الدروس
course cover
باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

6681

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم السابع

باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

6681

0

0


0

0

0

0

0

باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَانَ:175].

وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ ءآمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التَّوْبَةُ:18].

وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءآمَنا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ}[الْعَنْكَبُوتُ:10].
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذُّمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لاَ يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلاَ يَرُدُّهُ كَرَاهِيةُ كَارِهٍ)).
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ)) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ).

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ ((بَرَاءةٌ)).

الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ.

الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْيَقِينَ يَضْعُفُ وَيَقْوَى.

الْخَامِسَةُ: عَلاَمَةُ ضَعْفِهِ وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الثَّلاَثُ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ إِخْلاَصَ الْخَوْفِ للهِ مِنَ الْفَرَائِضِ.
السَّابِعَةُ: ذِكْرُ ثَوَابِ مَنْ فَعَلَهُ.
الثَّامِنَةُ: ذِكْرُ عِقَابِ مَنْ تَرَكَهُ.

هيئة الإشراف

#2

18 Jun 2008

تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال

قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ قولِ اللهِ تَعالَى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}

عنْ أبي سعيدٍ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - مرفوعاً: ((إنَّ من ضَعْفِ اليقينِ أنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بسخَطِ اللهِ وأنْ تحمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ …)) الحديثُ.أخرجَهُ أبو نعيمٍ، والبيهقيُّ.


من طريقِ محمَّدِ بنِ مروانَ السّديِّ عن عمرو بنِ قيسِ الملائيِّ عن عطيَّةَ العوفيِّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ بهِ.
قالَ
البيهقيُّ: (محمَّدُ بنُ مروانَ ضعيفٌ).
وقالَ
أبو نعيمٍ: (غريبٌ من حديثِ عمرو تفرَّدَ بهِ علي بنِ محمَّدِ بنِ مروانَ عن أبيهِ).
وقالَ
الحافظُ في (التَّقريبِ): (متَّهَمٌ بالكذبِ).
وقالَ
سليمانُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ:(إسنادُهُ ضعيفٌ، ومعناهُ صحيحٌ).
وكذلِكَ قالَ
عبدُ الرَّحمنِ بنُ حسنٍ في شرحِ هذا الحديثِ.
وأخرجَهُ
البيهقيُّ، من طريقِ جعفرِ بنِ شعيبٍ الشَّاشي: حدَّثَنَا أبو حُمَةَ حدَّثَنا أبو قرَّةَ عن سفيانَ بن سعيدٍ عن منصورِ بنِ المعتمرِ عن خيثمةَ عن ابنِ مسعودٍ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ قالَ: ((لا تُرضِينَّ أحداً بسخَطِ اللهِ، ولا تحمدَنَّ أحداً على فضلِ اللهِ ولا تَذُمَّنَّ أحداً على ما لم يؤتِكَ اللهُ، فإنَّ رزقَ اللهِ لا يسوقُهُ إليكَ حرصُ حريصٍ، ولا يردُّهُ عنك كرهُ كارهٍ، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ بقسطِهِ وعدلِهِ جعلَ الرَّوحَ والرَّاحةَ والفرحَ في الرِّضَا واليقينِ، وجعلَ الهمَّ والحزنَ في السّخطِ والشَّكِّ)).
قالَ محقِّقُ
(الجامعِ لشعبِ الإِيمانِ): (إسنادُهُ حسنٌ).


قلْتُ: خيثمةُ هو ابنُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي سبرةَ الكوفيُّ ثقةٌ يرسِلُ، قالَ فيهِ الإِمامُ أحمدُ: لم يسمعْ من ابنِ مسعودٍ وقدْ ماتَ سنةَ 80هـ، وابنُ مسعودٍ ماتَ سنةَ 32هـ أيْ: فيكونُ بينَ الوفاتينِ 48 سنةً. والشَّاشيُّ ذكرَهُ الخطيبُ في (تاريخِهِ) ولمْ يذكرْ فيه تعديلاً ولا تجريحاً.
وأخرجَهُ
البيهقيُّ أيضاً، وابنُ أبي الدُّنيَا موقوفاً على ابنِ مسعودٍ من طريقِ الحسنِ بنِ الصَّباحِ حدَّثَنَا سفيانُ عن أبي هارونَ قالَ: قالَ ابنُ مسعودٍ:(الرِّضَا أن لا تُرضيَ النَّاسَ بسخطِ اللهِ…) الخ.
قالَ محقِّقُ
(الجامعِ لشعبِ الإِيمانِ): (رجالُهُ ثقاتٌ) اهـ.
قلتُ: وهو كما قالَ؛ إلا أنَّ
أبا هارونَ وهو الحنَّاطُ ذكرَهُ الحافظُ في الطَّبقةِ السَّادسةِ.
والطَّبقةُ السَّادسةُ على اصطلاحِهِ كما في المقدِّمَةِ - لم يثبُتْ لها لقاءُ أحدٍ من الصَّحابةِ ثمَّ مثَّلَ بابنِ جريجٍ. وعلى هذا يكونُ السَّندُ منقطِعاً.
وأخرجَهُ
الطَّبرانيُّ، وأبو نعيمٍ من طريقِ خالدِ بنِ يزيدَ العمريِّ: ثنَا سفيانُ الثَّوريُّ وشريكُ بنُ عبدِ اللهِ، وسفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن سليمانَ الأعمشِ عن خيثمةَ عن ابنِ مسعودٍ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا تـُرْضِيَنَّ أحداً بسخطِ اللهِ…)) الحديثَ.
قالَ
أبو نعيمٍ:(غريبٌ من حديثِ الثَّوريِّ ومن حديثِ الأعمشِ تفرَّدَ به خالدُ بنُ يزيدَ العمريُّ).
وقالَ
الهيثميُّ: (فيه خالدُ بنُ يزيدَ العمريُّ، واتُّهِمَ بالوضعِ).
قالَ محقِّقُ
(الجامعِ لشعبِ الإِيمانِ): (ولكنْ لم يتفرَّدْ بهِ فقدْ تابعَهُ أبو قرَّةَ عن الثَّوريِّ، وتابعَ منصورٌ الأعمشَ فبذلك يرتفعُ الحديثُ من الضَّعفِ إلى درجةِ الحسنِ) اهـ.


قلتُ:

والمتَّهَمُ بالوضعِ لا يُعْتَدُّ بهِ ولا بما يرويهِ إلا أنَّهُ لا يُسوَّغُ الحكمَ على ما يرويهِ بالوضعِ - كما حكمَ الألبانيُّ وغيرُهُ على حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ بهِ - لوجهينِ:

الأوَّلِ:

أنَّ الحديثَ جاءَ من طريقين عندَ البيهقيِّ ليسَ فيهما ضعيفٌ ولا متَّهَمٌ كما عرفْتَ.


الثَّاني:

أنَّ ابنَ عراقَ، قالَ: (قالَ السَّخاويُّ: بل مجرَّدُ اتّهامِ الرَّاوي بالكذبِ مع تفرُّدِهِ لا يُسوِّغُ الحكمَ بالوضعِ؛ ولذا جعلَهُ شيخُنَا - يعني الحافظُ ابنُ حجرٍ - نوعاً مستقلاً وسمَّاهُ المتروكَ، وفسَّرَهُ بأنْ يرويه مَنْ يُتَّهَمُ بالكذبِ، ولا يُعرَفُ ذلكَ الحديثُ إلا من جهتِهِ، ويكونُ مخالفاً للقواعدِ المعلومةِ.
قالَ: وكذا من عُرِفَ بالكذبِ في كلامِهِ، وإنْ لم يظهرْ وقوعُهُ منه في الحديثِ، وهو دونَ الأوَّلِ)
اهـ.
وخرجَ بقولِهِ:
((من يتـَّهمُ بالكذبِ)) من عـُرِفَ بالكذبِ في الحديثِ، وروى حديثاً لم يروِهِ غيرُهُ فإنَّا نحكمُ على حديثِهِ ذلك بالوضعِ إذا انضمَّتْ قرينةٌ تقتضي وضعَهُ، كما صرَّحَ به الحافظُ العلائيُّ وغيرُهُ اهـ.


قلتُ:

وقالَ السَّخاويُّ أيضاً في انتقادِ العلماءِ لابنِ الجوزيِّ في حكمِهِ على أحاديثَ حسانٍ بل صحاحٍ في (موضوعاتِهِ): (والموقعُ له في استنادِهِ في غالبِهِ، لضعفِ راويه الَّذي رُمِيَ بالكذبِ مثلاً، غافلاً عن مجيئِهِ من وجهٍ آخرٍ، وربَّمَا يكونُ اعتمادُهُ في التّفرُّدِ قولَ غيرِهِ ممَّنْ يكونُ كلامُهُ فيه محمولاً على النّسبيِّ، هذا معَ أنَّ مجرَّدَ تفرُّدِ الكذَّابِ بل الوَضَّاعِ - ولو كانَ بعدَ الاستقصاءِ في التَّفتيشِ من حافظٍ متبحِّرٍ تامِّ الاستقراءِ- غيرُ مستلزمٍ لذلِكَ، بل لا بدَّ معَهُ من انضمامِ شيءٍ ممَّا سيأتِي، ولذَا كانَ الحكمُ من المتأخِّرينَ عسراً جدّاً، وللنَّظرِ فيه مجالٌ، بخلافِ الأئمَّةِ المتقدِّمينَ الَّذينَ منحَهُمُ اللهُ التَّبحُّرَ في علمِ الحديثِ والتَّوسُّعَ في حفظِهِ كشعبةَ والقطَّانِ وابنِ مهديٍّ ونحوِهِمْ) اهـ.

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ((1)

بابُ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

الخوفُ مِن أَفْضَلِ مَقاماتِ الدِّينِ وأَجَلِّها،

فلذلك قال المُصَنِّفُ بوُجُوبِ إخلاصِهِ للهِ تعالى، وقد ذَكَرَهُ اللهُ تَعالى في كِتابِهِ عن ساداتِ المُقَرَّبِينَ مِن الملائكةِ والأولياءِ والصَّالِحِينَ، قالَ اللهُ تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}[النحل:50].
- وقال اللهُ تعالى: {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28].
- وقالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}[المؤمنون:57].
- وقالَ تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ}[الأحزاب:39] وأَمَرَ بإخلاصِهِ له فقالَ تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40].
- وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}[المائدة:47].
- وقالَ تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ}[النحل:52].


وهو على ثلاثةِ أقسامٍ:

أحدُها: خوفُ السِّرِّ،

وهو أَنْ يَخافَ مِنْ غيرِ اللهِ أَنْ يُصِيبَهُ بِمَا يَشاءُ مِنْ مَرَضٍ، أو فَقْرٍ، أو قَتْلٍ ونحوِ ذلك بقُدْرتِهِ ومَشِيئتِه، سواءٌ ادَّعَى أنَّ ذلكَ كَرامةٌ للمُخَوِّفِ بالشَّفاعةِ، أو على سَبِيلِ الاسْتِقلالِ، فهذا الخَوْفُ لا يَجوزُ تَعَلُّقُه بغيرِ اللهِ أصلاً؛ لأنَّ هذا مِن لَوَازِمِ الإلهيَّةِ، فمَن اتَّخَذَ مَعَ اللهِ نِدًّا يَخافُه هذا الخَوْفَ فهو مُشْرِكٌ.


وهذا هو الذي كانَ المشركونَ يَعْتَقِدُونَه في أَصْنامِهم وآلهتِهم، ولهذا يُخَوِّفُونَ بها أَوْلِياءَ الرَّحمنِ كما خَوَّفُوا

إبراهيمَ الخَلِيلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالَ لهم: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:80،81].
وقالَ تعالى عن قَوْمِ
هُودٍ أنَّهم قالُوا له: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ}[هود:54،55].

- وقالَ تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ}[الزمر:36].
وهذا القِسْمُ هو الوَاقعُ اليومَ من عُبَّادِ القُبورِ، فإنَّهم يَخافُون الصَّالِحِينَ بل الطَّوَاغيتَ، كما يَخافُونَ اللهَ بَل أَشَدَّ.
ولِهَذَا إذا تَوَجَّهَتْ على أَحَدِهم اليَمِينُ باللهِ أَعْطَاكَ ما شِئْتَ مِن الأَيْمانِ كاذِبًا أو صادِقًا، فإنْ كانَ اليمينُ بصاحِبِ التُّرْبةِ لم يَقْدِرْ على اليَمِينِ إنْ كانَ كاذِبًا، وما ذاكَ إلاَّ لأنَّ المَدْفُونَ في التُّرابِ أَخْوَفُ عندَهُ من اللهِ.
ولا رَيْبَ أَنَّ هذا ما بَلَغَ إليهِ شِرْكُ الأَوَّلِينَ، بل جَهْدُ أيمَانِهِم اليَمِينُ باللهِ تعالى، وكذلك لو أَصَابَ أحدًا منهم ظُلْمٌ لم يَطْلُبْ كَشْفَهُ إلاَّ مِن المَدْفُونِين في التُّرابِ.
وإذا أَرادَ أَنْ يَظْلِمَ أحدًا فاسْتَعاذَ باللهِ أو ببَيْتِهِ لم يُعِذْهُ، ولو اسْتَعاذَ بصاحِبِ التُّرْبةِ أو بتُرْبتِه لم يُقَدِّمْ عليهِ أحدًا ولم يَتَعَرَّضْ له بالأَذَى حتَّى إنَّ بعضَ النَّاسِ أَخَذَ مِن التُّجارِ أموالاً عظيمةً أيَّامَ مَوْسِمِ الحَجِّ، ثم بعدَ أيَّامٍ أَظْهَرَ الإِفْلاسَ، فقامَ عليهِ أَهْلُ الأَمْوالِ، فالْتَجَأَ إلى قبرٍ في جُدَّةَ يُقالُ لَهُ: المَظْلُومُ، فما تَعَرَّضَ له أَحَدٌ بمَكْرُوهٍ خَوْفًا من سِرِّ المَظْلُومِ وأَشْباهِ هذا من الكُفْرِ.
وهذا الخَوْفُ لا يَكونُ العَبْدُ مُسْلِمًا إلاَّ بإِخْلاصِه للهِ تعالى وإِفْرادِه بذلك دونَ مَنْ سِوَاه.


الثَّاني:

أن يَتْرُكَ الإنسانُ ما يَجِبُ عليهِ مِن الجِهادِ والأَمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عن المُنْكَرِ

بغيرِ عُذْرٍ إلاَّ لخَوْفِهِ مِن النَّاسِ، فهذا مُحَرَّمٌ، وهوَ الذي نَزَلَتْ فيهِ الآيةُ المُتَرْجَمُ لها وهُوَ الذي جاءَ فيهِ الحديثُ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ إِذَا رَأَيْتَ المُنْكَرَ أَنْ لا تُغَيِّرَهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ إِيَّاي كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى)) رَوَاهُ أَحْمَدُ.


الثالثُ:

خوفُ وعيدِ اللهِ الذي تَوَعَّدَ به العُصَاةَ،

وهو الذي قالَ اللهُ فيه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:14] .

- وقالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] .

- وقالَ تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}[الطور:26].

- وقالَ تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الدهر:7] وهذا الخَوْفُ مِن أعلى مَراتِبِ الإيمانِ، ونِسْبةُ الأوَّلِ إليه كنِسْبةِ الإسلامِ إلى الإِحْسانِ، وإنَّما يَكونُ مَحْمُودًا إذا لم يُوقِعْ في القُنوطِ واليَأْسِ مِن رَوْحِ اللهِ، ولهذا قالَ شيخُ الإسلامِ: (هذا الخَوْفُ ما حَجَزَك عن مَعاصِي اللهِ، فما زادَ على ذلك، فهو غيرُ مُحْتاجٍ إليه).


بَقِيَ قِسْمٌ رابعٌ:

وهو الخوفُ الطَّبِيعيُّ، كالخوفِ مِن عَدُوٍّ وسَبُعٍ وهَدْمٍ وغَرَقٍ ونحوِ ذلك، فهذا لا يُذَمُّ وهو الذي ذَكَرَهُ اللهُ عن مُوسَى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قولِهِ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}[القصص:21].
إذا تَبَيَّنَ هذا فمعنى قولِهِ تعالى:
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ: يُخَوِّفُكُم أولياءهُ، ويُوهِمُكُم أَنَّهم ذو بَأْسٍ وشِدَّةٍ.

- قالَ اللهُ تَعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران:175]، أي: فإذا سَوَّلَ لكُم وأَوْهَمَكُم فتَوَكَّلُوا على اللهِ فإنَّهُ كافِيكُم وناصِرُكُم عليهِم، كما قالَ تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر:36] إلى قولِهِ: {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[الزمر: 38].

- وقالَ تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء: 75]، قالَه ابنُ كَثِيرٍ.

- وقالَ ابنُ القَيِّمِ: (ومِن كَيْدِ عَدُوِّ اللهِ أَنَّه يُخَوِّفُ المُؤْمِنِينَ مِن جُنْدِه وأَوْلِيائِه؛ لِئَلاَّ يُجاهِدُوهُم ولا يَأْمُرُوهم بِمَعْرُوفٍ، ولا يَنْهَوْهُم عن مُنْكَرٍ.
فأَخْبَرَ تعالى أَنَّ هذا مِن كَيْدِه وتَخْوِيفِه، ونَهَانا أَنْ نَخافَهم)
قالَ:
( والمعنى عندَ جميعِ المُفَسِّرِينَ يُخَوِّفُكُم بأوليائِهِ، قالَ قَتادةُ: (يُعَظِّمُهم في صُدُورِكُم، ولِهَذَا قالَ: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران:175].
فكُلَّما قَوِيَ إيمانُ العبدِ زالَ مِنْ قلبِه خوفُ أولياءِ الشَّيطانِ، وكُلَّما ضَعُفَ إيمانُ العبدِ قَوِيَ خَوْفُه منهم).


قُلْتُ:

فأَمَرَ تعالى بإخلاصِ هذا الخَوْفِ لَهُ، وأَخْبَرَ أنَّ ذلك شَرْطٌ في الإيمانِ، فمَن لم يَأْتِ بهِ لَمْ يَأْتِ بالإيمانِ الواجبِ، ففيه أَنَّ إِخلاصَ الخَوْفِ للهِ مِن الفَرائِضِ.
قال: (وقولُه تعالى:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَن بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ}[التوبة:19] الآيةَ).
لَمَّا نَفَى تَبارَكَ وتَعالَى عِمارةَ المَساجِدِ عن المُشْرِكِينَ بقولِهِ تَعالى:
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ}[التوبة:18] الآيةَ؛ إذ لا تَنْفَعُهُم عِمارتُها مع الشِّرْكِ، كما قالَ تَعالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}[الفرقان:23]، أَثْبَتَ تعالى في هذهِ الآيةِ عِمارةَ المَساجدِ بالعِبادةِ لِلمُؤْمِنين باللهِ تَعالى واليومِ الآخِرِ، المُقِيمِين الصَّلاةَ المُؤْتِين الزَّكاةَ، الذين لا يَخْشَونَ إلاَّ اللهَ، ولا يَخْشَوْنَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ، كما قالَ تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39].
فهَذِهِ هِي العِمارةُ النَّافِعةُ، وهِي الخالِصةُ مِن الشِّرْكِ، فإنَّهُ نارٌ تُحْرِقُ الأَعْمالَ.
وقولُه:
{وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} قال ابنُ عَطِيَّةَ: (يُرِيدُ خَشْيَةَ التَّعْظِيمِ والعبادةِ والطَّاعةِ، ولا مَحالةَ أَنَّ الإنسانَ يَخْشَى غيرَه، ويَخْشَى المَحاذِيرَ الدُّنْيَوِيَّةَ، ويَنْبَغِي أَنْ يَخْشَى في ذلكَ كُلِّه قَضاءَ اللهِ وتَصْرِيفَه).
قُلْتُ: ولِهَذَا قالَ ابنُ عَبَّاسٍ في الآيةِ: (لم يَعْبُدْ إلاَّ اللهَ)؛ فإنَّ الخَوْفَ كما قالَ ابنُ القَيِّمِ: (عُبُودِيَّةُ القَلْبِ) فلا يَصْلُحُ إلا للهِ، كالذُّلِّ والإنابَةِ والمحبَّةِ، والتوكُّلِ والرجاءِ وغيرِهَا مِن عُبُودِيَّةِ القَلْبِ.

- وقولُهُ: {فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:19].
- قال
ابنُ أَبِي طَلْحَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: (إنَّ أولئكَ المُهْتَدُونَ، كقولِهِ: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}[الإسراء:79] وكُلُّ (عَسَى) في القرآنِ فهي وَاجِبةٌ).
وتَضَمَّنَت الآيةُ أنَّ مَن عَمَرَ المَساجدَ مِن المسلمينَ بالعِبادةِ، هو مِن المؤمنينَ، كما في حديثِ:
((إِذَا رَأَيتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ)).


- قالَ اللهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ}[التوبة:19] رَوَاه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ، والحَاكِمُ.
قال: وقولُهُ:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ}[العنكبوت:10].

- قال ابنُ كَثِيرٍ: (يَقولُ تعالى مُخْبِرًا عن قومٍ مِن الذين يَدَّعُونَ الإيمانَ بأَلْسِنَتِهم ولم يَثْبُت الإيمانُ في قلوبِهِم بأَنَّهم إذا جاءَتْهُم مِحْنَةٌ في الدُّنيا اعْتَقَدُوا أنَّها مِن نِقْمةِ اللهِ بهم، فارْتَدُّوا عن الإسلامِ).

قال ابنُ عَبَّاسٍ:( يَعْنِي: فِتْنَتَه أَنْ يَرْتَدَّ عن دِينِه إذا أُوذِيَ في اللهِ).

- وقال ابنُ القَيِّمِ: (النَّاسُ إذا أُرْسِلَ إليهم الرُّسلُ بينَ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقولَ أحدُهم: آمَنَّا، وإمَّا أَنْ لا يَقولَ ذلك، بل يَسْتَمِرُّ على السَّيِّئاتِ والكُفْرِ، فمَنْ قالَ: آمَنَّا امْتَحَنَهُ ربُّهُ وابْتَلاهُ وفَتَنَهُ، والفِتْنةُ: الابْتِلاءُ والاخْتِبارُ، لِيَتَبَيَّنَ الصَّادقُ من الكاذِبِ.
ومَن لم يَقُلْ: آمَنَّا فلا يَحْسَبْ أنَّه يُعْجِزُ اللهَ ويَفُوتُه ويَسْبِقُه، فمَنْ آمَنَ
بِالرُّسلِ وأَطاعَهُم عاداهُ أعداؤُهُم وآذَوْه، فابْتُلِيَ بما يُؤْلِمُهُ، ومَن لم يُؤْمِنْ بِهم، ولم يُطِعْهُم، عُوقِبَ في الدُّنيا والآخِرةِ، وحَصَلَ له ما يُؤْلِمُهُ، وكانَ هذا الأَلَمُ أَعْظَمَ وأَدْوَمَ مِن أَلَمِ أَتْباعِهِم، فلا بُدَّ من حُصولِ الأَلَمِ لِكُلِّ نَفْسٍ آمَنَتْ، أو رَغِبَتْ عن الإيمانِ، لكنَّ المُؤْمِنَ يَحْصُلُ له الألَمُ في الدُّنيا ابْتِداءً، ثُمَّ تَكونُ له العاقبةُ في الدُّنيا والآخِرةِ، والمُعْرِضُ عن الإيمانِ تَحْصُلُ له اللَّذَّةُ ابتداءً، ثم يَصِيرُ له الألَمُ الدَّائِمُ.
والإنسانُ لا بُدَّ أنْ يَعِيشَ مع النَّاسِ، والنَّاسُ لهم إِراداتٌ وتَصَوُّراتٌ، فيَطْلُبُونَ منهُ أَنْ يُوَافِقَهُم عليها، وإن لم يُوَافِقْهم آذَوهُ، وعَذَّبُوه، وإنْ وافَقَهم حَصَلَ له الأَذَى والعَذَابُ، تارةً منهم، وتارةً مِنْ غيرِهم، كَمَنْ عندَه دِينٌ وتُقًى حَلَّ بينَ قومٍ فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ، ولا يَتَمَكَّنُون مِن فُجورِهِم إلاَّ بمُوَافَقتِه لهم أو سُكوتِه عنهم، فإنْ وافَقَهم أو سَكَتَ عنهم سَلِمَ مِن شَرِّهم في الابتداءِ، ثُمَّ يَتَسَلَّطُونَ عليهِ بالإِهانةِ والأَذَى أَضْعافَ ما كانَ يَخافُه ابتداءً لو أَنْكَرَ عليهم وخالَفَهُم، وإن سَلِمَ منهم فلا بُدَّ أَنْ يُهانَ ويُعاقَبَ على يدِ غيرِهم، فالحَزْمُ كُلُّ الحَزْمِ بما قالَتْ
أُمُّ المُؤْمِنينَ لِمُعاوِيةَ: (مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ومَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِن اللهِ شَيْئًا).


فمَن هَداه اللهُ، وأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَوَقَاه شَرَّ نَفْسِه، امْتَنَعَ مِن المُوَافَقَةِ على فِعْلِ المُحَرَّمِ، وصَبَرَ على عَداوَتِهم، ثُمَّ تَكونُ له العاقِبةُ في الدُّنيا والآخِرةِ، كما كانَت لِلرُّسلِ وأَتْباعِهم.
ثُمَّ أَخْبَرَ عن حالِ الدَّاخِلِ في الإيمانِ بلا بَصِيرةٍ، وأَنَّه إذا أُوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنةَ النَّاسِ لَهُ، وهي أَذاهُم له، ونَيْلُهم إيَّاهُ بالمَكْرُوهِ، وهُوَ الأَلَمُ الذي لا بُدَّ أَنْ يَنالَ الرُّسلَ وأَتْباعَهُم مِمَّن خالَفَهم، جَعَلَ ذلك في فِرارِه منه وتَرْكِه السَّبَبَ الذي يَنالُهُ به كَعَذابِ اللهِ الذي فَرَّ منه المُؤْمِنُونَ بالإيمانِ.
فالمؤمنونَ لِكَمالِ بَصِيرَتهم فَرُّوا مِن ألَمِ عَذابِ اللهِ إلى الإيمانِ، وتَحَمَّلُوا ما فيهِ مِن الأَلمَِ الزَّائِلِ المُفارِقِ عن قُرْبٍ، وهذا لِضَعْفِ بَصِيرتهِ فَرَّ مِن أَلَمِ أَعْداءِ الرُّسلِ إلى مُوافَقتِهم ومُتابَعتِهم، فَفَرَّ مِن أَلَمِ عَذابِهِم إلى أَلَمِ عَذابِ اللهِ، فجَعَلَ ألَمَ فِتْنةِ النَّاسِ في الفِرارِ مِنْهُ بِمَنْزِلةِ ألَمِ عَذابِ اللهِ، وغُبِنَ كُلَّ الغَبْنِ إذا اسْتَجارَ مِن الرَّمْضاءِ بالنَّارِ، وفَرَّ مِن أَلَمِ ساعةٍ إلى ألَمِ الأَبَدِ، وإذا نَصَرَ اللهُ جُنْدَه وأولياءَه قالَ: إنِّي كُنْتُ مَعَكُم واللهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَى عليه صَدْرُه من النِّفاقِ)

. انْتَهَى.


قُلْتُ: وإنَّما حَمَلَ ضَعِيفَ البصيرةِ

على أَنْ جَعَلَ فِتْنةَ النَّاسِ كعذابِ اللهِ، هو الخَوْفُ منهم أَنْ يَنالُوه بما يَكْرَهُ بسببِ الإيمانِ باللهِ، وذلك مِن جُمْلةِ الخوفِ مِن غيرِ اللهِ، وهذا وَجْهُ مُطابَقةِ الآيةِ للتَّرْجمةِ، وفي الآيةِ رَدٌّ على المُرْجِئَةِ والكَرَّامِيَّةِ، وفيها الخَوْفُ على نَفْسِك، والاسْتِعدادُ للبَلاءِ؛ إذ لابُدَّ منه مَعَ سُؤالِ اللهِ العافِيةَ.
(2) هذا الحديثُ رَواه أَبُو نُعَيْمٍ في (الحِلْيَةِ)،
والبَيْهَقِيُّ، وأَعَلَّه بمُحَمَّدِ بنِ مَرْوانَ السُّدِّيِّ، وقالَ: (ضَعِيفٌ).
وفيه أيضًا:
عَطِيَّةُ العَوْفِيُّ، أَوْرَدَهُ الذَّهَبيُّ في (الضُّعفاءِ والمَتْرُوكِينَ)، وقال: (ضَعَّفُوه).ومُوسَى بنُ بِلالٍ: قال الأُزْدِيُّ: (ساقِطٌ).


قُلْتُ: إسنادُهُ ضعيفٌ،

ومعناه صحيحٌ، وتَمامُه: ((وَإِنَّ اللهَ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالفَرَحَ في الرِّضَى وَاليَقِينِ، وَجَعَلَ الهَمَّ وَالحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ)).
قولُهُ:
((إنَّ مِنْ ضَعْفِ اليَقِينِ)) قالَ في (المِصْباحِ): (والضَّعْفُ بفتحِ الضَّادِ في لُغَةِ تَمِيمٍ وبِضَمِّها في لغةِ قُرَيْشٍ: خِلافُ القُوَّةِ والصِّحَّةِ).


واليَقِينُ

المُرادُ به: الإيمانُ كُلُّه، كما قال ابنُ مَسْعُودٍ: (اليقينُ الإيمانُ كُلُّهُ، وَالصَّبرُ نِصْفُ الإيمانِ) رَوَاه الطَّبَرانِيُّ بسَنَدٍ صحيحٍ، ورَوَاه أَبُو نُعَيْمٍ في (الحِلْيَةِ) والبَيْهَقِيُّ في (الزُّهْدِ) من حديثِه مَرْفُوعًا (ولا يَثْبُتُ رَفْعُهُ)قالَهُ الحافظُ.
ويَدْخُلُ في ذلكَ تَحْقِيقُ الإيمانِ بالقَدَرِ السَّابقِ كما في حَدِيثِ
ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَى فِي اليَقِينِ فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا)).
وفي رِوايةٍ أُخْرَى في إسنادِهَا
ضَعْفٌ(قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِاليَقِينِ؟)


قال: ((أَنْ تَعْلَمَ أَن مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ)).
قولُهُ:
((أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ)) أي: تُؤْثِرَ رِضاهُم على رِضَى اللهِ، فتُوافِقَهم على تَرْكِ المَأْمُورِ، أو فِعْلِ المَحْظُورِ اسْتِجلابًا لِرِضاهم، فلولا ضَعْفُ اليَقِينِ لَمَا فَعَلْتَ ذلكَ؛ لأَنَّ مَن قَوِيَ يَقِينُه عَلِمَ أنَّ اللهَ وَحْدَه هو النَّافعُ الضَّارُّ، وأنَّهُ لا مُعَوَّلَ إلاَّ على رِضاهُ، وليس لِسِواهُ مِن الأَمْرِ شيءٌ كائِنًا ما كانَ فلا يَهابُ أحدًا، ولا يَخْشاهُ لِخوفِ ضَرَرٍ يَلْحَقُه مِن جِهتِه، كما قال تَعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39].
قولُهُ:
((وأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ)) أي: تَحْمَدَهم وتَشْكُرَهُم على ما وَصَلَ إليكَ على أيدِيهم من رِزْقٍ، بأن تُضِيفَه إليهم وتَنْسَى المُنْعِمَ المُتَفَضِّلَ على الحقيقةِ، وهو اللهُ رَبُّ العالَمِينَ الذي قَدَّرَ هذا الرِّزْقَ لك، وأَوْصَلَهُ إليك بلُطْفِهِ ورَحْمتِهِ، فإنَّه لَطِيفٌ لِمَا يَشاءُ وهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ فإذا أَرادَ أَمْرًا قَيَّضَ له أَسْبابًا، ولا يُنافِي ذلكَ حديثُ: ((مَنْ لا يَشْكُرِ النَّاسَ لا يَشْكُرِ اللهَ))؛ لأنَّ المرادَ هنا إضافةُ النِّعْمةِ إلى السَّبَبِ ونِسْيانُ الخالقِ، والمرادُ بشُكْرِ النَّاسِ عَدَمُ كُفْرِ إِحسانِهِم ومُجازاتُهُم على ذلك بِمَا اسْتَطَعْتَ، فإن لم تَجِدْ فجَازِهم بِالدُّعاءِ.
قولُهُ:
((وأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى ما لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ)) أي: إذا طَلَبْتَهم شيئًا فمَنَعُوكَ ذَمَمْتَهُم على ذلك، فلو عَلِمْتَ يَقِينًا أَنَّ المُتَفَرِّدَ بالعَطاءِ والمَنْعِ هو اللهُ وَحْدَهُ، وأنَّ المخلوقَ مُدَبَّرٌ لا يَمْلِكُ لنفسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا فَضْلاً عن غيرِه، وأنَّ اللهَ لو قَدَّرَ لك رِزْقًا أَتَاكَ ولو اجْتَهَدَ الخَلْقُ كُلُّهم في دَفْعِه، وإن أَرادَكَ بِمَنْعٍ لم يَأْتِكَ مُرادُك ولو اجْتَمَعَ الخَلْقُ كُلُّهم في إِيصالِهِ إليكَ لَقَطَعْتَ العَلائِقَ عنِ الخَلائِقِ، وتَوَجَّهْتَ بقلبِكَ إلى الخالِقِ تَبارَكَ وتَعالى؛ ولِهَذَا قَرَّرَ ذلكَ بقولِهِ: ((إِنَّ رِزْقَ اللهِ لاَ يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلا يَرُدُّه كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ)).
فلا تُرْضِ الخَلْقَ بِمَا يُسْخِطُ اللهَ، ولا تَحْمَدْهُم على رِزْقِ اللهِ، ولا تَذُمَّهُم على ما لم يُؤْتِكَ اللهُ طَلَبًا لِحُصولِ رِزْقٍ من جِهتِهم، فما يَفْتَح اللهُ للنَّاسِ مِن رَحْمةٍ فلا مُمْسِكَ لَها، وما يُمْسِكْ فلا مُرْسِلَ له مِن بعدِه وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ.
قال
شيخُ الإسلامِ: (اليَقِينُ يَتَضَمَّنُ اليقينَ في القيامِ بأَمْرِ اللهِ، ومَا وَعَدَ اللهُ أهلَ طاعتِه، ويَتَضَمَّنُ اليقينَ بِقَدَرِ اللهِ وخَلْقِهِ وتَدْبِيرِهِ، فإذا أَرْضَيْتَهُم بِسَخَطِ اللهِ لم تَكُنْ مُوقِنًا، لا بِوَعْدِ اللهِ، ولا بِرِزْقِ اللهِ، فإنَّه إنَّما يَحْمِلُ الإنسانَ على ذلك، إمَّا مَيْلٌ إلى ما في أيدِيهم، فيَتْرُكُ القِيامَ فيهم بأمرِ اللهِ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْهُم، وإمَّا ضَعْفُ تَصْدِيقِه بِمَا وَعَدَ اللهُ أهلَ طاعتِه مِن النَّصْرِ والتَّأْيِيدِ والثَّوابِ في الدُّنيا والآخِرةِ، فإنَّكَ إذا أَرْضَيْتَ اللهَ نَصَرَكَ ورَزَقَكَ وكَفَاكَ مُؤْنَتَهُم.
وإِرْضاؤُهم بِمَا يُسْخِطُه إنَّما يَكونُ خَوْفًا منهم، ورَجاءً لهم وذلك مِن ضَعْفِ اليقينِ، وإذا لم يُقَدَّرْ لكَ ما تَظُنُّ أنَّهم يَفْعَلُونَه مَعَكَ فالأَمْرُ في ذلكَ إلى اللهِ لا لهم، فإنَّه ما شَاءَ كانَ وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، فإذا ذَمَمْتَهُم على ما يُقَدِّرُ، كان ذلكَ مِن ضَعْفِ يَقينِكَ فلا تَخَفْهُم ولا تَرْجُهم، ولا تَذُمَّهم مِن جِهةِ نفسِكَ وهَوَاكَ، ولكنْ مَن حَمِدَهُ اللهُ ورَسولُهُ منهم فهو المَحْمُودُ، ومَنْ ذَمَّهُ اللهُ ورسولُهُ فهو المَذْمُومُ، ولَمَّا قالَ بعضُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ:
(أي مُحَمَّدُ، أَعْطِنِي فإنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وذَمِّي شَيْنٌ)، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَاكَ اللهُ)).
وفي الحديثِ: أنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، وأَنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في الإيمانِ، وإلاَّ لم تَكُنْ هذه الثلاثُ مِن ضَعفِهِ، وأَضْدادُها من قُوَّتِهِ).


(3)

هذا الحديثُ رَوَاهُ

ابنُ حِبَّانَ بِهَذَا اللَّفْظِ الذي ذَكَرَه المُصَنِّفُ، ورَوَاه التِّرْمِذِيُّ عن رَجُلٍ مِن أهلِ المَدِينةِ قال: (كَتَبَ مُعاوِيةُ إلى عائِشةَ أن اكْتُبِي لي كِتابًا تُوصِينِي فيهِ، ولا تُكْثِرِي عَلَيَّ)؛ فَكَتَبَتْ عائِشةُ: (إلى مُعاوِيةَ سَلامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ:
فإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ:
((مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَى النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ)).
والسَّلامُ عَلَيْكَ)
رَوَاه أَبُو نُعَيْمٍ وغيرُه.
قولُهُ:
((مَن الْتَمَسَ)) أَيْ: طَلَبَ، قال شيخُ الإسلامِ: (وكَتَبَتْ عائِشةُ إلى مُعاوِيةَ، ورُوِيَ أَنَّها رَفَعَتْهُ: ((مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) هذا لَفْظُ المَرْفوعِ.
ولفظُ الموقوفِ:
((مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، ومَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا))هذا اللَّفْظُ المَأْثُورُ عنها، وهذا مِن أَعْظَمِ الفِقْهِ في الدِّينِ، والمَأْثُورُ أَحَقُّ وأَصْدَقُ، فإنَّ مَن أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِهِم كان قد اتَّقَاهُ.
وكانَ عبدَهُ الصالحَ، واللهُ يَتَوَلَّى الصَّالحين، وهو كافٍ عَبْدَهُ
{وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2،3].


واللهُ يَكْفِيهِ مُؤْنةَ النَّاسِ بلا رَيْبٍ، وأما كَوْنُ النَّاسِ كُلِّهم يَرْضَوْنَ عنه فقد يَحْصُلُ ذلك، لكنْ يَرْضَوْنَ إذا سَلِمُوا مِن الإعراضِ، وإذا تَبَيَّنَ لهم العاقِبةُ، ومَن أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ لم يُغْنُوا عنهُ مِن اللهِ شيئًا، كالظالمِ الذي يَعَضُّ على يَدَيْهِ، وأمَّا كَوْنُ حامِدِه يَنْقَلِبُ ذَامًّا فهذا يَقَعُ كُفْرًا، ويَحْصُلُ في العاقِبة؛ فإنَّ العاقبةَ للتَّقْوَى لا تَحْصُلُ ابتداءً عندَ أهوائِهم).

قُلْتُ:

وإنَّما يَحْمِلُ الإنسانَ على إِرْضاءِ الخَلْقِ بِسَخَطِ الخالقِ هو الخوفُ منهم، فلو كان خوفُهُ خالِصًا للهِ لَمَا أَرْضاهم بِسَخَطِهِ، فإنَّ العَبِيدَ فُقَراءُ عاجِزُون، لا قُدْرةَ لهم على نَفْعٍ ولا ضَرٍّ البَتَّةَ، وما بهم مِن نِعْمةٍ فمِن اللهِ، فكيفَ يَحْسُنُ بالمُوَحِّدِ المُخْلِصِ أَنْ يُؤْثِرَ رِضاهم على رِضاءِ ربِّ العالَمِينَ الذي لهُ المُلْكُ كُلُّه، وله الحَمْدُ كُلُّه، وبِيَدِه الخيرُ كُلُّه، ومنه الخيرُ كُلُّه، وإليه يَرْجِعُ الأَمْرُ كلُّه، لا إلهَ إلاَّ هو العَزِيزُ الحَكِيمُ.
وقد أَخْبَرَ تَعالى أنَّ ذلك مِن صِفاتِ المُنافِقِين في قولِهِ:
{لأََنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}[الحشر:13] وما أَحْسَنَ ما قِيلَ:

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوِدُّ يا غَايَةَ المُنَى فـَكـُلـُّ الَّذِي فـَوقَ التُّرابِ تُرابُ

قالَ ابنُ رَجَبٍ: (فمَن تَحَقَّقَ أَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ فوقَ التُّرابِ فهو تُرابٌ، فكيف يُقَدِّمُ طاعةَ مَن هو ترابٌ على طاعةِ رَبِّ الأَرْبابِ؟ أم كيفَ يُرْضِي التُّرابَ بِسَخَطِ المَلِكِ الوَهَّابِ؟ إنَّ هذا لَشيءٌ عُجابٌ).


وفي الحديثِ:

عُقوبةُ مَن خَافَ النَّاسَ وآثَرَ رِضاهم على رِضَى اللهِ، وأنَّ العُقوبةَ قد تَكونُ في الدِّينِ عِياذًا باللهِ مِن ذلك، فإنَّ المُصِيبةَ في الأَدْيانِ أَعْظَمُ مِن المصيبةِ في الأموالِ والأَبْدانِ.
وفيه:
شِدَّةُ الخوفِ على عُقوباتِ الذُّنوبِ، لا سِيَّما في الدِّينِ، فإنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَفْعَلُ المَعاصِيَ ويَسْتَهِينُ ولا يَرَى أَثَرًا لِعُقوبتِها، ولا يَدْرِي المِسْكِينُ بِمَ أُصِيبَ فقد تَكونُ عُقوبتُه في قَلْبِهِ كما قالَ تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة:78].
اللهُمَّ إنَّا نَعوذُ بِرضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبعَفْوِكَ مِن عُقوبتِك، وبكَ منكَ، لا نُحْصِي ثَناءً عليكَ أنتَ كما أَثْنَيْتَ على
نفسِكَ.

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ قولِ اللهِ تعالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران:175]) الخوفُ مِنْ أفضلِ مقاماتِ الدينِ وأجلِّهَا، وَأَجْمَعِ أنواعِ العبادةِ التي يَجِبُ إخلاصُهَا للهِ تَعَالَى، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}[النحل:50].
- وَقَالَ:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46].

- قالَ تعالَى: {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40].

- وَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}[المائدة:44] وَأَمْثَالُ هذهِ الآياتِ في القرآنِ كثيرٌ.


والخوفُ مِنْ حيثُ هوَ ثلاثةُ أقسامٍ:

أَحَدُهَا: خوفُ السرِّ، وهوَ أنْ يَخَافَ مِنْ غيرِ اللهِ مِنْ وثنٍ أوْ طَاغُوتٍ أنْ يُصِيبَهُ بما يَكْرَهُ، كَمَا قالَ تَعَالَى عنْ قومِ هودٍ: إِنَّهُم قالوا لهُ: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}[هود:54،55].

- وقالَ تَعَالَى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ}[الزمر:36] وهذا هوَ الواقعُ منْ عُبَّادِ القبورِ ونحوِهَا من الأوثانِ، يَخَافُونَهَا ويُخَوِّفونَ بها أهلَ التوحيدِ إذا أَنْكَرُوا عبادَتَهَا وَأَمَرُوا بإخلاصِ العبادةِ للهِ، وهذا يُنَافِي التوحيدَ.

الثاني: أنْ يَتْرُكَ الإنسانُ ما يَجِبُ عليهِ، خَوْفًا منْ بعضِ الناسِ، فهذا مُحَرَّمٌ، وهو نوعٌ من الشِّرْكِ باللهِ المُنَافِي لكمالِ التوحيدِ، وهذا هوَ سَبَبُ نزولِ هذهِ الآيةِ، كما قالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (175) إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافَونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عِمْرَانَ:173-175].
وفي الحديثِ:
((إِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيامَةِ: ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ أَنْ لا تُغَيِّرَهُ؟ فَيَقولُ: رَبِّ، خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: إِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أنْ تَخْشَى)).
الثالثُ: الخوفُ الطبيعيُّ، وهوَ الخوفُ منْ عدوٍّ أوْ سَبُعٍ أوْ غيرِ ذلكَ، فهذا لا يُذَمُّ، كما قالَ تَعَالَى في قِصَّةِ مُوسَى عليهِ السلامُ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}[القصص:21].
ومَعْنَى قولِهِ:
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أيْ: يُخَوِّفُكُم أولياءهُ، {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} وهذا نَهْيٌ من اللهِ تَعَالَى للمؤمنينَ أنْ يَخَافُوا غيرَهُ، وأَمْرٌ لهم أنْ يَقْصُرُوا خَوْفَهُم على اللهِ تعالى، فلا يَخَافُونَ إلاَّ إِيَّاهُ، وهذا هوَ الإخلاصُ الذي أَمَرَ اللهُ بهِ عبادَهُ، وَرَضِيَهُ مِنْهُم، فإذا أَخْلَصُوا لهُ الخوفَ وجميعَ العبادةِ أَعْطَاهُم ما يَرْجُونَ وَأَمَّنَهُم منْ مَخَاوِفِ الدنيا والآخرةِ.
- قالَ تَعَالَى:
{أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر:36].
قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القيِّمِ:
(ومِنْ كَيْدِ عَدُوِّ اللهِ: أن يُخَوِّفَ المؤمنينَ منْ جُنْدِهِ وأوليائِهِ؛ لِئَلاَّ يُجَاهِدُوهُم، ولا يَأْمُرُوهُم بِمَعْرُوفٍ، ولا يَنْهَوْهُم عنْ مُنْكَر، وأَخْبَرَ تَعَالَى أنَّ هذا منْ كيدِ الشيطانِ وتَخْوِيفِهِ، ونَهَانَا أنْ نَخَافَهُم، قالَ: والمعنَى عندَ جميعِ المفسِّرينَ: يُخَوِّفُهُم بأوليائِهِ).
قال
قَتَادَةُ: (يُعَظِّمُهُم في صدورِكُم، فَكُلَّمَا قَوِيَ إيمانُ العبدِ زَالَ خوفُ أولياءِ الشيطانِ مِنْ قلبِهِ، وكُلَّمَا ضَعُفَ إيمانُهُ قَوِيَ خوفُهُ منهم).
فَدَلَّتْ هذهِ الآيةُ على أنَّ إخلاصَ الخوفِ منْ كمالِ شروطِ الإيمانِ).
(2) قَالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أًُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة:18]).


أَخْبَرَ تَعَالَى أنَّ مساجدَ اللهِ لا يَعْمُرُهَا إلاَّ أهلُ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ،

الذينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِم وعَمِلُوا بِجَوَارِحِهِم، وَأَخْلَصُوا لهُ الخَشْيَةَ دونَ مَنْ سِوَاهُ، فَأَثْبَتَ لهم عمارةَ المساجدِ بعدَ أنْ نَفَاهَا عن المشركينَ؛ لأنَّ عِمَارَةَ المساجدِ بالطاعةِ والعملِ الصالحِ، والمُشْرِكُ وإنْ عَمِلَ فَعَمَلُهُ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}[النور:39] أوْ {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}[إبراهيم:18] ومَا كانَ كذلكَ فالعَدَمُ خيرٌ منهُ، فلا تكونُ المساجدُ عامرةً إلاَّ بالإيمانِ الذي مُعْظَمُهُ التوحيدُ معَ العملِ الصالحِ الخالصِ منْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ والبِدَعِ، وذلكَ كُلُّهُ داخلٌ في مُسَمَّى الإيمانِ المُطْلَقِ عندَ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ.
- قولُهُ: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: (يُرِيدُ خَشْيَةَ التَّعْظِيمِ والعبادةِ والطاعةِ، ولا مَحَالَةَ أنَّ الإنسانَ يَخْشَى المحاذيرَ الدنيويَّةَ، وَيَنْبَغِي أنْ يَخْشَى في ذلكَ كُلِّهِ قَضَاءَ اللهِ وَتَصْرِيفَهُ).
وقالَ
ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (الخوفُ عُبُودِيَّةُ القلبِ، فَلاَ يَصْلُحُ إلاَّ للهِ، كالذُّلِّ والإِنَابَةِ والمَحَبَّةِ والتَّوَكُّلِ والرجاءِ وَغَيْرِهَا منْ عبوديَّةِ القلبِ).
قولُهُ:
{فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} قالَ ابنُ أبي طَلْحَةَ: (عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما يَقُولُ: (إِنَّ أُولَئِكَ هم المُهْتَدُونَ، وَكُلُّ {عَسَى} في القرآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ).
وفي الحديثِ:
((إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِِيمَانِِ)) قالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} رَوَاهُ أحمدُ والترمذيُّ والحاكمُ.


(3)

وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} الآيةَ [العنكبوت:10].
قالَ
ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عنْ صفاتِ قومٍ من المُكَذِّبِينَ الذينَ يَدَّعُونَ الإيمانَ بألسنَتِهِم، ولم يَثْبُتْ في قلوبِهِم: إنَّهُم إذا جاءَتْهُم مِحْنَةٌ وفِتْنَةٌ في الدنيا اعْتَقَدُوا أنَّها منْ نقمةِ اللهِ بهم، فَارْتَدُّوا عن الإسلامِ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (يَعْنِي فِتْنَتَهُ أنْ يَرْتَدَّ عنْ دِينِهِ إِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ).
وقالَ
ابنُ القيِّمِ: (الناسُ إذا أُرْسِلَ إليهم الرُّسُلُ بينَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أنْ يَقُولَ أَحَدُهم: آمَنَّا.
وإمَّا أنْ لا يقولَ ذلكَ، بلْ يَسْتَمِرُّ على السَّيِّئاتِ والكُفْرِ، فمَنْ قالَ آمَنَّا امْتَحَنَهُ رَبُّهُ وابْتَلاَهُ وفَتَنَهُ، والفِتْنَةُ: الابتلاءُ والاختبارُ، لِيَتَبَيَّنَ الصادقُ من الكاذبِ، ومَنْ لمْ يَقُلْ: آمَنَّا، فَلاَ يَحْسَبْ أنَّهُ يُعْجِزُ اللهَ وَيَفُوتُهُ وَيَسْبِقُهُ.
فَمَنْ آمَنَ بالرُّسُلِ وأطاعَهُم عَادَاهُ أعداؤُهُم وَآذَوْهُ فابْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ، ومَنْ لم يُؤْمِنْ بهم ولم يُطِعْهُم عُوقِبَ في الدنيا والآخرةِ، وَحَصَلَ لهُ ما يُؤْلِمُهُ، وكانَ هذا الأَلَمُ أَعْظَمَ وَأَدْوَمَ منْ أَلَمِ أَتْبَاعِهِم؛ فلا بُدَّ منْ حُصُولِ الأَلَمِ لكلِّ نفسٍ، آمَنَتْ أوْ رَغِبَتْ عن الإيمانِ، لكنَّ المؤمنَ يَحْصُلُ لهُ الألمُ في الدنيا ابْتَدَاءً، ثمَّ تَكُونُ لهُ العاقبةُ في الدنيا والآخرةِ، والْمُعرِضَ عن الإيمانِ تَحْصُلُ لهُ اللَّذَّةُ ابتداءً، ثمَّ يَصِيرُ في الأَلَمِ الدائم.
والإنسانُ لا بُدَّ أنْ يَعِيشَ معَ الناسِ، والناسُ لهم إِرَادَاتٌ وتَصَوُّرَاتٌ، فَيَطْلُبُونَ منهُ أنْ يُوَافِقَهُم عليها، وإنْ لم يُوَافِقْهُم آذَوْهُ وَعَذَّبُوهُ، وإنْ وَافَقَهُم حَصَلَ لهُ العذابُ تارةً منهم وتارةً منْ غَيْرِهِم، كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وتُقًى حَلَّ بينَ قومٍ فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ لا يَتَمَكَّنُونَ منْ فُجُورِهِم وظلمِهِم إلاَّ بِمُوَافَقَتِهِ لهم أوْ سُكُوتِهِ عنْهُم.
فإنْ وَافَقَهُم أوْ سَكَتَ عنهم سَلِمَ منْ شَرِّهِم في الابتداءِ، ثمَّ يَتَسَلَّطُونَ عليهِ بالإهانةِ والأَذَى أَضْعَافَ ما كانَ يَخَافُهُ ابتداءً لوْ أَنْكَرَ عليهم وَخَالَفَهُم، وإنْ سَلِمَ منهم فَلاَ بُدَّ أنْ يُهَانَ ويُعَاقَبَ على يَدِ غَيْرِهِم، فالحزمُ كلُّ الحزمِ في الأخذِ بما قَالَتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا
لمعاويةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مَؤُونَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا).


فمَنْ هَدَاهُ اللهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَوَقَاهُ شَرَّ نَفْسِهِ، امْتَنَعَ مِن المُوَافَقَةِ على فِعْلِ المُحَرَّمِ، وَصَبَرَ على عَدَاوَتِهِم، ثمَّ تَكُونُ لهُ العاقبةُ في الدنيا والآخرةِ، كما كانتْ للرسلِ وَأَتْبَاعِهِم.
ثم أَخْبَرَ عنْ حالِ الداخلِ في الإيمانِ بلا بَصِيرَةٍ، وأنَّهُ إذا أُوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فتنةَ الناسِ لهُ - وهيَ أَذَاهُم وَنَيْلُهُم إِيَّاهُ بالمَكْرُوهِ، وهوَ الأَلَمُ الذي لا بُدَّ أنْ يَنَالَ الرُّسُلَ وَأَتْبَاعَهُم مِمَّنْ خَالَفَهُم - جَعَلَ ذلكَ في فِرَارِهِ منهُ وتَرْكِهِ السَّبَبَ الذي يَنَالُهُ بهِ: كَعَذَابِ اللهِ الذي فَرَّ منهُ المؤمنونَ بالإيمانِ.
فالمؤمنونَ لِكَمَالِ بَصِيرَتِهِم فَرُّوا مِنْ أَلَمِ عذابِ اللهِ إلى الإيمانِ، وَتَحَمَّلُوا ما فيهِ من الألمِ الزائلِ المُفَارِقِ عنْ قربٍ، وهذا لِضَعْفِ بَصِيرَتِهِ فَرَّ منْ أَلَمِ أعداءِ الرُّسُلِ إلى مُوَافَقَتِهِم ومُتَابَعَتِهِم، فَفَرَّ منْ أَلَمِ عَذَابِهِم إلى أَلَمِ عَذَابِ اللهِ، فَجَعَلَ أَلَمَ فِتْنَةِ الناسِ في الفِرَارِ منهُ بمنزلةِ عذابِ اللهِ، وغُبِنَ كلَّ الغَبْنِ؛ إذِ اسْتَجَارَ مِن الرَّمْضَاءِ بالنارِ، وَفَرَّ منْ أَلَمِ ساعةٍ إلى أَلَمِ الأبدِ، وإذا نَصَرَ اللهُ جندَهُ وأولياءَهُ قالَ: إِنِّي كُنْتُ مَعَكُم، واللهُ أَعْلَمُ بما انْطَوَى عليهِ صَدْرُهُ من النِّفَاقِ).

انْتَهَى.
وفي الآيةِ:
رَدٌّ على المُرْجِئَةِ والكَرَّامِيَّةِ، وَوَجْهُهُ أنَّهُ لم يَنْفَعْ هؤلاءِ قَوْلُهُم: آمَنَّا باللهِ معَ عَدَمِ صَبْرِهِم على أَذَى مَنْ عَادَاهُم في اللهِ، فلا يَنْفَعُ القولُ والتصديقُ بدونِ العملِ، فلا يَصْدُقُ الإيمانُ الشرعيُّ على الإنسانِ إلاَّ باجتماعِ الثلاثةِ:
التصديقِ بالقلبِ وعملِهِ، والقولِ باللسانِ، والعملِ بالأركانِ.


وهذا قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ سَلَفًا وَخَلَفًا، واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى أَعْلَمُ.

(4)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ اليَقِينِ: أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَأَنْ تَحْمَدَهُم علَى رِزْقِ اللهِ وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى ما لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَريصٍ ولا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كَارِهٍ)) هذا الحديثُ رَوَاهُ أبو نُعَيْمٍ في (الحِلْيَةِ)، والبَيْهَقِيُّ وَأَعَلَّهُ بِمُحَمَّدِ بنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ، وقالَ: ضَعِيفٌ، وفي إِسْنَادِهِ أيضًا عَطِيَّةُ العَوْفِيُّ، ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ في (الضُّعَفَاءِ).


ومُوسَى بنُ بِلالٍ،

قالَ الأَزْدِيُّ: (سَاقِطٌ).
وتَمامُ الحديثِ:
((وَإِنَّ اللهَ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالفَرَحَ فِي الرِّضَى والْيَقِينِ، وجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ)) والحديثُ وإن كانَ في إسنادِهِ مَن ذُكِرَ، فمَعْنَاه صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ:
((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ اليَقِينِ)) الضعفُ يُضَمُّ ويُحَرَّكُ، ضِدُّ القوَّةِ، ضَعُفَ كَكَرُمَ ونَصَرَ، ضَعْفًا، وضُعْفَةً، ضَعَافِيَةً، فهوَ ضَعِيفٌ وَضَعُوفٌ وَضعْفَانُ، والجمعُ: ضِعَافٌ وضُعَفَاءُ وَضَعَفَةٌ وضَعْفَى، أو الضَّعْفُ -بالفتحِ- في الرَّأْيِ، وبالضَّمِّ في البَدَنِ، فَهِيَ ضعيفةٌ وضَعُوفٌ.
و
((اليَقِينُ)) المرادُ به الإيمانُ كلُّه، قالَ ابنُ مَسْعُودٍ: (اليقينُ الإيمانُ كلُّهُ، والصبرُ نصفُ الإيمانِ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بسَنَدٍ صَحِيحٍ، وأبو نُعَيْمٍ في (الحِلْيَةِ)، والبَيْهَقِيُّ في (الزُّهْدِ) منْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا.
قالَ: وَيَدْخُلُ في ذلكَ تَحْقِيقُ الإيمانِ بالقَدرِ السابقِ، كما في حديثِ
ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَى فِي اليَقِينِ فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثيرًا)).
وفِي رِوَايَةٍ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ باليَقِينِ؟


قالَ: ((أنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَما أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ)).
قولُهُ:
((أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ)) أيْ: تُؤْثِرَ رِضَاهُم على رِضَى اللهِ بأن تُوَافِقَهم على تَرْكِ مَا أمَرَ اللهُ به، وفِعْلِ ما نَهَى عنه؛ اسْتِجْلابًا لرِضَاهُم.


وهذا يُنَافِي قُوَّةَ اليقينِ،

وكمالَ الإيمانِ في إيثارِ ما يُرْضِي اللهَ على ما تَهْوَاه النُّفُوسُ، والصبرَ على مُخَالَفَةِ هوَاهَا؛ كما قالَ تعالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ ويَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى باللهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39] وذلكَ إذا لم يَقُمْ بِقَلْبِهِ منْ إِعْظَامِ اللهِ وإِجْلاَلِهِ وَهَيْبَتِهِ ما يَمْنَعُهُ من اسْتِجْلاَلِ رِضَى المخلوقِ بما يَجْلُبُ لهُ سَخَطَ خَالِقِهِ ورَبِّهِ وَمَلِيكِهِ، الذي يَتَصَرَّفُ في القلوبِ، وَيُفَرِّجُ الكُرُوبَ، وَيَغْفِرُ الذنوبَ.


وبهذا الاعتبارِ يَدْخُلُ في نوعٍ من الشركِ؛

لأَِنَّهُ آثَرَ رِضَى المخلوقِ على رِضَى اللهِ، وَتَقَرَّبَ إليهِ بما يُسْخِطُ اللهَ. ولا يَسْلَمُ مِنْ هذا إلاَّ مَنْ سَلَّمَهُ اللهُ، وَوَفَّقَهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ ما يَجُوزُ على اللهِ مِنْ إثباتِ صفاتِهِ على ما يَلِيقُ بجلالِهِ، وتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عنْ كلِّ ما يُنَافِي كَمَالَهُ، ومعرفةِ توحيدِهِ في رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وباللهِ التوفيقُ.
قولُهُ:
((وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ علَى رِزْقِ اللهِ)) أيْ: على ما وَصَلَ إليكَ على أَيْدِيهِم، بأنْ تُضِيفَهُ إليهم وتَحْمَدَهُم عليهِ، فإنَّ المُتَفَضِّلَ في الحقيقةِ هوَ اللهُ وحدَهُ الذي قَدَّرَهُ لكَ، وَأَوْصَلَهُ إليكَ، وإذا أَرَادَ أَمْرًا قَيَّضَ لهُ أَسْبَابًا.
ولا يُنَافِي هذا حديثُ:
((مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ اللهَ)) لأنَّ شُكْرَهُم إنَّمَا هوَ في الدعاءِ لهم، لكونِ اللهِ سَاقَهُ على أَيْدِيهِم، فَتَدْعُو لهم أوْ تُكَافِئُهُم لحديثِ: ((مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)) فَإِضَافَةُ الصَّنِيعَةِ إليهم لِكَوْنِهِم صَارُوا سَبَبًا في إيصالِ المعروفِ إليكَ، والذي قَدَّرَهُ وسَاقَهُ هوَ اللهُ وحدَهُ.
قولُهُ:
((وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ)) لأِنَّهُ لمْ يُقَدِّرْ لكَ ما طَلَبْتَهُ على أَيْدِيهِم، فَلَوْ قَدَّرَ لكَ لساقَتْهُ المقاديرُ إليكَ، فمَنْ عَلِمَ أنَّ المُتَفَرِّدَ بالعطاءِ والمَنْعِ هوَ اللهُ وحدَهُ، وأنَّهُ هوَ الذي يَرْزُقُ العبدَ بِسَبَبٍ وبلا سببٍ، ومِنْ حيثُ لا يَحْتَسِبُ، لم يَمْدَحْ مَخْلُوقًا على رزقٍ، ولم يَذُمَّهُ على مَنْعٍ، وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلى اللهِ، وَيَعْتَمِدُ عليهِ في أمرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
وقدْ قَرَّرَ هذا المعنَى بقولِهِ في الحديثِ:
((إِنَّ رِزْقَ اللهِ لاَ يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلاَ يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ)) كما قالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر:2].
قالَ
شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ: (اليقينُ يَتَضَمَّنُ اليقينَ في القيامِ بأمرِ اللهِ وَمَا وَعَدَ اللهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ، ويَتَضَمَّنُ اليقينَ بِقَدَرِ اللهِ وَخَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فإذا أَرْضَيْتَهُم بِسَخَطِ اللهِ لم تَكُنْ مُوقِنًا لا بِوَعْدِهِ ولا برزقِهِ، فإنَّهُ إِنَّمَا يَحْمِلُ الإنسانَ على ذلكَ: إمَّا مَيْلٌ إلى ما في أَيْدِي الناسِ فَيَتْرُكُ القيامَ فيهِم بأمرِ اللهِ لِمَا يَرْجُوهُ منهم، وإمَّا ضَعْفُ تَصْدِيقِهِ بِمَا وَعَدَ اللهُ أَهْلَ طاعتِهِ من النَّصْرِ والتَّأْيِيدِ والثوابِ في الدنيا والآخرةِ، فإنَّكَ إذا أَرْضَيْتَ اللهَ نَصَرَكَ ورَزَقَكَ وَكَفَاكَ مَؤُونَتَهُم، وَإِرْضَاؤُهُم بما يُسْخِطُهُ إِنَّمَا يَكُونُ خَوْفًا منهم وَرَجَاءً لَهُم، وذلكَ منْ ضعفِ اليقينِ.
وإذا لم يُقَدَّرْ لكَ ما تَظُنُّ أنَّهُم يَفْعَلُونَهُ مَعَكَ فالأمرُ في ذلكَ إلى اللهِ لا لَهُم؛ فإنَّهُ ما شاءَ كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فإذا ذَمَمْتَهُم على ما لم يُقَدَّرْ، كانَ ذلكَ منْ ضَعْفِ يَقِينِكَ، فلا تَخَفْهُم ولا تَرْجُهُم ولا تَذُمَّهُم منْ جهةِ نَفْسِكَ وَهَوَاكَ، ولكنْ مَنْ حَمِدَهُ اللهُ ورسولُهُ منهم فهوَ المَحْمُودُ، ومَنْ ذَمَّهُ اللهُ ورسولُهُ منهم فهوَ المذمومُ.
ولَمَّا قالَ بعضُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ: أَيْ مُحَمَّدُ أَعْطِنِي؛ فَإِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شَيْنٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((ذَاكَ اللهُ)))
انتهَى.
ودَلَّ الحديثُ على أنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، وأنَّ الأعمالَ مِنْ مُسَمَّى الإيمانِ.


(5)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ عَائِشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ)) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ).
هذا الحديثُ رَوَاهُ
ابنُ حِبَّانَ بهذا اللفظِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عنْ رَجُلٍ منْ أهلِ المدينةِ قالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلى عائِشَةَ: أَنِ اكْتُبِي لِي كِتابًا تُوصِينِي فِيهِ، وَلاَ تُكْثِرِي عَلَيَّ، فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلامٌ عَلَيْكَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مَؤُونَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَى النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلى النَّاسِ)).
وَالسَّلامُ عَلَيْكُم) وَرَوَاهُ أبو نُعَيْمٍ.


قولُهُ: ((مَنِ الْتَمَسَ)) أيْ: طَلَبَ، قالَ شيخُ الإسلامِ: وَكَتَبَتْ عائشةُ إلى معاويةَ، ورُوِيَ أنَّها رَفَعَتْهُ: ((مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مَؤُونَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) هذا لَفْظُ المرفوعِ.
ولفظُ الموقوفِ: ((مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، ومَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا)) وهذا مِنْ أَعْظَمِ الفِقْهِ في الدينِ؛ فإنَّ مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِهِم كانَ قد اتَّقَاهُ، وكانَ عبدَهُ الصالحَ، واللهُ يَتَوَلَّى الصالِحِينَ، واللهُ كَافٍ عَبْدَهُ: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2،3] وَاللهُ يَكْفِيهِ مَؤُونَةَ النَّاسِ بِلاَ رَيْبٍ.
وأمَّا كَوْنُ الناسِ كُلِّهِم يَرْضَوْنَ عنهُ فقدْ لاَ يَحْصُلُ ذلكَ، لكن يَرْضَوْنَ عنهُ إذا سَلِمُوا من الأَغْرَاضِ، وإِذَا تَبَيَّنَ لهم العاقبةُ.


((وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا))

كالظالمِ الذي يَعَضُّ على يَدَيْهِ، وأمَّا كونُ حَامِدِهِ يَنْقَلِبُ ذَامًّا، فهذا يَقَعُ كثيرًا ويَحْصُلُ في العاقبةِ؛ فإنَّ العاقبةَ للتَّقْوَى لا تَحْصُلُ ابتداءً عندَ أَهْوَائِهِم) انتهَى.
وقدْ أَحْسَنَ مَنْ قالَ:

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ يَا غَايَةَ الْمُنَى فـَكـُلـُّ الـَّذِي فـَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

قالَ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: (فَمَنْ تَحَقَّقَ أنَّ كلَّ مخلوقٍ فوقَ الترابِ فهوَ ترابٌ، فَكَيْفَ يُقَدِّمُ طاعةَ مَنْ هوَ ترابٌ على طاعةِ ربِّ الأَرْبَابِ؟
أمْ كَيْفَ يُرْضِي الترابَ بِسَخَطِ المَلِكِ الوَهَّابِ؟
إنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)
.

وفي الحديثِ عقوبةُ مَنْ خَافَ الناسَ وَآثَرَ رِضَاهُم على اللهِ، وأنَّ العقوبةَ قدْ تَكُونُ في الدِّينِ، عِيَاذًا باللهِ منْ ذلكَ، كَمَا قالَ تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة:78].

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1)

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ...} الآيةَ، هذا البابُ عقَدَه المصنِّفُ رحِمَه اللهُ لوجوبِ تعلُّقِ الخوفِ والخشيةِ باللهِ وحدَه، والنهيِ عن تعلُّقِه بالمخلوقين، وبيانِ أنه لا يتمُّ التوحيدُ إلا بذلك.
ولابدَّ في هذا الموضعِ مِن تفصيلٍ يَتَّضِحُ به الأمرُ ويزولُ الاشتباهُ.
اعلمْ أنَّ الخوفَ والخشيةَ تارةً يقعُ عبادةً، وتارةً يقعُ طبيعةً وعادةً، وذلك بِحَسَبِ أسبابِه ومتعلِّقاتِه.
-
فإن كان الخوفُ والخشيةُ خَوْفَ تَأَلُّهٍ، وَتَعَبُّدٍ، وَتَقَرُّبٍ بذلك الخوفِ إلى مَن يخافُه، وكانَ يدعو إلى طاعةٍ باطنةٍ وخوفٍ سِرِّيٍّ يَزْجُرُ عن معصيةِ مَن يخافُه، كان تعلُّقُه باللهِ مِن أعظمِ واجباتِ الإِيمانِ وتعلقُه بغيرِ اللهِ مِن الشركِ الأكبرِ الذي لا يَغْفِرُه اللهُ؛ لأنه أشرَك في هذه العبادةِ- التي هي من أعظمِ واجباتِ القلبِ- غَيْرَ اللهِ مع اللهِ، وربما زاد خوفُه من غيرِ اللهِ على خوفِه اللهَ.
وأيضًا:
فمَن خشِيَ اللهَ وحدَه على هذا الوجهِ فهو مُخْلِصٌ مُوَحِّدٌ، ومن خشِيَ غيْرَه فقدْ جَعَلَ للهِ ندًّا في الخشيةِ، كمَن جعَلَ للهِ ندًّا في المحبَّةِ.
وذلك كمَن يَخْشَى من صاحبِ القبرِ أن يُوقِعَ به مكروهًا، أو يَغْضبَ عليه فيسلبَه نعمةً أو نحوَ ذلك
مما هو واقعٌ من عُبَّادِ القبور، وإن كان الخوفُ طبيعيًّا كمَن يخشى من عَدُوٍّ أو سَبُعٍ أو حَيَّةٍ أو نحوِ ذلك مما يُخْشى ضررُه الظاهريُّ، فهذا النوعُ ليس عبادةً، وقد يوجدُ مِن كثيرٍ مِن المؤمنينَ، ولا ينافي الإِيمانَ.


وهذا إذا كان خوفًا محقَّقًا قد انعقدتْ أسبابُه فليس بمذمومٍ،

وإن كان هذا خوفًا وهميًّا كالخوف الذي ليس له سببٌ أصلاً، أو له سببٌ ضعيفٌ، فهذا مذمومٌ يُدْخِلُ صاحبَه في وصفِ الجبناءِ، وقد تَعَوَّذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الجبنِ، فهو مِن الأخلاقِ الرذيلةِ، ولهذا كان الإِيمانُ التامُّ والتوكُّلُ والشجاعةُ تَدْفعُ هذا النوعَ، حتى إنَّ خواصَّ المؤمنين وأقوياءهم تَنْقلبُ المخاوفُ في حَقِّهم أمنًا وطمأنينةًَ؛ لقوةِ إيمانِهم، وشجاعتِهم الشجاعةَ القلبيةَ، وكمالِ توكُّلِهم، ولهذا أتْبَعه بهذا البابِ.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)

مُنَاسَبَةُ البابِ لِمَا قبلَهُ:

إنَّ المُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ أعْقَبَ بابَ المحبَّةِ ببابِ الخوفِ؛ لأنَّ العبادةَ تَرْتَكِزُ على شيئيْنِ:

المحبَّةُ، والخوفُ.
فَبِالْمَحبَّةِ يكونُ امتثالُ الأمرِ، وبالخوفِ يكونُ اجتنابُ النهيِ، وإنْ كانَ تاركُ المعصيَةِ يَطْلُبُ الوصولَ إلى اللهِ، ولكنَّ هذا مِنْ لازِمِ تَرْكِ المعصيَةِ، وليسَ هوَ الأساسَ، فلوْ سَأَلْتَ منْ لا يَزْنِي، لماذا؟
لقالَ:
خوفًا من اللهِ، ولوْ سَأَلْتَ الذي يُصَلِّي، لقالَ: طمَعًا في ثوابِ اللهِ وَمَحَبَّةً لهُ. وكلٌّ منهما مُلازمٌ للآخَرِ، فالخائفُ والمطيعُ يُرِيدَانِ النجاةَ منْ عذابِ اللهِ، والوصولَ إلى رحْمَتِهِ.


وهل الأفضلُ للإنسانِ أنْ يُغَلِّبَ جانبَ الخوفِ أوْ يُغَلِّبَ جانبَ الرجاءِ؟

اخْتُلِفَ في ذلكَ: فقيلَ:

ينبغي أنْ يُغَلِّبَ جانبَ الخوفِ؛ لِيَحْمِلَهُ ذلكَ على اجتنابِ المعصيَةِ ثمَّ فِعْلِ الطاعةِ.


وقيلَ:

يُغَلِّبُ جانبَ الرجاءِ؛

ليكونَ متفائِلاً، والرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يُعْجِبُهُ الفألُ.


وقيلَ:

في فعلِ الطاعةِ يُغلِّبُ جانبَ الرجاءِ،

فالَّذِي مَنَّ عليهِ بفعلِ هذهِ الطاعةِ سَيَمُنُّ عليهِ بالقَبُولِ؛ ولهذا قالَ بعضُ السَّلفِ: إذا وفَّقَكَ اللهُ للدُّعاءِ فانْتَظِر الإجابةَ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {وَقَالَ رَبُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وفي فعلِ المعصيَةِ يُغَلِّبُ جانبَ الخوفِ؛ لأجْلِ أنْ يمْنَعَهُ منهَا، ثمَّ إذا خافَ من العقوبةِ تابَ.
وهذا أقربُ شيءٍ، ولكنْ ليسَ بذاكَ القربِ الكاملِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ:
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أيْ: يخافونَ أنْ لا يَقْبَلَ منهُمْ، لكنْ قدْ يُقالُ بأنَّ هذهِ الآيَةَ يُعَارِضُها أحاديثُ أُخْرَى، كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ القُدْسِيِّ عنْ ربِّهِ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي)).


وقيلَ:

في حالِ المرضِ يُغَلِّبُ جانبَ الرجاءِ،

وفي حالِ الصحَّةِ يُغَلِّبُ جانبَ الخوفِ.


فهذهِ أربعةُ أقوالٍ.
وقالَ الإمامُ
أحمدُ: (ينبغي أنْ يكونَ خوفُهُ ورَجَاؤُهُ واحدًا، فأيُّهما غَلَبَ هلكَ صاحبُهُ) أيْ: يجعلُهُما كجَنَاحَي الطائرِ، والجناحانِ للطائرِ إذا لمْ يكُونا متساوييْنِ سَقَطَ.
وخوفُ اللهِ تعالى درجاتٌ، فمن الناسِ مَنْ يغْلُو في خوفِهِ، ومنْهُمْ منْ يُفْرِطُ، ومنهمْ مَنْ يعْتَدِلُ في خوفِهِ.
والخوفُ العَدْلُ هوَ الذي يَرُدُّ عنْ محارمِ اللهِ فقطْ، وإنْ زِدْتَ على هذا فإنَّهُ يُوصِلُكَ إلى اليأسِ منْ رَوْحِ اللهِ، ومن الناسِ مَنْ يُفْرِطُ في خوفِهِ بحيثُ لا يرْدَعُهُ عمَّا نهى اللهُ عنه.


والخوفُ ينقسم إلى قسمين:

الأوَّلُ:

خوفُ العبادةِ والتذَلُّلِ والتعظيمِ والخضوعِ،

وهُوَ ما يُسمَّى بخوْفِ السِّرِّ، وهذا لا يصلحُ إلاَّ للهِ سبحانَهُ، فمَنْ أشركَ فيهِ معَ اللهِ غيرَهُ فهوَ مشركٌ شركًا أكبرَ، وذلكَ مثلُ: مَنْ يخافُ من الأصنامِ أو الأمواتِ، أوْ مَنْ يزْعُمُونَهُمْ أولياءَ ويعتقدونَ نفعَهُمْ وضَرَّهمْ، كما يفعلُهُ بعضُ عُبَّادِ القبورِ؛ يخافُ مِنْ صاحبِ القبرِ أكثرَ مِمَّا يخافُ اللهَ.
(وفي جعل
المصنف -رحمه الله- خوف السر اسماً لخوف العبادة والتذلل منازعة بل هو قسيم له، كما يعلم من (تيسير العزيز الحميد) وغيره)


الثاني:

الخوفُ الطبيعيُّ والْجِبْلِيُّ،

فهذا في الأصلِ مُبَاحٌ؛ لقوْلِهِ تعالى عنْ موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} وقوْلِهِ أيضًا: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}.
لكنْ إنْ حَمَلَ على ترْكِ واجبٍ أوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فهوَ مُحَرَّمٌ، وإن استلزَمَ شيئًا مُبَاحًا كانَ مُبَاحًا، فمثلاً مَنْ خافَ مِنْ شيءٍ لا يُؤَثِّرُ عليهِ، وحملَهُ هذا الخوفُ على تَرْكِ صلاةِ الجماعةِ معَ وُجوبِهَا، فهذا الخوفُ مُحَرَّمٌ، والواجبُ عليهِ أنْ لا يَتَأَثَّرَ بهِ.


وإنْ هدَّدَهُ إنسانٌ على فعلِ محرَّمٍ فخافَهُ،

وهوَ لا يستطيعُ أنْ يُنَفِّذَ ما هدَّدَهُ بهِ، فهذا خوفٌ مُحَرَّمٌ؛ لأنَّهُ يُؤَدِّي إلى فعلٍ مُحَرَّمٍ بلا عُذْرٍ، وإنْ رأَى نارًا ثمَّ هَرَبَ منها ونَجَا بنفسِهِ فهذا خوفٌ مُبَاحٌ، وقدْ يكونُ واجبًا إذا كانَ يتَوَصَّلُ بهِ إلى إنقاذِ نفسِهِ.


وهناكَ ما يُسَمَّى بالوَهْمِ وليسَ بخوفٍ،

مثلُ أنْ يرى ظِلَّ شجرةٍ تهتزُّ فيَظُنُّ أنَّ هذا عدَوٌّ يتهدَّدُهُ، فهذا لا ينبغي للمؤمنِ أنْ يكونَ كذلكَ، بلْ يُطَارِدُ هذهِ الأوهامَ؛ لأنَّهُ لا حقيقةَ لها، وإذا لمْ تُطَارِدْها فإنَّها تُهْلِكُكَ.


ومناسبةُ الخوفِ للتوحيدِ:

أنَّ منْ أقسامِ الخوفِ ما يكونُ شركًا منافيًا للتوحيدِ، هيَ قوْلُهُ تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}.


{إِنَّمَا ذَلِكُمْ}

صيغةُ حَصْرٍ، والمشارُ إليهِ التخويفُ من المشركين، {ذَلِكُمْ} (ذَا) مُبْتَدَأٌ، و{الشَّيْطَانُ} يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ خبرَ المبتدأِ، وجُمْلَةُ {يُخَوِّفُ}حالٌ مِن الشيطانِ.


ويَحْتَمِلُ:

أنْ يكونَ {الشَّيْطَانُ} صفةً لـ{ذَلِكُمْ} أوْ عَطْفَ بيانٍ، و{يُخَوِّفُ} خبرَ المبتدأِ، والمعنى: ما هذا التخويفُ الذي حصلَ إلاَّ مِنْ شيطانٍ يُخَوِّفُ أولياءهُ.
و
{يُخَوِّفُ} تَنْصِبُ مفعولَيْنِ؛ الأوَّلُ محذوفٌ وتقديرُهُ: يُخَوِّفكُمْ، والمفعولُ الثاني {أوْلِيَاءَهُ} ومعنى يُخَوِّفُكُمْ؛ أيْ: يُوقِعُ الخوفَ في قلوبِكِمْ منهمْ.
قال
ابن القيم: (جميع المفسرين على أن معنى {يخوف أولياءه}أي: يخوفكم أولياءه).
و
{أَوْلِيَاءَهُ} أيْ: أنصارَهُ الذينَ ينصرونَ الفحشاءَ والمنكرَ؛ لأنَّ الشيطانَ يأْمُرُ بذلكَ.
فكلُّ مَنْ نصرَ الفحشاءَ والمنكرَ فهوَ مِنْ أولياءِ الشيطان، ثُمَّ قَدْ يكونُ النصرُ في الشركِ وما يُنَافِي التوحيدَ فيكونُ عظيمًا، وقدْ يكونُ دونَ ذلكَ.
قال
ابن القيم في (إغاثة اللهفان) (1/118): (ومن كيد عدو الله تعالى أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله تعالى عنه بهذا فقال:{إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}) .
وقولُهُ:
{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} مِنْ ذلكَ ما وَقَعَ في الآيَةِ التي قبْلَها حيثُ قالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وذلكَ لِيَصُدُّوهُم عنْ واجبٍ منْ واجباتِ الدينِ وهوَ الجهادُ، فيُخَوِّفُونَهُمْ بذلكَ.


وكذلكَ:

ما يحْصُلُ في نفسِ مَنْ أَرادَ أنْ يَأْمُرَ بالمعروفِ أوْ يَنْهَى عن المنكرِ،

فَيُخَوِّفُهُ الشيطانُ لِيَصُدَّهُ عنْ هذا العملِ. وكذلكَ ما يقعُ في قَلْبِ الداعيَةِ.


والحاصلُ:

أنَّ الشيطانَ يُخَوِّفُ كلَّ مَنْ أرَادَ أنْ يقومَ بواجبٍ، فإذا ألقى الشيطانُ في نفسِكَ الخوفَ فالواجبُ عليكَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ الإقدامَ على كلمةِ الحقِّ ليسَ هوَ الذي يُدْنِي الأجَلَ، وليسَ السكوتُ والجُبنُ هوَ الذي يُبعدُ الأجلَ، فكمْ منْ داعيَةٍ صَدَعَ بالحقِّ وماتَ على فراشِهِ، وكمْ منْ جبانٍ قُتِلَ في بيْتِهِ، وانْظُرْ إلى خالدِ بنِ الوليدِ؛ كانَ شجاعًا مِقْدَامًا وماتَ على فراشِهِ.


وما دامَ الإنسانُ قائمًا بأمرِ اللهِ؛

فَلْيَثِقْ بأنَّ اللهَ معَ الذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، وحزبُ اللهِ هم الغالبونَ.
قوْلُهُ:
{فَلاَ تَخَافُوهُمْ} لا: ناهيَةٌ، والهاءُ ضميرٌ يعودُ على أولياءِ الشيطانِ، وهذا النهيُ للتحريمِ بلا شكٍّ؛ أيْ: بل امضُوا فيما أمَرْتُكُمْ بِهِ، وفيما أَوْجَبْتُهُ عليكُمْ من الجهادِ، ولا تخافوا هؤلاءِ.


وإذا كانَ اللهُ معَ الإنسانِ فإنَّهُ لا يَغْلِبُهُ أحدٌ،

لكنْ نحتاجُ في الحقيقةِ إلى صِدْقِ النيَّةِ والإخلاصِ والتوكُّلِ التامِّ؛ ولهذا قالَ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وعُلِمَ مِنْ هذهِ الآيَةِ أنَّ للشيطانِ وَسَاوِسَ يُلْقِيها في قلبِ ابنِ
آدمَ، منها التخويفُ منْ أعدائِهِ، وهذا ما وقعَ فيهِ كثيرٌ من الناسِ وهوَ الخوفُ منْ أعداءِ اللهِ، فكانوا فريسةً لهمْ، وإلاَّ لو اتَّكَلُوا على اللهِ وخافُوهُ قبلَ كلِّ شيءٍ لخَافَهُم الناسُ؛ ولهذا قيلَ في المَثَلِ: (مَنْ خَافَ اللهَ خافَهُ كلُّ شيءٍ، ومَن اتَّقَى اللهَ اتَّقَاهُ كُلُّ شيءٍ، ومَنْ خافَ مِنْ غيرِ اللهِ خافَ مِنْ كلِّ شيءٍ).


ويُفْهَمُ من الآيَةِ أنَّ الخوفَ من الشيطانِ وأوليائِهِ مُنَافٍ للإيمانِ، فإنْ كانَ الخوفُ يُؤَدِّي إلى الشركِ فهوَ منافٍ لأصلِهِ، وإلاَّ فهوَ مُنَافٍ لكمالِهِ.

(2)

قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ}، {إِنَّمَا} أداةُ حصرٍ، والمرادُ بالعِمَارةِ العِمَارةُ المعنوِيَّةُ، وهيَ عِمَارَتُها بالصلاةِ والذِّكرِ وقراءةِ القرآنِ ونحْوِها، وكذلكَ الحسِّيَّةُ بالبناءِ الحِسِّيِّ، فإنَّ عِمَارَتَهَا بهِ حقيقةٌ لا تكونُ إلاَّ مِمَّنْ ذكَرَهُم اللهُ؛ لأنَّ مَنْ يعْمُرُها وَهُوَ لمْ يُؤْمِنْ باللهِ واليومِ الآخِرِ لمْ يعْمُرْهَا حقيقةً؛ لعدمِ انتفاعِهِ بهذهِ العمارةِ.
فالعمارةُ النافعةُ الحسِّيَّةُ والمعنويَّةُ من الذينَ آمَنُوا باللهِ واليومِ الآخرِ، ولهذا لمَّا افتخرَ المشركونَ بعِمَارةِ المسجدِ الحرامِ قالَ تعالى:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وأضافَ سبحانَهُ المساجدَ إلى نفسِهِ تشريفًا؛ لأنَّها مَوْضِعُ عبادتِهِ.
قولُهُ:
{مَنْ آمَنْ بِاللهِ}، {مَنْ} فاعلُ {يعْمُرُ} والإيمانُ باللهِ يتضَمَّنُ أربعةَ أُمورٍ، وهيَ:

- الإيمانُ بِوُجُودِهِ.

- ورُبُوبِيَّتِهِ.
- وأُلُوهيَّتِهِ.
- وأسمائِهِ وصفاتِهِ.

واليومُ الآخِرُ: هوَ يومُ القيامةِ، وسُمِّيَ بذلكَ؛ لأنَّهُ لا يومَ بعْدَهُ.
قولُهُ:
{وَأَقَامَ الصَّلاَةَ} أيْ: أَتَى بها على وجهٍ قَوِيمٍ لا نَقْصَ فيهِ، والإقامةُ نوعانِ:

الأول: إقامةٌ واجبةٌ وهيَ: التي يقْتَصِرُ فيها على فِعْلِ الواجبِ من الشروطِ والأركانِ والواجباتِ.

الثاني: وإقامةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وهيَ: التي يَزِيدُ فيها على فِعْلِ ما يجبُ، فيأتي بالواجبِ والمُسْتَحَبِّ.
قولُهُ:
{وَآتَى الزَّكَاةَ}، {آتَى} تَنْصِبُ مفعوليْنِ؛ الأوَّلُ هنا {الزَّكَاةُ}، والثاني: محذوفٌ تقديرُهُ: مُسْتَحِقَّها.
والزكاةُ هيَ: المالُ الذي أَوْجَبَهُ الشارعُ في الأموالِ الزَّكَوِيَّةِ. وتختلفُ مقاديرُها حَسَبَ ما تقْتَضِيهِ حكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ.
قولُهُ:
{وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} في هذهِ الآيَةِ حَصْرٌ طريقُهُ الإثباتُ والنفيُ؛ {لَمْ يَخْشَ} نفيٌ، {إلاَّ اللهَ} إثباتٌ، والمعنى: أنَّ خَشْيَتَهُ انحصرَتْ في اللهِ عزَّ وجلَّ، فلا يَخْشَى غيرَهُ.


والشاهدُ من الآيَةِ هو:

قولُهُ: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ}ولهذا قالَ تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}.


ومِنْ علاماتِ صِدْقِ الإيمانِ:

أنْ لا يخشى إلاَّ اللهَ في كلِّ ما يقولُ ويفعلُ.


ومَنْ أرادَ أنْ يُصَحِّحَ هذا المسيرَ فليتَأَمَّلْ قولَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:

((وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)).


(3)

قولُهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ} جارٌّ ومجرورٌ خبرٌ مُقَدَّمٌ، و{مِنْ}تَبْعِيضِيَّةٌ.
وقولُهُ:
{مَنْ يقُولُ}، {مَنْ} مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ.
والمرادُ بهؤلاءِ: مَنْ لا يَصِلُ الإيمانُ إلى قرارةِ قلبِهِ فيقولُ: آمنَّا باللهِ، لكنَّهُ إيمانٌ مُتَطرِّفٌ، كقولِهِ تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} على حَرْفٍ: أيْ: على طَرَفٍ، فإذا امتحنَهُ اللهُ بما يُقَدِّرُ عليهِ منْ إيذاءِ الأعداءِ في اللهِ جعلَ فتنةَ الناسِ كعذابِ اللهِ.
قولُهُ:
{فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ}، {في} للسببيَّةِ؛ أيْ: بسببِ الإيمانِ باللهِ وإقامةِ دينِه،
ويجُوزُ أنْ تكونَ
{في} للظرفيَّةِ على تقديرِ: فإذا أُوذِيَ في شَرْعِ اللهِ؛ أيْ: إيذاءً في هذا الشرعِ الذي تمَسَّكَ بِهِ.
قولُهُ:
{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} جعلَ: صَيَّرَ، والمرادُ بالفتنةِ هنا الإيذاءُ. وسُمِّيَ فتنةً؛ لأنَّ الإنسانَ يَفْتَتِنُ بهِ فَيَصُدُّ عنْ سبيلِ اللهِ، كما قَالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} وإضافةُ الفتنةِ إلى الناسِ مِنْ بابِ إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِهِ.
قولُهُ:
{كَعَذَابِ اللهِ} ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ يَفِرُّ منْ عذابِ اللهِ فَيُوَافِقُ أمْرَهُ، فهذا يجعلُ فتنةَ الناسِ كعذابِ اللهِ فَيَفِرُّ منْ إيذائِهم بموافقةِ أهوائِهمْ وأَمْرِهم، جعلاً لهذهِ الفتنةِ كالعذابِ، فحينئذٍ يكونُ قدْ خافَ مِنْ هؤلاءِ كخَوْفِهِ مِن اللهِ؛ لأنَّهُ جَعَلَ إيذاءهُم كعذابِ اللهِ، فَفَرَّ منهُ بموافقةِ أمْرِهم، فالآيَةُ مُوَافِقَةٌ للترجمةِ.
وفي هذهِ الآيَةِ مِن الحكمةِ العظيمةِ، وهيَ ابتلاءُ اللهِ للعبدِ لأجْلِ أنْ يُمَحِّصَ إيمانَهُ،
وذلكَ على قسمَيْنِ:


الأوَّلُ: ما يُقَدِّرُهُ اللهُ نفسُهُ على العبدِ، كقوْلِهِ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ}.
- وقولِهِ تعالى:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (125) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
الثاني:
ما يُقَدِّرُهُ اللهُ على أيْدِي الخلقِ من الإيذاءِ امتحانًا واختبارًا، وذلكَ كالآيَةِ التي ذَكَرَ المُؤَلِّفُ.
وبعضُ الناسِ إذا أصابَتْهُ مصائبُ لا يَصْبِرُ، فيكْفُرُ ويَرْتَدُّ أحيانًا والعياذُ باللهِ، وأحيانًا يكْفُرُ بما خالفَ فيهِ أَمْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ في موقفِهِ في تلكَ المصيبةِ. وكثيرٌ من الناسِ يَنْقُصُ إيمانُهُ بسببِ المصائبِ نقصًا عظيمًا.
فلْيَكُن المسلمُ على حَذَرٍ، فاللهُ حكيمٌ يمْتَحِنُ عبادَهُ بما يتبَيَّنُ بهِ تحقُّقُ الإيمانِ، قالَ تعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
قولُهُ:
((الآيَةَ)) أيْ: إلى آخرِ الآيَةِ، وهيَ قولُهُ تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} كانوا يدَّعُونَ أنَّ ما يحصُلُ لهمْ مِن الإيذاءِ بسببِ الإيمانِ، فإذا انتصرَ المسلمونَ قالُوا: نحنُ معكُمْ، نُرِيدُ أنْ يُصِيبَنا مِثْلَمَا أصابَكُمْ مِنْ غنيمةٍ وغيرِها.


وفي الآيَةِ تحذيرٌ مِنْ أنْ يقولَ الإنسانُ خلافَ ما في قلبِهِ،

ولهذا لمَّا تخلَّفَ كعبُ بنُ مالكٍ في غزْوَةِ تبوكَ قالَ للرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حينَ رَجِعَ: (إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَدَلاً، ولَوْ جَلَسْتُ إِلَى غَيْرِكَ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا لَخَرَجْتُ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ، لَكِنْ لاَ أَقُولُ شَيْئًا تَعْذِرُنِي فِيهِ فَيَفْضَحُنِي اللهُ فِيه).


والشاهدُ مِن الآيَةِ

قولُهُ: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} فخافَ الناسَ مثلَ خوفِ اللهِ تعالى.


(4)

قولُهُ: ((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ))((مِنْ)): للتَّبْعِيضِ، والضَّعْفُ ضدُّ القُوَّةِ، ويُقَالُ: ضَعْفٌ أوْ ضُعْفٌ، وكِلاهُما بمعنًى واحدٍ؛ أيْ: منْ علامةِ ضَعْفِ اليقينِ.
قولُهُ:
((أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ))((أَنْ تُرْضِيَ)) اسمُ ((إنَّ)) مُؤَخَّرٌ، و((مِنْ ضَعْفِ اليَقينِ)) خبرُها مقدَّمٌ، والتقديرُ: إنَّ إرْضَاءَ الناسِ بسَخَطِ اللهِ منْ ضَعْفِ اليقينِ.
قولُهُ:
((بِسَخَطِ اللهِ)) الباءُ للعِوَضِ، يعني أنْ تجْعَلَ عِوَضَ إرضاءِ الناسِ سَخَطَ اللهِ، فتسْتَبْدِلَ هذا بهذا، فهذا منْ ضَعْفِ اليقينِ، واليقينُ أعلى درجاتِ الإيمانِ.
قال
شيخ الإسلام: (اليقين هو التمسك بأمر الله، والعمل على إيقاع أمر الله وفق ما أمر الله به) .
قولُهُ:
((وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ))، الحَمْدُ وصفُ المحمودِ بالكمالِ معَ المحبَّةِ والتعظيمِ، ولكنَّهُ هنا ليسَ بشرطِ المحبَّةِ والتعظيمِ؛ لأنَّهُ يشمَلُ المدحَ.
و
((رِزْقِ اللهِ))عطاءِ اللهِ، أيْ: إذا أعْطَوْكَ شيئًا حَمِدْتَهُمْ ونَسِيتَ المُسبِّبَ وهوَ اللهُ.
والمعنى أنْ تجعلَ الحمدَ كلَّهُ لهمْ متناسِيًا بذلكَ المُسَبِّبَ وهوَ اللهُ، فالَّذِي أعْطَاكَ سببٌ فقطْ، والمُعْطِي هوَ اللهُ؛ ولهذا قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، اللهُ يُعْطِي)).
أمَّا إنْ كانَ في قَلْبِكَ أنَّ اللهَ هوَ الذي مَنَّ عليكَ بسياقِ هذا الرزقِ، ثمَّ شَكَرْتَ الذي أعطاكَ، فليسَ هذا داخلاً في الحديثِ، بلْ هوَ مِن الشَّرعِ؛ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فإنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)).
إِذَن الحديثُ ليسَ على ظاهرِهِ مِنْ كلِّ وجهٍ، فالمرادُ بالحمدِ أنْ تحْمَدَهُم الحمدَ المطلقَ ناسيًا المُسَبِّبَ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، وهذا مِنْ ضَعْفِ اليقينِ، كأنَّكَ نسيتَ المُنْعِمَ الأصليَّ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ الذي لهُ النعمةُ الأُولَى، وهوَ سَفَهٌ أيضًا؛ لأنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّ الذي أعطاكَ هوَ اللهُ، فالبَشَرُ الذي أعْطَاكَ هذا الرزقَ لم يَخْلُقْ ما أعْطَاكَ، فاللهُ هوَ الذي خَلَقَ ما بيدِهِ، وهوَ الذي عطفَ قلبَهُ حتَّى أعطاكَ.
أرَأَيْتَ لوْ أنَّ إنسانًا لهُ طِفْلٌ فأعطَى طِفْلَهُ ألفَ دِرْهَمٍ وقالَ لهُ: أَعْطِهَا فلانًا، فالَّذِي أخذَ الدراهمَ يحمَدُ الأبَ؛ لأنَّهُ لوْ حَمِدَ الطفلَ فقطْ لعُدَّ هذا سَفَهًا؛ لأنَّ الطفلَ ليسَ إلاَّ مُرسَلاً فقطْ.
وعلى هذا فنقولُ: إنَّكَ إذا حَمِدْتَهُمْ ناسيًا بذلكَ ما يجبُ للهِ من الحمدِ والثناءِ فهذا هوَ الذي مِنْ ضَعْفِ اليقينِ.


أمَّا إذا حَمِدْتَهُمْ على أنَّهم سببٌ مِن الأسبابِ،

وأنَّ الحمدَ كلَّهُ للهِ عزَّ وجلَّ فهذا حقٌّ، وليسَ منْ ضَعْفِ اليقينِ.
قولُهُ:
((وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ)) هذهِ عكسُ الأولى، فمثلاً: لوْ أنَّ إنسانًا جاءَ إلى شخصٍ يُوَزِّعُ دراهمَ فلمْ يُعْطِهِ فَسَبَّهُ وشتمَهُ، فهذا مِن الخطأِ؛ لأنَّ ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لمْ يَشَأْ لمْ يكُنْ.
لكنْ منْ قصَّرَ بواجبٍ عليهِ فيُذَمُّ؛ لأجْلِ أنَّهُ قصَّرَ بالواجبِ، لا لأجْلِ أنَّهُ لمْ يُعْطِ، فلا يُذَمُّ مِنْ حيثُ القَدَرُ؛ لأنَّ اللهَ لوْ قدَّرَ ذلكَ لوُجِدَت الأسبابُ التي يَصِلُ بها إليكَ هذا العطاءُ.
وقولُهُ:
((مَا لَمْ يُؤْتِكَ)) علامةُ جَزْمِهِ حذفُ الياءِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ؛ لأنَّهُ فَضْلَةٌ، والتقديرُ: ما لمْ يُؤْتِكَهُ.
قولُهُ:
((إِنَّ رِزْقَ اللهِ لاَ يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلاَ يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ)) هذا تعليلٌ لقولِهِ: ((أَنْ تَحْمَدَهُمْ... وَأَنْ تَذُمَّهُمْ)) ورِزْقُ اللهِ عطاؤُهُ، وحِرْصَ الحريصِ مِنْ سببِهِ بلا شكٍّ، فإذا بحثَ عَن الرزقِ وفَعَلَ الأسبابَ فإنَّهُ يكونُ فَعَلَ الأسبابَ المُوجِبَةَ للرزقِ. لكنْ ليسَ المعنى أنَّ هذا السببَ مُوجِبٌ مُسْتَقِلٌّ، وإنَّما الذي يَرْزُقُ هوَ اللهُ تعالى، وكَمْ مِنْ إنسانٍ يفعلُ أسبابًا كثيرةً للرزقِ ولا يُرزَقُ، وكمْ مِنْ إنسانٍ يفعلُ أسبابًا قليلةً فيُرزَقُ، وكمْ مِنْ إنسانٍ يأتيهِ الرزقُ بدُونِ سعيٍ، كما لوْ وَجَدَ رِكَازًا في الأرضِ، أوْ مَاتَ لهُ قريبٌ غَنِيٌّ يرِثُهُ، أوْ ما أشْبهَ ذلكَ.
وقولُهُ:
((لاَ يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ)) أيْ: أنَّ رزْقَ اللهِ إذا قُدِّرَ للعبدِ فَلَنْ يمْنَعَهُ عنْهُ كراهيَةُ كارِهٍ، فَكَمْ مِنْ إنسانٍ حَسَدَهُ الناسُ، وحاوَلُوا منْعَ رزقِ اللهِ، فلمْ يستطيعوا إلى ذلكَ سبيلاً.


(5)

قولُهُ في حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ)) التمسَ: طلبَ، ومنهُ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في ليلةِ القدرِ: ((الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ)).
وقولُهُ:
((رِضَا اللهِ)) أيْ: أسبابَ رِضَاهُ.
وقولُهُ:
((بِسَخَطِ اللهِ)) الباءُ للعِوَضِ؛ أيْ: أنَّهُ طلبَ ما يُرْضِي اللهَ ولوْ سَخِطَ الناسُ بِهِ بدلاً مِنْ هذا الرِّضَا، وجوابُ الشرطِ: ((رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ)).
وقولُهُ:
((رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ)) هذا ظاهرٌ، فإذا التمسَ العبدُ رِضَا ربِّهِ بنيَّةٍ صادقةٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُ؛ لأنَّهُ أكرمُ مِنْ عبدِهِ، وأرْضَى عنْهُ الناسَ، وذلكَ بما يُلْقِي في قلوبِهِم مِن الرِّضا عنهُ ومحبَّتِهِ؛ لأنَّ القلوبَ بينَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصابِعِ الرحمنِ يُقَلِّبُها كيفَ يشاءُ.
قولُهُ:
((وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ)) التمسَ: طلبَ؛ أيْ: طَلَبَ ما يُرضِي الناسَ ولوْ كانَ يُسْخِطُ اللهَ.
فنتيجةُ ذلكَ أنْ يُعَامَلَ بنقيضِ قَصْدِهِ؛ ولهذا قالَ:
((سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، وأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ)) فأَلْقَى في قلوبِهِم سَخَطَهُ وكرَاهِيَتَهُ.


ومناسبةُ الحديثِ للترجمةِ:

في قولُهُ: (وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ) أيْ: خوفًا مِنْهُمْ حتَّى يَرْضَوْا عنْهُ، فقَدَّمَ خوْفَهُم على مخافةِ اللهِ.


(6)

فيهِ مَسائِلُ:

الأُولَى:

(تَفْسيرُ آيَةِ آلِ عِمْرانَ)

وهيَ قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.


(7)

الثانيَةُ: (تفسيرُ آيَةِ بَرَاءة)

وهيَ قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَـئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. وسبقَ.


(8)

الثالثةُ: (تَفْسيرُ آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ)

وهيَ قولُهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ}وقدْ تكلَّمْنَا على تفسيرِهَا فيما سبقَ.


الرابعةُ:

(أنَّ اليقينَ يَضْعُفُ ويَقْوَى)

تُؤْخَذُ مِن الحديثِ ((إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ...)) الحديثَ.


(10)

الخامسةُ: (عَلامةُ ضَعْفِهِ، وَمِنْ ذلِكَ هَذهِ الثَّلاثُ)

وهيَ أنْ تُرْضِيَ الناسَ بسَخَطِ اللهِ، وأنْ تحْمَدَهُمْ على رزقِ اللهِ، وأنْ تذُمَّهُمْ على ما لمْ يُؤْتِكَ اللهُ.


(11)

السادسةُ: (أنَّ إخلاصَ الخوْفِ للهِ مِن الفرائضِ)

تُؤخَذُ منْ قولِهِ في الحديثِ: ((مَنِ الْتَمَسَ...)) الحديث، ووَجْهُهُ ترتيبُ العقوبةِ على مَنْ قدَّمَ رضا الناسِ على رضا اللهِ تعالى.


(12)

السابعةُ: ((ذِكْرُ ثوابِ مَنْ فَعَلَهُ))

وهوَ رضا اللهِ عنهُ، وأنَّهُ يُرْضِي عنهُ الناسَ، وهوَ العاقبةُ الحميدةُ.


(13)

الثامنةُ: ((ذِكْرُ عِقابِ مَنْ تَرَكَهُ))

وهوَ أنْ يَسْخَطَ اللهُ عليهِ، ويُسْخِطَ عليهِ الناسَ، ولا ينالُ مقْصُودَهُ.


وخُلاصةُ البابِ:

أنَّهُ يجبُ على المرءِ أنْ يجعلَ الخوفَ من اللهِ فوقَ كلِّ خوفٍ،

وأنْ لا يُبَاليَ بأحدٍ في شريعةِ اللهِ تعالى، وأنْ يعلمَ أنَّ مَن التمسَ رضا اللهِ تعالى وإنْ سَخِطَ الناسُ عليهِ، فالعاقبةُ لَهُ.
وإن التمسَ رضا الناسِ وتعلَّقَ بهمْ وأسخطَ اللهَ انقَلَبَتْ عليهِ الأحوالُ، ولم يَنَلْ مقصودَهُ، بلْ حصلَ لَهُ عكسُ مقصودِهِ، وهوَ أنْ يَسْخَطَ اللهُ عليهِ ويُسْخِطَ عليهِ الناسَ.
قال
ابن رجب في (نور الإقتباس) (ص: 89): (فمن تحقق أن كل مخلوق من تراب فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! إن هذا لشيء عجاب).

هيئة الإشراف

#7

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين} هذا الباب في بيان عبادة الخوف.

ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي: أنّ خوف العبد من الله جل وعلا،

عبادة من العبادات التي أوجبها الله جل وعلا، فالخوف، والمحبة، والرجاء، عبادات قلبية واجبة، وتكميلها تكميل للتوحيد، والنقص فيها نقص في كمال التوحيد.


والخوف من غير الله -جل وعلا- ينقسم إلى:
- ما هو شرك.

- وإلى ما هو محرم.

- وإلى ما هو مباح.


فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الخوف الشركي، وهو خوف السر، يعني: أن يخاف في داخله من هذا المخوف منه، وخوفه لأجل ما عند هذا المخوف منه مما يرجوه أو يخافه، من أن يمسه سرّاً بشيء، أو أنه يملك له في آخرته ضرّاً أو نفعاً؛ فالخوف الشركي متعلق في الدنيا بخوف السر بأن يخاف أن يصيبه ذلك الإله بشر، وذلك شرك، وربما يأتي تفصيله.

والخوف المتعلق بالآخرة،

خاف غير الله، وتعلق خوفه بغير الله؛ لأجل ذلك؛ لأجل أنه يخاف ألا ينفعه ذلك الإله في الآخرة؛ فلأجل رغبه في أن ينفعه ذلك الإله في الآخرة، وأن يشفع له، وأن يقربه منه في الآخرة، وأن يبعد عنه العذاب في الآخرة، خاف منه؛ فأنزل خوفه به، فالخوف من العبادات العظيمة التي يجب أن يُفرد الله -جل وعلا- بها، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.


والخوف المحرم وهو القسم الثاني:

أن يخاف من مخلوق في امتثال واجب،

أو البعد عن المحرم؛ مما أوجبه الله، أو حرَّمه.

- يخاف من مخلوق في أداء فرض من فرائض الله.

- يخاف من مخلوق في أداء واجب

من الواجبات.

- لا يصلي؛ خوفاً من مخلوق.

- لا يحضر الجماعة، خوفاً من ذم المخلوق له، أو استنقاصه له؛ فهذا محرم.

قال بعض العلماء: (وهو نوع من أنواع الشرك، يترك الأمر والنهي الواجب بشرطه؛ خوفاً من ذم الناس، أو من ترك مدحهم له، أو من وصفهم له بأشياء، فهذا الخوف رجع على الخائف بترك أمر الله، وهذا محرَّم، لأن الوسيلة إلى المحرم محرمة).


النوع الثالث:

الخوف الطبيعي المأذون به،

وهذا أمر طبيعي؛ كخوفٍ من عدو، أو خوفٍ من سَبُع، أو خوف من نار، أو خوف من مؤذ ومهلك، ونحو ذلك.


قال: (باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوِّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}) وجه الاستدلال من هذه الآية: أنه قال: {فلا تخافوهم} وهذا نهي، والنهي للتحريم، ونهى عن إنزال عبادة الخوف بغيره، فهذا يدل على أنه نهيٌ عن أحد أفراد الشرك، قال: {وخافون إن كنتم مؤمنين}.

وأَمرَ بالخوف، فدلَّ على أنَّ الخوف عبادة من العبادات،

وتوحيد الله بهذه العبادة، توحيدٌ، وإشراك غير الله معه في هذه العبادة شرك، ولهذا قال: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}.

والخوف من الخلق، -كما ذكرنا- في ترك فريضة الجهاد، إنما يكون من جراء الشيطان، فالشيطان هو الذي يخوف المؤمنين من أوليائه، ويخوف أهل التوحيد، وأهل الإيمان من أعداء الله جل وعلا؛ لكي يتركوا الفريضة، فلهذا صار ذلك الخوف محرماً، يعني: الخوف من الأعداء الذي يترتب عليه تركُ فريضةٍ من فرائض الله من الجهاد وغيره، والواجب أن لا يخاف العبد إلا ربه جل وعلا، وأن يُنزل خوفه به، وأن لا يخاف أولياء الشيطان.

- وقوله -جل وعلا- هنا: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} معناها؛ على الصحيح من التفسير، أو على الراجح، يخوفكم أولياءه، يعني: يخوف أهل الإيمان أولياء الشيطان، ففاعل {يخوف} محذوف دل عليه السياق، يخوف الناس: الفاعل هو الشيطان، يخوف الشيطانُ الناس أولياءه، أولياء الشيطان، يعني: يجعل الشيطان أهل التوحيد في خوف من أعدائهم، لهذا قال السلف في تفسيرها {يخوف أولياءه} يعني: يخوفكم أولياءه، وهذا ظاهر من الآيات قبلها؛ كقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.


قال الشيخ رحمه الله: (وقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}) وجه الدلالة من الآية: قوله: {ولم يخش إلا الله} وهذا نفي واستثناء، ومر معنا أن مجيء أداة الاستثناء بعد النفي يدل على الحصر والقصر، فإذاً: الآية دالة بظهور على أنَّ الخشية يجب أنْ تكون في الله، وأنَّ الله أثنى على أولئك لأنهم جعلوا خشيتهم لله وحده دون ما سواه، والخشية أخصّ من الخوف.

قال: (وقوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله}) {جعل فتنة الناس كعذاب الله} بأن خاف منها وترك ما أوجب الله عليه، أو أقدم على ما حرّم الله عليه خشيةً من كلام الناس.

قال: (عن أبي سعيد -رضي الله- عنه مرفوعاً: ((إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره)) ).
وجه الاستدلال من هذا الحديث

قوله: ((إنَّ من ضعف اليقين، أن ترضي الناس بسخط الله)) (من ضعف اليقين) يعني من أسباب ضعف الإيمان.

والذي يُضعف الإيمان المحرمات؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فدل على أن إرضاء الناس بسخط الله، معصية، وذم، ومحرم؛ لأن هذا الذي أرضى الناس بسخط الله خافهم، أو رجاهم، وهذا مناسبة إيراد الحديث في الباب.

قال: (وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس))رواه ابن حبان في صحيحه).

هذا جزاء الذي أفرد الله بعبادةِ الخوف، وجزاء الذي لم يُكمل التوحيد في عبادة الخوف، فالذي التمس رضا الله بسخط الناس هذا عظَّم الله وخافه، ولم يجعل فتنة الناس كعذاب الله، بل جعل عذاب الله -جل وعلا- أعظم؛ فخاف الله وخشيه، وطمع فيما عنده؛ فلم يلتفت إلى الناس، ولم يرفع بهم رأساً.

قال: ((ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) لأنه ارتكب ذنباً أن خاف الناس، وجعل خوفه من الناس سبباً لعمل المحرم، أو تَرْك فريضة من فرائض الله، لهذا قال: ((من التمس رضا الناس بسخط الله))فكان جزاؤه أن ((سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)).

هيئة الإشراف

#8

18 Jun 2009

العناصر

مناسبة باب قول الله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...) لكتاب التوحيد
مناسبة باب قول الله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...) لما قبله
بيان أهمية باب قول الله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)
معنى قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...) الآية
- بيان منزلة الخوف من الله من أعظم المنازل
- أقسام الخوف
- بيان أقسام الخوف من غير الله تعالى وأحكامها
- هل الأفضل أن يغلب المسلم جانب الخوف أو جانب الرجاء؟
تفسير قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله...) الآية
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا) الآية
- مناسبة قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله...) الآية، للباب
- معنى قوله: (ولئن جاء نصر من ربك...) الآية
- بعض الفوائد من قوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله...) الآية
شرح حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إن من ضعف اليقين...)
- تخريج حديث (إن من ضعف اليقين...)، وبيان درجته، وذكر تمامه
- معنى قوله: (إن من ضعف اليقين)، وذكر نصوص في اليقين
- كلام لشيخ الإسلام في الأمور التي يتضمنها اليقين
- معنى قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله)
- معنى قوله: (وأن تحمدهم على رزق الله)
- معنى قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله)
- معنى قوله: (إن رزق الله لا يجره حرص حريص...) الحديث
شرح حديث عائشة رضي الله عنها: (من التمس رضا الله...)
- تخريج حديث عائشة (من التمس رضا الله...)
- مناسبة حديث عائشة (من التمس...) لباب قول الله (إنما ذلكم الشيطان..) الآية
شرح مسائل باب قول الله (إنما ذلكم الشيطان...)