26 Oct 2008
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مِنَ الشِّرْكِ إِرَادَةُ الإِنْسَانِ بَعَمَلِهِ الدُّنْيَا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَن
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَيسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هُودٌ:15،16]. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: إِرَادَةُ الإِنْسَانِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ هُودٍ. الثَّالِثَةُ: تَسْمِيَةُ الإِنْسَانِ الْمُسْلِمِ عَبْدَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْخَمِيصَةِ. الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ. الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)). السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ((وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)). السَّابِعَةُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُجَاهِدِ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ.
فِي (الصَّحِيحِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ.
تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ.
تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ.
إِنْ أُعْطِي رَضِيَ، وِإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ.
طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ.
إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ.
وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ.
إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ)).
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (3)
قد ظَنَّ بعضُ الناسِ أَنَّ هذا البابَ داخلٌ في الرياءِ،
وأَنَّ هذا مجرَّدُ تكريرٍ فأخطأَ، بل المرادُ بهذا أَنْ يعملَ الإنسانُ
عملاً صالحًا يريدُ بهِ الدنيا، كالذي يُجاهِدُ للقَطِيفةِ والخَمِيلةِ
ونحوِ ذلك، ولهذا سمَّاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدًا
لذلك بخلافِ المرائي، فإنه إنمَّا يعملُ ليراهُ الناسُ ويُعَظِّمُوه، والذي
يَعْمَلُ لأجلِ الدراهمِ والقَطيفةِ ونحوِ ذلك أعْقَلُ من المرائي؛ لأنَّ
ذلك عَمِلَ لدنيا يُصيبُها.
والمرائي عَمِلَ لأجلِ المدحِ، والجلالةِ في أعينِ الناسِ، وكلاهُما خاسرٌ، نعوذُ باللهِ من مُوجِباتِ غضبِهِ، وأليمِ عقابِه.
- قال: وقولُه تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}[هود:15]، قال ابنُ عباسٍ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: (ثوابَها) {وزينتَها} أي: مالهَا، {نوفِّ إليهم} نُوفِّرْ لهم ثوابَ أعمالهِم بالصحةِ والسرورِ في الأهلِ والمالِ والولدِ، {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} لا يُنْقَصُون، ثم نسَخَتْها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ}[الإسراء:18] رواه النَّحَّاسُ في (ناسخِه)
وقولُهُ: ثم نسَخَتْها، أي: قيَّدَتْها أو خصَّصَتْها، فإن السلفَ كانوا
يُسَمُّون التقييدَ والتخصيصَ نسخًا، وإلاَّ فالآيةُ مُحْكَمةٌ.
- وقال الضحاكُ: (من عَمِلَ صالحًا من أهلِ الإيمانِ مِن غيرِ تقوَى، عُجِّلَ له ثوابُ عملِهِ في الدنيا، واختارَهُ الفَرَّاءُ).
قال ابنُ القيمِ: (وهذا القولُ أرجحُ).
ومعنى الآيةِ على هذا: مَن كانَ يريدُ بعملِهِ الحياةَ الدنيا وزينتَها.
وقال طائفةٌ: (هذهِ الآيةُ في حقِّ الكفَّارِ بدليلِ قولِهِ: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ}[هود:16] أي: أَنَّهُم لم يَعْمَلُوا إلا للحياةِ الدنيا وزينتِها {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا}
قال بعضُ المُفَسِّرِين: أي: وحَبِطَ في الآخرةِ ما صنعُوه، أو صنيعُهم،
يعني: لم يَكُنْ لهم ثوابٌ؛ لأنهم لم يريدُوا بهِ الآخرةَ، إنما أرادُوا به
الدنيا، وقد وَفَّى إليهم ما أرادوا {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[الأعراف: 138] أي: كان عملُه في نفسِهِ باطلاً؛ لأَنَّه لم يَعْمَلْ لوجهٍ صحيحٍ، والعملُ الباطلُ لا ثوابَ له) انتهى.
فإن قيل: الآيةُ على القولِ الأولِ تقتضي تخليدَ المؤمنِ المُريدِ بعملهِ الدنيا في النارِ.
قيلَ:
إنَّ اللهَ سبحانَه ذكرَ جزاءَ مَن يُريدُ بعملِهِ الحياةَ الدنيا
وزينتَها، وهو النارُ، وأخبرَ بحبُوطِ عملِه وبطلانِه، فإذا أُحْبِطَ ما
يَنْجُو به وبطَلَ، لم يَبْقَ معه ما يُنْجِيه، فإن كانَ معه إيمانٌ لم
يُرِدْ به الحياةَ الدنيا وزينتَها، بل أرادَ بهِ اللهَ والدارَ الآخرةَ،
لم يدخُلْ هذا الإيمانُ في العملِ الذي حَبِطَ وبَطَلَ، ونجَّاهُ هذا
الإيمانُ من الخلودِ في النارِ، وإنْ دخَلَها بحبوطِ عملهِ الذي به النجاةُ
المطلقةُ. فالإيمانُ إيمانانِ: إيمانٌ يمنعُ دخولَ النَّارِ: وهو الإيمانُ الباعِثُ على أَنْ تكونَ الأعمالُ للهِ وحدَهُ يُبْتَغَى بها وجهُه وثوابُه. وفي الآيةِ من الفوائدِ: - أَنَّ الشركَ مُحْبِطٌ الأعمالَ. - وأَنَّ إرادةَ الدنيا وزينتِها بالعملِ كذلك. - وأَنَّ اللهَ يُجازِي الكافِرَ بحسناتِه. - وكذلك طالبُ الدنيا، ثم يُفْضِي إلى الآخرةِ وليسَ له حسنةٌ. السادسةُ: الفرقُ بين الحبوطِ والبطلانِ. قولُه: (في (الصحيحِ)) أي: (صحيحِ البخاريِّ). وقيل: معنى التَّعْسِ: الكَبّةُ على الوجهِ، قال أبو السَّعاداتِ: (يقالُ: تَعَسَ يَتْعَسُ، إذا عَثَرَ، وانكبَّ لوجهِه، وهو دعاءٌ عليه بالهلاكِ). وقيل: لا تُسَمَّى خَميصةً إلاَّ أَنْ تكونَ سوداءَ معلَّمَةً، وكانَتْ من لباسِ الناسِ قديمًا، وجمعُها الخَمائِص، والخَميلةُ بفتحِ الخاءِ المُعْجَمَةِ، قال أبو السَّعاداتِ: (الخميلُ والخميلةُ: القَطيفةُ، وهي ثوبٌ له خَمْلٌ من أيِّ شيءٍ كان. وقال الطيبِيُّ: (المعنى
أَنَّه إذا وقعَ في البلاءِ لا يُتَرَحَّمُ عليهِ، فإنَّ مَن وقعَ في
البلاءِ إذا ترحَّمَ له الناسُ ربما هانَ الخَطْبُ عليه، ويَتَسَلَّى بعضَ
التَّسَلِّي، وهؤلاءِ بخلافِهِ، بل يزيدُ غيظُهم بفرحِ الأعداءِ أو
شماتتِهم). قيلَ: لَمَّا كانَ ذلك هو مقصودَه ومطلوبَه الذي عَمِلَ لَهُ، وسعَى في تحصيلِه بكلِّ ممكنٍ حتى صارَتْ نيتُه مقصورةً عليهِ يَغْضَبُ ويَرْضَى له، صارَ عبدًا له، قال شيخُ الإسلامِ: (فسمَّاهُ
النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدَ الدِّينارِ والدِّرهمِ،
وعبدَ القطيفةِ، وعبدَ الخميصةِ، وذكرَ فيه ماهو دعاءٌ وخبرٌ. فمنها:
ما يحتاجُ إليه العبدُ كمَا يحتاجُ إلى طعامِه وشُربهِ ومَنْكَحِه
ومَسْكَنهِ ونحوِ ذلك، فهذا يَطْلُبُه مِن اللهِ وَيَرْغَبُ إليه فيه،
فيكونُ المالُ عندَه، يَسْتَعْمِلُه في حاجتِه بمنزلةِ حمارِه الذي
يَرْكَبُه، وبِساطِه الذي يَجْلِسُ عليه من غيرِ أنْ يَسْتَعْبِدُوه،
فيكونَ هَلُوعًا. انتهى مُلَخَّصًا. وقيل: هي شجرةٌ فيها. قلتُ: قد روَى ابنُ وهبٍ عن عمرِو بنِ الحارثِ أن دَرَّاجًا حدَّثَه، أنَّ أبَا الهيثمِ حدَّثَهُ، عن أبي سعيدٍ في حديثٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: ((شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ مَسِيرَةُ مَائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا)) رواه حَرْمَلةُ عنه، ورواهُ أحمدُ في (مسندِه) من حديثِ عُتبةَ بنِ عبدٍ السُّلَميِّ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَن الحَوْضِ وَذَكَرَ الجَنَّةَ. وقيل: معناهُ هَنِيئًا بطيبِ العيشِ لهم، وهذهِ الأقوالُ تَرْجِعُ إلى قولٍ واحدٍ. قلتُ: وفيه فضيلةُ الحَرْسِ في سبيلِ اللهِ. وفيه: الثناءُ على المجاهدِ الموصوفِ بتلك الصفاتِ) قالَه المصنفُ.
وإيمانٌ يمنعُ الخلودَ في النارِ: فإن كانَ مع المرائي شيءٌ منه، وإلا كانَ من أهلِ الخلودِ، فالآيةُ لها حكمُ نظائرِها من آياتِ الوعيدِ، ذكره ابنُ القيمِ.
وقد سُئِلَ شيخُ الإسلامِ المصنفُ عن معنى هذه الآيةِ فأجابَ بما مُلَخَّصُه: (ذُكرَ عن السلفِ مِن أهلِ العلمِ فيها أنواعٌ مما يَفْعَلُه الناسُ اليومَ، ولا يَعْرِفُون معناه.
فمِن ذلك العملُ الصالحُ الذي يَفْعَلُه كثيرٌ من الناسِ ابتغاءَ وجهِ اللهِ من صدقةٍ وصلاةٍ وإحسانٍ إلى الناسِ، وتركِ ظلمٍ، ونحوِ ذلك مما يفعلُهُ الإنسانُ، أو يَتْرُكُه خالصًا للهِ، لكنَّه لا يُرِيدُ ثوابَهُ في الآخرةِ،
إنما يريدُ أَنْ يُجَازِيَهُ اللهُ بحفظِ مالهِ وتنميتِه، أو حفظِه أهلَه
وعيالَه، أو إدامةِ النعمِ عليهم، ولا همةَ له في طلبِ الجنةِ، والهربِ من
النارِ، فهذا يُعْطِى ثوابَ عملِه في الدنيا، وليسَ لهُ في الآخرةِ نصيبٌ، وهذا النوعُ ذكَرَهُ ابنُ عباسٍ.
النوعُ الثاني: وهو أكبرُ من الأولِ وأخوفُ، وهو الذي ذكَرَ مجاهدٌ في الآيةِ أنهَّا نزَلَتْ فيهِ، وهو أَنْ يَعْمَلَ أعمالاً صالحةً، ونيتُه رِياءُ الناسِ، لا طلبُ ثوابِ الآخرةِ.
النوعُ الثالثُ:أَنْ يعملَ أعمالاً صالحةً يَقْصِدُ بها مالاً، مثلَ أَنْ يَحُجَّ لمالٍ يَأْخُذُه، لا للهِ، أو يُهاجِرَ لدنيا يُصِيبُها، أو امرأةٍ يَتَزَوَّجُها، أو يُجاهِدَ لأَجلِ الغُنْمِ.
فقد ذُكِرَ أيضًا هذا النوعُ في تفسيرِ هذه الآيةِ، وكما يَتَعَلَّمُ
الرجلُ لأجلِ مدرسةِ أهلِه أو مكتبِهم أو رياستِهم، أو يَتَعَلَّمُ القرآنَ
ويُواظِبُ على الصلاةِ لأجلِ وظيفةِ المسجدِ، كما هو واقعٌ كثيرًا، وهؤلاء
أعقلُ مِن الذين قبلَهم؛ لأنهم عمِلُوا لمصلحةٍ يُحَصِّلُونها، والذين
قبلَهم عمِلُوا من أجلِ المدحِ والجلالةِ في أعينِ الناسِ، ولا يَحْصُلُ
لهم طائلٌ، والنوعُ الأولُ أعقلُ من هؤلاءِ؛ لأنهَّم عمِلُوا للهِ وحدَه لا
شريكَ لهُ، لكنْ لم يَطْلُبوا منهُ الخيرَ الكثيرَ الدائمَ وهو الجنةُ،
ولم يَهْرُبوا من الشرِّ العظيمِ وهو النّارُ.
النوعُ الرابعُ:أَنْ يعملَ بطاعةِ اللهِ مخلصًا في ذلكَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ له، لكنَّهُ على عملٍ يُكَفِّرُهُ كُفْرًا يُخْرِجُه عن الإسلامِ،
مثلَ اليهودِ والنصارى إذا عبَدوا اللهَ أو تصدَّقُوا أو صاموا ابتغاءَ
وجهِ اللهِ والدارِ الآخرةِ، ومثلَ كثيرٍ من هذهِ الأمةِ الذين فيهم كفرٌ
أو شِركٌ أكبرُ يُخْرِجُهم من الإسلامِ بالكُليَّةِ إذا أطاعُوا اللهَ
طاعةً خالصةً، يُرِيدونَ بها ثوابَ اللهِ في الدارِ الآخرةِ، لكنهم على
أعمالٍ تُخْرِجُهُم من الإسلامِ وتَمْنَعُ قبولَ أعمالِهم.
فهذا النوعُ أيضًا قد ذُكِرَ في هذه الآيةِ عن أنسِ بنِ مالكٍ
وغيرِه، وكان السلفُ يخافون منها، قالَ بعضُهم: لو أعلمُ أَنَّ اللهَ
تقبَّلَ مني سجدةً واحدةً لتَمَنَّيْتُ الموتَ؛ لأَنَّ اللهَ يقولُ:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:30] ).
ثم قال: (بقِي
أَنْ يقالَ: إذا عَمِلَ الرجلُ الصلواتِ الخمسَ والزكاةَ والصومَ والحجَّ
ابتغاءَ وجهِ اللهِ طالبًا ثوابَ الآخرةِ، ثُمَّ بعدَ ذلك عمِلَ أعمالاً
قاصدًا بها الدنيا، مثلَ أَنْ يَحُجَّ فَرْضَه للهِ، ثم يَحُجَّ بعدَه
لأجلِ الدنيا، كما هُو واقعٌ، فهو لما غَلَبَ عليه منهما.
وقد قالَ بعضُهم: القرآنُ كثيرًا ما يذكرُ أهلَ الجنةِ الخُلَّصَ، وأهلَ
النارِ الخُلَّصَ، ويَسْكُتُ عن صاحبِ الشائبتينِ وهو هذا وأمثالُهُ) انتهى، وقد أجادَ وأفادَ رحِمَه اللهُ.
الخامسةُ: شدةُ الوعيدِ على ذلك.
قولُه: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ))(هو بكسرِ العينِ، ويجوزُ الفتحُ، أَيْ: سقَطَ والمرادُ هنَا: هلَكَ) قالَهُ الحافِظ، وقالَ في موضعٍ آخرَ: (وهو ضِدُّ سَعِدَ، أي: شَقِيَ).
قولُه: ((تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ)) قال أبو السَّعاداتِ: (هو ثوبُ خَزٍّ أو صوفٍ مُعَلَّمٍ).
وقيل: الخَميلُ: الأسودُ من الثيابِ).
قولُه: ((تَعِسَ وَانْتَكَس)) قال الحافظُ؛(هو بالمهملةِ أي: عاودَهُ المرضُ).
وقالَ أبو السَّعَادَاتِ: (أي: انقلبَ على رأسِه، وهو دعاءٌ عليه بالخيبةِ، أَنَّ مَن انتكسَ في أمرِهِ فقد خابَ وخسِرَ).
وقالَ الطيبِيُّ: (وفيه التَّرَقِّي بالدعاءِ عليهِ؛ لأَنَّه إذا تَعِسَ انكبَّ على وجهِهِ، فإذا انتكسَ انْقَلَبَ على رأسِه بعدَ أَنْ سقَطَ).
قوله: ((وإذا شِيكَ)) أي: أصابتْهُ شَوْكةٌ ((فَلا انْتَقَش)) قال أبو السعاداتِ: (أي: إذا شاكتهُ شوكةٌ؛ فلا يَقْدِرُ على انتقَاشِها، وهو إخراجُها بالمِنْقاشِ).
وقال الحافظُ: (أي: إذا دخَلَتْ فيه شوكةٌ لم يَجِدْ من يُخْرِجُها بالمِنقاشِ).
قال: (وفي
الدعاءِ عليهِ بذلكَ إشارةٌ إلى عكسِ مقصودِه؛ لأنَّ مَن عَثَرَ فدخَلَتْ
في رِجْلِهِ الشوكةُ، فلمْ يَجِدْ مَن يُخْرِجُها يَصِيرُ عاجِزًا عن
السعيِ والحركةِ في تحصيلِ مصالحِ الدنيا).
فإن قيل: لِمَ سَمَّاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدَ الدينارِ والدرهمِ؟
وهو قولُه: ((تَعِسَ وَانْتَكَس وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَش))
وهذه حالُ مَن أصابَهُ شرٌّ لم يَخْرُجْ منهُ ولم يُفلِحْ لكونِهِ تَعِسَ
وانتَكَسَ، فلا نالَ المطلوبَ، ولا خَلُصَ من المكروهِ، وهذه حالُ مَنْ
عبدَ المالَ.
وقد وُصِفَ ذلكَ بأنَّهُ إنْ أُعطِيَ رضِيَ وإنْ مُنِعَ سَخِطَ كما قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة:59]
فرضاهم لغيرِ اللهِ، وسَخَطُهم لغيرِ اللهِ، وهكذا حالُ مَن كانَ
مُتَعَلِّقًا برئاسةٍ أو بصورةٍ، أو نحوِ ذلك من أهواءِ نفسِهِ إنْ حصَلَ
له رَضِيَ، وإن لم يَحْصُلْ له سَخِطَ، فهذا عبدُ ما يَهْوَاهُ مِن ذلك،
وهو رَقيقٌ له؛ إذ الرِّقُّ والعبوديةُ في الحقيقةِ هو رِقُّ القلبِ
وعبوديتُه، فما استرقَّ القلبَ واستعبده فهو عبدُه) إلى أَنْ قالَ: (وهكذا أيضًا طالبُ المالِ فإنَّ ذلك يَسْتَعْبِدُه ويَسْتَرِقُّه.
وهذه الأمورُ نوعانِ:
ومنهَا:
ما لا يحتاجُ إليه العبدُ، فهذه ينبغي أَنْ لا يُعَلِّقَ قلبَهُ بها، فإذا
تعَلَّقَ قلبُه بها صارَ مُسْتَعْبَدًا لها وربما صارَ مُسْتَعْبَدًا
مُعْتَمِدًا على غيرِ اللهِ فيها، فلا يَبْقَى معهُ حقيقةُ العبوديةِ للهِ،
ولا حقيقةُ التوكُّلِ عليه، بل فيهِ شعبةٌ مِنَ العبادةِ لغيرِ اللهِ،
وشعبةٌ من التوكُّلِ على غيرِ اللهِ، وهذا مِنْ أحقِّ الناسِ بقولِهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَتَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَميلَة))وهذا هو عبدٌ لهذهِ الأمورِ، ولو طَلبهَا مِنَ اللهِ، فإنَّ اللهَ إذا أعطاهُ إيَّاهُ رضِيَ، وإن منَعهُ إياهَا سَخِطَ.
وإنما عبدُ اللهِ مَنْ يُرْضِيه ما يُرْضِي اللهَ، ويُسْخِطُه ما يُسْخِطُ
اللهَ، ويُحِبُّ ما أحَبَّ اللهُ ورسولُه، ويَبْغَضُ ما أبْغَضَ اللهُ
ورسولُه، ويُوالِي أولياءَ اللهِ، ويُعادِي أعداءَ اللهِ، فهذا الذي
اسْتَكْمَلَ الإيمانَ)
قولُهُ: ((طُوبَى لِعَبْدٍ)) قال أبو السعاداتِ: (طُوبَى اسمُ الجنةِ).
ثُمَّ قَالَ الأَعْرَابيُّ: وَفِيها فَاكِهَةٌ؟
قَالَ: ((نَعَمْ، وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى)) الحديثَ.
قالَ الزَّجَّاجُ: في قولِه: ((طُوبَى لهمُ)) معناهُ: (العيشُ الطيِّبُ).
وقالَ ابنُ الأنباريِّ: (الحالُ المستطابَةُ لهم؛ لأنَّه (فُعْلَى) من الطيبِ).
قولُهُ: ((آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)) أي: في طريقِ الجهادِ.
قولُه: ((أَشْعَثَ رَأْسُهُ))
هو بنصبِ أشعثَ صفةٌ لعبدٍ؛ لأنّهُ غيرُ مصروفٍ للصفةِ ووزنِ الفعلِ،
ورأسُه مرفوعٌ على الفاعليةِ لأشعثَ وهو مُغَبَّرُ الرأسِ، وفيه فضلُ
إصابةِ الغُبارِ في سبيلِ اللهِ.
قولُه: ((مُغْبَرَّةً قَدَمَاهُ)) هو كأشعثَ في الإعرابِ، والمرادُ به كثرةُ الغُبارِ له في سبيلِ اللهِ لكثرةِ جهادِه ومُصابرتِه.
قولُه: ((إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ)) قال بعضُهم: هو بكسرِ الحاءِ، أي: حمايةِ الجيشِ ومحافظتِهم عن أنْ يَهْجِمَ عليهم عدوُّهم.
قولُه: ((كَانَ فِي الحِرَاسَةِ)) أي: امتثلَ غيرَ مُقَصِّرٍ فيها بالنومِ والغفلةِ ونحوِهِمَا.
قولُه: ((وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ)) أَيْ: إنْ جُعِلَ في مُؤَخِّرَةِ الجيشِ صارَ فيها ولزِمَها.
وقال ابنُ الجوزيِّ: (المعنى: أنه خامِلُ الذكرِ، لا يَقْصِدُ السُّمُوَّ، فأَيُّ موضعٍ اتَّفَقَ له كانَ فيهِ).
وقال الخلخَاليُّ: (المعنى
ائتمارُهُ لما أُمِرَ، وإقامتُه حيثُ أُقِيم لا يُفْقَدُ من مكانِه، وإنما
ذَكَر الحِراسةَ والساقةَ؛ لأنهما أشدُّ مشقَّةً وأكثرُ آفةً).
قولُه: ((إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ))
أي: إنِ استأذنَ على الأمراءِ ونحوِهِم لم يَأْذَنوا له؛ لأنَّهُ ليسَ بذي
جاهٍ ولا يَقْصِدُ بعملِه الدنيا فيَطْلُبَها منهم، ويَتَرَدَّدَ إليهم
لأجلِها بل هو مُخْلِصٌ للهِ.
قولُهُ: ((وَإِنْ شَفَعَ))
بفتحِ أولهِ وثانيهِ مبنيٌّ للفاعلِ، ويُشَفَّعُ بتشديدِ الفاءِ، مبنيٌّ
للمفعولِ، والمرادُ واللهُ أعلمُ أَنَّهُ لا يَشْفَعُ عندَ الملوكِ
ونحوِهم، لعدمِ جاهِه عندَهُم، وعلى تقديرِ شفاعتِه إنْ شَفَعَ لم
يُشَفَّعْ، بل يَرُدُّون شفاعَتَه.
قال بعضُهم: قيلَ: إنَّ هذا إشارةٌ إلى عدمِ التفاتِهِ إلى الدنيا وأربابِها
بحيثُ لا يبتغي مالاً ولا جاهًا عندَ الناسِ، بل يكونُ عندَ اللهِ وجيهًا،
ولم يَقْبَل الناسُ شفاعتَه، ويكونُ عندَ اللهِ شفيعًا مُشَفَّعًا، كما في
الحديثِ الذي رواه أحمدُ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ مرفوعًا: ((رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ)).
وقال الحافظُ: (فيه تركُ حبِّ الرئاسةِ والشهرةِ، وفضلُ الخمولِ والتواضعِ).
قلتُ: (وفيهِأَنَّ هذه الأمورَ ونحوَهَا لا تكونُ لِهوانِ المؤمنِ على اللهِ بل لكرامتِه.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (5)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى: (بَابُ مِنَ الشِّرْكِ إِرَادَةُ الإِنْسَانِ بَعَمَلِهِ الدُّنْيا) فإنْ قِيلَ: فَمَا الفرقُ بينَ هذه الترجمةِ وبينَ ترجمةِ البابِ قَبْلَهُ؟ قلتُ:
بَيْنَهُمَا عمومٌ وخصوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعَانِ في مادَّةٍ، وهوَ إذا
أَرَادَ الإنسانُ بِعَمَلِهِ التَّزَيُّنَ عندَ الناسِ والتَّصَنُّعَ لهم
والثناءَ، فهذا رِيَاءٌ كما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، كحالِ المنافقِينَ، وهو
أيضًا إرادةُ الدنيا بالتَّصَنُّعِ عندَ الناسِ، وطَلَبِ المِدْحةِ منهم
والإكرامِ، ويُفَارِقُهُ الرياءُ بكونِهِ عَمِلَ عملاً صالحًا أَرَادَ بهِ
عَرَضًا من الدنيا، كَمَنْ يُجَاهِدُ لِيَأْخُذَ مالاً، كما في الحديثِ: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ)) أوْ يُجَاهِدُ لِلْمَغْنَمِ، أوْ غيرِ ذلكَ من الأمورِ التي ذَكَرَهَا شَيْخُنَا عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيرِهِ من المُفَسِّرِينَ في مَعْنَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}[هود: 15]. وأمَّا الرياءُ فقدْ يَعْرِضُ لهُ في عملٍ دونَ عملٍ، ولا يَسْتَرْسِلُ مَعَهُ، والمؤمنُ يكونُ حَذِرًا منْ هذا وهذا. (6) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى: وقَوْلُهُ تَعالى: {مَن
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَـئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود: 15 - 16]. النوعُ الرابعُ:
أنْ يَعْمَلَ بطاعةِ اللهِ مُخْلِصًا في ذلكَ للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ
لهُ، لكنَّهُ على عَمَلٍ يُكَفِّرُهُ كُفْرًا يُخْرِجُهُ عن الإسلامِ، مثلَ
اليهودِ والنصارَى إذا عَبَدُوا اللهَ، أوْ تَصَدَّقُوا أوْ صَامُوا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ والدارِ الآخرةِ، ومِثْلَ كثيرٍ منْ هذهِ
الأُمَّةِ الذينَ فيهم كُفْرٌ أوْ شِرْكٌ أكبرُ يُخْرِجُهُم من الإسلامِ
بالكُلِّيَّةِ، إذا أَطَاعُوا اللهَ طاعةً خالصةً يُرِيدُونَ بها ثوابَ
اللهِ في الدارِ الآخرةِ، لكنَّهُم على أعمالٍ تُخْرِجُهُم من الإسلامِ،
وَتَمْنَعُ قَبُولَ أعمالِهِم، فهذا النوعُ أيضًا قدْ ذُكِرَ في هذهِ
الآيةِ عنْ أنسِ بنِ مالكٍ وغيرِهِ، وكانَ السَّلَفُ يَخَافُونَ منها. ثُمَّ قالَ: (بَقِيَ
أنْ يُقَالَ: إذا عَمِلَ الرجلُ الصلواتِ الخمسَ والزكاةَ والصومَ والحجَّ
ابْتِغَاءَ وجهِ اللهِ، طَالِبًا ثوابَ الآخرةِ، ثمَّ بَعْدَ ذلكَ عَمِلَ
أعمالاً قَاصِدًا بها الدنيا، مِثْلَ أنْ يَحُجَّ فَرْضَهُ للهِ، ثمَّ
يَحُجَّ بَعْدَهُ لأَِجْلِ الدنيا كما هوَ واقعٌ، فَهُوَ لِمَا غَلَبَ
عليهِ مِنْهُمَا. (7) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في (الصَّحيحِ) عَنْ أَبي هُريْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعِسَ
عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ
الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وِإنْ
لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإذا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ،
طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللهِ، أَشْعَثَ
رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كانَ فِي الحِرَاسَةِ كانَ فِي
الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كانَ فِي السَّاقَةِ كانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ
اسَتأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ))). والمُرَادُ: أنَّ
مَنْ كانتْ هذهِ حالَهُ فإنَّهُ يَسْتَحِقُّ أنْ يُدْعَى عليهِ بِمَا
يَسُوءُهُ في العواقبِ، ومَنْ كانتْ هذهِ حالَهُ فلا بُدَّ أنْ يَجِدَ
أَثَرَ هذهِ الدَّعَوَاتِ في الوقوعِ فيما يَضُرُّهُ في عاجلِ دُنْيَاهُ
وَآجِلِ أُخْرَاهُ. إلى أنْ قالَ: (وهكذا أَيْضًا طالبُ المالِ، فإنَّ ذلكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ، وهذهِ الأمورُ نَوْعَانِ: ومنها: ما لا يَحْتَاجُ إليهِ العبدُ،
فهذا يَنْبَغِي أنْ لا يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بها فإذا تَعَلَّقَ قلبُهُ بها
صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا، ورُبَّمَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا وَمُعْتَمِدًا
على غيرِ اللهِ فيها، فلا يَبْقَى معهُ حقيقةُ العبوديَّةِ للهِ ولا حقيقةُ
التَّوَكُّلِ عليهِ، بلْ فيهِ شُعْبَةٌ من العبادةِ لغيرِ اللهِ، وشعبةٌ
من التَّوَكُّلِ على غيرِ اللهِ، وهذا مِنْ أَحَقِّ الناسِ بقولِهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَميلَةِ))
وهذا هوَ عبدٌ لهذه الأمورِ، ولوْ طَلَبَهَا من اللهِ، فإنَّ اللهَ إذا
أَعْطَاهُ إِيَّاهَا رَضِيَ، وإنْ مَنَعَهُ إِيَّاهَا سَخِطَ، وإنَّمَا
عَبْدُ اللهِ مَنْ يُرْضِيهِ ما يُرْضِي اللهَ، وَيُسْخِطُهُ ما يُسْخِطُ
اللهَ، وَيُحِبُّ ما أَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَبْغَضُ ما أَبْغَضَ
اللهُ ورسولُهُ، وَيُوَالِي أولياءَ اللهِ، وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللهِ،
فهذا الذي اسْتَكْمَلَ الإيمانَ) انْتَهَى مُلَخَّصًا. وقيلَ: هيَ شجرةٌ فيها، وَيُؤَيِّدُ هذا: ما رَوَى ابنُ وَهْبٍ بِسَنَدِهِ عنْ أبي سعيدٍ: قَالَ رَجُلٌ: (يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طُوبَى؟) قَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَمَا طُوبَى؟ قولُهُ: ((آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللهِ)) أيْ: في جهادِ المُشْرِكِينَ. وفيهِ: فَضْلُ الحِرَاسَةِ في سبيلِ اللهِ. قولُهُ: ((إن اسَتأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ))
أيْ: إذا اسْتَأْذَنَ على الأمراءِ ونَحْوِهِم لم يُؤْذَنْ لهُ؛ لأنَّهُ
لا جَاهَ لهُ عندَهُم ولا منزلةَ؛ لأنَّهُ ليسَ منْ طُلاَّبِهَا. وإِنَّمَا
يَطْلُبُ ما عندَ اللهِ لا يَقْصِدُ بِعَمَلِهِ سِوَاهُ. يـَا عـَابـِدَ الـْحَرَمَيـْنِ لوْ أَبـْصَرْتَنَا لـَعـَلـِمْتَأَنَّكَ في الـْعـِبَادَةِ تَلـْعَبُ قالَ: (فَلَقِيتُ الفُضَيْلَ بنَ عِيَاضٍ بِكِتَابِهِ في المسجدِ الحرامِ فَلَمَّا قَرَأَ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ: (صَدَقَ أبو عبدِ الرحمنِ وَنَصَحَنِي). فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أَضْعَفُ مِنْ أَنْ أَسْتطِيعَ ذَلِكَ) ((فَوالَّذي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ طُوِّقْتَ ذَلِكَ مَا بَلَغْتَ فَضْلَ
المُجَاهِدينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ فَرَسَ المُجَاهِدِ
لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فيُكْتَبُ لَهُ بِذَلِكَ حَسَنَاتٌ؟)).
وَأَرَادَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِهَذِهِ الترجمةِ وما بَعْدَهَا:
أنَّ العملَ لأجلِ الدنيا شِرْكٌ يُنَافِي كمالَ التوحيدِ الواجبِ،
ويُحْبِطُ الأعمالَ، وهوَ أعظمُ من الرياءِ؛ لأنَّ مُرِيدَ الدنيا قدْ
تَغْلِبُ إرادتُهُ تلكَ على كثيرٍ منْ عَمَلِهِ.
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، أيْ: ثَوَابَهَا. {وَزِينَتَهَا} أيْ: مَالَهَا، {نُوَفِّ} نُوَفِّرْ لَهُم ثوابَ أعمالِهِم بالصحَّةِ والسرورِ في المالِ والأهلِ والوَلَدِ، {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} لا يُنْقَصُونَ، ثمَّ نَسَخَتْهَا: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ}[الإسراء: 18] الآيةَ، رَوَاهُ النَّحَّاسُ في (ناسِخِهِ).
قولُهُ: ((ثُمَّ نَسَخَتْهَا)) أيْ: قَيَّدَتْهَا فلم تَبْقَ الآيةُ على إِطْلاَقِهَا.
وقالَ قَتَادَةُ:
(يقولُ: مَنْ كَانَت الدُّنْيَا هَمَّهُ وَطَلِبَتَهُ وَنِيَّتَهُ
جَازَاهُ اللهُ بِحَسَنَاتِهِ في الدنيا، ثمَّ يُفْضِي إلى الآخرةِ وليسَ
لهُ حسنةٌ يُعْطَى بها جَزَاءً، وأمَّا المُؤْمِنُ فيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ
في الدنيا، وَيُثَابُ عليها في الآخرةِ) ذَكَرَهُ ابنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ.
ثمَّ سَاقَ حديثَ أبي هُرَيْرَةَ عن ابنِ المُبَارَكِ عنْ حَيْوَةَ بنِ شُرَيحٍ قالَ: حَدَّثَنِي الوليدُ بنُ أبي الوليدِ أبو عُثْمَانَ أنَّ عُقْبَةَ بنَ مُسْلِمٍ حَدَّثَهُ (أنَّ شُفَيَّ بنَ مَاتِعٍ الأَصْبَحِيَّ حَدَّثَهُ أنَّهُ دَخَلَ المَدِينَةَ فإذا هوَ بِرَجُلٍ قد اجْتَمَعَ عليهِ الناسُ، فقالَ: مَنْ هذا؟
فَقَالُوا: أبو هُرَيْرَةَ، فَدَنَوْتُ منهُ حتَّى قَعَدْتُ بينَ يَدَيْهِ، وهو يُحَدِّثُ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلاَ.
قُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا
سَمِعْتَهُ منْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلْتَهُ
وَعَلِمْتَهُ.
فقالَ أبو هُرَيْرَةَ:
أَفْعَلُ، لأَُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رسولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا البيتِ ما فيهِ أحدٌ غَيْرِي وغيرُهُ.
ثمَّ نَشَغَ أبو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً.
ثمَّ أَفَاقَ.
فقالَ: لأَُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا البيتِ ما فيهِ أَحَدٌ غيري وَغَيْرُهُ.
ثمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى.
ثمَّ مَالَ خَارًّا على وَجْهِهِ، وَاشْتَدَّ بهِ طويلاً.
ثمَّ أَفَاقَ.
فقالَ: حَدَّثَنِي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ
اللهَ تَبارَكَ وتَعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَزَلَ إِلى
القِيَامَةِ؛ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جاثِيةٌ، فَأَوَّلُ
مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ
اللهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المالِ، فَيَقُولُ اللهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ
أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟
قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ.
قَالَ: فَمَاذا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟
قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهارِ. فَيقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلائِكَةُ: كَذَبْتَ.
وَيَقُولُ اللهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلانٌ قارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ.
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إلى أَحَدٍ؟
قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيما آتَيْتُكَ؟
قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأتَصَدَّقُ.
فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلائِكَةُ: كَذَبْتَ،
وَيَقُولُ اللهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ، فَقَدْ
قِيلَ ذَلِكَ.
وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبيلِ اللهِ، فَيُقالُ لَهُ: فَيمَاذَا قُتِلْتَ؟
فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ في سبيلِكَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ.
وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: كَذَبْتَ.
وَيَقُولُ اللهُ لهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقالَ: فُلانٌ جَرِيءٌ.
فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيَّ.
فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولئِكَ الثَّلاثةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بِهمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ)).
وقدْ سُئِلَ شَيْخُنَاالمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عنْ هذهِ الآيةِ؟
فَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ: (ذُكِرَ عن السَّلَفِ فيها أَنْوَاعٌ مِمَّا يَفْعَلُهُ الناسُ اليومَ، ولا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ.
فمِن ذلكَ:
العملُ الصالحُ الذي يَفْعَلُهُ كثيرٌ من الناسِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ:
مِنْ صدَقةٍ وصلاةٍ، وصِلَةٍ وإحسانٍ إلى الناسِ، وتَرْكِ الظلمِ، ونحوِ
ذلكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الإنسانُ أوْ يَتْرُكُهُ خَالِصًا للهِ، لكنَّهُ لا
يُرِيدُ ثوابَهُ في الآخرةِ، إِنَّمَا يُرِيدُ أنْ يُجَازِيَهُ اللهُ
بِحِفْظِ مالِهِ وَتَنْمِيَتِهِ، أوْ حِفْظِ أهلِهِ وَعِيَالِهِ، أوْ
إِدَامَةِ النِّعْمَةِ عليهم، ولا هِمَّةَ لهُ في طَلَبِ الجنَّةِ
والهَرَبِ من النارِ، فهذا يُعْطَى ثَوَابَ عَمَلِهِ في الدنيا، وليسَ لهُ
في الآخرةِ نَصِيبٌ، وهذا النوعُ ذَكَرَهُ ابنُ عَبَّاسٍ.
النوعُ الثاني:
وهو أكبرُ من الأَوَّلِ وَأَخْوَفُ، وهوَ الذي ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ في
الآيةِ: أنَّهَا نَزَلَتْ فيهِ: وهوَ أنْ يَعْمَلَ أَعْمَالاً صَالِحَةً
ونِيَّتُهُ رِيَاءُ الناسِ، لا طَلَبُ ثوابِ الآخرةِ.
النوعُ الثالثُ:
أنْ يَعْمَلَ أَعْمَالاً صَالِحَةً يَقْصِدُ بها مَالاً، مثلَ أنْ يَحُجَّ
لِمَالٍ يأخذُهُ أوْ يُهَاجِرَ لدنيا يُصِيبُهَا، أو امْرَأَةٍ
يَتَزَوَّجُهَا، أوْ يُجَاهِدَ لأجلِ المَغْنَمِ، فقدْ ذُكِرَ أيضًا هذا
النوعُ في تفسيرِ هذهِ الآيةِ، وكما يَتَعَلَّمُ الرجلُ لأجلِ مدرسةِ
أَهْلِهِ أوْ مَكْسَبِهِم أوْ رِيَاسَتِهِم، أوْ يَتَعَلَّمُ القرآنَ
وَيُوَاظِبُ على الصلاةِ لأجلِ وظيفةِ المسجدِ، كَمَا هوَ واقعٌ كثيرًا.
قالَ بعضُهُم: (لوْ أَعْلَمُ أنَّ اللهَ تَقَبَّلَ مني سَجْدَةً واحدةً لَتَمَنَّيْتُ المَوْتَ؛ لأنَّ اللهَ يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]).
وقدْ قالَ بعضُهُم: القرآنُ كَثِيرًا ما يَذْكُرُ أهلَ الجَنَّةِ
الْخُلَّصَ وأَهْلَ النارِ الخُلَّصَ، وَيَسْكُتُ عنْ صاحبِ
الشائِبَتَيْنِ، وهوَ هذا وأمثالُهُ) انتهَى.
قولُهُ: (في (الصَّحيحِ)) أيْ: (صحيحِ البخاريِّ).
قولُهُ: ((تَعِسَ)) هوَ بِكَسْرِ العَيْنِ، وَيَجُوزُ الفتحُ، أيْ: سَقَطَ، والمرادُ هنا: هَلَكَ، قالَهُ الحافظُ، وقالَ في موضعٍ آخرَ: (وهوَ ضِدُّ سَعِدَ: أيْ: شَقِيَ).
وقالَ أبو السَّعَادَاتِ: (يُقَالُ: تَعَسَ يَتْعَسُ: إذا عَثَرَ وَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ، وهوَ دعاءٌ عليهِ بالهلاكِ).
قولُهُ: ((عَبْدُ الدِّينارِ)) هوَ المعروفُ من الذهبِ كالمِثْقَالِ في الوزنِ، زِنَتُهُ دِرْهَمٌ وثُمُنُ دِرْهَمٍ.
قولُهُ: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ))
وهوَ مِن الفِضَّةِ، قدَّرَهُ الفقهاءُ بالشَّعِيرِ وَزْنًا، وعندَنَا
منهُ دِرْهَمٌ منْ ضَرْبِ بَنِي أُمَيَّةَ وَهُوَ زِنَةُ خَمْسِينَ حَبَّةً
شَعِيرًا وَخُمْسَا حَبَّةٍ، سَمَّاهُ عَبْدًا لهُ؛ لِكَوْنِهِ هوَ
المقصودَ بِعَمَلِهِ، فكلُّ مَنْ تَوَجَّهَ بقصدِهِ لغيرِ اللهِ فقدْ
جَعَلَهُ شَرِيكًا لهُ في عُبُودِيَّتِهِ كما هوَ حالُ الأكثرِ.
قولُه: ((تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ)) قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (هو
ثَوْبُ خَزٍّ، أو صُوفٍ مُعَلَّمٍ رَقِيقٍ، لا تُسَمَّى خَمِيصَةً إلا أن
تَكُونَ سَوْدَاءَ مُعَلَّمَةً، وتُجْمَعُ على خَمَائِصَ، والخَمِيلَةُ
بفتحِ الخاءِ المُعْجَمَةِ).
قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (ذاتُ الخَمْلِ، ثيابٌ لها خَمْلٌ مِن أيِّ شَيءٍ كانَ).
قولُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)) قالَ الحافظُ: (هوَ بالمُهْمَلَةِ، أيْ: عَاوَدَهُ المَرَضُ).
وقالَ أبو السَّعَادَاتِ: (أي: انْقَلَبَ على رأسِهِ، وهوَ دعاءٌ عليهِ بالخَيْبَةِ).
قالَ الطِّيبِيُّ: (فيهِ التَّرَقِّي بالدعاءِ عليهِ؛ لأنَّهُ إذا تَعِسَ انْكَبَّ على وَجْهِهِ، وإذا انْتَكَسَ انْقَلَبَ على رأسِهِ بعدَ أنْ سَقَطَ).
قولُهُ: ((وَإذا شِيكَ)) أيْ: أَصَابَتْهُ شَوْكَة، ((فَلا انْتَقَشَ)) أيْ: (فلا يَقْدِرُ على إِخْرَاجِهَا بِالْمِنْقَاشِ) قالَهُ أبو السَّعَادَاتِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ: (فَسَمَّاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدَ الدينارِ والدرهمِ وَعَبْدَ القَطِيفَةِ وعبدَ الخَمِيصَةِ.
وَذَكَرَ فيهِ ما هوَ دعاءٌ بلفظِ الخبرِ، وهوَ قولُهُ: ((تَعِسَ وانْتَكَسَ، وَإذا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ))وهذهِ
حالُ مَنْ إذا أَصَابَهُ شَرٌّ لم يَخْرُجْ منهُ ولم يُفْلِحْ؛ لِكَوْنِهِ
تَعِسَ وانْتَكَسَ، فلا نَالَ المطلوبَ، ولا خَلُصَ من المَكْرُوهِ، وهذهِ
حالُ مَنْ عَبَدَ المالَ.
وقدْ وُصِفَ ذلكَ بأنَّهُ ((إِنْ أُعطِي رَضِيَ، وِإنْ لَمْ مُنِعَ سَخِطَ))كَمَا قالَ تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة:58]،
فَرِضَاؤُهُم لغيرِ اللهِ وسُخْطُهُم لغيرِ اللهِ، وهكذا حالُ مَنْ كانَ
مُتَعَلِّقًا منها بِرِيَاسَةٍ أوْ صُورَةٍ ونحوِ ذلكَ منْ أهواءِ
نَفْسِهِ، إنْ حَصَلَ لهُ رَضِيَ، وإنْ لم يَحْصُلْ لهُ سَخِطَ، فهذا عبدُ
ما يَهْوَاهُ مِنْ ذلكَ، وهوَ رَقِيقٌ لهُ؛ إذ الرِّقُّ والعبوديَّةُ في
الحقيقةِ هوَ رِقُّ القلبِ وعبوديَّتُهُ، فما اسْتَرَقَّ القلبَ
واسْتَعْبَدَهُ فهوَ عبدُهُ).
فمنها:ما يَحْتَاجُ إليهِ العبدُ،
كما يَحْتَاجُ إلى طعامِهِ وشرابِهِ وَمَنْكَحِهِ وَمَسْكَنِهِ ونحوِ
ذلكَ، فهذا يَطْلُبُ من اللهِ وَيَرْغَبُ إليهِ فيهِ، فيكونُ المالُ عندَهُ
يَسْتَعْمِلُهُ في حاجتِهِ بمنزلةِ حِمَارِهِ الذي يَرْكَبُهُ، وَبسَاطِهِ
الذي يَجْلِسُ عليهِ، منْ غَيْرِ أنْ يَسْتَعْبِدَهُ فيكونَ هَلُوعًا.
قولُهُ: ((طُوبَى لِعَبْدٍ)) قالَ أبو السَّعَادَاتِ: ((طُوبَى) اسمُ الجَنَّةِ).
قَالَ: ((شجَرةٌ في الجَنَّةِ مَسِيرَةُ مَائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا))وَرَوَاهُ الإمامُ أحمدُ، حَدَّثَنَا حسنُ بنُ مُوسَى: سَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ أبو السَّمْحِ: أنَّ أبا الهيثمِ، حَدَّثَهُ عنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّ رَجُلاً قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِكَ.
قال: ((طوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي ولَمْ يَرَنِي))
قَالَ: ((شَجَرةٌ فِي الجَنَّةِ مَسِيرَةُ مَائَةِ عَامٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ، تَخْرُجُ مِنْ أكْمَامِهَا)).
وَلَهُ شواهدُ في (الصَّحِيحَيْنِ) وَغَيْرِهِمَا، وقدْ رَوَى ابنُ جريرٍ عنْ وهبِ بنِ مُنَبِّهٍ هَهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا، قالَ وهبٌ رَحِمَهُ اللهُ: (إنَّ
في الجَنَّةِ شَجَرَةً يُقَالُ لَهَا طُوبَى، يَسِيرُ الرَّاكِبُ في
ظِلِّهَا مِائَةَ عامٍ لا يَقْطَعُهَا: زَهْرُهَا رِيَاطٌ، وَوَرَقُهَا
بُرُودٌ، وَقُضْبَانُهَا عَنْبَرٌ، وَبَطْحَاؤُهَا يَاقُوتٌ، وَتُرَابُهَا
كَافُورٌ، وَوَحْلُهَا مِسْكٌ، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارُ الخمرِ
واللبنِ والعسلِ، وهيَ مَجْلِسٌ لأهلِ الجنَّةِ، بَيْنَمَا هم في
مَجْلِسِهم إذْ أَتَتْهُم ملائكةٌ منْ رَبِّهِم يَقُودُونَ نُجُبًا
مَزْمُومَةً بسلاسلَ منْ ذهبٍ، وُجُوهُهَا كالمصابيحِ منْ حُسْنِهَا،
وَوَبَرُهَا كَخَزِّ المِرْعَزَّى منْ لِينِهِ، عَلَيْهَا رِحَالٌ
أَلْوَاحُهَا منْ يَاقُوتٍ، وَدُفُوفُهَا منْ ذَهَبٍ، وَثِيَابُهَا منْ
سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، فَيُنِيخُونَهَا وَيَقُولُونَ: إنَّ رَبَّنَا
أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ لِتَزُورُوهُ وَتُسَلِّمُوا عَلَيْهِ.
قَالَ: فَيَرْكَبُونَهَا.
قَالَ: فَهِيَ أَسْرَعُ مِنَ الطَّائِرِ، وَأَوْطَأُ مِنَ الْفِرَاشِ،
نُجُبًا منْ غَيْرِ مِهْنَةٍ، يَسِيرُ الرَّاكِبُ إِلَى جَنْبِ أَخِيهِ،
وَهُوَ يُكَلِّمُهُ وَيُنَاجِيهِ، لاَ تُصِيبُ أُذُنُ رَاحِلَةٍ مِنْهَا
أُذُنَ صَاحِبَتِهَا، وَلاَ وَرِكُ رَاحِلَةٍ وَرِكَ صَاحِبَتِهَا، حتَّى
إِنَّ الشَّجرَةَ لَتَنْتَحِي عَنْ طَرِيقِهِمْ لِئَلاَّ تُفَرِّقَ بَيْنَ
الرَّجُلِ وَأَخِيهِ، قَالَ: فَيَأْتُونَ إِلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَيُسْفِرُ لَهُمْ عَنْ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَيْهِ.
فَإِذَا رَأَوْهُ قَالُوا: اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ، وَحَقٌّ لَكَ الجَلاَلُ وَالإِكْرَامُ.
قَالَ: فَيَقُولُ تَبَارَكَ اللهُ وَتَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ: أَنَا
السَّلاَمُ وَمِنِّيَ السَّلاَمُ وَعَلَيْكُمْ حَقَّتْ رَحْمَتِي
وَمَحَبَّتِي، مَرْحَبًا بِعِبَادِيَ الَّذِينَ خَشُونِي بِالْغَيْبِ
وَأَطَاعُوا أَمْرِي.
قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا إِنَّا لَمْ نَعْبُدْكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ،
وَلَمْ نُقَدِّرْكَ حَقَّ قَدْرِكَ، فَائْذَنْ لَنَا بِالسُّجُودِ
قُدَّامَكَ.
قَالَ: فَيَقُولُ اللهُ تعالى: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ نَصَبٍ وَلاَ
عِبَادَةٍ، وَلَكِنَّهَا دَارُ مُلْكٍ وَنَعِيمٍ، وَإِنِّي قَدْ رَفَعْتُ
عَنْكُمْ نَصَبَ الْعِبَادَةِ، فَسَلُونِي مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّ لِكُلِّ
رَجُلٍ مِنْكُمْ أُمْنِيَّتَهُ فَيَسْأَلُونَهُ، حَتَّى إِنْ أَقْصَرَهُم
أُمْنِيَّةً لَيَقُولُ: رَبِّي، تَنَافَسَ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي
دُنْيَاهُمْ فَتَضَايَقُوا، رَبِّ فَآتِنِي مثلَ كُلِّ شَيْءٍ كَانُوا
فِيهِ مِنْ يَوْمَ خَلَقْتَهَا إِلَى أَنِ انْتَهَتِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ
اللهُ تَعَالَى: لَقَدْ قَصَرَتْ بِكَ الْيَوْمَ أُمْنِيَّتُكَ، وَلَقَدْ
سَأَلْتَ دُونَ مَنْزِلَتِكَ، هَذَا لَكَ مِنِّي وَسَأُتْحِفُكَ
بِمَنْزِلَتِي؛ لأِنَّهُ لَيْسَ فِي عَطَائِي نَكَدٌ وَلاَ قِصَرُ يَدٍ.
قَالَ: ثمَّ يَقُولُ: اعْرِضُوا عَلَى عِبَادِي مَا لَمْ تَبْلُغْ أَمَانِيُّهُمْ وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ.
قَالَ: فَيَعْرِضُونَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقْصُرَ بِهِمْ أَمَانِيُّهُمُ
الَّتِي فِي أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ فِيمَا يَعْرِضُونَ عَلَيْهِمْ
بَرَاذِينُ مُقَرَّنَةٌ، عَلَى كُلِّ أَرْبَعَةٍ مِنْهَا سَرِيرٌ منْ
يَاقُوتَةٍ وَاحِدَةٍ. عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ مِنْهَا قُبَّةٌ منْ ذَهَبٍ
مُفَرَّغَةٌ.
فِي كُلِّ قُبَّةٍ مِنْهَا فَرْشٌ منْ فَرْشِ الْجَنَّةِ مُظَاهَرَةٌ، فِي
كُلِّ قُبَّةٍ مِنْهَا جَارِيَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، عَلَى كُلِّ
جَارِيَةٍ مِنْهُنَّ ثَوْبَانِ منْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ في
الجنَّةِ لَوْنٌ إلاَّ وَهُوَ فِيهِمَا، وَلاَ رِيحٌ طَيِّبٌ إلاَّ قدْ
عَبِقَ بِهِمَا، يَنْفُذُ ضَوْءُ وُجُوهِهِمَا غِلَظَ الْقُبَّةِ، حَتَّى
يَظُنَّ مَنْ يَرَاهُمَا أَنَّهُمَا دُونَ القُبَّةِ، يَرَى مُخَّهُمَا
مِنْ فَوْقِ سُوقِهِمَا كَالسِّلْكِ الأَبْيَضِ في يَاقُوتَةٍ حمراءَ،
يَرَيَانِ لهُ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى صَحَابَتِهِ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى
الْحِجَارَةِ أوْ أَفْضَلَ.
وَيَرَى لَهُمَا مثلَ ذلكَ، ثمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا فَيُحَيِّيَانِهِ
وَيُقَبِّلاَنِهِ وَيُعَانِقَانِهِ وَيَقُولاَنِ لهُ: واللهِ مَا ظَنَنَّا
أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ مِثْلَكَ.
ثمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى الْمَلاَئِكَةَ فَيَسِيرُونَ بِهِمْ صَفًّا
فِي الْجَنَّةِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى
مَنْزِلَتِهِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ).
وقدْ رَوَى هذا الأثرَ ابنُ أبي حاتمٍ بِسَنَدِهِ عنْ وهبِ بنِ مُنَبِّهٍ، وَزَادَ: (فَانْظُرُوا
إِلَى مَوَاهِبِ رَبِّكُمُ الَّذِي وَهَبَ لَكُمْ، فَإِذَا بِقِبَابٍ فِي
الرَّفِيقِ الأَعْلَى، وَغُرَفٍ مَبْنِيَّةٍ مِن الدُّرِّ وَالْمَرْجَانِ،
أَبْوَابُهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَسُرُرُهَا مِنْ يَاقُوتٍ، وَفُرُشُهَا منْ
سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، وَمَنَابِرُهَا مِنْ نُورٍ.
يَفُورُ منْ أَبْوَابِهَا وَعِرَاصِهَا نُورٌ مثلُ شُعَاعِ الشَّمْسِ،
عِنْدَهُ مِثْلُ الكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ فِي النَّهَارِ المُضِيءِ، وَإِذَا
بِقُصُورٍ شَامِخَةٍ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ مِن اليَاقُوتِ يَزْهُوها
نُورُهَا؛ فَلَوْلاَ أَنَّهُ مُسَخَّرٌ إِذًا لاَلْتَمَعَ الأَبْصَارَ،
فَمَا كانَ منْ تلكَ القصورِ من الياقوتِ الأبيضِ فهوَ مفروشٌ بالحريرِ
الأبيضِ، وما كانَ مِنها مِن الياقوتِ الأخْضَرِ فهو مَفْرُوشٌ
بالسُّنْدُسِ الأَخْضَرِ، ومَا كانَ منها من الياقوتِ الأصفرِ فهو مفروشٌ
بالأُرْجُوَانِ الأصفرِ، مُبَوَّبَةٌ بالزُّمُرُّدِ الأَخْضَرِ والذهبِ
الأحمرِ والفِضَّةِ البيضاءِ، قَوَائِمُهَا وَأَرْكَانُهَا من الجوهرِ،
وَشُرَفُهَا قِبَابٌ منْ لُؤْلُؤٍ، وَبُرُوجُهَا غُرَفٌ من المَرْجَانِ.
فَلَمَّا انْصَرَفُوا إلى ما أَعْطَاهُم رَبُّهُم، قُرِّبَتْ لهم
بَرَاذِينُ منْ يَاقُوتٍ أبيضَ، مَنْفُوخٌ فيها الرُّوحُ، تَحْتَهَا
الوِلْدَانُ المُخَلَّدُونَ، بِيَدِ كُلِّ وَلِيدٍ منهم حَكَمَةُ بِرْذَونٍ
منْ تلكَ البَرَاذِينِ، وَلُجُمُهَا وَأَعِنَّتُهَا منْ فِضَّةٍ بيضاءَ
مَنْظُومَةٍ بالدُّرِّ والياقوتِ، سُرُوجُها سُرُرٌ مَوْضُونَةٌ مفروشةٌ
بالسُّنْدُسِ والإِسْتَبْرَقِ.
فَانْطَلَقَتْ بهم تلكَ البراذينُ تَزُفُّ بهم، يَنْظُرُونَ رِيَاضَ
الجنَّةِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إلى منازلِهِم وَجَدُوا الملائكةَ قُعُودًا
على منابرَ منْ نورٍ، يَنْتَظِرُونَهُم لِيَزُورُوهُم وَيُصَافِحُوهُم
وَيُهَنِّئُوهُم كرامةَ رَبِّهِم، فَلَّمَا دَخَلُوا قُصُورَهُم وَجَدُوا
فيها جميعَ ما تَطَاوَلَ بهِ عليهم، وما سَأَلُوا وتَمَنَّوْا.
وإذا على بابِ كلِّ قصرٍ منْ تلكَ القصورِ أربعُ جِنَانٍ:
- جَنَّتَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ.
- وَجَنَّتَانِ مُدْهَامَّتَانِ.
- وَفِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ.
- فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فاكهةٍ زَوْجَانِ، وَحُورٌ مَقْصُورَاتٌ في
الخِيَامِ، فَلَمَّا تَبَوَّأُوا مَنَازِلَهُم وَاسْتَقَرُّوا قَرَارَهُم
قالَ لهم رَبُّهُم: فهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟
قَالُوا: نَعَمْ وَرَبِّنَا.
قالَ: هلْ رَضِيتُم ثوابَ رَبِّكُمْ؟
قالوا: رَبَّنَا رَضِينَا فَارْضَ عَنَّا.
قالَ: فَبِرِضَائِي عَنْكُم أَحْلَلْتُكُم دَارِي وَنَظَرْتُم إلى وَجْهِي،
فعندَ ذلكَ قالوا: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا
فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر:34،35]) وهذا سياقٌ غريبٌ وَأَثَرٌ عجيبٌ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ في (الصَّحِيحَيْنِ).
وقالَ خالدُ بنُ مَعْدَانَ: (إنَّ
في الجنَّةِ شَجَرَةً يُقَالُ لها طُوبَى، ضُرُوعٌ كُلُّهَا، تُرْضِعُ
صِبْيَانَ أَهْلِ الجنَّةِ، وَإِنَّ سِقْطَ المَرْأَةِ يَكُونُ في نهرٍ منْ
أَنْهَارِ الجَنَّةِ يَتَقَلَّبُ فيهِ حتَّى تَقُومَ القيامةُ، فَيُبْعَثُ
ابنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) رَوَاهُ ابنُ أبي حاتمٍ.
قولُهُ: ((أَشْعَثَ)) مَجْرُورٌ بالفتحةِ؛ لأنَّهُ اسمٌ لا يَنْصَرِفُ للوصفِ وَوَزْنِ الفعلِ، وَ((رَأْسُهُ)) مَرْفُوعٌ على الفاعليَّةِ، وهوَ طائرُ الشَّعْرِ، أشْغَلَهُ الجهادُ في سبيلِ اللهِ عن التَّنَعُّمِ بالادِّهَانِ وتسريحِ الشعرِ.
قولُهُ: ((مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ)) هُوَ بالجَرِّ صِفَةٌ ثانيةٌ لِعَبْدٍ.
قولُهُ: ((إِنْ كانَ فِي الحِرَاسةِ)) هوَ بِكَسْرِ الحاءِ، أيْ: حمايةِ الجيشِ عنْ أنْ يَهْجِمَ العدوُّ عَلَيْهِم.
قولُهُ: ((كَانَ فِي الحِرَاسَةِ)) أيْ: غيرَ مُقَصِّرٍ فيها ولا غافلٍ، وهذا اللفظُ يُسْتَعْمَلُ في حقِّ مَنْ قامَ بالأمرِ على وجهِ الكمالِ.
قولُهُ: ((وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كانَ فِي السَّاقَةِ))
أيْ: في مُؤَخِّرَةِ الجيشِ، أي: يُقَلِّبُ نَفْسَهُ في مصالحِ الجهادِ،
فَكُلُّ مَقَامٍ يقومُ فيهِ، إنْ كانَ لَيْلاً أوْ نَهَارًا؛ رَغْبَةً في
رِضا اللهِ وَطَلَبًا لثوابِهِ وَمَحَبَّةً لِطَاعَتِهِ.
قالَ ابنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: (وهوَ خاملُ الذكرِ لا يَقْصِدُ السُّمُوَّ).
وقالَ الخَلْخَالِيُّ: (المَعْنَى
ائْتِمَارُهُ بِمَا أُمِرَ، وَإِقَامَتُهُ حَيْثُ أُقِيمَ، لا يُفْقَدُ
مِنْ مكانِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الحِرَاسَةَ وَالسَّاقَةَ؛ لأَِنَّهُمَا
أَشَدُّ مَشَقَّةً) انْتَهَى.
قولُهُ: ((وإِنْ شَفَعَ)) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ.
قولُه: ((لَمْ يُشَفَّعْ))
بِفَتْحِ الفاءِ مُشَدَّدَةً، يَعْنِي: لوْ أَلْجَأَتْهُ الحالُ إلى أنْ
يَشْفَعَ في أمرٍ يُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ لم تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ عِنْدَ
الأمراءِ وَنَحْوِهِم.
وَرَوَى الإمامُ أحمدُ ومسلمٌ عنْ أبي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأََبَرَّهُ)).
قالَ الحافظُ: (فيهِ تَرْكُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ والشُّهْرَةِ، وفَضْلُ الخمولِ والتَّوَاضُعِ) انْتَهَى.
ورَوَى الإمامُ أحمدُ أَيْضًا عنْ مُصْعَبِ بنِ ثَابِتٍ، أن عبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ قالَ: قالَ عثمانُ وهوَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ: ((إِنِّي
مُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ
إِلاَّ الظَّنُّ بِكُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقولُ: ((حَرْسُ لَيْلَةٍ في سَبِيلِ اللهِ أفْضَلُ مِنْ ألْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا وَيُصَامُ نَهَارُهَا)).
ورَوَى الحافظُ ابنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عبدِ اللهِ بنِ المُبَارَكِ: قالَ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ قاضي نَصِيبِينَ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ أبي سُكَيْنَةَ أنَّهُ أَمْلَى عليهِ عبدُ اللهِ بنُ المُبَارَكِ هذهِ الأبياتَ بطَرَسُوسَ وَوَاعَدَهُ الخُرُوجَ، وَأَنْفَذَهَا معهُ إلى الفُضَيْلِ بنِ عِيَاضٍ في سنةِ سَبْعٍ وسَبْعِينَ ومائةٍ، قالَ:
مـَنْ كَانْ يَخْضِبُ خَدَّهُ بِدُمُوعِهِ فـَنـُحـُورُنــَابـِدِمـَائِنــَا تَتَخَضَّبُ
أَوْكـَانَ يـُتـْعـِبُ خَيـْلَهُ فِي بَاطِلٍ فـَخـُيـُولـُنَايـَوْمَ الـصَّبِيـحَةِ تَتْعَبُ
رِيـحُالْعَبِيـرِ لَكُمْ، وَنَحـْنُ عَبِيـرُنَا رَهَجُ السَّنَابِكِوالغُبَارُ الأَطْيَب
ولـَقـَدْأَتـَانـَا مـِنْ مــَقــَالِ نــَبِيِّنـــَا قـَوْلٌ صـَحيحٌ صَادِقٌ لاَ يَكْذِبُ
لايـَسـْتَوِي وغُبَارُ خَيـْلِ اللهِ فِي أَنـْفِ امـْرِئٍ وَدُخـَانُ نــَارٍ تَلْهَبُ
هـَذَا كـِتـَابُ الـلــهِ يـَنـْطِقُ بـَيـْنَنَا لـَيـْسَالـشَّهِيدُ بِمَيِّتٍ لاَ يَكْذِبُ
ثمَّ قالَ: (أَنْتَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الحَدِيثَ؟)
قُلْتُ: (نَعَمْ)
قالَ لي: (اكْتُبْ هذا الحديثَ)، وَأَمْلَى عَلَيَّ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بنُ المُعْتَمِرِ، عنْ أبي صالحٍ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ: ((أَنَّ رَجُلاً قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي عَمَلاً أَنَالُ بِهِ ثَوَابَ الْمُجاهِدينَ فِي سَبِيلِ اللهِ)
فَقَالَ: ((هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُصَلِّيَ فَلاَ تَفْتُرُ، وَتَصُومَ فَلا تُفْطِرُ؟))
ثُمَّ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (وأمَّا العملُ لأجلِ الدنيَا وتحصيلِ أغراضِها،
فإنْ كانَتْ إرادةُ العبدِ كُلُّها لهذا القصدِ ولم يكنْ له إرادةٌ لوجهِ اللهِ والدَّارِ الآخرةِ، فهذا ليس له في الآخرةِ مِن نصيب، وهذا العملُ على هذا الوصفِ لا يَصْدُرُ مِن مؤْمنٍ، فَإنَّ المؤمنَ ولو كانَ ضعيفَ الإِيمانِ لا بدَّ أنْ يريدَ اللهَ والدارَ الآخِرَةَ.
وأمَّا مَن عَمِلَ العَمَلَ لوجْهِ اللهِ ولأجلِ الدنيا،
والقصدان متساويان أو متقارِبان، فهذا وإن كانَ مؤمِنًا فإنَّه ناقِصُ
الإِيمانِ والتوحيدِ والإِخلاصِ، وَعَمَلُه ناقِصٌ؛ لِفَقْدِهِ كمالَ
الإِخلاصِ. وأمَّا مَن عَمِلَ للهِ وحدَه وأَخْلَصَ في عملِه إِخْلاَصًا تامًّا، ولكنَّه يأخذُ على عملِه جُعْلاً ومَعْلومًا يستعينُ به على العملِ والدينِ؛ كالجُعالاتِ التي تُجْعَلُ على أعمالِ الخيرِ، وكالمجاهدِ الذي يترتَّبُ على جهادِه غنيمةٌ أو رِزْقٌ، وكالأوقافِ التي
تُجعَلُ على المساجدِ، والمدارسِ، والوظائفِ الدينيَّةِ لِمَن يقومُ بها،
فهذا لا يَضُرُّ أَخْذُهُ في إيمانِ العبدِ وتوحيدِه؛ لكونِه لم يُرِدْ
بعملِه الدنيا، وإنما أرادَ الدينَ، وَقَصَدَ أن يكونَ ما حصلَ له مُعينًا
لَه على قيامِ الدينِ.
وَلِهذا جَعَلَ اللهُ في الأموالِ الشرعيَّةِ، كالزكواتِ وأموالِ الفيءِ
وغيرِها جزءًا كبيرًا لِمَنْ يقومُ بالوظائفِ الدينيَّةِ، والدنيويَّةِ
النافِعَةِ، كما قَد عُرِفَ تفاصيلُ ذلك.
فهذا التفصيلُ يُبَيِّنُ لك حُكمَ هذه المسألةِ كبيرةِ الشأنِ، ويُوجِبُ لك أن تُنْزِلَ الأمورَ منازِلَها، واللهُ أعلمُ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (11) قولُهُ: (مِن الشِّرْكِ) (منْ) للتَّبْعِيضِ؛ أيْ: بعضُ الشركِ.
قولُهُ: (الدُّنيا) مفعولٌ بـ(إرادةُ)؛ لأنَّ (إرادةُ) مصدرٌ
مُضَافٌ إلى فاعلٍ، وإذا أردْتَ أنْ تعرفَ المصدرَ إنْ كانَ مضافًا إلى
فاعلِهِ أوْ مفعولِهِ، فحَوِّلْهُ إلى فعلٍ مُضَارعٍ مَقْرُونٍ بأنْ،
فإذا قُلْنَا: بابُ من الشِّركِ أنْ يُرِيدَ الإنسانُ بعملِهِ الدُّنْيَا،
فالإنسانُ فاعلٌ، وعلى هذا؛ فـ(إرادةُ) مصدرٌ مضافٌ إلى فاعلِهِ، والدُّنيا
مفعولٌ بِهِ.
وعنوانُ البابِ لهُ ثلاثةُ احتمالاتٍ: الأوَّلُ: أنْ يكونَ مُكَرَّرًا معَ ما قَبْلَهُ، وهذا بَعِيدٌ أنْ يَكْتُبَ المُؤَلِّفُ ترجمتَيْنِ مُتَتابعتَيْنِ لمعنًى واحدٍ. الثالثُ: أنْ يكونَ هذا البابُ نوعًا مُسْتَقِلاَّ عن البابِ الذي قَبْلَهُ، وهذا هوَ الظاهرُ؛ لأنَّ الإنسانَ في البابِ السابقِ يعملُ رياءً يُرِيدُ
أنْ يُمْدَحَ في العبادةِ فَيُقَالُ: هوَ عابدٌ. ولا يُرِيدُ النفعَ
المادِّيَّ. تنبيهٌ: فإنْ قيلَ: هلْ يَدْخُلُ فيهِ مَنْ يتَعَلَّمُونَ في الكُلِّيَّاتِ أوْ غيرِها يُرِيدُونَ شهادةً أوْ مَرْتَبَةً بتعَلُّمِهِم؟ فالجوابُ: أنَّهم يدْخُلُونَ في ذلكَ إذا لمْ يُرِيدُوا غَرَضًا شرعيًّا، فنقولُ لَهُمْ: (12) قَوْلُهُ تَعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: البقاءَ في الدُّنيا. قالَ: (يا رسولَ اللهِ، كِسْرَى وَقَيْصَرُ يعِيشانِ فيما يعِيشانِ فيهِ مِنْ نعيمٍ، وأنتَ على هذهِ الحالِ) ((أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ)). وفي الحقيقةِ
هيَ ضَرَرٌ عليهِمْ؛ لأنَّهم إذا انْتَقَلُوا مِنْ دارِ النعيمِ إلى
الجحيمِ صارَ عليْهِم أشدَّ وأعظمَ في فَقْدِ ما مُتِّعُوا بهِ في
الدُّنْيا. {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}البَخْسُ: النقصُ؛ أيْ: لا يُنْقَصُونَ مِمَّا يُجَازَوْنَ فيهِ؛ لأنَّ اللهَ عَدْلٌ لا يَظْلِمُ، فيُعْطَوْنَ ما أَرَادُوهُ. - قولُهُ: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ}
فيهِ حَصْرٌ، وطريقُهُ النفيُ والإثباتُ، وهذا يعني أنَّهم لنْ يدْخُلُوا
الجَنَّةَ؛ لأنَّ الذي ليسَ لَهُ إلاَّ النَّارُ مَحْرُومٌ من الجنَّةِ،
والعياذُ باللهِ.
- قولُهُ: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، {باطلٌ} خبرٌ مُقَدَّمٌ لأَجْلِ مُرَاعاةِ الفواصلِ في الآياتِ، والمبتدأُ {ما} في قولِهِ: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فأَثْبَتَ اللهُ أنَّهُ ليسَ لهؤلاءِ إلاَّ النَّارُ، وأنَّ ما صَنَعُوا في الدُّنْيَا قَدْ حَبِطَ، وأنَّ أعمالَهُمْ باطلةٌ.
أمَّا آيَةُ الإسراءِ فهيَ خاصَّةٌ، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} ولا يُمْكِنُ أنْ يُحْكَمَ بالأعمِّ على الأخصِّ. فقيلَ: نَزَلَتْ في الكُفَّارِ؛
لأنَّ الكافِرَ لا يُرِيدُ إلاَّ الحياةَ الدُّنيا، ويدلُّ على هذا
سياقُها والجزاءُ المُرَتَّبُ على هذا. وعليهِ يكونُ وجْهُ مُنَاسَبَتِها
للترجمةِ أنَّهُ إذا كانَ عملُ الكافرينَ يُرَادُ بهِ الدُّنيا، فكلُّ مَنْ
شاركَهُمْ في شيءٍ منْ ذلكَ ففيهِ شيءٌ منْ شِرْكِهِم وكُفْرِهِمْ. وقيلَ: نَزَلَتْ فيمَنْ يُرِيدُ مالاً بعملِهِ الصالحِ. والسياقُ يَدُلُّ للقولِ الأوَّلِ؛ لقولِهِ تعالى: {أُولَـئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [هود:16]. (13) قولُهُ: ((تَعِسَ)) بفتحِ العينِ أوْ كسْرِهَا؛ أيْ: خابَ وهَلَكَ. ويُقالُ في عَبْدِ الدِّرْهَمِ ما قيلَ في عبدِ الدينار، والدِّرْهَمُ هوَ: النقدُ مِن الفضَّةِ، وزِنَةُ الدرهمِ الإسلاميِّ سبعةُ أعشارِ المِثْقَالِ، فكلُّ عَشَرَةِ دراهمَ سبعةُ مثاقيلَ. وقيلَ: إنَّ طُوبَى شجرةٌ في الجنَّةِ، والأوَّلُ أعمُّ، كما قالُوا في (وَيْلٍ): كلمةُ وعيدٍ. وللجُمْلَتَيْنِ مَعْنَيَانِ: الأول: أنَّهُ لا يُبَالِي أينَ وُضِعَ،
إنْ قيلَ لهُ: احْرُسْ، حرَسَ. وإنْ قيلَ لهُ: كُنْ في الساقَةِ، كانَ
فيها. فلا يطْلُبُ مرتبةً أعلى مِنْ هذا المحلِّ، كمُقَدَّمِ الجيشِ مثلاً.
وقد قسَّم الحديث الناسَ إلى قسميْنِ: الأوَّلُ: من ليسَ لهُ هَمٌّ إلاَّ الدُّنْيَا؛ إمَّا لتحصيلِ المالِ، أوْ لتجميلِ الحالِ، فقد استَعْبَدَتْ قَلْبَهُ حتَّى أشْغَلَتْهُ عنْ ذِكْرِ اللهِ وعبادتِهِ. (14) فيهِ مَسائِلُ: الأولى: (إِرادةُ الإنسانِ الدُّنيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ)
وهذا مِن الشركِ؛ لأنَّهُ جعلَ عملَ الآخرةِ وسيلةً لعملِ الدُّنيا،
فيطغَى على قلبِهِ حُبُّ الدُّنيا حتَّى يُقَدِّمَها على الآخرةِ.
والحَزْمُ والإخلاصُ أنْ يجعلَ عملَ الدُّنيا للآخرةِ. (15) الثانيَةُ: (تَفْسيرُ آيَةِ هودٍ) وقدْ سبقَ ذلكَ. (16) الثالثةُ: (تَسمِيَةُ الإنسانِ الْمُسلِمِ عَبْدَ الدِّينارِ والدِّرْهَمِ وَالْخَمِيصَةِ)
وهذهِ العُبُودِيَّةُ لا تَدْخُلُ في الشِّركِ ما لمْ يَصِلْ بها إلى حدِّ
الشركِ، ولكنَّها نَوْعٌ آخَرُ يُخِلُّ بالإخلاصِ؛ لأنَّهُ جَعَلَ في
قلبِهِ مَحَبَّةً زاحَمَتْ مَحَبَّةَ اللهِ عزَّ وجلَّ ومَحَبَّةَ أعمالِ
الآخرةِ. (17) الرابعةُ: (تَفْسيرُ ذلِكَ بأَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ) هذا تفسيرٌ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((عَبْدُ الدِّينَارِ))،((عَبْدُ الدِّرْهَمِ))، ((عَبْدُ الْخَمِيصَةِ))، ((عَبْدُ الْخَمِيلَةِ))، ((إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ)) وهذهِ علامةُ عُبُودِيَّتِهِ لهذهِ الأشياءِ أنْ يكونَ رِضَاهُ وسَخَطُهُ تابعًا لهذهِ الأشياءِ. (18) الخامسةُ: قولُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)). (19) السادِسةُ: قولُهُ: ((وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)) يُحتَمَلُ أنْ تكونَ الجُمَلُ الثلاثُ خبرًا أوْ دُعاءً. وسبقَ شرْحُ ذلكَ. (20) السابعةُ: (الثَّناءُ علَى الْمُجاهِدِ الْمَوصوفِ بِتِلْكَ الصِّفاتِ) فقولُهُ في الحديثِ: ((طُوبَى لِعَبْدٍ...)) يدُلُّ على الثناءِ عليهِ، وأنَّهُ هوَ الذي يسْتَحِقُّ أنْ يُمْدَحَ، لا أصحابُ الدراهمِ والدنانيرِ وأصحابُ الفُرُشِ والمراتبِ.
الثاني: أنْ يكونَ البابُ الذي قَبْلَهُ أخَصَّ منْ هذا البابِ؛ لأنَّهُ خاصٌّ في الرياءِ، وهذا أعمّ، وهذا مُحْتَمَلٌ.
وفي هذا البابِ لا يُرِيدُ أنْ يُمْدَحَ بعبادتِهِ ولا يُرِيدُ
المُرَاءَاةَ، بلْ يَعْبُدُ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ ولكنَّهُ يُرِيدُ شيئًا
من الدنيا؛ كالمالِ والمَرْتَبَةِ والصحَّةِ في نفسِهِ وأهلِهِ وولدِهِ،
وما أشبهَ ذلكَ.
فهوَ يُرِيدُ بعملِهِ نفعًا في الدنيا غافلاً عنْ ثوابِ الآخرةِ، كَمَنْ
أذَّنَ لِيَأْخُذَ راتبَ المؤذِّنِ، أوْ حجَّ ليَأْخُذَ المالَ، أو تعلَّمَ
في كُلِّيَّةٍ ليأخذَ الشهادةَ فتَرْتَفِعُ مَرْتَبتُهُ، أو تعبَّدَ للهِ
كيْ يُجْزِيَهُ اللهُ بهذا في الدُّنيا بمحَبَّةِ الخلقِ لَهُ، ودفعِ
السوءِ عنهُ، وما أشبهَ ذلكَ.
أوَّلاً: لا تقْصِدُوا بذلكَ المرتبةَ الدُّنْيَوِيَّةَ،
بل اتَّخِذُوا هذهِ الشهاداتِ وسيلةً للعملِ في الحقولِ النافعةِ للخلقِ؛
لأنَّ الأعمالَ في الوقتِ الحاضرِ مَبْنِيَّةٌ على الشهاداتِ، والناسُ لا
يستطيعونَ الوصولَ إلى منفعةِ الخلقِ إلاَّ بهذهِ الوسيلةِ، وبذلكَ تكونُ
النِّيَّةُ سليمةً.
ثانيًا: أنَّ مَنْ أرادَ العِلْمَ لذاتِهِ قدْ لا يَجِدُهُ إلاَّ في الكُلِّيَّاتِ، فيدخلُ الكُلِّيَّةَ أوْ نحْوَها لهذا الغرضِ، وأمَّا بالنسبةِ للمرتبةِ فإنَّها لا تَهُمُّهُ.
ثالثًا: أنَّ الإنسانَ إذا أرادَ بعملِهِ الحُسْنَيَيْنِ؛ حُسْنَى الدُّنْيَا وحُسْنَى الآخرةِ، فلا شيءَ عليهِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فَرَغَّبَهُ في التَّقْوَى بذكرِ المَخْرَجِ منْ كُلِّ ضيقٍ، والرزقِ منْ حيثُ لا يحْتَسِبُ.
قولُهُ: {وَزِينَتَهَا} أي: المالَ والبنينَ والنساءَ والحرثَ والأنعامَ والخيلَ المُسَوَّمَةَ، كما قالَ اللهُ تعالى: {زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا}.
قولُهُ: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} فعلٌ مضارعٌ مُعْتَلُّ الآخِرِ مجزومٌ بحذفِ حرفِ العلَّةِ الياءِ؛ لأنَّهُ جوابُ الشرطِ.
والمعنى: أنَّهم يُعْطَوْنَ ما يُرِيدونَ في الدُّنْيَا، ومِنْ ذلكَ
الكُفَّارُ لا يَسْعَوْنَ إلاَّ للدُّنيا وزينتِهَا؛ ولذلكَ عُجِّلَتْ لهمْ
طيِّبَاتُهُمْ في حياتِهم الدنيا، كمَا قالَ تعالى: {وَيَوْمَ
يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ
فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}.
ولهذا لمَّا بَكَى عُمَرُ حينَ رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ الفراشُ، فقالَ: ((مَا يُبْكِيكَ؟))
فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
قولُهُ:
- قولُهُ: {أُولَئِكَ} المشارُ إليهِ الذينَ يُرِيدُونَ الحياةَ الدُّنيا وزينتَهَا.
- وقولُهُ تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} مَخْصُوصَةٌ بقولِهِ تعالى: {مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}.
فإنْ قيلَ: لماذا لا نجعلُ آيَةَ هُودٍ حاكمةً على آيَةِ الإسراءِ، ويكونُ
اللهُ تَوَعَّدَ مَنْ يُرِيدُ العاجلةَ في الدنيا أنْ يجعلَ لهُ ما يشاءُ
لِمَنْ يُرِيدُ، ثمَّ وعدَ أنْ يُعْطِيَهُ ما يشاءُ؟
أُجِيبُ: أنَّ هذا المعنى لا يستقيمُ لأمرَيْنِ:
الثاني: أنَّ الواقعَ يَشْهَدُ على ما تَدُلُّ عليهِ آيَةُ الإسراءِ؛
لأنَّ في فُقَرَاءِ الكُفَّارِ مَنْ هوَ أَفْقَرُ منْ فُقَرَاءِ
المسلمينَ؛ فيكونُ عمومُ آيَةِ هودٍ مخصوصًا بآيَةِ الإسراءِ، فالأمرُ
مَوْكُولٌ إلى مشيئةِ اللهِ، وفيمَنْ يُرِيدُهُ.
واخْتُلِفَ فيمَنْ نَزَلَتْ فيهِ آيَةُ هودٍ:
وقيلَ: نَزَلَتْ في المُرَائِينَ؛ لأنَّهمْ لا يعْمَلُونَ إلاَّ للدُّنيا، فلا ينفعُهُم يومَ القيامةِ.
قولُهُ: ((عَبْدُ الدِّينَارِ)) الدِّينارُ هوَ: النَّقْدُ من الذهبِ، والدينارُ الإسلاميُّ زِنَتُهُ مِثْقَالٌ.
وسمَّاهُ عبدَ الدينارِ؛ لأنَّهُ تعلَّقَ بهِ تعلُّقَ العبدِ بالرَّبِّ، فكانَ أكبرَ هَمِّهِ، وقدَّمَهُ على طاعةِ ربِّهِ.
وقدْ أرادَ المُؤَلِّفُ بهذا الحديثِ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ مِن الناسِ مَنْ
يَعْبُدُ الدنيا؛ أيْ: يتَذَلَّلُ لها ويخضَعُ لها، وتكونُ مُنَاهُ
وغايتَهُ، فيَغْضَبُ إذا فُقِدَتْ، ويَرضَى إذا وُجِدَتْ. ولهذا سَمَّى
النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَنْ هذا شأنُهُ عبدًا لهَا، وهذا مَنْ
يُعْنَى بجمعِ المالِ مِن الذهبِ والفضَّةِ؛ فيكونُ مُرِيدًا بعمَلِهِ
الدُّنيا.
قولُهُ: ((تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ))
وهذا مَنْ يُعْنَى بمظهرِهِ وأثاثِهِ؛ لأنَّ الخميصةَ كساءٌ جميلٌ،
والخميلةَ فِرَاشٌ وَثِيرٌ، ليسَ لهُ هَمٌّ إلاَّ هذا الأمر، فإذا كانَ
عابدًا لهذهِ الأمورِ؛ لأنَّهُ صرَفَ لها جُهُودَهُ وهِمَّتَهُ، فكيفَ
بمَنْ أرادَ بالعملِ الصالحِ شيئًا من الدُّنيا فجعلَ الدينَ وسيلةً
للدُّنيا؟! فهذا أعظمُ.
قولُهُ: ((إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ))
يُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المُعْطِي هُوَ اللهَ، فيكونُ الإعطاءُ قَدَرِيًّا؛
أيْ: إنْ قَدَّرَ اللهُ لَهُ الرزقَ والعطاءَ رَضِيَ وانْشَرَحَ صَدْرُهُ،
وإنْ مُنِعَ وحُرِمَ المالَ سَخِطَ بقلبِهِ وقولِهِ، كأنْ يقولَ: لماذا
كُنْتُ فقيرًا وهذا غنيًّا؟ وما أشبهَ ذلكَ، فيكونُ ساخطًا على قضاءِ اللهِ
وقَدَرِهِ؛ لأنَّ اللهَ مَنَعَهُ، واللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى يُعطِي
ويمنعُ لحكمةٍ، ويُعْطِي الدُّنيا لمَنْ يُحِبُّ ومَنْ لا يُحِبُّ، ولا
يُعْطِي الدِّينَ إلاَّ لمَنْ يُحِبُّ.
والواجبُ على المؤمنِ أنْ يَرْضَى بقضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ؛ إنْ أُعْطِيَ شَكَرَ، وإنْ مُنِعَ صَبَر،
ويُحْتَمَلُ أنْ يُرَادَ بالإعطاءِ هنا الإعطاءُ الشرعيُّ؛ أيْ: إنْ
أُعْطِيَ مِنْ مالٍ يستَحِقُّهُ من الأموالِ الشرعيَّةِ رَضِيَ، وإنْ لمْ
يُعْطَ سَخِطَ، وكِلا المعنييْنِ حقٌّ، وهما يدُلاَّنِ على أنَّ هذا الرجلَ
لا يَرْضَى إلاَّ للمالِ، ولا يَسْخَطُ إلاَّ لَهُ؛ ولهذا سمَّاهُ الرسولُ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عبدًا لهُ.
قولُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)) تَعِسَ: أيْ خابَ وهلَكَ، وانْتَكَسَ: أي انْتَكَسَتْ عليهِ الأمورُ بحيثُ لا تَتَيَسَّرُ لهُ.
فكُلَّمَا أرادَ شيئًا انقَلَبَتْ عليهِ الأمورُ خلافَ ما يُرِيدُ، ولهذا قالَ:((وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)) أيْ: إذا أصابَتْهُ شوكةٌ فلا يستطيعُ أنْ يُزِيلَ ما يُؤْذِيهِ عنْ نفسِهِ.
وهذهِ الجملُ الثلاثُ يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ خَبرًا منهُ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ عنْ حالِ هذا الرجلِ، وأنَّهُ في تعاسةٍ وانتكاسٍ وعدمِ خلاصٍ من
الأذى، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ مِنْ بابِ الدعاءِ على مَنْ هذهِ حالُهُ؛
لأنَّهُ لا يَهْتَمُّ إلاَّ للدُّنيا، فَدَعا عليهِ أنْ يَهْلِكَ، وأنْ لا
يُصِيبَ من الدُّنيا شيئًا، وأنْ لا يتمَكَّنَ مِنْ إزالةِ ما يُؤْذِيهِ،
وقدْ يَصِلُ إلى الشِّرْكِ عندَما يصُدُّهُ ذلكَ عنْ طاعةِ اللهِ، حتَّى
أصبحَ لا يرضَى إلاَّ للمالِ، ولا يسخَطُ إلاَّ لَهُ.
قولُهُ: ((طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)) هذا عكسُ الأوَّلِ، فهوَ لا يهْتَمُّ للدُّنيا، وإنَّما يهتمُّ للآخرةِ، فهوَ في استعدادٍ دائمٍ للجهادِ في سبيلِ اللهِ.
و((طُوبَى))
(فُعْلَى) من الطِّيبِ، وهيَ: اسمُ تفضيلٍ؛ فَـ(أَطْيَبُ) للمُذَكَّرِ،
و(طُوبَى) للمُؤَنَّثِ، والمعنى: أَطْيَبُ حالٍ تكونُ لهذا الرجلِ.
وقيلَ: وادٍ في جهنَّمَ، والأوَّلُ أعمُّ.
وقولُهُ: ((آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ)) أيْ: مُمْسِكٍ بمِقْوَدِ فرسِهِ الذي يُقَاتِلُ عليهِ.
قولُهُ:((فِي سَبِيلِ اللهِ)) ضابطُهُ: أنْ يُقَاتِلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العُلْيَا، لا للْحَمِيَّةِ أو الوطنيَّةِ أوْ ما أشْبَهَ ذلكَ.
لكنْ إنْ قاتلَ وطنِيَّةً وقَصَدَ حمايَةَ وطنِهِ لكونِهِ بلدًا إسلاميًّا
يَجِبُ الذَّوْدُ عنهُ؛ فهوَ في سبيلِ اللهِ. وكذلكَ مَنْ قاتلَ دفاعًا عنْ
نفسِهِ أوْ مالِهِ أوْ أهلِهِ؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
قالَ: ((مَنْ قَاتَلَ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ)).
فأمَّا مَنْ قاتلَ للوطنيَّةِ المَحْضَةِ فليسَ في سبيلِ اللهِ، لأنَّ هذا
قتالُ عصبيَّةٍ يستوي فيهِ المؤمنُ والكافرُ، فإنَّ الكافِرَ يُقَاتِلُ منْ
أجلِ وطنِهِ.
قولُهُ: ((أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ))
أيْ: رَأْسُهُ أَشْعَثُ مِن الغُبَارِ في سبيلِ اللهِ، فهوَ لا يَهْتَمُّ
بحالِهِ ولا بَدَنِهِ ما دامَ هذا الأمرُ ناتجًا عنْ طاعةِ اللهِ عزَّ
وجلَّ، وقدَمَاهُ مُغْبَرَّةٌ من السيرِ في سبيلِ اللهِ، وهذا دليلٌ على
أنَّ أهمَّ شيءٍ عندَهُ هوَ الجهادُ في سبيلِ اللهِ، أمَّا أنْ يكونَ
شعرُهُ أوْ ثوبُهُ أوْ فِرَاشُهُ نظيفًا فليسَ لهُ هَمٌّ فيهِ.
قولُهُ: ((إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ فَهُوَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ فَهُوَ فِي السَّاقَةِ)) الحراسةُ والساقةُ ليْسَتْ مِنْ مُقَدَّمِ الجيشِ، فالحراسةُ أنْ يحْرُسَ الإنسانُ الجيشَ، والساقةُ أنْ يكونَ في مُؤَخِّرَتِهِ.
الثاني: إنْ كانَ في الحراسةِ أدَّى حقَّها، وكذا
إنْ كانَ في السَّاقَةِ. والحديثُ صالحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَيُحْمَلُ
عليهما جميعًا إذا لمْ يكُنْ بينَهُما تعارضٌ، ولا تعارُضَ هُنَا.
قولُهُ: ((إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ))
أيْ: هوَ عندَ الناسِ ليسَ لهُ جاهٌ ولا شرفٌ، حتَّى إنَّهُ إن استأذنَ
لمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وهكذا عندَ أهلِ السُّلْطَةِ ليسَ لَهُ مرتبةٌ، فإنْ
شَفَعَ لمْ يُشَفَّعْ، ولكنَّهُ شفيعٌ عندَ اللهِ، ولهُ المنزلةُ
العاليَةُ؛ لأنَّهُ يُقَاتِلُ في سبيلِهِ.
والشفاعةُ: هيَ التوسُّطُ للغيرِ بجَلْبِ منفعةٍ أوْ دَفْعِ مضرَّةٍ، والاستئذانُ طلبُ الإذنِ بالشيءِ.
الثاني: أكبرُ هَمِّهِ الآخرةُ، فهوَ يسعى لها في أعلى ما يكونُ مشقَّةً، وهوَ الجهادُ في سبيلِ اللهِ، ومعَ ذلكَ أدَّى ما يجبُ عليهِ مِنْ جميعِ الوُجُوهِ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: ( هذا الباب، باب عظيم من أبواب هذا الكتاب، ترجمه الإمام -رحمه الله- بقوله: (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا).
(من الشرك)
يعني: الشرك الأصغر، أنْ يريد الإنسان (بعمله) بأعماله التي يعملها من الطاعات الدنيا، ولا يريد بها الآخرة؛ وإرادة الإنسان الدنيا، يعني: ثواب الدنيا: أعمّ من حال الرياء.
فالرياء حالة واحدة من أحوال إرادة الإنسان الدنيا؛
فهو يصلي، أو يزيد، ويزيّن في صلاته؛ لأجل الرؤيا، ولأجل المدح؛ لكن هناك أحوال أُخَر لإرادة الناس بأعمالهم الدنيا.
فلهذا عطف الشيخ -رحمه الله- هذا الباب
على الذي قبله؛ ليبيّن أنَّ إرادة الإنسان الدنيا تأتي في أحوال كثيرة أعمّ
من حال الرّياء بخاصة؛ لكن الرياء جاء فيه الحديث، وخافه النبي -عليه
الصلاة والسلام- على أمّته، فهو في وقوعه كثير، والخوف منه جَلَل؛ وهذا
الباب اشتمل على الحكم بأنَّ إرادة الإنسان بعمله الدنيا: مِنَ الشرك.
وقوله: (إرادة الإنسان) يعني: أن يعمل العمل وفي (إرادته) بعَثَهُ على العمل ثواب الدنيا؛ فهذا من الشرك بالله جل جلاله، وسيأتي تفصيل أحوال ذلك.
قال: (وقول الله تعالى: {مَن
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَـئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}) هذه الآية - آية سورة هود - مخصوصة بقوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} فهي مخصوصة بمن شاء الله جل وعلا.
قال هنا: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}
يعني: ممَّن أراد الله -جل وعلا- له ذلك، وممَّن شاءه الله، فهذا العموم
الذي هنا مخصوص بآية الإسراء، وآية سورة الشورى؛ الذين يريدون الحياة
الدنيا أصلاً وقصداً، وتحركاً: هم الكفار؛ ولهذا نزلت هذه الآية في
الكفّار؛ لكن لفظها يشمل كل مَنْ أراد الحياة الدنيا بعمله الصالح.
ولهذا جمع الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالة له: أحوال الناس فيما قال السلف تفسيراً لهذه الآية؛ وجعل كلام السلف يتناول أربعة أنواع من الناس، كلهم يدخل في هذا الوعيد.
النوع الأول: ممّن
ركبوا هذا الشرك الأصغر، وأرادوا بعملهم الحياة الدنيا، أنه يعمل العمل
الصالح، وهو فيه مخلص لله جل وعلا؛ ولكن يريد به ثواب الدنيا، ولا يريد به
ثواب الآخرة.
مثلاً: يعمل يتعبد الله جل وعلا بالصلاة، وهو فيها مخلص لله، أدّاها على طواعية، واختيار، وامتثال لأمر الله؛ لكن يريد منها:
- أن يصحّ بدنه.
- أو وصل رحمه، وهو يريد منه أن يحصل له في الدنيا:
- الذكر الطيب.
- والصلة، ونحو ذلك.
أو عمل أعمالاً من التجارة والصدقات، وهو يريد بذلك تجارة؛ لكي يكون عنده مال فيتصدق، وهو يريد بذلك ثواب الدنيا؛ فهذا النوع عمل العبادة امتثالاً للأمر، ومخلصاً فيها لله، ولكنه طامع في ثواب الدنيا، وليس له همّة في الآخرة، ولم يعمل هرباً من النار وطمعاً في الجنة؛ فهذا داخل في هذا النوع، وداخل في قوله:
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}.
والأعمال التي يعملها العباد، يعملها العبد، ويستحضر فيها ثواب الدنيا: على قسمين:
القسم الأول: أن يكون العمل الذي عمله، واستحضر فيه ثواب الدنيا،
وأراده ولم يُرد ثواب الآخرة: لم يُرغب الشرع فيه بذكر ثواب الدنيا، مثل:
الصلاة، والصيام، ونحو ذلك من الأعمال والطاعات؛ فهذا لا يجوز له أن يريد
به الدنيا؛ ولو أراد به الدنيا، فإنه مشرك ذلك الشرك.
والقسم الثاني:
أعمال رتَّب الشارع عليها ثواباً في الدنيا،
رغَّب فيها بذكر ثواب لها في الدنيا، مثل:
- صلة الرحم.
- وبرّ الوالدين.
- ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)).
فهذا النوع إذا استحضر في عمله - حين
يعمل هذا العمل - استحضر ذلك الثواب الدّنيوي؛ وأخلص لله في العمل؛ ولم
يستحضر الثواب الأخرويّ، فإنه داخل في الوعيد؛ فهو من أنواع هذا الشرك.
لكن إن استحضر الثواب الدنيوي والثواب الأخروي معاً،
له رغبة فيما عند الله في الآخرة، يطمع في الجنة، ويهرب من النار؛ واستحضر ثواب هذا العمل في الدنيا، فإنه لا بأس بذلك؛ لأن الشرع ما رغَّب فيه بذكر الثواب في الدنيا، إلا للحض عليه.
((من قتل قتيلاً فله سَلَبه))
فقتل القتيل في الجهاد؛ لكي يحصل على السلب، ولكن قصده من الجهاد الرغبة فيما عند الله جل وعلا، مخلصاً فيه لوجه الله؛ لكن أتى هذا من زيادة الترغيب له، ولم يقتصر على هذه الدنيا، بل قلبه معلق أيضاً بالآخرة؛ فهذا النوع لا بأس به، ولا يدخل في النوع الأول مما ذكره السلف في هذه الآية.
النوع الثاني:
مما ذكره السلف، مما يدخل تحت هذه الآية:{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أنه يعمل العمل الصالح؛ لأجل المال، فهو يعمل العمل؛ لأجل ما يحصله من المال.
مثل:
أن يدرس، يتعلم العلم الشرعي؛ لأجل الوظيفة فقط، وليس في همه:
- رفع الجهالة عن نفسه.
- ومعرفة العبد بأمر ربه، ونهيه.
- والرغب في الجنة وما يقرب منها.
- والهرب من النار وما يقرب منها؛ فهذا داخل في ذلك.
أو حفظ القرآن ليكون إماماً في المسجد،
ويكون له الرزق الذي يأتي من بيت المال، فغرضه من هذا العمل إنما هو المال؛ فهذا لم يعمل العمل صالحاً، وإنما عمل العمل الذي في ظاهره أنه صالح، ولكن في باطنه قد أراد به الدنيا.
والنوع الثالث:
أهل الرياء، الذين يعملون الأعمال لأجل الرياء.
والنوع الرابع:
الذين يعملون الأعمال الصالحة، ومعهم ناقض من نواقض الإسلام؛
يعمل أعمالاً صالحة يصلى، ويزكي، ويتصدق، ويقرأ القرآن، ويتلو، ولكن هو مشركٌ الشرك الأكبر؛ فهذا وإن قال: (إنه مؤمن) فليس بصادق في ذلك؛ لأنه لو كان صادقاً لوحّد الله جل وعلا.
فهذه بعض الأنواع التي ذُكرت في تفسير هذه الآية،
وكلها داخلة تحت قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}.
فهؤلاء جميعاً أرادوا الحياة الدنيا وزينتها، ولم يكن لهم همّ في رضى الله جل وعلا، وطلب الآخرة بذلك العمل الذي عملوه.
هنا إشكال أورده بعض أهل العلم، وهو: أن الله -جل وعلا- قال في الآية التي تليها: {أُوْلَـئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}وأنَّ هذه في الكفار الأصليين، أو فيمن قام به مُكَفِّر؛ أما المسلم الذي قامت به إرادة الدنيا، فإنه لا يدخل في هذه الآية؟
والجواب:
أنه يدخل؛ لأن السلف أدخلوا أصنافاً من المسلمين في هذه الآية؛ والوعيد بقوله: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} فيمن كانت إرادته الحياة الدنيا، فلم يتقرب إلى الله -جل وعلا- بشيء {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}.
فهؤلاء أرادوا الدنيا بكل عمل،
وليس معهم من الإيمان والإسلام مصحح لأصل أعمالهم، فهؤلاء مخلّدون في النار.
أما الذي معه أصل الإيمان، وأصل الإسلام
الذي يصح به عمله؛ فهذا قد يحبط العمل، بل يحبط عمله الذي أشرك فيه، وأراد
به الدنيا؛ وما عداه لا يحبط؛ لأن معه أصل الإيمان الذي يصحح العمل الذي
لم يخالطه شرك.
فإذاً: هذه الآية فيها الوعيد،
وهذا الوعيد يشمل -كما ذكرنا- أربعة
أصناف، وكما قال أهل العلم: (إنَّ العبرة هنا باللفظ لا بخصوص السبب) فهي
وإن كانت في الكفار، لكنَّ لفظها يشمل من أراد الحياة الدنيا من غير
الكفار.
قال: [(في (الصحيح) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيلَةِ …)) إلى آخر الحديث).
وجه الشاهد من ذلك:
أنه دعا على:
- عبد الدينار.
- وعلى عبد الدرهم.
- وعلى عبد الخميصة.
وعبد الدينار: هو الذي يعمل العمل لأجل الدينار، ولولا الدينار لما تحركت همّته في العمل.
لولا هذه الخميصة: لما تحركت همّته في العمل؛ فأراد العمل وعمل العمل:
- لأجل هذا الدينار.
-لأجل هذه الدنيا.
- لأجل الدراهم.
- لأجل الجاه.
- لأجل المكانة.
- لأجل الخميصة، الخميلة.
- ونحو ذلك، وقد سمّاه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عابداً للدينار؛ فدلّ ذلك على أنه من الشرك.
لأن العبودية درجات:
منها: عبودية الشرك الأصغر.
ومنها: عبودية الشرك الأكبر،
فالذي يشرك بغير الله -جل وعلا- الشرك الأكبر: هو عابد له؛ أهل الأوثان: عبدة الأوثان، وأهل الصليب: عبدةٌ للصليب.
وكذلك: من يعمل
الشرك الأصغر، ويتعلق قلبه بشيء من الدنيا؛ فهو عابد لذلك، يُقال: (عبد هذا
الشيء) لأنه هو الذي حرّك همّته؛ ومعلوم أن العبد مطيع لسيده، مطيع له
أينما وجّهه توجّه.
فهذا الذي حركته وهمّته للدنيا، وللدينار، وللدرهم: عبد لها؛ لأن همّته معلقة بتلك الأشياء؛ وإذا وجد لها سبيلاً تحرك إليها بدون النظر: هل يوافق ذلك أمرَ الله جل وعلا، أم لا يوافق أمر الله -جل وعلا- وشرعه؟