26 Oct 2008
باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايَةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم جَنَابَ التَّوْحِيدِ وَسَدِّهِ كُلَّ طَرِيقٍ يُوصِلُ إِلَى الشِّرْكِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَّحيمٌ}[التَّوْبَةُ:128]. الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ ((بَرَاءةٌ)). الثَّانِيَةُ: إِبْعَادُهُ أُمَّتَهُ عَنْ هَذَا الْحِمَى غَايَةَ الْبُعْدِ. الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ حِرْصِهِ عَلَيْنَا وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. الرَّابِعَةُ: نَهْيُهُ عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ مَعَ أَنَّ زِيَارَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ. الْخَامِسَةُ: نَهْيُهُ عَنِ الإِكْثَارِ مِنَ الزِّيَارَةِ. السَّادِسَةُ: حَثُّهُ عَلَى النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ. السَّابِعَةُ: أَنَّهُ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ. الثَّامِنَةُ: تَعْلِيلُهُ
ذَلِكَ بِأَنَّ صَلاَةَ الرَّجُلِ وَسَلاَمَهُ عَلَيْهِ يَبْلُغُهُ وَإِنْ
بَعُدَ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ مَنْ أَرَادَ الْقُرْبَ. التَّاسِعَةُ: كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَرْزَخِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ فِي الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ
تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا،
وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: (أَنَّهُ
رَأَى رَجُلاً يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم، فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ وَقَالَ:
أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلاَ بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ)) رَوَاهُ فِي (الْمُخْتَارَةِ).
فِيهِ مَسَائِلُ:
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (5) الجَنَابُ:
هوَ الجَانِبُ، واعْلَمْ
أنَّ في الأَبْوابِ المُتَقدِّمةِ شَيْئًا مِنْ حِمَايتِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجَنَابِ التَّوْحيدِ، ولكنْ أَرَادَ المُصَنِّفُ هنا بيانَ حِمَايتِهِ الخاصَّةِ.
ولَقَدْ بالَغَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحَذَّرَ وأَنْذَرَ، وأَبْدَأَ وأَعَادَ، وخَصَّ
وعَمَّ في حِمَايَةِ الحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ التي بَعَثَهُ اللهُ بهَا،
فهيَ حَنِيفيَّةٌ في التَّوحيدِ، سَمْحَةٌ في العَمَلِ، كما قَالَ بعضُ
العُلَمَاءِ: (هيَ أَشَدُّ الشَّرَائِعِ في التَّوحيدِ والإِبْعَادِ عن
الشِّرْكِ، وأَسْمَحُ الشَّرَائعِ في العَمَلِ).
(6) قولُهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ}
هذا خِطَابٌ مِنَ اللهِ تعالَى للعَرَبِ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، وهَذَا
عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِهِ نِعَمَهُ عليهم، إذ جَاءَهُم بلِسَانِهِم، وبما
يَفْهَمُونَهُ مِن الأَغْراضِ والفَصَاحةِ، وشُرِّفُوا بِهِ أَبَدَ
الآبِدِينَ.
وقولُهُ: {رَسُولٌ} أيْ: رَسُولٌ عَظِيمٌ أَرْسَلَهُ اللهُ إليكم.
{مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
أيْ: تَرْجِعُونَ مَعَهُ إلى نَفْسٍ واحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ وأنْتُمْ مِنْ
أَبٍ قَرِيبٍ، كمَا قالَ تعالَى عنْ إِبْرَاهيمَ عليهِ السَّلاَمُ أنَّهُ
قالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]
وذلكَ أَقْرَبُ وأَسْرَعُ إِلَى فَهْمِ الحُجَّةِ، وأَبْعَدُ مِن المَحْكِ
واللَّجَاجَةِ، وهذا يَقْتَضِي مَدْحًا لنَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنَّهُ مِنْ صَمِيمِ العَرَبِ.
قَالَ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ في قولِهِ: {مِنْ أَنفُسِكُمْ} قالَ: لم يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ ولادةِ الجَاهِلِيَّةِ.
وقولُهُ: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} أيْ: شَدِيدٌ عليهِ جِدًّا {مَا عَنِتُّمْ}
أيْ: عَنَتُكُم، وهوَ لِحَاقُ الأَذَى الَّذي يَضِيقُ بهِ الصَّدْرُ، ولا
يَهْتَدِي للمَخْرَجِ، وهيَ هنا لَفْظٌ عامٌّ، أيْ: ما شَقَّ عليكُمْ مِنْ
كُفْرٍ وضَلاَلٍ، وقَتْلٍ وأَسْرٍ، وامْتِحَانٍ بسَبَبِ الحَقِّ.
و{ما} مَصْدَرِيَّةٌ وهيَ مُبْتَدَأٌ، و{عَزِيزٌ} خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ {مَا عَنِتُّمْ} فاعِلاً بـ{عَزِيزٌ} و{عَزِيزٌ} صِفَةٌ للرَّسُولِ، وهذا أَصْوَبُ.
وقولُهُ: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أيْ: بَلِيغُ الحِرْصِ عَلَيْكُم؛ أيْ: عَلَى نَفْعِكُم وإيمَانِكُم وهُداكُمْ.
والحِرْصُ: شِدَّةُ طَلَبِ الشَّيْءِ عَلَى الاجْتِهَادِ فيهِ.
ورَوَى الطَّبَرَانِيُّ بإسْنَادٍ جَيِّدٍ، عنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (تَرَكَنَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَا طَائِرٌ يُقلِّبُ
جَنَاحَيْهِ في الهَوَاءِ إِلاَّ وهوَ يَذْكُرُ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا).
قَالَ: وقالَ: ((مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ إِلاَّ وَقَدْ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ)).
ورَوَى مُسْلِمٌ في (صَحِيحِهِ)، عنْ أَبِي هُرَيرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلِي
كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهَا
جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهذِهِ الدَّوابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ
فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا)).
- قالَ: ((فَذَلِكَ
مَثَلِي وَمَثَلُكُم، أَنَا آخِذٌ بحُجَزِكُم عَنِ النَّارِ: هَلُمَّ عَنِ
النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، فَتَغْلِبُونَني وَتقَحَّمُونَ فِيهَا)).
وقولُهُ: {بِالْمُؤْمِنِينَ} أيْ: لاَ بغَيْرِهِم، كَمَا يُفِيدُهُ تَقَدُّمُ الجَارِّ.
{رَؤُوفٌ} أيْ: بَلِيغُ الشَّفَقَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (الرَّأْفَةُ أَرَقُّ الرَّحْمَةِ).
{رَحِيمٌ} أيْ: بَلِيغُ الرَّحْمَةِ، كَمَا هوَ اللاَّئِقُ بشَرِيفِ مَنْصِبهِ، وعَظِيمِ خُلُقِهِ.
فتَأَمَّلْ هذه الآيَةَ
وما فيها مِنْ أَوْصَافِهِ الكَرِيمَةِ ومَحَاسِنِهِ الجَمَّةِ التي
تَقْتَضِي أنْ يَنْصَحَ لأُِمَّتِهِ، ويُبَلِّغَ البَلاَغَ المُبِينَ،
ويَسُدَّ الطُّرُقَ المُوصِلَةَ إلى الشِّرْكِ، ويَحْمِيَ جَنَابَ
التَّوحيدِ غَايَةَ الحِمَايَةِ، ويُبَالِغَ أَشَدَّ المُبالَغَةِ في ذلكَ
لِئَلاَّ تَقَعَ الأُمَّةُ في الشِّرْكِ، وأَعْظَمُ ذلكَ الفِتْنَةُ
بالقُبُورِ، فَإِنَّ الغُلُوَّ فيها هوَ الَّذي جَرَّ النَّاسَ في قَدِيمِ
الزَّمانِ وحَدِيثِهِ إلى الشِّرْكِ، لاَ جَرَمَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلكَ، وحَمَى جَنَابَ التَّوحيدِ حتَّى في
قبْرِهِ الَّذي هوَ أَشْرَفُ القُبُورِ، حتَّى نَهَى عنْ جَعْلِهِ عِيدًا،
ودَعَا اللهَ أَنْ لاَ يَجْعَلَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ.
وفي الآيَةِ مَسَائِلُ:
- منها: التَّنْبِيهُ عَلَى هذه النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ، وهيَ إِرْسَالُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينَا، كمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ
مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ
أَنْفُسِهِم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ
مُبِينٍ} [آل عمرانَ: 164].
- ومنها: كَوْنُهُ مِنَّا وهيَ نِعْمَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ.
- ومنها: كَوْنُهُ بهذِهِ الصِّفَاتِ، نِعَمٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
- ومنها: مَدْحُ نَسَبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهوَ أَشْرَفُ العَرَبِ بَيْتًا ونَسَبًا.
- ومنها: رَأْفَتُهُ بالمُؤْمِنِينَ.
- ومنها: غِلْظَتُهُ عَلَى الكُفَّارِ والمُنَافِقِينَ.
(7) قولُهُ: ((لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا)) قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ -نَوَّرَ اللهُ ضَرِيحَهُ-: (أيْ:
لاَ تُعَطِّلُوهَا مِن الصَّلاَةِ فيها والدُّعَاءِ والقِرَاءةِ، فتَكُونَ
بمَنْزِلَةِ القُبُورِ، فَأَمَرَ بتَحَرِّي العِبَادَةِ في البُيوتِ،
ونَهَى عنْ تَحَرِّيهَا عندَ القُبُورِ عَكْسَ ما يَفْعَلُهُ المُشْرِكُونَ
مِن النَّصارَى، ومَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ)، عن ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيوتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا)).
وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عن ابنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((لاَ
تَجْعَلُوا بُيوتَكُمْ مَقَابِرَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ
الْبَيْتِ الَّذِي يَسْمَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ)) وفيهِ أَنَّ الصَّلاَةَ في المَقْبَرَةِ لاَ تَجُوزُ، وأَنَّ التَّطَوُّعَ في البَيْتِ أَفْضَلُ منهُ في المَسْجِدِ. وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - الَّذي ذَكَرْنَا - كَرَاهَةُ القِرَاءةِ في المَقَابِرِ، وكُلُّ هَذَا إِبْعَادٌ لأُمَّتِهِ عن الشِّرْكِ.
قولُهُ: ((وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا)) قالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (العِيدُ
اسْمٌ لِمَا يَعُودُ مِن الاجْتِمَاعِ العَامِّ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ،
عَائِدًا إمَّا بِعَوْدِ السَّنَةِ، أوْ بِعَوْدِ الأُسْبوعِ، أو
الشَّهْرِ، ونحوِ ذلكَ، وتَقَدَّمَ ذلكَ).
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (العِيدُ
ما يُعْتَادُ مَجِيئُهُ وقَصْدُهُ مِنْ زَمَانٍ ومَكَانٍ، مَأْخُوذٌ مِن
المُعَاوَدَةِ والاعْتِيَادِ، فإنْ كانَ اسْمًا للمَكَانِ فهوَ المَكَانُ
الَّذي يُقْصَدُ فيهِ الاجْتِمَاعُ وانْتِيابُهُ للعِبَادَةِ أوْ لغيرِهَا،
كمَا أنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ ومِنًى ومُزْدَلِفَةَ وعَرَفَةَ
والمَشَاعِرَ جَعَلَهَا اللهُ عِيدًا للحُنَفَاءِ ومَثَابَةً، كمَا جَعَلَ
أيَّامَ العِيدِ فيها عِيدًا، وكَانَ للمُشْرِكِينَ أَعْيادٌ زَمَانيَّةٌ
ومَكَانيَّةٌ، فلَمَّا جَاءَ اللهُ بالإِسْلامِ أَبْطَلَهَا وعَوَّضَ
الحُنَفَاءَ منها عِيدَ الفِطْرِ وعِيدَ النَّحْرِ وأيَّامَ مِنًى، كَمَا
عَوَّضَهُم عنْ أَعْيادِ المُشْرِكِينَ المَكَانِيَّةِ بالكَعْبَةِ ومِنًى
ومُزْدَلِفَةَ وعَرَفَةَ والمَشَاعِرِ).
وقَالَ غيرُهُ: (هَذَا
أمْرٌ بمُلاَزَمَةِ قَبْرِهِ، والعُكُوفِ عندَهُ، واعْتِيادِ قَصْدِهِ
وانْتِيابِهِ، ونَهَى أَنْ يُجْعَلَ كالعيدِ الَّذي إنَّما يكونُ في العامِ
مَرَّةً أوْ مَرَّتينِ، فكَأَنَهُ قَالَ: لاَ تَجْعَلُوهُ كالعِيدِ
الَّذِي يَكُونُ مِن الحَوْلِ إلى الحَوْلِ، واقْصِدُوهُ كُلَّ سَاعَةٍ
وكُلَّ وَقْتٍ).
قالَ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وهذا
مُرَاغَمَةٌ ومُحَادَّةٌ ومُنَاقَضَةٌ لِمَا قَصَدَهُ الرَّسولُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَلْبٌ للحَقَائِقِ، ونِسْبَةُ الرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التَّلْبِيسِ والتَّدْلِيسِ بعدَ
التَّنَاقُضِ، فقَاتَلَ اللهُ أَهْلَ البَاطِلِ أنَّى يُؤْفَكُونَ، وَلاَ
رَيْبَ أنَّ مَنْ أَمَرَ النَّاسَ باعْتِيادِ أَمْرٍ ومُلاَزَمَتِهِ
وكَثْرَةِ انْتِيابِهِ بقولِهِ: لاَ تَجْعَلُوا عِيدًا فهوَ إلى
التَّلْبِيسِ وضِدِّ البَيانِ أَقْرَبُ منهُ إِلَى الدَّلاَلَةِ
والبَيَانِ، وهَكَذَا غُيِّرَتْ أَدْيانُ الرُّسُلِ، ولَوْلاَ أَنَّ اللهَ
أَقَامَ لدِينِهِ الأَنْصَارَ والأَعْوَانَ الذَّابِّينَ عنه، لجَرَى عليهِ
ما جَرَى عَلَى الأَدْيانِ قَبْلَهُ.
ولوْ
أَرَادَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالَهُ هؤلاءِ
الضُّلاَّلُ لم يَنْهَ عن اتِّخاذِ قبورِ الأنبياءِ مَسَاجِدَ، ويَلْعَنْ
فاعِلَ ذلكَ، فإنَّهُ إِذَا لَعَنَ مَن اتَّخَذَهَا مَسَاجِدَ يُعْبَدُ
اللهُ فيها، فكيفَ يَأْمُرُ بمُلاَزَمَتِهَا والعُكُوفِ عندَهَا، وأَنْ
يُعْتادَ قَصْدُهَا وانْتِيابُهَا وَلاَ تُجْعَلَ كالعِيدِ الَّذي يَجِيءُ
مِن الحَوْلِ إلى الحَوْلِ؟!
وكيفَ يَسْأَلُ ربَّهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ قَبْرَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ؟
وكيفَ يقولُ أَعْلَمُ الخَلْقِ بذلكَ: ((وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأُبْرِزَ قَبْرُهُ))؟
ولَكِنْ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، وكيفَ يَقُولُ: ((لاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ))؟!
وكيفَ
لم يَفْهَمْ أَصْحَابُهُ وأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا فَهِمَهُ
هَؤُلاَءِ الضُّلاَّلُ الَّذينَ جَمَعُوا بَيْنَ الشِّرْكِ والتَّحْرِيفِ؟!
وهذا
أَفْضَلُ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، نَهَى ذلكَ الرَّجُلَ أَنْ يَتَحَرَّى الدُّعاءَ
عندَ قَبْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسْتَدَلَّ بالحديثِ وهوَ
الَّذي رَوَاهُ وسَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ الحُسَيْنِ، عنْ جَدِّهِ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وهوَ أَعْلَمُ بمَعْناهُ مِنْ هؤلاء الضُّلاَّلِ،
وكذلِكَ:ابنُ عمِّهِ الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ شَيْخُ أَهْلِ بَيْتِهِ، كَرِهَ
أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ القَبْرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ المَسْجِدَ،
ورَأَى أَنَّ ذَلِكَ مِن اتِّخَاذِهِ عِيدًا) انْتَهَى.
قُلْتُ: وَكَيْفَ يُرِيدُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المَعْنَى ويُعَبِّرُ عنه
بهَذَا الكَلاَمِ، مَعَ أنَّهُ أَفْصَحُ الخَلْقِ وأَنْصَحُهُم، وكانَ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: أَكْثِرُوا زِيَارَةَ قَبْرِي، أو اجْعَلُوهُ
عِيدًا تَعْتَادُونَ المَجِيءَ إليهِ والعِبَادَةَ عندَهُ؟!
فَظَهَرَ بُطْلاَنُ هَذَا القَوْلِ.
إِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ،
فمَعْنَى الحَدِيثِ: نَهْيُهُ عنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ عَلَى وَجْهٍ
مَخْصُوصٍ، واجْتِمَاعٍ مَعْهُودٍ كالعِيدِ الَّذي يَكُونُ عَلَى وجْهٍ
مَخْصُوصٍ، في زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى المَنْعِ في
جَمِيعِ القُبُورِ وغيرِهَا؛ لأَِنَّ قَبْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ قَبْرٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وقدْ نَهَى عن
اتِّخَاذِهِ عيدًا، فَقَبْرُ غيرِهِ أَوْلَى بالنَّهْيِ كائنًا مَنْ كانَ.
قالَ المُصَنِّفُ: (وفيهِ النَّهْيُ عن الإكثارِ مِن الزِّيارةِ).
قولُهُ: ((وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) قالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (
يُشِيرُ بذَلِكَ إِلَى أنَّ ما يَنَالُنِي مِنْكُم مِن الصَّلاةِ
والسَّلامِ يحْصُلُ مَعَ قُرْبِكُم مِنْ قَبْرِي وبُعْدِكُم، فَلاَ حَاجَةَ
بكم إلى اتِّخاذِهِ عيدًا) انتهَى.
وقَدْ رَوَى أبو داودَ عنْ أبي هُرَيرَةَ مَرْفوعًا: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلاَّ رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ)).
وعنْ أَوْسِ بنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا: ((أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلاَةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ)) قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟
قالَ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الأَنْبِيَاءِ)) رَوَاهُ أبو داودَ، والنَّسائِيُّ، وابنُ مَاجَه.
فهَذِهِ الأَحَادِيثُ وغيرُهَا تَدُلُّ عَلَى أنَّ صَلاَتَنَا عليهِ
تَبْلُغُهُ، سَوَاءٌ كنَّا عندَ قبْرِهِ أوْ لم نَكُنْ، فَلاَ مَزِيَّةَ
لمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أوْ صلَّى عندَ قَبْرِهِ، كَمَا قَالَ الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ: (مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالأَنْدَلُسِ إِلاَّ سَوَاءٌ).
وأمَّا حَدِيثُ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ غَائِبًا بُلِّغْتُهُ)) فرَواهُ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ، مِنْ حديثِ العَلاَءِ بنِ عمرٍو الحَنَفِيِّ: حدَّثَنا أبو عبدِ الرَّحْمَنِ، عن الأَعْمَشِ، عنْ أَبِي صَالِحٍ، عنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذَكَرَهُ.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: (أبو عبدِ الرَّحْمَنِ هَذَا هوَ مُحَمَّدُ بنُ مَرْوانَ السُّدِّيُّ، فيما أَرَى، وفيهِ نَظَرٌ).
قلْتُ: مُحَمَّدُ بنُ مَرْوانَ السُّدِّيُّ الصَّغِيرُ قَالَ فيهِ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ: ليسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ الجُوزجَانِيُّ: ذاهبُ الحديثِ.
وقالَ النَّسَائِيُّ: (مَتْرُوكُ الحَدِيثِ) وكذلِكَ قالَ أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ والأَزْدِيُّ.
وقالَ صَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ: (كَانَ
يَضَعُ الحَدِيثَ، عَلَى أنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ مَعْلُومٌ مِنْ أَحَاديثَ
أُخَرَ، كإِخْبَارِهِ بسَمَاعِ المَوْتَى لسَلاَمِ مَنْ يُسَلِّمُ
عَلَيْهِم إِذَا مَرَّ عَلَى قُبُورِهِم).
فإنْ قِيلَ: إِذَا سَمِعَ سَلاَمَ المُسَلِّمِ عليهِ عندَ قبرِهِ حَصَلَت المَزِيَّةُ بسَمَاعِهِ:
قيلَ: هذا لوْ حَصَلَ الوُصُولُ إلى قَبْرِهِ، أمَا
وقدْ مُنِعَ النَّاسُ مِن الوُصُولِ إليهِ بثَلاَثَةِ الجُدْرَانِ، فَلاَ
تَحْصُلُ مَزِيَّةٌ، فسَوَاءٌ سَلَّمَ عليهِ عندَ قَبْرِهِ أوْ في
مَسْجِدِهِ إِذَا دَخَلَهُ، أوْ في أَقْصَى المَشْرِقِ والمَغْرِبِ،
فالكُلُّ يَبْلُغُهُ، كَمَا ورَدَتْ بهِ الأَحَادِيثُ، ولَيْسَ في شَيْءٍ
مِنْهَا أنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ المُصَلِّي والمُسَلِّمِ بنَفْسِهِ، إنَّما
فيها أَنَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عليهِ ويَبْلُغُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. ومَعْلومٌ أنَّهُ أرادَ بذلكَ الصَّلاَةَ والسَّلاَمَ الَّذي
أَمَرَ بهِ اللهُ، سَواءٌ صلَّى عليهِ في مَسْجِدِهِ أوْ في مَدِينَتِهِ،
أوْ في مَكَانٍ آخَرَ، فعُلِمَ أنَّ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ مِنْ ذلكَ
فإنَّهُ يَبْلُغُهُ، وأمَّا مَنْ سلَّمَ عليهِ عندَ قَبْرِهِ فإنَّهُ
يَرُدُّ عَلَيْهِ، وذَلِكَ كالسَّلاَمِ عَلَى سَائِرِ المُؤْمِنِينَ ليسَ
هوَ مِنْ خَصَائِصِهِ، ولَكِنْ لاَ يُوصَلُ إلى قَبْرِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(8) هَذَانِ الحَدِيثانِ جيِّدانِ،
حَسَنَا الإسْنادَيْنِ، أمَّا الحَدِيثُ الأوَّلُ فرَوَاهُ أبو داودَ وغيرُهُ، مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ نافِعٍ الصَّائِغِ قالَ: أَخْبَرَني ابنُ أَبِي ذئبٍ، عنْ سعيدٍ المقبريِّ، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فذَكَرَهُ، ورُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشَاهِيرُ، لَكِنَّ عبدَ اللهِ بنَ نافعٍ فيهِ لِينٌ لاَ يَمْنَعُ الاحْتِجَاجَ بهِ.
قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: (هوَ ثِقَة).
وقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: (لاَ بَأْسَ بِهِ).
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: (لَيْسَ بالحَافِظِ، تَعْرِفُ وتُنْكِرُ).
قالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ رَحِمَهُ اللهُ: (ومِثَالُ
هَذَا قَدْ يُخَافُ أَنْ يَغْلَطَ أَحْيانًا، فَإِذَا كَانَ لحَدِيثِهِ
شَوَاهِدُ عُلِمَ أنَّهُ مَحْفُوظٌ، وهَذَا لهُ شَوَاهِدُ مُتَعَدِّدةٌ).
وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ عبدِ الهَادِي: (هوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ جَيِّدُ الإِسْنادِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ يَرْتَقِي بِهَا إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ).
وأَمَّا الحَدِيثُ الثَّانِي:
فرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، والقَاضِي إِسْمَاعِيلُ، والحَافِظُ الضِّيَاءُ في (المُخْتَارَةِ).
قَالَ أَبُو يَعْلَى: (حَدَّثَنا أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَازَيْدُ بنُ الحبَّابِ، ثَنَا جَعْفَرُ بنُ إِبْرَاهِيمَ -مِنْ وَلَدِ ذِي الجَنَاحَيْنِ- ثَنَا عَلِيُّ بنُ عُمَرَ، عنْ أَبِيهِ، عنْ عَلِيِّ بنِ حُسَيْنٍ، فَذَكَرَهُ).
وعَلِيُّ بنُ عُمَرَ: هوَ عَلِيُّ بنُ عُمَرَ بنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (فانْظُرْ
كيفَ هذه السُّنَّةُ كيفَ مَخْرَجُهَا مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ وأَهْلِ
البَيْتِ الَّذينَ لَهُم مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قُرْبُ النَّسَبِ، وقُرْبُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُم إِلَى ذَلِكَ
أَحْوَجُ مِنْ غَيْرِهِم، فكانُوا أَضْبَطَ).
قلْتُ: وللحَدِيثَيْنِ شَوَاهِدُ، منها
ما رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عن
ابنِ عَجْلاَنَ، عنْ سُهَيْلٍ، عنْ جُبَيْرِ بنِ حَنِينٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ
تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلاَ بُيوتَكُم قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ
حَيْثُ مَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي)).
وقالَ
سعيدُ بنُ منصورٍ: حَدَّثَنا عبدُ العزيزِ بنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي
سُهَيْلُ بنُ أَبِي سُهَيْلٍ قَالَ: رَآنِي الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ بنِ
عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالبٍ عندَ القَبْرِ فنَادَانِي وهوَ في بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى العَشَاءِ. فقلْتُ: لاَ أُرِيدُهُ.
فَقَالَ: مَا لِي رَأَيْتُكَ عندَ القَبْرِ؟
فَقُلْتُ: سلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((إِذَا دَخَلْتَ المسجدَ فسلِّم)).
ثُمَّ قالَ: إنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لاَ
تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلاَ تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ،
وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ مَا كُنْتُمْ،
لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيائِهِمْ مَسَاجِدَ)) مَا أَنْتُمْ ومَنْ بالأَنْدَلُسِ إِلاَّ سَوَاءٌ.
ورَوَاهُ القَاضِي إِسْمَاعِيلُ في كِتَابِ (فَضْلِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَلَمْ يَذْكُرْ مَا أَنْتُمْ ومَنْ بالأَنْدَلُسِ إِلاَّ سَوَاءٌ.
- وقَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا: ( حَدَّثَنا حِبَّانُ بنُ عَلِيٍّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَجْلاَنَ، عنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى المهْرِيِّ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلاَ بُيُوتَكُم قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي)) ).
قالَ شيخُ الإسلامِ: (فهذان
المُرْسَلاَنِ مِنْ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ المُخْتَلِفَينِ يَدُلاَّنِ
عَلَى ثُبُوتِ الحَدِيثِ، لا سِيَّما وَقَد احْتَجَّ بهِ مَنْ أرْسَلَهُ،
وذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ عندَهُ، هذا لوْ لم يُرْوَ مِنْ وجُوهٍ
مُسْنَدَةٍ غَيْرِ هَذَيْنِ، فكيفَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْنَدًا؟!).
قولُهُ: (عنْ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ) أي: ابنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ المَعْرُوفِ بزَيْنِ العَابِدِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهوَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وأَعْلَمُهُم.
قالَ الزُّهْرِيُّ: (مَا
رَأَيْتُ قُرَشِيًّا أَفْضَلَ منهُ. ماتَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وتِسْعِينَ عَلَى
الصَّحِيحِ، وأَبُوهُ الحُسَيْنُ سِبْطُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ورَيْحَانَتُهُ، وحَفِظَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، واسْتُشْهِدَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وسِتِّينَ ولهُ
سِتٌّ وخَمْسونَ سَنَةً).
قولُهُ: (أنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَجِيءُ إِلَى فُرْجةٍ) هوَ بَضَمِّ الفَاءِ وسُكُونِ الرَّاءِ واحِدَةُ: الفُرَجِ، وهيَ الكُوَّةُ في الجِدَارِ والخَوْخَةُ ونَحْوُهُما.
قولُهُ: (فيَدْخُلُ فيها فيَدْعُو فنَهَاهُ) إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ.
وهَذَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عنْ قَصْدِ القُبُورِ والمَشَاهِدِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ والصَّلاَةِ عندَهَا، كمَا تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِن اتِّخاذِهَا عيدًا كمَا فَهِمَهُ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ مِن الحَدِيثِ.
فنَهَى ذَلِكَ الرَّجُلَ
عن المَجِيءِ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
للدُّعاءِ عندَهُ، فكيفَ بقَبْرِ غَيْرِهِ.
ويَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَصْدَ الرَّجُلِ القَبْرَ لِأَجْلِ السَّلامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ المَسْجِدَ مِن اتِّخَاذِهِ عِيدًا المَنْهِيِّ عنه، ولهَذَا لَمَّا رَأَى الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ سُهَيْلاً عندَ القَبْرِ نَهَاهُ عنْ ذلكَ، وذَكَرَ لهُ الحَدِيثَ مُسْتَدِلاًّ بِهِ، وأَمَرَ بالسَّلاَمِ عَلَيْهِ عندَ دُخُولِ المَسْجِدِ.
قالَ شَيْخُ الإسلامِ: (ما
عَلِمْتُ أَحَدًا - أيْ: مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ - رخَّصَ فيهِ؛ لِأَنَّ
ذلكَ نَوْعٌ مِن اتِّخاذِهِ عيدًا، ويَدُلُّ أيضًا عَلَى أنَّ قَصْدَ
القبرِ للسَّلامِ إذا دَخَلَ المَسْجِدَ ليُصَلِّيَ مَنْهِيٌّ عنه؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ مِن اتِّخَاذِهِ عيدًا، وكَرِهَ مالكٌ لِأَهْلِ المَدِينَةِ
كلَّمَا دَخَلَ إنسانٌ المسجدَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ السَّلَفَ لم يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذلكَ).
قالَ: ولَنْ يُصلِحَ آخِرَ
هذه الأُمَّةِ إِلاَّ مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، بلْ كانَ الصَّحَابَةُ
والتَّابِعُونَ يَأْتُونَ إلى مَسْجِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فيُصَلُّونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمَانَ، وعَلِيٍّ، رَضِيَ
اللهُ عَنْهُم، ثُمَّ إذا قَضَوا الصَّلاَةَ قَعَدُوا، أوْ خَرَجُوا، ولم
يَكُونُوا يَأْتُونَ القَبْرَ للسَّلاَمِ، لعِلْمِهِم أَنَّ الصَّلاَةَ
والسَّلاَمَ عَلَيْهِ في الصَّلاَةِ أَكْمَلُ وأَفْضَلُ.
وأمَّا دُخُولُهُم عندَ قبْرهِ للصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ هناكَ أوْ للصَّلاةِ والدُّعاءِ فلم يَشْرَعْهُ لهم، بلْ نَهَاهُمْ بقولِهِ: ((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي)) فبَيَّنَ أنَّ الصَّلاةَ تَصِلُ إليهِ مِنْ بُعْدٍ، وكذلِكَ السَّلامُ.
ولَعَنَ مَن اتَّخذَ قُبُورَ الأنبياءِ مَسَاجِدَ،
وكانَتِ الحُجْرَةُ في زَمَانِهِم يُدْخَلُ إليها مِن البابِ إذ كانَت عَائِشَةُ
فيها، وبَعْدَ ذلكَ إِلَى أَنْ بُنِيَ الحَائِطُ الآخرُ، وهم معَ ذلكَ
التَّمَكُّنِ مِن الوُصُولِ إلى قَبْرِهِ لا يَدْخُلُونَ إليهِ لا
لسَلاَمٍ، ولاَ لصَلاَةٍ، ولا لدُعاءٍ لأنفسِهِم ولا لغيرِهِم، ولا
لسُؤَالٍ عنْ حديثٍ أوْ عِلْمٍ، ولا كانَ الشَّيْطانُ يَطْمَعُ فيهم حتَّى
يُسْمِعَهُم كَلاَمًا أوْ سَلاَمًا، فيَظُنُّونَ أنَّهُ هوَ كَلَّمَهُم
وأَفْتَاهُم، وبَيَّنَ لهم الأحاديثَ، أوْ أنَّهُ قدْ رَدَّ عليهم
السَّلامَ بصوتٍ يُسْمَعُ مِنْ خَارِجٍ، كمَا طَمِعَ الشَّيْطانُ في
غيرِهِم، فَأَضَلَّهُم عنْ قبرِهِ وقبرِ غيرِهِ، حَتَّى ظَنُّوا أنَّ
صاحِبَ القَبْرِ يأمُرُهُم ويَنْهاهُم، ويُفْتِيهِم ويُحَدِّثُهُم في
الظَّاهرِ، وأَنَّهُ يَخْرُجُ مِن القَبْرِ ويَرَوْنَهُ خَارِجًا مِن
القَبْرِ، ويَظُنُّونَ أنَّ نَفْسَ أَبْدَانِ المَوْتَى خَرَجَتْ
تُكَلِّمُهُم، وأَنَّ رُوحَ المَيِّتِ تَجَسَّدَت لَهُم، فَرَأوْهَا كمَا
رَآهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ المِعْراجِ.
والمَقْصودُ أنَّ: الصَّحابةَ ما كَانُوا يَعْتادُونَ الصَّلاةَ والسَّلامَ عليهِ عندَ قبْرِهِ،
كمَا يَفْعَلُهُ مَنْ
بَعْدَهُم مِن الخُلُوفِ، وإنَّما كَانَ بَعْضُهُم يَأْتِي مِنْ خَارِجٍ
فيُسَلِّمُ عليهِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، كمَا كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَفْعَلُ.
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، عنْ نَافِعٍ: (كانَ ابنُ عُمَرَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَبَا بَكْرٍ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَبَتَاهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ).
قالَ عُبَيْدُ اللهِ: (مَا
نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَلَ ذلكَ إِلاَّ ابنَ عُمَرَ، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ
لاَ يَقِفُ عندَ القَبْرِ للدُّعاءِ إِذَا سَلَّمَ كَمَا يَفْعَلُهُ
كَثِيرٌ).
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عنْ أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ، فكَانَ بِدْعَةً مَحْضَةً).
وفي (المبسوطِ) قالَ مَالِكٌ: (لاَ أَرَى أَنْ يَقِفَ عندَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ ليُسَلِّمْ ويَمْضِي).
والحِكَايَةُ التي رَوَاهَا القَاضِي عِياضٌ بإسْنادِهِ، عنْ مالكٍ في قِصَّتِهِ مَعَ المَنْصُورِ وأنَّهُ قَالَ لمالكٍ: (يا أبا عبدِ اللهِ أَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ وأَدْعُو، أمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ:
ولِمَ تَصْرِفُ وجْهَكَ عنه وهوَ وَسِيلَتُكَ ووَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ
إِلَى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، بل اسْتَقْبِلْهُ واسْتَشْفِعْ بهِ
يُشفِّعْهُ اللهُ فيكَ).
فهذه الرِّوايَةُ ضَعِيفَةٌ، أوْ مَوْضُوعَةٌ؛ لِأَنَّ في إِسْنادِهَا مَنْ يُتَّهَمُ: مُحَمَّدُ بنُ حُمَيْدٍ، ومَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ.
ونَصَّ أَحْمَدُ
أنَّهُ يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ويَجْعَلُ الحُجْرَةَ عنْ يَسَارِهِ
لِئَلاَّ يَسْتَدْبِرَهُ، وذلكَ بعدَ تَحِيَّتِهِ والسَّلاَمِ عليهِ،
فظَاهِرُ هذا أنَّهُ يَقِفُ للدُّعاءِ بعدَ السَّلامِ، وذَكَرَ أَصْحَابُ مَالِكٍ أنَّهُ يَدْعُو مُسْتَقْبِلاً القِبْلَةَ يُولِّيهِ ظَهْرَهُ.
وبالجُمْلَةِ فَقَد
اتَّفَقَ الأَئِمَّةُ عَلَى أنَّهُ إِذَا دَعَا لا يَسْتَقْبِلُ القَبْرَ،
وتَنَازَعُوا: هَلْ يَسْتَقْبِلُهُ عندَ السَّلامِ عليهِ أمْ لا؟
ومِن الحُجَّةِ في ذَلِكَ مَا رَوَى ابنُ زبالةَ وهوَ في (أَخْبَارِ المَدِينَةِ) عنْ عُمَرَ بنِ هارونَ، عنْ سَلَمَةَ بنِ وردانَ -وهما سَاقِطَانِ- قالَ: رَأَيْتُ
أَنَسَ بنَ مَالِكٍ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ يُسْنِدُ ظَهْرَهُ إلى جِدَارِ القَبْرِ، ثُمَّ يَدْعُو.
وفي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى غيرِهِ
مِن القُبُورِ والمَشَاهِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِن اتِّخاذِهَا أَعْيَادًا،
بلْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الإِشْرَاكِ بأَصْحَابِهَا، كَمَا وَقَعَ مِنْ
عُبَّادِ القُبُورِ الَّذِينَ يَشُدُّونَ إليها الرِّحالَ، ويُنْفِقُونَ
في ذَلِكَ الكَثِيرَ مِن الأَمْوَالِ، وَلَيْسَ لَهُم مَقْصُودٌ إِلاَّ
مُجَرَّدُ الزِّيَارَةِ للقُبُورِ تَبَرُّكًا بتلكَ القِبَابِ والجُدْرَانِ
فَوَقَعُوا في الشِّرْكِ.
هذه المَسْأَلَةُ التي أَفْتَى فيها شَيْخُ الإسلامِ -
أَعْنِي مَنْ سَافَرَ لمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ
والصَّالِحِينَ ومَشَاهِدِهِم - ونَقَلَ فيها اخْتِلاَفَ العُلَمَاءِ في
الإِبَاحَةِ والمَنْعِ، فَمِنْ مُبيحٍ لذلكَ: كَأَبِي حَامِدٍ الغَزَالِيِّ، وأَبِي مُحَمَّدٍ المَقْدِسيِّ، ومِنْ مَانِعٍ لذلكَ: كابنِ بَطَّةَ، وابنِ عَقِيلٍ، وأَبِي مُحَمَّدٍ الجُوينِيِّ، والقَاضِي عِياضٍ، وهوَ قَوْلُ الجُمْهورِ، نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَلَمْ يَكُنْ يُخَالِفُهُ أَحَدٌ مِن الأئمَّةِ، وهوَ الصَّوابُ. فَقَامَ عَلَيْهِ بَعْضُ المُعَاصِرينَ لهُ كالسُّبْكِيِّ
ونحوِهِ فنَسَبَهُ إلى إِنْكَارِ الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا، وهوَ لم
يُنْكِرْ منها إِلاَّ مَا كَانَ بِشَدِّ رَحْلٍ - كَمَا أَنْكَرَهُ
جُمْهُورُ العُلَمَاءِ قبلَهُ - أو الزِّيَارَةَ التي يَكُونُ فيها دُعَاءُ
الأَمْواتِ والاسْتِغَاثَةُ بهِم في المُلِمَّاتِ، مَعَ ما يَنْضَمُّ
إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ المُنْكَرَاتِ.
ومِمَّا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى القُبُورِ ونَحْوِهَا ما أَخْرَجَاهُ في (الصَّحِيحَينِ) عنْ أَبِي سَعِيدٍ، عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى))
فَدَخَلَ في ذَلِكَ شَدُّها لزِيَارَةِ القُبُورِ والمَشَاهِدِ، فإِمَّا
أَنْ يَكُونَ نَهْيًا، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِلاِسْتِحْبابِ.
وَقَدْ جَاءَ في رِوَايَةٍ في (الصَّحِيحِ) بصِيغَةِ النَّهْيِ صَرِيحًا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ للنَّهْيِ. ولِهَذَا فَهِمَ منهُ الصَّحَابةُ المَنْعَ، كَمَا في (المُوَطَّأِ) و(السُّنَنِ) عنْ بَصْرَةَ بنِ أَبِي بَصْرَةَ الغِفَارِيِّ، أنَّهُ قالَ لأَِبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَقْبَلَ مِن الطُّورِ: (لوْ أَدْرَكْتُكَ قبلَ أَنْ تَخْرُجَ إليهِ لَمَا خَرَجْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((لاَ تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى)) ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، وعُمَرُ بنُ شبَّةَ في (أخبارِ المدينةِ) بإسنادٍ جيِّدٍ عنْ قَزْعَةَ. قالَ: أَتَيْتُ ابنَ عُمَرَ فقُلْتُ: (
إنِّي أُرِيدُ الطُّورَ؛ فقالَ: إنَّما تُشَدُّ الرِّحالُ إلى ثَلاَثَةِ
مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، ومسجدِ المدينةِ، والمسجدِ الأَقْصَى، فَدَعْ
عَنْكَ الطُّورَ فَلاَ تَأْتِهِ) ورَوَى أحْمَدُ وعُمَرُ بنُ شبَّةَ أيضًا، عنْ شهرِ بنِ حَوْشَبٍ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ - وذُكِرَ عندَهُ الصَّلاةُ في الطُّورِ - فقالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ
يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهَا إِلَى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى
فِيهِ الصَّلاَةُ غَيْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا،
وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى)).
فأبو سعيدٍ: جَعَلَ الطُّورَ ممَّا نُهِيَ عنْ شَدِّ الرِّحَالِ إليهِ،
معَ أنَّ اللَّفْظَ الَّذي ذَكَرَهُ إنَّما فيهِ النَّهْيُ عنْ شَدِّهَا
إلى المَسَاجِدِ، فدَلَّ عَلَى أنَّهُ عَلِمَ أَنَّ غيرَ المَسَاجِدِ
أَوْلَى بالنَّهْيِ، والطُّورُ إنَّما يُسَافِرُ مَنْ يُسَافِرُ إليهِ
لفَضِيلَةِ البُقْعَةِ، وأَنَّ اللهَ تعالَى سَمَّاهُ الوَادِيَ
المُقَدَّسَ والبُقْعَةَ المُبارَكَةَ، وكلَّمَ اللهُ مُوسَى هناكَ.
وهذا ظَاهِرٌ لاَ يَخْفَى
عَلَى أَحَدٍ مِمَّن يَقُولُ بفَحْوَى الخِطَابِ وتَنْبِيهِهِ، وهم
الجمهورُ والأَئِمَّةُ الأربعةُ وأتْباعُهُم، ولهذا لم يُوجِبُوا عَلَى
مَنْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلى أَثَرِ نَبِيٍّ مِن الأنبياءِ - قُبُورِهِم
أوْ غيرِ قُبُورِهِم - الوَفَاءَ بذلكَ، بلْ لوْ سَافَرَ إلى مَسْجِدِ
قُبَاءَ مِنْ بَلَدٍ بعيدٍ لم يَكُنْ هَذَا مَشْرُوعًا باتِّفَاقِ
الأَئمَّةِ الأربعةِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كانَ يَأْتِيهِ كلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا ومَاشِيًا، وإنْ كانَ في
وُجُوبِ الوَفَاءِ بِنَذْرِ إِتْيَانِهِ خِلاَفٌ، والجُمْهورُ عَلَى أنَّهُ
لاَ يَجِبُ.
وقدْ صَرَّحَ مَالِكٌ
وغيرُهُ بأَنَّ مَنْ نَذَرَ السَّفَرَ إلى المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ
إِنْ كانَ مَقْصودُهُ الصَّلاةَ في مسجدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَفَّى بِنَذْرِهِ، وإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ
زِيَارَةِ القَبْرِ مِنْ غيرِ صَلاَةٍ في المسجدِ لم يَفِ بنَذْرِهِ.
قالَ: لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ)). ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ بنُ إِسْحَاقَ في (المَبْسُوطِ) وَمَعْناهُ في (المُدَوَّنَةِ) و(الجلابِ) وغيرِهِما منْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وبالجُمْلَةِ، فَقَدْ
تَنَازَعَ العُلَمَاءُ في شَدِّ الرِّحَالِ إلى غَيْرِ المَسَاجِدِ
الثَّلاَثَةِ، فالجُمْهورُ عَلَى المَنْعِ، وطَائِفَةٌ مِن
المُتَأَخِّرِينَ عَلَى الجَوَازِ، فاسْتِحْبَابُ شَدِّ الرِّحَالِ إلى
القُبُورِ والمَشَاهِدِ، والتَّقَرُّبُ بهِ إلى اللهِ -كمَا ظنَّهُ السُّبْكِيُّ وغيرُهُ- قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مُخَالِفٌ للإجْمَاعِ قَبْلَهُ، والأَحَادِيثُ التي احْتَجَّ بهَا كحَدِيثِ: ((مَنْ زَارَنِي بَعْدَ وَفَاتِي فَكَأنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي))
ونحوِهَا لا يَصِحُّ منها شَيْءٌ عنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ولا عنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ البتَّةَ، بلْ هيَ ما بينَ
ضَعِيفٍ ومَوْضوعٍ، أوْ كلُّها مَوْضوعةٌ، كمَا قدْ بَيَّنَ عِلَلَها شيخُ الإسلامِ وغيرُهُ،
وكَثِيرٌ منها لا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذْ لَيْسَ فيهِ
إِلاَّ مُطْلَقُ الزِّيارَةِ، وذَلِكَ لاَ يُنْكِرُهُ شيخُ الإسلامِ ولا
غيرُهُ مِن العُلَماءِ؛ لأنَّهُ مَحْمولٌ عَلَى الزِّيَارةِ الشَّرْعِيَّةِ
الجَارِيَةِ عَلَى وفْقِ مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وهيَ التي لا يكونُ فيها شِرْكٌ ولاَ شَدُّ رَحْلٍ إلى قَبْرٍ،
وبتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لا تَدُلُّ عَلَى شدِّ الرِّحالِ إلى قَبْرِ
غيرِهِ، والسُّبْكِيُّ أَجَازَ ذَلِكَ في سَائِرِ القُبُورِ، فخالَفَ الأَحَادِيثَ وخَرَقَ الإِجْمَاعَ، واللهُ أعْلَمُ.
قالَ المُصَنِّفُ: (وفيهِ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البَرْزَخِ تُعْرَضُ عليهِ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ في الصَّلاَةِ والسَّلامِ).
قولُهُ: رواهُ في (المُخْتَارَةِ)، (المُخْتَارةُ): كِتَابٌ جَمَعَ فيهِ مُؤَلِّفُهُ الأحاديثَ الجِيَادَ الزَّائِدَةَ عَلَى (الصَّحِيحَيْنِ)، ومُؤَلِّفُهُ هوَ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الواحدِ المَقْدِسيُّ الحَافِظُ ضياءُ الدِّينِ الحَنْبَلِيُّ، أَحَدُ أَعْلاَمِ الإِسْلاَمِ وحُفَّاظِ الحديثِ.
قالَ الذَّهَبيُّ: (أَفْنَى
عُمْرَهُ في هذا الشَّأْنِ، مَعَ الدِّينِ المَتِينِ، والوَرَعِ
والفَضِيلَةِ التَّامَّةِ، والثِّقَةِ والإتْقَانِ، انْتَفَعَ النَّاسُ
بتَصَانِيفِهِ، والمُحَدِّثُونَ بكُتُبِهِ، فاللهُ يَرْحَمُهُ ويَرْضَى
عَنْهُ).
وقَالَ شيخُ الإسلامِ: (تَصْحِيحُهُ في (مُخْتَارَاتِهِ)خَيْرٌ مِنْ تَصْحِيحِ الحَاكِمِ بِلاَ رَيْبٍ، مَاتَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وأَرْبَعِينَ وسِتِّمِائَةٍ).
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (بابُ
ما جاءَ فِي حِمايَةِ المصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنابَ
التَّوحيدِ وسَدِّهِ كُلَّ طَريقٍ يُوصِلُ إِلى الشِّركِ).
الْجَنَابُ: هوَ الجانِبُ: والمرادُ حِمَايتُهُ عمَّا يقرُبُ إليهِ أوْ يُخَالِطُهُ من الشِركِ وأسبَابِهِ.
(6) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: وقولُ اللهِ تعالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
قالَ ابنُ كثيرٍ:
(يقولُ تعالى مُمْتَنًّا على المؤمنينَ بما أرسلَ إليهِم رسولاً منْ
أنفسِهِم؛ أيْ: مِنْ جنْسِهِم وعلى لُغَتِهِم، كمَا قالَ إبراهيمُ عليهِ
السلامُ:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة:129].
- وقالَ تعالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[آل عِمرانَ:164].
- وقالَ تعالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أيْ: منكم).
كمَا قالَ جَعْفَرُ بنُ أبي طالِبٍ لِلنَّجَاشِيِّ، والمغيرةُ بنُ شُعْبَةَ لرسولِ كِسْرَى: (إِنَّ اللهَ بَعَثَ فينا رسولاً منَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِفَتَهُ، ومُدْخَلَهُ ومُخْرَجَهُ، وَصِدْقَهُ وأمَانَتَهُ) وَذَكَرَ الحديثَ.
وقالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عنْ جعفرِ بنِ محمَّدٍ، عنْ أبيهِ في قولِهِ تعالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} قالَ: (لَمْ يُصِبْهُ شيءٌ مِنْ وِلادةِ الجاهليَّةِ).
وقولُهُ: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}
أيْ: يَعِزُّ عليهِ الشيءُ الذي يُعْنِتُ أُمَّتَهُ ويَشُقُّ عليها؛ ولهذا
جاءَ في الحديثِ المَرْوِيِّ منْ طُرُقٍ عنهُ أَنَّهُ قالَ: ((بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)) وفي (الصحيحِ): ((إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ)).
وشريعتُهُ كُلُّها سَمْحَةٌ سهلَةٌ كامِلةٌ يسيرةٌ على مَنْ يَسَّرَهَا اللهُ عليهِ.
قولُهُ: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أيْ: على هِدَايتِكم وَوُصُولِ النفعِ الدُّنْيَوِيِّ والأُخْرَوِيِّ إليكم. وعنْ أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: (تَرَكَنَا
رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما طَائِرٌ يُقلِّبُ
جَنَاحَيْهِ فِي الهَوَاءِ إِلاَّ وَهُوَ يَذْكُرُ لَنا مِنْهُ عِلْمًا) أخرَجَهُ الطبرانيُّ.
قالَ: وقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ إِلاَّ وَقَدْ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ)).
وقولُهُ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}كما قالَ تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:215-216] وهكذا أمرَهُ تعالى في هذهِ الآيَةِ الكريمةِ.
قُلْتُ: فاقْتَضَتْ هذهِ الأوصافُ التي وَصَفَ اللهُ بها رسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حقِّ
أُمَّتِهِ أنْ أنْذَرَهم وحذَّرَهم الشِّركَ الذي هوَ أعظمُ الذنوبِ،
وبيَّنَ لهم ذرائِعَهُ المُوصِلَةَ إليهِ، وأَبْلَغَ في نَهْيِهِم عنْهَا.
ومنْ ذلكَ تعظيمُ القبورِ والغُلُوُّ فيها، والصلاةُ عندَها وإليها، ونحوُ ذلكَ مِمَّا يُوصِلُ إلى عبادتِها، كما تقدَّمَ وكمَا سيأتي في أحاديثِ البابِ.
(7) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (عَنْ أَبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ
تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا،
وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ حسَنٍ، رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ).
قولُهُ: ((لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا)) قالَ شيخُ الإِسلامِ: (أيْ: لا تُعَطِّلُوها من الصلاةِ فيها والدعاءِ والقراءةِ؛ فتكونَ بمنزلةِ القبورِ.
فأمَرَ
بتحرِّي العبادةِ في البيوتِ ونَهَى عنْ تحرِّيها عندَ القبورِ، عكْسُ ما
يفْعَلُهُ المشركونَ من النصارى ومَنْ تشبَّهَ بِهِم منْ هذهِ الأمَّةِ).
وفي (الصحيحَيْنِ) عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: ((اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا)).
وفي (صحيحِ مسلمٍ) عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: ((لاَ
تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ
الْبَيْتِ الَّذِي يَسْمَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ)).
قولُهُ: ((وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا)) قالَ شيخُ الإِسلامِ: (العيدُ
اسمٌ لِمَا يعودُ من الاجتماعِ العامِّ على وجهٍ مُعْتَادٍ، عائِدًا إمَّا
بِعَوْدِ السنَةِ أوْ بِعَوْدِ الأسبوعِ أو الشهرِ ونحوِ ذلكَ).
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (العيدُ
ما يُعْتَادُ مجيئُهُ وقَصْدُهُ منْ زمانٍ ومكانٍ، مأخوذًا مِن المعاودَةِ
والاعتيادِ. فإذا كانَ اسمًا للمكانِ فهوَ المكانُ الذي يُقْصَدُ فيهِ
الاجتماعُ وانتيابُهُ للعبادةِ أوْ غيرِها، كما أنَّ المسجدَ الحرامَ
ومِنًى ومُزْدَلِفَةَ وعَرَفَةَ والمشاعِرَ جعلَهَا اللهُ عيدًا
للحُنَفَاءِ ومثابَةً؛ كما جعلَ أيَّامَ العيدِ فيها عيدًا.
وكانَ
للمشركينَ أعيادٌ زمانيَّةٌ ومكانيَّةٌ، فلمَّا جاءَ اللهُ بالإِسلامِ
أَبْطَلَهَا وعَوَّضَ الحُنَفَاءَ منها عيدَ الفِطْرِ وعيدَ النحرِ وأيامَ
مِنًى، كما عوَّضَهُم منْ أعيادِ المشركينَ المكانيَّةِ بالكعبةِ ومِنًى
ومُزْدَلِفَةَ وعرفةَ والمشاعِرِ).
قولُهُ: ((وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)).
قالَ شيخُ الإِسلامِ: (يُشِيرُ
بذلكَ إلى أنَّ ما ينَالُنِي منكم من الصلاةِ والسلامِ يحْصُلُ معَ
قُرْبِكُم منْ قبرِي وبُعْدِكُم، فلا حاجَةَ لكم إلى اتِّخاذِهِ عيدًا).
قولُهُ: ((لاَ تَجْعَلوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا)) تقدَّمَ كلامُ شيخِ الإِسلامِ في معنى الحديثِ قبلَهُ. انتهَى.
(8) قولُهُ: ( وعَنْ عَلِيِّ بنِ الحسينِ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَجِيءُ إِلى فُرْجَةٍ كانَتْ عِنْدَ
قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُ فِيها
فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ وَقَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ
مِنْ أَبي، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي
عِيدًا، وَلاَ بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، [وَصَلُّوا عَلَيَّ] فَإِنَّ
تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ)) رواهُ في (المُخْتَارَةِ) ).
هذا الحديثُ والذي قبلَهُ جيِّدانِ حَسَنَا الإسناديْنِ.
أمَّا الأوَّلُ: فرواهُ أبو داودَ وغيرُهُ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ نافعٍ الصائِغِ قالَ: أخبَرَنِي ابنُ أبي ذِئْبٍ، عنْ سعيدٍ المَقْبُرِيِّ، عنْ أبي هريرةَ، فَذَكَرَهُ.
وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مشاهيرُ، لكنَّ عبدَ اللهِ بنَ نافِعٍ، قالَ فيهِ أبو حاتِمٍ الرازِيُّ: (ليسَ بالحافِظِ، تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ).
وقالَ ابنُ مَعِينٍ: (هوَ ثِقَةٌ).
وقالَ أبو زُرْعَةَ: (لا بأْسَ بِهِ).
قالَ شيخُ الإِسلامِ رحمَهُ اللهُ: (ومثلُ هذا إذا كانَ لحديثِهِ شواهِدُ عُلِمَ أنَّهُ محفوظٌ، وهذا لهُ شواهِدُ متعدِّدَةٌ).
وقالَ الحافظُ محمَّدُ بنُ عبدِ الهادي: (هوَ حديثٌ حسَنٌ جيِّدُ الإِسنادِ، ولهُ شواهِدُ كثيرةٌ يَرْتَقِي بها إلى درجةِ الصحَّةِ).
وأمَّا الحديثُ الثاني: فرواهُ أبو يَعْلَى، والقاضِي إسماعيلُ، والحافظُ الضِّيَاءُ، في (المُختَارَةِ).
قالَ شيخُ الإِسلامِ: (فانْظُرْ
هذهِ السُّنَّةَ كيفَ مَخْرَجُهَا منْ أهلِ المدينةِ وأهلِ البيتِ الذينَ
لهم منْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبُ النَّسَبِ
وقُرْبُ الدارِ؛ لأنَّهُم إلى ذلكَ أحوجُ منْ غيرِهم، فكانوا لهُ أضبْطَ) انتهَى.
وقالَ سعيدُ بنُ منصورٍ في (سُنَنِهِ): (حدَّثَنَا عبدُ العزيزِ بنُ محمَّدٍ، أخبرَنِي سُهَيْلُ بنُ أبي سُهَيْلٍ قالَ: رَآني
الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم
عِنْدَ القَبْرِ، فَنَادَاني وَهُوَ في بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى،
فَقَالَ: هَلُمَّ إِلى الْعَشَاءِ.
فَقُلْتُ: لاَ أُرِيدُهُ.
فَقَالَ: مَا لي رَأَيْتُكَ عِنْدَ القَبْرِ؟
فَقُلْتُ: سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ المَسْجِدَ فَسَلِّمْ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لاَ
تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا، وَلاَ تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ،
وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ،
لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ)) ما أَنْتُمْ وَمَنْ بِالأنْدَلُسِ إِلاَّ سَواءٌ).
وقالَ سعيدٌ أيضًا: (حدَّثَنَا حِبَّانُ بنُ عَلِيٍّ؛ حدثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَجْلانَ، عنْ أبي سعيدٍ موْلَى الْمَهْرِيِّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلاَ بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي)).
قالَ شيخُ الإِسلامِ: (فهذانِ
المُرْسَلاَنِ منْ هذَيْنِ الوجهيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ يدُلاَّنِ على
ثبوتِ الحديثِ، لا سِيَّما وقد احتَجَّ بهِ مَنْ أَرْسَلَهُ).
وذلِكَ يقتضي ثُبُوتَهُ عندَهُ؛ هذا لوْ لمْ يُرْوَ منْ وُجُوهٍ مُسْنَدَةٍ غيرَ هذَيْنِ، فكيفَ وقدْ تقدَّمَ مُسندًا؟
قولُهُ: (عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ) أي: ابنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، المعروفُ بِزَيْنِ العابدينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أفضلُ التابعينَ منْ أهلِ بيتِهِ وأعلمُهُم.
قالَ الزُّهْرِيُّ: (ما رَأَيْتُ قُرَشِيًّا أفضلَ منهُ).
ماتَ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ على الصحيحِ.
وأبُوهُ الحُسَيْنُ: سِبْطُ
رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَيْحَانَتُهُ، حَفِظَ عن
النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستُشْهِدَ يومَ عاشوراءَ سنةَ
إحدى وستِّينَ ولهُ سِتٌّ وخمسونَ سنةً، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: (أنَّهُ رأَى رَجُلاً يَجيءُ إِلى فُرْجَةٍ) بضمِّ الفاءِ وسكونِ الراءِ، وهيَ الْكُوَّةُ في الجِدارِ والخَوْخَةُ ونحوُهُما.
قولُهُ: (فَيَدْخُلُ فِيها فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ) هذا يدلُّ على النهيِ عنْ قَصْدِ القبورِ والمشاهدِ لأجلِ الدعاءِ والصلاةِ عندَها.
قالَ شيخُ الإِسلامِ رحمَهُ اللهُ تعالى: (ما
علِمْتُ أحدًا رخَّصَ فيهِ؛ لأنَّ ذلكَ نَوْعٌ من اتِّخاذِهِ عيدًا.
ويدلُّ أيضًا على أنَّ قصدَ القبرِ للسلامِ إذا دخلَ المسجِدَ لِيُصَلِّيَ
منْهِيٌّ عنهُ؛ لأنَّ ذلكَ لمْ يُشْرَعْ).
وكرِهَ مالكٌ
لأهلِ المدينةِ كُلَّمَا دخلَ الإنسانُ المسجِدَ أنْ يَأْتِيَ قبرَ
النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ السلَفَ لمْ يكُونُوا
يفعلونَ ذلكَ، قالَ: (وَلَنْ يُصلِحَ آخِرَ هذهِ الأمَّةِ إلاَّ مَا أصلَحَ أوَّلَها).
وكانَ الصحابةُ والتابعونَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُم يأتونَ إلى مسجِدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ، فإذا قَضَوا الصلاةَ قَعَدُوا أوْ خَرَجُوا، ولمْ
يكُونُوا يأتونَ القبرَ للسلامِ؛ لِعِلْمِهِم أنَّ الصلاةَ والسلامَ عليهِ
في الصلاةِ أكملُ وأفضلُ، وأمَّا دُخُولُهم عندَ قبرِهِ للصلاةِ والسلامِ
عليهِ هُناكَ، أوْ للصلاةِ والدعاءِ، فلَم يَشْرَعْهُ لَهُمْ؛ بلْ
نَهَاهُمْ عنهُ في قولِهِ: ((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي)).
فبيَّنَ أنَّ الصلاةَ
تصِلُ إليهِ منْ بُعْدٍ، وكذلكَ السلامُ، ولعَنَ مَن اتَّخذَ قبورَ
الأنبياءِ مساجِدَ. وكانت الحُجْرةُ في زمانِهم يُدخَلُ إليها من البابِ؛
إذْ كانَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا
فيها، وبعدَ ذلكَ إلى أنْ بُنِيَ الحائِطُ الآخَرُ، وهمْ معَ ذلكَ
التمكُّنِ من الوصولِ إلى قبرِهِ لا يدخلونَ إليهِ، لا سلام، ولا للصلاة،
ولا للدُّعَاءِ لأنفسِهِم ولا لغيرِهم، ولا لسؤالٍ عنْ حديثٍ أوْ علْمٍ،
ولا كانَ الشيطانُ يطمَعُ فيهم حتَّى يُسْمِعَهم كلامًا أوْ سلامًا
فيظنُّونَ أنَّهُ هوَ كَلَّمَهُم وأَفْتَاهُم وبيَّنَ لهم الأحاديثَ، أوْ
أنَّهُ قدْ ردَّ عليهم السلامَ بصوتٍ يُسْمَعُ منْ خَارِجٍ، كما طمِعَ
الشيطانُ في غَيْرِهم فأَضَلَّهم عندَ قبرِهِ وقبرِ غيرِهِ؛ حتَّى ظنُّوا
أنًّ صاحِبَ القبرِ يأمُرُهم ويَنْهَاهُمْ ويُفْتِيهِم ويُحَدِّثُهُم في
الظَّاهِرِ، وأنَّهُ يَخْرُجُ من القبرِ ويَرَوْنَهُ خارِجًا من القبرِ،
ويظنُّونَ أنَّ نَفْسَ أبدانِ المَوْتَى خرجَتْ تُكَلِّمُهُم، وأنَّ رُوحَ
الميِّتِ تجسَّدَتْ لهم فَرَأَوْهَا كمَا رآهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلةَ المعْراجِ.
والمقصودُ: أنَّ الصحابةَ لمْ يكُونُوا يعتادونَ الصلاةَ والسلامَ عليهِ عندَ قبرِهِ كمَا يفعلُهُ مَنْ بعْدَهم مِن الخُلُوفِ؛ وإنَّما كانَ بعضُهم يأتي منْ خَارِجٍ فيُسَلِّمُ عليهِ إذا قدِمَ منْ سَفَرٍ، كما كانَ ابنُ عمرَ يفعلُهُ.
قالَ عُبيدُ اللهِ بنُ عمرَ عنْ نافِعٍ، كانَ ابنُ عمرَ إذا قَدِمَ منْ سَفَرٍ أَتَى قبرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: (السلامُ عليكَ يا رسولَ اللهِ، السلامُ عليكَ ياأبا بكرٍ، السلامُ عليكَ يا أَبَتَاهُ)، ثُمَّ ينصرِفُ.
قالَ عُبيدُ اللهِ: (ما نَعلَمُ أحدًا مِنْ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلَ ذلكَ إلاَّ ابنَ عمرَ) وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا يَقِفُ عندَ القبرِ للدُّعَاءِ إذا سلَّمَ كما يفعلُهُ كثيرٌ.
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ: (لأنَّ ذلكَ لمْ يُنْقَلْ عنْ أحدٍ مِن الصحابةِ، فكانَ بِدْعَةً محضَةً).
وفي (المبسوطِ): قالَ مالكٌ: (لا أرى أنْ يَقِفَ عندَ قبرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولَكِنْ يُسَلِّمُ ويَمْضِي).
ونصَّ أحمدُ أنَّهُ يستقْبِلُ القبلةَ ويجعلُ الحُجْرَةَ عنْ يسارِهِ؛ لئلاَّ يستَدْبِرَهُ.
وبالْجُمْلَةِ قد اتَّفَقَ
الأئمَّةُ على أنَّهُ إذا دعا لا يستقبِلُ القبرَ، وتَنَازَعُوا: هلْ
يستقبلُهُ عندَ السلامِ عليهِ أمْ لا؟
وفي الحديثِ دليلٌ على
منعِ شدِّ الرِّحالِ إلى قبرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى
غيرِهِ من القبورِ والمشاهدِ؛ لأنَّ ذلكَ من اتِّخاذِها أعيادًا، بلْ منْ
أعظمِ أسبابِ الإِشراكِ بأصحابِها.
وهذهِ هيَ المسألةُ التي أفتَى فيها شيخُ الإِسلامِ، أَعْنِي: (مَنْ سافرَ لمُجَرَّدِ زيارةِ قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ، ونقَلَ فيها اختلافَ العلماءِ، فَمِنْ مُبِيحٍ لذلكَ؛كالغزاليِّ وأبي محمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ.
ومِنْ مانِعٍ لذلكَ، كابنِ بَطَّةَ، وابنِ عَقِيلٍ، وأبي محمَّدٍ الجُوَيْنِيِّ، والقاضي عِياضٍ.
وهوَ قولُ الجمهورِ، نصَّ عليهِ مالكٌ ولمْ يُخَالِفْهُ أحدٌ من الأئمَّةِ، وهوَ الصوابُ؛ لِمَا في (الصحيحَيْنِ) عنْ أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى)).
فدخلَ في النهيِ شَدُّها لزيارَةِ القبورِ والمشاهِدِ، فإمَّا أنْ يكونَ نهيًا، وإمَّا أنْ يكونَ نفيًا.
وجاءَ في روايَةٍ بصيغةِ النَّهْيِ، فتعيَّنَ أنْ يكونَ للنهيِ؛ ولهذا فهِمَ منهُ الصحابةُ المنعَ، كما في (المُوَطَّأِ) و(المُسْنَدِ) و(السُّنَنِ) عنْ بَصْرةَ بنِ أبي بَصْرةَ الغِفَاريِّ،أنَّهُ قالَ لأبي هريرةَ، وقدْ أقبَلَ من الطُّورِ: لوْ أَدْرَكْتُكَ قبْلَ أنْ تَخْرُجَ إليهِ لمَا خَرَجْتَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ يقولُ: ((لاَ
تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى)).
وروى الإِمامُ أحمدُ وعمرُ بنُ شَبَّةَ في (أخبارِ المدينةِ) بإسنادٍ جيِّدٍ عنْ قَزَعَةَ قالَ: أتيتُ ابنَ عمرَ فَقُلْتُ: إني أُرِيدُ الطُّورَ، فقالَ:
(إِنَّما تُشدُّ الرِّحالُ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، ومسجدِ
المدينةِ، والمسجدِ الأقصى، فدَعْ عنكَ الطُّورَ ولا تأْتِهِ).
فابنُ عمرَ وبَصْرةُ
بنُ أبي بَصْرَةَ جَعَلاَ الطُّورَ مِمَّا نُهِيَ عنْ شدِّ الرِّحالِ
إليهِ؛ لأنَّ اللَّفظَ الذي ذَكَرَاهُ فيهِ النهيُ عنْ شدِّها إلى غيرِ
الثلاثةِ ممَّا يُقْصَدُ بهِ القُرْبَةُ، فَعُلِمَ أنَّ المستثْنَى منهُ
عامٌّ في المساجِدِ وغيرِها، وأنَّ النَّهيَ ليسَ خاصًّا بالمساجدِ؛ ولهذا
نَهَيَا عنْ شدِّها إلى الطورِ مُسْتَدِلَّيْنِ بهذا الحديثِ.
والطُّورُ إنَّما يُسَافِرُ مَنْ يُسَافِرُ إليهِ لفضيلةِ البُقْعَةِ؛ فإنَّ اللهَ سمَّاهُ (الواديَ المقدَّسَ، والبُقْعَةَ المباركَةَ) وكلَّمَ كليمَهُ موسى
عليهِ السلامُ هناكَ، وهذا هوَ الذي عليهِ الأئمَّةُ الأربَعَةُ وجمهورُ
العلماءِ؛ ومَنْ أرادَ بَسْطَ القولِ في ذلكَ والجوابَ عَمَّا يُعَارِضُهُ
فَعَلَيْهِ بما كَتَبَهُ شَيْخُ الإِسلامِ مُجِيبًا لابنِ الأَخْنَائِيِّ فيما اعتَرَضَ بهِ على ما دَلَّتْ عليهِ الأحاديثُ الصحيحةُ وأخذَ بهِ العلماءُ، وفي (الجوابِ الباهرِ) الذي نقلَ عنهُ ابنُ عبدِ الهادي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وقياسُ الأَوْلَى؛ لأنَّ المفسدةَ في ذلكَ ظاهرةٌ.
وأما النهيُ عنْ زيارةِ غيرِ المساجدِ الثلاثةِ، فغايَةُ ما فيها أنَّها لا مصلحةَ في ذلكَ تُوجِبُ شدَّ الرِّحالِ؛ ولا مَزِيَّةَ تَدْعُو إليهِ.
وقدْ بسَطَ القولَ في ذلكَ الحافِظُ محمَّدُ بنُ عبدِ الهادي في كتابِ (الصَّارِمِ المُنْكِيِّ) في رَدِّهِ على السُّبكِيِّ، وذكَرَ فيهِ عِلَلَ الأحاديثِ الواردةِ في زيارةِ قَبْرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وذكرَ هوَ وشيخُ الإِسلامِ رحمَهُ
اللهُ، أنَّهُ لا يصِحُّ منها حديثٌ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ولا عنْ أحدٍ منْ أصحابِهِ، معَ أنَّها لا تَدُلُّ على مَحَلِّ
النزاعِ؛ إذْ ليسَ فيها إلاَّ مُطْلَقُ الزيارةِ، وذلكَ لا يُنْكِرُهُ أحدٌ
بدونِ شدِّ الرحالِ؛ فَيُحْمَلُ على الزيارةِ الشرعيَّةِ التي ليسَ فيها
شِرْكٌ ولا بدعةٌ.
قولُهُ: (رواهُ في (المختارَةِ)): (المُخْتَارَةُ): كِتَابٌ جَمَعَ فيهِ مُؤَلِّفُهُ الأحاديثَ الْجِيَادَ الزائِدةَ على (الصحيحيْنِ).
ومؤلِّفُهُ هوَ أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ عبدِ الواحِدِ المَقْدِسِيُّ الحافِظُ ضياءُ الدينِ الحَنْبَلِيُّ أحدُ الأعلامِ.
قالَ الذَّهَبِيُّ: (أفْنَى عُمُرَهُ في هذا الشأنِ معَ الدينِ المتينِ، والوَرَعِ والفضيلةِ التامَّةِ والإتقانِ، فاللهُ يَرْحَمُهُ ويَرْضَى عنهُ).
وقالَ شيخُ الإِسلامِ: (تصحيحُهُ في (مُخْتَارَاتِهِ) خيرٌ منْ تصحيحِ الحاكِمِبلا رَيْبٍ، ماتَ سنةَ ثلاثٍ وأربعينَ وستِّمِائةٍ).
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) مَن تأَمَّلَ نُصوصَ الكتابِ والسنةِ في هذا البابِ رأَى نُصوصًا كَثِيرَةً تَحُثُّ عَلَى القيامِ بكُلِّ ما يُقَوِّي التوحيدَ وَيُنَمِّيه وَيُغَذِّيهِ؛ مِن الحثِّ على الإِنابةِ إلى اللهِ وانْحِصارِه في تَعلُّقِ القَلْبِ باللهِ رَغْبَةً ورَهْبَةً، وقُوَّةِ الطَّمَعِ في فَضْلِه وإِحْسانِه والسَّعْيِ لتَحْصِيلِ ذلك وإلى التحَرُّرِ مِن رِقِّ المَخْلُوقِينَ وعَدَمِ التَّعَلُّقِ بِهِم بوَجْهٍ مِن الوجوهِ أو الغُلُوِّ في أحدٍ مِنْهم، والقيامِ التامِّ بالأعْمالِ الظاهرةِ والباطنةِ وتكميلِها وخصوصًا حثَّ النُّصُوصِ عَلَى رُوحِ العُبُودِيَّةِ وهو الإِخْلاَصُ التامُّ للهِ وحدَه.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (25)
قولُه: (المُصْطَفَى)
أصلُها: المُصْتَفَى مِن الصَّفْوَةِ وهو خِيارُ الشَّيْءِ، فالنَّبيُّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أفضلُ المُصْطَفَيْنَ؛ لأنَّه أَفْضَلُ
أُولِي العَزْمِ مِن الرُّسلِ، والرُّسلُ هم المُصْطَفَوْنَ، والمرادُ بهِ:
محمَّدٌ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، والاصْطِفاءُ على دَرَجاتٍ أَعْلاها اصْطِفاءُ
أُولِي العَزْمِ من الرُّسلِ، ثم الرُّسلِ ثُمَّ اصْطِفاءُ الأنبياءِ، ثم
اصْطِفاءُ الصِّدِّيقِين، ثم اصطفاءُ الشُّهَداءِ، ثم اصطفاءُ الصَّالحين. وعلى هذا فجميعُ الذُّنوبِ دونَه لِقولِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}
فيَشْمَلُ كبائرَ الذُّنوبِ وصَغائرَها، فالشِّركُ لَيْسَ بالأمرِ
الهيِّنِ الذي يُتَهاوَنُ به، فالشِّركُ يُفْسِدُ القلبَ والقَصْدَ، وإذا
فَسَدَ القَصْدُ فَسَدَ العملُ؛ إذ العملُ مَبْنَاه على القَصْدِ، قالَ
-تعالى-: {مَن
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَـئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. (26) قولُهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}الجُملةُ مُؤَكَّدةٌ بثلاثِ مُؤَكِّداتٍ: - القَسَمِ، واللاَّمِ، وقَد:
وهي مُؤَكِّدَةٌ لجميعِ مَدخُولِها بأنَّه رَسولٌ، وأنَّه مِن أنفُسِهِم،
وأنَّه عزيزٌ عَلَيْهِ ما يَشُقُّ علينا، وأنَّه بالمؤمنينَ رَؤُوفٌ رحيمٌ،
فالقَسَمُ مُنْصَبٌّ على كلِّ هذه الأوصافِ الأربعةِ. قِيلَ: لِلعَرَبِ لِقولِهِ: {مِنْ أَنفُسِكُمْ} فالرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- مِن العربِ، قالَ تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}. ولكنْ يُقالُ في الجَوَابِ: أنَّه
خُوطِبَ العربُ بهذا؛ لأنَّ مِنَّةَ اللهِ عَلَيْهِم به أَعْظَمُ مِنْ
غيرِهِم حيثُ كانَ مِنْهُم، وفي هذا تشريفٌ لَهُم بلا رَيْبٍ. والاحتمالُ الثَّاني أَوْلَى؛ للعُمومِ، ولقولِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} ولمَّا كانَ المرادُ العربَ قالَ: {مِنْهُم} لا {{مِنْ أَنفُسِهِم}} قال اللهُ -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}، وقالَ -تعالى- عن إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}. (27) قولُهُ: {عَزِيزٌ} أيْ: صَعْبٌ؛
لأنَّ هذه المادَّةَ العينَ والزَّايَ في اللُّغةِ العربيةِ تَدُلُّ على
الصَّلابةِ ومِنْهُ: أَرْضٌ عَزازٌ أيْ: صَلْبةٌ قويَّةٌ، والمعنى: أنَّه
يَصْعُبُ عَلَيْهِ ما يَشُقُّ عَلَيْكُم، ولهذا بُعِثَ بالحَنِيفِيَّةِ
السَّمْحَةِ، وما خُيِّرَ بينَ شيئين إلا اخْتارَ أَيْسَرَهما ما لم يَكُنْ
إثْمًا، وهذا مِن التَّيْسِيرِ الذي بُعِثَ به الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ-. .................... وقدْ يَجْوزُ نحوُ فائزٌ أولو الرَّشَدْ قولُهُ: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم}الحِرْصُ:بَذْلُ الجُهْدِ لإدراكِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ، والمعنى: باذِلٌ غايةَ جُهدِهِ في مَصْلَحتِكم، فهو جامِعٌ بينَ أمرَيْنِ: دَفْعِ المَكْرُوهِ الَّذي أَفادَه قولُهُ: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}وحُصولِ المَحْبوبِ الَّذي أَفَادَه قولُهُ: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}
فَكَانَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- جامِعًا بينَ هذينِ
الوَصْفِين، وهذا مِنْ نِعْمةِ اللهِ عَلَيْنا وعلى الرَّسولِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أنْ يكونَ على هذا الخُلُقِ العظيمِ المُمَثَّلِ
بقولِهِ -تعالى-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. والرَّحمةُ: رِقَّةٌ بالقلبِ تَتَضَمَّنُ الحُنُوَّ على المَرْحُومِ، والعَطْفَ عَلَيْهِ بجَلْبِ الخيرِ لَهُ ودَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ. وقولُنا: رِقَّةٌ في
القلبِ، هذا باعتبارِ المَخْلوقِ، أمَّا بالنَّسبةِ للهِ -تعالى- فلا
نُفَسِّرُها بهذا التَّفسيرِ؛ لأنَّ اللهَ -تعالى- لَيْسَ كمثلِهِ شيءٌ،
ورَحْمةُ اللهِ أعظمُ مِنْ رَحمةِ المخلوقِ لا تُدانِيها رحمةُ المخلوقِ
ولا تُماثِلُها، فَقَدْ ثَبَتَ عَن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- أنَّه قالَ: ((إنَّ
للهِ مِائَةَ رحمةٍ وَضَعَ منها رَحْمَةً واحِدةً يَتَراحَمُ بِها
الخَلْقُ مُنذُ خُلِقُوا إِلى يَوْمِ القِيامَةِ حَتَّى إنَّ الدَّابَّةَ
لَتَرْفَعُ حافِرَها عَنْ وَلَدِها خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)). الجوابُ: أبدًا لا تُدانِيها،
والقَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ رحمةِ الخالقِ ورحمةِ المَخْلوقِ أنَّها
صِفةٌ تَقْتَضِي الإحْسانَ إلى المُرْحومِ، ورحمةُ الخالقِ غيرُ
مَخْلوقةٍ؛لأنَّها مِنْ صِفاتِهِ، ورحمةُ المخلوقِ مخلوقةٌ؛ لأنَّها مِنْ
صِفاتِهِ، فصِفاتُ الخالقِ لا يُمْكِنُ أنْ تَنْفَصِلَ عنه إلى مخلوقٍ؛
لأنَّنا لو قُلْنا بذلِكَ لَقُلْنا بحُلولِ صِفاتِ الخالقِ بالمخلوقِ، وهذا
أمرٌ لا يُمْكِنُ؛لأنَّ صِفاتِ الخالقِ يَتَّصِفُ بها وحْدَه، وصِفاتِ
المخلوقِ يَتَّصِفُ بها وَحْدَه، لكنَّ صِفاتِ الخالقِ لها آثارٌ تَظْهَرُ
في المخلوقِ، وهذه الآَثارُ هي الرَّحمةُ التي نَتَراحَمُ بِها. ولو قِيلَ: إنّه انْتِقالٌ لكانَ أَحْسَنَ. قولُهُ: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ}
الخِطابُ للنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أيْ: قلْ ذلِكَ
مُعْتَمِدًا على اللهِ مُتَوَكِّلاً عَلَيْهِ مُعْتَصِمًا به: حَسْبِيَ
اللهُ، وارتِباطُ الجوابِ بالشَّرطِ واضحٌ، أيْ: فإنْ أَعْرَضوا فلا
يُهِمَنَّكَ إعراضُهم، بَلْ قُلْ بلسانِك وقلبِك: حَسْبِيَ اللهُ، و{حَسْبِيَ} خبرٌ مُقَدَّمٌ و{اللهُ}مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، ويَجوزُ العكسُ بأنْ نَجْعَلَ: {حَسْبِيَ}
مُبْتَدَأً، ولفظُ الجَلالةِ خَبَرٌ، لكن لمَّا كانَتْ (حَسْبُ) نَكِرةً
لا تَتَعَرَّفُ بالإضافةِ كانَ الأَوْلَى أنْ نَجْعَلَها هِيَ الخبرَ. والتَّوَكُّلُ هو: الاعتمادُ على اللهِ بجَلْبِ المَنافِعِ، ودَفْعِ المَضَارِّ مَعَ الثِّقَةِ بهِ، وفعلِ الأسبابِ النَّافعةِ. وقولُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} مَعَ قولِهِ: {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} فيها جمعٌ بَيْنَ توحيدَي الرُّبوبيَّةِ والعُبوديَّةِ، واللهُ تعالى يَجْمَعُ بَيْنَ هذين الأمرين كَثِيرًا.{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}. (28) قولُهُ: ((لا تَجْعَلُوا)) الجملةُ -هنا- نَهْيٌ، فلا ناهيةٌ، والفعلُ مَجْزومٌ وعلامةُ جَزْمِه حَذْفُ النَّونِ، والواوُ فاعلٌ. وكلا المَعْنَيَين صحيحٌ؛
فلا يَجوزُ أنْ يُدْفَنَ الإنسانُ في بيتِه، بل يُدْفَنُ مَعَ المسلمين؛
لأنَّ هذه هي العادَةُ المُتَّبَعةُ مُنْذُ عَهْدِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلى اليومِ، ولأنّه إذا دُفِنَ في بيتِه فإنَّه ربَّما
يَكونُ وَسِيلةً إلى الشِّركِ، فربَّما يُعَظَّمُ هذا المَكانُ، ولأنَّه
يُحْرَمُ مِن دَعَواتِ المسلِمِينَ الذين يَدْعُونَ بالمَغْفِرةِ لأمْوَاتِ
المسلمين عِنْدَ زِيارتِهم للمَقابِرِ، ولأنَّه يُضَيِّقُ على الوَرَثَةِ
مِنْ بَعْدِه فيَسْأَمُون منه، وربَّما يَسْتَوْحِشُون منه، وإذا باعُوه لا
يُساوِي إلاَّ شيئًا قليلاً، ولأنَّه قَدْ يَحْدُثُ عِنْدَه مِن الصَّخَبِ
واللَّعِبِ واللَّغْوِ والأفعالِ المُحَرَّمةِ ما يَتَنافَى مع مَقْصودِ
الشَّارِعِ، فإنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَقولُ: ((زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّها تُذكِّرُكُمُ الآخِرَةَ)). وأمَّا أنَّ المعنى: لا
تَجْعَلُوها قُبُورًا، أي: مِثلَ القُبورِ في عَدَمِ الصَّلاةِ فيها فهو
دَلِيلٌ على أنَّه يَنْبَغِي -إنْ لم نَقُلْ: يَجِبُ- أنْ يَجْعَلَ
الإنسانُ مِنْ صَلاتِه في بيتِِه ولا يُخَلِّيَه مِن الصَّلاةِ. إذًا فيكونُ هذا النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الصَّلاةِ في البُيوتِ؛
لئلاَّ تُشْبِهَ المَقابِرَ، فيكونُ فيه دَلِيلٌ واضحٌ على أنَّ المَقابرَ
لَيْسَتْ مَحَلاَّ للصَّلاةِ، وهذا هو الشَّاهِدُ مِن الحديثِ للبابِ؛
لأنَّ اتِّخاذَ المَقابرِ مَساجدَ سببٌ قريبٌ جدًّا للشِّركِ. واتِّخاذُها مَساجدَ سَبَقَ أنَّ له مَرْتَبَتَيْن: الأُولَى: أن يَبْنِيَ عَلَيْهِا مَسجدًا. الثانيةُ: أنْ يَتَّخِذَها مُصَلًّى يَقْصِدُها لِيُصَلِّيَ عندَها. والحديثُ يَدُلُّ على
أنَّ الأَفْضَلَ: أنَّ المرْءَ يَجْعَلُ مِنْ صَلاتِه في بيتِه، وذلِكَ
جميعُ النَّوافِلِ؛ لِقولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((أفضَلُ صلاةِ الْمَرْءِ في بيتِهِ إِلا الْمَكْتوبَةَ))
إلا ما وَرَدَ الشَّرْعُ أنْ يُفْعَلَ في المسجدِ مثلَ: صلاةِ الكُسُوفِ،
وقِيامِ اللَّيْلِ في رَمَضانَ، حتَّى ولو كُنْتَ في المدينةِ
النَّبويَّةِ؛ لأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قالَ
ذلِكَ وهو في المدينةِ، وتَكونُ المُضاعَفةُ بالنَّسبةِ للفَرَائِضِ،
أوالنَّوافِلِ الَّتي تُسَنُّ لها الجَماعةُ. وكذلِكَ مِن العِيدِ:
أنْ تَعْتادَ شيئًا فتَتَرَدَّدَ إليه مثلَ: ما يَفْعَلُ بعضُ الجَهَلةِ
في شَهْرِ رَجَبٍ، وهو ما يُسَمَّى بالزِّيارةِ الرَّجَبِيَّةِ، حيثُ
يَذْهَبُونَ مِنْ مَكَّةَ إلى المدينةِ، ويَزُورون كما زَعَمُوا قبرَ
النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وإذا أَقْبَلُوا على المدينةِ
تَسْمَعُ لهم صِياحًا، وكانوا سابِقًا يَذْهَبُون مِنْ مَكَّةَ إلى
المدينةِ على الحَمِيرِ خاصَّةً، ولما جاءَت السَّيَّاراتُ صاروا
يَذْهَبُون على السَّيَّاراتِ. الظاهرُ: الثاني، أيْ:
لا تَتَرَدَّدُوا على قبرِي وتَعْتادُوا ذلك، سَواءً قَيَّدُوه بالسَّنةِ
أو بالشَّهْرِ أو بالأسبوعِ فإنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- نَهَى
عَنْ ذلِكَ، وإنما يُزارُ لِسببٍ، كَمَا لو قَدِمَ الإنسانُ مِنْ سَفَرٍ
فذَهَبَ إلى قَبرِهِ فَزَارَه، أو زَارَه لِيَتَذَكَّرَ الآخِرةَ كغيرِه
مِن القبورِ. (29) قولُهُ: ((وَصَلُّوا عَلَيَّ)) هذا أمرٌ، أيْ: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وقد أمَرَ اللهُ بذلِكَ في قولِهِ: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. الجوابُ: نقولُ:
إذا جاءَ مثلُ هذا النَّصِّ، وهو مِنْ أمورِ الغيبِ، فالواجبُ أنْ يُقالَ:
الكَيْفُ مجهولٌ، لا نَعْلَمُ بأيِّ وَسيلةٍ تَبْلُغُه، لكنْ وَرَدَ عَن
النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((إنَّ للهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِيَ السَّلامَ)) فإنْ صَحَّ فهذهِ هي الكيفيَّةُ. (30) قولُهُ: (رَواه أَبُو داودَ بإسنادٍ حَسَنٍ، ورُواتُه ثِقاتٌ) هذا التَّعْبيرُ مِن النَّاحِيةِ الاصْطِلاحيةِ ظاهرُه أنَّ بينَهما اخْتِلافًا، ولكنَّنا نَعْرِفُ أنَّ الحَسَنَ: هو أنْ يَكونَ الرَّاوِي خَفِيفَ الضَّبْطِ، فمعناه أنَّ فيه نَوْعًا مِن الثِّقَةِ، فيُجْمَعُ بينَ كلامِ المؤلِّفِ -رَحِمَهُ اللهُ- وبينَ ما ذَكَرَهُ عَنْ رِوايةِ أَبي دَاوُدَ
بإسنادٍ حَسَنٍ: أنَّ المرادَ بالثِّقَةِ لَيْسَ غايةَ الثِّقَةِ؛ لأنَّه
لو بَلَغَ إلى حَدِّ الثِّقةِ الغايةَ لَكانَ صحيحًا؛ لأنَّ ثِقةَ
الرَّاوِي تَعُودُ على تَحَقُّقِ الوصفَيْنِ فيه، وهما: العَدالةُ والضَّبْطُ، فإذا خَفَّ الضَّبْطُ خَفَّت الثَّقةُ، كَمَا إذا خَفَّت العَدالةُ أيضًا تَخِفُّ الثِّقةُ فيه. فيُجْمَعُ بَيْنَهُما على أنَّ المرادَ: مُطْلَقُ الثِّقةِ، ولكنَّه لا شكَّ فيما أَرَى أنَّه إذا أَعْقَبَ قولَهُ: (حَسَنٌ) بقولِهِ: (رواتُه ثقاتٌ) أنَّه أعلى مما لو اقتصرَ على لفظِ: (حسنٍ). (31) قولُهُ: (وعَنْ عليِّ بنِ الحُسَيْنِ) هو عليُّ بنُ الحُسَيْنِ بنِ عليِّ بنِ أَبي طالِبٍ، يُسَمَّى بزَيْنِ العابِدِينَ مِنْ أَفْضَلِ أهلِ البيتِ عِلْمًا وزُهْدًا وفِقْهًا. والحُسَيْنُ: معروفٌ، ابنُ فاطِمةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-، وأَبُوه: عليٌّ -رَضِيَ اللهُ عنه-. (32) قولُهُ: (يَجِيءُ إِلى فُرْجَةٍ)
هذا الرَّجلُ لا شكَّ أنَّه لم يَتَكَرَّرْ مَجِيئُه إلى هذهِ الفُرْجَةِ
إلاَّ لاعْتِقادِه أنَّ فيها فَضْلاً ومَزِيَّةً، وكونُهُ يَظُنُّ أنَّ
الدُّعاءَ عندَ القبرِ له مَزِيَّةٌ فَتْحُ بابٍ ووَسيلةٌ إلى الشِّركِ،
بَلْ جميعُ العباداتِ إذا كانَتْ عِنْدَ القبرِ فلا يَجوزُ أنْ يُعْتَقَدَ
أنَّ لها مَزِيَّةً، سَواءٌ كانَتْ صَلاةً أو دُعاءً أو قِراءةً، ولهذا
نَقولُ تُكْرَهُ القِراءةُ عِنْدَ القبرِ إذا كانَ الإنسانُ يَعْتَقِدُ
أنَّ القِراءةَ عِنْدَ القبرِ أَفْضَلُ. (33) قولُه: (أَلا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا) قالَ: أُحَدِّثُكُم، والرَّجلُ واحدٌ؛ لأنَّ الظاهِرَ: أنَّه كانَ عِنْدَ أصحابِه يُحَدِّثُهم، فجاءَ هذا الرَّجلُ إلى الفُرْجَةِ. (34) قولُه: (عَنْ أَبي عَنْ جَدِّي) أَبُوهُ: الحُسَيْنُ، وجَدُّه: عليُّ بنُ أَبي طالبٍ. (35) قولُهُ: (عَنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ) السَّنَدُ مُتَّصِلٌ، وفيه عَنْعَنةٌ، لكنَّها لا تَضُرُّه؛ لأنَّها مِنْ غيرِ مُدَلِّسٍ، فتُحْمَلُ على السَّماعِ. (36) قولُهُ: ((لا تَتَّخِذوا قَبْري عِيدًا))
يُقالُ فيه كَمَا في الحديثِ السَّابقِ: إنَّه نَهَى أنْ يُتَّخَذَ قبرُه
عِيدًا يُعْتادُ ويُتَكَرَّرُ إليه؛ لأنَّه وَسيلةٌ إلى الشِّركِ. (37) قولُهُ: ((ولا بُيوتَكُم قُبورًا)) سَبَق مَعْناه. (38) قولُهُ: ((وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُني أَيْنَ كُنْتُم)) اللَّفْظُ هكذا، وأَشُكُّ في صِحَّتِهِ؛ لأنَّ قولَهُ: ((صَلُّوا عَلَيَّ)) يَقْتَضِي أنْ يُقالَ: فإنَّ صَلاتَكُم تَبْلُغُنِي إلاَّ أنْ يُقالَ هذا مِنْ بابِ الطَّيِّ والنَّشْرِ. (39) قولُهُ: (رَوَاه في (المُختارةِ)) الفاعلُ: مُؤلِّفُ المُخْتارةِ، و(المُخْتارةُ): اسمٌ للكِتابِ، أيْ: الأحاديثُ المختارةُ. (40) فيه مسائلُ: الأُولَى: (تفسيرُ آيةِ (براءةٌ)) وسَبَقَ ذلِكَ في أَوَّلِ البابِ. (41) الثانيةُ: (إبعادُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَمَّتَه عَنْ هذا الحِمَى غايةَ البُعدِ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِيَ عِيدًا)). (42) الثالثةُ: (ذِكْرُ حِرْصِه علَيْنا ورَأْفَتِه ورَحْمَتِه) وهذا مَذْكورٌ في آيةِ "بَرَاءةٌ". (43) الرَّابعةُ: (نَهْيُه عَنْ زِيارةِ قبرِهِ على وجهٍ مَخْصوصٍ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا)) فقولُهُ: ((عِيدًا)) هذا هو الوجهُ المَخْصوصُ. (44) الخامسةُ: (نَهْيُه عَن الإكثارِ مِن الزِّيارةِ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا))
لكنَّه لا يَلْزَمُ مِنْهُ الإكثارُ؛ لأنَّه قَدْ لا يَأْتِي إلاَّ بعدَ
سَنَةٍ، ويَكونُ قد اتَّخَذَه عِيدًا، فإنَّ فيه نوعًا مِن الإكثارِ. (45) السَّادسةُ: (حَثُّه على النَّافلةِ في البيتِ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((ولا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا)) وسَبَقَ أنَّ فيها معنيين: المعنى الأوَّلُ: أنْ لا يُقْبَرَ في البيتِ، وهو ظاهرُ الجُمْلةِ. (46) السَّابعةُ: (أنَّه مُقَرَّرٌ عِنْدَهُم أنَّه لا يُصَلَّى في المَقْبَرةِ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا))
لأنَّ المعنى: لا تَجْعَلُوها قُبورًا، أي: لا تَتْرُكُوا الصَّلاةَ فيها
على أَحدِ الوَجْهَين، فكأنَّه مِن المُتَقَرِّرِ عِنْدَهُم أنَّ المَقابرَ
لا يُصَلَّى فيها. (47) الثَّامنةُ: (تعليلُ ذَلِكَ بأنَّ صَلاةَ الرَّجلِ وسَلامَه عَلَيْهِ يَبْلُغُه، وإنْ بَعُدَ فلا حاجةَ إلى ما يتَوَهَّمُه مَنْ أرادَ القُرْبَ)
أي: كَوْنُه نَهَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أنْ يُجْعَلَ قَبرُهُ
عِيدًا، العِلَّةُ في ذلِكَ: أنَّ الصَّلاةَ تَبْلُغُه حيثُ كانَ
الإنسانُ، فلا حاجةَ إلى أنْ يَأْتِيَ إلى قبرِهِ، ولهذا نُسَلِّمُ
ونُصَلِّي عَلَيْهِ في أيِّ مكانٍ فيَبْلُغُه السَّلامُ والصَّلاةُ، ولهذا
قالَ عليُّ بنُ الحُسَيْنِ: ما أَنْتَ ومَنْ في الأَنْدَلُسِ إلاَّ سَواءٌ. (48) التَّاسعةُ: (كَوْنُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في البَرْزَخِ تُعْرَضُ أعمالُ أُمَّتِه في الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَيْهِ) أيْ: فَقَطْ فكلُّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ أو سَلَّمَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ صَلاتُه وسَلامُه، ويُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُني أين كُنْتُم)).
قولُهُ: (حِمايةِ) مِن حَمَى الشَّيءَ إذا جَعَل له مانِعًا يَمْنَعُ مَنْ يَقْرَبُ حولَهُ، ومِنْه حِمايةُ الأَرْضِ عَن الرَّعِْي فيها ونحوَ ذلِكَ.
قولُهُ: (جَنابَ) بمعنى: جانبَ، والتَّوْحِيدُ: تَفْعِيلٌ مِن
الوَحْدةِ، وهو إفرادُ اللهِ -تعالى- بما يَجِبُ له مِن الرُّبوبيَّةِ،
والأُلوهيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ.
قولُهُ: (وسَدِّهِ كُلَّ طَريقٍ) أيْ: مع الحِمايةِ لم يَدَع
الأبوابَ مفتوحةً يَلِجُ إليها مَنْ شاءَ، ولكنَّه سَدَّ كلَّ طريقٍ
يُوصِلُ إلى الشِّركِ؛ لأنَّ الشِّركَ أعظمُ الذُّنوبِ، قال اللهُ -تعالى-:
{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}. قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ: الشِّركُ الأصغرُ لا يَغْفِرُهُ اللهُ؛ لعُمومِ قولِهِ: {أَن يُشْرَكَ بِهِ}.
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
إذًا: الرَّسولُ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، حَمَى جَانِبَ التَّوحيدِ حمايةً
مُحْكَمةً، وسَدَّ كلَّ طريقٍ يُوصِلُ إلى الشِّركِ ولو مِن بعيدٍ؛ لأنَّ
مَنْ سارَ على الدَّرْبِ وَصَلَ، والشَّيْطانُ يُزَيِّنُ للإنسانِ أعمالَ
السَّوْءِ شيئًا فشَيئًا حتَّى يَصِلَ إلى الغايَةِ.
والخِطابُ في قولِهِ: {جَاءَكُمْ}.
ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ عامًّا للأمَّةِ كلِّها، ويكونُ المرادُ بالنَفْسِ هنا الجِنْسَ، أيْ: لَيْسَ مِن الجِنِّ ولا الملائكةِ، بَلْ هو مِن جِنْسِكُم كَمَا قالَ -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
وعلى الاحْتِمالِ الأوَّلِ فيه إشْكالٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بُعِثَ إلى جميعِ النَّاسِ مِن العربِ والعَجَمِ.
وعلى هذا فإذا جاءتْ {مِنْ أَنفُسِهِم} فالمرادُ: عُمومُ الأُمَّةِ، وإذا جاءتْ {منهم} فالمرادُ: العربُ، فعلى الاحتمالِ الثَّاني لا إشْكالَ في الآيةِ.
قولُهُ: {رَسُولٌ} أيْ: مِن اللهِ كَمَا قالَ تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً}.
وفَعُولٌ هنا: بمعنى مُفْعَلٌ، أي: مُرْسَلٌ.
و{مِنْ أَنفُسِكُمْ} سَبَق الكلامُ فيها.
قولُهُ: {مَا عَنِتُّمْ} ما: مصدريَّةٌ، ولَيْسَتْ موصولةً، أي: عَنَتُكُم، أي: مَشَقَّتُكم؛ لأنَّ العَنَتَ بمعنى المَشَقَّةِ قالَ -تعالى-: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ}أيْ: المَشَقَّةَ، والفعلُ بَعْدَ ((ما)) يُؤَوَّلُ إلى مَصْدرٍ مَرْفوعٍ، لكنْ بماذا هو مرفوعٌ؟
يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ{عَزِيزٌ} إذا قلْنا: بأنَّ {عَزِيزٌ}
صِفةٌ لرَسولٍ صارَ المَصْدرُ المُؤَوَّلُ فاعِلاً به، أي: عزيزٌ عَلَيْهِ
عَنَتُكُم، وإنْ قلْنا: عَزِيزٌ خبرٌ مُقَدَّمٌ صار عَنَتُكُم مُبْتَدَأً،
والجُمْلةُ حينَئِذٍ تَكونُ كلُّها صِفةً لرسولٍ، أو يُقالُ: عَزِيزٌ
مُبتدأٌ، وعَنَتُكُم فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبرِ على رَأْيِ الكُوفِيِّين
الذي أَشَارَ إليه ابنُ مالكٍ في قولِهِ:
قولُهُ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
بالمُؤْمِنِينَ: جارٌّ ومَجْرورٌ خبرٌ مُقَدَّمٌ، ورَؤُوفٌ مُبتدأٌ
مُؤَخَّرٌ، ورحيمٌ: مُبتدأٌ ثانٍ، وتَقديمُ الخبرِ يُفِيدُ الحَصْرَ.
والرَّأْفةُ: أَشَدُّ الرَّحْمةِ وأَرَقُّها.
فَمَنْ يُحْصِي هذهِ الرَّحمةَ الَّتي في الخَلائِقِ مُنْذُ خُلِقُوا إلى
يومِ القِيامةِ كَمِّيَّةً؟ ومَنْ يَسْتَطِيعُ أنْ يُقَدِّرَها
كَيْفِيَّةً؟
لا أحدَ يَسْتَطِيعُ إلا اللهُ -عزَّ وجلَّ- الَّذي خَلَقَها.
فهذِهِ رحمةٌ واحدةٌ، فإذا كانَ يومُ القيامةِ رَحِمَ الخَلْقَ بتسعٍ وتسعينَ رحمةً، بالإضافةِ إلى الرَّحمةِ الأُولَى، وهَلْ هذِهِ الرَّحمةُ تُدانِيها رحمةُ المَخْلوقِ؟
قولُهُ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
أيْ: أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في غيرِ المؤمنين
ليس رَؤُوفًا ولا رحيمًا، بَلْ هو شَدِيدٌ عَلَيْهِم كَمَا وَصَفَهُ اللهُ
هو وأصحابَه بذلِكَ في قولِهِ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
قولُه: {فإِن تَوَلَّوْاْ} أيْ: أَعْرَضوا مع هذا البَيانِ الواضحِ بوصفِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وهذا التفاتٌ مِن الخِطابِ إلى الغَيْبةِ؛
لأنَّ التَّوَلِّيَ مع هذا البَيانِ مَكْروهٌ، ولهذا لم يُخاطَبوا بِه
فلمْ يَقُلْ: فإنْ تَوَلَّيْتُم والبَلاغيُّون يُسَمُّونَه الْتِفاتًا.
قولُهُ: {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} أي: لا مَعْبودَ حقٌّ حقيقٌ بالعِبادةِ سِوَى اللهِ عزَّ وجلَّ.
قولُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} عَلَيْهِ جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بـ{ تَوَكَّلْتُ }، وقُدِّمَ للحَصْرِ.
قولُهُ: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
الضَّميرُ يَعودُ على اللهِ -سبحانَهُ-، وربُّ العرشِ أي: خالِقُه،
وإضافةُ الرُّبوبيَّةِ إلى العَرْشِ، وإنْ كانَتْ رُبوبيَّةُ اللهِ
عامَّةً، تَشْريفٌ للعَرْشِ وتعظيمٌ له.
ومناسَبةُ التَّوَكُّلِ لقولِهِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}؛ لأنَّ مَنْ كانَ فوقَ كلِّ شيءٍ، ولا شيءَ فوقَه، فإنَّه لا أحدَ يَغْلِبُه، فهو جديرٌ بأن يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وحدَه.
وقولُهُ: {الْعَرْشِ}
فسَّرَهُ بعضُ النَّاسِ بالكُرْسِيِّ، ثُمَّ فَسَّروا الكُرْسِيَّ
بالعِلْمِ، وحينَئذٍ لا يَكونُ هناكَ كُرْسِيٌّ ولا عَرْشٌ، وهذا
التَّفسيرُ باطلٌ.
والصَّحيحُ: أنَّ العَرْشَ غيرُ الكُرْسِيِّ،
وأنَّ الكُرْسِيَّ غيرُ العِلمِ، ولا يَصِحُّ تفسيرُه بالعلمِ، بَلْ
الكُرْسِيُّ مِنْ مخلوقاتِ اللهِ العظيمةِ الَّذي وَسِعَ السَّماوَاتِ
والأَرْضَ، والعَرْشُ أَعْظَمُ وأعظمُ، ولهذا وَصَفَهُ بأنّه عظيمٌ بقولِهِ
-تعالى-: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وبأنَّه مجيدٌ بقولِهِ: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ}على قِراءةِ كَسْرِ الدَّالِ، وبأنَّه كريمٌ في قولِهِ: {لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} لأنَّه أعظمُ المخلوقاتِ الَّتي بلَغَنَا عِلْمُها، وأَعْلاها؛ لأنََّ اللهَ اسْتَوَى عَلَيْهِ.
وقولُه: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ}
أي: كافِينِي، وهكذا يَجِبُ أنْ يُعْلِنَ المؤمِنُ اعتِمادَه على ربِّه،
ولا سِيَّما في مثلِ هذا المَقامِ الذي يَتَخَلَّى النَّاسُ عَنْهُ؛ لأنَّه
قالَ: {فَإِن تَوَلَّوْا}.
وهذه الكلمةُ؛ كَلِمةُ الحَسْبِ تُقالُ في الشَّدائِدِ، قالَها إبراهيمُ حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، والنَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وأصحابُه حينَ قِيلَ لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
قولُهُ: ((بُيوتَكُم))
جمعُ بيتٍ، وهو: مَقَرُّ الإنسانِ وسَكَنُه، سَواءٌ كانَ مِنْ طِينٍ أو
حِجارةٍ أو خَيْمةٍ وما أَشْبَهَ ذلِكَ، وغالِبُ ما يُرادُ بِه الطِّينُ
والحِجارةُ.
قولُهُ: ((قُبورًا))
مفعولٌ ثانٍ لِتَجْعَلُوا، وهذه الجملةُ اختُلِفَ في معناها، فَمِنْهُم
مَنْ قالَ: لا تَجْعَلُوها قبورًا أيْ: لا تَدْفِنُوا فيها، وهذا لا شكَّ
أنَّه ظاهِرُ اللَّفظِ، ولكنْ أُورِدُ على ذلِكَ دَفْنُ النَّبيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في بيتِه، وأُجِيبَ عنه بأنَّه مِنْ خَصائِصِه
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، فالنَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ- دُفِنَ في بيتِه لسبَبَين:
الأول: ما رُوِيَ عَنْ أَبي بَكْرٍ أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَقُولُ: ((ما مِنْ نَبيٍّ يَمُوتُ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ)) وهذا ضَعَّفَه بعضُ العلماءِ.
الثاني: ما رَوَتْهُ عائِشةُ -رَضِيَ اللهُ عنها-: (أنه خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا).
وقالَ بعضُ العلماءِ: المرادُ بـ((لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم قُبورًا))أي:
لا تَجْعَلُوها مِثلَ القبورِ، أيْ: المَقْبرةِ لا تُصَلُّون فيها؛ وذلِكَ
لأنَّه مِن المُتَقَرِّرِ عِنْدَهم: أنَّ المَقابرَ لا يُصَلَّى فيها،
وأيَّدُوا هذا التَّفسيرَ بأنَّه سَبَقَها جملةٌ في بعضِ الطُّرقِ:((اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُم فِي بُيوتِكُمْ، ولا تَجْعَلُوها قُبُورًا))وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُرادَ: لا تَدَعُوا الصَّلاةَ فيها).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أي: لا تجعلوها خالية من الصلاة فيها والدعاء والقراءة؛ فتكون بمنزلة القبور) .
وفيه أيضًا: أنَّه مِن المُتَقَرِّرِ عندَهم أنَّ المَقْبَرةَ لا يُصَلَّى فيها.
قال ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم): (فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم من هذه الأمة ) .
قولُهُ: ((عِيدًا))العِيدُ: اسمٌ لِما يُعْتادُ فعلُه، أو التَّرَدُّدُ إليه،
فإذا اعْتادَ الإنسانُ أنْ يَعْمَلَ عملاً، كَمَا لو كانَ كلَّما حالَ
عَلَيْهِ الحَوْلُ صَنَعَ طعامًا ودَعَا النَّاسَ، فهذا يُسَمَّى عِيدًا؛
لأنّه جَعَلَهُ يَعُودُ ويَتَكَرَّرُ.
وأيُّهما المرادُ مِنْ كلامِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-؟
الأوَّلُ، أيْ: العملُ الَّذي تَكَرَّرَ بتَكَرُّرِ العامِ، أو التَّرَدُّدُ إلى المكانِ؟
وما يَفْعَلُه بعضُ النَّاسِ في المدينةِ كلَّما صَلَّى الفَجْرَ ذَهَبَ
إلى قَبْرِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -مِنْ أجلِ
السَّلامِ عَلَيْهِ، فيَعْتَادُ هذا كلَّ فَجْرٍ، يَظُنُّون أنَّ هذا مثلُ
زِيارتِهِ في حَياتِهِ، فهذا مِن الجَهْلِ، وما عَلِمُوا أنّهم إذا
سَلَّمُوا عَلَيْهِ في أيِّ مَكانٍ فإنَّ تَسْليمَهُم يَبْلُغهُ.
وفَضْلُ الصَّلاِة على النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- مَعْروفٌ، ومِنْهُ: (أنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً واحدةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بها عَشْرًا).
والصَّلاةُ مِن اللهِ على رسولِهِ لَيْسَ معناها كَمَا قالَ بعضُ أهلِ
العلمِ: إنَّ الصَّلاةَ مِن اللهِ الرَّحمةُ، ومِن الملائكةِ
الاسْتِغْفارُ، ومِن الآدَمِيِّين الدُّعاءُ.
فهذا لَيْسَ بصحيحٍ، بَلْ إنَّ صَلاةَ اللهِ على المرءِ ثَناؤُه عَلَيْهِ في المَلأِ الأعلى، كَمَا قالَ أبو العالِيةَ، وتَبِعَه على ذلِكَ المُحَقِّقُون مِنْ أهلِ العلمِ، ويرد
عليه أن ثناء الله على العبد في الملأ الأعلى غيب لا يعلم إلا بطريق
النقل، وتفسير الصلاة به لم يعرف في القرآن ولا في السنة ولا في كلام
الصحابة.
ويَدُلُّ على بُطْلانِ القَوْلِ الأوَّلِ قولُهُ تعالى: {أُولَـئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). فعطَفَ الرَّحمةَ على
الصَّلواتِ، والأَصْلُ في العطفِ المُغايَرةُ، ولأنَّ الرَّحمةَ تَكونُ
لكلِّ أحدٍ، ولهذا أَجْمَعَ العلماءُ على أنه يَجوزُ أن تَقولَ: فلانٌ
-رَحِمَه اللهُ-، واخْتَلَفُوا هل يَجوزُ أن تَقولَ: فُلانٌ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ؟.
فَمَنْ صَلَّى على مُحَمَّدٍ أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِ في المَلأِ الأَعْلى عَشْرَ مَرَّاتٍ، وهذه نِعمةٌ كبيرةٌ.
قولُهُ: ((فَإِنَّ صَلاتَكُم تَبْلُغُني حَيْثُ كُنْتُمْ)) حيثُ: ظرفٌ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ، ويُقالُ فيها: حيثُ، وحَوْثُ، وحاثُ، لكنَّها قليلةٌ.
كيفَ تَبْلُغُه الصَّلاةُ عَلَيْهِ؟
قولُه: (فَنَهَاهُ) أي: طَلَبَ منه الكَفَّ.
و(ألا) أداةُ عَرْضٍ، أيْ: أَعْرِضُ عَلَيْكُم أن أُحَدِّثَكم، وفائدتُها: تَنبيهُ المُخاطَبِ إلى ما يُرِيدُ أنْ يُحَدِّثَه به.
والمعنى: صَلُّوا عَلَيَّ وسَلِّموا، فإنَّ تَسْلِيمَكم وصَلاتَكُم
تَبْلُغُنِي، وكأنَّه ذَكَرَ الفِعلين والعِلَّتين، لكنْ حَذَفَ مِن
الأُولَى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الثَّانيةُ، ومِن الثانيةِ ما دلَّتْ
عَلَيْهِ الأُولَى.
وقولُهُ: ((وَصَلُّوا عَلَيَّ))
سَبَق معناها، والمرادُ: صَلُّوا عَلَيَّ في أيِّ مكانٍ كُنْتُم، ولا
حاجةَ إلى أنْ تَأْتُوا إلى القَبْرِ وتُسَلِّموا عَلَيَّ وتُصَلُّوا
عَلَيَّ عِنْدَه.
قولُه: ((يَبْلُغُني)) تَقَدَّمَ كيفَ يَبْلُغُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-.
والمؤلِّفُ هو: الضياء المَقْدِسِيُّ مِن الحَنابِلةِ.
وزِيارةُ قبرِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- مِنْ أَفْضَلِ
الأعمالِ مِنْ جِنْسِها، فزِيارتُه فيها سَلامٌ عَلَيْهِ، وحَقُّه -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَعْظَمُ مِنْ حقِّ غيرِه.
وأمَّا مِنْ حيثُ التَّذْكِيرُ بالآخَرةِ فلا فَرْقَ بينَ قبرِهِ وقبرِ غيرِه.
والثاني: الذي هو مِنْ لازِمِ المعنى أنْ لا تُتْرَكَ الصَّلاةُ فيها.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا الباب من جنس الأبواب قبله، في حماية النبي -عليه الصلاة والسلام- جناب التوحيد، وفي سدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك، وأتى بآية براءة وقول الله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
- قوله: {عزيزٌ عليه ما عنتم} يعني: عزيز عليه عنتكم.
عزيز عليه العنت، يعني: أن تكونوا في عنت ومشقة، هذا عزيز عليه لا يرغب فيه عليه الصلاة والسلام.
{حريصٌ عليكم}
فهو -عليه الصلاة والسلام- عزيز عليه عنت أمته؛ وهذا يؤدي أن يأمرهم بكل
خير، وأن ينهاهم عن كل شر؛ وأن يحمي حِمى ما أمرهم به وما نهاهم عنه، لأن
الناس إذا أقدموا على ما نهوا عنه؛ فإنهم أقدموا على مهلكتهم، وأقدموا على
ما فيه عنتهم في الدنيا وفي الأخرى؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- عزيز عليه
عنتهم، عزيز عليه أن يقعوا في وبال عليهم، وفي مشقة عليهم.
ولهذا قال بعدها: {حريصٌ عليكم} لأن هذه وهذه متلازمة:
ومن حرصه علينا عليه الصلاة والسلام، ومن كونه يَعُزُّ عليه
عنتنا عليه الصلاة والسلام: أن حَمى حِمى التوحيد، وحمى جناب التوحيد،
وسدّ كل طريق قد نصل بها إلى الشرك عليه الصلاة والسلام؛ وهذا وجه
الاستدلال من الآية على الباب.
وأما حديث أبي هريرة فوجه الشاهد منه قوله: ((ولا تجعلوا قبري عيداً)) والعيد يكون عيداً مكانياً -كما جاء هنا- ويكون عيداً زمانياً.
((لا تجعلوا قبري عيداً))
يعني: مكاناً تعودون إليه في وقت معلوم من السَّنة، أو في أوقات معلومة
تعتادون المجيء إلى القبر؛ فإن هذا قد يوصل إلى أن يُعَظَّم النبي عليه
الصلاة والسلام، وأن يجعل تعظيمه كتعظيم الله جل وعلا؛ فإن اتخاذ القبور
عيداً من وسائل الشرك، ولهذا قال: ((وصَلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)).
كذلك حديث علي بن الحسين في هذا المعنى، أنه [قال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً؛ ولا بيوتكم قبوراً))]
في معنى ما قبله، ونهى الرجل الذي كان يعتاد المجيء إلى فرجة كانت عند
القبر؛ لأن اعتياده أن يدعو عند القبر هذا نوع غلو، ونوع وسيلة من وسائل
تعظيم القبور واتخاذها عيداً، وهذا من وسائل الشرك؛ فحمى النبي -عليه
الصلاة والسلام- حِمى التوحيد، وحمى جنابه، وسد كل طريق توصل إلى الشرك،
حتى في قبره عليه الصلاة والسلام؛ إذا كان كذلك، فمن باب أولى قبور غيره،
قبور الصالحين، وقبور الأنبياء والمرسلين غيره عليهم الصلاة والسلام؛ فإنهم
أولى بذلك؛ لأنه أفضل خلق الله عليه الصلاة والسلام.
فالذي حصل: أن هذه الأمة
لم تقبل في كثير من فئامها حماية النبي -عليه الصلاة والسلام- ذلك، واتخذت
القبور مساجد، واتخذت القبور عيداً؛ بل بنت عليها المشاهد، بل أسرجتها، بل
قبلت لها الذبائح والنذور، وطيف حولها، وجعلت كالكعبة، وجعلت الأمكنة
حولها مقدسة أعظم من تقديس بقاع الله المباركة؛ بل إن عباد القبور تجد
عندهم من الذل، والخضوع، والإنابة، والرغب والرهب: حين يأتون إلى قبر
النبي؛ أو قبر الرجل الصالح؛ أو قبر الولي، ما ليس في قلوبهم إذا كانوا في خلوة مع الله جل جلاله؛ وهذا عين المحادة لله -جل وعلا- ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
العناصر
- بيان سبب إيراد المصنف لهذا الباب تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...) الآية
- سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً..) الآية تفسير قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك...) الآية
- المراد بقوله: (وجعل منهم القردة والخنازير)، وبيان أنه ليس للممسوخين ذرية معنى قوله: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً)
- بيان مناسبة الآية للترجمة شرح حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لتتبعن سنن من كان قبلكم ...) الحديث
- مناسبة حديث أبي سعيد (لتتبعن..) للباب شرح حديث ثوبان رضي الله عنه: (إن الله زوى لي الأرض ...) الحديث
- ذكر حديث ثوبان بتمامه كما رواه أبو داود، وذكر شواهد له شرح رواية البرقاني لحديث ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- معنى قوله: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، ونظائره
شرح ترجمة الباب (ما جاء في هذه الأمة...)
- مناسبة باب (ما جاء أن بعض هذه الأمة...) لما قبله
- ذكر شبهة من قال إن الشرك الأكبر لا يقع في جزيرة العرب
- الجواب عن هذه الشبهة
- معنى قوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب)
- معنى (الجبت) في قوله: (يؤمنون بالجبت والطاغوت)
- معنى الطاغوت في قوله تعالى: (يؤمنون بالجبت والطاغوت)
- شرح تعريف ابن القيم للطاغوت
- معنى الإيمان بالجبت والطاغوت
- بعض ما يستفاد من قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً)
- معنى قوله: (وعبد الطاغوت)، والقراءات فيها، وما يترتب على ذلك من المعنى
- معنى قوله: (أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل)
- معنى قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)
- بيان معنى قوله: (حذو القذة بالقذة)، وما يستفاد منه
- بيان معنى قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)
- معنى قولهم: (يا رسول الله، اليهود والنصارى؟..)، وعدم منافاة ذلك لرواية أبي هريرة: (فارس والروم)
- بيان وجه الشاهد من حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- بيان الحكمة من ابتلاء هذه الأمة باتباع سَنَن السابقين
- ترجمة ثوبان رضي الله عنه
- بيان معنى قوله: (زوى لي الأرض)
- إشكال في كيفية زوي الأرض للنبي صلى الله عليه وسلم، وجوابه
- في قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
- المراد بقوله: (وأعطيت الكنزين؛ الأحمر، والأبيض)
- معنى قوله: (إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد...) الحديث، وأنواع قضاء الله تعالى
- لا يلزم من ترتب الحكمة على أفعال الله تعالى أن يعلمها العباد
- معنى قوله: (بسنة بعامة)
- معنى قوله: (من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)
- معنى قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً...)، وذكر شيء من تصديق ذلك
- الفرق بين أئمة المتقين والضالين، وذكر بعض الآثار في ذلك
- معنى قوله: (وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة)
- معنى قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين..)، ونظائره من السنة
- بيان تعريف الوثن والفرق بينه وبين الصنم
- بيان المراد بقوله: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون..)، وذكر بعض هؤلاء الكذابين
- معنى قوله: (وأنا خاتم النبيين)، وذكر بعض نظائره
- المراد بالطائفة في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة)
- في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق) دليل على حجية الإجماع
- معنى قوله: (لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم)
- الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة
- ذكر الخلاف في محل الطائفة المنصورة وبيان الصواب في هذه المسألة
- المراد بأمر الله في قوله: (حتى يأتي أمر الله)
- أنواع البركة، وبيان معنى (تبارك وتعالى)
- بيان وجه الشاهد من حديث ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- ذكر علامات النبوة الواردة في حديث ثوبان
شرح مسائل الباب