسْنا نَعْبُدُهم).
قولُه: ((أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ)) إلى آخرِهِ؟
صرَّحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ بأَنَّ عبادةَ
الأحبارِ والرهبانِ هي طاعتُهم في تحريمِ الحلالِ وتحليلِ الحرامِ، وهو
طاعتُهم في خلافِ حُكمِ اللهِ ورسولِهِ.
قال شيخُ الإسلامِ: (وهؤلاء
الذينَ اتَّخذوا أحبارَهُم ورُهبانهَم أربابًا من دونِ اللهِ حيث أطاعوهم
في تحليلِ ما حرَّم اللهُ وعكسِه يكونون على وجهين:
ثم نقولُ: اتِّباعُ هذا المحلِّلِ للحرامِ والمحرِّمِ للحلالِ إنْ كانَ
مُجْتَهِدًا قصدُهُ اتباعُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن
خَفِيَ عليه الحقُّ في نَفْسِ الأمرِ، وقد اتَّقَى اللهَ ما استطاعَ، فهذا
لا يُؤاخِذُهُ اللهُ بخطئِه، بل يثيبُه على اجتهادِه الذي أطاعَ بِهِ
ربَّهُ.
ولكن مَن عَلِمَ أنَّ هذا الخطأَ فيما جاءَ بهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم اتَّبَعَهُ على خطئِه وعدَلَ عن قولِ الرَّسولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فله نصيبٌ مِنَ الشركِ الذي ذمَّهُ
اللهُ، لا سيَّما إنِ اتبعَهُ في ذلك لهواهُ، ونصَرَهُ باللسانِ واليدِ
مَعَ علمِه بأنَّهُ مخالِفٌ للرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا
شِركٌ يستحقُّ صاحِبُهُ العقوبةَ عليهِ، ولهذا اتفقَ العلماءُ على أنه إذا
عُرِفَ الحقُّ لا يجوزُ تقليدُ أحدٍ في خلافِه.
وأَمَّا إنْ كانَ المتبعُ للمجتهِدِ عاجزًا عن معرفةِ الحقِّ على التفصيلِ،
وقد فعَلَ ما يَقْدِرُ عليهِ مثلُهُ من الاجتهادِ في التقليدِ، فهذا لا
يؤاخَذُ إنْ أخطأَ كما في القبلةِ. وأَمَّا إنْ قلَّدَ شخصًا دونَ نظيرِه
بمجردِ هواهُ، ونصَرَهُ بيدهِ ولسانِهِ مِن غيرِ علمٍ أَنَّ الحقَّ معَهُ،
فهذا من أهلِ الجاهليةِ، فإنْ كانَ متبوعُهُ مُصِيبًا لم يكنْ عملُه
صالحًا، وإنْ كانَ متبوعُه مُخْطِئًا، كان آثِمًا كمَنْ قالَ في القرآنِ
برأيهِ، فإنْ أصابَ فقد أخطأَ، وإنْ أخَطأ، فلْيَتَبَوَّأْ مقعدَهُ من
النارِ)
قال المصنفُ: (وفيه تغيُّرُ الأحوالِ إلى هذه الغايةِ، صارَ عندَ الأكثرِ عبادةُ الرهبانِ هي أفضلَ الأعمالِ ويُسَمُّونها الوِلايةَ.
وعبادةُ الأحبارِ هي العلمُ والفقهُ، ثم تغيرتِ الحالُ إلى أَنْ عُبِدَ مَن
ليسَ من الصالحينَ، وعُبِدَ بالمعنى الثاني مَنْ هُوَ من الجاهِلينَ).
قولُه: ((وعبادةُ الأحبارِ هي العلمُ والفقهُ))
أي: هي التي تُسَمَّى اليومَ العلمَ والفقهَ المؤلَّفَ على مذاهبِ
الأئمَّةِ ونحوِهِم، فيُطِيعونهَمُ في كلِّ ما يُطِيعونَكَ، سواءً وافقَ
حكمَ اللهِ أم خالَفَهُ، بل لا يَعْبَأُونَ بما خالفَ ذلكَ من كتابٍ وسنةٍ.
بل يَرُدُّون كلامَ اللهِ وكلامَ رسولِهِ لأقوالِ مَن قَلَّدوُه،
ويُصَرِّحُون بأنَّهُ لا يَحِلُّ العملُ بكتابٍ ولا سنةٍ، وأَنَّه لا
يَجوزُ تَلَقِّي العلمِ والهُدَى منهما، وإنما الفقهُ والهدى عندَهُم هو ما
وَجَدُوه في هذهِ الكتبِ.
بل أعظمُ من ذلك وأطمُّ رميُ كثيرٍ منهم كلامَ اللهِ وكلامَ رسولِه بأنه لا
يفيدُ العلِمَ ولا اليقينَ في بابِ معرفةِ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ
وتوحيدِهِ، ويُسَمُّونها ظواهرَ لفظيةً، ويُسَمُّونَ ما وضَعهُ الفلاسفةُ
المشركون القواطعَ العقليةَ، ثم يُقَدِّمونها في بابِ الأسماءِ والصفاتِ
والتوحيدِ على ما جاءَ مِنْ عندِ اللهِ، ثم يَرْمُونَ مَنْ خرجَ عن عبادةِ
الأحبارِ والرهبانِ إلى طاعةِ ربِّ العالمينَ، وطاعةِ رسولِهِ وتحكيمِ مَاْ
أنزل اللهُ في مواردِ النزاعِ بالبدعةِ أو الكفرِ.
وقولُه: ((ثم تغَيَّرَتِ الأحوالُ إلى أَنْ عُبِدَ مَنْ ليسَ مِنَ الصالحينَ)) وذلك كاعتقادِهم في كثيرٍ ممن يَنْتَسِبُ إلى الولايةِ من الفُسَّاقِ والمجاذيبِ.
وقولُه: ((وعُبِدَ بالمعنى الثاني مَن هو من الجاهلينَ))
وذلك كاعتقادِهم العلمَ في أناسٍ مِن جهلةِ المقلِّدينَ فيُحَسِّنونَ لهمُ
البدعَ والشركَ فيُطِيعونهم، ويَظُنُّونَ أنهم علماءُ مُصْلِحونَ {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}[البقرة:12].
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
قولُهُ: (بابُ
مَنْ أَطَاعَ العُلماءَ والأمَراءَ فِي تَحْريمِ ما أَحَلَّ اللهُ أَو
تَحْليلِ ما حَرَّمَ اللهُ فَقَد اتَّخَذَهُم أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللهِ) لقولِ اللهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ
إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]. (2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقالَ
ابنُ عَبَّاسٍ: (يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُم حِجارةٌ مِنَ السَّماءِ
أَقُولُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولونَ:
قالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟). والحديثُ في (الصحيحَيْنِ)،
وحينئذٍ فلا عُذْرَ لِمَنِ اسْتُفْتِيَ أنْ يَنْظُرَ في مذاهبِ العلماءِ،
وما اسْتَدَلَّ بهِ كلُّ إمامٍ، وَيَأْخُذَ منْ أَقْوَالِهِم ما دلَّ عليهِ
الدليلُ إذا كانَ لهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بها على ذلكَ، كما قالَ
تَعَالَى: {فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً}[النساء:59]. وبالجملةِ، فلهذا قالَ ابنُ عَبَّاسٍ لَمَّا عَارَضُوا الحديثَ بِرَأْيِ أبي بكرٍ وعمرَ:(يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ - الحديثَ). (3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقالَ الإمامُ أحمدُ: (عَجِبتُ لِقوْمٍ عَرَفُوا الإسنادَ وصِحَّتَهُ يَذْهَبُونَ إِلى رَأْيِ سُفيانَ، واللهُ تَعَالَى يقولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63]. الفِتْنَةُ الكُفْرُ،قالَ اللهُ تعالَى:{والفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ}[البقرة:217]. فَيَدَعُونَ الحديثَ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغْلِبُهُم أَهْوَاؤُهُم إلى الرأيِ). ذَكَرَ ذلكَ عنهُ شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وقدْ عَمَّت البَلْوَى بهذا المُنْكَرِ،
خُصُوصًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلى العلمِ، نَصَبُوا الحبائلَ في الصدِّ عن
الأخذِ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وَصَدُّوا الناسَ عنْ متابَعَةِ النبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَمِنْ
ذلكَ قَوْلُهُم: لا يَسْتَدِلُّ بالكتابِ والسُّنَّةِ إلاَّ المجتهدُ،
والاجتهادُ قد انْقَطَعَ، ويقولُ: هذا الذي قَلَّدْتُهُ أَعْلَمُ مِنْكَ
بالحديثِ وبِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، ونحوَ ذلكَ من الأقوالِ التي
غَايَتُهَا تَرْكُ مُتَابَعَةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوَى، والاعتمادُ على قولِ مَنْ يَجُوزُ عليهِ
الخطأُ، وَغَيْرُهُ من الأَئِمَّةِ يُخَالِفُهُ وَيَمْنَعُ قولَهُ بدليلٍ،
فَمَا مِنْ إِمَامٍ إلاَّ والذي معهُ بَعْضُ العلمِ لا كُلُّهُ. فَيَجِبُ على مَنْ
نَصَحَ نَفْسَهُ إذا قَرَأَ كُتُبَ العلماءِ وَنَظَرَ فيها وَعَرَفَ
أَقْوَالَهُم فليَعْرِضْهَا على ما في الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ كلَّ
مُجْتَهِدٍ من العلماءِ ومَنْ تَبِعَهُ وانْتَسَبَ إلى مَذْهَبِهِ لا بُدَّ
أنْ يَذْكُرَ دَلِيلَهُ، والحقُّ في المسألةِ واحدٌ، والأَئِمَّةُ
مُثَابُونَ على اجْتِهَادِهِم، فالمُنصِفُ يَجْعَلُ النظرَ في كلامِهِم
وتَأَمُّلَهُ طَرِيقًا إلى معرفةِ المسائلِ واستحضارِهَا ذِهْنًا
وَتَمْيِيزًا للصوابِ من الخطأِ بالأدلَّةِ التي يَذْكُرُهَا
المُسْتَدِلُّونَ، وَيَتَعَرَّفُ بذلكَ منْ هوَ أَسْعَدُ بالدليلِ من
العلماءِ فَيَتَّبِعُهُ. والأدلَّةُ على هذا الأصلِ في كتابِ اللهِ أَكْثَرُ منْ أنْ تُحْصَرَ، وفي السُّنَّةِ كذلكَ، كما أَخْرَجَ أبو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عنْ أُنَاسٍ منْ أصحابِ مُعَاذٍأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلى اليَمَنِ قَالَ: ((كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)). قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو. ((الحَمْدُ للهِ الَّذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ)). وَسَاقَ بِسَنَدِهِ عن الحارثِ بنِ عُمَرَ، عنْ أُنَاسٍ منْ أصحابِ مُعَاذٍ عن معاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ - بِمَعْنَاهُ). قِيلَ: (إذا كانَ قولُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَالِفُهُ؟) قالَ: ( اتْرُكُوا قَوْلِي لِخَبَرِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وقِيلَ: (إذا كانَ قولُ الصحابةِ يُخَالِفُهُ؟) قالَ: (اتْرُكُوا قَوْلِي لقولِ الصحابةِ).
وقالَ مالكٌ: (كلُّ
أَحَدٍ يُؤْخَذُ منْ قولِهِ وَيُتْرَكُ إلاَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ لهُ مثلُ ذلكَ، فلا عُذْرَ لِمُقَلِّدٍ
بعدَ هذا). ولو اسْتَقْصَيْنَا كلامَ العلماءِ في هذا لَخَرَجَ عَمَّا قَصَدْنَاهُ من الاختصارِ، وفيما ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لطالبِ الهُدَى. (4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هذِهِ الآيةَ: {اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ
إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]. هذا الحديثُ قدْ رُوِيَ منْ طُرُقٍ؛ فَرَوَاهُ
ابنُ سَعْدٍ، وعبدُ بنُ حُمَيْدٍ، وابنُ المنذرِ، وابنُ جريرٍ، وابنُ أبي
حاتمٍ والطبرانيُّ، وأبو الشيخِ، وابنُ مَرْدُويَه، والبَيْهَقِيُّ. قولُهُ: (عَنْ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ) أي: الطائيِّ المشهورِ، وحاتمٌ هوَ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ سعدِ بنِ الحَشْرَجِ، بفتحِ الحَاءِ المُهْمَلَةِ، المشهورُ بالسَّخَاءِ والكرمِ، قَدِمَ عَدِيٌّ
على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شَعْبَانَ سنةَ
تِسْعٍ من الهجرةِ فَأَسْلَمَ وَعَاشَ مائةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ طاعةَ الأَحْبَارِ والرُّهْبَانِ في معصيةِ اللهِ عبادةٌ لهم منْ دونِ اللهِ، ومِن الشِّرْكِ الأكبرِ الذي لا يَغْفِرُهُ اللهُ؛ لقولِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هذا في أصلِ المُصَنِّفِ لَمَّا ذَكَرَ حديثَ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: (يُوشِكُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ، أيْ: يَقْرُبُ وَيُسْرِعُ.
وهذا القولُ من ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما جوابٌ لِمَنْ قالَ لهُ: (إنَّ أَبَا بَكْرٍ وعمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما لا يَرَيَانِ التَّمَتُّعَ بالعمرةِ إلى الحَجِّ، وَيَرَيَانِ أنَّ إفرادَ الحجِّ أَفْضَلُ).
أوْ ما هوَ مَعْنَى هذا، وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَرَى أنَّ التَّمَتُّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحجِّ وَاجِبٌ، ويقولُ: (إذا طافَ بالبيتِ وَسَعَى بينَ الصفا والمَرْوَةِ سبعةَ أشواطٍ فقدْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ شَاءَ أمْ أَبَى) لحديثِ سُراقَةَ بنِ مَالِكٍ حينَ
أَمَرَهُم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَجْعَلُوهَا
عُمْرَةً، ويَحِلُّوا إذا طَافُوا بالبيتِ وَسَعَوْا بينَ الصفا والمروةِ.
فقالَ سُرَاقَةُ: (يَا رسولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلأَبَدِ؟)
فَقَالَ: ((للأَبَدِ)).
وللبخاريِّ وَمُسْلِمٍ وغيرِهِمَا: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لأََحْلَلْتُ)).
هذا لفظُ البخاريِّ في حديثِ عائشةَ، وَلَفْظُهُ في حديثِ جابرٍ: ((افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فلَوْلاَ أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ)) في عِدَّةِ أحاديثَ تُؤَيِّدُ قولَ ابنِ عَبَّاسٍ.
وقالَ الإمامُ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ
أَحَدٍ).
وقالَ الإمامُ مالكٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مَا مِنَّا إِلاَّ رَادٌّ ومردودٌ عليهِ، إلاَّ صاحبَ هذا القبرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكلامُ الأَئِمَّةِ في هذا المعنَى كَثِيرٌ.
وما زالَ العلماءُ رَحِمَهُم اللهُ يَجْتَهِدُونَ في الوقائعِ: فَمَنْ أَصَابَ منهم فَلَهُ أَجْرَانِ، ومَنْ أَخْطَأَ فلهُ أجرٌ، كما في الحديثِ، لكن إذا اسْتَبَانَ لهم الدليلُ أَخَذُوا بهِ وَتَرَكُوا اجْتِهَادَهُم.
وَأَمَّا إِذَا لم يَبْلُغْهُم الحديثُ، أوْ لم يَثْبُتْ عن النبيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَهُم فيهِ حديثٌ، أوْ ثَبَتَ ولهُ مُعَارِضٌ
أوْ مُخَصِّصٌ ونحوَ ذلكَ، فَحِينَئِذٍ يَسُوغُ للإمامِ أنْ يَجْتَهِدَ،
وفي عهْدِ الأَئِمَّةِ الأربعةِ إِنَّمَا طَلَبُ الأحاديثِ مِمَّنْ هِيَ
عندَهُ باللُّقَى والسَّمَاعِ، وَيُسَافِرُ الرجلُ في طلبِ الحديثِ إلى
الأمصارِ عِدَّةَ سِنِينَ.
ثمَّ اعْتَنَى الأَئِمَّةُ بالتصانِيفِ وَدَوَّنُوا الأحاديثَ وَرَوَوْهَا
بأسانيدِها، وَبَيَّنُوا صَحِيحَهَا منْ حَسَنِهَا منْ ضَعِيفِهَا،
والفقهاءُ صَنَّفُوا في كلِّ مذهبٍ، وَذَكَرُوا حُجَجَ المُجْتَهِدِينَ،
فسَهُلَ الأمرُ على طالبِ العلمِ، وكلُّ إمامٍ يَذْكُرُ الحكمَ بدليلِهِ
عِنْدَهُ، وفي كلامِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُما ما يَدُلُّ على أنَّ مَنْ بَلَغَهُ الدليلُ فلم يَأْخُذْ
بهِ -تَقْلِيدًا لإَِّمَامِهِ- فإنَّهُ يَجِبُ الإنكارُ عليهِ
بالتَّغْلِيظِ؛ لِمُخَالفَتِهِ الدليلَ.
وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ عمرَ البَزَّارُ، حدَّثَنَا زِيَادُ بنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا أبو عُبَيْدَةَ الحدَّادُ عنْ مالِكِ بنِ دِينَارٍ، عنْ عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (لَيْسَ مِنا أحدٌ إلاَّ يُؤْخَذُ منْ قولِهِ وَيُدَعُ غيرَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
وعلى هذا: فَيَجِبُ الإنكارُ على مَنْ تَرَكَ الدليلَ لقولِ أحدٍ من
العلماءِ كَائِنًا مَنْ كانَ، ونصوصُ الأَئِمَّةِ على هذا، وأنَّهُ لا
يَسُوغُ التقليدُ إلاَّ في مسائلِ الاجتهادِ التي لا دَلِيلَ فيها يُرْجَعُ
إليهِ منْ كتابٍ ولا سُنَّةٍ، فهذا هوَ الذي عَنَاهُ بعضُ العلماءِ
بقولِهِ: لا إنكارَ في مسائلِ الاجتهادِ.
وأمَّا مَا خالَفَ الكتابَ والسُّنَّةَ: فَيَجِبُ الرَّدُّ عليهِ، كما قالَ ابنُ عَبَّاسٍ والشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ، وذلكَ مُجْمَعٌ عليهِ، كما تَقَدَّمَ في كلامِ الإمامِ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
أَتَدْرِي ما الْفِتْنَةُ؟
الفِتْنةُ الشِّرْكُ لَعَلَّهُ إِذا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلِكَ).
هذا الكلامُ من الإمامِ أحمدَ رَحِمَهُ اللهُ رَوَاهُ عنهُ الفضلُ بنُ زِيَادٍ وأبو طالبٍ قالَ الفضلُ عنْ أحمدَ: (نَظَرْتُ
في المُصْحَفِ فَوَجَدْتُ طاعةَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في ثلاثةٍ وثلاثِينَ مَوْضِعًا، ثمَّ جَعَلَ يَتْلُو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآيةَ) فَذَكَرَ مِنْ قولِهِ: (الفتنةُ الشِّرْكُ) إلى قولِهِ: (فَيَهْلِكَ)، ثمَّ جَعَلَ يَتْلُو هذهِ الآيةَ:{فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65].
وقالَ أبو طالبٍ: عنْ أحمدَ، وقِيلَ لهُ: (إِنَّ قَوْمًا يَدَعُونَ الحديثَ ويَذْهَبُونَ إلى رأيِسُفْيَانَ وَغَيْرِهِ؛ فقالَ: أَعْجَبُ لقومٍ سَمِعُوا الحديثَ وَعَرَفُوا الإسنادَ وَصِحَّتَهُ يَدَعُونَهُ، وَيَذْهَبُونَ إلى رأيِ سفيانَ وَغَيْرِهِ، قالَ اللهُ تَعَالَى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}أَتَدْرِي مَا الفِتْنَةُ؟
قولُهُ: (عَرَفُوا الإِسْنَادَ) أيْ: إسنادَ الحديثِ وصِحَّتَهُ، فإذا صَحَّ إسنادُ الحديثِ فهوَ صحيحٌ عندَ أهلِ الحديثِ وغيرِهِم من العلماءِ.
وسفيانُ: هوَ الثوريُّ
الإمامُ الزاهدُ، العابِدُ الثِّقَةُ الفقيهُ، وكانَ لهُ أصحابٌ
يَأْخُذُونَ عنهُ، وَمَذْهَبُهُ مشهورٌ يَذْكُرُهُ العلماءُ في الكُتُبِ
التي يُذْكَرُ فيها مَذَاهِبُ الأَئِمَّةِ، (كالتَّمْهِيدِ) لابنِ عبدِ البرِّ، و(الاسْتِذْكَارِ) لهُ، وكتابِ (الإشرافِ على مذاهبِ الأشرافِ) لابنِ المُنْذِرِ، و(المُحَلَّى) لابنِ حَزْمٍ، و(المُغْنِي) لأبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ قُدَامَةَ الحَنْبَلِيِّ، وغيرِ هؤلاءِ.
فقولُ الإمامِ أحمدَ رَحِمَهُ اللهُ: (عَجِبْتُ لقومٍ عَرَفُوا الإسنادَ وصحتَّهُ... إلى آخِرِهِ) إنكارٌ منهُ لذلكَ، وأنَّهُ يَؤُولُ إلى زَيْغِ القلوبِ الذي يكونُ بهِ المَرْءُ كَافِرًا.
فالواجبُ على كلِّ مُكَلَّفٍ، إذا بَلَغَهُ الدليلُ منْ كتابِ اللهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَفَهِمَ مَعْنَى ذلكَ: أنْ يَنْتَهِيَ إليهِ
وَيَعْمَلَ بهِ، وإنْ خَالَفَهُ مَنْ خَالَفَهُ، كما قالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3].
- وقالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ
يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51].
وقدْ تَقَدَّمَ حكايةُ الإجماعِ على ذلكَ؛ وبيانُ أنَّ المُقَلِّدَ ليسَ منْ أهلِ العلمِ، وقدْ حَكَى أيضًا أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ وَغَيْرُهُ الإجماعَ على ذلكَ.
قلتُ: ولا يُخَالِفُ في ذلكَ إلاَّ جُهَّالُ المُقَلِّدَةِ؛ لِجَهْلِهِم
بالكتابِ والسُّنَّةِ، وَرَغْبَتِهِم عَنْهُمَا، وهؤلاءِ وإنْ ظَنُّوا
أنَّهُم اتَّبَعُوا الأَئِمَّةَ فَإِنَّهُم في الحقيقةِ قدْ خَالَفُوهُم،
وَاتَّبَعُوا غيرَ سَبِيلِهِم، كما قَدَّمْنَا منْ قولِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، لكن
في كلامِ أحمدَ رَحِمَهُ اللهُ إشارةٌ إلى أنَّ التقليدَ قبلَ بُلُوغِ
الحُجَّةِ لا يُذَمُّ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ على مَنْ بَلَغَتْهُ الحُجَّةُ
وَخَالَفَهَا لقولِ إمامٍ مِن الأَئِمَّةِ، وذلكَ إنَّمَا نَشَأَ عن
الإعراضِ عنْ تَدَبُّرِ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ والإقبالِ على كُتُبِ
مَنْ تَأَخَّرَ والاستغناءِ بها عن الوَحْيَيْنِ، وهذا يُشْبِهُ ما وَقَعَ
منْ أهلِ الكتابِ الذينَ قالَ اللهُ فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ}[التوبة:31] كَمَا سَيَأْتِي بيانُ ذلكَ في حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ.
قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدْ في كِتَابِ اللهِ؟)).
قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ:((فَإِنْ لَمْ تَجِدْ في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ فِي كِتَابِ اللهِ؟)).
قَالَ: فَضَرَبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ.
وَقَالَ:
والأَئِمَّةُ رَحِمَهُم اللهُ لم يُقَصِّرُوا في البيانِ، بلْ نَهَوْا عنْ
تَقْلِيدِهِم إذا اسْتَبَانَت السُّنَّةُ؛ لِعِلْمِهِم أنَّ مِن العلمِ
شَيْئًا لم يَعْلَمُوهُ، وقَدْ يَبْلُغُ غَيْرَهُم، وذلكَ كثيرٌ، كَمَا لا
يَخْفَى على مَنْ نَظَرَ في أقوالِ العلماءِ.
قالَ أبو حَنِيفَةَ:(إذا
جاءَ الحديثُ عنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى
الرأسِ والعَيْنِ، وإذا جاءَ عن الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم فَعَلَى
الرأسِ والعَيْنِ، وإذا جاءَ عن التابعِينَ فَنَحْنُ رجالٌ وهم رجالٌ).
وقالَ: (إذا قُلْتُ قَوْلاً وَكِتَابُ اللهِ يُخَالِفُهُ فَاتْرُكُوا قَوْلِي لكتابِ اللهِ).
قولُهُ: ((لَعَلَّهُ إِذا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ)) أيْ: قولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،((أَنْ يَقَعَ في قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلِكَ))
نَبَّهَ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ رَدَّ قولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِزَيْغِ القلبِ، وذلكَ هوَ الهلاكُ في الدنيا والآخرةِ،
كما قالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[الصَّفّ:5].
قالَ شيخُ الإسلامِ في معنَى قولِ اللهِ تَعَالَى:( {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}
فإذا كانَ المُخَالِفُ عن أمرِهِ قدْ حُذِّرَ من الكُفْرِ والشِّرْكِ، أوْ
مِن العذابِ الأليمِ، دَلَّ على أنَّهُ قدْ يَكُونُ مُفْضِيًا إلى الكفرِ
والعذابِ الأليمِ، ومعلومٌ أنَّ إفضاءَهُ إلى العذابِ الأليمِ هوَ
مُجَرَّدُ فِعْلِ المعصيةِ، فَإِفْضَاؤُهُ إلى الكُفْرِ إِنَّمَا هوَ لِمَا
يَقْتَرِنُ بهِ من الاستخفافِ في حقِّ الآمِرِ؛ كما فَعَلَ إِبْلِيسُ
لَعَنَهُ اللهُ تَعَالَى) انتهى.
وقالَ أبو جَعْفَرِ بنُ جَرِيرٍ، عن الضَّحَّاكِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قالَ: (يُطْبَعُ على قَلْبِهِ فلا يُؤْمَنُ أنْ يَظْهَرَ الكفرُ بِلِسَانِهِ فَتُضْرَبَ عُنُقُهُ).
قالَ أبو جعفرِ بنُ جَرِيرٍ: (أُدْخِلَتْ {عنْ} لأنَّ مَعْنَى الكلامِ: فَلْيَحْذَرِ الذينَ يَلُوذُونَ عنْ أمرِهِ، وَيُدْبِرُونَ عنهُ مُعْرِضِينَ).
قولُهُ: {أَوْ يُصِيبَهُم} في عاجلِ الدنيا عَذَابٌ من اللهِ مُوجِعٌ على خلافِ أمرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْتُ: (إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ).
قالَ: ((ألَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ؟)).
فَقُلْتُ: (بَلَى)
قالَ: ((فَتِلْكَ عِبادَتُهُمْ)) رَوَاهُ أحمدُ، والترمذيُّ وَحَسَّنَهُ).
ويُظْهِرُ ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121].
وهذا قدْ وَقَعَ فيهِ كثيرٌ من الناسِ معَ مَنْ قَلَّدُوهُم لعدمِ
اعتبارِهِم الدليلَ إذا خَالَفَ المُقَلَّدَ، وهوَ منْ هذا الشِّرْكِ.
ومِنْهُم مَنْ يَغْلُو في ذلكَ وَيَعْتَقِدُ أنَّ الأخذَ بالدليلِ
-والحالةُ هذهِ- يُكْرَهُ، أوْ يَحْرُمُ؛ فَعَظُمَت الفِتْنَة، ويقولُ: هم
أَعْلَمُ مِنَّا بالأدلَّةِ، ولا يَأْخُذُ بالدليلِ إلاَّ المجتهدُ،
وَرُبَّمَا تَفَوَّهُوا بِذَمِّ مَنْ يَعْمَلُ بالدليلِ، ولا رَيْبَ أنَّ
هذا منْ غُربةِ الإسلامِ كما قالَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في المسائلِ: (فَتَغَيَّرَت
الأحوالُ، وَآلَتْ إلى هذهِ الغايةِ، فصارتْ عندَ الأكثرِ عبادةُ الرهبانِ
هيَ أَفْضَلَ الأعمالِ، وَيُسَمُّونَهَا وِلايةً، وعبادةُ الأحبارِ هيَ
العلمَ والفقهَ، ثمَّ تَغَيَّرَت الحالُ إلى أنْ عُبِدَ مَنْ ليسَ من
الصالحِينَ، وعُبِدَ بالمعنَى الثاني مَنْ هوَ من الجاهلِينَ).
وأمَّا طاعةُ الأمراءِ وَمُتَابَعَتُهُم فيما يُخَالِفُ ما شَرَعَهُ اللهُ
ورسولُهُ: فقدْ عَمَّتْ بِهِ البَلْوَى قديمًا وحديثًا في أكثرِ الولاةِ
بعدَ الخلفاءِ الراشدينَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، وقدْ قالَ تَعَالَى: {فَإِن
لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ
اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص:50].
وعنْ زِيَادِ بنِ حُدَيْرٍ قالَ: قالَ لي عُمَرُ: (هلْ تَعْرِفُ ما يَهْدِمُ الإسلامَ؟)
قُلْتُ: (لاَ)
قالَ: (يَهْدِمُهُ زَلَّةُ العالِمِ، وجِدَالُ المُنَافِقِ بالكتابِ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ) رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
قولُهُ: (مَنْ أَطَاعَ الْعُلَمَاءَ) (مَنْ) يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ شرطيَّةً؛ بدليلِ قولِهِ: (فَقَد اتَّخَذَهُم) لأنَّها جوابُ الشرطِ، ويُحتَمَلُ أنْ تكونَ موصولةً، أيْ: بابُ الذي أطاعَ العلماءَ. أمَّا في العباداتِ فَيُشَدَّدُ؛ لأنَّ الأصلَ المنعُ والتحريمُ حتَّى يُبَيِّنَهُ الشرعُ، كما قيلَ: والأصلُ في الأشياءِ حِلٌّ وامنعِ عــبــادةً إلــَّا بــــإِذْنِ الـــشارعِ قولُهُ: (أَرْبَابًا) جمعُ ربٍّ، وهوَ: المُتَصَرِّفُ المالكُ. والتصرُّفُ نوعانِ: - تَصَرُّفٌ قَدَرِيٌّ. (2) قولُ ابنِ عبَّاسٍ: (حِجارةٌ مِن السَّماءِ) أيْ:
مِنْ فَوْقٍ، تَنْزِلُ عليكُمْ عقوبةً لكُمْ؛ ونُزُولُ الحجارةِ مِن
السماءِ ليسَ بالأمرِ المستحيلِ، بلْ هوَ مُمْكِنٌ، قالَ تعالى في أصحابِ
الفيلِ: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} وقالَ تعالى في قومِ لوطٍ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}وَالْحَاصِبُ: الحجارةُ تَحْصِبُهُمْ من السماءِ. وفي الأثَرِ: التحذيرُ من التقليدِ الأعمى والتَّعَصُّبِ المذهبيِّ. إذا
قيلَ لهُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَ: لكنْ في
الكتابِ الفلانيِّ كذا وكذا، فعليهِ أنْ يتَّقِيَ اللَّهَ الذي قالَ في
كتابِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ولمْ يقُلْ: ماذا أجبْتُمْ فلانًا وفلانًا ؟ (3) قولُ أحمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (عَجِبْتُ):العَجَبُ نَوْعَانِ: الأوَّلُ: عَجَبُ استحسانٍ، كما في حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها: (كَانَ الرسولُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُعْجِبُهُ التيامُنُ في تَنَعُّلِهِ وترَجُّلِهِ وطُهُورِهِ وفي شأْنِهِ كُلِّهِ). الثاني: عجبُ إنكارٍ، كما في قولِهِ تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}، والعَجَبُ في كلامِ الإمامِ أحمدَ هنا عجبُ إنكارٍ. فإنْ قيلَ: لماذا عُدِّيَ الفعلُ بِـ{عنْ} معَ أنَّ (يُخَالِفُ) يتعدَّى بنفسِهِ ؟ (4) قولُهُ في حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ: {اتَّخَذُوا}،
الضميرُ يعودُ للنصارى؛ لأنَّ اليهودَ لم يتَّخِذُوا المسيحَ ابنَ مريمَ
إِلَهًا، بل ادَّعَوْا أنَّهُ ابنُ زانيةٍ وحاوَلُوا قتْلَهُ، وادَّعَوْا
أنَّهم قتَلُوهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يعودَ الضميرُ لليهودِ والنصارى جميعًا،
ويَخْتَصُّ النصارى باتِّخَاذِ المسيحِ ابنِ مريمَ، وهذا هوَ المُتَبَادِرُ
من السياقِ معَ الآيةِ التي قبلَهَا. قولُهُ: {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}
أيْ: مُشَارِكِينَ للَّهِ عزَّ وجلَّ في التشريعِ؛ لأنَّهم يُحِلُّونَ ما
حرَّمَ اللَّهُ فيحلُّهُ هؤلاءِ الأتباعُ، ويُحَرِّمُونَ ما أحلَّ اللَّهُ
فيُحَرِّمُهُ الأتباعُ. والتسبيحُ: التنزيهُ،
أيْ: تنزيهُ اللَّهِ عنْ كلِّ نقصٍ، ولا يَحْتَاجُ أنْ نقولَ:
ومُمَاثَلَةِ المخلوقينَ؛ لأنَّ المُمَاثلةَ نَقْصٌ، ولكنْ إذا قُلْنَاهَا
فذلكَ منْ بابِ زيادةِ الإيضاحِ، حتَّى لا يُظَنَّ أنَّ تمثيلَ الخالقِ
بالمخلوقِ في الكمالِ منْ بابِ الكمالِ، فيكونُ المعنى تنزيهَ اللَّهِ عنْ
كلِّ ما لا يليقُ بهِ مِنْ نقصٍ أوْ مماثلةِ المخلوقينَ.
الثاني: أنْ يُتَابِعَهُمْ في ذلكَ راضيًا بحُكْمِ اللَّهِ وعالِمًا
بأنَّهُ أمثلُ وأصلحُ للعبادِ والبلادِ، ولكنْ لِهَوًى في نفسِهِ
اختارَهُ، كأنْ يُرِيدَ مثلاً وظيفةً، فهذا لا يَكْفُرُ، ولكنَّهُ فَاسِقٌ،
ولهُ حُكْمُ غيْرِهِ من العُصَاةِ. أحدهما: أنْ يُمْكِنَهُ أنْ يعْرِفَ الحقَّ بنفسِهِ، فهوَ مُفَرِّطٌ أوْ مُقَصِّرٌ، فهوَ آثمٌ؛ لأنَّ اللَّهَ أمرَ بسؤالِ أهلِ العلمِ عندَ عدمِ العلمِ. الثاني: أُجِيبُ: إنَّنا
لوْ قُلْنَا بكُفْرِهِمْ، لَزِمَ مِنْ ذلكَ تكفيرُ كلِّ صاحبِ معصيةٍ
يَعْرِفُ أنَّهُ عاصٍ للَّهِ، ويَعْلَمُ أنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ. فائدةٌ: وصفَ اللَّهُ الحاكمينَ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ بثلاثةِ أوصافٍ: الأول: في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. واختلفَ أهلُ العلمِ في ذلكَ: فقيلَ: إنَّ هذهِ الأوصافَ لموصوفٍ واحدٍ؛ لأنَّ الكافرَ ظالمٌ؛ لقولِهِ تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وفاسقٌ؛ لقوْلِهِ تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}، أيْ: كَفَرُوا. فيكونُ كافرًا في ثلاثةِ أحوالٍ: الأول: إذا اعتقدَ جوازَ الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}
فكلُّ ما خالفَ حُكْمَ اللَّهِ فهوَ مِنْ حُكْمِ الجاهليَّةِ؛ بدليلِ
الإجماعِ القَطْعِيِّ على أنَّهُ لا يجوزُ الحُكْمُ بغيرِ ما أنزلَ
اللَّهُ، فالمُحِلُّ والمُبِيحُ للحُكْمِ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ مُخَالِفٌ
لإجماعِ المسلمينَ القطعيِّ، وهذا كافرٌ مُرْتَدٌّ، وذلكَ كمَن اعتقدَ
حِلَّ الزِّنا أو الخمرِ، أوْ تحريمَ الخُبْزِ أو اللبنِ. الثالث: إذا اعتقدَ أنَّ حُكْمَ غيرِ اللَّهِ أحْسَنُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، بدليلِ قولِهِ تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فتضمَّنَت الآيةُ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ أحسنُ الأحكامِ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى مُقَرِّرًا ذلكَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}
فإذا كانَ اللَّهُ أحسنَ الحاكمينَ أحكامًا، وهوَ أحكمُ الحاكمينَ، فمن
ادَّعَى أنَّ حُكْمَ غيرِ اللَّهِ مثلُ حُكْمِ اللَّهِ أوْ أحسنُ فهوَ
كافرٌ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ للقرآنِ. ويكونُ ظالمًا: إذا اعتقدَ أنَّ الحُكْمَ بِمَا أنزلَ اللَّهُ أحسنُ الأحكامِ،
وأنَّهُ أنفعُ للعبادِ والبلادِ، وأنَّهُ الواجبُ تطبيقُهُ، ولكنْ
حَمَلَهُ البُغْضُ والحقدُ للمحكومِ عليهِ حتَّى حكمَ بغيرِ ما أنزلَ
اللَّهُ، فهوَ ظالمٌ. ويكونُ فاسقًا: إذا كانَ حُكْمُهُ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ لِهَوًى في نفْسِهِ
معَ اعتقادِهِ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ هوَ الحقُّ، لكنْ حَكَمَ بغيْرِهِ
لهوًى في نفسِهِ، أيْ: مَحَبَّةٍ لِمَا حَكَمَ بهِ، لا كراهةٍ لحُكْمِ
اللَّهِ، ولا لِيَضُرَّ أحدًا بهِ، مثلَ: (أنْ يحْكُمَ لشخصٍ لِرِشْوَةٍ
رُشِيَ إيَّاها، أوْ لكونِهِ قَرِيبًا، أوْ صديقًا، أوْ يَطْلُبُ مِنْ
ورائِهِ حاجةً، وما أشبَهَ ذلكَ) معَ اعتقادِهِ بأنَّ حُكْمَ اللَّهِ هوَ
الأمثلُ والواجبُ اتِّبَاعُهُ، فهذا فاسقٌ وإنْ كانَ أيضًا ظالمًا، لكنَّ
وَصْفَ الفسقِ في حقِّهِ أوْلَى مِنْ وَصْفِ الظُّلْمِ. أمَّا بالنسبةِ لمَنْ وضعَ قوانينَ تشريعِيَّةً معَ عِلْمِهِ بحُكْمِ اللَّهِ،
وبمُخَالَفَةِ هذهِ القوانينِ لحُكْمِ اللَّهِ، فهذا قدْ بدَّلَ الشريعةَ
بهذهِ القوانينِ فهوَ كافرٌ؛ لأنَّهُ لم يَرْغَبْ بهذا القانونِ عنْ شريعةِ
اللَّهِ إلا وهُوَ يعتقدُ أنَّهُ خيرٌ للعبادِ والبلادِ مِنْ شريعةِ
اللَّهِ، وعنْدَما نقولُ بأنَّهُ كافرٌ فَنَعْنِي بذلكَ: أنَّ هذا الفعلَ يُوصِلُ إلى الكُفْرِ،
ولكنْ قدْ يكونُ الواضعُ لهُ معذورًا، مثلَ: أنْ يُغَرَّرَ بهِ، كأنْ
يُقَالَ: إنَّ هذا لا يُخَالِفُ الإسلامَ، أوْ هذا مِن المَصَالِحِ
المُرْسَلَةِ، أوْ هذا ممَّا رَدَّهُ الإسلامُ إلى الناسِ. فيُوجَدُ بعضُ العلماءِ، وإنْ كانوا مُخْطِئِينَ،
يقولونَ: (إنَّ مسألةَ المُعَامَلاتِ لا تَعَلُّقَ لها بالشرعِ، بلْ
تَرْجِعُ إلى ما يُصْلِحُ الاقتصادَ في كلِّ زمانٍ بِحَسَبِهِ، فإذا اقتضى
الحالُ أنْ نَضَعَ بُنُوكًا للرِّبَا، أوْ ضرائبَ على الناسِ، فهذا لا شيءَ
فيِهِ، وهذا لا شكَّ في خَطَئِهِ، فإنْ كانوا مُجْتَهِدِينَ غَفَرَ
اللَّهُ لهمْ، وإلا فَهُمْ على خَطَرٍ عظيمٍ، واللائقُ بهؤلاءِ أنْ
يُلَقَّبُوا بأنَّهُمْ مِنْ علماءِ الدولةِ لا عُلماءِ المِلَّةِ). - وقالَ تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}. - وقالَ تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}. - وقالَ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فكلُّ شيءٍ يحتاجُهُ الإنسانُ في دينِهِ أوْ دُنْيَاهُ، فإنَّ القرآنَ بيَّنَهُ بيانًا شافيًا. والمصالحُ المرسلةُ تَوسَّعَ فيها كثيرٌ مِن الناسِ؛
فأدخلَ فيها بعضَ المسائلِ المنكَرةِ من البدعِ وغيرِها، كعيدِ ميلادِ
الرسولِ، فزَعَمُوا أنَّ فيهِ شَحْذًا لِلَّهِمَمِ، وتنشيطًا للناسِ؛
لأنَّهم نَسُوا ذِكْرَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ، وهذا
باطلٌ؛ لأنَّ جميعَ المسلمينَ في كلِّ صلاةٍ يَشْهَدُونَ أنَّ مُحَمَّدًا
عبدُهُ ورسولُهُ، ويُصَلُّونَ عليهِ، والذي لا يحْيَا قلبُهُ بهذا وَهُوَ
يُصَلِّي بينَ يديْ ربِّهِ، كيفَ يَحْيَا قلْبُهُ بساعةٍ يُؤْتَى فيها
بالقصائدِ الباطلةِ التي فيها مِن الغُلُوِّ ما يُنْكِرُهُ رسولُ اللَّهِ
صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فهذهِ مَفْسَدَةٌ وليستْ بمصلحةٍ. فالمصالحُ المرسلَةُ،
وإنْ وضعَهَا بعضُ أهلِ العلمِ المجتهدينَ الكبارِ، فلا شكَّ أنَّ
مُرَادَهُم نصرُ اللَّهِ ورسولِهِ، ولكن استُخْدِمَتْ هذهِ المصالحُ في
غيرِ ما أرادَهُ أولئكَ العلماءُ وتُوُسِّعَ فيها. وعليهِ فإنَّها تُقاسُ
بالمعيارِ الصحيحِ، فإن اعتبرَهَا الشرعُ قُبِلَتْ، وإلا فكمَا قالَ
الإمامُ مالكٌ: (كلُّ أحدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ ويُرَدُّ إلا صاحبَ هذا القبرِ) وهناكَ قواعدُ كُلِّيَّاتٌ تُطَبَّقُ عليها الجُزْئِيَّاتُ. أحدهما: ثبوتُ أنَّ هذهِ الخَصْلَةَ التي قامَ بها ممَّا يقتضي الكُفْرَ.
ولهذا ذكرَ العلماءُ أنَّ مِنْ شروطِ إقامةِ الحدِّ أنْ يكونَ عالمًا
بالتحريمِ، هذا في إقامةُ حدٍّ وليسَ بتكفيرٍ، والتحرُّزُ من التكفيرِ
أَوْلَى وأَحْرَى، قالَ تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} - وقالَ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. ولا بُدَّ معَ تَوَفُّرِ الشروطِ مِنْ عدمِ الموانعِ، فلوْ قامَ الشخصُ بما
يقتضي الكفرَ إكراهًا أوْ ذُهولاً لمْ يُكَفَّرْ؛ لقولِهِ تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ (5) قولُهُ: فيهِ مَسائِلُ: الأولى: (تفسيرُ آيةِ النُّورِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وسبقَ تفسِيرُهَا. (6) الثانيةُ: (تفسيرُ آيةِ بَرَاءةٌ) وهيَ قولُهُ تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيةَ، وقدْ سبقَ ذلكَ. (7) الثالثةُ: (التَّنبيهُ علَى مَعْنى العبادةِ التي أَنْكَرَها عَدِيٌّ)
لأنَّ العبادةَ هيَ التعَبُّدُ لهُمْ بالطاعةِ، والتذَلُّلُ لهمْ
بالرُّكُوعِ والسجودِ والنَّذْرِ وما أشْبَهَهُ، لكنْ بَيَّنَ صلَّى
اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ المرادَ مِنْ عبادتِهِم هيَ طاعتُهم في تحليلِ
الحرامِ، وتحريمِ الحلالِ. (8) الرابعةُ: (تَمثيلُ ابنِ عبَّاسٍ بـأَبي بَكْرٍ وعُمَرَ، وَتَمثيلُ أحمدَ بسُفْيَانَ) أيْ: إذا كانَ أبو بكرٍ وعُمَرُ لا
يُمْكِنُ أن يُعَارَضَ قولُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ
بقولِهِمَا، فما بالُكَ بمَنْ عارَضَ قولَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ بقَوْلِ مَنْ دُونَهُمَا ؟ (9) الخامسةُ: (تَحَوُّلُ الأحوالِ إلى هَذهِ الغايةِ، حَتَّى صارَ عِنْدَ الأكثرِ عِبادَةُ الرُّهبانِ هِيَ أفضلَ الأعمالِ... إلخ) قولُ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (تَغَيَّرَت الأحوالُ إلى هذهِ الغايةِ حتَّى صارَ عندَ الأكثرِ عبادةُ الرهبانِ هيَ أفضلَ الأعمالِ...) هذا لا شكَّ أنَّهُ أشدُّ مِنْ مُعَارَضَةِ قولِ الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بقولِ أبي بكرٍ وعُمَرَ. ثمَّ قالَ: (ثُمَّ تَغيَّرت الأحوالُ إلى أنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ ليسَ مِن الصالحينَ). أيْ: يُرْكَعُ ويُسجَدُ لهُ، ويُعَظَّمُ تعظيمَ
الربِّ، ويُوصَفُ بما لا يستَحِقُّ، وهذا يُوجَدُ عندَ كثيرٍ مِن الشعراءِ
الذينَ يَمْدَحُونَ الملوكَ والوزراءَ وهمْ لا يستحقُّونَ أنْ يكونُوا
بمنزلة أبي بكرٍ وعمرَ.
ثم قالَ: (وَعُبِدَ بالمعنى الثاني) وهوَ الطاعةُ والاتِّبَاعُ، (مَنْ هوَ مِن الجاهلينَ)
فأُطيعَ الجاهلُ في تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ، وتحريمِ مَا أحلَّ اللَّهُ،
كما يُوجَدُ في بعضِ النُّظُمِ والقوانينِ المخالفةِ للشريعةِ
الإسلاميَّةِ، فإنَّ واضِعِيها جُهَّالٌ لا يعرفونَ مِن الشريعةِ ولا
الأديانِ شيئًا، فصارُوا يُعْبَدُونَ بهذا المعنى، فيُطاعونَ في تحليلِ ما
حرَّمَ اللَّهُ، وتحريمِ ما أحلَّ اللَّهُ. - وقالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ للصحابةِ: ((وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا)) وعَصْرُ الصحابةِ أقربُ إلى الهُدَى مِنْ عَصْرِ مَنْ بعدَهُمْ.
وقولُهُ: (فَقَد اتَّخَذَهُمْ) خبرُ المبتدأِ، وقُرِنَتْ بالفاءِ؛ لأنَّ الاسمَ الموصولَ كالشرطِ في العمومِ، وعلى الأوَّلِ تُقْرَأُ (بابٌ) بالتنوينِ، وعلى الثاني بدُونِ تنوينٍ، والأوَّلُ أحسنُ.
والمرادُ بالعلماءِ: العلماءُ بشرعِ اللَّهِ، وبالأُمَرَاءِ: أُولُو الأمرِ المُنَفِّذُونَ لهُ.
وهذانِ الصِّنْفَانِ هما المذكورانِ في قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فجعلَ اللَّهُ طاعتَهُ مستقلَّةً، وطاعةَ رسولِهِ مستقِلَّةً، وطاعةَ أُولِي الأمرِ تابعةً، ولهذا لمْ يُكرِّر الفعلَ {أَطِيعُوا} فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ.
وأُولُو الأمرِ همْ أُولُو الشأنِ، وهم العلماءُ؛ لأنَّهُ يُسْتَنَدُ
إليهمْ في أمرِ الشرعِ والعلمِ بهِ، والأُمَرَاءُ؛ لأنَّهُ يُسْتَنَدُ
إليهِمْ في تنفيذِ الشرعِ وإمضائِهِ، وإذا استقامَ العلماءُ والأمراءُ
استقامت الأمورُ، وبفسادِهِمْ تَفْسُدُ الأمورُ؛ لأنَّ العلماءَ أهلُ
الإرشادِ والدلالةِ، والأمراءُ أهلُ الإلزامِ والتنفيذِ.
قولُهُ: (في تحريمِ ما أحلَّ اللَّهُ) أيْ: في جعْلِهِ حرامًا، أيْ: عقيدةً أوْ عملاً، (أوْ تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ) أيْ: في جعْلِهِ حلالاً عقيدةً أوْ عملاً، فتحريمُ ما أحلَّ اللَّهُ لا يَنْقُصُ درجةً في الإِثْمِ عنْ تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ.
وكثيرٌ مِنْ ذَوِي الغَيْرَةِ من الناسِ تجدُهُمْ يميلونَ إلى تحريمِ ما
أحلَّ اللَّهُ، أكثرَ مِنْ تحليلِ الحرامِ، بعكسِ المُتَهَاوِنِينَ،
وكِلاهُمَا خَطَأٌ، ومعَ ذلكَ فإنَّ تحليلَ الحرامِ فيما الأصلُ فيهِ
الحِلُّ أهْوَنُ منْ تحريمِ الحلالِ؛ لأنَّ تحليلَ الحرامِ إذا لمْ
يتَبَيَّنْ تحريمُهُ فهوَ مَبْنِيٌّ على الأصلِ وهوَ الحلُّ، ورحمةُ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ سَبقَتْ غضبَهُ، فلا يُمْكِنُ أنْ نُحَرِّمَ إلا ما
تَبَيَّنَ تحريمُهُ؛ ولأنَّهُ أضيقُ وأشدُّ، والأصلُ أنْ تبقَى الأمورُ على
الحِلِّ والسَّعَةِ حتَّى يتبيَّنَ التَّحْرِيمُ.
- وتَصَرُّفٌ شرعيٌّ.
فمَنْ أطاعَ العلماءَ في مخالفةِ أمرِ اللَّهِ ورسولِهِ فقد اتَّخَذَهُمْ
أربابًا مِنْ دونِ اللَّهِ باعتبارِ التصرُّفِ الشرعيِّ؛ لأنَّهُ
اعتبرَهُمْ مشرِّعينَ، واعتبرَ تشريعَهم شرعًا يُعْمَلُ بِهِ، وبالعكسِ
الأمراءُ.
قولُهُ: (أقولُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وتقولونَ: قالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) أبو بكرٍ وعمرُ أفضلُ هذهِ الأُمَّةِ، وأقرَبُها إلى الصوابِ، قالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا)) رواهُ مسلمٌ، ورُوِيَ عنهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)).
وقالَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ:((عَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ
بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))ولم يُعْرَفْ عنْ أبي بكرٍ وعمرَ أنَّهما خَالَفَا نصًّا برأْيِهِمَا، فإذا كانَ قولُ أبي بكرٍ وعُمرَ
إذا عارضَ الإنسانُ بقولِهِمِا قولَ الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ
فإنَّهُ يُوشِكُ أنْ تَنْزِلَ عليهِ حجارةٌ من السماءِ، فما بالُكَ بمَنْ
يُعَارِضُ قولَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بمَنْ هوَ دونَ أبي بكرٍ وعمرَ، والفَرْقُ بينَ ذلكَ كما بينَ السماءِ والأرضِ، فيكونُ هذا أقربَ للعقوبةِ.
وبعضُ الناسِ يرتكبُ خطأً فاحشًا،
أمَّا صاحبُ الكتابِ فإنَّهُ إنْ عُلِمَ أنَّهُ يُحِبُّ الخيرَ، ويُرِيدُ
الحقَّ، فإنَّهُ يُدْعَى لهُ بالمغفرةِ والرحمةِ إذا أخطأَ، ولا يُقَالُ:
إنَّهُ معصومٌ، يُعَارَضُ بقولِهِ قولُ الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ.
قولُهُ: (الإسنادَ) المرادُ بهِ هنا رجالُ السندِ، لا نِسْبَةُ الحديثِ إلى رَاوِيهِ، أيْ: عَرَفوا صحَّةَ الحديثِ بمعرفةِ رجالِهِ.
قولُهُ: (يَذْهَبُونَ إِلى رَأْيِ سُفيانَ) أيْ: سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ؛
لأنَّهُ صاحبُ المذهبِ المشهورِ، ولهُ أتباعٌ لكنَّهم انقَرَضُوا، فهم
يذْهَبُونَ إلى رأيِ سفيانَ، هُوَ مِن الفقهاءِ، ويتركونَ ما جاءَ بهِ
الحديثُ.
قولُهُ: (واللَّهُ يقولُ: {فَلْيَحْذَرِ}) الفاءُ عاطفةٌ، واللامُ للأمرِ، ولهذا سُكِّنَتْ وجُزِمَ الفعلُ بها، لكنْ حُرِّكَ بالكسرِ لالتقاءِ الساكنيْنِ.
قولُهُ: {عَنْ أَمْرِهِ} الضميرُ يعودُ للرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ بدليلِ أوَّلِ الآيةِ، قالَ تعالى: {لاتَجْعَلُوا
دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}.
أُجِيبُ: إنَّ الفعلَ ضُمِّنَ معنى الإعراضِ، أيْ: يُعْرِضُونَ عنْ أمرِهِ زُهْدًا فيهِ وعدمَ مُبَالاةٍ بهِ، و{أَمْرِهِ} واحدُ الأوامرِ، وليسَ واحدَ الأُمُورِ؛ لأنَّ الأمرَ هوَ الذي يُخَالَفُ فيهِ، وهو مُفْرَدٌ مُضَافٌ، فَيَعُمُّ جميعَ الأوامرِ.
{فتنةٌ} الفتنةُ فسَّرَهَا الإمامُ أحمدُ بالشركِ، وعلى هذا يكونُ الوعيدُ بأحدِ أمرَيْنِ: إمَّا الشركُ، وإمَّا العذابُ الأليمُ.
قولُهُ: {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}الأحبارُ: جمعُ حِبْرٍ وحَبْرٍ؛ وهوَ العالمُ الواسعُ العِلْمِ، والرُّهْبَانُ: جمعُ راهبٍ، وهوَ العابدُ الزاهدُ.
قولُهُ: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي: اتَّخَذُوهُ إلهًا معَ اللَّهِ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا}، والعبادةُ: التذلُّلُ والخضوعُ واتِّبَاعُ الأوامرِ واجتنابُ النواهي.
قولُهُ: {إِلَـهًا وَاحِدًا}
هوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وإلهٌ، أيْ: (مَأْلُوهٌ) معبودٌ مُطَاعٌ، وليسَ
بمعنى (آلِهٍ) أيْ: قادرٍ على الاختراعِ، فإنَّ هذا معنًى فاسدٌ كما تقدم.
قولُهُ: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}{سُبْحَانَ}
اسمُ مصدرٍ، وهيَ معمولٌ أوْ مفعولٌ لفعلٍ محذوفٍ وجوبًا تقديرُهُ
يُسَبِّحُ سُبْحَانًا، أيْ: تسبيحًا؛ لأنَّ اسمَ المصدرِ بمعنى المصدرِ،
فسبحانَهُ مفعولٌ مطلقٌ عاملُها محذوفٌ وجوبًا، وهيَ مُلازِمةٌ للإضافةِ،
إمَّا إلى مُضْمَرٍ كما في الآيةِ {سُبْحَانَهُ} أوْ إلى مُظهَرٍ كما في (سُبْحَانَ اللَّهِ).
وقولُهُ: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أيْ: ممَّا سِوَاهُ من المسيحِ ابنِ مريمَ والأحبارِ والرهبانِ، فهوَ مُنَزَّهٌ عنْ كلِّ شِرْكٍ وعنْ كلِّ مُشْرَكٍ بِهِ.
وقولُهُ: {عَمَّا يُشْرِكُونَ}
هذا من البلاغةِ في القرآنِ؛ لأنَّها جَاءَتْ مُحْتَمِلَةً أنْ تكونَ (ما)
مصدَرِيَّةً، فيكونُ المعنى عنْ شِرْكِهِمْ، أوْ موصولةً ويكونُ المعنى
سُبْحَانَ اللَّهِ عن الذينَ يُشْرِكُونَ بهِ، وهيَ صالحةٌ للأمرَيْنِ
فتكونُ شاملةً لهمَا؛ لأنَّ الصحيحَ جوازُ استعمالِ المُشْتَرَكِ في
معنَيَيْهِ إذا لمْ يكُنْ بينَهُمَا تعارُضٌ، فيكونُ التنزيهُ عن الشركِ وعن المُشْرَكِ بهِ.
قولُهُ: (إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ) أيْ لا: نعبدُ الأحبارَ
والرهبانَ، ولا نسجدُ لهمْ ولا نَرْكَعُ ولا نذبحُ ولا نَنْذِرُ لهُمْ،
وهذا صحيحٌ بالنسبةِ للأحبارِ والرهبانِ؛ بدليلِ قولِهِ: ((أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ ؟)).
فإنَّ هذا الوصفَ لا ينْطَبِقُ على عيسى
أبدًا؛ لأنَّهُ رسولُ اللَّهِ، فما أحلَّهُ فقدْ أحلَّهُ اللَّهُ، وما
حرَّمَهُ فقدْ حرَّمَهُ اللَّهُ، وقدْ حاولَ بعضُ الناسِ أنْ يُعِلَّ
الحديثَ لهذا المعنى معَ ضَعْفِ سَنَدِهِ، والحديثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالأَلْبَانِيُّ وآخَرُونَ، وضعَّفَهُ آخَرُونَ.
ويُجَابُ عن التعليلِ المذكورِ بأنَّ قَوْلَ عَديٍّ: لَسْنَا نعْبُدُهم، يعودُ على الأحبارِ والرهبانِ، أمَّا عيسى ابنُ مريمَ فالمعروفُ أنَّهمْ يعْبُدُونَهُ.
وبدأَ بتحريمِ الحلالِ؛ لأنَّهُ أعظمُ منْ تحليلِ الحرامِ، وكِلاهُما مُحَرَّمٌ؛ لقولِهِ تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...}.
قولُهُ: ((فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ))
ووَجْهُ كوْنِهَا عبادةً: أنَّ مِنْ معنى العبادةِ الطاعةَ، وطاعةُ غيرِ
اللَّهِ عبادةٌ للمُطَاعِ، ولكنْ بشرطِ أنْ تكونَ في غيرِ طاعةِ اللَّهِ،
أمَّا إذا كانَ في طاعةِ اللَّهِ فهيَ عبادةٌ للَّهِ؛ لأنَّكَ إذا أطَعْتَ
غيرَ اللَّهِ في طاعةِ اللَّهِ، كما لوْ أمرَكَ أَبُوكَ بالصلاةِ
فصَلَّيْتَ، فلا تكونُ قدْ عَبَدْتَ أَبَاكَ بطاعتِكَ لهُ، ولكنْ عَبَدْتَ
اللَّهَ؛ لأنَّكَ أَطَعْتَ غيرَ اللَّهِ في طاعةِ اللَّهِ، ولأنَّ أمرَ
غيرِ اللَّهِ بطاعةِ اللَّهِ وامتثالِ أمرِهِ هوَ امتثالٌ لأمرِ اللَّهِ.
واعْلَمْ أنَّ اتِّباعَ العلماءِ أو الأمراءِ في تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ أو العكسِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الثالث: أنْ يُتَابِعَهُمْ جاهلاً، فيَظُنُّ أنَّ ذلكَ حُكْمُ اللَّهِ، فينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
فإنْ قيلَ: لماذا لا يَكْفُرُ أهلُ القسمِ الثاني ؟
الثاني: في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
الثالث: في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وقيلَ: إنَّها لمَوْصُوفِينَ متعدِّدِينَ، وإنَّها على حَسَبِ الحُكْمِ، وهذا هوَ الراجحُ.
الثاني: إذا اعتقدَ أنَّ حُكْمَ غيرِ اللَّهِ مثلُ حُكْمِ اللَّهِ.
وممَّا لا شكَّ فيهِ أنَّ الشرعَ جاءَ بتنظيمِ العباداتِ التي بينَ
الإنسانِ وربِّهِ، والمعاملاتِ التي بينَ الإنسانِ معَ الخلقِ؛ في العقودِ
والأنكحةِ والمواريثِ وغيرِها، فالشرعُ كاملٌ منْ جميعِ الوجوهِ، قالَ
تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
وكيفَ يُقَالُ: إنَّ المعاملاتِ لا تَعَلُّقَ لها بالشرعِ، وأَطْوَلُ آيةٍ
في القرآنِ نَزَلَتْ في المعاملاتِ، ولَوْلا نظامُ الشرعِ في المعاملاتِ
لفسَدَ الناسُ.
وأنا لا أقولُ: نَأْخُذُ بكلِّ ما قالَهُ الفقهاءُ؛ لأنَّهم قدْ يُصِيبونَ
وقدْ يُخْطِئُونَ، بلْ يَجِبُ أنْ نَأْخُذَ بكلِّ ما قالَهُ اللَّهُ
ورسولُهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ولا يُوجَدُ حالٌ مِن الأحوالِ تقعُ
بينَ الناسِ إلا وفي كتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِهِ ما يُزِيلُ
إِشْكَالَهَا ويَحِلُّهَا، ولكنَّ الخطأَ إمَّا مِنْ نَقْصِ العلمِ أو
الفهمِ، وهذا قُصُورٌ، أوْ نقصِ التَّدَبُّرِ، وهذا تقصيرٌ.
أمَّا إذا وُفِّقَ الإنسانُ بالعلمِ والفهمِ وبذلِ الجهدِ في الوصولِ إلى
الحقِّ، فلا بُدَّ أنْ يَصِلَ إليهِ حتَّى في المعاملاتِ، قالَ تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}.
ومَنْ سَنَّ قوانينَ تُخَالِفُ الشريعةَ وادَّعى أنَّها مِن المصالحِ
المُرْسَلَةِ فهوَ كاذبٌ في دَعْوَاهُ؛ لأنَّ المصالحَ المُرْسَلَةَ
والمُقَيَّدَةَ، إن اعْتَبَرَهَا الشرعُ ودَلَّ عليها فهيَ حقٌّ ومِن
الشرعِ، وإنْ لمْ يعْتَبِرْهَا فليستْ مصالحَ، ولا يُمْكِنُ أنْ تكونَ
كذلكَ، ولهذا كانَ الصوابُ أنَّهُ ليسَ هناكَ دليلٌ يُسَمَّى بالمصالحِ
المُرْسَلَةِ، بلْ ما اعتبرَهُ الشرعُ فهوَ مَصْلَحَةٌ، وما نفاهُ فليسَ
بمصلحةٍ، وما سكتَ عنهُ فهوَ عفوٌ.
وَلْيُعْلَمْ: أنَّهُ يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يتَّقِيَ ربَّهُ في جميعِ الأحكامِ،
فلا يتَسَرَّعَ في الْبَتِّ بها؛ خُصُوصًا في التكفيرِ، الذي صارَ بعضُ
أهلِ الغَيْرَةِ والعاطفةِ يُطْلِقُونَهُ بدونِ تفكيرٍ ولا رَوِيَّةٍ، معَ
أنَّ الإنسانَ إذا كفَّرَ شخصًا ولمْ يكُن الشخصُ أهلاً لهُ عادَ ذلكَ إلى
قائلِهِ، وتكفيرُ الشخصِ يَتَرَتَّبُ عليهِ أحكامٌ كثيرةٌ، فيكونُ مباحَ
الدمِ والمالِ، ويتَرَتَّبُ عليهِ جميعُ أحكامِ الكفرِ.
وكما لا يجوزُ أنْ نُطْلِقَ الكفرَ على شخصٍ مُعَيَّنٍ حتَّى يتبَيَّنَ
شروطُ التكفيرِ في حقِّهِ، يَجِبُ ألا نَجْبُنَ في تكفيرِ مَنْ كفَّرَهُ
اللَّهُ ورسولُهُ، ولكنْ يَجِبُ أنْ نُفَرِّقَ بينَ المُعَيَّنِ وغيرِ
المُعَيَّنِ، فالمُعَيَّنُ يحتاجُ الحكمُ بتكفيرِهِ إلى أمرَيْنِ:
بِالإِيمَانِ} ولقولِ الرجلِ الذي وجدَ دابَّتَهُ في مَهْلَكَةٍ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، فلمْ يُؤَاخَذْ بذَلِكَ.
فهوَ أشدُّ وأقبحُ.
وكذلكَ مَثَّلَ الإمامُ أحمدُ بسُفْيَانَ الثوريِّ وأنكرَ
على مَنْ أخَذَ برأيِهِ، وتَرَكَ ما صحَّ بهِ الإسنادُ عنْ رسولِ اللَّهِ
صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، واستدلَّ بقولِهِ تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآيةَ.
وهذا في زمانِ المُؤَلِّفِ، فكيفَ بزمانِنِا ؟!
وقدْ قالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيما رَوَاهُ البخاريُّ عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ: ((لا يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى النَّاسِ إِلا وَمَا بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)).
والناسُ لا يُحِسُّونَ بالتَّغَيُّرِ؛ لأنَّ الأمورَ تأتي رُوَيْدًا
رُوَيْدًا، ولوْ غابَ أحدٌ مُدَّةً طويلةً ثمَّ جاءَ لَوَجَدَ التغيُّرَ
الكثيرَ المُزْعِجَ، نسألُ اللَّهُ السلامةَ، فَعَلَيْنَا الحذرَ، وأنْ
نَعْلَمَ أنَّ شرعَ اللَّهِ يَجِبُ أن يُحْمَى وأنْ يُصَانَ، ولا يُطاعُ
أحدٌ في تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ، أوْ تحريمِ ما أحلَّ اللَّهُ أبدًا مهما
كانتْ منزلَتُهُ، وأنَّ الواجبَ أنْ نكونَ عِبَادًا للَّهِ عزَّ وجلَّ
تذَلُّلاً وتَعَبُّدًا وطاعةً.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً
هذا الباب والأبواب بعده ،في بيان مقتضيات التوحيد،
ولوازم تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
وأن شهادة أن لا إله إلا الله،
تقتضي وتستلزم: أن يكون العبد مطيعاً لله -جل وعلا- فيما أحلّ، وفيما حرّم؛ مُحِلاًّ للحلال، مُحَرِّماً للحرام؛ لا يتحاكم إلا إليه جل وعلا؛ ولا يحكم في الدين إلا شرع الله جل وعلا.
والعلماء وظيفتهم تبيين معاني ما أنزل الله -جل وعلا- على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وليست
وظيفة العلماء التي أذن لهم بها في الشرع: أنهم يحللون ما يشاءون، أو
يحرمون؛ بل وظيفتهم الاجتهاد في فقه النصوص، وأن يبينوا ما أحل الله، وما
حرم الله جل وعلا؛ فهم أدوات ووسائل لفهم نصوص الكتاب والسنة.
ولذلك طاعتهم تبع لطاعة الله ورسوله،
يُطاعون فيما فيه طاعة لله -جل وعلا- ولرسوله؛ وما كان من الأمور الاجتهادية، فيطاعون؛ لأنهم هم أفقه بالنصوص من غيرهم.
فتكون طاعة العلماء والأمراء، من جهة الطاعة التبعية: لله ولرسوله.
أما الطاعة الاستقلالية،
فليست
إلا لله جل وعلا؛ حتى طاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هي
تبع لطاعة الله جل وعلا؛ فإن الله هو الذي أذن بطاعته، وهو الذي أمر بطاعة
رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهذا معنى الشهادة له بأنه رسول
الله.
- قال جل وعلا: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.
- وقال جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
فإذاً: الطاعة الاستقلالية:
هذه نوع من أنواع العبادة؛ فيجب إفراد الله -جل وعلا- بها، وغير الله -جل
وعلا- فإنما يطاع؛ لأن الله -جل وعلا- أذن بطاعته؛ ويطاع فيما أذن الله به
في طاعته، فالمخلوق لا يطاع في معصية الله؛ لأن الله لم يأذن أن يطاع مخلوق
في معصية الخالق جل وعلا، وإنما يطاع فيما أطاع الله -جل وعلا- فيه، على
النحو الذي يأتي.
إذاً: هذا الباب عقده الشيخ -رحمه
الله- ليبيّن أن الطاعة من أنواع العبادة؛ بل إن الطاعة في التحليل، وفي
التحريم، هذه هي معنى اتخاذ الأرباب، حيث قال الله جل وعلا: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم} وما سيأتي من بيان حديث عديّ بن حاتم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال رحمه الله: (باب من أطاع العلماء والأمراء، العلماء والأمراء: هم أولو الأمر في قوله جل وعلا: {وأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}.
قال العلماء: (أولو الأمر يشمل: من له الأمر في حياة الناس، في دينهم: وهم العلماء، وفي دنياهم: وهم الأمراء؛ وقد قال هنا جل وعلا: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم يكرّر فعل الطاعة).
قال ابن القيم وغيره:
(دلّ هذا: على أن طاعة أولي الأمر ليست استقلالاً، وإنما يُطاعون في طاعة
الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإذا أمروا بمعصية، فإنه لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ والأمور الاجتهادية التي ليس فيها نصّ من
الكتاب والسنة، فإنهم يطاعون في ذلك، لما أذن الله به في ذلك، ولما في ذلك
من المصالح المرعية في الشرع ) إذاً
(من أطاع العلماء والأمراء) هنا ذكر هذا الباب لأجل أن الطاعة نوع من
أنواع العبادة، وهذه العبادة يجب أن يفرد الله -جل وعلا- بها؛ فمن أطاع غير
الله على هذا النّحو الذي ذكره الشيخ، فقد أشرك الشرك الأكبر بالله جل
وعلا.
قال: (من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله)
يعني: في تحريم الذي أحلّ الله؛ فيكون هناك حلال في الشرع فيحرّمونه؛
يحرمه العالم، أو يحرمه الأمير؛ فيطيعه الناس، وهم يعلمون أنه حلال، لكن
يطيعونه في التحريم.
والحلال يعني: الذي أحلّه الله، أحلّ
الله أكل الخبز، فيقولون: الخبز حرام عليكم ديناً؛ فلا تأكلوا الخبز
تديّناً، ويحرمونه؛ لأجل ذلك؛ هذا طاعة لهم في تحريم ما أحلّ الله.
قال: (أو تحليل ما حرّم الله فقد اتخذهم أربابا)
أو تحليل ما حرم الله، يعني: أحلوا ما يُعلم أن الله حرّمه، حرّم الله
الخمر، فأحله العلماء، أو أحلّه الأمراء؛ فمن أطاع عالماً، أو أميراً في
اعتقاد أن الخمر حلال، وهو يعلم أنها حرام، وأن الله حرمها: فقد اتخذه
ربّاً من دون الله جل وعلا.
إذاً هنا في هذا الباب حكم، وهناك شرط.
فالحكم: قوله في آخره: (فقد اتخذهم أرباباً) وهو جزاء الشرط.
والشرط
قوله: (من أطاع العلماء والأمراء) وضابط هذا الشرط ما بينهما، وهو قوله:(في تحريم ما أحلّ الله أو تحليل ما حرّمه) وهذا يُستفاد منه، يعني: من اللفظ أنهم عالمون بما أحلّ؛ فحرّموه طاعة، عالمون بما حرّم؛ فأحلوه طاعة لأولئك.
وقوله في آخره: (فقد اتخذهم أرباباً) ذلك لأجل آية سورة براءة، قال: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} وحديث عدي بن حاتم في ذلك.
و(الأرباب):
جمع (الرب)، و(الرَّبُّ) و(الإله) لفظان يفترقان، لأن (الرب) هو السَّيِّد، الملك، المتصرّف في الأمر؛ والإله: هو المعبود.
وقد سُئِلَ المصنف الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن الفرق بين الإله والرب، في مثل هذه السياقات، في نحو قوله: {وَلاَ
يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ
أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}.
- وفي نحو قوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} ما معنى الربوبية هنا؟
قال: الربوبية هنا: بمعنى الألوهية، بمعنى المعبود؛ لأن من أطاع على ذلك النّحو، فقد عبد؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعدي، حين قال: ((إنا لسنا نعبدهم))فعديّ فهم من كلمة أرباباً: العبادة.
وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقرّراً لذلك: ((أليسَ يُحَرِّمون…)) إلى آخره.
فهو إقرارٌ منه -عليه الصلاة والسلام- بأن معنى الربوبية هنا: العبودية.
فإذاً: قال الشيخ - رحمه
الله - حينما سُئل، قال: كلمة (الرب) و(الإله): من الألفاظ التي إذا
اجتمعت، افترقت، وإذا افترقت، اجتمعت؛ يعني كلفظ الفقير والمسكين؛ وكلفظ
الإسلام والإيمان؛ وكنحوهما، لِمَ؟
لأن الإله يُطلق على المعبود،
والرّب:
جاء في نصوص كثيرة إطلاق الرب على المعبود، كما ذكرنا في الآيات، وفي
الحديث؛ وكقوله -عليه الصلاة والسلام- في مسائل القبر: فيأتيه ملكان؛
فيسألانه من ربك؟
يعني: من معبودك؟
لأن الابتلاء لم يقع في الربِّ، الذي هو: الخالق، الرازق، المحيي، المميت.
فإذاً: لفظ الأرباب والآلهة، إذا اجتمعت، افترقت، وإذا افترقت، اجتمعت، وقد يُطلق على الأرباب آلهة، وعلى الآلهة أرباب.
وهل هذا الإطلاق لأجل اللغة؟ يعني: أن أصله في اللغة يدخل هذا، في هذا وهذا في ذاك؟
أم أنه لأجل اللزوم والتضمن؟
الظاهر عندي: الأخير،
وهو
أنه لأجل اللزوم والتضمن؛ فإن الربوبية مستلزمة للألوهية، والألوهية متضمنة
للربوبية؛ فإذا ذُكر الإله، فقد تضمن ذلك ذكر الرب؛ وإذا ذكر الرب،
فاستلزم ذلك ذكر الإله؛ ولهذا قال -جل وعلا- هنا: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً} يعني: آلهة؛ لاستلزام لفظ الربوبية للإلهية.
وكذلك: قوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} يعني: آلهةً معبودين؛ كما أتى تفصيله في الحديث.
قال: (وقال ابن عباس: (يوشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر)) هذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وإسناده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن طاووس، عن ابن عباس، أو نحو ذلك.
وقد ذكر إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع في (الفتاوى) بنصّه، وذكر الإسناد والمتن؛ وغالب الذين خرّجوا كتاب التوحيد، قالوا: (إن هذا الأثر لا أصل له بهذا اللفظ)
وهذه جراءة منهم، حيث إنهم ظنوا أنَّ كل كتب الحديث بين أيديهم؛ ولو
تتبّعوا كتب أهل العلم، لوجدوا أن إسناده والحكم عليه: موجود في كتبهم.
المقصود: ما اشتمل عليه هذا الأثر، وهو قوله: ((يُوشِكُ
أَنْ تَنْـزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاء، ِ أَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)).
الواجب على المسلم: أنه
إذا سمع حديثاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعَلِمَ فقهه؛
أو بيّنه له أهل العلم، فإنه لا يترك ذلك الحديث، والذي فقهه لقول أحد،
كائناً من كان: إذا كان الحديث ظاهراً في الدلالة على ذلك، وكان القول
الآخر لا دليل عليه؛ أما إذا كانت المسألة اجتهادية في الحديث من جهة
الفهم، فهذا مجاله واسع.
وابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، يُحمل كلامه هذا، على أن هؤلاء الذين قالوا له تلك المقالة، قالوا له: قال أبو بكر، وعمر: عارضوا قوله في المتعة، بقول أبي بكر، وعمر؛ الذي هو مناقض لصريح قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومعلوم أنَّ أبا بكر، وعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، كانا يذهبان إلى أن إفراد الحج أفضل من التمتع؛ وابن عباس: كان يوجب التمتع، ويسوق الأدلة في ذلك.
وقول أبي بكر، وعمر: أخذ به طائفة من أهل العلم، كمالك وغيره.
بل قال طائفة: (إن إفراده الحج، وسفره مرة أخرى للعمرة: خير له من أن يجمع بين حج وعمرة في سفرة واحدة؛ كما هو اختيار شيخ الإسلام، واختيار غيره من المحققين).
المقصود من ذلك: أن كلامابن عباس هذا، ليس في المسألة الفقهية، يعني: فقه كلام ابن عباس فيما أراده الشيخ،
ليس فيما يتعلق بمسألة التمتع والإفراد، ولكن في مسألة عموم لفظه: وهو أنه
لا يُعارَض قول النبي عَلَيْهِ الصلاة والسلام، الظاهر معناه، بقول أحدٍ
لا دليل له على قوله، ولو كان ذلك القائل أبابكر، وعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما؛ فكيف بمن دونهما من التابعين، أو من الصحابة؟
فكيف بأئمة أهل المذاهب، وأصحاب المذاهب رحمهم الله تعالى؟
واحترام العلماء، وأهل
المذاهب واجب؛ لكن أجمع أهل العلم: على أنَّ من استبانت له سنة من سنن
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يكن له أن يتركها لقول أحدٍ،
كائناً من كان.
قال: (وقال أحمدبنحنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أحد العلماء المعروفين؛ وكان له مذهب، وكان له أتباع.
قال الإمام أحمد: (عجبت لقومٍ عرفوا الإسناد وصحته) يعني: في ذلك الحديث الذي تنازعوا فيه (ويذهبون إلى رأي سفيان).
فقوله: (يذهبون إلى رأي سفيان).
يدلّ على أن سفيان
لم يكن له مستند على ما ذهب إليه، وهو عالم من العلماء، وأحد الزهّاد
الصالحين المشهورين؛ ولكن قد تخفاه السنة، فيكون حكم برأيه، أو بتقعيد
عنده، لكن السنة جاءت بخلاف ذلك؛ فلا يسوغ أن يُجعل رأي سفيان في مقابل
الحديث النبوي، على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟
الفتنة: الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيهلك) إذا ردّ بعض قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقول أحد، يخشى عليه أن يعاقب؛ فيقع في قلبه زيغ.
قال الله -جل وعلا- عن اليهود: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فهم زاغوا بمحض إرادتهم، واختيارهم مع بيان الحجج، وظهور الدلائل، والبراهين.
لكن لما زاغوا، أزاغ الله قلوبهم، عقوبةً منه لهم على ذلك؛ وهذا معنى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}
يعني: نوع شرك؛ وقد يصل ذلك إلى الشرك الأكبر بالله جل وعلا، إذا كان في
تحليل الحرام مع العلم بأنه حرام، وتحريم الحلال مع العلم بأنه حلال.
قال:
(عن عدي ابن حاتم، أنه سمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ
هذه الآية: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ
لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً} الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم).
فيه:
أنه فهم من معنى قوله: (أرباباً) أنه معناه: المعبودين، قال عليه الصلاة والسلام: ((أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ، فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ فَتُحِلُّونَهُ؟
فَقُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ)) رواه أحمد والترمذي وحسنه.
هذا الحديث: فيه بيان أن طاعة الأحبار والرهبان قد تصل إلى الشرك الأكبر؛ واتخاذ أولئك أربابا،ً ومعبودين.
والأحبار:
هم العلماء، والرهبان:هم العبّاد؛وطاعة الأحبار في التحليل، والتحريم، على درجتين:
الدرجة الأولى: أن يطيع العلماء، أو الأمراء في تبديل الدين؛
يعني: في جعل الحرام حلالاً، وفي جعل الحلال حراماً؛ فيطيعهم في تبديل
الدين، وهو يعلم أنَّ الحرام قد حرَّمه الله، ولكن أطاعهم تعظيماً لهم؛
فحلل ما أحلوه طاعة لهم وتعظيماً، وهو يعلم أنه حرام؛ حلل:
يعني اعتقد أنه حلال، وأمضى أنه حلال، وهو حرام في نفسه؛ أو حرم تبعاً
لتحريمهم، وهو يعلم أنَّ ما حرموه من الحلال، أنه غلط، وأنَّ الحلال حلال،
ولكنه حرم تبعاً لتحريمهم.
هذا
يكون قد أطاع العلماء، أو الأمراء في تبديل أصل الدين؛ فهذا هو الذي اتخذهم
أرباباً، وهو الكفر الأكبر، والشرك الأكبر بالله جل وعلا؛ وهذا هو الذي
صَرَفَ عبادة الطاعة إلى غير الله.
ولهذا قال الشيخ سليمان -رحمه الله- في شرحه (لكتاب التوحيد) قال: (الطاعة هنا، في هذا الباب: المراد بها طاعة خاصة، وهي الطاعة في تحليل الحرام، أو تحريم الحلال) وهذا ظاهر.
والدرجة الثانية:
أن يطيع الحبر؛ أو يطيع الأمير؛ أو يطيع الرهبان، في تحريم الحلال،
أو في تحليل الحرام من جهة العمل؛ أطاع وهو يعلم أنه عاصي بذلك، ومعترفٌ بالمعصية؛ لكن اتبعهم عملاً.
- وقلبه لم يجعل الحلال حراماً.
- وقلبه لم يجعل طاعة أولئك في قلبهم الحلال حراماً متعينةً، أو سائغةً.
ولكن أطاعهم حبّاً له في المعصية، أو حباً له في مجاراتهم؛ ولكن في داخله: الحلال هو الحلال، والحرام هو الحرام، فما بدّل الدين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب).
وهاتان الدرجتان: هي من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
على هذه الآية، هذا وأمثاله له حكم أمثاله من أهل الذنوب والعصيان؛ لأنه
ما حرم الحلال، ولا أحل الحرام؛ وإنما فعل الحرام من جهة العصيان، وجعل
الحلال حراماً من جهة العصيان، لا من جهة تبديل أصل الدين؛ والرهبان
عبادتهم هي عبادة العبّاد.
ويريد الشيخ -رحمه الله- بذكر الرهبان، وبإيراده للآية: التنبيه على أن الطاعة في تحليل الحرام، وتحريم الحلال: جاءت أيضاً من جهة:
- الرهبان.
- من جهة العبّاد.
وهذا عند المتصوّفة، والطرق
الصوفية وأهل الغلوّ في التصوف، والغلاة في تعظيم رؤساء الصوفية؛ فإنهم
أطاعوا مشايخهم،؛ والعبّاد، والأولياء الذين زعموا أنهم أولياء: أطاعوهم في
تغيير الملة؛ فهم يعلمون أن السنة هي كذا وكذا، وأن خلافها بدعة، يعلمون
ذلك؛ فأطاعوا تعظيماً للشيخ، تعظيماً للعابد.
أو يعلمون أن هذا شرك في القرآن والدلائل عليه ظاهرة،
لكن تركوه، وأباحوا ذلك الشرك، وأحلوه؛ لأن شيخهم، ومقدَّمهم، ورئيس طريقتهم: أحلّه.
وهذا كان في نجد كثيراً، إبّان ظهور الشيخ بدعوته؛ وهو موجود في كثير من الأمصار؛ وهو نوع من اتخاذ أولئك العباد أرباباً من دون الله جل وعلا.
وهذا المقام أيضاً فيه تفصيل على نحو الدرجتين اللتين ذكرتهما عن شيخ الإسلام رحمه الله.
العناصر
مناسبة باب (من أطاع العلماء والأمراء...) لكتاب التوحيد
بيان أهمية هذا الباب (من أطاع العلماء...) شرح ترجمة الباب (من أطاع العلماء...) - المراد بأولي الأمر في قوله تعالى: (وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) شرح أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم...)
- بعض الفوائد من أثر ابن عباس التعليق على قول الإمام أحمد رحمه الله: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد...)
- بيان أقسام التعجب، ومن أيهما قول أحمد (عجبت) - تفسير قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره...) الآية
- ذكر بعض أقوال الأئمة الأربعة في النهي عن تقليدهم، وبيان اتباعهم للحديث شرح حديث عدي بن حاتم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- ترجمة عدي بن حاتم الطائي التحذير من التسرع في التكفير، وبيان ضوابط تكفير المعين التفصيل في أحكام الحاكمين بغير ما أنزل الله بيان الصحيح في اعتبار المصالح المرسلة شرح مسائل باب (من أطاع العلماء والأمراء...)
- معنى قول المصنف: (وعبادة الأحبار هي العلم والفقه)
- معنى قوله: (عرفوا الإسناد)
- معنى قوله: (يذهبون إلى رأي سفيان)
- ترجمة سفيان الثوري
- معنى قول أحمد: (لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)
مسائل في التقليد
- ذم من أقبل على تعلم الكتب المصنفة في الفقه، استغناء بها عن الكتاب والسنة
- بيان بعض أعذار المقلدة في التقليد، والرد عليها
- بيان متى يعذر المجتهد والمقلد، ومتى لا يعذران
- تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله...) الآية
- فائدة مهمة في الفرق بين لفظ (الرب) و(الإله)
- معنى قوله: (فقلت إنا لسنا نعبدهم)
- معنى قوله: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه...) الحديث
- بعض الفوائد من حديث عدي بن حاتم
- بيان أحوال المتبعين للأحبار والرهبان
- بيان فيمن يكثر تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وأيهما أشد
- بيان أن طاعة غير الرسول في التحليل والتحريم شرك
- معنى قوله: (ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من ليس من الصالحين)