26 Oct 2008
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التَّغَابُنُ:11]. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ التَّغَابُنِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ. الثَّالِثَةُ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ. الرَّابِعَةُ: شِدَّةُ الْوَعِيدِ فِيمَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. الْخَامِسَةُ: عَلاَمَةُ إِرَادَةِ اللهِ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ. السَّادِسَةُ: وَعَلاَمَةُ إِرَادَةِ اللهِ بِهِ الشَّرَّ. السَّابِعَةُ: عَلاَمَةُ حُبِّ اللهِ لِلْعَبْدِ. الثَّامِنَةُ: تَحْرِيمُ السُّخْطِ. التَّاسِعَةُ: ثَوَابُ الرِّضَا بِالْبَلاَءِ.
قَالَ عَلْقَمَةُ: (هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ).
وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ)).
وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَىَ الْجَاهِلِيَّةِ)).
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا
أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي
الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ
بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ
عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا
أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ
سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ))حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (5)
قولُهُ: (بَابٌ، مِنَ الإيمانِ باللهِ الصَّبْرُ على أَقْدَارِ اللهِ) قالَ الإمامُ أحمدُ: (ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الصبرَ في تِسْعِينَ مَوْضِعًا منْ كتابِهِ، وفي الحديثِ الصحيحِ: ((الصَّبْرُ ضِيَاءٌ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
قالَ عُمَرُ: (وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ) رَوَاهُ البخاريُّ. قالَ عَلِيٌّ: (إِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإيمانِ بمنزلةِ الرأسِ من الجَسَدِ) ثمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فقالَ: (أَلاَ إنَّهُ لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ).
-صبرٌ على ما أَمَرَ اللهُ بهِ. -وصَبْرٌ عَمَّا نَهَى عنهُ. -وصَبْرٌ على ما قَدَّرَهُ من المصائبِ. (6) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التغابن:11]) وأَوَّلُ الآيةِ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ}، قالَ ابنُ عبَّاسٍ: بأمْرِ اللهِ، يَعْنِي: عن قَدَرِهِ ومَشيئَتِهِ، أيْ: بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، كَمَا قالَ في الآيةِ الأُخْرَى: {مَا
أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي
كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحديد:22]. - وقالَ: {وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا
إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:155-157]. (7) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قالَ عَلْقَمَةُ: (هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسلِّمُ ) هذا الأَثَرُ رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ،وعَلْقَمَةُ هوَ ابنُ قَيْسِ بنِ عبدِ اللهِ النَّخَعِيُّ الكُوفِيُّ، وُلِدَ في حياةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسَمِعَ منْ أبي بكرٍ وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وسعدٍ، وابنِ مسعودٍ، وعائشةَ، وغيرِهم، وهو منْ كِبَارِ التابِعِينَ وَعُلَمَائِهِم وَثِقَاتِهِم، مَاتَ بعدَ السِّتِّينَ. وفي هذا دليلٌ على أنَّ الأعمالَ مِنْ مُسَمَّى الإيمانِ. (8) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفي (صَحيحِ مُسلمٍ) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ في النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ)))
أيْ: هما بالناسِ كُفْرٌ حيثُ كَانَتَا منْ أعمالِ الجاهليَّةِ، وهما
قَائِمَتَانِ بالناسِ ولا يَسْلَمُ مِنْهُمَا إلاَّ مَنْ سَلَّمَهُ اللهُ
تَعَالَى، وَرَزَقَهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا يَسْتَضِيئُ بهِ، لكنْ ليسَ مَنْ
قامَ بهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الكفرِ يَصِيرُ كافِرًا الكُفْرَ
المُطْلَقَ كما أنه ليسَ مَن قامَ بِهِ شُعْبَةٌ مِن شُعَبِ الإيمانِ
يَصِيرُ مُؤْمِنًا الإيمانَ المُطْلَقَ، وَفَرْقٌ بينَ الكفرِ المُعَرَّفِ
باللامِ كما في قولِهِ: ((لَيْسَ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ الكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ إِلاَّ تَرْكُ الصَّلاةِ)) وبَيْنَ كُفْرٍ مُنَكَّرٍ في الإثباتِ. (9) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَلَهُمَا عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعًا: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ)). (10) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَن أَنَسٍ: أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا
أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ في
الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ
بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))). هذا الحديثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والحاكمُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الطبرانيُّ والحاكمُ عنْ عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ، وَأَخْرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، والطبرانيُّ عنْ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ. قولُهُ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الخيرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا))
أيْ: صَبَّ البلاءَ والمصائِبَ عَلَيْه لِمَا فَرَطَ من الذنوبِ منهُ،
فَيَخْرُجُ منها وليسَ عليهِ ذنبٌ يُوَافِي بهِ يومَ القيامةِ. وفيهِ: التنبيهُ على حُسْنِ الرجاءِ وحُسْنِ الظنِّ باللهِ فِيمَا يَقْضِيهِ لكَ، كما قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى
أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا
شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:216]. (11) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
عِظَمَ الجَزاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ
قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ
السُّخْطُ))حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ). قَالَ: ((الأَنْبِياءُ،
ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ؛ يُبْتَلى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ،
فإن كانَ في دينِهِ صَلاَبَةٌ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي
دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ
الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلى الأَرْضِ وَمَا
عَلَيْهِ خَطيئَةٌ)) رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ والتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَمَذْهَبُ السلفِ وَأَتْبَاعِهِم منْ أهلِ السُّنَّةِ: إثباتُ
الصفاتِ التي وَصَفَ اللهُ بها نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بها رسولُه صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ وَعَظَمَتِهِ
إِثْبَاتًا بلا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بلا تَعْطِيلٍ، فإذا
رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُ حَصَلَ لهُ كلُّ خيرٍ، وَسَلِمَ منْ كلِّ
شرٍّ، والرِّضَا: هوَ أنْ يُسَلِّمَ العبدُ أَمْرَهُ إلى اللهِ، وَيُحْسِنَ
الظنَّ بهِ، ويَرْغَبَ في ثَوَابِهِ، وقدْ يَجِدُ لذلكَ راحةً
وَانْبِسَاطًا؛ مَحَبَّةً للهِ وثقةً بهِ. قالَ شيخُ الإسلامِ: (ولمْ يَجِئِ الأمرُ بهِ كَمَا جاءَ الأمرُ بالصبرِ، وَإِنَّمَا جاءَ الثناءُ على أصحابِهِ). قالَ شيخُ الإسلامِ: (وَأَعْلَى منْ ذلكَ - أيْ: من الرِّضَا - أنْ يَشْكُرَ اللهَ على المصيبَةِ لِمَا يَرَى منْ إنعامِ اللهِ عليهِ بهَا) انْتَهَى واللهُ أَعْلَمُ.
واعْلَمْ أنَّ الصبرَ ثلاثةُ أقسامٍ:
قولُهُ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}
أيْ: مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أنَّها بقضاءِ اللهِ وقدَرِهِ،
فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ جَازَاه اللهُ بهدَايَتِهِ قَلْبَهُ التي هي أصلُ
كلِّ سعَادَةٍ وَخَيْرٍ في الدنيا والآخِرَةِ، وقد يَخْلُفُ اللهُ عليه في
الدنيا مَا كانَ أخَذَه أو خَيْرًا مِنه.
قولُهُ: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تَنْبِيهٌ على أنَّ ذلكَ إِنَّمَا يَصْدُرُ عنْ عِلْمِهِ المُتَضَمِّنِ لِحِكْمَتِهِ، وذلكَ يُوجِبُ الصبرَ والرِّضَا.
قولُهُ: ((هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ - إلى آخِرِه)) هذا الأثرُ رَوَاهُ الأعمشُ، عنْ أبي ظَبْيَانَ، قالَ: كُنَّا عِنْدَ عَلْقَمَةَ فَقُرِئَ عليهِ هذهِ الآيةُ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قالَ: (هوَ الرجلُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا منْ عندِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ) هذا سِيَاقُ ابنِ جَرِيرٍ.
قالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ:( {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}يعني: يَسْتَرْجِعْ، يَقُولُ: إنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
وفي الآيةِ: بَيَانُ أنَّ الصَّبْرَ سَبَبٌ لهدايةِ القلبِ، وَأَنَّهَا منْ ثوابِ الصابرِ.
قولُهُ: ((الطَّعْنُ في النَّسَبِ)) أيْ: عَيْبُهُ، ويَدْخُلُ فيهِ أنْ يُقَالَ: هذا ليسَ ابنَ فُلاَنٍ معَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ شرعًا.
قولُهُ: ((وَالنِّياحةُ عَلَى الْمَيِّتِ))
أيْ: رَفْعُ الصوتِ بالنَّدْبِ، وتَعْدَادُ فضائلِهِ؛ لِمَا فيهِ من
التَّسَخُّطِ على القَدَرِ المُنَافِي للصبرِ، كقولِ النائحةِ:
وَاعْضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، ونحوَ ذلكَ.
وفيهِ دليلٌ على أنَّ الصبرَ واجبٌ، وأنَّ مِن الكُفْرِ ما لا يَنْقُلُ عن المِلَّةِ.
هذا مِنْ نصوصِ الوعيدِ، وقدْ جاءَ عنْ سفيانَ الثَّوْرِيِّ وأحمدَ
كَرَاهَةُ تَأْوِيلِهَا؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ في النفوسِ وَأَبْلَغَ في
الزَّجْرِ، وهوَ يَدُلُّ على أنَّ ذلكَ يُنَافِي كمالَ الإيمانِ الواجبِ.
قولُهُ: ((مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ)) قالَ الحافظُ: (خُصَّ الخَدُّ لِكَوْنِهِ الغالبَ، وإلاَّ فَضَرْبُ بَقِيَّةِ الوجهِ مِثْلَهُ).
قولُهُ: ((وَشَقَّ الجُيُوبَ)) هوَ الذي يَدْخُلُ فيه الرأسُ من الثوبِ، وذلكَ مِنْ عادةِ أهلِ الجَاهِلِيَّةِ حُزْنًا على المَيِّتِ.
قولُهُ: ((وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ)) قالَ شيخُ الإسلامِ:(هوَ نَدْبُ المَيِّتِ).
وقالَ غيرُهُ: (هوَ الدعاءُ بالوَيْلِ والثُّبُورِ).
وقالَ ابنُ القَيِّمِ:(الدعاءُ
بِدَعْوَى الجاهليَّةِ كالدعاءِ بالقبائلِ والعصبيَّةِ، ومثلُهُ
التَّعَصُّبُ إلى المذاهبِ والطوائفِ والمشايخِ، وَتَفْضِيلُ بَعْضٍِ على
بعضٍ، يَدْعُو إلى ذلكَ، ويُوَالِي عليهِ ويُعَادِي، فَكُلُّ هذا مِنْ
دَعْوَى الجاهليَّةِ).
وعندَ ابنِ مَاجَةَ وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ عنْ أبي أُمَامَةَ، (أنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الخَامِشَةَ
وَجْهَهَا، وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا، وَالدَّاعِيَةَ بِالوَيْلِ
وَالثُّبُورِ).
وهذا يَدُلُّ على أنَّ هذهِ الأمورَ من الكَبَائِرِ، وقَدْ يُعْفَى عن
الشيءِ اليَسِيرِ منْ ذلكَ إذا كَانَ صِدْقًا، وليسَ على وجهِ النَّوْحِ
والتَّسَخُّطِ، نَصَّ عليهِ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ؛ لِمَا وَقَعَ لأَِبِي بَكْرٍ وفاطمةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وليسَ في هذهِ الأحاديثِ مَا يَدُلُّ على النَّهْيِ عن البكاءِ؛ لِمَا في
الصحيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ
ابْنُهُ إِبراهيمُ قالَ: ((تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عنْ أسامةَ بنِ زيدٍ: (أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ إلى إِحْدَى
بَنَاتِهِ وَلَهَا صَبِيٌّ في الْمَوْتِ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ
تَقَعْقَعُ كَأَنَّها شَنٌّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: مَا
هَذا يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ في قُلوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)).
قالَ شيخُ الإسلامِ: (المَصَائِبُ
نِعْمَةٌ؛ لأِنَّهَا مُكَفِّرَاتٌ للذنوبِ، وَتَدْعُو إلى الصبرِ
فَيُثَابُ عَلَيْهَا، وَتَقْتَضِي الإنابةَ إلى اللهِ والذُّلَّ لهُ،
والإعراضَ عن الخَلْقِ، إلى غيرِ ذلكَ من المصالحِ العظيمةِ، فَنَفْسُ
البلاءِ يُكَفِّرُ اللهُ بهِ الخطايَا، وهذا منْ أعظمِ النِّعَمِ،
فالمَصَائِبُ رَحْمَةٌ ونعمةٌ في حقِّ عُمُومِ الخَلْقِ، إلاَّ أنْ
يَدْخُلَ صَاحِبُهَا بِسَبَبِهَا في أَعْظَمَ مِمَّا كانَ قبلَ ذلكَ،
فَتَكُونُ شَرًّا عليهِ منْ جهةِ ما أَصَابَهُ في دِينِهِ، فإنَّ مِن
الناسِ مَنْ إذا ابْتُلِيَ بِفَقْرٍ أوْ مَرَضٍ أوْ جُوعٍ حَصَلَ لهُ من
النِّفَاقِ والجَزَعِ ومَرَضِ القلبِ أو الكُفْرِ الظاهرِ أو تَرْكِ بعضِ
الواجباتِ وفِعْلِ بعضِ المُحَرَّمَاتِ ما يُوجِبُ لهُ ضررًا في دِينِهِ؛
فهذا كانت العافيةُ خَيْرًا لهُ منْ جهةِ ما أَوْرَثَتْهُ المصيبةُ، لا
مِنْ جهةِ نفسِ المُصِيبَةِ، كَمَا أنَّ مَنْ أَوْجَبَتْ لهُ المُصِيبَةُ
صَبْرًا وَطَاعَةً، كانتْ في حَقِّهِ نِعْمَةً دِينِيَّةً، فهيَ
بِعَيْنِهَا فِعْلُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ رَحْمَةٌ للخلقِ، واللهُ
تَبَارَكَ وتَعَالَى محمودٌ عليها، فمَن ابْتُلِيَ فرُزِقَ الصبرَ كانَ
الصبرُ نعمةً عليه في دِينِهِ، وَحَصَلَ لهُ بعدَ ما كُفِّرَ مِنْ خطاياهُ
رَحْمَةٌ، وَحَصَلَ لهُ بِثَنَائِهِ على رَبِّهِ صلاةُ ربِّهِ عليهِ، قَالَ
جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وَحَصَلَ لهُ غُفْرَانُ السَّيِّئَاتِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، فمَنْ قَامَ بالصبرِ الواجبِ حَصَلَ لهُ ذلكَ) انتهى مُلَخَّصًا.
قولُهُ: ((وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ)) أيْ: أَخَّرَ عنهُ العقوبةَ بِذَنْبِهِ ((حَتَّى يُوافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ)) وَهُوَ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الفاءِ مَنْصُوبًا بِحَتَّى مَبْنِيًّا للفاعلِ.
قالَ العَزِيزِيُّ: (أيْ:
لا يُجَازِيهِ بذنبِهِ في الدنيا حتَّى يَجِيءَ في الآخرةِ مُسْتَوْفِرَ
الذنوبِ وَافِيَهَا، فَيَسْتَوْفِي ما يَسْتَحِقُّهُ من العقابِ، وهذهِ
الجملةُ هيَ آخرُ الحديثِ).
فأمَّا قولُهُ: وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ))إلى
آخرِهِ. فهو أَوَّلُ حديثٍ آخرَ، لكنْ لَمَّا رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ
بِإِسْنَادٍ واحدٍ وصحابيٍّ واحدٍ جَعَلَهُمَا المُصَنِّفُ كحديثٍ واحدٍ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا الليثُ: عنْ زَيْدِ بنِ أبي حَبِيبٍ، عنْ سعدِ بنِ سِنَانٍ، عنْ أَنَسٍ، وَذَكَرَ الحديثَ السابقَ ثمَّ قالَ: وبِهَذَا الإسنادِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ)) الحَدِيث، ثمَّ قالَ: وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ منْ هذا الوجهِ.
وَرَوَاهُ ابنُ مَاجَةَ، وَرَواه الإمامُ أحمدُ عنْ محمودِ بنِ لَبِيدٍ رَفَعَهُ: ((إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، ومَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ)) قالَ المُنْذِرِيُّ: (رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ).
قولُهُ: ((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ))
بِكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِ الظاءِ فيها، ويَجُوزُ ضَمُّهَا معَ سكونِ
الظاءِ، أيْ: مَنْ كانَ ابْتِلاَؤُهُ أَعْظَمَ كَيْفِيَّةً وكَمِّيَّةً.
وقدْ يَحْتَجُّ بهذا الحديثِ مَنْ يقولُ: إنَّ المصائبَ يُثَابُ عليها معَ تَكْفِيرِ الخطايَا، وَرَجَّحَ ابنُ القيِّمِ أنَّ
ثَوَابَهَا تَكْفِيرُ الخطايا فَقَطْ، إلاَّ إذَا كانتْ سَبَبًا لِعَمَلٍ
صالحٍ، كالصبرِ والرضا والتوبةِ والاستغفارِ، فإنَّهُ حِينَئِذٍ يُثَابُ
على ما تَوَلَّدَ منه، وعلى هذا يُقَالُ في معنَى الحديثِ: إنَّ عِظَمَ
الجزاءِ معَ عِظَمِ البلاءِ إذا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ.
قولُهُ: ((وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ)) ولهذا وَرَدَ في حديثِ سعدٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟
وهذا الحديثُ ونحوُهُ مِنْ أدلَّةِ التوحيدِ، فإذا عَرَفَ العبدُ أنَّ
الأنبياءَ والأولياءَ يُصِيبُهُم البلاءُ في أَنْفُسِهِم الذي هوَ في
الحقيقةِ رحمةٌ، ولا يَدْفَعُهُ عنْهُم إلاَّ اللهُ، عَرَفَ أنَّهُم لا
يَمْلِكُونَ لأَِنْفُسِهِم نَفْعًا ولا دَفْعًا، فَلأَِنْ لا يَمْلِكُوهُ
لِغَيْرِهِم أَوْلَى وَأَحْرَى، فَيَحْرُمُ قَصْدُهُم والرغبةُ إليهم في
قضاءِ حاجةٍ أوْ تَفْرِيجِ كُرْبَةٍ، وفي وقوعِ الابتلاءِ بالأنبياءِ
والصالحينَ من الأسرارِ والحِكَمِ والمصالحِ في العاقِبَةِ ما لا يُحْصَى.
قولُهُ: ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى)) أيْ: مِن اللهِ تَعَالَى. والرضَا قدْ وَصَفَ اللهُ بهِ نفسَهُ في مواضعَ منْ كتابِهِ، كَقَوْلِهِ: {جَزَاؤُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.
كَمَا قالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:(إِنَّ
اللهَ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالفَرَحَ في الْيَقِينِ
وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ).
قولُهُ: ((وَمَنْ سَخِطَ)) وهوَ بِكَسْرِ الخاءِ، قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (السُّخْطُ
الكراهيةُ للشيءِ، وَعَدَمُ الرِّضَا بهِ، أيْ: مَنْ سَخِطَ على اللهِ
فيما دَبَّرَهُ فَلَهُ السُّخْطُ مِن اللهِ، وكَفَى بذلكَ عقوبةً) وقدْ يُسْتَدَلُّ بهِ على وجوبِ الرضا، وهوَ اختيارُ ابنِ عَقِيلٍ، وَاخْتَارَ القاضِي عَدَمَ الوجوبِ، وَرَجَّحَهُ شيخُ الإسلامِ وابنُ القَيِّمِ.
قالَ: (وأمَّا مَا يُرْوَى: ((مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلاَئِي وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَاي)) فَهَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ، لم يَصِحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (2)
أما الصبرُ على طاعةِ اللهِ،
والصبرُ على معصيتِه، فهو ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ أنهما من الإِيمانِ، بل هما أساسُه وفرعُه.
فإن الإِيمانَ كلَّه صبرٌ على ما يحبُّه اللهُ ويرضاه ويُقرِّبُ إليه، وصبرٌ عن محارمِ اللهِ.
فإن الدينَ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ: -تصديقُ خبرِ اللهِ ورسولِه. -وامتثالُ أمرِ اللهِ ورسولِه. -واجتنابُ نَهْيِهِما. فالصبرُ على أقدارِ اللهِ المُؤْلِمَةِ داخلٌ في هذه العمومِ، ولكن خُصَّ بالذكرِ؛ لشدةِ الحاجةِ إلى معرفتِه والعملِ بِهِ.
فإنَّ العبدَ متى علِمَ أنَّ المصيبةَ بإذنِ اللهِ، وأنَّ اللهَ أَتَمَّ
الحكمةَ في تَقديرِها، وَلَه النعمةُ السابغةُ في تقديرِها عَلى العبدِ،
رَضِيَ بقَضاءِ اللهِ وَسَلَّمَ لأَمْرِه وَصَبَرَ عَلَى المكارِهِ،
تَقَرُّبًا إلى اللهِ، وَرَجَاءً لثوابِه، وَخَوْفًا من عقابِه،
واغْتِنَامًا لأفضلِ الأخلاقِ، فاطمأنَّ قلبُه وَقَوِيَ إيمانُه
وَتَوْحيدُه.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: (وفي الاصْطِلاحِ:
حبسُ النَّفْسِ على أشياءَ وعنْ أشياءَ. هكذا قال الشارح -رحمه الله- وفيه نظرة من وجهين: الأول: جعله ما هو حقيقة شرعاً مواضعة اصطلاحية. والثاني: أن الصحيح تعريف الصبر شرعاً بأنه حبس النفس على أمل الله
واقتصر المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في هذا البابِ على ذكر الصبرَ على
أقدارِ اللهِ؛ لأنَّهُ ممَّا يتعَلَّقُ بتوحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ فتدبيرَ
الخلقِ والتقديرَ عليْهِمْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ رُبُوبيَّةِ اللهِ تعالى. والمقدُورُ قدْ يكونُ: - طاعاتٍ. - وقدْ يكونُ معاصيَ. - وقدْ يكونُ منْ أفعالِ اللهِ المَحْضَةِ. والمعاصي
لا يجوزُ الرِّضَا بها منْ حيثُ هيَ مقدورٌ، أمَّا منْ حيثُ كَوْنُها
قَدَرَ اللهِ فيجبُ الرِّضَا بتقديرِ اللهِ بكلِّ حالٍ؛ ولهذا قالَ ابنُ القيِّمِ: فَلِذاكَ نَرْضى بالقَضَاءِ ونَسْخَطُ ال مَقـْضـِيَّ حـيــنَ يـــَكونُ بالْعِصْيــَانِ فمَنْ
نظرَ بعينِ القضاءِ والقدَرِ إلى رجلٍ يعْمَلُ معصيَةً فعليهِ الرِّضَا؛
لأنَّ اللهَ هوَ الذي قدَّرَ هذا، ولهُ الحكمةُ في تقديرِهِ، وإذا نظرَ إلى
فِعْلِهِ؛ فلا يجوزُ لهُ أنْ يرضَى؛ لأنَّهُ معصيَةٌ، وهذا هوَ الفَرْقُ
بينَ القَدَرِ والمقْدُورِ. (10) قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ}، {مَنْ} اسمُ شَرْطٍ جازمٌ، وفعلُ الشرطِ {يُؤْمِنْ} وجوابُهُ {يَهْدِ} والمرادُ بالإيمانِ باللهِ هنا: الإيمانُ بقدَرِهِ. (11) قولُهُ: (قالَ عَلْقَمَةُ) هوَ مِنْ أكابرِ التابعينَ. (12) قولُهُ في حديثِ أبي هريرةَ: (اثْنَتَانِ) مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءَ بهِ التقسيمُ، أوْ أنَّهُ مُفيدٌ للخُصُوصِ. والناسُ حالَ المصيبةِ على مراتبَ أربعٍ: الأولى: التسخُّطُ،
وهوَ إمَّا أنْ يكونَ بالقلبِ؛ كأنْ يَسْخَطَ على رَبِّهِ، ويغْضَبَ على
ما قَدَّرَ اللهُ عليهِ، وقدْ يُؤَدِّي إلى الكفرِ، قالَ تعالى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ}
وقدْ يكونُ باللِّسَانِ؛ كالدُّعاءِ بالوَيْلِ والثُّبُورِ، وما أشبهَ
ذلكَ، وقدْ يكونُ بالجَوَارحِ؛ كلَطْمِ الخُدُودِ، وشقِّ الجيوبِ، ونَتْفِ
الشُّعورِ، وما أشبهَ ذلكَ. الثانيَةُ: الصبرُ، وهوَ كما قالَ الشاعرُ: الـصَّبـْرُ مِثْلُ اسمِهِ مُرٌّ مَذاقتُهُ لَكِنْ عَوَاِبُهُ أحلَى مِن العسلِ فَيَرَى
الإنسانُ أنَّ هذا الشيءَ ثقيلٌ عليهِ ويكْرَهُهُ، لكنَّهُ يتحمَّلُهُ
ويتَصَبَّرُ، وليسَ وُقُوعُهُ وعدَمُهُ سواءً عندَهُ، بلْ يَكْرَهُ هذا،
ولكنَّ إيمانَهُ يَحْمِيهِ مِن السَخَطِ. الثالثةُ: الرِّضا،وهوَ أعلى مِنْ ذلكَ، وهُوَ: أنْ يكونَ الأمرانِ عندَهُ سواءً بالنسبةِ لقضاءِ اللهِ وقدَرِهِ،
وإنْ كانَ قدْ يَحْزَنُ من المصيبةِ؛ لأنَّهُ رَجُلٌ يَسْبَحُ في القضاءِ
والقدرِ، أيْنَمَا يَنْزِلُ بِهِ القضاءُ والقدرُ فهوَ نازلٌ بِهِ على
سَهْلٍ أوْ جَبَل، إنْ أُصِيبَ بنعمةٍ، أوْ أُصِيبَ بضِدِّها؛ فالكلُّ
عندَهُ سواءٌ؛ لا لأنَّ قَلْبَهُ ميِّتٌ، بلْ لِتَمَامِ رِضَاهُ برَبِّهِ
سبحانَهُ وتعالى، يتقلَّبُ في تصَرُّفَاتِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، ولكنَّها
عندَهُ سواءٌ؛ إذْ إنَّهُ ينظرُ إليها باعتبارِهَا قضاءً لِرَبِّهِ، وهذا
الفرْقُ بينَ الرِّضا والصبرِ. الرابعةُ: الشكرُ، وهوَ أعلى المراتبِ، وذلكَ: أنْ يشْكُرَ اللهَ على ما أصابَهُ مِنْ مصيبةٍ، وذلكَ
يكونُ في عبادِ اللهِ الشاكرينَ، حينَ يرى أنَّ هناكَ مصائبَ أعظمَ منها،
وأنَّ مصائبَ الدُّنيا أهونُ منْ مصائبِ الدينِ، وأنَّ عذابَ الدُّنْيا
أهونُ منْ عذابِ الآخرةِ، وأنَّ هذهِ المصيبةَ سببٌ لتكفيرِ سَيِّئَاتِهِ،
ورُبَّما لزيادةِ حسناتِهِ؛ شَكَرَ اللهَ على ذلكَ. (13) قولُهُ في حديثِ ابنِ مسعودٍ: ((مرفوعًا)) أيْ: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وتنَازَعَ هنا أمرانِ: الأوَّلُ: صيغةُ العُمُومِ ((دعوى الجاهليَّةِ)) لأنَّهُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فيَعُمُّ. الثاني: القرينةُ؛ لأنَّ ضَرْبَ الخُدُودِ، وشقَّ الجيوبِ يُفْعَلانِ عندَ المصيبةِ، فيكونُ دَعَا بدعوى الجاهليَّةِ عندَ المصيبةِ، مثلُ قولِهِم: وَاوَيْلاَهُ، وَانْقِطَاعَ ظَهْرَاهُ. وذَكَرَ هذهِ الأصنافَ الثلاثةَ؛ لأنَّها غالبًا ما تكونُ عندَ المصائبِ،
وإلاَّ فمِثْلُهُ هَدْمُ البيوتِ، وكَسْرُ الأوَانِي، وتخريبُ الطعامِ،
ونحْوُهُ ممَّا يفعَلُهُ بعضُ الناسِ عندَ المصيبةِ، وهذهِ الثلاثةُ من
الكبائرِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تبَرَّأَ منْ فاعلِهَا.
(14) قولُهُ في حديثِ أنسٍ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ))
اللهُ يُرِيدُ بعبدِهِ الخيرَ والشرَّ، ولكنَّ الشرَّ المرادَ للهِ تعالى
ليسَ مُرَادًا لذاتِهِ؛ بدليلِ قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)). وسُمِّيَ بيومِ القيامةِ لثلاثةِ أسبابٍ: الأول: قِيَامُ الناسِ منْ قبورِهِمْ؛ لقولِهِ تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. الثاني: قِيَامُ الأَشْهَادِ، لقولِهِ تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}. الثالث: قِيَامُ العَدْلِ، لقولِهِ تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. ولذلكَ شُدِّدَ عليهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عندَ النَّزْع، ومعَ هذهِ الشِّدَّةِ كانَ ثابتَ القلبِ، ودخلَ عليهِ عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍوهوَ يَسْتَاكُ، فَأَمَدَّهُ بَصَرَهُ، يعني: ينْظُرُ إليهِ. فأَخَذَت السواكَ وقَضَمَتْهُ وَأَلاَنَتْهُ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأعْطَتْهُ إيَّاهُ، فاسْتَنَّ بِهِ، قالَتْ عائشةُ:(ما رَأَيْتُهُ اسْتَنَّ استِنَانًا أحسنَ منْهُ، ثمَّ رفعَ يَدَهُ وقالَ: ((فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى)). الأول: أنَّ إصابةَ الإنسانِ بالمصائبِ تُعْتَبَرُ تكفيرًا لِسَيِّئَاتِهِ، وتعجيلاً للعُقُوبَةِ في الدُّنْيَا، الثاني: قَدْ تكونُ المصائبُ أكبرَ من المَعَائِبِ؛ لِيَصِلَ المرءُ بصَبْرِهِ أعلى درجاتِ الصابرينَ. (15) قولُهُ: وقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ...)) إلى آخِرِهِ. ((إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ))
أيْ: يتقابلُ عِظَمُ الجزاءِ معَ البلاءِ، فكُلَّما كانَ البلاءُ أشدَّ،
وَصَبَرَ الإنسانُ، صارَ الجزاءُ أعظمَ؛ لأنَّ اللهَ عَدْلٌ لا يَجْزِي
المحسنَ بأقلَّ منْ إحسانِهِ، فليسَ الجزاءُ على الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا
كالجزاءِ على الكَسْرِ إذا كُسِرَ، وهذا دليلٌ على كمالِ عدْلِ اللهِ،
وأنَّهُ لا يَظْلِمُ أحدًا، وفيهِ تسليَةُ المُصَابِ. ويُستفادُ من الحديثِ: إثباتُ
المحبَّةِ والسَخَطِ والرِّضَا للهِ عزَّ وجلَّ، وهما مِن الصفاتِ
الفعليَّةِ؛ لِتَعَلُّقِها بمشيئةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ إذا في قولِهِ: ((إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا)) للمستقبلِ، فَالْحُبُّ يَحْدُثُ، فهوَ مِن الصفاتِ الفعليَّةِ. والصوابُ: ثُبُوتُها للهِ عزَّ وجلَّ على الوجْهِ اللائقِ بهِ كسائرِ الصفاتِ التي يُثْبِتُهَا مَنْ يقولُ بالتأويلِ، ويَجِبُ في كلِّ صفةٍ أَثْبَتَهَا اللهُ لنفسِهِ أمْرَانِ: الأول: إثْبَاتُها على حقيقَتِها وظاهرِهَا. الثاني: الحَذَرُ من التمثيلِ أو التَّكْيِيفِ. (16) فيهِ مَسائِلُ: الأولى: (تَفْسيرُ آيَةِ التَّغَابُنِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. وقدْ فسَّرَها عَلْقَمَةُ كما سَبَقَ تفسيرًا مُنَاسبًا للبابِ. (17) الثانيَةُ: (أنَّ هذا مِن الإيمانِ باللهِ) المُشَارُ إليهِ بقولِهِ (هذا) هوَ الصبرُ على أقدارِ اللهِ. (18) الثالثةُ: (الطَّعْنُ في النَّسَبِ) وهيَ عَيْبُهُ أوْ نفْيُهُ، وهُوَ مِن الكفرِ، لكنَّهُ لا يُخْرِجُ مِن الملَّةِ. (19) الرَّابعةُ: (شِدَّةُ الوعيدِ فِيمَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وشقَّ الْجُيوبَ، ودَعا بِدعْوى الْجَاهليَّةِ) لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تبرَّأَ منْهُ. (20) الخامسةُ: (علامةُ إرادةِ اللهِ بِعبْدِهِ الخيرَ) وهوَ أنْ يُعَجِّلَ لهُ اللهُ العقوبةَ في الدُّنْيَا. (21) السادسةُ: (إِرادةُ اللهِ بِهِ الشَّرَّ) أيْ: علامةُ إرادةِ اللهِ بهِ الشرَّ، وهوَ أنْ يُؤَخِّرَ لهُ العقوبةَ في الآخرةِ. (22) السابعةُ: (عَلامةُ حُبِّ اللهِ لِلعبدِ) وهيَ الابتلاءُ. (23) الثامنةُ: (تَحْريمُ السَّخَطِ) يعني ممَّا يُبْتَلَى بهِ العبدُ؛ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)) وهذا وعيدٌ. (24) التاسعةُ: (ثَوابُ الرِّضا بالبلاءِ) لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا)).
قولُهُ: (على أَقْدارِ اللهِ) جمعُ قَدَرٍ، وتُطْلَقُ على المقدورِ، وعلى فِعْلِ المُقَدِّرِ وهوَ اللهُ تعالى.
أمَّا بالنسبةِ لفِعْلِ المُقَدِّرِ فيجبُ على الإنسانِ الرِّضَا والصبرُ، وبالنسبةِ للمقدورِ فيجبُ عليهِ الصبرُ، ويُستَحَبُّ لهُ الرِّضَا.
مثالُ ذلكَ: (قَدَّرَ اللهُ على سيَّارَةِ شخصٍ أنْ تحْتَرِقَ) فكونُ اللهِ قدَّرَ أنْ تحترقَ هذا قَدَرٌ يجبُ على الإنسانِ أنْ يرْضَى بهِ؛ لأنَّهُ منْ تمامِ الرِّضا باللهِ ربًّا.
وأمَّا بالنسبةِ للمقدورِ الذي هوَ احتراقُ السيَّارةِ، فالصبرُ عليهِ
واجبٌ، والرِّضا مُسْتَحَبٌّ وليسَ بواجبٍ على القولِ الراجحِ.
فالطاعاتُ يجبُ الرِّضَا بها،
قولُهُ: {يَهْدِ قَلْبَهُ}
يرزُقُهُ الطُّمَأْنِينَةَ، وهذا يدلُّ على أنَّ الإيمانَ يتعلَّقُ
بالقلبِ، فإذا اهتدى القلبُ اهتَدَت الجوارحُ؛ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ: ((إِنَّ
فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا
فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)).
قولُهُ: (هوَ الرجلُ تُصِيبهُ المصيبةُ...) وتفسيرُ علقمةَ هذا منْ
لازمِ الإيمانِ؛ لأنَّ مَنْ آمَنَ باللهِ عَلِمَ أنَّ التقديرَ منْ عندِ
اللهِ، فيرْضَى ويُسَلِّمُ، فإذا عَلِمَ أنَّ المصيبةَ من اللهِ اطمأنَّ
القلبُ وارْتَاحَ؛ ولهذا كانَ منْ أكبرِ الراحةِ والطمأنينةِ الإيمانُ
بالقضاءِ والقدرِ.
قولُهُ: (بِهِمْ كُفْرٌ) الباءُ يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ بمعنى (مِنْ) أيْ: : هما مِنْهُمْ كُفْرٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ بمعنى (في) أيْ: هُما فيهِمْ كُفْرٌ.
قولُهُ: (كُفْرٌ) أيْ: هاتانِ الخَصْلَتَانِ كفرٌ، ولا يَلْزَمُ منْ وجودِ
خَصْلَتَيْنِ من الكفرِ في المؤمنِ أنْ يكونَ كافرًا، كما لا يَلْزَمُ مِنْ
وُجُودِ خَصْلَتَيْنِ في الكافرِ مِنْ خِصَالِ الإيمانِ، كالحياءِ
والشجاعةِ والكرمِ، أنْ يكونَ مؤمنًا.
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (خلافِ قوْلِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ))
فإنَّهُ هنا أَتَى بـ(أَل) الدالَّةِ على الحقيقةِ، فالمرادُ بالكفرِ هنا:
الكفرُ المُخْرِجُ عن المِلَّةِ، بخلافِ مَجِيءِ (كُفْرٌ) نكرةً فلا يدلُّ
على الخروجِ عن الإسلام).
قال شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم) (1/211 ـ 212): (في تعليقه على هذا الحديث: (وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)) وبين كفر منكر في الإثبات.
وفرق ـ أيضاً ـ بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر، أو: مؤمن، وبين المطلق للاسم في جميع موارده) .
قولُهُ: ((الطَّعْنُ في النَّسَبِ)) أي: العَيْبُ فيهِ أوْ نَفْيُهُ، فهذا عملٌ منْ أعمالِ الكفرِ.
قولُهُ: ((وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ))
أيْ: أنْ يبكيَ الإنسانُ على الميِّتِ بكاءً على صفةِ نَوْحِ الحمامِ؛
لأنَّ هذا يدُلُّ على التضَجُّرِ وعدمِ الصبرِ، فهوَ مُنافٍ للصبرِ
الواجبِ. وهذهِ الجملةُ هيَ الشاهدُ للبابِ.
وتفسيرُ علقمةَ
هذا مِنْ لازمِ الإيمانِ؛ لأنَّ مَنْ آمَنَ باللهِ عَلِمَ أنَّ التقديرَ
مِن اللهِ فيرضَى ويُسَلِّمُ، فإذا عَلِمَ أنَّ المصيبةَ مِن اللهِ
اطْمَأَنَّ القلبُ وارْتَاحَ، ولهذا كانَ منْ أكبرِ الراحةِ
والطُّمَأْنِينَةِ: الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ.
قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ شَيْءٍ إِلاَّ كُفِّرَ لَهُ بِهَا، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا)) كما أنَّهُ قدْ يَزْدَادُ إيمانُ المرءِ بذلكَ.
قولُهُ: ((مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ)) العُمُومُ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ؛ أيْ: مِنْ أجْلِ المصيبةِ.
قولُهُ: ((شَقَّ الْجُيُوبَ)) هوَ: طَوْقُ القميصِ الذي يَدْخُلُ منهُ الرَّأْسُ، وذلكَ عندَ المصيبةِ؛ تَسَخُّطًا وعدمَ تحَمُّلٍ لِمَا وقعَ عليهِ.
قولُهُ: ((وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلَيَّةِ))((دعوى)) مضافٌ و((الجاهليَّةِ)) مضافٌ إليهِ.
والأَوْلَى أنْ تُرَجَّحَ صيغةُ العُمُومِ، والقرينةُ لا تُخَصِّصُهُ، فيكونُ المقصودُ بالدعوى كُلَّ دعوى منْشَؤُها الجهلُ.
ولا يَدْخُلُ في الحديثِ ضَرْبُ الخَدِّ في الحياةِ العاديَّةِ، مثلُ:
(ضَرْبِ الأبِ لابْنِهِ) لكنْ يُكْرَهُ الضربُ على الوجْهِ؛ للنَّهْيِ
عنهُ، وكذلكَ شقُّ الجيْبِ لأمرٍ غيرِ المصيبةِ.
ومَنْ أرادَ الشرَّ لذَاتِهِ كانَ إليهِ، ولكنَّ اللهَ يُرِيدُ الشرَّ
لحِكْمَةٍ، وحينئذٍ يكونُ خيرًا باعتبارِ ما يتَضَمَّنَهُ من الحكمةِ.
قولُهُ:((عَجَّلَ لَهُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا)) العقوبةُ:
مُؤَاخَذَةُ المُجْرِمِ بذنبِهِ، وسُمِّيَتْ بذلكَ لأنَّها تَعْقِبُ
الذَّنْبَ، ولكنَّها لا تُقَالُ إلاَّ في المُؤَاخَذَةِ على الشرِّ.
وقولُهُ: ((عَجَّلَ لَهُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا)) كانَ ذلكَ خيرًا منْ تأخيرِها للآخرةِ؛ لأنَّهُ يَزُولُ وينتهي؛ ولهذا قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للمُتَلاعِنَيْنِ: ((إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ)).
وهناكَ خَيْرٌ أَوْلَى منْ ذلكَ، وهوَ العَفْوُ عن الذنبِ، وهذا
أعْلَى؛ لأنَّ اللهَ إذا لمْ يُعَاقِبْهُ في الدُّنْيَا ولا في الآخرةِ،
فهذا هوَ الخيرُ كلُّهُ، ولكنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جعلَ
تأخيرَ العقوبةِ شَرًّا؛ باعتبارِ أنَّ تأخُّرَ العقوبةِ إلى الآخرةِ
أشدُّ، كما قالَ تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.
قال العلامة العزيزي في (السراج المنير في شرح الجامع الصغير): (المقصود
أن الله يحفظ على عبده ذاك كل ما يدلي به من إساءة وذنب، ولا ينزل عليه من
المصائب والمحن ما تكفر به تلك الذنوب فتكون مؤخرة يستوفي جزاءها وعقابها
يوم يلقى الله عز وجل) .
قولُهُ: ((وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ))((أَمْسَكَ عنهُ))
أيْ: تركَ عقوبتَهُ، والإمساكُ فعلٌ منْ أفعالِ اللهِ عن الفعلِ، بلْ هوَ
لم يَزَلْ ولا يزالُ فعَّالاً لما يُريدُ، لكنَّهُ يُمْسِكُ عن الفعلِ في
شيءٍ ما لحكمةٍ بالغةٍ، ففِعْلُهُ حكمةٌ، وإمساكُهُ حكمةٌ.
قوْلُهُ: ((حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
أيْ: يُوَافِيَهُ اللهُ بِهِ؛ أيْ: يُجَازِيَهُ بهِ يومَ القيامةِ، وهُوَ
الذي يقومُ فيهِ الناسُ مِنْ قُبُورِهِم للهِ ربِّ العالمينَ.
والغرضُ منْ سياقِ المُؤَلِّفِ
لهذا الحديثِ: تسليَةُ الإنسانِ إذا أُصيبَ بالمصائبِ لِئَلاَّ يَجْزَعَ؛
فإنَّ ذلكَ قدْ يكونُ خيرًا، وعذابُ الدُّنْيَا أهْوَنُ منْ عذابِ الآخرةِ،
فَيَحْمَدُ اللهُ أنَّهُ لمْ يُؤَخِّرْ عُقُوبتَهُ إلى الآخرةِ.
وعلى فَرْضِ أنَّ أحدًا لمْ يَأْتِ بخطيئةٍ، وأصابَتْهُ مصيبةٌ، فنقولُ
لَهُ: إنَّ هذا منْ بابِ امتحانِ الإنسانِ على الصبرِ، ورفعِ درجاتِهِ
باحتسابِ الأجر، لكنْ لا يجوزُ للإنسانِ إذا أُصِيبَ بمصيبةٍ، وهوَ يرى
أنَّهُ لمْ يُخْطِئْ أنْ يقولَ: أنا لمْ أُخْطِئْ، فهذهِ تَزْكِيَةٌ، فلوْ
فَرَضْنَا أنَّ أحدًا لم يُصِبْ ذنبًا، وأُصيبَ بمصيبةٍ، فإنَّ هذهِ
المصيبةَ لا تُلاقِي ذَنْبًا تُكَفِّرُهُ، لكنَّها تُلاقِي قَلْبًا
تُمَحِّصُهُ، فيبتلي اللهُ الإنسانَ بالمصائبِ لِيَنْظُرَ هلْ يصْبِرُ أوْ
لا؟
ولهذا كانَ أخشَى الناسِ للهِ عزَّ وجلَّ وأتْقَاهُمْ مُحَمَّدٌ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُوعَكُ كما يُوعَكُ الرَّجُلانِ منَّا؛ وذلكَ
لِينَالَ أعلى درجاتِ الصبرِ، فينالُ مرتبةَ الصابرينَ على أعلى
وُجُوهِهَا.
فعَرَفَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّهُ يُرِيدُ السواكَ، فقَالَتْ: آخُذُهُ لَكَ؟
فأشارَ بِرَأْسِهِ:((نَعَمْ)).
فانْظُرْ إلى هذا الثباتِ واليقيِنِ والصبرِ العظيمِ معَ هذهِ الشِّدَّةِ
العظيمةِ، كلُّ هذا لأجْلِ أنْ يَصِلَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
أعْلَى درجاتِ الصابرينَ، صَبَرَ للهِ، وَصَبَرَ في اللهِ حتَّى نالَ أعلى
الدرجاتِ.
فمَنْ أُصِيبَ بمصيبةٍ، فحدَّثَتْهُ نفسُهُ أنَّ مصائِبَهُ أعظمُ منْ
مَعَائِبِهِ، فإنَّهُ يُدِلُّ على رَبِّهِ بعَمَلِهِ، ويَمُنُّ عليهِ بهِ؛
فَلْيَحْذَرْ هذا، ومِنْ ذلكَ يتَّضِحُ لنا أمرانِ:
وهذا خيرٌ منْ تأخيرِهَا لهُ في الآخرةِ.
والصبرُ مِن الإيمانِ بمنزلةِ الرأسِ مِن الجسدِ.
رواهُ التِّرْمِذِيُّ، عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. فصحابِيُّهُ صحابيُّ الحديثِ الذي قبْلَهُ.
قولُهُ: ((وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ))
أي: اختبرَهُمْ بما يُقَدِّرُ عليهمْ من الأُمُورِ الكونيَّةِ، كالأمراضِ
وفُقْدَانِ الأهلِ، أوْ بما يُقَدِّرُ عليهِمْ من الأمورِ الشرعيَّةِ، قالَ
تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فَذَكَّرَهُ اللهُ بالنعمةِ وأَمَرَهُ بالصبرِ؛ لأنَّ هذا الذي نُزِّلَ عليهِ تكليفٌ يُكَلَّفُ بِهِ.
كذلكَ: مِن الابتلاءِ الصبرُ عنْ محارمِ اللهِ، كَمَا في الحديثِ: ((وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ)) فهذا جَزَاؤُهُ أنَّ اللهَ يُظِلُّهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ.
قولُهُ: ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)) (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، والجوابُ ((فَلَهُ الرِّضَا)) أيْ: فلَهُ الرِّضا من اللهِ، وإذا رَضِيَ اللهُ عنْ شخصٍ أَرْضَى الناسَ عنهُ جميعًا.
والمرادُ بالرِّضَا: الرِّضَا بقضاءِ اللهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قضاءُ اللهِ، وهذا واجبٌ؛ بدليلِ قولِهِ: ((وَمَنْ سَخِطَ)) فقابلَ الرِّضَا بالسَّخَطِ، وهوَ عدمُ الصبرِ على ما يكونُ من المصائبِ القدريَّةِ الكونيَّةِ.
ولمْ يَقُلْ هنا: فعليهِ السَّخَطُ، معَ أنَّ مُقْتَضَى السياقِ أنْ يقولَ: فعليهِ، كقولِهِ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} فقالَ بعضُ العلماءِ: إنَّ (اللامَ) بمعنى (على)، كقولِهِ تعالى: {أُولَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}
أيْ: عليْهِم اللعنةُ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّ اللامَ على ما هيَ عليهِ،
فتكونُ للاستحقاقِ؛ أيْ: صارَ عليهِ السَّخَطُ باستحقاقِهِ لهُ، فتكونُ
أبْلَغَ مِنْ (عَلَى)، كقولِهِ تعالى: {أُولَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أيْ: حَقَّتْ عليهِمْ باستحقاقِهِم لَهَا. وهذا أصحُّ.
واللهُ تعالى يُحِبُّ العَبْدَ عندَ وُجُودِ سببِ المحَبَّةِ، ويُبْغِضُهُ
عندَ وُجُودِ سببِ البُغْضِ، وعلى هذا؛ فَقَدْ يكونُ هذا الشخصُ في يومٍ من
الأيَّامِ محبُوبًا إلى اللهِ، وفي آخَرَ مُبْغَضًا إلى اللهِ؛ لأنَّ
الحُكْمَ يدُورُ معَ عِلَّتِهِ.
وأمَّا الأعمالُ فلمْ يَزَل اللهُ يُحِبُّ الخيرَ والعدلَ والإحسانَ
ونحوَها، وأهلُ التأويلِ يُنْكِرُونَ هذهِ الصفاتِ، فَيُؤَوِّلُونَ
المَحَبَّةَ والرِّضَا بالثوابِ أوْ إرَادَتِهِ، والسَّخَطَ بالعقوبةِ أوْ
إرَادَتِهَا، قالُوا: لأنَّ إثباتَ هذهِ الصفاتِ يقتضِي النقصَ
ومُشَابَهَةَ المخلوقينَ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بابٌ من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
الصبر من المقامات العظيمة، والعبادات الجليلة التي تكون في:
- القلب.
- وفي اللسان.
- وفي الجوارح.
وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر، لأن
العبادة أمر، ونهي، وابتلاء.
هذا الدين: أمر شرعي، أو نهي شرعي؛ أو أنْ يصيب اللهُ العبد بمصيبة قدرية.
فحقيقة العبادة:
- أن يمتثل الأمر الشرعي.
- وأن يجتنب النهي الشرعي.
- وأن يصبر على المصائب القدرية، التي ابتلى الله -جل وعلا- العباد بها.
ولهذا؛ الابتلاء حاصل بالدين، وحاصل بالأقدار.
فبالدين: كما قال -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عِياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى:((إنما بعثتك لأبتليك، وابتلي بك)) فحقيقة بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- الابتلاء، والابتلاء يجب معه الصبر؛ والابتلاء الحاصل ببعثته، بالأوامر والنواهي.
فإذاً:
-الواجبات تحتاج إلى صبر.
- والمنهيات تحتاج إلى صبر.
- والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر.
ولهذا قال طائفة من أهل العلم:
إن الصبر ثلاثة أقسام:
- صبر على الطاعة.
- وصبر عن المعصية.
- وصبر على أقدار الله المؤلمة.
ولما كان الصبر على
المصائب قليلاً، ويظهر عدم الصبر أفرد الشيخ -رحمه الله- تعالى هذا الباب؛
لبيان أنه من كمال التوحيد؛ ومن الواجب على العبد، أن يصبر على أقدار الله؛
لأن التسخط، تسخط العباد وعدم صبرهم، كثيراً ما يظهر في حال الابتلاء
بالمصائب؛ فعقد هذا الباب؛ لبيان أن الصبر واجب على أقدار الله المؤلمة؛ ونبه بذلك على أن الصبر على الطاعة واجب، وأن الصبر عن المعصية واجب.
وحقيقة الصبر: الحبس في اللغة، ومنه قولهم: (قد قتل فلان صبراً) إذا حُبس، أو رُبط، فقتل من دون مبارزة ولا قتال، ويقال للصبر الشرعي إنه صبر؛ لأن فيه حبس.
حبس اللسان وهو:
- حبس اللسان عن التشكي.
- وحبس القلب عن السخط.
- وحبس الجوارح عن إظهار السخط، من (لطم الخدود، وشق الجيوب) ونحو ذلك؛ فحبس هذه الأشياء هو حقيقة الصبر.
فالصبر إذاً:
- حبس اللسان عن التشكي.
- وحبس القلب عن التسخط.
- وحبس الجوارح عن إظهار السخط بشقٍّ، أو نحو ذلك.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (ذُكر
الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس
من الجسد؛ لأن من لا صبر له على الطاعة، ولا صبر له عن المعصية، ولا صبر
له على القدر على أقدار الله المؤلمة؛ فإنه يفوته أكثر الإيمان).
قال: (باب من الإيمان بالله) يعني: من خصال الإيمان بالله:
(الصبر على أقدار الله).
والإيمان له شُعَب كما أنّ الكفر له شُعَب، فنبه بقوله: (من الإيمان بالله الصبر) على أنَّ من شُعَب الإيمان الصبر، ونبَّه في الحديث الذي ساقه عن (صحيح مسلم) أنَّ النياحة من شُعَب الكفر؛ فيقابل كلَّ شعبةٍ من شعب الكفر، شعبة من شعب الإيمان.
فالنياحة على الميت: شعبةٌ من شعب الكفر، يقابلها في شعب الإيمان: الصبر على أقدار الله المؤلمة.
قال: (وقول الله تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال علقمة: (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم) هذا تفسير من علقمة -أحد التابعين- لهذه الآية، وهو تفسير ظاهر الصحة والصواب، وذلك أن قوله: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}
إنما سيق في سياق ذكر ابتلاء الله بالمصائب؛ فمن يؤمن بالله، يعني: يعظم
الله جل وعلا، ويمتثل أمره، ويجتنب نهيه: يهد قلبه للصبر، يهد قلبه لعدم
التسخط، يهد قلبه للعبادات.
ولهذا قال: (هو الرجل تصيبه المصيبة؛ فيعلم أنها من عند الله) وهذا هو الإيمان بالله (فيرضى ويسلم) والمصائب من القدر، والقدر راجع إلى حكمة الله جل وعلا.
والحكمة -حكمة الله جل وعلا- هي:
وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها،
فالحكمة بعامة، مرتبطة بالغايات المحمودة من وضع الأمر في موضعه؛ فمن وضع الأمر في غير موضعه، فقد ظلم؛ ومن وضع الأمر في موضعه، عدل.
وقد يكون غير حكيم،
عادل ولكن غير حكيم؛ فإذا وضع الأمر في موضعه الموافق للغاية المحمودة منه، فذاك هو الحكيم.
والله
-جل وعلا- منفي عنه الظلم، ومثبت له كمال العدل سبحانه، حيث يضع الأمور
مواضعها؛ ومثبتٌ له -جل وعلا- كمال الحكمة، حيث إنَّ وضعه الأمور في
مواضعها: موافق للغايات المحمودة منها.
فنعلم بذلك أنَّ المصيبة إذا أصابت العبد، فإن الخير له فيها.
- إما أنْ يصبر فيؤجر.
- وإما أَنْ يتسخط فيؤزر على ذلك، وهذا في حق الخاسرين.
فالله
-جل وعلا- له الحكمة من الابتلاء بالمصائب، لهذا يجب على العبد أن يَعْلم
أنَّ ما جاء من عند الله هو قدر الله -جل وعلا- وقضاؤه الموافق لحكمته؛
فيجب الصبر على ذلك.
قال: (يعلم أنها من عند الله)
يعني: أنَّ الله هو الذي أتى بها، وهو الذي أذن بها قدراً وكوناً؛ فيرضى
ويسلِّم؛ والرضى بالمصيبة مستحب وليس بواجب؛ ولهذا يختلط على كثيرين الفرق
بين الرضا والصبر.
وتحرير المقام في ذلك: أن الصبر على المصائب: واجب من الواجبات؛ لأن فيه ترك التسخط على قضاء الله وقدره.
والرضا، هذا له جهتان:
الجهة الأولى: راجعة إلى فعل الله جل وعلا.
- فيرضى بقدر الله الذي هو فعله.
- يرضى بفعل الله.
- يرضى بحكمة الله.
- يرضى بما قسم الله -جل وعلا-
يعني: بقسمة الله؛ هذا الرضا بفعل الله -جل وعلا- واجب من الواجبات؛ وتركه محرم، ومنافٍ لكمال التوحيد.
والرضا بالمقضي (الرضا بالمصيبة في نفسها) هذا مستحب، ليس واجباً على العباد:
- أن يرضوا بالمرض.
- أن يرضوا بفقد الولد.
- أن يرضوا بفقد المال؛ لكن هذا مستحب، وهو رتبه الخاصة من عباد الله، لكن الرضا بفعل الله جل وعلا، الرضا بقضاء الله من حيث هو: هذا واجب؛ أما الرضا بالمقضي فإنه مستحب.ولهذا قال علقمة هنا: (هو الرجل تصيبه المصيبة؛ فيعلم أنها من عند الله فيرضى) يعني: على قضاء الله (ويسلِّم) لعلمه أنها من عند الله جل جلاله؛ وهذا من خصال الإيمان.
قال: (وفي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر))) يعني: خصلتان من شعب الكفر قائمتان في الناس، وستبقيان في الناس.
- ((الطعن في النسب)) من شعب الكفر.
((والنياحة على الميت)) من شعب الكفر.
وجه الشاهد من هذا الحديث:
والصبر الواجب، فيه:
- حبس الجوارح عن:
- لطم الخدود.
- وشق الجيوب، ونحو ذلك.
- وحبس اللسان عن:
- التشكي.
- والعويل؛ وهذا هو النياحة.
فالنياحة من شعب الكفر؛
ولهذا قال هنا: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر)) فنكّر كلمة كفر.
والقاعدة في فهم ألفاظ الكفر التي تأتي في الكتاب والسنة:
أنَّ الكفر إذا أتى معرّفاً بالألف واللام، فإن المراد به الكفر الأكبر.
وإذا أتى الكفر منكّراً، (كفر)
وأما الكفر المعرف بالألف واللام: فالقاعدة التي حررها الأئمة كشيخ الإسلام وغيره: أنه إذا أتى فيراد به الكفر الأكبر؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل، وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة)).
قال: (ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية))) ذلك يدل على أنَّ من فعل هذه الأفعال، فهو ليس من أهل الإيمان.
وقد ذكرت لكم أنَّ كلمة ((ليس منا)) تدل على أن الفعل من الكبائر.
ولهذا نقول: (ترك الصبر،
وإظهار التسخط: كبيرة من الكبائر ؛والمعاصي تُنقص الإيمان؛ لأن الإيمان
يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية؛ ونقص الإيمان قد يُنقص كمال التوحيد؛ بل إن
ترك الصبر مُنافٍ لكمال التوحيد الواجب).
هذا
فيه بيان حكمة الله -جل وعلا- التي إذا استحضرها المصاب، فإنه يعظم عنده
الصبر، ويتحلى بهذه العبادة القلبية العظيمة، وهي ترك التسخّط، والرضا بفعل
الله جل وعلا وقضائه؛ لأن العبد إذا أُريد به الخير، فإن العقوبة تُعجل له
في هذه الدنيا.
لأن رفع أثر العقوبة عن العبد يكون بعشرة أشياء:
ومنها:
ولهذا كان بعض السلف يتهم نفسه إذا رأى أنه لم يُصب ببلاء، أو لم يمرض، ونحو ذلك.
وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في الحمّى مثلاً: ((لاَ
تَسُبُّوا الحُمَّى، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ: إِنَّهَا لَتَنْفِي
الذُّنُوبَ عَنِ العَبْدِ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ)).
ففي المصائب نِعَم،
المصائب فيها نِعَمٌ على العبد، والله -جل وعلا- له الحكمة البالغة فيما يُصلح عبده المؤمن.(قال: وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا
أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا؛ وَمَنْ
سَخِطَ فَلَهُ السَّخَط)) ).
دلَّ قوله: ((مَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا))
يعني: الرضا من الله عليه، على أنَّ الرضا عبادة؛ لأن رضا الله عن العبد
إذ رضي عنه: دالّ على أنَّ ذلك الفعل محبوب له، وذلك دليل أنه من العبادات.
وكذلك الجملة الثانية، دليل على أن السخط محرم، قال: ((وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَط)) يعني: مِنْ الله جل وعلا.
وحقيقة السَّخط على الله -جل وعلا- أنْ يقوم في قلبه:
- عدم محبة ذلك الشيء.
- وكراهة ذلك الشيء.
- وعدم الرضا به.
- واتهام الحكمة فيه.
فمن قامت به هذه الأشياء مجتمعة، فقد سَخِط.
يظهر أثر السخط:
- على اللسان.
- أو على الجوارح.
يظهر السخط في القلب، من جهة:
- عدم الرضا بالأوامر.
- عدم الرضا بالنواهي.
- عدم الرضا بالشرع:
- فيتسخط الأمر.
- يتسخّط النّهي.
- يتسخّط الشرع.
فهذا كبيرة من الكبائر؛ ولو امتثل ذلك، فإن تسخطه، وعدم الرضا بذلك قلباً: دليل على انتفاء كمال التوحيد في حقه.
وقد يصل بالبعض إلى انتفاء التوحيد من أصله:
- إذا لم يرضَ بأصل الشرع.
- وسخطه بقلبه.
- واتهم الشرع.
- أو اتهم الله -جل وعلا- في حكمه الشرعيّ.
العناصر
بيان أهمية باب (من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله...)
شرح ترجمة الباب (من الإيمان بالله الصبر...)
- تعريف الصبر
- بيان حقيقة الصبر ذكر الأصول التي يدور عليها الدين تفسير قول الله تعالى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم)
- تخريج أثر علقمة، وبيان درجته شرح حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (اثنتان في الناس...)
- بيان الفرق بين الكفر المعرف بأل والكفر المنكَّر شرح حديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إذا أراد الله بعبده الخير...)
- بيان معنى قوله: (عجل له العقوبة في الدنيا)، وأن المصائب نعمة للمؤمن شرح حديث النبي عليه السلام (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء...) الحديث
- معنى قوله: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) الفرق بين الرضا والصبر بيان أن الشكر أعلى منزلة من الرضى ذكر الخلاف في إيجاب الرضى بقضاء الله بيان أنه لا تنافي بين الرضى، والإحساس بالألم مسألة: هل يثيب الله على المصائب غير تكفير السيئات؟
- أنواع الصبر
- معنى قول المصنف: (على أقدار الله)
- بيان مراتب الناس عند المصيبة
- بيان فضيلة الصبر على الأقدار، وذكر أقسامه وبيان أفضلها
- ترجمة علقمة النخعي
- معنى قوله: (الطعن في النسب)
- معنى قوله: (والنياحة على الميت)
- بعض الفوائد من حديث أبي هريرة (اثنتان في الناس هما بهم كفر...)
- بيان أن الكلمات اليسيرة في الميت إن لم تكن على سبيل النوح فلا تحرم، والدليل عليه
- معنى قوله: (ليس منا)
- قول شيخ الإسلام(البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب)، والدليل عليه
- معنى قوله: (ضرب الخدود، وشق الجيوب)
- بيان أن ضرب الخد، وشق الجيب لأمر غير المصيبة لا يدخل في الوعيد
- بيان المراد بقوله: (ودعا بدعوى الجاهلية)، ولم خص هذه الثلاثة بالذكر
- بيان حكم ما ذكر في حديث ابن مسعود من ضرب الخدود... إلخ
- معنى قوله: (أمسك عنه.. حتى يوافي به يوم القيامة)
- بعض فوائد حديث أنس (إذا أراد الله بعبده الخير)
- معنى قوله: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)، وبيان الحكمة من ذلك
- معنى قوله: (فمن رضي فله الرضى)، وبيان منزلة الرضى
- معنى قوله: (ومن سخط فله السخط)، وبيان حكمه
- بعض الفوائد من حديث (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء)
شرح مسائل باب (الصبر على أقدار الله)
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ((4)
لَمَّا كانَ ببَدِيعِ حِكْمَتِه،
ولَطِيفِ رَحْمَتهِ، قَضَى أَنْ يَبْتَلِيَ النَّوعَ الإنسانِيَّ بالأَوَامرِ والنَّوَاهِي والمَصائِبِ التي قَدَّرَها عليهم، أَمَرَهُم بالصَّبْرِ على ذلك، وافْتَرَضَهُ عليهم تَسْلِيةً لهم وتَقْوِيةً على ذلك، ووَعَدَهُم عليهِ الثَّوابَ بغيرِ حِسابٍ، كما قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10]فعلى هذا يَكونُ الصَّبْرُ ثلاثةَ أنواعٍ:
-صَبْرًا على المَأْمُورِ. -وصبرًا عن المَحْظورِ. -وصبرًا على المَقْدورِ. ويَشْمَلُها قولُهُ تَعالَى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}[الرعد: 24]. - وقولُهُ تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النحل: 42]. ولَمَّا كانَ الصَّبرُ لا يَحْصُلُ إلاَّ باللهِ كما قالَ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللهِ}[النحل: 127]. أَرْشَدَ تَبارَكَ وتعالى إلى الجَمْعِ بينَهما، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[الطور: 48]. وقالَ عليهِ السَّلامُ: ((مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ))رَوَاهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ. وفي حديثٍ آخَرَ: ((الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ)) رَوَاه أبو نُعَيْمٍ والبَيْهَقِيُّ في (الشُّعَبِ). واشْتِقاقُه مِن صَبَرَ:
إذا حَبَسَ ومَنَعَ، فالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عن الجَزَعِ، واللِّسانِ
عن التَّشَكِّي والسَّخَطِ، والجَوَارِحِ عن لَطْمِ الخُدودِ، وشَقِّ
الجُيوبِ ونحوِهِما، ذَكَرَه ابنُ القَيِّمِ. (5) أوَّلُ الآيةِ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[التغابن: 11]
أَخْبَرَ تعالى أنَّ ما أَصَابَ مِن مُصِيبةٍ في الأَرْضِ ولا في
الأَنْفُسِ إلاَّ بإِذْنِ اللهِ، أي: بقَدَرِه وأَمْرِه، كما قالَ في
الآيةِ الأُخْرَى: {إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحديد: 22]. (6) هذا الأَثَرُ رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حاتِمٍ عن عَلْقَمةَ وهو صَحِيحٌ. (7) قولُهُ: ((هُمَا)) أي: الاثْنَتانِ. (8) قولُهُ: ((لَيْسَ مِنَّا))
هذا مِن نُصوصِ الوَعِيدِ، وقد جاءَ عن سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، وأحمدَ،
كَراهةُ تَأْوِيلِها لِيَكونَ أَوْقَعَ في النُّفوسِ، وأَبْلَغَ في
الزَّجْرِ، وقِيلَ: أي: لَيْسَ من أَهْلِ سُنَّتِنا وطَرِيقتِنَا؛ لأنَّ
الفاعِلَ لِذلك ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا، وتَرَكَ واجِبًا، وليس المرادُ
إِخْراجَه مِن الإسلامِ، بل المرادُ المُبالَغةُ في الرَّدْعِ عن الوُقوعِ
في ذلك، كما يَقولُ الرَّجلُ لِوَلَدِهِ عندَ مُعاقبتِهِ: لَسْتَ مِنِّي
ولَسْتُ مِنك، فالمرادُ أنَّ فاعِلَ ذلك ليسَ مِن المُؤْمِنِينَ الذين
قامُوا بوَاجِباتِ الإِيمانِ. قُلْتُ: بل
ولو ضَرَبَ غيرَ الوجهِ كالصَّدْرِ، فكَمَا لو ضَرَبَ الخَدَّ، فيَدْخُلُ
في معنى ضَرْبِ الخَدِّ؛ إذ الكُلُّ جَزَعٌ مُنافٍ لِلصَّبرِ فيَحْرُمُ. وكذلك: يَدُلُّ على النَّهْيِ عَمَّا في معناهُ كالبُكاءِ برَنَّةٍ، وحَلْقِ الشَّعَرِ، وخَمْشِ الوُجوهِ، ونحوِ ذلكَ. أمَّا البُكاءُ على وَجْهِ الرَّحمةِ والرِّقةِ ونحوِ ذلك فيَجُوزُ، بل قالَ شيخُ الإسلامِ: (البُكاءُ
على المَيِّتِ على وَجْهِ الرَّحْمةِ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ، ولا يُنافِي
الرِّضَى بقَضاءِ اللهِ، بِخِلافِ البكاءِ عليهِ لِفَوَاتِ حَظِّهِ منه). (9) هذا الأَثَرُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، والحاكِمُ، وحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وفي إِسنادِه سَعْدُ بنُ سِنانٍ، قال الذَّهَبيُّ في مَوضِعٍ: سَعْدٌ ليسَ حُجَّةً، وفي آخَرَ: كأنَّهُ غيرُ صَحِيحٍ. وهذه الجُمْلةُ هي آخِرُ الحديثِ. ((إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ...)) إلى آخِرِه فهوَ أَوَّلُ حديثٍ آخَرَ، لكنْ لَمَّا رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ بإِسْنادٍ واحدٍ عن صَحابِيٍّ واحدٍ جَعَلَهُما المُصَنِّفُ كالحديثِ الواحدِ. وفيه: مِن الفوائدِ أَنَّ البَلاءَ لِلمُؤْمِنِ مِن عَلامَاتِ الخيرِ،
خِلافًا لِمَا يَظُنُّه كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، وفيه الخوفُ مِن الصِّحَّةِ
الدّائمةِ أَنْ تَكونَ عَلامَةَ شَرٍّ، وفيه تَنْبِيهٌ على رَجاءِ اللهِ،
وحُسْنِ الظَّنِّ به فيما يَقْضِيهِ لكَ مِمَّا تَكْرَهُ، وفيه مَعْنَى
قولِهِ تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}[البقرة: 216]. (10) هذا الحديثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ولَفْظُهُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا اللَّيْثُ، عن يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ، عن سَعْدِ بنِ سِنانٍ، عن أَنَسٍ قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ))الحديثَ الذي قبلَ هذا، ثُمَّ قالَ: وبهذا الإِسْنادِ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ)) الحديثَ، ثُمَّ قالَ: هذا حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ من هذا الوَجْهِ. ورَوَاهُ ابنُ ماجه، وصَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ. قال: ((الأَنْبِيَاءُ
ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ
فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي
دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلاءُ
بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ
خَطِيئَةٌ)) رَوَاه الدَّارِمِيُّ، وابنُ ماجه، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ. وإذا كانَتْ هذهِ النِّعَمُ في المَصائِبِ، فأَوْلَى النَّاسِ بها أَحْبابُه، فعَلَيْهِم حينَئذٍ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ، لَخَّصْتُ ذلك مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ. قُلْتُ: قد رَوَى الطَّبَرانيُّ في (الأَوْسَطِ) مَعْناهُ عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللهِ وَيُؤْمِنْ بِقَدَرِ اللهِ، فَلْيَلْتَمِسْ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ)). فالجَوابُ: قالَ طائِفةٌ مِن السَّلَفِ منهم عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، والفُضَيْلُ، وأبو سُلَيْمانَ، وابنُ المُبارَكِ، وغيرُهم: إنَّ الرَّاضِيَ لا يَتَمَنَّى غيرَ حالِهِ التي هو عليها بِخِلافِ الصَّابِرِ، وقال الخَوَّاصُ:
الصَّبرُ دونَ الرِّضَى، الرِّضَى أَنْ يَكونَ الرَّجلُ قبلَ نُزولِ
المُصِيبةِ راضِيًا بأَيِّ ذاكَ كانَ، والصَّبرُ أَنْ يَكونَ بعدَ نُزولِ
المُصِيبةِ يَصْبِرُ.
قال الإمامُ أحمدُ: (ذَكَرَ اللهُ الصَّبرَ في تِسْعِينَ مَوْضِعًا وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ))) رَوَاه أحمدُ ومُسْلِمٌ.
وقال عُمَرُ: (وَجَدْنَا خيرَ عَيْشِنَا بالصَّبرِ) رَوَاه البُخارِيُّ.
- وقال عليُّ بنُ أَبِي طالِبٍ: (ألا
إنَّ الصَّبرَ مِن الإِيمانِ بمَنْزِلةِ الرَّأْسِ مِن الجَسَدِ، فإذا
قُطِعَ الرَّأْسُ بانَ الجَسَدُ، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: أَلا لا
إِيمانَ لِمَن لا صَبْرَ لَهُ) والأحاديثُ والآثارُ في ذلك كَثِيرةٌ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ في قولِهِ:( {إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} إلاَّ بِأَمْرِ اللهِ، يَعْنِي: مِن قَدَرِه ومَشِيئتِه) {ومَنْ يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}
أي: ومَن أَصَابَتْهُ مُصِيبةٌ فعَلِمَ أَنَّها بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه،
فصَبَرَ واحْتَسَبَ واسْتَسْلَمَ لِقَضاءِ اللهِ جَازَاهُ اللهُ تَعالى
بِهِدايةِ قَلْبِه التي هي أَصْلُ كُلِّ سَعادةٍ وخَيْرٍ في الدُّنيا
والآخِرةِ، وقد يُخْلِفُ عليه أيضًا في الدُّنيا ما أَخَذَهُ منهُ أو
خَيرًا منه، كما قال: {وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا
إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155-157].
قال ابنُ عَبَّاسٍ: (يَهْدِ قَلْبَهُ اليَقِينَ، فيَعْلَمُ أنَّ ما أَصَابَهُ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أَخْطَأَهُ لم يَكُنْ لِيُصِيبَهُ) وفي الحديثِ الصَّحيحِ: ((عَجَبًا
لِلْمُؤْمِنِ لا يَقْضِي اللهُ لَهُ قَضَاءً إلاَّ كَانَ خَيْرًا لَهُ،
إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ
أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
لأَحَدٍ إلاَّ لِلْمُؤْمِنِ)).
وقولُهُ: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تَنْبِيهٌ على أنَّ ذلك صادِرٌ عن عِلْمِه المُتَضَمِّنِ لحِكْمَتِه، وذلك يُوجِبُ الصَّبرَ والرِّضَى.
وعَلْقَمَةُ هو ابنُ قَيْسِ بنِ عَبْدِ اللهِ النَّخَعِيُّ الكُوفِيُّ وُلِدَ في حياةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسَمِعَ مِن أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ وسَعْدٍ وابنِ مَسْعُودٍ وعائِشةَ وغيرِهم، وهو من كِبارِ التَّابِعينَ وأَجِلاَّئِهِم وعُلمائِهم وثِقاتِهِم، ماتَ بعد السِّتِّينَ.
قولُهُ: ((هو الرَّجُلُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ))
إلى آخِرِه، هذا تَفْسِيرٌ للإِيمانِ المَذْكُورِ في الآيةِ، لكنَّه
تَفْسِيرٌ باللازِمِ وهو صَحِيحٌ؛ لأنَّ هذا اللازِمُ للإيمانِ الرَّاسِخِ
في القَلْبِ، وقريبٌ منه تَفْسِيرُ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} يَعْنِي: يَسْتَرْجِعْ يَقُولُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعُونَ.
وفي الآيةِ أنَّ الصَّبرَ سَبَبٌ لِهِدايةِ القَلْبِ، وأنَّ مِن ثَوَابِ
الحَسَنةِ الحَسَنةَ بعدَها، وأنَّ الأعمالَ مِن الإيمانِ وفيها إِثْباتُ
القَدَرِ.
قولُهُ: ((بِهِمْ كُفْرٌ)) أي: هما بالنَّاسِ، أي: فيهم كُفْرٌ، قال شيخُ الإسلامِ: (أي:
هاتانِ الخَصْلتَانِ هُما كُفْرٌ قائِمٌ في النَّاسِ، فنَفْسُ
الخَصْلتَيْنِ كُفْرٌ حيثُ كانَتَا في أَعْمالِ الكُفَّارِ، وهما قائِمتانِ
بالنَّاسِ، لكنْ ليسَ مَنْ قامَ به شُعْبةٌ مِن شُعَبِ الكُفْرِ يَصِيرُ
كافِرًا الكُفْرَ المُطْلَقَ، حتَّى تَقومَ به حَقِيقةُ الكُفْرِ، كما أنهُ
ليسَ مَن قَامَ به شُعْبةٌ مِن شُعَبِ الإيمانِ يَصِيرُ مُؤْمِنًا حتَّى
يَقومَ بهِ أَصْلُ الإيمانِ، وفَرْقٌ بينَ الكُفْرِ المُعَرَّفِ باللامِ،
كما في قولِهِ:((لَيْسَ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ إلاَّ تَرْكُ الصَّلاَةِ)) وبينَ كُفْرٍ مُنَكَّرٍ في الإثباتِ).
قولُهُ: ((الطَّعْنُ في النَّسَبِ)) أي: عَيْبُه، ويَدْخُلُ فيه أَنْ يُقالَ: هذا لَيْسَ ابنَ فلانٍ مع ثُبوتِ نَسَبِه في ظاهرِ الشَّرْعِ، ذَكَرَه بعضُهم.
قولُهُ: ((والنِّياحَةُ عَلَى المَيِّتِ))
أي: رَفْعُ الصَّوْتِ بالنَّدْبِ بتَعْدِيدِ شَمائِلِه لِمَا في ذلكَ مِن
التَّسَخُّطِ على القَدَرِ والجَزَعِ المُنافِي لِلصَّبْرِ، وذلكَ كقولِ
النَّائِحةِ: واعَضُدَاه، واناصِرَاه، واكاسِيَاه، ونحوَ ذلك.
وفيه: دليلٌ على أنَّ الصَّبرَ واجِبٌ؛ لأنَّ النِّياحةَ مُنافِيةٌ له، فإذا حُرِّمَتْ دَلَّ على وُجوبِه، وفيه أَنَّ مِن الكُفْرِ ما لا يَنْقُلُ عن المِلَّةِ.
قولُهُ: ((مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ)) قال الحافِظُ: (خَصَّ الخَدَّ بذلك لِكَوْنِهِ الغالِبَ، وإِلاَّ فضَرْبُ بقيَّةِ الوَجْه مِثلُه)
قولُهُ: ((وَشَقَّ الْجُيُوبَ)) جَمْعَ جَيْبٍ، وهو الذي يَدْخُلُ فيه الرَّأْسُ مِن الثَّوْبِ، وكانوا يَشُقُّونَهُ حُزْنًا على المَيِّتِ، قال الحافِظُ: (والمرادُ إِكْمالُ فَتْحِه إلى آخِرِه).
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أنَّ فَتْحَ بَعْضِه كفَتْحِه كُلِّه.
قولُهُ: ((وَدَعَى بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)) قال شيخُ الإسلامِ: (هو نَدْبُ المَيِّتِ، وقالَ غيرُهُ: هو الدُّعاءُ بالوَيْلِ والثُّبورِ).
وقال الحافظُ: (أي: مِن النِّياحةِ ونحوِها، وكذا النَّدْبُ به كقَوْلِهِم: واجَبَلاه، وكذا الدُّعاءُ بالوَيْلِ والثُّبورِ).
وقال ابنُ القَيِّمِ: (الدُّعاءُ
بِدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ، كالدُّعاءِ إلى القَبائِلِ والعَصَبيَّةِ
للإنسانِ، ومثلُه التَّعَصُّبُ لِلمَذَاهِبِ والطَّوائِفِ، والمَشايِخِ
وتَفْضِيلُ بعضٍ على بعضٍ في الهَوَى والعَصَبِيَّةِ، وكَوْنُه مُنْتَسِبًا
إليه يَدْعُو إلى ذلك، ويُوَالِي عليهِ، ويُعادِي ويَزِنُ النَّاسَ بِهِ،
فكُلُّ هذا مِن دَعْوَى الجاهِلِيَّةِ).
قُلْتُ: الصَّحيحُ أنَّ دَعْوَى الجاهِلِيَّةِ يَعُمُّ ذلكَ كلَّه، وقد جاءَ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ ما في هذا الحديثِ عن ابنِ ماجه،
وصَحَّحَه ابنُ حِبَّانَ عن أَبِي أُمامَةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَعَنَ الخَامِشَةَ وَجْهَهَا، وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا، وَالدَّاعِيَةَ بِالْوَيْلِ والثُّبُورِ))
وهذا يَدُلُّ على أنَّ هذهِ الأمورَ مِن الكَبائرِ؛ لأنَّها مُشْتَمِلةٌ
على التَّسَخُّطِ على الرَّبِّ وعَدَمِ الصَّبرِ الوَاجِبِ، والإِضْرارِ
بالنَّفْسِ من لَطْمِ الوَجْهِ، وإِتْلافِ المالِ؛ بِشَقِّ الثِّيابِ
وتَمْزِيقِها وذِكْرِ المَيِّتِ بما ليسَ فيهِ، والدُّعاءِ بالوَيْلِ
والثُّبُورِ والتَّظَلُّمِ مِن اللهِ تعالى، وبدونِ هذا يَثْبُتُ
التَّحْرِيمُ الشَّدِيدُ، فأمَّا الكلماتُ اليَسِيرةُ إذا كانت صِدْقًا، لا
على وجهِ النَّوْحِ والتَّسَخُّطِ، فلا تَحْرُمُ، ولا تُنافِي الصَّبرَ
الواجِبَ، نَصَّ عليه أحمدُ لِمَا رَوَاهُ في (مُسْنَدِه) عن أَنَسٍ، أَنَّ أَبا بَكْرٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ دَخَلَ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ
وَفاتِهِ فوَضَعَ فَمَهُ بينَ عَيْنَيْهِ، ووَضَعَ يَدَيْهِ على
صُدْغَيْهِ، وقال: (وانَبِيَّاهُ واخَلِيلاهُ واصَفِيَّاهُ).
وكذلك: صَحَّ عن فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أنَّها نَدَبَتْ أَبَاها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: (يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ...) الحديثَ.
واعْلَمْ أنَّ الحديثَ المَشْروحَ لا يَدُلُّ على النَّهْيِ عن البُكاءِ
أَصْلاً، وإنَّما يَدُلُّ على النَّهْيِ عَمَّا ذُكِرَ فيه فَقَطْ.
قُلْتُ: ويَدُلُّ لذلك قولُه عليه السَّلامُ لَمَّا ماتَ ابنُه إبراهيمُ: ((تَدْمَعُ العَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلاَ نَقُولُ إلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)) وهو في (الصَّحيحِ)، وفي (الصحيحينِ)عن أُسَامةَ بنِ زَيْدٍ أنَّ
رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ إِلى إِحْدَى
بَنَاتِهِ، وَلَهَا صَبِيٌّ فِي المَوْتِ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ
وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا شَنٌّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ
سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ:((هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)).
وأَخْرَجَه الطَّبَرانيُّ والحاكمُ عن عبدِ اللهِ بن مُغَفَّلٍ، وأَخْرَجَه ابنُ عَدِيٍّ عن أَبِي هُرَيْرةَ، والطَّبَرانيُّ عن عَمَّارِ بنِ ياسرٍ، وحَسَّنَه السُّيُوطِيُّ.
قولُهُ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا)) قال شارِحُ (الجامِعِ الصَّغِيرِ):(
أي: بِصَبِّ البَلاءِ والمَصائِبِ عليهِ جَزاءً لِمَا فَرَّطَ من
الذُّنوبِ منه، فيَخْرُجُ منها وليس عليهِ ذَنْبٌ يُوافِي به يومَ
القِيامةِ، كما يَعْلَمُ من مُقابلِه الآتي، ومَن فُعِلَ ذلك به فقد
أُعْظِمَ اللُّطْفُ به؛ لأَنَّ مَن حُوسِبَ بعَمَلِهِ عاجِلاً في الدُّنيا
خَفَّ جَزاؤُه عليهِ حتَّى يُكَفَّرَ بالشَّوْكةِ يُشاكُها، حتَّى
بالقَلَمِ يَسْقُطُ مِن الكاتِبِ، فيُكَفَّرُ عن المُؤْمِنِ بكُلِّ ما
يَلْحَقُهُ في دُنْياه حتَّى يَمُوتَ على طَهارةٍ من دَنَسِهِ).
قُلْتُ: وفي (الصَّحيحِ): ((لاَ يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)). وفي (المُسْنَدِ)، وغيرِه من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفوعًا: ((لا
يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ
وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
قال شيخُ الإسلامِ: (المَصائِبُ
نِعْمةٌ؛ لأنَّها مُكَفِّراتٌ لِلذُّنوبِ، ولأنَّها تَدْعُو إلى الصَّبرِ،
فيُثابُ عليها، ولأنَّها تَقْتَضِي الإِنابةَ إلى اللهِ والذُّلَّ له،
والإِعْراضَ عن الخَلْقِ، إلى غيرِ ذلك من المَصالِحِ العظيمةِ، فنَفْسُ
البَلاءِ يُكَفِّرُ اللهُ بهِ الخَطايا، ومَعْلومٌ أنَّ هذا مِن أَعْظَمِ
النِّعَمِ، ولو كانَ رَجُلٌ مِن أَفْجَرِ النَّاسِ فإنَّهُ لا بُدَّ أَنْ
يُخَفِّفَ اللهُ عنه عَذابَهُ بمَصائبِه.
فالمصائبُ رَحمةٌ ونِعْمةٌ في حَقِّ عُمومِ الخَلْقِ؛ إلاَّ أَنْ يَدْخُلَ
صاحِبُها بسببِها في مَعاصٍ أَعْظَمَ مِمَّا كانَ قبلَ ذلك، فَتَكُونَ
شَرًّا عليه من جِهةِ ما أَصابَهُ في دِينهِ، فإنَّ مِن الناسِ مَن إذا
ابْتُلِيَ بفَقْرٍ، أو مَرَضٍ، أو جُوعٍ حَصَلَ له مِن الجَزَعِ،
والسُّخْطِ والنِّفَاقِ ومَرَضِ القلبِ، أو الكُفْرِ الظَّاهِرِ، أو تَرْكِ
بعضِ الوَاجِباتِ، وفِعْلِ بعضِ المُحَرَّماتِ ما يُوجِبُ له ضَرَرًا في
دِينِه بحَسَبِ ذلك، فهذا كانت العافيةُ خيرًا له من جِهةِ ما أَوْرَثَتْهُ
المُصِيبةُ، لا من جِهةِ المصيبةِ، كما أَنَّ مَن أَوْجَبَتْ له المصيبةُ
صَبْرًا وطاعةً كانَتْ في حَقِّهِ نِعمةً دِينيَّةً، فهي بِعَيْنِها فِعْلُ
الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ رَحْمةً لِلْخَلْقِ، واللهُ تَبارَكَ وتعالى
مَحْمُودٌ عليها.
فإن اقْتَرَنَ بها طاعةٌ كان ذلك نِعْمةً ثانيةً على صاحِبِها.
وإن اقْتَرَنَ بها لِلمُؤْمِنِ مَعْصِيةٌ، فهذا مِمَّا تَتَنَوَّعُ فيه
أَحْوالُ النَّاسِ كما تَتَنَوَّعُ أَحْوالُهم في العافِيةِ، فمَن
ابْتُلِيَ فَرُزِقَ الصَّبرَ كانَ الصَّبرُ عليه نِعْمةً في دِينِه،
وحَصَلَ له بعدَ ما كُفِّرَ مِنْ خَطاياهُ رَحْمةٌ، وحَصَلَ له بثَنائِه
على رَبِّه صَلاةُ رَبِّه عليه حيثُ قال: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157]، فحَصَلَ له غُفْرَانُ السَّيِّئاتِ، ورَفْعُ الدَّرَجاتِ، وهذا مِن أَعْظَمِ النِّعَمِ.
فالصَّبْرُ واجِبٌ على كُلِّ مُصابٍ؛ فمَن قامَ بالصَّبْرِ الواجِبِ حَصَلَ له ذلك) انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قولُهُ: ((وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ)) أي: أَخَّرَ عنهُ العُقوبةَ بذَنْبِه.
قولُهُ: ((حَتَّى يُوافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) هو بضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الفاءِ مَنْصُوبًا بحتَّى مَبْنِيًّا للفاعِلِ.
قال العَزِيزِيُّ: (أي:
لا يُجازِيه بذَنْبِه في الدُّنيا حتَّى يَجِيءَ في الآخِرةِ مُسْتَوفِيَ
الذُّنوبِ وَافِيَها، فيَسْتَوْفِي ما يَسْتَحِقُّه مِن العِقابِ).
قُلْتُ: وهذا
ممَّا يُزَهِّدُ العَبْدَ في الصِّحَّةِ الدَّائِمةِ خَوْفًا أن تَكُونَ
طَيِّباتُهُ عُجِّلَتْ له في الحَياةِ الدُّنيا، واللهُ تعالى لم يَرْضَ
الدُّنيا لِعُقوبةِ أَعْدائِهِ، كَمَا لم يَرْضَها لإِثابَةِ أَوْلِيائِهِ،
بل جَعَلَ ثَوابَهم أَنْ أَسْكَنَهُم في جِوارِه ورَضِيَ عنهم كما قالَ
تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[القمر:54،55].
لهذا لَمَّا
ذَكَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَسْقَامَ قَالَ
رَجُلٌ: (يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الأَسْقَامُ؟ وَاللهِ مَا مَرِضْتُ
قَطُّ)، قَالَ: ((قُمْ عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا)) رَوَاهُ أَبُو داودَ،
فأمَّا قولُهُ: (وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ورَوَى الإمامُ أحمدُ عن مَحْمُودِ بنِ لَبِيدٍ مَرْفوعًا: ((إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ)) قال المُنْذِرِيُّ: (رُواتُه ثِقاتٌ).
قولُهُ: ((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَع عِظَمِ الْبَلاءِ))
بكسرِ المُهْمَلةِ وفَتْحِ الظَّاءِ فيهما، ويَجُوزُ ضَمُّها معَ سُكونِ
الظَّاءِ، أي: مَن كانَ ابْتِلاؤُه أَعْظَمَ فجَزاؤُه أَعْظَمُ، فعَظَمَةُ
الأَجْرِ وكَثْرَةُ الثَّوابِ مع عِظَمِ البَلاءِ كَيْفِيَّةً وكَمِّيَّةً
جَزاءً وِفاقًا.
قُلْتُ: ولَمَّا كانَ الأنبياءُ عليهم السَّلامُ أَعْظَمَ النَّاسِ جَزَاءً كانُوا أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً، كَمَا في حديثِ سَعْدٍ، سُئِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟
وقد يَحْتَجُّ بِقَوْلِه: {إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ}
مَن يَقُولُ: إنَّ المَصائِبَ والأَسْقامَ يُثابُ عليها غيرَ تَكْفِيرِ
الخَطايا، ورَجَّحَ ابنُ القَيِّمِ وغَيرُه أنَّ ثوابَها تَكْفِيرُ
الخَطايا فقطْ.
إلاَّ إنْ كانَتْ سَبَبًا لِعَمَلٍ صالِحٍ كالتَّوْبةِ، والاسْتِغْفارِ
والصَّبْرِ والرِّضَى، فإنَّه حينَئذٍ يُثابُ على ما تَوَلَّدَ منها كمَا
في حديثِ: ((إِذَا
سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنَ اللهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا، أَوْ قَالَ:
لَمْ يَنَلْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلاَهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي
وَلَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ
الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) رَوَاه أبو داودَ في رِوايةِ ابنِ داسَةَ،والبُخارِيُّ في (تارِيخِه)، وأبو يَعْلَى في (مُسْنَدِه) وحَسَّنَهُ بعضُهم.
وعلى هذا فيُجابُ عن الأوَّلِ:((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ)) أي: إذا صَبَرَ واحْتَسَبَ.
قولُهُ: ((وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ))
صَرِيحٌ في حُصولِ الابْتِلاءِ لِمَن أَحَبَّهُ اللهُ، ولَمَّا كانَ
الأنبياءُ عليهم السَّلامُ أَفْضَلَ الأَحْبابِ كانُوا أَشَدَّ النَّاسِ
بَلاءً، وأَصَابَهم مِن البَلاءِ في اللهِ ما لم يُصِبْ أَحَدًا لِيَنالُوا
بِذلكَ الثَّوابَ العَظِيمَ والرِّضْوانَ الأَكْبَرَ، ولِيَأْتَسِيَ بهم
مَن بعدَهم، ويَعْلَمُوا أنَّهم بَشَرٌ تُصِيبُهُم المِحَنُ والبَلايَا فلا
يَعْبُدُونَهُم.
فإن قُلْتَ: كَيْفَ يَبْتَلِي اللهُ أَحْبَابَه؟!
قِيلَ: لَمَّا كانَ أَحدٌ لا يَخْلُو مِن ذَنْبٍ كان الابْتِلاءُ
تَطْهِيرًا لهم كَمَا صَحَّتْ بِذلك الأَحادِيثُ، وفي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ:((أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لأُِطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايبِ))ولأنَّه زِيادةٌ في دَرَجاتِهم لِمَا يَحْصُلُ مع المُصِيبَةِ لِلمُؤْمِنِ مِن الأَعْمالِ الصَّالِحةِ كما تَقَدَّمَ في حديثِ: ((إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنَ اللهِ مَنْزِلَةٌ))الحديثَ،
ولأنَّ ذلكَ يَدْعُو إلى التَّوْبةِ، فإنَّ اللهَ تعالى يَبْتَلِي
العِبادَ بعَذابِ الدُّنيا لِيَتُوبُوا مِن الذُّنوبِ كما قال تعالى: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الرُّوم:41].
فمَنْ رَزَقَهُ اللهُ التَّوْبةَ بِسَببِ المُصِيبةِ كان ذلك مِنْ أَعْظَمِ
نِعَمِ اللهِ عليهِ، ولأنَّ ذلكَ يَحْصُلُ بهِ دُعاءُ اللهِ والتَّضَرُّعُ
إليهِ؛ ولِهَذَا ذَمَّ اللهُ مَنْ لا يَسْتَكِينُ لِرَبِّهِ، ولا
يَتَضَرَّعُ عندَ حُصولِ البَأْساءِ كما قالَ تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}[المؤمنون:76]ودُعاءُ اللهِ، والتَّضَرُّعُ إليهِ مِن أَعْظَمِ النِّعَمِ،
فهذه النِّعْمةُ والتي قبلَها مِن أَعْظَمِ صَلاحِ الدِّينِ، فإنَّ صَلاحَ
الدِّينِ في أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وحدَه ويُتَوَكَّلَ عليه، وأَنْ لا
تَدْعُوَ معَ اللهِ إلهًا آخَرَ لا دُعاءَ عبادةٍ، ولا دعاءَ مَسْأَلةٍ.
فإذا حَصَلَتْ لكَ التَّوْبةُ الَّتِي مَضْمُونُها أَنْ تَعْبُدَ اللهَ
وَحْدَهُ، وتُطِيعَ رُسُلَهُ بِفِعْلِ المَأْمُورِ، وتَرْكِ المَحْظُورِ،
كُنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللهَ، وإذا حَصَلَ لك الدُّعاءُ الذي هو سُؤالُ
اللهِ حاجاتِك، فتَسْأَلُه ما تَنْتَفِعُ به، وتَسْتَعِيذُ به مِمَّا
تَسْتَضِرُّ به كانَ هذا مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عليكَ، وهذا كَثِيرًا
ما يَحْصُلُ بالمَصائِبِ.
قولُهُ: ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى)) أي: مَن رَضِيَ بما قَضاهُ اللهُ وقَدَّرَهُ عليه مِن الابْتِلاءِ فَلَهُ الرِّضَى مِن اللهِ جَزاءً وِفاقًا، كما قالَ تعالى: {رَضِي اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[ البَيِّنَة: 8]،
وهذا دَليلٌ على فَضِيلةِ الرِّضَى، وهو أَنْ لا يَعْتَرِضَ على الحُكْمِ
ولا يَتَسَخَّطَهُ ولا يَكْرَهَهُ، وقد وَصَّى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً فقالَ: ((لاَ تَتَّهِمِ اللهَ فِي شَيْءٍ قَضَاهُ لَكَ)).
فإذا نَظَرَ المُؤْمِنُ بالقَضاءِ والقَدَرِ في حِكْمةِ اللهِ ورَحْمتِهِ،
وأنَّه غيرُ مُتَّهَمٍ في قَضائِه دَعاهُ ذلك إلى الرِّضَى، قال ابنُ مَسْعُودٍ: (إنَّ
اللهَ بقِسْطِه وعِلْمِه جَعَلَ الرَّوْحَ والفَرَجَ في اليَقِينِ
والرِّضَى، وجَعَلَ الهَمَّ والحُزْنَ في الشَّكِّ والسَّخَطِ).
وقال ابنُ عَوْنٍ: (ارْضَ
بقَضَاءِ اللهِ منْ عُسْرٍ ويُسْرٍ، فإنَّ ذلك أَقَلُّ لِهَمِّكَ،
وأَبْلَغُ فيما تَطْلُبُ مِن أَمْرِ آخِرتِكَ، واعْلَمْ أَنَّ العَبْدَ لن
يُصِيبَ حَقِيقةَ الرِّضَى حتَّى يَكونَ رِضاهُ عندَ الفَقْرِ والبَلاءِ
كرِضاهُ عندَ الغِنَى والرَّخاءِ، كيفَ تَسْتَقْضِي اللهَ في أَمْرِك،
ثُمَّ تَسْخَطُ إنْ رَأَيْتَ قَضاءهُ مُخالِفًا لِهَوَاكَ؟
ولَعَلَّ ما هَوِيتَ من ذلك لو وُفِّقَ لكَ لكانَ فيه هَلاكُكَ، وتَرْضَى
قَضاءهُ إذا وافَقَ هَوَاكَ، وذلك لِقِلَّةِ عِلْمِكِ بالغَيْبِ، إذا
كُنْتَ كذلك ما أَنْصَفْتَ مِن نَفْسِك، ولا أَصَبْتَ بابَ الرِّضَى) ذَكَرَهُ ابنُ رَجَبٍ قالَ: (وهذا كَلامٌ حَسَنٌ).
قولُهُ: ((وَمَنْ سَخِطَ)) هو بكسرِ الخاءِ، قال أبو السَّعاداتِ: (السُّخْطُ
الكَرَاهِيةُ للشَّيءِ وعَدَمُ الرِّضَى بهِ، أي: مَنْ سَخِطَ أَقْدارَ
اللهِ فله السُّخْطُ، أي: مِن اللهِ وكَفَى بذلكَ عُقوبة) قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[مُحَمَّد:28] وفيه دَليلٌ أنَّ السُّخْطَ مِن أَكْبَرِ الكَبائرِ.
وقد يُسْتَدَلُّ بهِ على إِيجابِ الرِّضَى كما هو اخْتِيارُ ابنِ عَقِيلٍ، واختارَ القاضِي عَدَمَ الوُجُوبِ، ورَجَّحَهُ شيخُ الإسلامِ، وابنُ القَيِّمِ.
قال شيخُ الإِسلامِ: (ولم يَجِئ الأَمْرُ به كَما جاءَ الأَمْرُ بالصَّبرِ، وإنَّما جَاءَ الثَّناءُ على أَصْحابِهِ ومَدْحُهُم).
قالَ: (وأمَّا
ما جاءَ مِن الأَثَرِ : (مَنْ لم يَصْبِرْ عَلَى بَلائِي، ولَمْ يَرْضَ
بِقَضَائِي فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَايَ)؛ فَهَذَا إِسْرائِيلِيٌّ، ليسَ
يَصِحُّ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قال الهَيْثَمِيُّ: (فيهِ حَزْمُ بنُ أَبِي حَزْمٍ وَثَّقَهُ ابنُ مَعِينٍ، وضَعَّفَهُ جَمْعٌ، وبَقِيَّةُ رِجالِهِ ثِقاتٌ، فإن ثَبَتَ هذا دَلَّ على وُجُوبِهِ).
قال شيخُ الإِسلامِ: (وأَعْلَى مِن ذلكَ؛ أي: مِن الرِّضَى أَنْ يَشْكُرَ اللهَ على المُصِيبةِ لِمَا يَرَى مِن إِنْعامِ اللهِ تَعالى عليه بِها) انْتَهَى.
واعْلَمْ أَنَّهُ لا تَنافِيَ بينَ الرِّضَى وبينَ الإِحْساسِ بالأَلَمِ،
فكَثِيرٌ مِمَّن له أَنِينٌ مِن وَجَعٍ وشِدَّةِ مَرَضٍ قَلْبُه مَشْحُونٌ
مِن الرِّضَى والتَّسْلِيمِ لأَمْرِ اللهِ.
فإن قِيلَ: ما الفَرْقُ بينَ الرِّضَى والصَّبْرِ؟
قُلْتُ: (كَلامُ الخَوَّاصِ هذا عَزْمٌ على الرِّضَى ليسَ هُوَ الرِّضَى، فإنَّهُ إنَّما يَكونُ بعدَ القَضاءِ كما في الحديثِ: ((وَأَسْأَلُكَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ))
لأَنَّ العَبْدَ قد يَعْزِمُ على الرِّضَى بالقَضاءِ قبلَ وُقوعِه، فإذا
وَقَعَ انْفَسَخَتْ تلك العَزِيمةُ، فمَن رَضِيَ بعدَ وُقوعِ القَضاءِ
فهُوَ الرَّاضِي حَقِيقةً) قالَهُ ابنُ رَجَبٍ.