26 Oct 2008
باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الْمَائِدَةُ:23]
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيتْ عَلَيهِمْ آيَاتُهُ زَادَتهم إيمَانًا وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأَنْفَالُ:2].
وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ومَن اتَّبَعكَ مِنَ المُؤمِنِينَ}[الأَنْفَالُ:64].
وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطَّلاَقُ:3].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: ({حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ} ) [آل عِمْرَانَ:173] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
الأُولَى: أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنَ الْفَرَائِضِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الإِيمَانِ.
الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الأَنْفَالِ.
الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ فِي آخِرِهَا.
الْخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الْطَلاَقِ.
السَّادِسَةُ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّهَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّدائدِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (4) قال أَبُو السَّعاداتِ: (يُقالُ:
تَوَكَّلَ بالأَمْرِ إذا ضَمِنَ القِيامَ به، ووَكَّلْتُ أَمْرِي إلى
فُلانٍ، أي: أَلْجَأْتُهُ واعْتَمَدْتُ عليهِ فِيهِ، ووَكَّلَ فُلانٌ
فُلانًا: إذا اسْتَكْفاهُ أَمْرَه ثِقةً بكِفايتِه، أو عَجَزَ عن القِيامِ
بِأَمْرِ نَفْسِه) انْتَهَى. - وقولِهِ تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود:123]. - وقولِهِ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}[المزمل:9]. - وقولِهِ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:58]. - وقولِهِ: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة:129] وغيرِ ذلك مِن الآياتِ. - وفي حديثٍ آخَرَ: ((لَوْ
أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ
كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)) رَوَاه أحمدُ وابنُ ماجه. قال الإمامُ أحمدُ: (التَّوَكُّلُ عَمَلُ القَلْبِ). - وقال أبو إِسْماعِيلَ الأَنْصارِيُّ: (التَّوَكُّلُ كِلَةُ الأَمْرِ إلى مالِكِه والتَّعْوِيلُ على وَكالَتِه). - وقال: {وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[إبراهيم:11]. قُلْتُ: وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ التَّوَكُّلَ على اللهِ عِبادةٌ، وعلى أنَّه فَرْضٌ، وإذا كان كذلك فصَرْفُه لِغيرِ اللهِ شِرْكٌ. أحدُهما: التَّوَكُّلُ في الأمورِ التي لا يَقْدِرُ عليها إلاَّ اللهُ،
كالذين يَتَوَكَّلُونَ على الأَمْواتِ والطَّواغِيتِ في رَجاءِ مَطالِبِهم
مِن النَّصْرِ والحِفْظِ والرِّزْقِ والشَّفاعةِ، فهذا شِرْكٌ أَكْبَرُ،
فإنَّ هذه الأمورَ ونحوَها لا يَقْدِرُ عليها إلاَّ اللهُ تَبارَكَ وتعالى. الثاني: التَّوَكُّلُ في الأسبابِ الظَّاهرةِ العاديَّةِ،
كمَنْ يَتَوَكَّلُ على أَمِيرٍ أو سُلْطانٍ فيما يَجْعَلُهُ اللهُ
بِيَدِهِ مِن الرِّزْقِ أو دَفْعِ الأَذَى ونحوِ ذلك. فهذا نَوْعُ شِرْكٍ
خَفِيٍّ، والوَكالةُ الجَائِزةُ هي تَوَكُّلُ الإنسانِ في فِعْلِ مَقْدُورٍ
عليه. وقولُهُ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ} قدِ اسْتَدَلَّ الصَّحابةُ والتَّابِعون ومَن تَبِعَهم بهذه الآيةِ وأَمْثالِها على زِيادةِ الإيمانِ ونُقْصانِهِ. وقال مُجاهِدٌ في هذه الآيةِ: (الإيمانُ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، وهو قَوْلٌ وعَمَلٌ) رَوَاه ابنُ أَبِي حاتِمٍ. وحَكَى الإِجْماعَ على ذلك الشَّافِعيُّ، وأَحْمَدُ، وأَبُو عُبَيْدٍ، وغيرُهُم. فإنْ قِيلَ: إذا كانَ
المُؤْمِنُ حَقًّا هو الذي فَعَلَ المَأْمُورَ وتَرَكَ المَحْظُورَ
فلِماذَا لم يَذْكُرْ إلاَّ خَمْسَةَ أَشْياءَ؟ قِيلَ: لأنَّ ما ذَكَرَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا تَرَكَ،
فإنَّهُ ذَكَرَ وَجَلَ قُلوبِهم إذا ذُكِرَ اللهُ، وزِيادةَ إيمانِهم إذا
تُلِيَتْ عليهم آياتُهُ مع التَّوَكُّلِ عليه، وإِقامَ الصَّلاةِ على
الوَجْهِ المَأْمُورِ به باطنًا وظاهِرًا، والإِنْفاقَ من المالِ
والمَنافِعِ، فكان مُسْتَلْزِمًا لِلباقِي؛ فإنَّ وَجَلَ القَلْبِ عندَ
ذِكْرِ اللهِ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ والخَوْفَ منه، وذلك يَدْعُو صاحِبَه
إلى فِعْلِ المَأْمُورِ وتَرْكِ المَحْظُورِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (وهذا خَطَأٌ مَحْضٌ لا يَجُوزُ حَمْلُ الآيةِ عليه؛ فإنَّ الحَسْبَ والكِفايةَ للهِ وحدَهُ كالتَّوَكُّلِ والتَّقْوَى والعِبادةِ. - قالَ تعالى: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:63]، ففَرَّقَ بينَ الحَسْبِ والتَّأْيِيدِ،
فجَعَلَ الحَسْبَ له وحدَهُ، وجَعَلَ التَّأييدَ لَهُ بِنَصْرِه
وبِعِبادِه، وأَثْنَى على أَهْلِ التَّوحيدِ مِن عبادِه حيثُ أَفْرَدُوه
بالحَسْبِ، فقالَ تعالى: {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173]،
ولم يَقُولُوا: حَسْبُنا اللهُ ورَسولُهُ، فإذا كانَ هذا قَوْلَهم ومَدْحَ
الرَّبِّ تَعالى لهم بذلك فكَيْفَ يَقولُ لرَسولِهِ: اللهُ وأَتْباعُكَ
حَسْبُك؟ وأَتْباعُه قد أَفْرَدوا الرَّبَّ تعالى بالحَسْبِ، ولم
يُشْرِكُوا بينَه وبينَ رَسولِه، فكيفَ يُشْرِكُ بينَهُ وبينَهم في حَسْبِ
رَسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال بعضُ
السَّلَفِ: (جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ عَمَلٍ جَزاءً مِن نَفْسِهِ، وجَعَلَ
جَزاءَ التَّوَكُّلِ عليه نَفْسَ كِفايتِه، فَقَالَ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق:3]،
ولم يَقُلْ: فَلَهُ كَذَا وكَذا من الأَجْرِ، كَمَا قالَ في الأعمالِ، بل
جَعَلَ نَفْسَه سُبْحانَه كافِيَ عبدِه المُتَوَكِّلِ عليه، وحَسْبَهُ
ووَاقِيَهُ، فلو تَوَكَّلَ العَبْدُ على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ،
وكادَتْهُ السَّماوَاتُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ، لَجَعَلَ له مَخْرَجًا،
وكَفَاهُ، ونَصَرَهُ) انْتَهَى. (وفي
الآيةِ دَليلٌ على فَضْلِ التَّوَكُّلِ، وأنَّه أَعْظَمُ الأَسْبابِ في
جَلْبِ المَنافِعِ، ودَفْعِ المَضارِّ؛ لأَنَّ اللهَ عَلَّقَ الجُمْلةَ
الأخيرةَ على الأُولَى تَعْلِيقَ الجَزاءِ على الشَّرْطِ، فيَمْتَنِعُ أَنْ
يَكونَ وُجودُ الشَّرْطِ كَعَدَمِه؛ لأنَّه تعالى رَتَّبَ الحُكْمَ على
الوَصْفِ المُناسِبِ له، فعُلِمَ أَنَّ تَوَكُّلَه هو سَبَبُ كَوْنِ اللهِ
حَسْبًا له) ذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ. وفيها: تَنْبِيهٌ على القِيامِ بالأسبابِ معَ التَّوَكُّلِ؛ لأنَّه تَباركَ وتَعالى ذَكَرَ التَّقْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ التَّوَكُّلَ، كما قال: {وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المائدة:12]
فجَعَلَ التَّوَكُّلَ مع التَّقْوَى الذي هو قِيامٌ بالأسبابِ المَأْمُورِ
بها، فحينَئِذٍ إذا تَوَكَّلَ على اللهِ، فهو حَسْبُهُ، فالتَّوَكُّلُ
بدونِ القيامِ بالأسبابِ المأمورِ بها عَجْزٌ مَحْضٌ، وإنْ كانَ مَشُوبًا
بنوعٍ من التَّوكُّلِ، فلا يَنْبَغِي للعبدِ أنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ
عَجْزًا، ولا عَجْزَهُ تَوَكُّلاً، بل يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ من جُمْلةِ
الأسبابِ التي لا يَتِمُّ المَقْصُودُ إلاَّ بها كُلِّها، ذَكَرَ معناه ابنُ القَيِّمِ. (5) قولُهُ: {حَسْبُنا اللهُ} أي: كافِينا فلا نَتَوَكَّلُ إلاَّ عليه، كما قال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق:3] أي: كافيه، كما قال: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ)). قَالَ: (قُلْتُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ). فَقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
اللهَ يَلُومُ عَلَى العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالكَيْسِ، فَإِذَا
غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)) وفي الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ.
ومُرادُ المُصَنِّفِ
بِهَذَه التَّرْجَمةِ النَّصُّ على أنَّ التَّوَكُّلَ فَرِيضةٌ يَجِبُ
إِخْلاصُه للهِ تَعالى؛ لأنَّهُ مِن أَفْضَلِ العِباداتِ، وأَعْلَى
مَقاماتِ التَّوْحِيدِ؛ بل لا يَقومُ بهِ على وجهِ الكمالِ إِلاَّ خَوَاصُّ
المُؤْمِنِينَ، كمَا تَقَدَّم في صِفةِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الذين
يَدْخُلُون الجَنَّةَ بِلا حِسابٍ ولا عَذابٍ، ولِذلك أَمَرَ اللهُ به في
غيرِ آيةٍ مِن القرآنِ أَعْظَمَ مِمَّا أَمَرَ بالوُضوءِ والغُسْلِ مِن
الجَنابةِ، بل جَعَلَهُ شَرْطًا في الإيمانِ والإسلامِ، ومَفهومُ ذلك
انْتِفاءُ الإيمانِ والإسلامِ عندَ انْتفائِه، كما في الآيةِ المُتَرْجَمِ
لها، وقولِهِ تَعالَى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}[يونس:84].
- وقولِهِ: {أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلاً}[الإسراء:2].
وفي الحديثِ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ إِيمَانًا فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)) رَوَاه ابنُ أَبِي الدُّنْيا، وأَبُو يَعْلَى والحاكِمُ.
إذا تَبَيَّنَ ذلك فمعنى الآيةِ المُتَرْجَمِ لها: أنَّ مُوسَى
عليه السَّلامُ أَمَر قومَه بدُخولِ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ التي كَتَبَها
اللهُ لهم، ولا يَرْتَدُّوا على أَدْبارِهم خَوْفًا مِن الجَبَّارِين، بل
يَمْضُوا قُدُمًا ولا يَهابُونَهم ولا يَخْشَونَهم، مُتَوَكِّلِين على
اللهِ في هَزِيمتِهم، مُصَدِّقِين بصِحَّةِ وَعْدِهِ لهم إنْ كانُوا
مُؤْمِنينَ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (فجَعَلَ التَّوَكُّلَ على اللهِ شَرْطًا في الإيمانِ، فدَلَّ على انْتِفاءِ الإيمانِ عند انْتِفائِه.
وفي الآيةِ الأُخْرَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}[يونس:84] فجَعَلَ دَليلَ صِحَّةِ الإسلامِ التَّوَكُّلَ.
فذِكْرُ اسْمِ الإيمانِ هَهُنا دونَ سائرِ أسمائِهم دَليلٌ على اسْتِدْعاءِ
الإيمانِ للتَّوَكُّلِ، وأنَّ قوَّةَ التَّوَكُّلِ وضَعْفَه بحَسَبِ
قُوَّةِ الإيمانِ وضَعْفِه، وكُلَّما قَوِيَ إيمانُ العَبْدِ كانَ
تَوَكُّلُه أَقْوَى، وإذا ضَعُفَ الإيمانُ ضَعُفَ التَّوَكُّلُ، وإذا كانَ
التَّوَكُّلُ ضعيفًا، فهو دليلٌ على ضَعْفِ الإيمانِ ولا بُدَّ.
واللهُ تَبارَكَ وتعالى يَجْمَعُ بينَ التَّوَكُّلِ والعِبادةِ، وبينَ
التَّوَكُّلِ والإيمانِ، وبينَ التَّوَكُّلِ والتَّقْوَى، وبينَ
التَّوَكُّلِ والإسلامِ، وبينَ التَّوَكُّلِ والهِدايةِ.
فظَهَرَ أنَّ التَّوَكُّلَ أَصْلٌ لِجَميعِ مَقاماتِ الإيمانِ والإحسانِ،
ولجميعِ أعمالِ الإسلامِ، وأنَّ مَنْزِلتَهُ، منها كمَنْزِلةِ الجَسَدِ مِن
الرَّأْسِ، فكَمَا لا يَقُومُ الرَّأْسُ إلاَّ على البَدَنِ، فكذلك لا
يَقومُ الإيمانُ ومُقوِّماتُه إلاَّ على ساقِ التَّوَكُّلِ).
قال شيخُ الإسلامِ: (وما جاءَ أَحَدٌ مَخْلُوقًا أو تَوَكَّلَ عليه إلاَّ خَابَ ظَنُّه فيه، فإنَّهُ مُشْرِكٌ {وَمَن
يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج:31]).
قُلْتُ: لكِنَّ التَّوَكُّلَ على غيرِ اللهِ قِسمان:
ولكنْ ليسَ له أَنْ يَتَوَكَّلَ عليه وإنْ وَكَّلَه، بل يَتَوَكَّلُ على
اللهِ ويَعْتَمِدُ عليه في تَيْسِيرِ ما وَكَّلَهُ فيهِ كَمَا قَرَّرَهُ
شَيْخُ الإسلام
قال: (وقولُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال:2]. الآيةَ).
قال ابنُ عَبَّاسٍ
في الآيةِ: (المُنَافِقونَ لا يَدْخُلُ قلوبَهُم شيءٌ مِن ذِكْرِ اللهِ
عندَ أَداءِ فَرائِضِه، ولا يُؤْمِنونَ بشيءٍ مِن آياتِ اللهِ، ولا
يَتَوَكَّلُون على اللهِ، ولا يُصَلُّون إذا غابُوا، ولا يُؤَدُّون زَكاةَ
أموالِهِم، فأَخْبَرَ اللهُ أنَّهم لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَصَفَ
المؤمِنِين فقالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال:2] فأَدَّوْا فَرائِضَه) رَوَاه ابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حاتِمٍ.
وهذه صِفةُ المُؤْمِنِ الذي إذا ذَكَرَ اللهَ وَجِلَ قلبُهُ، أي: خَافَ مِن
اللهِ فَفَعَلَ أَوَامِرَهُ، وتَرَكَ زَواجِرَهُ، فإنَّ وَجَلَ القلبِ مِن
اللهِ يَسْتَلْزِمُ القِيامَ بفِعْلِ المَأْمُورِ، وتَرْكِ المَحْظُورِ
كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (.4) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40،41].
ولِهَذَا قال السُّدِّيُّ في قولِهِ: {إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(هو الرَّجلُ يُرِيدُ أنْ يَظْلِمَ، أو قالَ: يَهِمُّ بمَعْصِيةٍ، فيُقالُ له: اتَّقِ اللهَ فَيَجِلُ قلبُهُ) رَوَاه ابنُ أَبِي شَيْبَةَ، وابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حاتِمٍ.
قالَ عمرُ بنُ حَبِيبٍ الصَّحابِيُّ: (إنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، فقِيلَ له: وما زِيادتُه وما نُقْصانُه؟
قال: إذا ذَكَرْنَا اللهَ وخَشِينَاه فذلك زيِادتُه، وإذا غَفَلْنَا ونَسِينَا وضَيَّعْنا فذلك نُقْصانُه) رَوَاه ابنُ سَعْدٍ.
وقولُهُ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
أي: يَعْتَمِدُونَ عليهِ بقلوبِهِم مُفَوِّضِينَ إليه أُمورَهم وَحْدَهُ
لا شَرِيكَ له، فلا يَرْجُونَ سِوَاهُ، ولا يَقْصِدُونَ إلاَّ إيَّاهُ، ولا
يَرْغَبُونَ إلاَّ إليه، يَعْلَمُون أنَّ ما شاءَ كانَ، وما لم يَشَأْ لم
يَكُنْ، وأنَّه المُتَصَرِّفُ في المُلْكِ وَحْدَهُ لا شريكَ له.
وفي الآيةِ وَصْفُ المؤمنين حَقًّا بثلاثِ مَقاماتٍ من مَقاماتِ الإحسانِ وهي: الخوفُ، وزِيادةُ الإيمانِ، والتَّوَكُّلُ على اللهِ وحدَهُ.
وكذلك: (زِيادةُ
الإيمانِ عندَ تِلاوةِ آياتِ الله يَقْتَضِي زِيادتَه عِلْمًا وعَمَلاً،
ثُمَّ لا بُدَّ مِن التَّوَكُّلِ على اللهِ فيما لا يَقْدِرُ عليه إلاَّ
اللهُ، ومِن طاعةِ اللهِ فيما يَقْدِرُ عليه. وأَصْلُ ذلك الصَّلاةُ
والزَّكاةُ، فمَن قامَ بهَذِه الخَمْسِ كما أُمِرَ لَزِمَ أَنْ يَأْتِيَ
بِسائِرِ الوَاجِباتِ، بل الصَّلاةُ نَفْسُها إذا فَعَلَها كما أُمِرَ
فَهِيَ تَنْهَى عن الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ) ذَكَر ذلك شيخُ الإسلامِ.
قال: (وقولُهُ: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ}[الأنفال:64]) الآيةَ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (أي: اللهُ وَحْدَهُ كافِيكَ وكَافِي أَتْباعِك، فلا تَحْتاجُون معَهُ إلى أحدٍ)
هذا من أَمْحَلِ المُحالِ وأَبْطلِ الباطِلِ.
ونَظِيرُ هذا قولُهُ سبحانَهُ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:60]، فتَأَمَّلْ كيفَ جَعَلَ الإِيتاءَ للهِ والرَّسولِ، كمَا قالَ: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7].
وجَعَلَ الحَسْبَ لَهُ، فلم يَقُلْ: وقالوا حَسْبُنا اللهُ ورسولُهُ، بل جَعَلَهُ خالِصَ حَقِّه، كما قالَ: {إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ}[التوبة: 60] ولم يَقُلْ: (وإلى رَسولِه)، بل جَعَلَ الرَّغْبةَ إليه وَحْدَه، كما قال: {وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الانشراح: 8]
فالرَّغْبةُ والتَّوَكُّلُ والإِنابةُ والحَسْبُ للهِ وحدَه، كما أنَّ
العِبادةَ والتَّقْوَى والسُّجودَ والنَّذْرَ والحَلِفَ لا يَكونُ إلاَّ له
سبحانَهُ وتَعالى) انْتَهَى كلامُه.
وبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مُطابَقةُ الآيةِ للتَّرْجَمةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى
أَخْبَرَ أنَّه حَسْبُ رَسولهِ، وحَسْبُ أَتْباعِه، أي: كافِيهِم
وناصِرُهم، فنِعْمَ المَوْلَى ونِعْمَ النَّصِيرُ، وفي ضِمْنِ ذلك أَمْرٌ
لهم بإِفْرَادِه تعالى بالحَسْبِ، اسْتِكْفاءً بكِفايتِه تَبارَكَ وتعالى،
وذلك هو التَّوَكُّلُ.
قالَ: (وقولُه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: 2])
قال ابنُ القَيِّمِ: (أي:
كافِيهِ، ومَن كانَ اللهُ كافِيَه ووَاقِيَه، فلا مَطْمَعَ فيه
لِعَدُوِّه، ولا يَضُرُّه إلاَّ أَذًى لا بُدَّ منه كالحَرِّ والبَرْدِ
والجُوعِ والعَطَشِ، وأمَّا أَنْ يَضُرَّهُ بما يَبْلُغُ به مُرادَهُ فلا
يَكونُ أبدًا، وفَرْقٌ بينَ الأَذَى الذِي هو في الظَّاهِرِ إِيذاءٌ، وهو
في الحقيقةِ إحسانٌ إليه وإِضْرارٌ بنفسِه، وبينَ الضَّرَرِ الذي يُشْتَفَى
به مِنه).
وفي أَثَرٍ رَوَاهُ أحمدُ في (الزُّهْدِ) عن وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ، قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ في بعضِ كُتُبِهِ: (بِعِزَّتِي
إِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِي فَإِنْ كَادَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَمَنْ
فِيهِنَّ، وَالأَرَضُونَ بِمَنْ فِيهِنَّ، فَإِنِّي أَجْعَلُ لَهُ بِذَلِكَ
مَخْرَجًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِي فَإِنِّي أَقْطَعُ يَدَيْهِ مِنْ
أَسْبَابِ السَّمَاءِ، وَأَخْسِفُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الأَرْضَ،
فَأَجْعَلُهُ فِي الهَوَاءِ ثُمَّ أَكِلُهُ إِلى نَفْسِهِ، كَفَى بِي
لِعَبْدِي مَآلاً، إِذَا كَانَ عَبْدِي فِي طَاعَتِي أُعْطِيهِ قَبْلَ أَنْ
يَسْأَلَنِي، وَأَسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَنِي، فَأَنَا
أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ الَّتِي تَرْفُقُ بِهِ مِنْهُ).
قولُهُ: {وَنِعْمَ الوَكِيلُ} أي: نِعْمَ المُوَكَّلُ إليهِ المُتَوَكَّلُ عليه؛ كما قالَ تَبارَك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحج:78]، فقد تَضَمَّنَتْ هذهِ الكلمةُ العظيمةُ التَّوكُّلَ على اللهِ والالْتِجاءَ إليه، قالَ ابنُ القَيِّمِ: (وهو
حَسْبُ مَن تَوَكَّلَ عليهِ، وكافِي مَنْ لَجَأَ إليه، وهو الذي يُؤَمِّنُ
خَوْفَ الخائِفِ، ويُجِيرُ المُسْتَجِيرَ وهو نِعْمَ المَوْلَى، ونِعْمَ
النَّصِيرُ؛ فمَن تَوَلاَّهُ، واسْتَنْصَرَ بِه، وتَوَكَّلَ عليه،
وانْقَطَعَ بكُلِّيَّتِهِ إليه، تَوَلاَّهُ، وحَفِظَهُ وحَرَسَهُ،
وصَانَهُ، ومَنْ خافَهُ واتَّقاهُ أَمَّنَه مِمَّا يَخْافُ ويَحْذَرُ،
وجَلَبَ إليه كُلَّ ما يَحْتاجُ إليه مِن المَنافِعِ).
قولُهُ: (قَالَهَا إِبْراهِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ) وفي رِوايةٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (كانَ آخِرَ قَوْلِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ حينَ أُلْقِيَ في النَّار: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}) رَوَاه البُخارِيُّ، وقد ذَكَرَ اللهُ القِصَّةَ في سُورةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ.
قولُهُ: (وقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلى آخِرِه، وذلك بعدَما كانَ مِن أَمْرِ أُحُدٍ ما كان، بَلَغَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَهُ أنَّ أَبَا سُفْيانَ، ومَن مَعَهُ قد أَجْمَعُوا الكَرَّةَ عليهم فَخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعَه أَبُو
بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ، والزُّبَيْرُ، وسَعْدٌ، وطَلْحَةُ،
وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْفٍ، وحُذَيْفةُ بنُ اليَمَانِ، وعبدُ اللهِ
بنُ مَسْعُودٍ، وأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ،
في سَبْعِينَ راكبًا حتَّى انْتَهَى إلى حَمْراءِ الأَسَدِ، وهي مِن
المَدِينةِ على ثلاثةِ أَمْيالٍ، ثُمَّ أَلْقَى اللهُ الرُّعْبَ في قَلْبِ أَبِي سُفْيانَ، فرَجَعَ إلى مَكَّةَ، ومَرَّ به رَكْبٌ من عبدِ قَيْسٍ فقالَ: (أين تُرِيدُون؟)
فقالُوا: (نُرِيدُ المدينةَ).
قالَ: (فهل أنتم مُبَلِّغُونَ عنِّي محمَّدًا رِسالةً أُرْسِلُكُم بها إليهِ؟)
قالوا: (نَعَمْ)
قال: (فإذا وَافَيْتُمُوه فأَخْبِرُوه أَنَّا قد أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إليهِ وإلى أصحابِه لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهم)
فمَرَّ الرَّكْبُ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بِحَمْراءِ الأسَدِ فأَخْبَرُوه بالذي قالَ أَبُو سُفْيانَ وأصحابُه.
فقال: (({حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}))[آل عمران: 173] والقِصَّةُ مَشْهُورةٌ في السِّيَرِ والتَّفاسِيرِ.
ففي هاتَيْنِ القِصَّتَيْنِ فَضْلُ هذهِ الكَلِمةِ، وأنَّه قولُ إبراهيمَ ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ في الشَّدائِدِ، ولهذا جاءَ في الحديثِ: ((إِذَا وَقَعْتُم فِي الأَمْرِ العَظِيمِ فَقُولُوا حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ)) رَواهُ ابنُ مَرْدَويَه.
وأنَّ القيامَ بالأسبابِ مع التَّوكُّلِ على اللهِ لا يَتَنافَيانِ، بل
يَجِبُ على العبدِ القيامُ بهما، كما فَعَلَ الخَلِيلانِ عليهما الصَّلاةُ
والسَّلامُ، ولِهذا جاءَ في الحديثِ الصَّحِيحِ الذي رَواهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائيُّ، عن عَوفِ بنِ مالكٍ: (أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَينَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ
المَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ
الوَكِيلُ.
فَقَالَ: ((مَا قُلْتَ؟))
قال مُجاهدٌ في قَولِهِ: {فَزَادَهُم إِيمَانًا} قال: (الإيمانُ يَزِيدُ ويَنْقُصُ)
وعلى أنَّ ما يَكْرَهُهُ الإنسانُ قد يَكونُ خيرًا له، وأنَّ التَّوَكُّلَ
أَعْظَمُ الأسبابِ في حُصولِ الخيرِ، ودَفْعِ الشَّرِّ في الدُّنيا
والآخِرةِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (6)
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[المائدة:23]). فَلاَ يَحْصُلُ كمالُ التوحيدِ بأنواعِهِ الثلاثةِ إلاَّ بِكَمَالِ التَّوَكُّلِ على اللهِ، كما في هذهِ الآيةِ، وكما قالَ تَعَالَى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُم باللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}[يونس:84] وقولِه: {رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إَلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}. [المُزَّمِّل:9] والآياتُ في الأمرِ بِهِ كثيرةٌ جِدًّا. أحدُهُمَا: التَّوَكُّلُ في الأمورِ التي لا يَقْدِرُ عليها إلاَّ اللهُ، كالذي يَتَوَكَّلُ على الأمواتِ والطواغيتِ في رجاءِ مطالبِهِم مِنْ نَصْرٍ أوْ حفظٍ أوْ رزقٍ أوْ شفاعةٍ، فهذا شِرْكٌ أَكْبَرُ. الثاني: التَّوَكُّلُ في الأسبابِ الظاهرةِ، كَمَنْ
يَتَوَكَّلُ على أميرٍ أوْ سلطانٍ فيما أَقْدَرَهُ اللهُ تَعَالَى عليهِ
مِنْ رزقٍ، أوْ دفعِ أَذًى، ونحوِ ذلكَ، فهوَ نَوْعُ شِرْكٍ أَصْغَرَ. (7) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإِذا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمِ
يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2]. وَوَجَلُ القلبِ من اللهِ يَسْتَلْزِمُ القيامَ بفعلِ ما أَمَرَ بهِ وتَرْكِ ما نَهَى عنهُ، قالَ السُّدِّيُّ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} هوَ الرجلُ يُرِيدُ أنْ يَظْلِمَ، أوْ قال: يَهِمَّ بِمَعْصِيَةٍ، فَيُقَالُ لهُ: اتَّقِ اللهَ، فَيَجَلُ قَلْبُهُ، رَوَاهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ وابنُ جريرٍ. قولُهُ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} اسْتَدَلَّ الصحابةُ والتابعونَ ومَنْ تَبِعَهُم منْ أهلِ السُّنَّةِ بهذهِ الآيةِ ونَظَائِرِهَا على زيادةِ الإيمانِ ونقصانِهِ. وقالَ مجاهدٌ: (الإيمانُ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، وهوَ قَوْلٌ وعَمَلٌ) رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وحَكَى الإجماعَ على ذلكَ الشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو عُبَيْدٍ، وغيرُهُم. (8) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64]). وقيلَ: المعنَى حَسْبُكَ اللهُ وحسْبُكَ المؤمنونَ. قالَ ابنُ القيِّمِ: (وهذا
خطأٌ مَحْضٌ لا يَجُوزُ حَمْلُ الآيةِ عليهِ؛ فإنَّ الحسبَ والكفايةَ للهِ
وحدَهُ كالتَّوَكُّلِ والتَّقْوَى والعبادةِ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:62]فَفَرَّقَ
بَيْنَ الحَسْبِ والتَّأْيِيدِ، فَجَعَلَ الحسبَ لهُ وحدَهُ، وَجَعَلَ
التَّأْيِيدَ لهُ بِنَصْرِهِ وبعبادِهِ، وَأَثْنَى على أهلِ التوحيدِ مِنْ
عبادِهِ حيثُ أَفْرَدُوهُ بالحسبِ، فقالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عِمْرَانَ:173]ولم يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ ورسولُهُ، وَنَظِيرُ هذا قولُهُ سبحانَهُ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:59]. فَتَأَمَّلْ
كَيْفَ جَعَلَ الإيتاءَ للهِ والرسولِ، وجَعَلَ الحَسْبَ لهُ وحدَهُ، فلم
يَقُلْ: وقالوا حَسْبُنَا اللهُ ورسولُهُ، بَلْ جَعَلَهُ خالصَ حَقِّهِ،
كما قالَ: {إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الرغبةَ إليهِ وحدَهُ، كما قالَ تَعَالَى:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}فالرَّغْبَةُ
والتَّوَكُّلُ والإنابةُ والحَسْبُ للهِ وحدَهُ، كما أنَّ العبادةَ
والتَّقْوَى والسجودَ والنَّذْرَ والحلفَ لا يكونُ إلاَّ لهُ سبحانَهُ
وتَعَالَى) انْتَهَى. (9) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق:3])، قالَ ابنُ القَيِّمِ: (أيْ:
كَافِيهِ، ومَنْ كانَ اللهُ كَافِيَهُ وَوَاقِيَهُ فَلاَ مَطْمَعَ فيهِ
لِعَدُوٍّ، ولا يَضُرُّهُ إلاَّ أَذًى لا بُدَّ منهُ، كالحَرِّ والبَرْدِ
والجُوعِ والعَطَشِ. وأمَّا أنْ يَضُرَّهُ بِمَا يَبْلُغُ مُرَادَهُ منهُ
فلا يَكُونُ أَبَدًا، وَفَرْقٌ بينَ الأَذَى الذي هوَ في الظاهرِ إِيذَاءٌ،
وفي الحقيقةِ إحسانٌ وإضرارٌ بنفسِهِ، وبينَ الضَّرِّ الذي يُتَشَفَّى بهِ
منهُ). وفيها: تَنْبِيهٌ على القيامِ بالأسبابِ معَ التَّوَكُّلِ؛ لأنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ التَّقْوَى، ثمَّ ذَكَرَ التَّوَكُّلَ كما قالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المائدة: 11]
فَجَعَلَ التَّوَكُّلَ معَ التَّقْوَى الذي هوَ قيامٌ بالأسبابِ المأمورِ
بها، فالتَّوَكُّلُ بدونِ القيامِ بالأسبابِ المأمورِ بها عَجْزٌ مَحْضٌ،
وإنْ كانَ مَشُوبًا بِنَوْعٍ من التَّوَكُّلِ، فلا يَنْبَغِي للعبدِ أنْ
يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، ولا عَجْزَهُ تَوَكُّلاً، بلْ يَجْعَلَ
تَوَكُّلَهُ منْ جملةِ الأسبابِ التي لا يَتِمُّ المقصودُ إلاَّ بها
كُلِّهَا، ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ بمعناهُ. (10) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَن ابنِ عَبَّاسٍ، قالَ: (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)، قالَها إِبْرَاهيمُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وَقَالَها
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ قالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173]) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (يُقَالُ:
تَوَكَّلَ بالأمرِ، إذا ضَمِنَ القيامَ بهِ، وَوَكَلْتُ أَمْرِي إلى فلانٍ
إذا اعْتَمَدْتَ عليهِ، وَوَكَّلَ فُلاَنٌ فُلاَنًا: إذا اسْتَكْفَاهُ
أَمْرَهُ ثِقَةً بِكِفَايَتِهِ، أوْ عَجْزًا عن القيامِ بأمرِ نفسِهِ) انتهَى.
وَأَرَادَ المُصَنِّفُ بهذهِ الترجمةِ بالآيةِ بيانَ أنَّ التَّوَكُّلَ فريضةٌ يَجِبُ إخلاصُهُ للهِ تَعَالَى؛ فإنَّ تقديمَ المعمولِ يُفِيدُ الحصرَ،
أيْ: وعلى اللهِ فَتَوَكَّلُوا لا على غيرِهِ، فهوَ مِنْ أَجْمَعِ أنواعِ
العبادةِ وَأَعْظَمِهَا؛ لِمَا يَنْشَأُ عنهُ مِن الأعمالِ الصالحةِ،
فإنَّهُ إذا اعْتَمَدَ على اللهِ في جميعِ أمورِهِ الدينيَّةِ والدنيويَّةِ
دونَ كلِّ مَنْ سِوَاهُ صَحَّ إخلاصُهُ ومُعَامَلَتُهُ معَ اللهِ
تَعَالَى، فهوَ مِنْ أَعْظَمِ مَنَازِلِ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قالَ الإمامُ أحمدُ: (التَّوَكُّلُ عَمَلُ القَلْبِ).
وقالَ ابنُ القَيِّمِ في مَعْنَى الآيَةِ المُتَرْجَمِ بِهَا: (فجَعَلَ التَّوَكُّلَ على اللهِ شَرْطًا في الإيمانِ، فدَلَّ على انْتِفَاءِ الإيمانِ عندَ انتفائِهِ.
وفي الآيَةِ الأُخْرَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}[يونس:84]فَجَعَلَ
دليلَ صِحَّةِ الإسلامِ التَّوَكُّلَ وكُلَّمَا قَوِيَ تَوَكُّلُ العَبْدِ
كانَ إيمانُهُ أقْوَى، وإِذا ضَعُفَ الإيمانُ ضَعُفَ التَّوَكُّلُ، وإذا
كانَ التَّوَكُّلُ ضَعِيفًا كانَ دَلِيلاً على ضعفِ الإيمانِ ولا بُدَّ،
واللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى يَجْمَعُ بينَ التَّوَكُّلِ والعِبَادَةِ،
وبينَ التَّوَكُّلِ والإيمانِ، وبينَ التَّوَكُّلِ والتَّقْوَى، وبينَ
التَّوَكُّلِ والإسلامِ، وبينَ التَّوَكُّلِ والهِدَايَةِ.
فَظَهَرَ أنَّ التَّوَكُّلَ أَصْلٌ لجميعِ مقاماتِ الإيمانِ والإحسانِ،
ولجميعِ أعمالِ الإسلامِ، وأنَّ مَنْزِلَتَهُ منها كمنزلةِ الجسدِ من
الرأسِ، فكما لا يقومُ الرأسُ إلاَّ على البدنِ، فكذلكَ لا يقومُ الإيمانُ
ومقاماتُهُ وأعمالُهُ إلاَّ على سَاقِ التَّوَكُّلِ).
قالَ شيخُ الإسلامِ: (وَمَا رَجَا أَحَدٌ مَخْلُوقًا أو تَوَكَّلَ عليهِ إلاَّ خَابَ ظَنُّهُ فيهِ، فإنَّهُ مُشْرِكٌ: {وَمَن
يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج:31]).
قالَ الشَّارِحُ: (قُلْتُ: لكنَّ التوكلَ على غيرِ اللهِ قِسْمَانِ:
والوَكالةُ الجائزةُ: هيَ تَوْكِيلُ الإنسانِ في فِعْلِ ما يَقْدِرُ عليهِ نِيَابَةً عنهُ، لكنْ
ليسَ لهُ أنْ يَعْتَمِدَ عليهِ في حصولِ ما وَكَّلَهُ عليه، بلْ
يَتَوَكَّلُ على اللهِ في تَيْسِيرِ أَمْرِهِ الذي يَطْلُبُهُ بِنَفْسِهِ
أوْ نَائِبِهِ، وذلكَ منْ جملةِ الأسبابِ التي يَجُوزُ فِعْلُهَا، ولا
يُعْتَمَدُ عليها، بلْ يُعْتَمَدُ على المُسَبِّبِ الذي أَوْجَدَ السببَ
والمُسَبَّبَ).
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ في الآيةِ: (المنافقونَ
لا يَدْخُلُ في قُلُوبِهِم شيءٌ منْ ذِكْرِ اللهِ عندَ أداءِ فرائضِهِ،
ولا يؤمنونَ بِشَيْءٍ منْ آياتِ اللهِ، ولا يَتَوَكَّلُونَ على اللهِ، ولا
يُصَلُّونَ إذا غَابُوا، ولا يُؤَدُّونَ زكاةَ أموالِهِم، فَأَخْبَرَ اللهُ
أنَّهُم لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، ثمَّ وَصَفَ المؤمنينَ فقالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابنُ أبي حاتمٍ.
قالَ عُمَيْرُ بنُ حَبِيبٍ الصحابيُّ: (إنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ.
فَقِيلَ لهُ: وما زِيَادَتُهُ ونُقْصَانُهُ؟
قالَ: إذا ذَكَرْنَا اللهَ وَخَشِينَاهُ، فذلكَ زيادتُهُ، وإذا غَفَلْنَا ونَسِينَا وَضَيَّعْنَا، فذلكَ نُقْصَانُهُ) رَوَاهُ ابنُ سعدٍ.
قولُهُ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
أيْ: يَعْتَمِدُونَ عليهِ بِقُلُوبِهِم، مُفَوِّضِينَ إليهِ أُمُورَهُم
فلا يَرْجُونَ سِوَاهُ، ولا يَقْصِدُونَ إلاَّ إِيَّاهُ، ولا يَرْغَبُونَ
إلاَّ إليهِ، يَعْلَمُونَ أنَّ ما شاءَ كانَ وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ،
وأنَّهُ المُتَصَرِّفُ في المُلْكِ وحدَهُ، والمعبودُ وحدَهُ لا شَرِيكَ
لهُ.
وفي الآيةِ وَصْفُ المؤمنينَ حَقًّا بثلاثِ مقاماتٍ منْ مقاماتِ الإحسانِ، وهيَ: الخوفُ، وزيادةُ الإيمانِ، والتَّوَكُّلُ على اللهِ وحدَهُ، وهذهِ المقاماتُ تَقْتَضِي كمالَ الإيمانِ، وحصولَ أعمالِهِ الباطنةِ والظاهرةِ.
مثالُ ذلكَ: (الصلاةُ)
فَمَنْ أقامَ الصلاةَ وحَافَظَ عليها، وأَدَّى الزكاةَ كَمَا أَمَرَهُ
اللهُ اسْتَلْزَمَ ذلكَ العملَ بما يَقْدِرُ عليهِ من الواجباتِ، وتَرْكَ
جميعِ المُحَرَّمَاتِ، كما قالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}[العنكبوت: 45].
قال ابنُ القَيِّمِ: أي: (اللهُ كَافِيكَ وكَافِي أَتْبَاعِكَ، فلا تَحْتَاجُونَ معهُ إلى أَحَدٍ) وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ.
وبهذا يَتَبَيَّنُ مطابقةُ الآيةِ للترجمةِ، فإذا كانَ هوَ الكافِيَ
لعبدِهِ وَجَبَ ألاَّ يُتَوَكَّلَ إلاَّ عليهِ، ومَتَى الْتَفَتَ بقلبِهِ
إلى سِوَاهُ وُكِلَ إلى مَن الْتَفَتَ إليهِ، كما في الحديثِ: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيهِ)).
قالَ بعضُ السَّلَفِ: (جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ عَمَلٍ جزاءً منْ نفسِهِ، وَجَعَلَ جزاءَ التَّوَكُّلِ عليهِ نفسَ كِفَايَتِهِ، فقالَ:{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}فَلَمْ
يَقُلْ: فَلَهُ كذا وكذا من الأجرِ، كما قالَ في الأعمالِ، بلْ جَعَلَ
نفسَهُ سبحانَهُ كَافيًا عَبْدَهُ المُتَوَكِّلَ عليهِ وَحَسْبَهُ
وَوَاقِيَهُ، فلوْ تَوَكَّلَ العبدُ على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ،
وَكَادَتْهُ السماواتُ والأرضُ ومَنْ فِيهِنَّ، لَجَعَلَ لهُ مَخْرَجًا،
كَفَاهُ وَنَصَرَهُ) انْتَهَى.
وفي أَثَرٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ في (الزهدِ) عنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: (قَالَ
اللهُ - عزَّ وجلَّ - في بَعْضِ كُتُبِهِ: (بِعِزَّتِي، إِنَّهُ مَن
اعْتَصَمَ بي فَكَادَتْهُ السَّماواتُ بمَن فِيهنَّ والأَرَضُونَ بِمَنْ
فِيهِنَّ، فَإِنِّي أَجْعَلُ لهُ مِنْ ذلِكَ مَخْرَجًا، وَمَنْ لم
يَعْتَصِمْ بِي، فإِنِّي أَقْطَعُ يَدَيْهِ مِنَ أَسْبابِ السماءِ،
وأَخْسِفُ مِنْ تَحتِ قَدَمَيْهِ الأرضَ، فَأَجْعَلُهُ في الهَواءِ، ثمَّ
أَكِلُهُ إلى نَفْسِهِ، كَفَى بِي لِعبْدِي مَآلاً، إذا كانَ عَبْدِي في
طاعَتِي أُعْطِيهِ قبْلَ أنْ يَسْأَلَنِي، وَأَسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أنْ
يَدْعُوَنِي، فَأَنَا أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ التي تَرْفُقُ بهِ مِنْهُ).
وفي الآيةِ دليلٌ على فَضْلِ التَّوَكُّلِ، وأنَّهُ أَعْظَمُ الأسبابِ في
جَلْبِ المنافعِ ودَفْعِ المَضَارِّ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّقَ الجملةَ
الأخيرةَ على الأُولَى تَعْلِيقَ الجزاءِ على الشرطِ، فَيَمْتَنِعُ أنْ
يَكُونَ وُجُودُ الشرطِ كَعَدَمِهِ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى رَتَّبَ الحُكْمَ
على الوصفِ المناسبِ لهُ، فَعُلِمَ أنَّ تَوَكُّلَهُ هوَ سَبَبُ كونِ
اللهِ حَسْبًا لهُ.
قولُهُ: {حَسْبُنَا اللهُ} أيْ: كَافِينَا، فلا نَتَوَكَّلُ إلاَّ عليهِ، قالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36].
قولُهُ: {وَنِعْمَ الوَكِيلُ} أيْ: نِعْمَ المَوْكُولُ إليهِ، كَمَا قالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحجُّ: 78] ومخصوصُ (نِعْمَ) محذوفٌ، تقديرُهُ (هوَ).
قالَ ابنُ القَيِّمِ: (هوَ
حَسْبُ مَنْ تَوَكَّلَ عليهِ، وَكَافِي مَنْ لَجَأَ إليهِ، وهوَ الذي
يُؤَمِّنُ خَوْفَ الخائِفِ، ويُجِيرُ المُسْتَجِيرَ، فمَنْ تَوَلاَّهُ،
واسْتَنْصَرَ بهِ، وَتَوَكَّلَ عليهِ، وانْقَطَعَ بِكُلِّيَّتِهِ إليهِ،
تَوَلاَّهُ وَحَفِظَهُ وَحَرَسَهُ وَصَانَهُ، ومَنْ خَافَهُ وَاتَّقَاهُ،
أَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ وَيَحْذَرُ، ويَجْلُبُ إليهِ ما يَحْتَاجُ إليهِ
من المنافع ِ).
قولُهُ:(قَالَهَا إبراهيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ) قالَ تَعَالَى: {قَالُوا
حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا
يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا
بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}[الأنبياء: 68 - 70].
قولُهُ: (وَقَالَها مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ قالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})وذلكَ بعدَ مُنْصَرَفِ قريشٍ والأحزابِ مِنْ أُحُدٍ، بَلَغَهُ أنَّ أبا سُفْيَانَ
ومَنْ مَعَهُ قَدْ أَجْمَعوا الْكَرَّةَ عَلَيْهِم، فَخَرَجَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَبْعِينَ رَاكِبًا حتَّى انْتَهَى إلى
حَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَلْقَى اللهُ الرُّعْبَ في قَلْبِ أبي سُفْيَانَ.
فَرَجَعَ إلى مَكَّةَ بِمَنْ مَعَهُ، وَمَرَّ بهِ رَكْبٌ مِنْ عبدِ قَيْسٍ فقالَ: (أَيْنَ تُرِيدُونَ؟)
قالوا: نُرِيدُ المدينةَ.
قال: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ مُحَمَّدًا عَنِّي رِسَالَةً؟).
قالُوا: نَعَمْ.
قال: (فَإِذَا وَافَيْتُمُوهُ فأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ جَمَعْنَا
السَّيْرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ).
فَمَرَّ الرَّكْبُ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بِحَمْرَاءِ الأسدِ، فَأَخْبَرُوهُ بالَّذِي قالَ أبو سُفْيَانَ.
فقالَ: ((حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكيلُ)).
فَفِي هاتَيْنِ القِصَّتَيْنِ فَضْلُ هذهِ الكلمةِ العظيمةِ، وأنَّهَا قولُ الخَلِيلَيْنِ عليهِمَا السلامُ في الشَّدائدِ.
وجاءَ في الحديثِ: ((إِذَا وَقَعْتُمْ فِي الأَمْرِ الْعَظِيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ)).
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (2)
{وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآيةَ، التوكُّلُ على اللهِ من أعظمِ واجباتِ التوحيدِ والإِيمانِ، وبِحَسَبِ قوةِ توكُّلِ العبدِ على اللهِ يَقْوَى إيمانُه، وَيَتِمُّ توحيدُه، والعبدُ مضْطَرٌّ إلى التوكُّلِ على اللهِ والاستعانةِ به في كلِّ ما يريدُ فِعْلَهُ أَوْ تَرْكَهُ من أمورِ دينِه أو دنياه.
وحقيقةُ التوكُّلِ على اللهِ: أن يعلمَ العبدُ أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ،
وأنه ما شاءَ اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكنْ، وأنه هو النافعُ الضارُّ
المعطي المانعُ، وأنه لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، فبعدَ هذا العلمِ
يَعْتَمِدُ بقلبِه على ربِّه في جلبِ مصالحِ دينِه ودنياه وفي دفع
المضارِّ، وَيثِقُ غايةَ الوثوقِ بربِّه في حصولِ مطلوبِه، وهو مع هذا
باذلٌ جهدَه في فعلِ الأسبابِ النافعةِ.
فمتى استَدام العبدُ هذا العلمَ وهذا الاعتمادَ والثقةَ فهو المتوكِّلُ على
اللهِ حقيقةً، وَلْيُبَشَّرْ بكفايةِ اللهِ له وَوَعْدِهِ للمتوكلين، ومتى
عَلَّقَ ذلك بغيرِ اللهِ فهو مشركٌ، ومَن توكَّلَ على غيرِ اللهِ وتعلَّقَ
به وُكِلَ إليه وخابَ أملُه.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (14)
مُنَاسَبَةُ هذا البابِ لِمَا قبلَهُ: هيَ أنَّ
الإنسانَ إذا أفردَ اللهَ سبحانَهُ بالتوَكُّلِ، فإنَّهُ يعتمدُ عليهِ في
حصولِ مطلوبِهِ وزوالِ مكروبِهِ، ولا يعتمدُ على غيرِهِ. والتوكُّلُ: هوَ الاعتمادُ على اللهِ سبحانَهُ وتعالى في حُصُولِ المطلوبِ، ودَفْعِ المكروهِ، معَ الثقةِ بهِ وفِعْلِ الأسبابِ المأذونِ فيها. وهذا أقربُ تعريفٍ لهُ، ولا بُدَّ منْ أمريْنِ: الأوَّلُ: أنْ يكونَ الاعتمادُ على اللهِ اعتمادًا صادقًا حقيقيًّا. الثاني: فعلُ الأسبابِ المأْذُونِ فيها. فمنْ جعَلَ أكثرَ
اعتمادِهِ على الأسبابِ نقصَ توكُّلُهُ على اللهِ، ويكونُ قادحًا في
كفايَةِ اللهِ، فكأنَّهُ جعلَ السببَ وحدَهُ هوَ العُمْدَةَ فيما يَصْبُو
إليهِ منْ حُصُولِ المطلوبِ وزوالِ المكروهِ، ويُذْكَرُ عنْ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قَدِمَ ناسٌ مِنْ أهلِ اليمنِ إلى الحَجِّ بلا زادٍ، فجيءَ بهِمْ إلى عُمرَ فسألَهُم. والتوَكُّلُ نصفُ الدِّينِ؛ ولهذا نقُولُ في صلاتِنَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فنَطْلُبُ مِن اللهِ العونَ اعتمادًا عليهِ سبحانَهُ بأنَّهُ سيُعِينُنا على عبادتِهِ. يُمكنُ تحقيقُ العبادةِ إلاَّ بالتوَكُّلِ؛
لأنَّ الإنسانَ لوْ وُكِلَ إلى نفسِهِ وُكِلَ إلى ضَعْفٍ وعَجْزٍ، ولمْ
يتَمَكَّنْ من القيامِ بالعبادةِ، فهوَ حينَ يعبدُ اللهَ يشعرُ أنَّهُ
مُتَوَكِّلٌ على اللهِ، فينالُ بذلكَ أجرَ العبادةِ وأجرَ التوكُّلِ. والتوكُّلُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: الأوَّلُ: توَكُّلُ عبادةٍ وخضوعٍ، وهوَ:
الاعتمادُ المُطْلَقُ على مَنْ تَوَكَّلُ عليهِ، بحيثُ يعْتَقِدُ أنَّ
بِيَدِهِ جلبَ النفعِ ودفعَ الضَّرِّ، فيعتمدُ عليهِ اعتمادًا كاملاً معَ
شُعُورِهِ بافتقارِهِ إليهِ، فهذا يجبُ إخلاصُهُ للهِ تعالى، ومَنْ صرَفَهُ
لغيرِ اللهِ فهوَ مشركٌ شركًا أكبرَ، كالَّذِينَ يعتمدونَ على الصالحِينَ
من الأمواتِ والغائبينَ، وهذا لا يكونُ إلاَّ مِمَّنْ يعتقدُ أنَّ لهؤلاءِ
تصَرُّفًا خَفِيًّا في الكونِ، فيعتمدُ عليهم في جلْبِ المنافعِ ودفْعِ
المضارِّ. الثاني: الاعتمادُ على شخصٍ في رِزْقِهِ ومعاشِهِ وغيرِ ذلكَ، وهذا مِن الشركِ الأصغرِ. وقالَ بعضُهم: مِن الشركِ الخَفِيِّ،
مثلُ: (اعتمادِ كثيرٍ مِن الناسِ على وظيفَتِهِ في حصولِ رزقِهِ) ولهذا
تجدُ الإنسانَ يشْعُرُ منْ نفسِهِ أنَّهُ مُعْتَمِدٌ على هذا اعتمادَ
افتقارٍ، فَتَجِدُ في نفسِهِ من المُحَابَاةِ لمَنْ يكونُ هذا الرزقُ
عندَهُ ما هوَ ظاهرٌ، فهوَ لمْ يعْتَقِدْ أنَّهُ مُجَرَّدُ سببٍ، بلْ
جعلَهُ فوقَ السببِ. الثالثُ: أنْ يعتمدَ على شخصٍ فيما فَوَّضَ إليهِ التصرُّفَ فيهِ، كما
لوْ وَكَّلْتَ شخصًا في بيعِ شيءٍ أوْ شرائِهِ، وهذا لا شيءَ فيهِ؛
لأنَّهُ اعتمدَ عليهِ وهوَ يَشْعُرُ أنَّ المنزلةَ العُلْيَا لهُ فَوْقَهُ؛
لأنَّهُ جعلَهُ نائبًا عنْهُ. ومِنْ ثَمَّ نَعْرِفُ أنَّ طريقَ السلفِ هوَ خيرُ الطُّرُقِ، وبهِ تجْتَمِعُ جميعُ العباداتِ، وتَتِمُّ بهِ جميعُ أحوالِ العابدينَ. قولُهُ تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا}، {على اللهِ} مُتَعَلِّقةٌ بقولِهِ: {فَتَوَكَّلُوا}، وتقديمُ المعمولِ يدُلُّ على الحَصْرِ؛ أيْ: على اللهِ لا على غيرِهِ. {فَتَوَكَّلُوا}
أي: اعتَمِدُوا، والفاءُ لتحسينِ اللفظِ، وليْسَتْ عاطفةً؛ لأنَّ في
الجملةِ حرفَ عطفٍ وهُوَ الواوُ، ولا يُمكنُ أنْ نعطِفَ الجملةَ بعاطفيْنِ؛
فتكونُ لتحسينِ اللفظِ، كقولِهِ تعالى: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} والتقديرُ: (بل اللهَ اعْبُدْ). (15) قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}، {إنَّما}: أداةُ حصرٍ، والحصرُ هوَ: إثباتُ الحُكْمِ في المذكورِ، ونفيُهُ عمَّا عدَاهُ، والمعنى: ما المؤمنونَ إلاَّ هؤلاءِ. وذكرَ اللهُ في هذهِ الآيَةِ وما بعدَها خمسةَ أَوْصَافٍ: أحدُها: قولُهُ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}؛
أيْ: خَافَتْ لِمَا فيها مِنْ تعظيمِ اللهِ تعالى، مثالُ ذلكَ: (رَجُلٌ
هَمَّ بمعصيَةٍ فذَكَرَ اللهَ، أوْ ذُكِّرَ بهِ، وقيلَ لهُ: اتَّقِ اللهَ)
فإنْ كانَ مؤمنًا فإنَّهُ سيَخَافُ، وهذا هوَ علامةُ الإيمانِ. الوصفُ الثاني: قولُهُ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}؛ أيْ: تصديقًا وامتثالاً. الوصفُ الثالثُ: قولُهُ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أيْ: يعتمدونَ على اللهِ لا على غيرِهِ، وهمْ معَ ذلكَ يعملونَ الأسبابَ، وهذا هوَ الشاهدُ. الوصفُ الرابعُ: قولُهُ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} أيْ: يأْتُونَ بها مستقيمةً كاملةً، والصلاةُ: اسمُ جنسٍ تشمَلُ الفرائضَ والنوافلَ. الوصفُ الخامسُ: قولُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
(مِنْ) إما أن تكون للتبعيضِ؛ فيكونُ اللهُ يمْدَحُ مَنْ أنْفَقَ بعضَ
مالِهِ لا كُلَّهُ. أوْ تكونُ للجنسِ؛ فيشملُ الثناءَ على مَنْ أنفَقَ
البعضَ ومَنْ أنفَقَ الكلَّ. (16) الآيَةُ الثالثةُ: قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}المرادُ
بهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، يُخَاطِبُ اللهُ رسولَهُ بوصفِ
النبوَّةِ أحيانًا، وبوصفِ الرسالةِ أحيانًا، فحِينَمَا يأمرُهُ أنْ
يُبَلِّغَ يُنَادِيهِ بوصفِ الرسالةِ، وأمَّا في الأحكامِ الخاصَّةِ
فالغالبُ أنْ يُنَاديَهُ بوصفِ النبوَّةِ، قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}.
قولُهُ: {حَسْبُكَ اللهُ}
أيْ: كَافِيكَ، والحَسْبُ الكافي، ومنهُ قولُهُ: أُعْطِي دِرْهَمًا
فحَسْبُ، و(حَسْبُ) خبرٌ مُقَدَّمٌ، ولفظُ الجلالةِ: مبتدأٌ مؤخَّرٌ. وقد بسط تلميذه ابن القيم في الكلام على قوله تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله....} الآية، وبين الغلط فيمن جعل الواو عاطفة، وبين الصواب في ذلك في طليعة زاد المعاد (1/35-36). قيلَ: حَسْبُكَ اللهُ، وحَسْبُكَ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ، و{مَنْ} معطوفةٌ على اللهِ؛ لأنَّهُ أقْرَبُ، ولوْ كانَ العطفُ على الكافِ في {حَسْبُكَ} لوجبَ إعادةُ الجارِّ، وهذا كقولِهِ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، فاللهُ أيَّدَ رسولَهُ بالمؤمنينَ، فيكونونَ حَسْبًا لهُ هنا، كما كانَ اللهُ حَسْبًا لَهُ، وهذا ضعيفٌ، والجوابُ عنهُ مِنْ وُجوهٍ: أوَّلاً: قوْلُهُم: عُطِفَ
عليهِ لكونِهِ أقربَ إليهِ، ليسَ بصحيحٍ؛ فقدْ يكونُ العطفُ على شيءٍ
سابقٍ، حتَّى إنَّ النحْوِيِّينَ قالُوا: إذا تَعَدَّدَت المعطوفاتُ يكونُ
العطفُ على الأوَّلِ. ثانيًا: قولُهُم: لوْ عُطِفَ على الكافِ لوَجَبَ إعادةُ الجارِّ، والصحيحُ أنَّهُ ليسَ بلازمٍ، قال ابنُ مالكٍ: وليسَ عندي لازمًا إذْ قدْ أتى في النظمِ والنثْرِ الصحيحِ مُثْبَتَا ثالثًا: استِدْلالُهُم بقولِهِ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}
فالتَّأْيِيدُ لهُمْ غيرُ كونِهِم حَسْبَهُ؛ لأنَّ معنى كونِهم حسْبَهُ
أنْ يعتمدَ عليهِمْ، ومعنى كونِهم يُؤَيِّدُونَهُ أيْ ينْصُرُونَهُ معَ
استقلالِهِ بنفسِهِ، وبينهما فَرْقٌ. رابعًا: أنَّ اللهَ سبحانَهُ حينما يَذْكُرُ الحسْبَ يُخَلِّصُهُ لنفْسِهِ، قالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، ففرَّقَ بينَ الحَسْبِ والإيتاءِ. خامسًا: أنَّ في قولِهِ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ}،
ما يمنعُ أنْ يكونَ الصحابةُ حَسْبًا للرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ؛ وذلكَ لأنَّهُم تَابِعُونَ، فكيفَ يكونُ التابعُ حَسْبًا
للمتبوعِ؟ هذا لا يستقيمُ أبدًا. (17) قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}،
جملةٌ شرطيَّةٌ تُفِيدُ بِمَنْطُوقِهَا: أنَّ مَنْ يتوَكَّلْ على اللهِ
فإنَّ اللهَ يكْفِيهِ مُهِمَّاتِهِ، ويُيَسِّرُ لهُ أمْرَهُ، فاللهُ
حسْبُهُ، ولوْ حصلَ لهُ بعضُ الأذِيَّةِ فإنَّ اللهَ يكْفِيهِ الأذى،
والرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سيِّدُ المتوَكِّلِينَ، ومعَ ذلكَ
يُصِيبُهُ الأذى، ولا تحصُلُ لهُ المضَرَّةُ؛ لأنَّ اللهَ حسْبُهُ،
فالنتيجةُ لمَن اعتمدَ على اللهِ أنْ يكْفِيَهُ ربُّهُ المئُونَةَ. والآيَةُ تُفِيدُ بمفهومِهَا: أنَّ مَنْ توكَّلَ على غيرِ اللهِ خُذِلَ؛
لأنَّ غيرَ اللهِ لا يكونُ حَسْبًا كما تقدَّم، فمَنْ توَكَّلَ على غيرِ
اللهِ تخلَّى اللهُ عنهُ، وصارَ مَوْكُولاً إلى هذا الشيءِ، ولمْ يحْصُلْ
لهُ مقصودُهُ، وابتعدَ عن اللهِ بمقدارِ تَوَكُّلِهِ على غيرِ اللهِ. (18) قولُهُ في أثرِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: _(قَالَها مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ حينَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}) وهذا في نصِّ القرآنِ، لَمَّا انصرفَ أبو سفيانَ منْ
أُحُدٍ أرادَ أنْ يَرْجِعَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ
وأصحابِهِ؛ لِيَقْضِيَ عليْهِم بِزَعْمِهِ، فلَقِيَ رَكْبًا فقالَ لهُم:
إلى أينَ تذهبونَ؟ والوكيلُ في مثلِ قولِهِ تعالى: {نِعْمَ الْوَكِيلُ} وقولِهِ تعالى: {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً}. والشاهدُ من الآيَةِ: قولُهُ تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} حيثُ جَعَلُوا حَسْبَهُم اللهَ وحْدَهُ. تنبيهٌ: قوْلُنَا: (وَابْنُ عبَّاسٍ مِمَّنْ يرْوِي عنْ بني إسرائيلَ) قولٌ مشهورٌ عندَ علماءِ المُصْطَلَحِ. (19) فيهِ مَسائِلُ: الأولى: (أنَّ التوَكُّلَ من الفرائضِ) وَوَجْهُهُ: أنَّ اللهَ علَّقَ الإيمانَ بالتوكُّلِ في قولِهِ تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وسبقَ تفسيرُهَا. (20) الثانيَةُ: (أَنَّهُ مِنْ شُروطِ الإيمانِ) تُؤخَذُ منْ قولِهِ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}وسبقَ تفسيرُهَا. (21) الثالثةُ: (تفسيرُ آيَةِ الأنفالِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...}الآيَةَ، والمرادُ بالإيمانِ هنا:
الإيمانُ الكاملُ، وإلاَّ فالإنسانُ يكونُ مؤمنًا وإنْ لمْ يتَّصِفْ بهذهِ
الصفاتِ، لكنْ مَعَهُ مُطْلَقُ الإيمانِ. وقدْ سبقَ تفسيرُ ذلكَ. (22) الرابعةُ: (تفسيرُ الآيَةِ في آخِرِهَا) في آخرِ الأنفالِ، وهيَ قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أيْ: حسْبُكَ وحسْبُ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ. (23) الخامسةُ: (تفسيرُ آيَةِ الطلاقِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقدْ سبقَ تفسيرُها. (24) السادسةُ: (عِظَمُ
شأنِ هذهِ الكلمةِ، وَأَنَّها قولُ إِبْراهيمَ عَلَيهِ الصلاةُ
والسَّلامُ، ومُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الشَّدائدِ) يعني قوْلَهُ: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. وفي البابِ مسائلُ غيرُ ما ذكرَهُ المُؤَلِّفُ. منها: زيادةُ الإيمانِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}. ومنها: أنَّهُ عندَ الشدائدِ ينبغي للإنسانِ أنْ يعتمدَ على اللهِ مَعَ فِعْلِ الأسبابِ؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابَهُ قالُوا ذلكَ عندَما قيلَ لهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} ولكنَّهُمْ فوَّضُوا الأمرَ إلى اللهِ وقالُوا: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. ومنها: أنَّ اتِّبَاعَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ معَ الإيمانِ سببٌ لكفايَةِ اللهِ العبدَ.
ومَنْ جَعَلَ اعتمادَهُ على اللهِ مُلْغِيًا للأسبابِ فقدْ طعنَ في
حِكْمَةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ جعلَ لِكُلِّ شيءٍ سببًا، فمَن اعتمدَ على
اللهِ اعتمادًا مُجَرَّدًا كانَ قادحًا في حكمةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ حكيمٌ
يَرْبِطُ الأسبابَ بمُسَبَّبَاتِها، كمَنْ يعتمدُ على اللهِ في حصولِ
الولدِ وهوَ لا يتَزَوَّجُ.
والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أعْظَمُ المُتَوَكِّلينَ، ومعَ ذلكَ
كانَ يَأْخُذُ بالأسبابِ، فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يأْخُذُ
الزادَ في السفرِ، ولمَّا خرجَ إلى أُحُدٍ ظاهَرَ بينَ دِرْعَيْنِ؛ أيْ:
لَبِسَ دِرْعَيْنِ اثنَيْنِ، ولمَّا خرجَ مُهَاجِرًا أخذَ مَنْ يدُلُّهُ
الطريقَ، ولمْ يقُلْ: سأَذْهَبُ مُهَاجِرًا وأتَوَكَّلُ على اللهِ، ولنْ
أصْطَحِبَ معيَ مَنْ يدُلُّنِي الطريقَ، وكانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
يتَّقِي الحَرَّ والبَرْدَ، ولمْ يُنْقِصْ ذلكَ مِنْ توَكُّلِهِ.
فقالُوا: نحنُ المُتَوَكِّلُونَ على اللهِ، فقالَ: (لَسْتُم الْمُتَوَكِّلِينَ، بَلْ أَنْتُم الْمُتَوَاكِلُونَ).
وقالَ تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقالَ تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ولا
ولكنَّ الغالبَ عِنْدَنَا ضعفُ التوَكُّلِ، وأنَّنا لا نَشْعُرُ حينَ نقومُ
بالعبادةِ أو العادةِ بالتوَكُّلِ على اللهِ والاعتمادِ عليهِ في أنْ
نَنَالَ هذا الفعلَ، بلْ نعتمدُ في الغالبِ على الأسبابِ الظاهرةِ، وننْسَى
ما وراءَ ذلكَ، فيفُوتُنا ثوابٌ عظيمٌ، وهوَ ثوابُ التوكُّلِ، كما أنَّنا
لا نُوَفَّقُ إلى حصولِ المقصودِ كما هوَ الغالبُ، سواءٌ حصلَ لنا
عَوَارِضُ تُوجِبُ انقطاعَهَا، أوْ عَوَارِضُ تُوجِبُ نقْصَها.
وقدْ وَكَّلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ أنْ يذْبَحَ ما بقيَ منْ هَدْيِهِ، ووكَّلَ أبا هُرَيْرَةَ على الصدقةِ، ووكَّلَ عُرْوَةَ بنَ الْجَعْدِ أنْ يشتريَ لهُ أُضْحِيَةً.
وهذا بخلافِ القسمِ الثاني؛ لأنَّهُ يُشْعِرُ بالحاجةِ إلى ذلكَ، ويَرَى اعتمادَهُ على المُتَوَكَّلِ عليهِ اعتمادَ افتقارٍ.
وممَّا سبقَ يتبيَّنُ أنَّ التوكُّلَ منْ أعلى المقاماتِ، وأنَّهُ يَجِبُ
على الإنسانِ أنْ يكونَ مُصْطَحِبًا لهُ في جميعِ شُئُونِهِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (ولا
يكونُ للمُعَطِّلَةِ أنْ يتوَكَّلُوا على اللهِ، ولا للمعتزِلَةِ
القدَرِيَّةِ؛ لأنَّ المعطِّلةَ يعتقدونُ انتفاءَ الصفاتِ عن اللهِ تعالى،
والإنسانُ لا يعتمدُ إلاَّ على مَنْ كانَ كاملَ الصفاتِ المُسْتَحقَّةِ؛
لأنَّهُ يعتمدُ عليهِ، وكذلكَ القدَريَّةُ؛ لأنَّهُم يقولونَ: إنَّ
العَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بعملِهِ، واللهُ ليسَ لهُ تصَرُّفٌ في أعمالِ العباد).
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، {إنْ} شرطيَّةٌ، وفعلُ الشرطِ {كُنْتُمْ} وجوابُهُ قيلَ: إنَّهُ محذوفٌ دَلَّ عليهِ ما قبلَهُ، وتقديرُ الكلامِ: إنْ كُنْتُمْ مؤمنينَ فتوكَّلُوا.
وقيلَ: إنَّهُ في مثلِ هذا التركيبِ لا يحتاجُ إلى جوابٍ اكتفاءً بما سبقَ، فيكونُ ما سبقَ كأنَّهُ فعلٌ مُعَلَّقٌ بهذا الشَّيْءِ، وهذا أرْجَحُ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ.
وقولُ أصحابِ موسَى
في هذهِ الآيَةِ يُفيدُ أنَّ التَّوَكُّلَ من الإيمانِ ومِنْ
مُقْتَضَيَاتِهِ، كما لوْ قُلْتَ: إنْ كُنْتَ كَرِيمًا فَأَكْرِم الضيفَ،
فيقتضي أنَّ إكرامَ الضيفِ من الكرمِ.
وهذهِ الآيَةُ تقتضي انْتِفَاءَ كمالِ الإيمانِ بانتفاءِ التوكُّلِ على
اللهِ، إلاَّ إنْ حصلَ اعتمادٌ كُلِّيٌّ على غيرِ اللهِ فهوَ شِرْكٌ أكبرُ،
فينتفي بهِ الإيمانُ كُلُّهُ.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ الإنسانَ قدْ ينتفعُ بقراءةِ غيرِهِ أكثرَ ممَّا
ينتفعُ بقراءةِ نفسِهِ، كمَا أمرَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ أنْ يقْرَأَ عليهِ، فقالَ: كيفَ أقرأُ عليكَ وعليكَ أُنزِلَ؟
فقالَ:((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)) فقرأَ عليهِ منْ سورةِ النساءِ حتَّى بلغَ قولَهُ تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاَءِ شَهِيدًا}، قالَ: ((حَسْبُكَ)) فَنَظَرْتُ فإذا عيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
والصوابُ، أنَّها لبيانِ الجنسِ، وأنَّ مَنْ أنفقَ الكلَّ يدخلُ في الثناءِ
إذا توَكَّلَ على اللهِ في أنْ يرْزُقَهُ وأهلَهُ كما فعلَهُ أبو بكرٍ.
أمَّا إنْ كانَ أهلُهُ في حاجةٍ، أوْ كانَ المُنْفَقُ عليهِ ليسَ بحاجةٍ
ماسَّةٍ تستلزمُ إنفاقَ المالِ كُلِّهِ، فلا ينبغي أنْ يُنْفِقَ مالَهُ
كلَّهُ.
والمعنى: ما اللهُ إلاَّ حَسْبُكَ، ويجوزُ العكسُ، ويكونُ المعنى: ما حَسْبُكَ إلاَّ اللهُ. وهذا أرجحُ.
قال شيخ الإسلام في (الفتاوى) (10/154): (وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده) .
ثم قال: (وأما الحسب وهو الكافي فهو لله وحده كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}ومن ظن أن المعنى: حسبك الله والمؤمنون معه؛ فقد غلط غلطاً فاحشاً)
قولُهُ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، {مَنْ}: اسمٌ موصولٌ مَبْنِيَّةٌ على السكونِ، وفي عطفِها رَأْيَانِ لأهلِ العلمِ.
وقالَ تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}،
فكما أنَّ التوَكُّلَ على غيرِ اللهِ لا يجوزُ، فكذلكَ الحسْبُ، لا
يُمْكِنُ أنْ يكونَ غيرُ اللهِ حَسْبًا، فلوْ كانَ لجازَ التوَكُّلُ عليهِ،
ولكنَّ الحسْبَ هوَ اللهُ، وهوَ الذي عليهِ يتوَكَّلُ المتوَكِّلُونَ.
فالصوابُ أنَّهُ معطوفٌ على الكافِ في قولِهِ: {حَسْبُكَ} أيْ: وحَسْبُ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ، فتوَكَّلُوا عليهِ جميعًا أنْتَ ومَن اتَّبَعَكَ.
قالُوا: نَذْهَبُ إلى المدينةِ، فقالَ: بَلِّغُوا محمَّدًا
وأصحابَهُ أنَّا راجعونَ إليْهِم فقاضُونَ عليهمْ، فجاءَ الركبُ إلى
المدينةِ فَبَلَّغُوهمْ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
ومَنْ مَعَهُ: ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، وخرَجُوا في نحوِ سبعينَ راكبًا، حتَّى بلَغُوا حَمْرَاءَ الأَسَدِ.
ثُمَّ إنَّ أبا سفيانَ تَرَاجَعَ عنْ رَأْيِهِ وانصرفَ إلى مَكَّةَ، وهذا منْ كفايَةِ اللهِ لرسولِهِ وللمؤمنينَ، حيثُ اعتمدُوا عليهِ تعالى.
قولُهُ: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي: الرَّكْبُ.
قولُهُ: {إِنَّ النَّاسَ} أيْ: أبا سفيانَ ومَنْ مَعَهُ، وكلمةُ {الناسِ} هنا يُمَثِّلُ بها الأُصُولِيُّونَ للعامِّ الذي أُرِيدَ بهِ الخصوصُ.
قولُهُ: {حَسْبُنَا} أيْ: كَافِينَا، وهيَ مبتدأٌ، ولفظُ الجلالةِ خبرُهُ.
قولُهُ: {نِعْمَ الْوَكِيلُ}، {نِعْمَ} فعلٌ ماضٍ، {الوكيلُ} فاعلٌ، والمخصوصُ محذوفٌ تقديرُهُ: هوَ؛ أي: اللهُ، والوكيلُ هو: المُعْتَمَدُ عليه، واللهُ سبحانَهُ يُطلَقُ عليهِ اسمُ وكيلٍ، وهوَ أيضًا مُوَكِّلٌ.
وأمَّا المُوَكِّلُ ففي مثلِ قولِهِ تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.
وليسَ المرادُ بالتوكيلِ هنا: إنابةَ الغَيْرِ فيما يحتاجُ إلى الاستِنَابَةِ فيهِ؛ فليسَ توكيلُهُ سبحانَهُ مِنْ حاجةٍ لَهُ، بل المرادُ بالتوكيلِ: الاستخلافُ في الأرضِ؛ ليَنْظُرَ كيفَ يعملونَ.
وقولُ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَهَا حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّار) قولٌ لا مجالَ للرأيِ فيهِ، فيكونُ لهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وابنُ عبَّاسٍ مِمَّنْ
يَرْوِي عنْ بنِي إسرائيلَ، فَيُحَتَمَلُ أَخْذُهُ منهمْ، ولكنْ جَزْمُهُ
بهذا، وقَرْنُهُ لِمَا قالَهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِمَّا
يُبْعِدُ أنْ يكونَ أَخَذَهُ منْ بني إسرائيلَ.
لكنْ فيهِ نظرٌ؛ فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما مِمَّنْ يُنْكِرُ الأخذَ عنْ بني إسرائيلَ، ففي (صحيحِ البخاريِّ) (5/291 - فتح) أنَّهُ قالَ: (يا معشرَ المسلمينَ.
كيفَ تسألونَ أهلَ الكتابِ وكتابُكُم الذي أُنْزِلَ على نبيِّهِ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحدثُ الأخبارِ باللهِ؛ تقْرَءُونَهُ لمْ يَشِبْ، وقدْ
حدَّثَكُم اللهُ أنَّ أهلَ الكتابِ بَدَّلُوا ما كتبَ اللهُ وغيَّرُوا
بأيدِيهِم الكتابَ.
فقالُوا: هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بهِ ثمنًا قليلاً، أفلا ينْهَاكُم ما جاءَكُم من العلمِ عنْ مُسَاءَلَتِهِم؟!
ولا واللهِ ما رَأَيْنَا منهمْ رجُلاً يسْأَلُكُم عن الذي أُنْزِلَ عليْكُم).
وهذا هوَ الراجحُ على ما سَبَقَ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً.
اللهم نور قلوبنا بطاعتك، وألهمنا ذكرك، واجعلنا من الشاكرين لنعمك، المتبعين لشرعك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فهذا
باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}
وهذا الباب عقده الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في هذا الكتاب العظيم، كتاب التوحيد، عقده لبيان:
- أنَّ التوكل على الله فريضةٌ من الفرائض.
- وواجب من الواجبات.- وأنَّ إفراد الله -جل وعلا- به توحيد.
- وأن التوكل على غير الله شرك مخرج من الملَّة. - والتوكل على الله شرطٌ في صحة الإسلام. - وشرطٌ في صحة الإيمان. فالتوكل عبادةٌ عظيمة، فعقد هذا الباب لبيان هذه العبادة.
وحقيقة التوكل على الله جل جلاله:
أنَّ العبد يعلم أنَّ هذا الملكوت إنما
هو بيد الله جل وعلا، يُصَرِّفه كيف يشاء، فيفوض الأمر إليه، ويلتجئ بقلبه
في تحقيق مطلوبه، وفي الهرب مما يسوؤه، يلتجئ في ذلك ويعتصم بالله جل جلاله
وحده؛ فينـزل حاجته بالله، ويفوض أمره إلى الله، ثم يعملُ السببَ الذي أمر
الله به.
فحقيقة التوكل في الشرع:
تجمع تفويض الأمر إلى الله -جل وعلا- وفعل الأسباب.- بل إن نفس الإيمان سبب من الأسباب التي يفعلها المتوكلون على الله.
- بل إن نفس التوكل على الله -جل وعلا- سبب من الأسباب.
فالتوكل حقيقته في الشرع تجمع عبادة قلبية عظيمة، وهي:
- تفويض الأمر إليه. - والالتجاء إليه. - والعلم بأنه لا أمر إلا أمره، ولا شيء إلا بما قدره وأذن به كوناً.
ثم فعلُ السبب الذي أوجب الله -جل وعلا- فعله أو أمر بفعله، فترك فعل الأسباب ينافي حقيقة التوكل الشرعية، كما أن الاعتماد على السبب، وترك تفويض الأمر إلى الله -جل وعلا- ينافي حقيقة التوكل الشرعية؛ فالمتوكل في الشرع هو:
من عمل السبب وفوض الأمر إلى الله -جل وعلا- في الانتفاع بالسبب وفي حدوث المسبب من ذلك السبب، وفي توفيق الله وإعانته؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به جل وعلا.والتوكل كما قال الإمام أحمد: (عمل القلب).
فالتوكل عبادة قلبية محضة، ولهذا صار إفراد الله -جل وعلا- بها واجباً، وصار صرفها لغير الله -جل وعلا- شركاً.
والتوكل على غير الله -جل وعلا- له حالان:
الحال الأولى: أن يكون شركاً أكبر، وهو أن يتوكل على أحد من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله:
- يتوكل على المخلوق في مغفرة الذنب. - يتوكل على المخلوق في تحصيل الخيرات الأخروية. - أو يتوكل على المخلوق في تحصيل ولد له، أو في تحصيل وظيفة له.
- يتوكل عليه بقلبه؛
وهو لا يقدر على ذلك الشيء، وهذا يكثر عند عباد القبور وعباد الأولياء،
فإنهم يتوجهون إلى الموتى بقلوبهم يتوكلون عليهم، بمعنى: يفوضون أمر صلاحهم
فيما يريدون في الدنيا والآخرة، على أولئك الموتى، وعلى تلك الآلهة،
والأوثان التي لا تقدر من ذلك على شيء، فهذا عبادة صرفت لغير الله جل وعلا،
وهو شرك أكبر بالله -جل وعلا- منافٍ لأصل التوحيد.
والنوع الثاني:
أن يتوكل على المخلوق فيما أقدره الله -جل وعلا- عليه،
وهذا نوع شرك، بل هو شرك خفي وشرك أصغر.
ولهذا قال طائفة من أهل العلم، إذا قال: (توكلت على الله وعليك) فإن هذا شركٌ أصغر)
ولهذا قالوا: (لا يجوز أن يقول: (توكلت على الله ثم عليك)
لأن المخلوق ليس له نصيب من التوكل، فإن التوكل إنما هو تفويض الأمر
والالتجاء بالقلب إلى من بيده الأمر وهو الله جل وعلا، والمخلوق لا يستحق
شيئاً من ذلك فإذاً التوكل على المخلوق فيما يقدر عليه، هذا شرك خفي ونوع
شرك أصغر).
والتوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق -وهذا يكثر عند عُبَّاد القبور والمتوجهون إلى الأولياء والموتى- هذا شرك مخرج من الملة،
وحقيقة التوكل الذي ذكرناه لا يصلح إلا لله جل وعلا؛ لأنه تفويض الأمر إلي
من بيده الأمر، والمخلوق ليس بيده الأمر، التجاء القلب، وطمع القلب، ورغب
القلب في تحصيل المطلوب، إنما يكون ذلك ممن يملكه؛ وهو الله جل وعلا.
أما المخلوق فلا يقدر على شيء استقلالاً وإنما هو سبب،
فإذا كان سبباً فإنه لا يجوز التوكل عليه؛ لأن التوكل عمل القلب، وإنما يجعله سبباً؛ بأن يجعله شفيعاً، يجعله واسطة، ونحو ذلك؛ فهذا لا يعني أنه متوكل عليه، فيجعل المخلوق سبباً فيما أقدره الله عليه، ولكن يفوض أمر النفع بهذا السبب إلى الله جل وعلا، فيتوكل على الله، ويأتي بالسبب الذي هو الانتفاع من هذا المخلوق بما جعل الله -جل وعلا- له من الانتفاع، أو من القدرة؛ ونحو ذلك.
قال الإمام رحمه الله: (باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}) هذه الآية فيها الأمر بالتوكل، ولما أمر به علمنا أنه من العبادة، ولما قدّم (الجار والمجرور) في قوله: (وعلى الله) قدَّمه على ما يتعلق به وهو الفعل (توكلوا)
دلَّ على وجوب إفراد الله -جل وعلا- بالتوكل، وأنَّ التوكل عبادة يجب أن
تُحصر وتقصر في الله جل وعلا، هذا وجه الدلالة من الآية، ودليل آخر في هذه
الآية، وهو قوله: {إن كنتم مؤمنين} جعل الإيمان لا يصح إلا بالتوكل.
قال: {وعلى الله فتوكلوا}يعني أفردوا الله بالتوكل وحده {إن كنتم مؤمنين} فجعل الشرط إن كنتم مؤمنين فأفردوا الله بالتوكل، فجزاء الشرط هو إفراد الله بالتوكل، فصارت دلالة الآية من جهتين.
وكذلك قوله -جل وعلا- في آية سورة يونس: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} قال: {فعليه توكلوا} أفرد التوكل به -جل وعلا- وأمر به، فقدَّم (الجار والمجرور) بما يفيد الحصر والقصر والاختصاص بالله جل وعلا، ثم جعل إفراد التوكل به -جل وعلا- شرطاً في صحة الإسلام، فقال: {إن كنتم مسلمين}فهذه الآيتان دلتا على:
- أنَّ التوكل عبادة. - وأن إفراد الله به -جل وعلا- واجب. - وأنه شرط في صحة الإسلام. - وشرط في صحة الإيمان.
وهذا كله يدل على أنَّ انتفاءه مُذهب لأصل التوحيد، ومنافٍ لأصله إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله.
قال: (وقوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون}) وجه الدلالة من الآية: أنَّه وصف المؤمنين بهذه الصفات الخمس، وآخرها قوله: {وعلى ربهم يتوكلون}
وظاهر من دلالة الآية، حيث قدم (الجار والمجرور) على أنهم أفردوا التوكل
بالله جل وعلا؛ فوصف المؤمنين بهذه الصفات، فدلَّ على أن هذه هي أعظم
مقامات أهل الإيمان، وأنَّ هذه العبادات الخمس هي أعظم المقامات، وهذا
عظيمٌ التنبُّه له، إذ كل أمور الدين، والعبادات، والفروع العملية التي
يعملها العبد: إنما هي فرعٌ عن تحقيق هذه الخمس؛ التي جاءت في هذه الآية: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} وهذه الصفة تجمع الكلمات الشرعية، وتجمع الدين جميعاً؛ لأن ذكر الله فيه القرآن وفيه السنة.
قال: (وقوله: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}).
- قوله: {يا أيها النبي حسبك الله} يعني: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين؛ لأن الْحَسْب هو الكافي، والكلمة المشابهة لها حَسَب، تقول: (هذا بِحَسبِ كذا) يعني: بناءً على كذا.
وأما الكافي فهو (الْحَسْب) بسكون السين{يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} يعني: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين.
وجه مناسبة هذه الآية لهذا الباب:
أنَّ الله حسْبُ من توكل عليه، قال جل وعلا: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} فالله حسب من توكل عليه، فدل على أن الله -جل وعلا- أمر عباده بالتوكل عليه حتى:
- يكون كافيهم من أعدائهم.
- وحتى يكون -جل وعلا- كافي المؤمنين من المشركين.
قال جل وعلا: {يا أيها النبي حسبك الله} يعني: كافيك الله، ولهذا أعقبها بالآية الأخرى؛ وهي قوله جل وعلا: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}
والتوكل على الله -جل وعلا- كما ذكرنا لك يرجع إلى فهم توحيد الربوبية،
وإلى عِظم الإيمان بتوحيد الربوبية، فإن بعض المشركين قد يكون عنده من
التوكل على الله الشيء العظيم.
والتوكل على الله من العبادات التي تُطلب من المؤمن، ومن
العبادات الواجبة، والعبادات العظيمة، لهذا نقول: (إن إحداث التوكل في
القلب يرجع إلى الـتأمل في آثار الربوبية) فكلما كان العبد أكثر تأملاً في
ملكوت الله، وفي السماوات، والأرض، وفي الأنفس، وفي الآفاق، كان علمه بأن
الله هو ذو الملكوت، وأنه هو المتصرف، وأن نصره لعبده شيء يسير جداً
بالنسبة إلى ما يجريه الله -جل وعلا- في ملكوته.
- فيُعظمُ المؤمن بهذا التدبر الله جل وعلا.
- ويُعْظِم التوكل عليه.
- ويُعْظِّم أمره ونهيه، وينظر أن الله -جل جلاله- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.
قال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} رتَّب الحَسْب وهو الكفاية بالتوكل عليه، وهذا فضيلة التوكل، وفضيلة المتوكلين عليه.
قال: (وعن ابن عباس قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم -عليه السلام- حين أُلقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: {إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}) هذا يبين عظم هذه الكلمة، وهي قول المؤمن: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فإذا تحقق العبد التوكل على الله، وحققه في القلب، معناه أنه حقق هذا النوع من التوحيد: توحيد التوكل في النفس، فإن العبد إذا أعظم رجاءه في الله وتوكله على الله؛ فإنه وإن كادته السماوات والأرض ومن فيهن؛ فإن الله سيجعل له من أمره يُسراً.
-
وسيجعل له من بينها مخرجاً {حسبنا الله} يعني: كافينا الله {ونعم الوكيل} يعني: ونعم الوكيل ربنا.
هذه كلمة عظيمة قالها إبراهيم -عليه السلام- في الكرب، وقالها النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه في الكرب لما قال لهم الناس: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا} وذلك لعظم توكلهم على الربِّ جل وعلا.
العناصر
مناسبة باب قول الله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...) لكتاب التوحيد
مناسبة باب قول الله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...) لما قبله بيان أهمية باب قول الله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) معنى قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...) الآية
- أقسام الخوف تفسير قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله...) الآية تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا) الآية
- معنى قوله: (ولئن جاء نصر من ربك...) الآية شرح حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إن من ضعف اليقين...)
- معنى قوله: (إن من ضعف اليقين)، وذكر نصوص في اليقين شرح حديث عائشة رضي الله عنها: (من التمس رضا الله...)
- مناسبة حديث عائشة (من التمس...) لباب قول الله (إنما ذلكم الشيطان..) الآية شرح مسائل باب قول الله (إنما ذلكم الشيطان...) مناسبة باب قول الله (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) لكتاب التوحيد مناسبة باب (وعلى الله فتوكلوا...) لما قبله معنى قوله: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)
- بيان حقيقة التوكل على الله تعالى تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله...) الآية
- بيان أن الإيمان يزيد وينقص - بيان الصحيح في معنى قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) تفسير قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) شرح أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (الشرك بالله واليأس من روح الله...)
- قول ابن عباس (قالها إبراهيم حين ألقي في النار) هل له حكم الرفع؟ أقسام ابتلاء الله للعبد، ومواقف الناس منها
- بيان أقسام الخوف من غير الله تعالى وأحكامها
- هل الأفضل أن يغلب المسلم جانب الخوف أو جانب الرجاء؟
- بعض الفوائد من قوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله...) الآية
- كلام لشيخ الإسلام في الأمور التي يتضمنها اليقين
- معنى قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله)
- معنى قوله: (وأن تحمدهم على رزق الله)
- معنى قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله)
- معنى قوله: (إن رزق الله لا يجره حرص حريص...) الحديث
- بيان عظم منزلة التوكل، وحقيقته، وكونه شرطاً في الإيمان والإسلام
- ذكر أقسام التوكل، وأن طريقة السلف فيه خير الطرق
- بيان أنواع التوكل على غير الله تعالى
- أقسام التوكل على غير الله
- التنبيه على أهمية القيام بالأسباب مع التوكل
- معنى قوله: (وعلى ربهم يتوكلون)
- معنى قوله: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون)
- بيان الحكمة في الاقتصار على خمسة صفات للمؤمنين في قوله: (إنما المؤمنون)
- تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)
- مناسبة قوله: (يا أيها النبي حسبك الله...) للباب
- إطلاق القول بأن ابن عباس ممن يأخذ عن بني إسرائيل فيه نظر
- معنى قوله: (حسبنا الله ونعم الوكيل)
- بيان فضيلة قول (حسبنا الله ونعم الوكيل) عند الشدائد
- الإشارة إلى قصة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار
- ذكر قصة قول النبي صلى الله عليه وسلم (حسبنا الله ونعم الوكيل)
- المراد بقوله: (قال لهم الناس إن الناس..)
- بعض ما يستفاد من قوله: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم...) الآية
شرح مسائل باب قول الله (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)