26 Oct 2008
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ الْغُلُوَّ فِي قُبُورِ الصَّالِحِينَ يُصَيِّرُهَا أَوْثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ
رَوَى مَالِكٌ فِي (الْمُوطَّأِ): أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)). فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: تَفْسِيرُ الأَوْثَانِ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ الْعِبَادَةِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَعِذْ إِلاَّ مِمَّا يَخَافُ وُقُوعَهُ. الرَّابِعَةُ: قَرْنُهُ بِهَذَا اتِّخَاذَ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ. الْخَامِسَةُ: ذِكْرُ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنَ اللهِ. السَّادِسَةُ: وَهِيَ مِنْ أَهَمِّهَا: مَعْرِفَةُ صِفَةِ عِبَادَةِ اللاَّتِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الأَوْثَانِ. السَّابِعَةُ: مَعْرِفَةُ أَنَّهُ قَبْرُ رَجُلٍ صَالِحٍ. الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ اسْمُ صَاحِبِ الْقَبْرِ وَذِكْرُ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ. التَّاسِعَةُ: لَعْنُهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. الْعَاشِرَةُ: لَعْنُهُ مَنْ أَسْرَجَهَا.
وَلاِبْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى}[النَّجْمُ:19] قَالَ: (كَانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ فَمَاتَ، فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ ).
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ ).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: ((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ)) رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
أَرَادَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بهذه التَّرْجَمَةِ أُمُورًا: الأَوَّلُ: التَّحْذِيرُ مِن الغُلُوِّ في قُبُورِ الصَّالِحِينَ. الثَّانِي: أَنَّ الغُلُوَّ فيها يَؤُولُ إلى عِبَادتِهَا. الثَّالِثُ: أنَّهَا إِذَا عُبِدَتْ سُمِّيَتْ أَوْثَانًا، وَلَو كَانَتْ قُبُورَ الصَّالِحِينَ. الرَّابِعُ: التَّنْبِيهُ عَلَى العِلَّةِ في المَنْعِ مِن البِنَاءِ عَلَيْهَا واتِّخَاذِهَا
مَسَاجِدَ، والأَوْثَانُ هيَ المَعْبُودَاتُ الَّتِي لاَ صُورَةَ لَهَا،
كالقُبُورِ والأَشْجَارِ والعُمُدِ والحِيطَانِ والأَحْجَارِ، ونحوِهَا،
وَقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ ذَلِكَ. وقيلَ: الوَثَنُ هوَ الصَّنَمُ، والصَّنَمُ
هوَ الوَثَنُ، وهذا غيرُ صَحِيحٍ إِلاَّ مَعَ التَّجْرِيدِ، فَأَحَدُهُمَا
قَدْ يُعْنَى بهِ الآخرُ، وأمَّا مَعَ الاقْتِرَانِ، فيُفَسَّرُ كلُّ
واحدٍ بمَعْناهُ. (2) هَذَا الحَدِيثُ رواهُ مالكٌ في (بابِ جامعِ الصَّلاَةِ) مُرْسلاً، عنْ زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَهُ. فالحديثُ صَحِيحٌ عندَ مَنْ يَحْتَجُّ بمَرَاسِيلِ الثِّقَاتِ، وعندَ مَنْ قالَ بالمُسْنَدِ لإسنادِ عُمَرَ بنِ مُحَمَّدٍ لهُ بلَفْظِ (المُوَطَّأِ) سواءً، وهوَ مِمَّن تُقْبَلُ زيادتُهُ، ولهُ شَاهِدٌ عندَ الإِمَامِ أَحْمَدَ والعُقَيْلِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيانَ، عنْ حَمْزَةَ بنِ المُغِيرَةِ، عنْ سُهَيْلِ بنِ أَبِي صَالِحٍ، عَن أَبِيهِ، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: ((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)). فَأَجَابَ رَبُّ العَالَمِينَ دُعَاءهُ وأَحـَاطـَهُ بـِثـَلاَثــَةٍ الجُدْرَانِ
وإِذَا أُرِيدَ تَغْييرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنِفَ عُبَّادُهَا، واشْمَأَزَّتْ قُلُوبُهُم، واسْتَكْبَرَتْ نُفُوسُهُم، وقَالُوا: (تَنَقَّصَ أَهْلَ الرُّتبِ العَالِيَةِ) ورَمَوْهُم بالعَظَائِمِ، فماذا يَقُولُونَ لوْ قِيلَ لَهُم: إنَّهَا أَوْثَانٌ تُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ؟! ويُؤْخَذُ مِن الحَدِيثِ: المَنْعُ مِنْ تَتَبُّعِ آثَارِ الأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ كقُبُورِهِم ومَجَالِسِهِم،
ومَوَاضِعِ صَلاَتِهِم للصَّلاَةِ، والدُّعَاءِ عندَهَا، فإنَّ ذلكَ مِن
البِدَعِ، أَنْكَرَهُ السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وغيرِهِم،
ولاَ نَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَهُ أوْ فَعَلَهُ إلاَّ ابنَ عُمَرَ
عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ عندَ عُبَّادِ القُبُورِ، وهوَ إِرَادَةُ
التَّشَبُّهِ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
الصَّلاَةِ فيمَا صَلَّى فيهِ، ونحوُ ذلكَ، ومَعَ ذَلِكَ فَلاَ نَعْلَمُ
أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ مِن الصَّحَابَةِ، بلْ خَالفَهُ أَبُوهُ
وغيرُهُ، لِئَلاَّ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا كَمَا
وَقَعَ. وفيهِ: تَحْرِيمُ البِنَاءِ عَلَى القُبُورِ، وتَحْرِيمُ الصَّلاَةِ عندَهَا، وقدْ رَوَى أَصْحَابُ مَالِكٍ
عنه أنَّهُ كَرِهَ أن يَقُولَ القَائِلُ: زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعَلَّلَ وجْهَ الكَرَاهَةِ بقولِهِ: ((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيائِهِمْ مَسَاجِدَ))
فَكَرِهَ إِضَافَةَ هذا اللَّفْظِ إلى القَبْرِ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ
التَّشَبُّهُ بفِعْلِ أولئكَ سدًّا للذَّرِيعَةِ، وحَسْمًا للبابِ،
ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وفيهِ: أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَسْتَعِذْ إِلاَّ ممَّا يَخَافُ وُقُوعَهُ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ. (3) قولُهُ: (ولابنِ جَرِيرٍ)، هوَ: الإِمَامُ الحَافِظُ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرِ بنِ يَزِيدَ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ (التَّفْسِيرِ) و(التَّارِيخِ) وغَيْرِهِمَا، قَالَ ابنُ خُزَيْمَةَ: (لاَ أَعْلَمُ عَلَى الأَرْضِ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ جَرِيرٍ، وَكَانَ مِن الأَئِمَّةِ المُجْتَهِدينَ، لاَ يُقَلِّدُ أَحَدًا، ولهُ أَصْحَابٌ يَتَفَقَّهُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وقدْ قيلَ: إنَّ اسمَ الرَّجُلِ صِرْمَةُ بنُ غَنْمٍ. وتَعْظِيمُ الأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ ومَحَبَّتُهُم إنَّما هوَ باتِّباعِ ما دَعَوا إليهِ مِن العِلْمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ
الصَّالحِ، واقْتِفَاءِ آثَارِهِم، وسُلُوكِ طَرِيقَتِهِم، دونَ
عِبَادَتِهِم وعِبَادَةِ قُبُورِهِم، والعُكُوفِ عليها كالَّذينَ
يَعْكُفُونَ عَلَى الأَصْنَامِ، واتِّخاذِهَا أَعْيَادًا ومَجَامِعَ
للزِّيَارَاتِ والفَوَاحِشِ، وتَرْكِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ مَن اقْتَفَى
آثَارَهُم كَانَ مُتَسَبِّبًا في تَكْثِيرِ أُجُورِهِم باتِّباعِهِ لَهُم،
ودَعْوَتِهِ النَّاسَ إلى اتِّباعِهِم، فَإِذَا أَعْرَضَ عَمَّا دَعَوْا
إليهِ، واشْتَغَلَ بِضِدِّهِ حَرَمَ نَفْسَهُ وحَرَمَهُم ذَلكَ الأَجْرَ.
فأيُّ تَعْظِيمٍ لهم واحْتِرَامٍ في هذا؟!!. (4) قولُهُ: ((لَعَنَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ القُبُورِ)) أيْ: مِن النِّسَاءِ، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ زِيَارَةِ القُبُورِ عَلَيْهِنَّ، كمَا هوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ
وطَائِفَةٍ. وقيل في تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إنَّهُ يُخْرِجُهَا إلى الجَزَعِ
والنَّدْبِ والنِّياحَةِ والافْتِتَانِ بهَا وبصُورَتِهَا، وتَأذِّي
المِيِّتِ ببُكَائِهَا، كمَا في حديثٍ آخَرَ: ((فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ، وَتُؤْذِينَ المَيِّتَ))
وإذا كَانَتْ زِيَارَةُ النِّساءِ مَظِنَّةً وسَبَبًا للأُمُورِ
المُحَرَّمةِ في حَقِّهِنَّ وحَقِّ الرِّجَالِ، وتَقْدِيرُ ذَلِكَ غَيْرُ
مَضْبُوطٍ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ حَدُّ المِقْدَارِ الَّذي لاَ يُفْضِي
إلى ذلكَ، ولاَ التَّمْييزُ بينَ نَوْعٍ ونَوْعٍ، ومِنْ أُصُولِ
الشَّرِيعَةِ أنَّ الحِكْمَةَ إِذَا كانَتْ خَفِيَّةً أوْ مُنْتَشِرَةً
عُلِّقَ الحُكْمُ بمَظِنَّتِها، فتُحَرَّمُ سَدًّا للذَّرِيعَةِ، كَمَا
حُرِّمَ النَّظَرُ إلى الزِّينَةِ البَاطِنَةِ لِمَا في ذلكَ مِن
الفِتْنَةِ، وكمَا حُرِّمتِ الخَلْوَةُ بالأَجْنَبِيَّةِ، وَلَيْسَ في
زِيَارتِهَا مِن المَصْلَحةِ ما يُعارِضُ هذه المَفْسَدةَ؛ لأَِنَّهُ ليسَ
في زِيَارتِها إِلاَّ دَعْوَاها للمَيِّتِ أو اعْتِبَارُهَا بهِ، وذلكَ
مُمْكِنٌ في بيتِهَا. ولا يُعَارِضُ هذا حديثَ: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا)) رواهُ مُسْلِمٌ
وغيرُهُ؛ لأَِنَّ هذا إِنْ سُلِّمَ دُخُولُ النِّساءِ فيهِ، فهوَ عَامٌّ
والأَوَّلُ خَاصٌّ، والخَاصُّ مُقَدَّمٌ عليهِ، وأيضًا ففي دُخُولِ
النِّساءِ في خِطَابِ الذُّكورِ خِلاَفٌ عندَ الأُصُولِيِّينَ.
ورواهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ في (مُصَنَّفِهِ) عنْ أَبِي خَالِدٍ الأَحْمَرِ، عن ابنِ عَجْلاَنَ، عنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ بهِ، ولم يَذْكُرْ عَطَاءً.
ورَوَاهُ البَزَّارُ عنْ عُمَرَ بنِ مُحَمَّدٍ، عنْ زَيْدٍ، عنْ عَطَاءٍ، عنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، مَرْفُوعًا، وعُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ زَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ثِقَةٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ المَدِينَةِ، رَوَى عنه مَالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، وسُلَيمانُ بنُ بِلاَلٍ.
قولُهُ: رَوَى مالكٌ في (المُوَطَّأِ) هوَ الإمامُ مَالِكُ بنُ أَنَسِ بنِ مَالِكِ بنِ أَبِي عَامِرِ بنِ عُمَرَ الأصبحيُّ، أَبُو عبدِ اللهِ المَدَنِيُّ الفَقِيهُ، إِمَامُ دَارِ الهِجْرَةِ، وأَحَدُ الأئمَّةِ الأرْبَعَةِ، وأَحَدُ المُتْقِنينَ في الحديثِ، حَتَّى قالَ البُخَارِيُّ: (أَصَحُّ الأَسَانيدِ كُلِّها: مالكٌ عنْ نَافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ).
مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وسَبْعِينَ ومِائَةٍ، وكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلاَثٍ وتِسْعِينَ.
وقَالَ الوَاقِدِيُّ: (بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً).
قولُهُ: ((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ))
قد اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فمَنَعَ النَّاسَ مِن الوُصُولِ إلى قَبْرِهِ؛ لِئَلاَّ يُعْبَدَ
اسْتِجَابَةً لدُعَاءِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمَا
قالَ ابنُ القيِّمِ:
فاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى غُرْبَةِ الإِسْلاَمِ، وهذه هيَ الفِتْنَةُ العُظْمَى التي قَالَ فيها عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: (كيفَ
أَنْتُم إِذَا لَبِسَتْكُم فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فيها الكَبِيرُ، ويَنْشَأُ
فيها الصَّغِيرُ، تَجْرِي عَلَى النَّاسِ يتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، إِذَا
غُيِّرتْ قيل: غُيِّرتِ السُّنَّةُ).
قَالَ ابنُ عبدِ الباقِي في (شَرْحِ المُوَطَّأِ): (رَوَى أَشْهَبُ عنْ مَالِكٍ أنَّهُ كَرِهَ لذلكَ أَنْ يُدْفَنَ في المَسْجِدِ، قالَ: وإِذَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَسَائِرُ آثَارِهِ أَحْرَى بذَلِكَ.
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ طَلَبَ مَوْضِعِ شَجَرَةِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ مُخَالَفَةً لليَهُودِ والنَّصارَى) انْتَهَى.
وقَالَ ابنُ وضَّاحٍ: (سَمِعْتُ عِيسَى بنَ يُونُسَ يَقُولُ: أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ
بِقَطْعِ الشَّجرةِ التي بُويِعَ تَحْتَها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطَعَها؛ لأَِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَذْهَبُونَ
فيُصَلُّونَ تَحْتَهَا، فَخَافَ عَلَيْهِم الفِتْنَةَ).
قَالَ عِيسَى بنُ يُونُسَ: (وهوَ عندَنا مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَوْنٍ عنْ نَافِعٍ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ فقَطَعَها عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ).
وقالَ المعرورُ بنُ سُوَيدٍ: (صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ في طَرِيقِ مَكَّةَ صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَقَرَأَ فيها:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} ثُمَّ رَأَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ مَذَاهِبَ فَقَالَ: ( أينَ يَذْهَبُ هَؤُلاَءِ؟ )
فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَسْجِدٌ صلَّى فيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُم يُصَلُّونَ فيهِ.
فَقَالَ: ( إنَّما أُهْلِكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم بمِثْلِ هذا، كَانُوا
يَتَتَبَّعُونَ آثَارَ أَنْبِيَائِهِم، ويَتَّخِذُونَهَا كَنَائِسَ
وبِيَعًا، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ في هذِهِ المَسَاجِدِ
فَلْيُصَلِّ، وَمَنْ لاَ فَلْيَمْضِ وَلاَ يَتَعَمَّدْهَا).
وفي (مَغَازِي ابنِ إِسْحَاقَ) منْ زِيادَاتِ يُونُسَ بنِ بَكِيرٍ، عنْ أَبِي خلدةَ خالدِ بنِ دِينارٍ، حَدَّثَنا أَبُو العَالِيَةِ قالَ:
(لَمَّا فَتَحْنَا تُسْتَرَ وَجَدْنا في بيتِ مالِ الهرمزانِ سَرِيرًا
عليهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ عندَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ، فأَخَذْنَا المُصْحَفَ
فحَمَلْنَاهُ إِلَى عُمَرَ، فدَعَا لهُ كَعْبًا فنَسَخَهُ بالعَرَبِيَّةِ،
فَأَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ قَرَأَهُ مِن العَرَبِ، قَرَأْتُهُ مِثْلَ ما
أَقْرَأُ القُرْآنَ، فقلْتُ لأَِبِي العَالِيَةِ: ما كانَ فيهِ؟
قالَ: سِيرَتُكُم وأُمُورُكُم، ولُحُونُ كَلاَمِكُم، وما هوَ كَائِنٌ بعدُ.
قلْتُ: فَمَا صَنَعْتُم بالرَّجُلِ؟
قَالَ: حَفَرْنَا لهُ بالنَّهَارِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً،
فلَمَّا كَانَ باللَّيْلِ دَفَنَّاهُ وسَوَّيْنَا القُبُورَ كُلَّها
لنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ لا يَنْبُشُونَهُ، قلْتُ: وما يَرْجُونَ منهُ؟
قالَ: كانَت السَّماءُ إذا حُبِسَتْ عنهم بَرَزُوا بسَرِيرِهِ فيُمْطَرُونَ.
فَقُلْتُ: مَنْ كنتُم تَظُنُّونَ الرَّجُلَ؟
قَالَ: رَجُلٌ يُقَالُ لهُ: دَانْيَالُ.
فقُلْتُ: منذُ كَمْ وجَدْتُمُوهُ مَاتَ؟
قالَ: منذُ ثَلاَثِ مِائَةِ سَنَةٍ.
قُلْتُ: مَا كَانَ تَغَيَّرَ منهُ شَيْءٌ؟
قَالَ: لاَ، إِلاَّ شُعَيْرَاتٍ مِنْ قَفَاهُ، إنَّ لُحُومَ الأَنْبِيَاءِ لاَ تُبْلِيهَا الأَرْضُ).
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (ففي
هذه القِصَّةِ ما فَعلَهُ المُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ مِنْ تَعْمِيَةِ
قَبْرِهِ؛ لِئَلاَّ يُفْتَتَنَ بهِ، ولم يُبْرِزُوهُ للدُّعاءِ عندَهُ
والتَّبَرُّكِ بهِ، ولوْ ظَفَرَ بهِ المُتَأَخِّرُونَ لجالَدُوا عَلَيْهِ
بالسُّيوفِ، ولعَبَدُوهُ مِنْ دونِ اللهِ).
قالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وهوَ
إِنْكَارٌ منهم لِذَلِكَ، فمَنْ قَصَدَ بُقْعَةً يَرْجُو الخَيْرَ
بقَصْدِهَا - ولم يَسْتَحِبَّ الشَّارِعُ قَصْدَهَا - فهوَ مِن
المُنْكَرَاتِ، وبعضُهُ أَشَدُّ مِنْ بعضٍ، سواءٌ قَصَدَهَا ليُصَلِّيَ
عندَهَا، أوْ ليَدْعُوَ عندَهَا، أوْ ليَقْرَأَ عندَهَا، أوْ ليَذْكُرَ
اللهَ عِندَهَا، أوْ ليَسْكُنَ عندَهَا، بحَيْثُ يَخُصُّ تلكَ البُقْعَةَ
بِنَوْعٍ مِن العِبَادَةِ التي لَمْ يُشْرَعْ تَخْصِيصُهَا بِهِ: لاَ
نَوْعًا، وَلاَ عَيْنًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ بِحُكْمِ الاتِّفَاقِ
لا لِقَصْدِ الدُّعاءِ فيها، كَمَنْ يَدْعُو اللهَ في طَرِيقِهِ،
ويَتَّفِقُ أَنْ يَمُرَّ في طَرِيقِهِ بالقُبُورِ، أوْ كَمَنْ يَزُورُهَا
ويُسَلِّمُ عَلَيْهَا، ويَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ لهُ وللمَوْتَى، كمَا
جَاءَتْ بهِ السُّنَّةُ، فإنَّ ذَلِكَ ونَحْوَهُ لاَ بَأْسَ بهِ.
وأَمَّا تَحَرِّي الدُّعاءِ عندَهَا، بحَيْثُ يَسْتَشْعِرُ أنَّ الدُّعاءَ
هناكَ أَجْوَبُ منهُ في غيرِهِ، فهَذَا هوَ المَنْهِيُّ عنه، والفَرْقُ
بَيْنَ النَّوْعَيْنِ ظَاهِرٌ، فإنَّ الرَّجُلَ لوْ كَانَ يَدْعُو اللهَ
واجْتَازَ في مَمَرِّهِ بصَنَمٍ أوْ صَلِيبٍ أوْ كَنِيسَةٍ أوْ دَخَلَ
إِلَيْهَا ليَبِيتَ فيهِ مَبِيتًا جَائِزًا، ودَعَا اللهَ في اللَّيْلِ،
أوْ أَتَى بعضَ أَصْدِقَائِهِ ودَعَا اللهَ في بَيْتِهِ، لم يَكُنْ بهَذَا
بَأْسٌ، وَلَوْ تَحَرَّى الدُّعاءَ عندَ هذه المَوَاضِعِ لكَانَ مِن
العَظَائِمِ، بلْ قدْ يَكُونُ كُفْرًا).
قولُهُ: ((اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ))
هذه الجُمْلةُ بعدَ الأُولَى تَنْبِيهٌ عَلَى سببِ لُحوقِ اللَّعْنِ
بِهِم، وهوَ تَوَسُّلُهُم بذلِكَ إلى أنْ تَصِيرَ أَوْثَانًا تُعْبَدُ،
ففيهِ إِشَارَةٌ إلى مَا تَرْجَمَ لهُ المُصَنِّفُ.
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبعٍ وعشرينَ ومائتينِ، وماتَ ليَوْمَيْنِ بَقِيَا مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ وثلاثِمائةٍ).
قولُهُ: (عنْ سُفْيانَ) هوَ: أَحَدُ السُّفْيَانَيْنِ: إمَّا ابنُ عُيَيْنَةَ، وإمَّا الثَّوْرِيُّ، فإِنْ كَانَ ابنَ عُيَيْنَةَ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ، وإِنْ كَانَ الثَّوْرِيَّ - وهوَ الأَظْهَرُ - فهوَ: سُفْيانُ بنُ سَعِيدِ بنِ مَسْرُوقٍ أَبُو عبدِ اللهِ الكُوفِيُّ،
ثِقَةٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ إِمَامٌ حُجَّةٌ عَابِدٌ، وَكَانَ مُجْتَهِدًا،
لهُ أَتْبَاعٌ وأَصْحَابٌ يَتَفَقَّهُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ، مَاتَ سَنَةَ
إِحْدَى وسِتِّينَ ومائةٍ، ولهُ أَرْبعٌ وسِتُّونَ سَنَةً.
قولُهُ: (عنْ مَنْصُورٍ) هوَ: ابنُ المُعْتَمِرِ بنِ عبدِ اللهِ السُّلَمِيُّ أَبُو عتَّابٍ - بمُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدةٍ - الكُوفِيُّ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ فَقِيهٌ، مَاتَ سَنَةَ اثنتينِ وثلاثينَ ومائةٍ.
قولُهُ: (عنْ مُجَاهدٍ) هوَ ابنُ جَبْرٍ -بالجِيمِ والمُوَحَّدَةِ- أبو الحَجَّاجِ المَخْزُومِيُّ مَوْلاَهُم المَكِّيُّ، ثِقَةٌ إِمَامٌ في التَّفْسِيرِ والعِلْمِ، أَخَذَ التَّفْسِيرَ عن ابنِ عبَّاسٍ وغَيْرِهِ.
مَاتَ سَنَةَ أَرْبعٍ ومِائَةٍ، قَالَهُ يَحْيَى القَطَّانُ، وقَالَ ابنُ حِبَّانَ: (ماتَ
سَنَةَ اثنتينِ أوْ ثَلاَثٍ ومِائَةٍ وهوَ سَاجِدٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ:
سَنَةَ إِحْدَى وعشرينَ في خِلاَفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ).
قولُهُ: (كَانَ يَلُتُّ لَهُم السَّوِيقَ فمَاتَ، فعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ) لَتُّ السَّوِيقِ هوَ: خَلْطُهُ بِسَمْنٍ ونحوِهِ.
وعن ابنِ عبَّاسٍ: (كانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى الحَجَرِ، فَلاَ يَشْرَبُ منهُ أَحَدٌ إِلاَّ سَمِنَ فعبدُوهُ) رواهُ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وعنْ مُجَاهِدٍ: (كانَ
اللاَّتُّ رَجُلاً في الجَاهِلِيَّةِ، وكَانَ لهُ غَنَمٌ فَكَانَ يَسْلُؤُ
مِنْ رِسْلِهَا ويَأْخُذُ مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ والأَقْطِ، فيَجْعَلُ
منهُ حَيْسًا ويُطْعِمُ مَنْ يَمُرُّ مِنَ النَّاسِ، فلَمَّا مَاتَ
عبدُوهُ، وقالُوا: هوَ اللاَّتُ).
وكَانَ يُقْرَأُ: اللاَّتُّ، مُشَدَّدَةً، رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ، والفَاكِهِيُّ.
قولُهُ: (وَكَذَا قَالَ أَبُو الجَوْزَاءِ) إلى آخرِهِ، هوَ: أَوْسُ بنُ عبدِ اللهِ الرَّبَعِيُّ - بفتحِ الرَّاءِ والباءِ - ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، مَاتَ سَنَةَ ثلاَثٍ وثَمَانِينَ، وَهَذَا الأَثَرُ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وَلَمْ يَعْزُهُ، وَقَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ، ولاَ
تَخَالُفَ بَيْنَ هَذَا التَّفْسيرِ وَالقِرَاءةِ وبَيْنَ قِرَاءةِ مَنْ
قَرَأَ بالتَّخْفِيفِ. وَقَالَ: إنَّهُ كَانَ حَجَرًا فعَبَدُوهُ،
واشْتَقُّوا لهُ مِن اسمِ اللهِ: الإِلَهَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ في
بَابِ (مَنْ تَبَرَّكَ بشَجَرَةٍ) وأَيْضًا فيُجَابُ عَلَى
الأَوَّلِ بأَنَّ أَصْلَهُ التَّشْدِيدُ، وخُفِّفَ لكَثْرةِ
الاسْتِعْمَالِ، وأَمَّا كَوْنُهُم اشْتَقُّوا هَذَا الاسْمَ مِن اسْمِ
اللهِ: الإِلَهِ، فَلاَ يُنَافي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَدْ رَأَيْتَ أَنَّ
سَبَبَ عِبَادَةِ اللاَّتِ هوَ الغُلُوُّ في قَبْرِهِ حَتَّى صَارَ وَثَنًا
يُعْبَدُ، كمَا كَانَ ذَلِكَ هوَ السَّبَبَ في عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ: ودٍّ، وسُوَاعٍ، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرٍ، وغيرِهِم،
وكَمَا كانَ ذَلِكَ هوَ السَّبَبَ في عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ مِن
الأَمْوَاتِ وغَيْرِهِم اليوْمَ، فإنَّهُم غَلَوْا فِيهِم، وبَنَوا عَلَى
قُبُورِهِم القِبَابَ والمَشَاهِدَ، وجَعَلُوهَا مَلاَذًا لقَضَاءِ
المَآرِبِ.
وبالجُمْلَةِ فالغُلُوُّ أَصْلُ الشِّرْكِ في الأَوَّلينَ والآخِرِينَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
وقدْ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَحبَّةِ أَوْلِيَائِهِ وإِنْزَالِهِم
مَنَازِلَهُم مِن العُبُودِيَّةِ، وسَلْبِ خَصَائِصِ الإِلَهِيَّةِ عنهم،
وَهَذَا غَايَةُ تَعْظِيمِهِم وطَاعَتِهِم، ونَهَانَا عن الغُلُوِّ فيهم،
فَلاَ نَرْفَعُهُم فَوْقَ مَنْزِلَتِهِم، وَلاَ نَحُطُّهم منها لِمَا
يَعْلَمُهُ تعالَى في ذَلِكَ مِن الفَسَادِ العَظِيمِ، فَمَا وَقَعَ
الشِّركُ إِلاَّ بِسَبَبِ الغُلُوِّ فِيهِم، فَإِنَّ الشِّرْكَ بِهِم
غُلُوٌّ فِيهِم، وَأَنْزَلُوهُم مَنَازِلَ الإِلَهِيَّةِ، وعَصَوا
أَمْرَهُم، وتَنَقَّصُوهُم في صُورَةِ التَّعْظِيمِ لَهُم، فَتَجِدُ
أَكْثَرَ هؤلاءِ - الغَالِينَ فِيهِم العَاكِفِينَ عَلَى قُبُورِهِم -
مُعْرِضينَ عنْ طَرِيقَةِ مَنْ فيها وهَدْيِهِ وسُنَّتِهِ، عَائِبِينَ
لَهَا، مُشْتَغِلِينَ بقُبُورِهِم عمَّا أَمَرُوا بهِ، ودَعَوْا إليهِ.
وقدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، وابنُ مَاجَه، والحَاكِمُ، عنْ حسَّانَ بنِ ثابتٍ مَرْفوعًا: ((لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ)).
وعنْ أَبِي هُرَيْرةَ، ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ)) رواهُ أَحْمَدُ، وابنُ مَاجَه، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وضعَّفَهُ عبدُ الحَقِّ، وحسَّنَهُ ابنُ القطَّانِ.
قولُهُ:((وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ))تَقَدَّمَ في البابِ قبْلَهُ شَرْحُهُ وتَعْليلُهُ.
قولُهُ: ((والسُّرُجَ)) هذا دَلِيلٌ عَلَى تَحْريمِ اتِّخاذِ السُّرُجِ عَلَى القُبُورِ.
قالَ أبو مُحَمَّدٍ المَقْدِسيُّ: (لوْ
أُبِيحَ اتِّخاذُ السُّرُجِ عليها لَم يُلْعَنْ مَنْ فَعَلَهُ؛ لأَِنَّ
فيهِ تَضْييعًا للمَالِ في غيرِ فائدةٍ، وإفْراطًا في تَعْظِيمِ القُبُورِ،
أَشْبَهَ تَعْظِيمَ الأَصْنامِ).
وقَالَ ابنُ القيِّمِ: (اتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ وإِيقَادُ السُّرُجِ عليها مِن الكَبَائِرِ).
ووجْهُ إِيرَادِ المُصَنِّفِ
هذا الحَدِيثَ في هذا البابِ دونَ الَّذي قبْلَهُ، هوَ أنَّهُ لَعَنَ
المُتَّخِذِينَ عليها المَسَاجِدَ والسُّرُجَ، وقَرَنَ بينَهُمَا، فهما
قَرِينانِ في اللَّعْنةِ، فدَلَّ ذلكَ عَلَى أنَّهُ ليسَ المَنْعُ مِن
اتِّخاذِ المَسَاجِدِ عَلَيْهَا لأَِجْلِ النَّجاسَةِ، بلْ لأَِجْلِ
نَجَاسَةِ الشِّرْكِ، ولذَلِكَ قَرَنَ بيْنَهُ وبَيْنَ مَنْ لاَ سِرَاجَ
عليهَا، وليسَ النَّهْيُ عن الإسْرَاجِ لأَِجْلِ النَّجاسَةِ، فكذلِكَ
البِنَاءُ.
قولُهُ: رَوَاهُ أهْلُ (السُّننِ)، يَعْنِي هنا: أَبَا دَاودَ، وابنَ مَاجَه، والتِّرْمِذِيَّ فَقَطْ، ولَمْ يَرْوِهِ النَّسَائِيُّ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (بابُ ما جاءَ أنَّ الغُلُوَّ فِي قُبورِ الصَّالِحينَ يُصَيِّرُها أَوْثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ) روى مَالكٌ في (الْمُوطَّأِ): (أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ قالَ:((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)). - ورواهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ في (مصنَّفِهِ) عن ابنِ عَجْلانَ، عنْ زيدِ بنِ أسْلَمَ بِهِ، ولمْ يَذْكُرَ عطاءً. - ورواهُ البزَّارُ، عنْ زيدٍ، عنْ عطاءٍ، عنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ مرفوعًا. وقيلَ: أربَعٍ وتسعينَ. فَأجابَ رَبُّ العالَمِينَ دُعاءهُ وَأَحـاطـَهُبـثـلاثـَةِ الْجُدْرَانِ ودلَّ الحديثُ على
أنَّ قبرَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوْ عُبِدَ لكانَ
وَثَنًا، لكنْ حَمَاهُ اللهُ تعالَى بما حالَ بينَهُ وبينَ النَّاسِ فلا
يُوصَلُ إليهِ. ودلَّ الحديثُ على أنَّ الوثنَ هوَ ما يُبَاشِرُ العابِدُ مِن القبورِ والتوابيتِ التي عليها ، وقدْ عَظُمَت الفتنةُ بالقبورِ لتعظيمِها وعبادتِها، كما قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (كيفَ
أنْتُمْ إذا لَبِسَتْكُم فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فيها الكبيرُ، ويَنْشَأُ فيها
الصغيرُ، تجري على الناسِ يَتَّخِذونَها سُنَّةً، إذا غُيِّرَتْ قيلَ:
غُيِّرَت السُّنَّةُ) انتَهَى. وهذا ليسَ بمشروعٍ باتِّفاقِ الأئمَّةِ؛ فكَرِهَ
مالكٌ أنْ يتكلَّمَ بلفظٍ مُجْمَلٍ يدلُّ على معنًى فاسدٍ، بخلافِ الصلاةِ
عليهِ والسلامِ؛ فإنَّ ذلكَ ممَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ. أمَّا لفظُ الزيارةِ
في عمومِ القبورِ فلا يُفْهَمُ منها مثلُ هذا المعنى. انتهَى. وفيهِ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يستعِذْ إلاَّ مِمَّا يخافُ وقوعَهُ ، ذكرَهُ المصنِّفُ رحِمَهُ اللهُ تعالَى. (2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (ولابْنِ جَريرٍ بِسَنَدِهِ، عَنْ سُفيانَ، عنْ منصورٍ، عنْ مُجاهِدٍ، {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] قالَ: (كانَ يَلُتُّ لَهُم السَّوِيقَ، فَمَاتَ، فَعَكَفُوا علَى قَبْرِه) وكذا قالَ أبو الجَوْزَاءِ عن ابنِ عبَّاسٍ: كانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ للحَاجِّ). ومُنَاسَبَتُهُ للترْجَمَةِ: أنَّهم غَلَوْا فيهِ لصلاحِهِ حتَّى عَبَدُوهُ وصارَ قبرُهُ وثنًا منْ أوثانِ المشركينَ. (3) قولُهُ: (وكذا قالَ أبو الجَوْزاءِ) هوَ أَوْسُ بنُ عبدِ اللهِ الرَّبَعِيُّ، بفتحِ الراءِ والباءِ، ماتَ سنةَ ثلاثٍ وثمانينَ. (4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وعَن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (لَعَنَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زائِراتِ القُبورِ، والمتَّخِذينَ عَلَيْها المساجِدَ والسُّرُجَ) رواهُ أهْلُ السُّننِ). قال شيخُ الإِسلامِ:(وقدْ جاءَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ طريقَيْنِ: فَعَنْأبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ))). وهذا يدلُّ على أنَّ الزيارةَ ليسَتْ مُسْتَحَبَّةً للنساءِ كمَا تُسْتَحَبُّ للرِّجَالِ؛ إذْ لوْ كانَ كذلكَ لاسْتَحَبَّتْ زيارتَهُ، سواءٌ شهِدَتْهُ أمْ لاَ. فهذا يُبَيِّنُ أنَّهُ أَمَرَ بها أمرًا يقتضي الاستحبابَ. والاستحبابُ
إنَّما هوَ ثابتٌ للرجالِ خاصَّةً، ولوْ كانَتْ تعتَقِدُ أنَّ النساءَ
مأموراتٌ بزيارَةِ القبورِ لكانَتْ تَفْعلُ ذلكَ كَمَا يفعَلُهُ الرجالُ
ولمْ تَقُلْ لأخِيها: (لَمَا زُرْتُكَ). واللَّعْنُ صريحٌ في التحريمِ، والخطابُ بالإِذْنِ في قولِهِ: ((فَزُورُوهَا))لمْ يتناول النساءَ، فلمْ يَدْخُلْنَ في الحكْمِ الناسخِ. والعامُّ إذا عُرِفَ أنَّهُ بعدَ الخاصِّ لم يكُنْ ناسِخًا لهُ عندَ جمهورِ العلماءِ، وهوَ مذهبُ الشافعِيِّ وأحمدَ في أَشْهَرِ الروايتيْنِ عنهُ، وهوَ المعروفُ عندَ أصحابِهِ، فكيفَ إذا لمْ يُعْلَمْ أنَّ هذا العامَّ بعدَ الخاصِّ؟ والصحيحُ أنَّ النساءَ لمْ يَدْخُلْنَ في الإِذنِ في زيارةِ القبورِ؛ لعدَّةِ أَوْجُهٍ: أحدُها: أنَّ قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((فَزُورُوهَا)) صيغةُ تذكيرٍ، وإنَّما يتناولُ النساءَ أيضًا على سبيلِ التغليبِ. لكنْ هذا فيهِ قولانِ: قيلَ: إنَّهُ يَحْتَاجُ إلى دليلٍ مُنْفَصِلٍ، وحينئذٍ فيحتاجُ تناولُ ذلكَ للنساءِ إلى دليلٍ مُنْفَصِلٍ. وقيلَ: إنَّهُ يُحْمَلُ على ذلكَ عندَ الإِطلاقِ، وعلى هذا؛ فيكونُ دخولُ النساءِ بطريقِ العمومِ الضعيفِ، والعامُّ لا
يُعَارِضُ الأدلَّةَ الخاصَّةَ ولا يَنْسَخُها عندَ جمهورِ العلماءِ. ومنها: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّلَ الإِذنَ للرجالِ بأنَّ ذلكَ ((يُذَكِّرُ الْمَوْتَ، وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ، وَتَدْمَعُ الْعَيْنُ)) هكذا في (مُسْنَدِ أحمدَ)ومعلومٌ أنَّ المرأةَ إذا فُتِحَ لها هذا البابُ أخرَجَها إلى الجزَعِ والندْبِ والنياحةِ؛ لِمَا فيها من الضعفِ وقلَّةِ الصبْرِ. وقولِهِ لفاطمةَ: ((أَمَا إِنَّكِ لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى لَمْ تَدْخُلِي الْجَنَّةَ)). ويُؤَيِّدُهُ ما ثبتَ في (الصحيحيْنِ) مِنْ أَنَّهُ نَهى النِّسَاءَ عَن اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، ومعلومٌ أنَّ قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ))هوَ أَدَلُّ على العمومِ منْ صيغةِ التذكيرِ؛ فإنَّ لفظَ(مَنْ) يتناولُ الرجالَ والنساءَ باتِّفاقِ الناسِ. وعمَّا اسْتَدَلَّ بهِ القائلونَ بالنَّسْخِ أَجْوِبَةٌ أيضًا: منها: أنَّ ما ذَكَرُوهُ عنْ عائشةَ، وفاطِمَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُما مُعَارِضٌ لما وَرَدَ عنهما في هذا البابِ؛ فلا يَثْبُتُ بهِ النسخُ. ومنها: أنَّ قولَ الصحابيِّ وفِعْلَهُ ليسَ حُجَّةً على الحديثِ بلا نِزَاعٍ، وأمَّا تعليمُهُ عائشةَ كيفَ تقولُ إذا زارت القبورَ ونحوُ ذلكَ؟ وأحاديثُ ذلكَ واسِعةٌ معروفةٌ، فإنَّ ذلكَ في نفسِهِ منهيٌّ عنهُ، ثمَّ هوَ ذريعةٌ إلى مفسدةٍ عظيمةٍ) انْتَهَى.
هذا الحديثُ رواهُ مالِكٌ، مُرسَلاً عنْ زيدِ بنِ أسلَمَ، عنْ عطَاءِ بنِ يَسارَ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ، الحديثَ.
ولهُ شاهِدٌ عندَ الإِمامِ أحمدَ بِسَنَدِهِ عنْ سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، عنْ أبيهِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: ((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)).
قولُهُ: (رَوَى مالِكٌ في (المُوَطَّأِ)) هوَ الإمامُ مالِكُ بنُ أنسِ بنِ مالِكِ بنِ أبي عامِرِ بنِ عمرٍو الأَصْبحِيُّ، أبو عبدِ اللهِ المدَنِيُّ، إمامُ دارِ الهِجْرةِ، وأحدُ الأئِمَّةِ الأربعةِ، وأحدُ المُتْقِنِينَ للحديثِ، حتَّى قالَ البُخاريُّ: (أصحُّ الأسانيدِمالكٌ، عنْ نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ) ماتَ سنَةَ تِسْعٍ وسبعينَ ومائةٍ، وكانَ مولِدُهُ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ.
قالَ الواقِدِيُّ: (بلَغَ تسعينَ سنةً).
قولُهُ: ((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ)) قد استجَابَ اللهُ دُعَاءهُ، كمَا قالَ ابنُ القيِّمِ رحِمَهُ اللهُ تعالَى:
حتَّى غدَتْ أرجاؤُهُ بِدُعائِهِ في عــِزَّةٍوحــمـايـَةٍ وصـِيـَانِ
ولخوفِ الفتنةِ نَهَى عمرُ رَضِيَ اللهُ عنه عنْ تَتَبُّعِ آثارِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالَ ابنُ وَضَّاحٍ:(سَمِعْتُ عيسى بنَ يونُسَ يقولُ: (أَمَرَ عمرُ بنُ الخطَّابِ بقطعِ الشجرةِ التي بُويِعَ تحتَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)فقَطَعَهَا لأنَّ النَّاسَ كانوا يَذْهَبونَ فَيُصَلُّونَ تحتَها، فخافَ عليهم الفتنةَ).
وقالَ المعرورُ بنُ سُوَيْدٍ:(صَلَّيْتُ معَ عمرَ بنِ الخطَّابِ بطريقِ مَكَّةَ صلاةَ الصبحِ، ثمَّ رأَى الناسَ يذهبونَ مذاهِبَ، فقالَ: أينَ يذهبُ هؤلاءِ؟
فقيلَ: يا أميرَ المؤمنينَ، مَسْجِدٌ صلَّى فيهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُم يصلُّونَ فيهِ؛ فقالَ: (إنَّما
هلَكَ مَنْ كانَ قبلَكم بمثلِ هذا، كانوا يَتَتَبَّعونَ آثارَ أنبيائِهِم
ويتَّخِذونَها كنائِسَ وَبِيَعًا، فمَنْ أدرَكَتْهُ الصلاةُ في هذهِ
المساجدِ فَلْيُصَلِّ، ومَنْ لا فَلْيَمْضِ ولا يتَعَمَّدْهَا)).
وفي (مغازي ابنِ إسحاقَ) منْ زياداتِ يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ، عنْ أبي خَلْدَةَ خالدِ بنِ دينارٍ، حدَّثَنَا أبو العَالِيَةِ قالَ: (لَمَّا فتَحْنَا تُسْتَرَ وجَدْنَا في بيتِ مالِ الهُرْمُزَانِ سَرِيرًا عليهِ رَجُلٌ ميِّتٌ، عندَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ.
فأخذْنَا المصحفَ فحَمَلْنَاهُ إلى عمرَ؛ فدعا لهُ كَعْبًا فنسخَهُ بالعربيَّةِ، فأنا أوَّلُ رجلٍ قرأَهُ من العربِ، قرأتُهُ مثلَ ما أَقْرَأُ القرآنَ، فقلتُ لأبي العالِيَةِ: ما كانَ فيهِ؟
قالَ: سِيرَتُكُم، وَأُمُورُكم، ولُحُونُ كلامِكم، ومَا هوَ كائِنٌ بَعْدُ.
قُلْتُ: فما صنعتُمْ بالرَّجُلِ؟
قالَ: حَفَرْنَا لهُ بالنَّهارِ ثلاثةَ عَشَرَ قبرًا متفرِّقةً، فلمَّا
كانَ اللَّيْلُ دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا القبورَ كلَّها لِنُعَمِّيَهُ على
الناسِ لا يَنْبُشُونَهُ.
قُلْتُ: وما يَرْجُونَ منهُ؟
قال: كانَت السَّماءُ إذا حُبِسَتْ عنهم بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ فَيُمْطَرُونَ، فَقُلْتُ: مَنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرجلَ؟
قال: رَجُلٌ يُقَالُ لهُ: دَانْيَالُ.
فقلتُ: منذُ كمْ وجدْتُمُوهُ ماتَ؟
قالَ: منذُ ثلاثِمائةِ سنَةٍ.
قلتُ: ما كانَ تغيَّرَ منهُ شيءٌ؟
قال: لا، إلاَّ شُعَيْرَاتٌ منْ قَفَاهُ، إنَّ لُحُومَ الأنبياءِ لا تُبْلِيهَا الأرضُ).
قالَ ابنُ القيِّمِ:(ففي
هذهِ القِصَّةِ ما فعلَهُ المهاجرونَ والأنصارُ مِنْ تعمِيَةِ قبْرِهِ؛
لئلاَّ يُفْتَتَنَ بِهِ، ولم يُبْرِزُوهُ للدعاءِ عندَهُ والتبرُّكِ بهِ،
ولوْ ظَفِرَ بهِ المُتَأَخِّرونَ لجالَدُوا عليهِ بالسَّيْفِ، ولعَبَدُوهُ
مِنْ دونِ اللهِ).
قالَ شيخُ الإِسلامِ:(هوَ
إنكارٌ منهم لذلكَ، فمَنْ قصَدَ بُقعةً يَرْجُو الخيرَ بِقَصْدِهَا -ولمْ
يستَحِبَّ الشارِعُ قَصْدَها- فهوَ مِن المنكَراتِ، وبعضُهُ أشدُّ مِنْ
بعضٍ، سواءٌ قصدَها لِيُصَلِّيَ عندَها أوْ ليَدْعُوَ عنْدَها، أوْ
ليقْرَأَ عندَها أوْ ليذْكُرَ اللهَ عندَها، أوْ ليَنْسُكَ عنْدَها، بحيثُ
يخصُّ تلكَ البقعةَ بنوعٍ مِن العبادةِ التي لمْ يُشْرَعْ تخصيصُها بِهِ لا
نوعًا ولا عَيْنًا، إلاَّ أنَّ ذلكَ قدْ يجوزُ بحُكْمِ الاتِّفاقِ لا
لقصدِ الدعاءِ فيها، كمَنْ يزُورُها ويُسَلِّمُ عليها، ويسألُ اللهَ
العافيَةَ لهُ وللموتَى؛ كمَا جاءَت السُّنَّةُ بِهِ.
وأمَّا تَحَرِّي الدعاءِ عندَها بحيثُ يَسْتَشْعِرُ أنَّ الدعاءَ هناكَ أجوبُ منهُ في غيرِهِ؛ فهذا هوَ المنهِيُّ عنهُ) انتهَى ملخَّصًا.
قولُهُ: ((اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ))فيهِ تحريمُ البناءِ على القبورِ، وتحريمُ الصلاةِ عندَها، وأنَّ ذلكَ من الكبائِرِ.
وفي (الْقِرَى)للطبريِّ: (عنْ أصحابِ مالكٍ، عنْ مالكٍ
أنَّهُ كَرِهَ أنْ يقولَ: زُرْتُ قبرَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وعلَّلَ ذلكَ بقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ)) الحديثَ.
كَرِهَ إضافةَ هذا اللَّفظِ إلى القبرِ؛ لئلاَّ يَقَعَ التشبُّهُ بفعلِ أولئكَ؛ سدًّا للذريعَةِ).
قالَ شيخُ الإِسلامِ:(ومالِكٌ قدْ أدرَكَ التابعينَ، وهمْ أعلمُ الناسِ بهذهِ المسألةِ.
فدلَّ ذلكَ على أنَّهُ لمْ يكُنْ معروفًا عندَهم ألفاظُ زيارةِ قبرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلى أنْ قالَ: (وقدْ
ذَكَرُوا في أسبابِ كرَاهَتِهِ لأنْ يَقُولَ: زُرْتُ قبرَ النَّبيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ هذا اللفظَ قدْ صارَ كثيرٌ من
الناسِ يُرِيدُ بهِ الزيارةَ الْبِدْعِيَّةَ، وهوَ قَصْدُ الميِّتِ
لسؤالِهِ ودعائِهِ، والرغْبَةُ إليهِ في قضاءِ الحوائجِ، ونحوُ ذلكَ ممَّا
يفعلُهُ كثيرٌ من الناسِ؛ فَهُمْ يعْنُونَ بلفظِ الزيارةِ مثلَ هذا.
ألا ترَى إلى قولِهِ: ((فَزُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ)) معَ زيارتِهِ لقبرِ أُمِّهِ؛ فإنَّ هذا يتناولُ قبورَ الكفَّارِ.
فلا يُفْهَمُ مِنْ ذلكَ زيارةُ الميِّتِ لدعائِهِ وسؤالِهِ والاستغاثَةِ
بهِ ونحوُ ذلكَ ممَّا يفعلُهُ أهلُ الشِّرْكِ والبِدَعِ؛ بخلافِ ما إذا
كانَ المزُورُ مُعَظَّمًا في الدينِ كالأنبياءِ والصالحينَ، فإنَّهُ كثيرًا
ما يُعْنَى بزيارةِ قُبُورِهِم هذهِ الزيارةَ البدعيَّةَ الشركيَّةَ؛
فلهذا كرِهَ مالكٌ ذلكَ في مِثْلِ هذا، وإنْ لمْ يَكْرَهْ ذلكَ في موضعٍ
آخَرَ ليسَ فيهِ هذهِ المفسدةُ)
قولُهُ: (ولابنِ جريرٍ)، هوَ الإِمامُ الحافِظُ محمَّدُ بنُ جريرِ بنِ يزيدَ الطبريُّ، صاحِبُ (التفسيرِ) و(التاريخِ) وغيْرِهما.
قالَ ابنُ خُزَيْمَةَ:(لا أعلمُ على الأرضِ أعلمَ مِنْ محمَّدِ بنِ جريرٍ،
وكانَ من المجتهدينَ لا يُقَلِّدُ أحدًا، ولهُ أصحابٌ يتفقَّهونَ على
مذهَبِهِ ويأخذونَ بأقوالِهِ، وُلِدَ سنَةَ أربَعٍ وعشرينَ ومائتيْنِ؛
وماتَ لِيَوْمَيْنِ بَقِيَا مِنْ شَوَّالٍ سنَةَ عَشْرٍ وثلاثِمائةٍ).
قولُهُ: (عنْ سُفيانَ) الظاهِرُ: أنَّهُ سُفيانُ بنُ سعيدِ بنِ مسروقٍ الثوريُّ أبو عبدِ اللهِ الكُوفيُّ،
ثِقَةٌ حافِظٌ فقيهٌ إِمَامٌ عابِدٌ كانَ مجتهِدًا؛ ولهُ أتباعٌ
يتفقَّهونَ على مذهبِهِ، ماتَ سنَةَ إحْدَى وستِّينَ ومائةٍ، ولهُ أربعٌ
وستُّونَ سنَةً.
قولُهُ: (عنْ منصورٍ) هوَ ابنُ المعْتَمِرِ بنِ عبدِ اللهِ السُّلَمِيُّ، ثِقَةٌ ثَبَتٌ فقيهٌ، ماتَ سنَةَ اثنتيْنِ وثلاثينَ ومائةٍ.
قولُهُ: (عنْ مُجاهِدٍ) هوَ ابنُ جَبْرٍ-بالْجِيمِ وَالمُوَحَّدةِ-أبو الحجَّاجِ المخزوميُّ مَوْلاهُم المَكِّيُّ، ثِقَةٌ إمامٌ في التفسيرِ، أخذَ عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ماتَ سنَةَ أربَعٍ ومائَةٍ، قالَهُ يحيَى القطَّانُ، وقالَ ابنُ حِبَّانَ: (ماتَ سنةَ اثنتيْنِ أوْ ثلاثٍ ومائةٍ وهوَ ساجِدٌ، وُلِدَ سنَةَ إِحْدَى وعشرينَ في خلافةِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ).
قولُهُ: (كانَ يَلُتُّ لَهُم السَّويقَ، فماتَ، فَعَكَفُوا علَى قَبْرِهِ) في روايَةٍ: (فَيُطْعِمُ مَنْ يَمَرُّ مِن النَّاسِ؛ فلمَّا ماتَ عَبَدُوهُ وقالُوا: هُوَ اللاَّتُّ) رواهُ سعيدُ بنُ منصورٍ.
قالَ البخاريُّ: (حدَّثَنَا مسلِمٌ وهوَ ابنُ إبراهيمَ، حدَّثَنَا أبو الأشْهَبِ، حدَّثَنَا أبو الجوزاءِ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (كانَ اللاَّتُّ رَجُلاً يَلُتُّ سَويقَ الحَاجِّ).
قالَ ابنُ خُزَيْمَةَ:(وكذا العُزَّى، وكانَتْ شجرةً عليها بناءٌ وأستارٌ بنخلةَ، بينَ مَكَّةَ والطائِفِ، كانَتْ قريشٌ يُعَظِّمونَها، كما قالَ أبو سفيانَ يومَ أُحُدٍ: (لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لَكُم).
قُلْتُ: وفي البابِ حديثُ أبي هُريرةَ، وحديثُ حسَّانَ بنِ ثابِتٍ، فأمَّا حديثُ أبي هريرةَ فرواهُ أحمدُ، والتِّرمِذيُّ، وصحَّحَهُ، وحديثُ حسانَ، أخرجَهُ ابنُ مَاجَهْ، مِنْ روايَةِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ حَسَّانَ بنِ ثابتٍ، عنْ أبيهِ قالَ:((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ القُبور)).
وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ هذا في إسنادِهِ أبو صالِحٍ موْلَى أمِّ هانِئٍ، وقدْ ضعَّفَهُ بعضُهم ووثَّقَهُ بعضُهم.
قالَ عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ، عنْ يحيَى القطَّانِ:(لمْ أرَ أحدًا مِنْ أصحابِنا تَرَكَ أبَا صالحٍ موْلَى أمِّ هانِئٍ، وما سَمِعْتُ أحدًا من الناسِ يقولُ فيهِ شيئًا، ولمْ يترُكْهُ شُعْبَةُ، ولا زائِدَةُ، ولا عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ).
وقالَ ابنُ مَعِينٍ:(ليسَ بِهِ بأسٌ) ولهذا أخرَجَهُ ابنُ السَّكَنِ في (صحيحِهِ) انتَهى مِن (الذَهَبِ الإِبْرِيزِ) عن الحافظِ الْمِزِّيِّ.
وذكَرَ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ، ثمَّ قالَ: (ورِجَالُ هذا ليسَ رِجَالَ هذا، فلَمْ يأخُذْهُ أحدُهُما عن الآخَرِ).
وليسَ في الإِسناديْنِ منْ يُتَّهَمُ بالْكَذِبِ، ومثْلُ هذا حُجَّةٌ بلا رَيْبٍ.
وهذا منْ أَجْوَدِ الحَسَنِ الذي شَرَطَهُ التِّرمِذِيُّ؛ فإنَّهُ
جعَلَ الحسَنَ ما تعدَّدَتْ طُرُقُهُ ولمْ يكُنْ فيهِ مُتَّهَمٌ، ولمْ
يكُنْ شاذًّا؛ أيْ: مُخَالِفًا لما ثَبَتَ بِنَقْلِ الثِّقَاتِ.
وهذا الحديثُ تعدَّدتْ طرُقُهُ، وليسَ فيها متَّهَمٌ، ولا خالَفَهُ أحدٌ من
الثِّقاتِ، هذا لوْ كانَ عنْ صاحبٍ واحدٍ، فكيفَ إِذا كانَ هذا رَوَاهُ
عنْ صاحِبٍ وذاكَ عنْ آخَرَ؟
فهذا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أنَّ الحديثَ في الأصلِ معروفٌ.
والذينَ رخَّصُوا في الزيارةِ اعتَمَدوا على مَا رُوِيَ عنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها زارَتْ قبرَ أخِيها عبدِ الرحمنِ وقالَتْ: _(لَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ).
قلتُ: فعلى هذا لا حُجَّةَ فيهِ لمَنْ قالَ بالرُّخْصَةِ.
وهذا السياقُ لحديثِ عائشةَ، رواهُ الترمذيُّ، منْ روايَةِ عبدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيْكَةَ، عنها، وهوَ يُخَالِفُ سياقَ الأثرمِ لهُ، عنْ عبد اللهِ بنِ أبي مُلَيْكَةَ أيضًا، أنَّ عائشةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْبَلَتْ ذاتَ يومٍ من المَقَابِرِ، فقلتُ لها: يا
أُمَّ المؤمنينَ؛ أليسَ نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عنْ زيارةِ القبورِ؟
فقالَتْ: (نَعَم، نَهَى عنْ زيارةِ القبورِ، ثمَّ أمرَ بزيارَتِها).
فأجابَ شيخُ الإِسلامِ عنْ هذا وقالَ: (ولا حُجَّةَ في حديثِ عائشةَ؛ فإنَّ
المُحْتَجَّ عليها احتجَّ بالنهيِ العامِّ، فدفَعَتْ ذلكَ بأنَّ النَّهيَ
مَنْسُوخٌ، ولمْ يَذْكُرْ لها المحتجُّ النهيَ الخاصَّ بالنساءِ الذي فيهِ
لَعْنُهُنَّ على الزيارةِ، يُبَيِّنُ ذلكَ قولُها (قدْ أَمَرَ بزيارَتِها).
إذْ قدْ يكونُ قولُهُ:((لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ))بعدَ
إذْنِهِ للرجالِ في الزيارةِ، يدلُّ على ذلكَ أنَّهُ قَرَنَهُ
بالمُتَّخِذِينَ علَيْها المساجدَ والسُّرُجَ، ومعلومٌ أنَّ اتِّخَاذَ
المساجدِ والسُّرُجِ المنهيَّ عنهُ مُحْكَمٌ، كمَا دلَّتْ عليهِ الأحاديثُ
الصحيحةُ، وكذلكَ الآخَرُ.
ولوْ كانَ النساءُ داخلاتٍ في هذا الخطابِ لاسْتُحِبَّ لهنَّ الزيارةُ للقبورِ.
وما علِمْنَا أحدًا مِن الأئمَّةِ استَحَبَّ لهنَّ زيارةَ القبورِ، ولا
كانَ النساءُ على عهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وخلفائِهِ الراشدينَ يَخْرُجْنَ إلى زيارةِ القبورِ.
وإذا كانَتْ زيارةُ النساءِ مَظِنَّةً وسببًا للأمورِ المحرَّمَةِ؛ فإنَّهُ
لا يُمْكِنُ أنْ يُحَدَّ المقدارُ الذي لا يُفْضِي إلى ذلكَ؛ ولا التمييزُ
بينَ نوعٍ ونوعٍ.
ومِنْ أُصُولِ الشريعَةِ أنَّ الحِكْمَةَ إذا كانَتْ خَفِيَّةً أوْ
مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الحُكْمُ بمَظِنَّتِها؛ فيُحَرَّمُ هذا البابُ سدًّا
للذريعَةِ، كما حُرِّمَ النظرُ إلى الزِّينَةِ الباطنةِ، وكما حُرِّمَ
الخَلْوَةُ بالأجنبيَّةِ وغيرُ ذلكَ، وليسَ في ذلكَ من المصلحةِ ما
يُعَارِضُ هذهِ المفسدةَ؛ فإنَّهُ ليسَ في ذلكَ إلاَّ دُعَاؤُها للميِّتِ،
وذلكَ مُمْكِنٌ في بيتِها.
ومن العلماءِ مَنْ يقولُ: التَّشْيِيعُ كذلكَ، ويَحْتَجُّ بقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ؛ فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ)).
وقدْ عُلِمَ بالأحاديثِ الصحيحةِ أنَّ هذا العمومَ لمْ يتناول النساءَ؛
لنهيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ عن اتِّباعِ
الجنائزِ؛ فإذا لمْ يَدْخُلْنَ في هذا العمومِ فكذلكَ في ذلكَ بطريقِ
الأَوْلَى) انتَهَى ملخَّصًا.
قلتُ: ويكونُ الإِذنُ في زيارةِ القبورِ مخصوصًا للرجالِ، خُصَّ بقولِهِ: ((لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ)) الحديثَ، فيكونُ من العامِّ المخصوصِ.
فلا يَدُلُّ على نَسْخِ ما دلَّتْ عليهِ الأحاديثُ الثلاثةُ منْ لَعْنِ
زائراتِ القبورِ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ ذلكَ قبْلَ هذا النَّهْيِ الأكيدِ
والوعيدِ الشديدِ، واللهُ أعلمُ.
قالَ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ الصَّنْعَانِيُّ في كتابِ (تَطْهيرِ الاعتقادِ):
(والمَشَاهِدُ التي صارَتْ أعْظَمَ ذريعَةٍ إلى الشِّركِ والإِلحادِ
غالِبُ مَنْ يَعْمُرُها هم الملوكُ والسلاطينُ، إمَّا على قريبٍ لهم أوْ
على مَنْ يُحْسِنونَ الظنَّ فيهِ منْ فاضِلٍ أوْ عالِمٍ، ويزورُهُ الناسُ
الذينَ يعرفونَهُ زيارةَ الأمواتِ منْ دُونِ توسُّلٍ بهِ ولا هَتْفٍ
باسمِهِ، بلْ يَدْعُونَ لهُ ويَسْتَغْفِرُونَ، حتَّى يَنْقَرِضَ مَنْ
يعرِفُهُ أوْ أكثرُهُم، فيأتي مِنْ بَعْدِهِمْ مَنْ يرَى قبرًا قَدْ
شُيِّدَ عليهِ البناءُ، وسُرِّجَتْ عليهِ الشمُّوعُ، وفُرِشَ بالفراشِ
الفاخِرِ، فيَعْتَقِدُ أنَّ ذلكَ لِنَفْعٍ أوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وتأتيهِ
السَدَنَةُ يَكْذِبونَ على الميِّتِ بأنَّهُ فعَلَ وفعَلَ، وأَنْزَلَ
بفلانٍ الضُّرَّ وبفلانٍ النفعَ، حتَّى يَغْرِسوا في جِبِلَّتِهِ كلَّ
باطِلٍ. والأمرُ ما ثَبَتَ في الأحاديثِ النبويَّةِ مِنْ لَعْنِ مَنْ
سَرَّجَ على القبورِ وكَتَبَ عليها وبَنَى عليْهَا.
ومنهُ تَعْلَمُ مُطَابَقَةَ الحديثِ للترجمةِ، واللهُ أعلمُ.
قولُهُ: ((وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ)) تقدَّمَ شَرْحُهُ في البابِ قبلَهُ.
قولُهُ: ((السُّرُجَ)) قالَ أبو محمَّدٍ المقْدِسِيُّ:(لوْ
أُبِيحَ اتِّخاذُ السُّرُجِ عليها لمْ يُلْعَنْ مَنْ فعَلَهُ؛ لأنَّ فيهِ
تضييعًا للمالِ في غيرِ فائدةٍ، وإفراطًا في تعظيمِ القبورِ أشبَهَ تعظيمَ
الأصنامِ).
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ تعالَى: (اتِّخاذُها مساجِدَ وإيقادُ السُّرُجِ عليها من الكبائِرِ).
قولُهُ: (رواهُ أهْلُ السُّنَنِ) يعني: أبَا داودَ والتِّرمذيَّ وابنَ مَاجَهْ فقطْ، ولمْ يَرْوِهِ النَّسائِيُّ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): (نَهَى عن أقْوالٍ وأفْعالٍ فيها الغُلُوُّ بالمَخْلُوقِينَ،
ونَهَى عَنِ التَّشَبُّهِ بالمُشْرِكِينَ؛ لأنَّه يَدْعُو إلى المَيْلِ إِلَيْهِم، وَنَهَى عَن أَقْوَالٍ وأفعالٍ يُخْشَى أنْ يُتَوَصَّلَ بِهَا إلى الشِّرْكِ؛ كُلُّ ذلك حمايةً للتَّوْحيدِ، ونَهَى عن كلِّ سَبَبٍ يُوصِلُ إلى الشِّرْكِ، وذلك رَحْمَةً بالمُؤْمِنينَ ليَتَحَقَّقُوا بالقيامِ بِمَا خُلِقُوا له من عُبُودِيَّةِ اللهِ الظاهرةِ والباطنةِ وتكْمِيلِها لتَكْمُلَ لَهُم السَّعَادَةُ والفَلاَحُ.
وشَوَاهِدُ هذِه الأمورِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
هذا البابُ له صِلةٌ بما قَبْلَهُ: وهو أنَّ الغُلُوَّ في قبورِ الصَّالحينَ يُصَيِّرُها أوثانًا تُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، أيْ: يَؤُولُ الأمرُ بالغالِين إلى أنْ يَعْبُدُوا هذه القبورَ أو أصحابَها. والغُلُوُّ: مُجاوَزةُ الحدِّ مَدْحًا أو ذَمًّا، والمرادُ هنا: مَدْحًا. والقبورُ لها حقٌّ علينا مِنْ وجهَيْن: الأول: أن لا نُفَرِّطَ فيما يَجِبُ لها مِن الاحترامِ، فلا تَجُوزُ إهانَتُها، ولا الجُلوسُ عَلَيْهِا، وما أَشْبَهَ ذلِكَ. الثاني: أنْ لا نَغْلُوَ فيها، فنَتَجاوَزَ الحَدَّ. وفي (صَحيحِ مُسْلِمٍ) قال عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ لأَِبي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ: (ألا أَبْعَثُكَ على ما بَعَثَني عَلَيْهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:((أن لا تَدَعَ تِمْثالاً إلا طَمَسْتَه، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَه)) وفي رِوايةٍ: ((ولا صُورةً إلا طَمَسْتَها)). والقبرُ المُشْرِفُ: هو الَّذي يَتَمَيَّزُ عَنْ سائرِ القبورِ، فلا
بُدَّ أنْ يُسَوَّى لِيُسَاوِيَها؛ لِئلاَّ يُظَنَّ أنَّ لِصاحبِ هذا
القبرِ خُصوصيَّةً ولو بَعْدَ زَمَنٍ؛ إذ هو وَسيلةٌ إلى الغُلُوِّ فيه. (2) قولُهُ: ((اللهُمَّ)) أصلُها: يا اللهُ،
فحُذِفَتْ (يا) النَّداءُ؛ لأجلِ البَدَاءةِ باسمِ اللهِ، وعُوِّضَ عنها
الميمُ الدَّالَّةُ على الجمعِ، فكأنَّ الدَّاعِيَ جَمَعَ قلبَه على اللهِ،
وكانَتِ الميمُ في الآخِرِ لأجلِ البَدَاءةِ باسمِ اللهِ. (3) قولُه: ((اشْتَدَّ)) أي: عَظُمَ. (4) قولُهُ: ((اتَّخَذُوا قُبورَ أَنبِيائِهِم مَساجِدَ))
أي: جَعَلُوها مَساجدَ، إما بالبِناءِ عَلَيْهِا، أو بالصَّلاةِ عِنْدَها،
فالصَّلاةُ عندَ القبورِ مِن اتِّخاذِها مَساجدَ، والبناءُ عَلَيْهِا مِن
اتِّخاذِها مَساجدَ. وهنا
نَسْأَلُ هل اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوةَ نبيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- بأنْ لا يَجْعَلَ قَبْرَه وثنًا يُعْبَدُ؟ أم اقْتَضَتْ
حِكْمَتُه غيرَ ذلِكَ؟ الجوابُ: يقولُ ابنُ القَيِّمِ: (إن
اللهَ اسْتَجَابَ له، فلم يُذْكَرْ أنَّ قَبرَه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- جُعِلَ وَثنًا، بل إنّه حُمِيَ بثلاثةِ جُدْرانٍ، فلا أحدَ يصلُ
إليه حتَّى يَجْعَلَه وثنًا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، ولم يُسْمَعْ في
التَّارِيخِ أنَّه جُعِلَ وثنًا). فأَجَاب رَبُّ العالَمِين دُعاءه وأَحـَاطـَه بـِثـلاثــةِ الجُدْرانِ صحيحٌ أنَّه يُوجَدُ أُناسٌ يَغْلُون فيه،
ولكنْ لم يَصِلُوا إلى جَعْلِ قبرِه وثنًا، ولكنْ قد يَعْبُدُون الرَّسولَ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ولو في مَكانٍ بعيدٍ، فإنْ وُجِدَ مَنْ
يَتَوَجَّهُ له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بِدُعائِهِ عِنْدَ قبرِهِ
فيَكونُ قد اتَّخَذَه وثنًا، لكنَّ القبرَ نفسَه لم يُجْعَلْ وثنًا. (6) قولُه: (ولابنِ جَرِيرٍ) هو: مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرِ بنِ يَزِيدَ الطَّبَرِيُّ الإمامُ المشهورُ في التَّفْسِيرِ، تُوُفِّيَ سنة (310هـ). (7) قَولُهُ: (عن سُفْيانَ) إمَّا سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، أو ابنُ عُيَيْنَةَ، وهذا مُبْهَمٌ، والمُبْهَمُ يُمْكِنُ معرفتُه بمعرفةِ شيوخِه وتلاميذِه، وفي الشَّرحِ -أَعْنِي (تَيْسيرَ العزيزِ الحميدِ)- يَقولُ: الظَّاهرُ: (أنَّه الثَّوْرِيُّ). (8) قولُهُ: (عَنْ مُجاهِدٍ) هو: مُجاهِدُ بنُ جَبْرٍ المَكِّيُّ إمامُ المُفسِّرينَ مِن التَّابعِينَ، ذُكِرَ عنه أنَّه قالَ: (عَرَضْتُ المُصْحَفَ على عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عنهما- مِنْ فاتِحتِه إلى خاتِمتِه، فما تَجاوَزْتُ آيةً إلا وَقَفْتُ عندَها أَسْألُهُ عَنْ تفسيرِها). (9) قولُهُ: {أَفَرَأَيْتُمُ}الهَمْزةُ: للاستفهامِ، والمرادُ بِه التَّحْقِيرُ، والخِطابُ لِعابِدِي هذه الأصنامِ اللاَّتِ والعُزَّى.. إلخ. وفي هذا: التَّحذيرُ مِن الغُلُوِّ في القُبورِ،
ولهذا نُهِيَ عن تَجْصِيصِها والبِناءِ عَلَيْهِا والكِتابةِ عَلَيْهِا
خَوْفًا مِنْ هذا المَحْظورِ العظيمِ الَّذي يَجْعَلُها تُعْبَدُ مِنْ دونِ
اللهِ، وكانَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَأْمُرُ إذا
بَعَثَ بَعْثًا: بأن لا يَدَعُوا قبرًا مُشْرِفًا إلاَّ سَوَّوْه؛ لِعلمِه
أنَّه مَعَ طولِ الزَّمانِ سيُقالُ: لولا أنَّ له مَزِيَّةً ما اخْتَلَفَ
عَن القبورِ، فالذي يَنْبَغِي أنْ تكونَ القبورُ مُتَساوِيةً، لا مِيزَةَ
لواحدٍ مِنْها عَن البقيَّةِ. (10) قولُهُ: (السَّوِيقَ) هو: عِبارةٌ عَن الشَّعِيرِ يُحَمَّصُ، ثم يُطْحَنُ، ثُمَّ يُخْلَطُ بتَمْرٍ أو شَبَهِه، ثُمَّ يُؤْكَلُ. (11) وقولُهُ: (كانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ، فماتَ، فَعَكَفُوا علَى قَبْرِهِ) يَعْنِي: ثُمَّ عَبَدُوه وجَعَلُوه إلهًا مع اللهِ. (12) قولُهُ: (وكذا قالَ أبو الجَوْزاءِ عَن ابنِ عَبَّاسٍ: كَان يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلحاجِّ)والغَرِيبُ: أنَّ النَّاسَ في جاهِلِيَّتِهم يُكْرِمُون حُجَّاجَ بيتِ اللهِ، ويَلُتُّون لهم السَّوِيقَ، وكانَ العَبَّاسُ
-أيضًا- يَسْقِي لهم مِنْ زَمْزَمَ، ورُبَّما يَجْعَلُ في زَمْزَمَ
نَبِيذًا يُحَلِّيه؛ زَبِيبًا أو نحوَه، وفي الوقتِ الحاضرِ صارَ النَّاسُ
بالعكسِ يَسْتَغِلُّونَ الحُجَّاجَ غايةَ الاسْتِغْلالِ-والعِياذُ باللهِ-،
حتَّى يَبِيعُوا عَلَيْهِم ما يُساوِي رِيالاً برِيالَين وأَكْثَرَ،
حَسَبَ ما يَتَيَسَّرُ لهم، وهذا في الحقيقةِ خَطَأٌ عظيمٌ؛ لأنَّ اللهَ
تعالى يَقولُ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. فكيفَ بِمَنْ يَفْعَلُ الإلحادَ؟! (13) قولُهُ: ((لَعَن)) اللَّعْنُ: هو الطَّردُ والإبعادُ عن رَحمةِ اللهِ، ومعنى لَعَنَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أيْ: دَعا عَلَيْهِم باللَّعنةِ. منها ما هو سُنَّةٌ: وهي زِيارةُ الرِّجالِ؛ للاتِّعاظِ والدُّعاءِ لِلموتَى. ومنها ما هو بِدْعَةٌ: وهي زِيارتُهم لِلدُّعاءِ عندَهم، وقِراءةِ القرآنِ ونحوِ ذلك. ومنها ما هو شِرْكٌ: وهي زِيارتُهم؛ لِدعاءِ الأمواتِ والاسْتِنْجادِ بهم والاستغاثةِ ونحوِ ذلك. وزائرٌ: اسمُ فاعلٍ يَصْدُقُ بالمرَّةِ الواحدةِ، وفي حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: ((لَعَن رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ زَوَّاراتِ القُبورِ)) بتَشْديدِ الواوِ، وهي صِيغةُ مُبالغةٍ تَدُلُّ على الكَثْرةِ، أي: كَثْرةِ الزِّيارةِ. (14) قولُهُ: ((والمُتَّخِذِين عَلَيْهِا المَساجِدَ)) هذا الشَّاهِدُ مِن الحديثِ، أي: الذين يَضَعُون عَلَيْهِا المساجدَ. الأولى: أنْ يَتَّخِذَها مُصَلًّى يُصَلِّي عندَها. الثانية: بِناءُ المساجدِ عَلَيْهِا. قولُهُ: ((والسُّرُجَ)) جمعُ سِراجٍ، تُوقَدُ عَلَيْهِا السُّرُجُ ليلاً ونهارًا؛ تَعْظِيمًا وغُلُوًّا فيها. ومناسبة الحديث للباب: أنَّ اتِّخاذَ المساجدِ عَلَيْهِا وإسْراجَها غُلُوٌّ فيها فيُؤَدِّي بَعْدَ ذلِكَ إلى عِبادتِها. مسألةٌ: ما هِيَ الصِّلةُ بَيْنَ الجُمْلةِ الأُولَى: ((زائِراتِ القبورِ))، والجملةِ الثانيةِ: ((المُتَّخِذِين عَلَيْهِا المَساجدَ والسُّرُجَ))؟ الصِّلةُ بَيْنَهُمَا ظاهرةٌ: هي
أنَّ المَرْأةَ لِرِقَّةِ عاطفتِها، وقِلَّةِ تَمْييزِها، وضَعْفِ
صَبْرِها ربَّما تَعْبُدُ أصحابَ القبورِ تَعَطُّفًا على صاحبِ القبرِ،
فلهذا قَرَنَها بالمُتَّخِذِين عَلَيْها المساجدَ والسُّرُجَ. وهَلْ يَدْخُلُ في اتِّخاذِ السُّرُجِ على المَقابرِ ما لو وُضِعَ فيها مَصابِيحُ كَهْرَباءَ لإنارتِها؟ الجوابُ: أمّا في المَواطِنِ الَّتي لا يَحْتاجُ النَّاسُ إليها كَمَا لو كانَت المَقْبَرةُ واسِعةً،
وفيها مَوْضِعٌ قد انْتَهَى النَّاسُ مِن الدَّفْنِ فيهِ، فلا حاجةَ إلى
إسْراجِه فلا يُسْرَجُ، أمَّا الموضعُ الذي يُقْبَرُ فيهِ فيُسْرَجُ ما
حولَه فَقَدْ يُقالُ بجَوازِه؛ لأنَّها لا تُسْرَجُ إلا باللَّيلِ،
فَلَيْسَ في ذلِكَ ما يَدُلُّ على تعظيمِ القبرِ، بَل اتُّخِذَتْ لِلحاجةِ. ولكن الَّذي نَرَى أنَّه يَنْبَغِي المَنْعُ مُطْلَقًا للأسبابِ التَّاليةِ: الأول: أنَّه لَيْسَ هناك ضَرورةٌ. الثاني: أنَّ النَّاسَ إذا وَجَدوا ضَرورةً لذلِكَ،
فعندَهم سَيَّاراتٌ يُمْكِنُ أنْ يُوقِدُوا الأَنْوارَ الَّتي فيها،
ويَتَبَيَّنَ لهم الأمرُ، ويُمْكِنُهم أنْ يَحْمِلُوا سِراجًا مَعَهم. الثالث: أنَّه إذا فُتِحَ هذا البابُ فإنَّ الشَّرَّ سَيَتَّسِعُ في قلوبِ النَّاسِ،
ولا يُمْكِنُ ضَبْطُه فيما بعدُ، فلو فَرَضْنا أنَّهم جَعَلوا المِصْباحَ
بعدَ صلاةِ الفَجْرِ، ودَفَنُوا المَيِّتَ، فمَنْ الذي يَتَوَلَّى قَفْلَ
هذهِ الإضاءةِ؟ الجوابُ: قد تُتْرَكُ، ثم يَبْقَى كأنَّه مُتَّخَذٌ عَلَيْهِا السُّرُجُ، فالَّذي نَرَى: أنَّه يُمْنَعُ نِهائيًّا أمَّا إذا كانَ في المَقْبرةِ حُجْرةٌ يُوْضَعُ فيها اللَّبِنُ ونحوَه، فلا
بأسَ بإضاءَتِهَا؛ لأنَّها بعيدةٌ عَن القبورِ، والإضاءةُ داخلةٌ لا
تُشاهَدُ، فهذا نَرْجُو أنْ لا يكونَ بهِ بأسٌ. والمُهِمُّ: أنََّ وَسائلَ الشِّركِ يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يَبْتَعِدَ عنها ابْتِعادًا عظيمًا، ولا يُقَدِّرَ لِلزَّمَنِ الذي هُوَ فيه الآنَ، بَلْ يُقَدِّرَ لِلأزمانِ البعيدةِ، فالمسألةُ لَيْسَتْ هَيِّنةً. القولُ الأوَّلُ: تحريمُ زِيارةِ النِّساءِ لِلقبورِ، بَلْ إنَّها مِنْ كَبائرِ الذُّنوبِ لهذا الحديثِ. القولُ الثاني: كَرَاهةُ زِيارةِ النِّساءِ للقبورِ كَراهةً لا تَصِلُ إلى التَّحْريمِ، وهذا هو المَشْهورُ مِنْ مَذْهبِ أحمدَ عِنْدَ أصحابِهِ لحديثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: ( نُهِينا عَن اتِّباعِ الجَنائِزِ، ولم يُعْزَمْ عَلَيْنا). القولُ الثالثُ: أنَّها تَجوزُ زِيارةُ النِّساءِ لِلقبورِ؛ لحديثِ: المرأةِ الَّتي مَرَّ النَّبيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بها وهي تَبْكِي عِنْدَ قبرٍ فقالَ لَها:((اتَّقِي اللهَ واصْبِرِي))فقالَتْ
له: إِلَيْكَ عَنِّي، فإنَّك لم تُصَبْ بِمِثْلِ مُصِيبَتِي، فانْصَرَفَ
الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- عنها فَقِيلَ لها: هَذَا
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ
تَعْتَذِرُ، فلم يَقْبَلْ عُذْرَها وقالَ: ((إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)). ورَأَيْتُ قَوْلاً رَابِعًا: أنَّ زِيارةَ النِّساءِ لِلقُبورِ سُنَّةٌ كَالرِّجالِ لِقولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّها تُذَكِّرُكُم الآَخِرَةَ)) وهذا عامٌّ لِلرِّجالِ والنِّساءِ. والصَّحيحُ القولُ الأوَّلُ: ويُجَابُ عَنْ أَدِلَّةِ الأقوالِ الأُخرى بأنَّ الصَّرِيحَ منها غيرُ صحيحٍ، والصَّحيحَ غيرُ صريحٍ؛ فمِن ذلك: أوَّلاً: دَعْوَى النَّسْخِ غيرُ صحيحةٍ؛ لأنَّها لا تُقْبَلُ إلا بشَرْطَين: الأول: تَعَذُّرُ الجمعِ بينَ النَّصَّينِ، والجمعُ -هنا- سَهْلٌ وليسَ بمُتَعَذِّرٍ؛ لأنَّه يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ الخِطابَ في قولِهِ: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوها)) لِلرِّجالِ، والعلماءُ اخْتَلَفُوا فيما إذا خُوطِبَ الرِّجالُ بحُكْمٍ هَلْ يَدْخُلُ فيه النِّساءُ أو لا؟ وعلى هذا يَجوزُ أنْ يُخَصَّصَ بَعْضُ أفرادِ العامِّ بحُكْمٍ يُخالِفُ العامَّ،
وهنا نَقولُ: قدْ خَصَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ
النِّساءَ مِنْ هذا الحُكْمِ، فأَمْرُهُ بالزِّيارَةِ لِلرَّجلِ فَقَطْ؛
لأنَّ النِّساءَ أُخْرِجْنَ بالتَّخْصِيصِ مِنْ هذا العُمومِ بِلَعْنِ
الزَّائِراتِ. الثاني: العلمُ بالتَّارِيخِ، وهنا
لم نَعْلَمْ بالتَّارِيخِ؛ لأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- لم يَقُلْ: كُنْتُ لَعَنْتُ مَنْ زارَ القُبورَ، بَلْ قال:
كُنْتُ نَهَيْتُكُم، والنَّهْيُ دونَ اللَّعْنِ. وثانيًا: الجوابُ عَنْ حديثِ المرأةِ وحديثِ عائشةَ: - أنَّ المرأةَ لم تَخْرُجْ لِلزِّيارةِ قَطْعًا:
لكنَّها أُصِيبَتْ ومِنْ عِظَمِ المُصِيبةِ عَلَيْهِا لم تَتَمالَكْ
نَفْسَها لِتَبْقَى في بيتِها، ولذلِكَ خَرَجَتْ وجَعَلَتْ تَبْكِي عندَ
القبرِ ممَّا يَدُلُّ على أنَّ في قلبِها شيئًا عظيمًا لم تَتَحَمَّلْه
حتَّى ذَهَبَتَ إلى ابْنِها وجَعَلَتْ تَبْكِي عِنْدَ قبرِهِ، ولهذا
أَمَرَهَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أنْ تَصْبِرَ؛ لأنَّه عَلِمَ
أنَّها لم تَخْرُجْ لِلزِّيارةِ، بَلْ خَرَجَتْ لِمَا في قلبِها مِنْ
عَدَمِ تَحَمُّلِ هذه الصَّدْمةِ الكبيرةِ، فالحديثُ ليس صَرِيحًا بأنَّها
خَرَجَتْ للزِّيارةِ، وإذا لم يَكُنْ صَرِيحًا فلا يُمْكِنُ أنْ يُعَارَضَ
الشَيْءُ الصَّرِيحُ بشَيْءٍ غيرِ صَرِيحٍ. وأمَّا فِعْلُها مع أَخِيها -رَضِيَ اللهُ عنهما-: فإنَّ فعلَها مع أَخِيها لم يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِا عبدُ اللهِ بنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
بَلَعْنِ زائِراتِ القُبُورِ، وإنَّما اسْتَدَلَّ عَلَيْهِا بالنَّهْيِ
عَنْ زِيارةِ القبورِ؛ لأنَّه لو اسْتَدَلَّ عَلَيْهِا بالنَّهْيِ عَنْ
زِيارةِ النِّساءِ للقبورِ، أو بلَعْنِ زائراتِ القبورِ، لكنَّا نَنْظُرُ
بماذا سَتُجِيبُه؟ في قولِه: ((زَوَّاراتِ القبورِ)) ألاَ يُمْكِنُ أنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ على تَكرارِ الزِّيارةِ؛ لأنَّ ((زَوَّاراتِ)) صيغةُ مُبالَغةٍ؟ الجوابُ: هذا مُمْكِنٌ، لكنَّنا إذا حَمَلْناه على ذلِكَ فإنَّنا أَضَعْنَا دَلالةَ المُطْلَقِ ((زائِراتِ)). فلمَّا كانَت الأبوابُ كَثِيرةً كانَ فيها التَّضْعِيفُ؛ إذْ البابُ لا يُفْتَحُ إلا مَرَّةً واحِدةً، و-أيضًا- قِراءةُ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِّحَتْ} فهِيَ مِثلُها. فيه مسائلُ: (15) الأُولَى: (تفسيرُ الأوثانِ) وهي: كلُّ ما عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ سَواءٌ كانَ صَنَمًا أو قبرًا أو غيرَه. (16) الثانيةُ: (تفسيرُ العبادةِ) وهي: التَّذلُّلُ والخُضوعُ للمعبودِ خوفًا ورَجاءً ومَحبَّةً وتعظيمًا لِقولِهِ:((لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعْبَدُ)). (17) الثالثةُ: (أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لم يَسْتَعِذْ إلا ممَّا يَخافُ مِنْ وقوعِهِ) وذلِكَ في قولِهِ: ((اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعْبَدُ)). (18) الرابعةُ: (قَرْنُه بهذا اتِّخاذَ قبورِ الأنبياءِ مساجدَ) وذلِكَ في قولِهِ: ((اشْتدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)). (19) الخامسةُ: (ذِكْرُ شِدَّةِ الغضبِ مِن اللهِ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ)). وفيه: إثباتُ الغضبِ مِن اللهِ حقيقةً، لكنَّه كغيرِهِ مِن صِفاتِ الأفعالِ الَّتي نَعْرِفُ معناها ولا نَعْرِفُ كَيْفيَّتَها. وفيه أنَّه يَتَفَاوَتُ: كما ثبتَ في الحديثِ الصحيحِ حديثِ الشفاعةِ:((إِنَّ رَبِّي غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغضبْ مثلَه قَبْلَهُ ولا بعدَهُ)). (20) السَّادسةُ: (وهِيَ مِنْ أَهَمِّها معرفةُ صِفةِ عِبادةِ اللاَّتِ الَّتي هِيَ مِنْ أكبرِ الأوثانِ) وذلِكَ في قولِهِ: ((فَمَاتَ فعَكَفُوا عَلَى قَبْرِه)). (21) السَّابعةُ: (مَعرفةُ أنَّه قبرُ رجلٍ صالحٍ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: (كانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ) أي: للحُجَّاجِ؛ لأنَّه مُعَظَّمٌ عندَهم، والغالِبُ لا يَكونُ مُعَظَّمًا إلا صاحبُ دِينٍ. (22) الثَّامنةُ: (أنَّه اسمُ صاحبِ القبر، وذكْرُ مَعْنى التَّسميةِ) وهو أنَّه كانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ. (23) التَّاسعةُ: (لَعْنُهُ زَوَّاراتِ القبورِ) أيْ: النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وذَكَرَ -رَحِمَهُ اللهُ- لفظَ: ((زَوَّاراتِ القبورِ)) مُراعاةً للَّفْظِ الآخَرِ. (24) العاشرةُ: (لعْنُهُ مَنْ أَسْرَجَها) وذلِكَ في قولِهِ:((والمُتَّخِذِين عَلَيْهِا المَسَاجِدَ والسُّرُجَ)). أنَّ الغُلُوَّ في قبورِ الصَّالحينَ يُصَيِّرُها أوثانًا،
كما في قبرِ اللاَّتِ، وهذِهِ مِنْ أَهَمِّ المسائلِ، ولم يَذْكُرْها
المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- ولعلَّهُ اكْتَفَى بالتَّرْجَمةِ عَنْ هذهِ
المسألةِ بما حَصَلَ للاَّتِ، فإذا قِيلَ بذلِكَ فَلَهُ وَجْهٌ.
قولُهُ: (الصَّالحين) يَشْمَلُ الأنبياءَ والأولياءَ، بل ومَنْ دونَهم.
قولُه: (أوثانًا) جَمْعُ وَثَنٍ: وهو كلُّ ما نُصِبَ لِلعِبادةِ، وقد يُقالُ له: صَنَمٌ، والصَّنَمُ: تِمْثالٌ مُمَثَّلٌ، فيَكونُ الوَثَنُ أَعَمَّ.
ولكنَّ ظاهرَ كَلامِ المؤلِّفِ: (أنَّ كلَّ ما يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ
يُسَمَّى وَثنًا، وإنْ لم يَكُنْ على تِمْثالٍ نُصِبَ؛ لأنَّ القبورَ قَدْ
لا يَكونَ لها تِمْثالٌ يُنْصَبُ على القبرِ فيُعْبَدَ).
قولُه: (تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ) أيْ: مِنْ غيرِهِ، وهو شاملٌ لِما
إذا عُبِدَتْ وحدَها، أو عُبِدَتْ مَعَ اللهِ؛ لأنَّ الواجبَ في عِبادةِ
اللهِ إفرادُه فيها، فإذا قُرِنَ بها غيرُه صارَتْ عِبادةً لغيرِ اللهِ،
وقد ثَبَتَ في الحديثِ القُدُسِيِّ أنَّ اللهَ -تعالى- يَقولُ: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَن الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ)).
قولُهُ: ((لا تَجْعَلْ قَبْرِيَ وَثَنًا يُعْبَدُ)) لا: للدُّعاءِ؛ لأنَّها طَلبٌ مِن اللهِ، وتَجْعَلْ: تُصَيِّرْ.
والمفعولُ الأوَّلُ لها: ((قَبْرِي))والثاني:((وَثنًا)).
وقولُهُ: ((يُعْبَدُ))صِفةٌ لوَثَنٍ وهي صِفةٌ كاشفةٌ؛ لأنَّ الوَثَنَ هو: الذي يُعبَدُ مِنْ دونِ اللهِ.
وإنمَّا سَأَلَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ذلِكَ؛ لأنَّ
مَنْ كانَ قَبْلَنا جَعَلوا قُبورَ أنبيائِهِم مَسَاجِدَ، وعَبَدُوا
صالحِيهم، فسَأَلَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- رَبَّه ألاَّ
يَجْعَلَ قَبْرَه وَثنًا يُعْبَدُ؛ لأَِنَّ دَعْوتَه كلَّها بالتوحيدِ
ومُحارَبةِ الشِّركِ.
قولُهُ: ((غَضَبُ اللهِ)) صِفةٌ حقيقيةٌ ثابتةٌ للهِ -عزَّ وجلَّ- لا تُماثِلُ غَضَبَ المَخْلوقين، لا في الحقيقةِ ولا في الأَثَرِ.
قال ابنُ القَيِّمِ في (النُّونِيَّةِ):
و(تفسيرُه): هو أصلُ التفسيرِ بالأَثَرِ، ومَرْجِعٌ لجميعِ المُفَسِّرِينِ بالأَثَرِ.
لمَّا ذَكَرَ اللهُ -تعالى- قِصَّةَ المِعْراجِ، وما حَصَلَ فيهِ مِن الآياتِ العظيمةِ الَّتي قالَ عَنْها: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.
قالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} أي: ما نِسبةُ هذِهِ الأصنامِ للآياتِ الكبيرةِ الَّتي رَآها النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ليلةَ المِعْراجِ.
قولُهُ: {اللاَّتَّ}((كانَ يَلُتُّ لَهُمُ..)) إلخ على قِراءةِ التَّشْديدِ مِنْ لَتَّ يَلُتُّ فهو لاتٌّ.
أمَّا على قِراءةِ التَّخفيفِ فوجهُها أنَّها خُفِّفَتْ لِتَسْهيلِ الكلامِ، أيْ: حُذِفَ منها التَّضعيفُ تَخْفِيفًا.
وقَدْ سَبَقَ أنَّهم قالوا: إنَّ اللاَّتَ
مِن الإلَهِ وأصلُه رجلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلحُجَّاجِ، فلمَّا ماتَ
عَظَّمُوه وعَكَفُوا على قبرِهِ ثُمَّ جَعَلُوه إلهًا، وجَعَلُوا
التَّسميةَ الأُولَى مُقْتَرِنةً بالتَّسميةِ الأخيرةِ، فيَكونُ أصلُه مِنْ
لَتِّ السَّوِيقِ، ثُمَّ جَعَلوه مِن الإلَهِ، وهذه على قِراءةِ
التَّخِفيفِ أَظْهَرُ مِن التَّشديدِ، فالتَّخفيفُ يُرَجِّحُ أنَّه مِن
الإلَهِ، والتَّشديدُ يُرَجِّحُ أنَّ أصلَهُ رجلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ.
وغَلَوْا في قبرِهِ وقَالُوا: هذا الرَّجُلُ المُحْسِنُ الذي يَلُتُّ
السَّوِيقَ لِلحُجَّاجِ ويُطْعِمُهُم إيَّاه، ثُمَّ بعدَ ذلِكَ عَبَدُوه،
فصارَ الغُلُوُّ في القبورِ يُصَيِّرُها أوثانًا تُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ.
قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) (1/191): (قال
شيخنا: وهذه العلة التي لأجلها نهي الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي
التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك،
فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم
للكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس
من الشرك بخشبة أو حجر.
ثم قال: فلأجل هذه المفاسد حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها؛ حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً) .
قولُهُ: ((زائِراتِ القُبورِ))زائراتِ: جَمعُ زائرةٍ، والزيارةُ هنا: معناها: الخروجُ إلى المَقابرِ.
وهيَ أنواعٌ:
وقد سَبَقَ أنَّ اتِّخاذَ المَساجدِ له صُورتان:
وهذا الحديثُ يَدُلُّ على تَحْريمِِ زِيارةِ النِّساءِ لِلقبورِ، بَلْ على
أنَّه مِنْ كبائرِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ اللَّعنَ لا يَكونُ إلا على كبيرةٍ،
ويَدُلُّ على تَحْريمِ اتِّخاذِ المساجدِ والسُّرُجِ عَلَيْهِا، وهو كبيرةٌ
مِنْ كبائرِ الذُّنوبِ لِلَعْنِ فاعلِهِ.
وفي الحديثِ ما يَدُلُّ على تَحْريمِ زِيارةِ النِّساءِ للقبورِ، وأنَّها مِن كَبائرِ الذُّنوبِ، والعلماءُ اخْتَلَفُوا في ذلِكَ على ثلاثةِ أقوالٍ:
فالنَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- شاهَدَها عِنْدَ القبرِ ولم
يَنْهَها عَن الزِّيارةِ، وإنَّما أَمَرَها أنْ تَتَّقِيَ اللهَ وتَصْبِرَ.
ولِمَا ثَبَتَ في (صحيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ حَديثِ عائِشةَ الطَّوِيلِ.
وفيهِ: أنَّ
النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -خَرَجَ إلى أَهْلِ البَقِيعِ
في اللَّيْلِ واسْتَغْفَرَ لَهُم ودَعَا لَهُم، وأنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ في
اللَّيْلِ وأمَرَهُ فَخَرَجَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-
مُخْتَفِيًا عَنْ عائِشةَ، وزَارَ ودَعَا ورَجَعَ ثُمَّ أَخْبَرَها الخَبْرَ فقَالَتْ: ما أَقُولُ لَهُم يا رَسُولَ اللهِ؟
قالَ قُولِي:((السَّلامُ عَلَيْكُم يا أَهْلَ الدِّيارِ مِن المُؤْمِنِينَ والمُسْلِمِينَ.. إلخ)).
قالوا: فَعَلَّمَها النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- دُعاءَ زِيارةِ القُبورِ، وتَعْلِيمُه هذا دَليلٌ على الجَوَازِ.
وأنَّ عائِشةَ -رَضِيَ اللهُ عنها- زارَتْ قبرَ أخِيها، فقالَ لها عبدُ اللهِ بنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ألَيْسَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قد نَهَى عن زِيارةِ القُبورِ؟
قالَتْ: (إنَّه أَمَرَ بِها بَعْدَ ذلِكَ) وهذا دَلِيلٌ على أنَّه مَنْسُوخٌ.
وإذا قُلْنا بالدُّخولِ -وهو الصَّحيحُ- فإنَّ دُخولَهُنَّ في هذا الخِطابِ مِنْ بابِ دُخولِ أفرادِ العامِّ في العُمُوم.
و-أيضًا- ممَّا يُبْطِلُ النَّسْخَ قولُهُ: ((لَعَن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ زائِراتِ القُبورِ، والمُتَّخِذِين عَلَيْهِا المَساجِدَ والسُّرُجَ)) ومِن المَعْلومِ أنَّ قولَهُ: ((والمُتَّخِذِين عَلَيْهِا المساجِدَ والسُّرُجَ))لا
أَحَدَ يَدَّعِي أنه مَنْسُوخٌ، والحديثُ واحِدٌ، فادِّعاءُ النَّسْخِ في
جانبٍ منه دونَ آخَرَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وعلى هذا يَكُونُ الحديثُ
مُحْكَمًا غيرَ مَنْسوخٍ.
وأيضًا: فإنَّ قولَه: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُم))
خِطابٌ لِلرِّجالِ، ولَعْنُ زائِراتِ القبورِ خِطابٌ للنِّساءِ، فلا
يُمْكِنُ حَمْلُ خِطابِ الرِّجالِ على خِطابِ النِّساءِ، إذًا فالحديثُ لا
يَصِحُّ فيه دَعْوَى النَّسْخِ.
وأمَّا حديثُ عائشةَ:فإنَّها قالَتْ للرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((ماذا أَقُولُ؟ فَقَالَ قُولِي: السَّلامُ عَلَيْكُم)) فهل المرادُ أنَّها تَقُولُ ذلِكَ إذا مَرَّتْ، أو إذا خَرَجَتْ زائِرةً؟ فهو مُحْتَمِلٌ.
فلَيْسَ فيه تَصْرِيحٌ بأنَّها إذا خَرَجَتْ زائِرةً؛ إذ مِن المُمْكِنِ أن
يُرادَ به إذا مَرَّتْ بها مِن غيرِ خُروجٍ للزِّيارةِ، وإذا كان ليس
صَرِيحًا فلا يُعارِضُ الصَّريحَ.
فهو اسْتَدَلَّ عَلَيْهِا بالنَّهْيِ عَنْ زيارةِ القبورِ مُطْلَقًا،
ومعلومٌ أنَّ النَّهْيَ عَنْ زِيارةِ القبورِ كانَ عامًّا، ولهذا
أَجابَتْهُ بالنَّسْخِ العامِّ، وقالَتْ: إنّه قَدْ أَمَرَ بذلِكَ، ونحنُ
وإنْ كُنَّا نَقُولُ: إنَّ عائشةَ -رَضِيَ
اللهُ عنها- اسْتَدَلَّتْ بلفظِ العُمومِ فهي كَغَيرِها مِن العُلماءِ لا
يُعارَضُ بقولِها قولُ الرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، على
أنَّه رُوِيَ عَنْها أنَّها قالَتْ: ((لَوْ شَهِدْتُكَ ما زُرْتُكَ))
وهذا دَلِيلٌ على أنَّها -رَضِيَ اللهُ عنها-، خَرَجَتْ لِتَدْعُوَ له؛
لأنَّها لم تَشْهَدْ جِنازَتَه، لكنَّ هذه الرِّوَايةَ طَعَنَ فيها بعضُ
العلماءِ وقالَ: إنَّها لا تَصِحُّ عَنْ عائشةَ،
رَضِيَ اللهُ عَنْها، لكنَّنا نَبْقَى على الرِّوايةِ الأُولَى
الصَّحيحةِ، إذْ لَيْسَ فيها دَليلٌ على أنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ- نَسَخَهُ، وإذا فَهِمَتْ هي فلا يُعارَضُ بقولِها قولُ
الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
إشكالٌ وجوابُه:
والتَّضعيفُ قَدْ يُحْمَلُ على كَثْرةِ الفاعِلِين، لا على كَثْرةِ الفِعْلِ فـ((زَوَّاراتِ))
يَعْنِي النِّساءَ إذا كُنَّ مِائةً كانَ فِعلُهُنَّ كَثِيرًا،
والتَّضْعيفُ باعتبارِ الفاعلِ موجودٌ في اللُّغةِ العربيةِ، قالَ تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ}.
فالرَّاجِحُ: تحريمُ زِيارةِ النِّساءِ لِلمَقابرِ، وأنَّها مِنْ كَبائرِ الذُّنوبِ، وانْظُرْ كَلامَ شيخِ الإسلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ في (مَجْموعِ الفَتاوَى) (24/343)
وهنا مسألةٌ مُهِمَّةٌ لم تُذْكَرْ وهِيَ:
مسألةٌ: المَرْأةُ إذا ذهبَتْ للرَّوْضةِ في المسجدِ النَّبوِيِّ لِتُصَلِّيَ فيها،
فالقبرُ قريبٌ منها فتَقِفُ وتُسَلِّمُ، ولا مانِعَ فيه، والأَحْسَنُ
البُعدُ عن الزِّحامِ، ومُخالَطةِ الرِّجالِ، ولئلاَّ يَظُنَّ مَنْ
يُشاهِدُها أنَّ المَرْأةَ يَجوزُ لها قَصْدُ الزِّيارةِ فيَقَعُ الإنسانُ
في مَحْذورٍ، وتَسْليمُ المَرْءِ على النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- يَبْلُغُه حيثُ كانَ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يُصيرها أوثاناً تُعبد من دون الله
الغلو في قبور الصالحين وسيلة من وسائل الشرك، بل يصل الغلو إلى أن يكون شركاً بالله جل وعلا، وأن يُصيّر ذلك القبر وثناً يعبد. إما أن يكون القبر في ظاهرة مُسّنماً. - وإما أن يكون مربعاً. فإذاً: مجاوزة الحد في قبور الصالحين هي مجاوزة ما أٌمر به أو نهى عنه في القبور؛ لأن قبور الصالحين لا تختلف عن قبور غير الصالحين. -بالكتابة عليها. -يكون برفعها.
فالغلو درجات، مرَّ علينا في الأبواب قبله بعض الغلو في القبور، وهنا بيّن أن الغلو يصل إلى أن يُصيَّر تلك القبور أوثاناً تعبد من دون الله.
قُلنا: إن الغلو هو مجاوزة الحد، والقبور؛ قبور الصالحين وغير الصالحين: صفتها في الشرع واحدة،
لم يميز الشرع، ولم يأت دليل في الشريعة بأن قبر الصالح يُميز عن قبر
غيره، بل القبور تتساوى، هذا وهذا، لا يُفرَّق بين قبر صالح وبين قبر طالح،
بل الصفة واحدة، وهو:
وهذا لأجل سد الطرق التي توصل إلى الغلو في قبور الصالحين،
-يكون بالبناء عليها.
-يكون بأن تُتخذ مساجد، يكون الغلو فيها، ذلك الذي سبق كلَّه من جهة الوسائل،
يكون الغلو في قبور الصالحين:
- بأن يُجعل القبر وسيلة من الوسائل التي تُقرب إلى الله جل وعلا.
- ويُجعل القبر أو من في القبر شفيعاً لهم عند الله جل وعلا.
- يُجعل القبر له حق أن يُنذر له.
- أو أن يُذبح له.
- أو أن يُستشفع بترابه:
اعتقاداً أنه وسيلة عند الله جل وعلا، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله تبارك وتعالى.
لهذا الغلو في قبور الصالحين يكون بمجاوزة ما أُذن فيها، من المجاوزة ما هو من الوسائل، ومن المجاوزة ما هو من اتخاذها أوثاناً من دون الله جل وعلا، ولهذا قال رحمه الله: [باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً] وقوله: (يُصيِّرها) يعني: يجعلها، قد يكون جعل الوسائل للغايات، يعني: أن الغلو صار وسيلة لاتخاذها أوثاناً، وقد يكون أن الغلو جعلها وثناً يعبد من دون الله جل وعلا، وهذا هو الذي حصل، ويُرى في البلاد، من أن القبور صارت أوثاناً تعبد من دون الله: لما أقيمت عليها المشاهد والقِباب، ودعي الناس إليها، وذبح لها، وقبلت النذور لها، وصار يُطاف حولها، ويُعكف عندها، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله.قوله: [((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد))]
هذه استعاذة ودعاء لخوف أن يقع ذلك، ولو كان ذلك لا يقع أصلاً؛ ولا يمكن
أن يقع، لما دعا النبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك الدعاء العظيم، بل دعا
أن لا يُجعل القبر وثناً يُعبد كما جُعلت قبور غيره من الأنبياء والمرسلين
عليه الصلاة والسلام، فإن عدداً من قبور الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة
والسلام- اتخذت أوثاناً تُعبد.
قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) معنى ذلك، أن القبر يمكن أن يكون وثناً يعبد. قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) فالغاية أن يكون القبر وثناً يعبد، ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن لا يكون، والوسيلة إلى ذلك ما جاء بعد ذلك، قال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
وهذا هو الغلو؛ غلو الوسائل، فاتخاذ قبور الأنبياء مساجد: غلوٌّ من غلو
الوسائل، يُصَيِّر تلك القبور أوثاناً؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا
الحديث جمع بين ذكر الوسيلة، والتنفير منها، واشتداد غضب الله على من
فعلها، وذكر نهاية ما تصل إليه بأصحابها تلك الوسيلة، وهي أن تكون القبور أوثاناً تعبد من دون الله جل وعلا.
فإذاً: هذا الحديث فيه
بيان أن القبر يمكن أن يكون وثناً.
والخرافيون يقولون:
[القبور لا يمكن أن تكون أوثاناً، والأوثان هي أوثان الجاهلية وأصنام الجاهلية].
ونقول: إن الجاهليين إذا كانوا تعلقوا بأصنام، وبأحجار، وبأشجار، وبغير ذلك من الأشياء؛ واعتقدوا فيها، ووصلوا فيها إلى الشرك الأكبر، مع أن المبرر العقلي، والمبرر النفسي غير قوي فيها، فلأن تتخذ قبور الصالحين، والأنبياء والمرسلين أوثاناً، أو أن يُتَوجَّه إلى أصحابها بالعبادة، ذلك من باب أولى؛ لأن تعلق القلوب بالصالحين أولى من تعلقها بالأحجار؛ تعلق القلوب بالأنبياء والمرسلين أولى من تعلقها بالجن، أو تعلقها بالأشجار، أو بالأحجار، أو نحو ذلك.
فإذاً: سبب الشرك ووسيلة الشرك في القبور أولى وأظهر من النظر في الأصنام، ونحو ذلك، لأنها جميعاً من جهة اعتقاد القلب، وتأثير تلك الأصنام والأوثان: في الحالين جميعاً في الشفاعة عند الله.
فأولئك المشركون يقولون في آلهتهم:
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقالوا أيضاً: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وأهل العصر أو العصور التي فشا فيها الشرك: إذا سألتهم يقولون: (هذا توسل وهذا استشفاع) والحال واحدة، والسبيل الذي جعل تلك القبور أوثاناً هو:
-
اتخاذ تلك مساجد والبناء عليها.
-
والحث على مجيئها.
-
وذكر الكرامات التي تحصل عندها.
-
أو إجابة الدعوات عندها.
-
أو التبرك بها، إلى غير ذلك.
الشاهد منه: قول مجاهد: (مات فعكفوا على قبره) لأجل أنه رجل كان ينفعهم بلتِّ السويق لهم، على قراءة: {أفرأيتم اللاتَّ والعزى}ووجه المناسبة: ظاهر من أن صلاح ذلك الرجل جعلهم يغلون في قبره، فعكفوا على قبره؛ والعكوف على القبور يصيرها أوثاناً.
العكوف معناه:
لزوم القبر بتعظيمه؛ واعتقاد البركة في لزومه، والثواب، والنفع، ودفع الضر، هذا معنى العكوف.
قال: [وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -زائرات القبور؛ والمتخذين عليها مساجد والسُّرج)) رواه [أهل السنن] وجه الدلالة من الحديث ظاهرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن المتخذين على القبور المساجد والسرج.
المساجد مر معنا الكلام عليها، والسرج: لأنها وسيلة لتعظيم تلك القبور،
ونوع من أنواع الغلو فيها؛ فتسرج القبور ويجعل عليها في الزمن الماضي
القناديل؛ واليوم تجعل عليها الأنوار العظيمة التي تبين أن هذا المكان
مقصود، وأنه مطلوب؛ ويجعل عليها من عقود اللمبات، وعقود الأنوار والكشافات
التي تسطع، ما يدل الناس على تعظيم هذا القبر؛ فهؤلاء ملعونون بلعنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يجوز أن تتخذ السرج على القبور؛ لأن اتخاذ السرج على القبور من نوع الغلو فيها، ولأنه يدعو الناس إليها، وذلك قد يكون بعده أن تتخذ آلهة وأوثاناً مع الله جل وعلا.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ ما جاءَ أنَّ الغلوَّ في قبورِ الصَّالحينَ يُصَيِّرُهَا أوثاناً تُعْبَدُ من دونِ اللهِ
وعن ابنِ عبَّاسٍ - رَضِي اللهُ عَنْهُما - قالَ: ((لـَعـَنَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زائراتِ القُبُورِ، والمتَّخِذِينَ عليهَا المسَاجِدَ والسّرجَ)). وأجيبُ بأنَّهُ حسَّنَهُ وصحَّحَهُ واحتجَّ به طائفةٌ من أهلِ العلمِ. وعلى هذا فالضَّعفُ الَّذِي نُسِبَ إليهِ لا يقدَحُ في حديثِهِ لوجوهٍ: الوجهِ الأوَّلِ: أفادَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ بقولِهِ: (وأمـَّا أبو صالحٍ، فقدْ قالَ يحيى بنُ سعيدٍ القطَّانُ: (لم أرَ أحداً من أصحابِنَا ترَكَ أبا صالحٍ مولى أمِّ هانئٍ، وما سمعْتُ أحداً من النَّاسِ يقولُ فيه شيئاً، ولم يتركْهُ شعبةُ ولا زائدةُ، فهذه روايةُ شعبةَ عنه تعديلٌ لهُ، كما عُرِفَ من عادةِ شعبةَ، وتَرْكُ ابنِ مهديٍّ، له لا يُعَارضُ ذلك؛ فإنَّ يحيى بنَ سعيدٍ، أعلمُ بالعللِ والرِّجالِ من ابنِ مهديٍّ؛ فإنَّ أهلَ الحديثِ متَّفِقُونَ على أنَّ شعبةَ، ويحيى بنَ سعيدٍ، أعلمُ بالرِّجالِ من ابنِ مهديٍّ
وأمثالِهِ… إلى أنْ قالَ: فإذا كانَ الجارحُ والمُعَدِّلُ من الأئمَّةِ لم
يقبلِ الجرحَ إلا مفسَّراً، فيكونُ التَّعديلُ مقدَّماً على الجرحِ
المطلقِ… اهـ بتصرُّفٍ. الطبقةُ الثَّالثَةُ: عبدُ الرَّحمنِ بنُ مهديٍّ، وكانَ هو ويحيى القطَّانُ المذكورُ
قد انتُدِبَا لنقدِ الرِّجالِ، وناهيكَ بهما جلالةً ونبلاً، وعلماً
وفضلاً، فمن جرَّحَاهُ لا يكادُ -واللهِ- يندمِلُ جرحُهُ، ومن وثَّقَاهُ
فهو الحجّةُ المقبولُ، ومن اختلفَا فيهِ اجتهدَ في أمرِهِ، ونزَلَ عنْ
درجةِ الصَّحيحِ إلى الحسنِ، وقدْ وثَّقَا خلقاً كثيراً، وضعَّفَا آخرينَ.
اهـ. البلديُّ ذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثِّقاتِ)ويعلى بنُ عبَّادٍ قالَ الذَّهبيُّ: (ضعَّفَهُ الدَّارقطنيُّ). اهـ. وأبو صالحٍ السّمان اسمُهُ ذكوانُ ثقةٌ ثبتٌ.
أخرجَهُ أحمدُ،
وأبو داودَ الطَّيالسيُّ، وابنُ أبي شيبةَ، وابنُ الجعدِ، والطَّبرانيُّ،
والخطيبُ البغداديُّ، والحاكمُ، والبيهقيُّ، وأبو داودَ.
من طريقِ شعبةَ عن محمَّدِ بنِ جحادةَ، قالَ: سمعْتُ أبا صالحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ … بهِ.
وأخرجَهُ النَّسائيُّ، والتِّرمذيُّ، والبغويُّ، والبيهقيُّ.
من طريقِ عبدِ الوارثِ بنِ سعيدٍ عن محمَّدِ بنِ جحادةَ بهِ.
وقد أُعِلَّ بأبي صالحٍ، وهو باذامُ مولى أمِّ هانئٍ، وهو ضعيفٌ، وأنَّهُ لم يثبُتْ له سماعٌ من ابنِ عبَّاسٍ.
قالَ التّرمذيُّ: (حديثُ ابنِ عبَّاسٍ حديثٌ حسنٌ).
وقالَ البغويُّ: (هذا حديثٌ حسنٌ).
وصحَّحَهُ ابنُ حبَّانَ، واستدركَهُ الحاكمُ.
وقالَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّةَ: ((بل ثبتَ عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ قالَ: ((لعنَ اللهُ زوَّاراتِ القبورِ والمتَّخذِينَ عليها المساجِدَ والسّرجَ)))).
واحتجَّ به ابنُ قدامةَ على عدمِ جوازِ اتِّخاذِ السّرجِ على القبورِ.
واحتجَّ بهِ ابنُ القيِّمِ على تحريمِ زيارةِ النِّساءِ القبورَ، ولعْنِ المتَّخذِينَ عليها المساجدَ والسُّرجَ.
ورمَزَ لصحَّتِهِ السّيوطيُّ.
وقالَ أحمدُ شاكرٍ: إسنادُهُ صحيحٌ.
وقد اختلفَ مخرِّجُو هذا الحديثِ في المرادِ بأبي صالحٍ.
فقالَ التّرمذيُّ: (أبو صالحٍ هذا هو مولى أمِّ هانئٍ بنتِ أبي طالبٍ واسمُهُ باذانُ، ويُقالُ: باذامُ أيضاً).
وقالَ الحاكمُ: (أبو صالحٍ هذا ليسَ بالسَّمانِ المحتجِّ بهِ إنَّمَا هذا باذانُ، ولم يحتجَّ بهِ الشَّيخانِ).
وقالَ ابنُ حبَّانَ: (أبو صالحٍ هذا اسمُهُ ميزانُ بصريٌّ ثقةٌ وليسَ بصاحبِ محمَّدِ بنِ السَّائبِ الكلبيِّ).
إلا أنَّ ابنَ الجعدِ صرَّحَ بأنَّهُ مولَى أمِّ هانئٍ، حيثُ قالَ: حدَّثَنَا عليُّ بنُ مسلمٍ، نا أبو داودَ، نا شعبةُ، عن محمَّدِ بنِ جحادةَ، قالَ: سمعْتُ أبا صالحٍ مولى أمِّ هانئٍ، وكانَ قد كَبُرَ، عن ابنِ عبَّاسٍ بهِ، وأبو داودَ، هذا هو الطّيالسيُّ، وقد أخرجَهُ كمَا مرَّ ولم يصرِّحْ بشيءٍ!
وعلى فرضِ أنَّ المرادَ بهِ باذانُ - وهو الرَّاجِحُ عندي؛ لتَصْريحِ ابنِ الجعدِ بهِ - فنَرَى: هلْ ما نُسِبَ إليهِ من الضَّعفِ قادحٌ أم لا؟
وذلك بواسطةِ قولِ أهلِ الجَرْحِ والتَّعديلِ فيهِ.
فإذا نظرْنَا نجدْ أنَّهُمْ قد اختلفُوا فيهِ، فَنُقِلَ تضعيفُه عن
الإِمامِ البخاريِّ، والنّسائيِّ، وعبدِ الحقِّ الإِشبيليِّ، وأنَّ ابنَ مهديٍّ تركَهُ.
ونُقِلَ توثيقُه عن ابنِ معينٍ، ويحيى بنِ سعيدٍ القطَّانِ، والعجليِّ، وابنِ شاهينَ، وأنَّ ابنَ القطَّانِ الفاسيَّ، أنكرَ على عبدِ الحقِّ تضعيفَهُ لهُ.
وحديثٌ مثلُ هذا يدخُلُ في الحسنِ الَّذي يحتجُّ به جمهورُ العلماءِ، فإذا صحَّحَهُ من صحَّحَهُ كالتّرمذيِّ وغيرِهِ، ولم يكنْ فيه من الجرحِ إلا ما ذُكِرَ، كانَ أقلُّ أحوالِهِ أنْ يكونَ من الحسنِ)
الوجهِ الثَّانِي:أنَّهُ قد اختَلَفَ فيه إماما الجرحِ والتَّعديلِ: يحي بنُ سعيدٍ القطَّانُ وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مهديٍّ -رحمَهُمَا اللهُ- وإذا اختلفَا في الرَّاوي نزَلَ عن درجةِ الصَّحيحِ إلى الحسنِ. يقولُ الذَّهبيُّ في هذينِ الإِمامينِ ما نصُّهُ:
الوجهِ الثَّالثِ: إنَّ إمامَ الصَّنعةِ يحيى بنَ معينٍ فَصَّلَ في حالِهِ، فقالَ ابنُ أبي حاتمٍ:
(نـَا أبو بكرِ بنِ أبي خيثمةَ - فيما كتبَ إليَّ - قالَ: (سمعْتُ يحيى بنَ معينٍ يقولُ: أبو صالحٍ مولى أمِّ هانئٍ ليسَ بهِ بأسٌ، فإذَا روى عنه الكلبيُّ فليسَ بشيءٍ، وإذا روى عنه غيرُ الكلبيِّ فليسَ بهِ بأسٌ؛ لأنَّ الكلبيَّ يحدِّثُ به مرَّةً من رأيِهِ، ومرَّةً عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ) اهـ.
وهذا ليسَ من روايةِ الكلبيِّ عنهُ، فيكونُ لا بأسَ بهِ، وقالَ أحمدُ شاكرٍ فيهِ: (والحقُّ
أنَّهُ ثقةٌ ليسَ لمَنْ ضعَّفَهُ حجَّةٌ، وإنَّمَا تكلَّمُوا فيه من أجلِ
التَّفسيرِ الكثيرِ المرويِّ عنهُ، والحملُ في ذلكَ علَى تلميذِهِ محمَّدِ بنِ السَّائبِ الكلبيِّ.
وقد ادَّعَى ابنُ حبَّانَ أنَّهُ لم يسمعْ من ابنِ عبَّاسٍ.
وهذه غلطةٌ عجيبةٌ منهُ؛ فإنَّ أبا صالحٍ تابعيٌّ قديمٌ روى عن مولاتِهِ أمِّ هانئٍ، وعن أخيها عليٍّ بنِ أبي طالبٍ وعن أبي هريرةَ، وكلُّهُمْ أقدمُ من ابنِ عبَّاسٍ وأكبرُ) اهـ.
الحاصلُ أنَّ كلَّ وجهٍ من هذه الوجوهِ الثَّلاثةِ يقتضي تحسينَ إسنادِ باذانَ لهذا الحديثِ، فكيفَ وقدْ تظاهرَتْ وتضافرَتْ على ذلِكَ؟!
وأمَّا جزمُ ابنِ حبَّانَ بأنَّ المرادَ بأبي صالحٍ هو ميزانُ فوجهُهُ أنَّ ميزاناً وباذانَ كلٌّ منهُمَا من طبقةٍ واحدةٍ ويرويانِ عن ابنِ عبَّاسٍ، ويروي عنهما محمَّدُ بنُ جحادةَ.
وعلى فرضِ أنَّهُ ميزانُ فالحديثُ صحيحُ، فقدْ تقدَّمَ توثيقُ ابنِ حبَّانَ لهُ، وقالَ فيه ابنُ معينٍ: ثقةٌ مأمونٌ.
هذا، ولمَّا ذكرَ الحافظُ المزيُّ طرقَ هذا الحديثِ في تحفتِهِ زَادَ قائلاً: (ورواهُ أبو منصورٍ الحسنُ بنُ السّكينِ البلديُّ، عن يعلى بنِ عبَّادٍ البصريِّ، عن شعبةَ، والحسنُ بنُ أبي جعفرٍ، والحسنُ بنُ دينارٍ، وأبو الرَّبيعِ السّمانُ، ومحمَّدُ بنُ طلحةَ بنِ مصرفٍ، عن محمَّدِ بنِ جحادةَ عن أبي صالحِ السّمانِ، عن ابنِ عباسٍ) اهـ.
وذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثِّقاتِ) وقالَ: (يخطىء).
العناصر
مناسبة باب (ما جاء في أن الغلو في قبور الصالحين..) إلخ، لكتاب التوحيد
شرح قول المصنف (باب ما جاء في أن الغلو في قبور الصالحين..) إلخ
- التحذير من الغلو، وبيان أنه أصل الشرك شرح حديث (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) الحديث
- ترجمة عمر بن محمد معنى قوله: (اشتد غضب الله)، وما يستفاد منه
- بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه شرح أثر مجاهد رحمه الله: (كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره)
- ترجمة سفيان الثوري بيان مناسبة قول الله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)، بعد حديثه عن المعراج
- معنى اللت، ومن هو اللات المنع من تتبع آثار الصالحين للصلاة والدعاء عندها، وذكر ما روي عن السلف في ذلك شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور...) الحديث
- ترجمة أبي الجوزاء حكم زيارة النساء للقبور
- الحكمة من منع النساء من زيارة القبور، وبيان عدم تعارض هذا الحديث مع قوله: (فزوروها) - بيان المراد بأهل السنن مناسبة باب حماية المصطفى لجناب التوحيد لما قبله من الأبواب شرح مسائل باب (ما جاء في أن الغلو في قبور الصالحين..) إلخ شرح قول المصنف: (باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد...) إلخ
- معنى قوله: (رسول من أنفسكم) شرح حديث أبي هريرة (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً...) الحديث
- معنى قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)، وما يستفاد منه، ونظائره من السنة شرح حديث علي بن الحسين: (لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً)
- ترجمة علي بن الحسين مسائل تتعلق بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وزيارته
- بيان أنه لا مزية لمن سلم على رسول الله عند قبره على البعيد؟ شرح مسائل باب حماية المصطفى جناب التوحيد.. إلخ بيان حث الشريعة على كل ما يقوي التوحيد، ونهيها عن كل سبب يوصل إلى الشرك
- مناسبة حديث (اللهم لا تجعل قبري وثناً...) الحديث، للباب
- ترجمة الإمام مالك رحمه الله تعالى
- معنى الوثن، والفرق بينه وبين الصنم
- بيان أن القبر المعبود من دون الله وثن
- في الحديث دليل على بطلان زعم الخرافيين أن القبور لا يمكن أن تكون أوثاناً
- بيان الواجب تجاه القبور
- بيان حال الأمة مع القبور
- معنى قوله: (اللهم)
- شرح قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً)
- معنى قوله: (لا تجعل قبري وثناً يعبد)
- حماية الله تعالى لقبر نبيه أن لا يُعبد
- ترجمة منصور بن المعتمر
- ترجمة مجاهد بن جبر
- مناسبة أثر مجاهد للباب
- معنى السويق
- بيان عظم خطأ من يستغل الحجاج في البيع وغيره
- معنى اللعن والزيارة في قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور)
- بيان أنواع زيارة القبور
- العلة في تحريم اتخاذ السرج على القبور، وحكمه
- هل في اتخاذ السرج على المقابر ما وضع من مصابيح الكهرباء لإنارتها؟
- الحكمة في قرن لعن زائرات القبور، بلعن المتخذين عليها المساجد والسرج
- صور اتخاذ المساجد على القبور
تفسير قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) الآية
- معنى قوله: (عزيز عليه ماعنتم)
- معنى قوله: (حريص عليكم)، وآثار في معناه
- معنى قوله: (بالمؤمنين رؤوف رحيم)
- مناسبة قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول..) الآية، لباب (حماية المصطفى..) إلخ
- جملة من الفوائد من قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول..) الآية
- معنى قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله..) الآية
- معنى العيد في قوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً)
- معنى قوله: (وصلوا علي..)، وبيان الصحيح في معنى صلاة الله على العبد
- معنى قوله: (فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)
- بيان عدم تنافي قوله: (بإسناد حسن)، مع قوله: (ورواته ثقات)، وذكر نظير لذلك
- بيان وجه الشاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا تجعلوا قبري عيداً)
- تأويل المبتدعة لقوله: (لا تجعلوا قبري عيداً)، والرد عليه
- ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب
- معنى (الفرجة) في قوله: (يجيئ إلى فرجة)
- معنى (ألا) في قوله: (ألا أحدثكم حديثا)، ولم جمع الضمير مع أن الرجل واحد
- معنى قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً..) الحديث
- بيان وجه الشاهد من حديث علي بن الحسين
- شواهد لمعنى حديث أبي هريرة، وعلي بن الحسين
- الكلام على (المختارة) ومصنفها: الضياء عبد الله المقدسي رحمه الله
- الحكم على حديث (من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي غائبا بُلِّغته)
- حكم الإتيان إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند القدوم من السفر؛ للسلام عليه
- ذكر الخلاف في حكم شد الرحال إلى قبر رسول الله، وأدلة القول الصحيح، والرد على المخالف
- بيان ما يشرع فعله عند زيارة قبر رسول الله، والتنبيه على بعض المخالفات
النهي عن قصد القبور للدعاء، وبيان أن ذلك لم يكن من فعل الصحابة