الدروس
course cover
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟
26 Oct 2008
26 Oct 2008

4197

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الخامس

باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

4197

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ مِنَ التَّغْلِيظِ فِيمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ فَكَيْفَ إِذَا عَبَدَهُ؟

فِي (الصَّحِيحِ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ: ((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، أَوِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)).
فَهَؤُلاَءِ جَمَعُوا بَيْنَ الْفِتْنَتَيْنِ: فِتْنَةِ الْقُبُورِ، وَفِتْنَةِ التَّمَاثِيلِ.
وَلَهُمَا عَنْهَا، قَالَتْ:
(لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا، فَقَالَ - وَهُوَ كَذَلِكَ -: ((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، وَلَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) أَخْرَجَاهُ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: ((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ)).
فَقَدْ نَهَى عَنْهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَعَنَ -وَهُوَ فِي السِّيَاقِ- مَنْ فَعَلَهُ، وَالصَّلاَةُ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُبْنَ مَسْجِدٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهَا:
( خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ) فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْنُوا حَـوْلَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَكُلُّ مَوْضِـعٍ قُصِدَتِ الصَّـلاَةُ فِيهِ فَقَدِ اتُّخِذَ مَسْجِدًا، بَلْ كُلُّ مَوْضِعٍ يُصَلَّى فِيهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا)).
وَلأَِحْمَدَ بِسَنِدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ)) وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) أَيْضًا.


فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

مَا ذَكَرَ الرَّسُولُ فِيمَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُعْبَدُ اللهُ فِيهِ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالِحٍ، وَلَوْ صَحَّتْ نِيَّةُ الْفَاعِلِ.


الثَّانِيَةُ:

النَّهْيُ عَنِ التَّمَاثِيلِ وَغِلَظُ الأَمْرِ فِي ذَلِكَ.


الثَّالِثَةُ:

الْعِبْرَةُ فِي مُبَالَغَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كَيْفَ بَيَّنَ لَهُمْ هَذَا أَوَّلاً، ثُمَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ قَالَ مَا قَالَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي السِّيَاقِ لَمْ يَكْتَفِ بِمَا تَقَدَّمَ.


الرَّابِعَةُ:

نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ الْقَبْرُ.


الْخَامِسَةُ:

أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ.


السَّادِسَةُ:

لَعْنُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ.


السَّابِعَةُ:

أَنَّ مُرَادَهُ صلى الله عليه وسلم تَحْذِيرُهُ إِيَّانَا عَنْ قَبْرِهِ.


الثَّامِنَةُ:

الْعِلَّةُ فِي عَدَمِ إِبْرَازِ قَبْرِهِ.


التَّاسِعَةُ:

فِي مَعْنَى اتِّخَاذِهِ مَسْجِدًا.


الْعَاشِرَةُ:

أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ مَنِ اتَّخَذَهَا مَسْجِدًا

وَبَيْنَ مَنْ تَقُومُ عَلَيْهِ السَّاعَةُ فَذَكَرَ الذَّرِيعَةَ إِلَى الشِّرْكِ قَبْلَ وُقُوعِهِ مَعَ خَاتِمَتِهِ.


الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

ذِكْرُهُ فِي خُطْبَتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ الرَّدَّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَشَرُّ أَهْلِ الْبِدَعِ،

بَلْ أَخْرَجَهُمْ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً وَهُمُ الرَّافِضَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ، وَبِسَبَبِ الرَّافِضَةِ حَدَثَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الْقُبُورِ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَنَى عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ.


الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:

مَا بُلِي بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شِدَّةِ النَّزْعِ.


الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

مَا أُكْرِمَ بِهِ مِنَ الْخُلَّةِ.


الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا أَعْلَى مِنَ الْمَحَبَّةِ.


الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:

التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الصِّدِّيقَ

أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ.


السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:

الإِشَارَةُ إِلَى خِلاَفَتِهِ.

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)

أي: عَبَدَ القبرَ أو الرَّجُلَ الصَّالِحَ، ولَمَّا كانَ عُبَّادُ القُبُورِ إنَّما دُهُوا مِن حيثُ ظَنُّوا أنَّهُم مُحْسِنونَ، فرأَوْا أنَّ أعْمَالَهُم القبيحَةَ حَسَنَةٌ، كمَا قالَ تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}[فاطِر:8] الآيةَ.
نَوَّعَ المصنِّفُ التَّحذيرَ من الافْتِتانِ بالقُبُورِ، وأَخْرَجَهُ في أبوابٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ ليكونَ أوْقَعَ في القَلْبِ، وأحسنَ في التَّعليمِ، وأعظمَ في التَّرهيبِ، فإذا كانَ قَصْدُ قُبُورِ الصَّالحين لعبادَةِ اللهِ عندَهَا فيه من النَّهيِ والوَعيدِ ما سَيَمُرُّ بكَ إنْ شاءَ اللهُ، فكيفَ بعبادةِ أربابِهَا من دونِ اللهِ واعتيادِهَا لذلك في اليومِ والأُسْبُوعِ والشَّهرِ مرَّاتٍ كثيرةً.


(2)

قولُهُ: (في (الصَّحيحِ) أي: في (الصَّحيحينِ).
قولُهُ: (أنَّ أمَّ سَلَمَةَ) هي
هندُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ بنِ المغيرةِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ مَخْزُومٍ القُرَشِيَّةُ المَخْزُومِيَّةُ؛ تَزَوَّجَهَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ أبي سَلَمَةَ سَنَةَ أرْبَعٍ.
وقيلَ: ثلاثٍ، وكانَت قد هاجَرَتْ مع أبي سَلَمَةَ إلى الحَبَشَةِ، ماتَتْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وسِتِّينَ.
قولُهُ: (ذَكَرَتْ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كانَ ذِكْرُ
أُمِّ سَلَمَةَ هذه الكنيسةَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَرَضِ مَوْتِهِ، كمَا جاءَ مُبَيَّنًا في رِوَايَةٍ في (الصَّحيحِ)، وفي (الصَّحيحيْنِ) أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا ذلك لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: (كَنِيسةً) وفي روايةٍ يُقَالُ لها:
مَارِيَّةُ، وهي بفتحِ الكافِ وكسرِ النُّونِ: مَعْبَدُ النَّصارَى.
قولُهُ:
((أُولئِكِ)) بفتحِ الكافِ وكسرِهَا.
قولُهُ:
((إذا ماتَ فيهمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أو العبدُ الصَّالِحُ)) هذا واللهُ أعلمُ شَكٌّ مِن بعضِ رُوَاةِ الحديثِ، هل قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا أو هذا، ففيه التَّحَرِّي في الرِّوايةِ، وجوازُ روايةِ الحديثِ بالمعنى.
قولُهُ:
((بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا)) أي: مَوْضِعًا للعِبَادَةِ، وإن لم يُسَمَّ مَسْجِدًا كالكنائِسِ والمشَاهِدِ.
قولُهُ:
((وصَوَّرُوا فيه تلك الصُّوَرَ)) الإشارةُ بتلك الصُّوَرِ إلى ما ذكرَتْ أمُّ سَلَمَةَ، وأمُّ حَبِيبةَ من التَّصاويرِ التي في الكَنِيسةِ، كمَا في بعضِ ألْفَاظِ الحديثِ، فذكرَتَا مِن حُسْنِهَا وتَصَاوِيرَ فيها.
قولُهُ:
((أولئِك شِرارُ الخَلْقِ عندَ اللهِ)) مُقْتَضَى هذا تَحْرِيمُ مَا ذُكِرَ، لا سيَّما وقد ثَبَتَ اللَّعنُ عليهِ.
قالَ
البَيْضَاوِيُّ: (لَمَّا كانَتِ اليهودُ والنَّصارَى يَسْجُدُونَ لِقُبُورِ الأنبياءِ تَعْظِيمًا لشأنِهِم، ويَجْعَلُونَهَا قِبْلَةً يَتَوَجَّهُونَ في الصَّلاةِ نَحْوَهَا، واتَّخَذُوهَا أوْثَانًا، لعنَهُم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنَعَ المسلمينَ عن مثلِ ذلك).
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (وإنَّما صَوَّرَ أوائِلُهُم الصُّوَرَ ليَتَأَسَّوْا بِهَا، ويَتَذَكَّرُوا أَفْعَالَهُم الصَّالِحَةَ، فيَجْتَهِدون كاجْتِهَادِهِم، ويَعْبُدُون اللهَ عندَ قُبُورِهِم، ثُمَّ خَلَفَهُم قوْمٌ جَهِلُوا مُرَادَهُم، ووَسْوَسَ لهم الشَّيطانُ أنَّ أسْلافَكُم كانُوا يَعْبُدُونَ هذه الصُّوَرَ ويُعَظِّمونَهَا، فَحَذَّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مثلِ ذلك؛ سدًّا للذَّريعَةِ المُؤَدِّيَةِ إلى ذلك).


قولُهُ: (فهؤلاء جَمَعُوا بين الفِتْنَتَيْنِ …) إلى آخِرِهِ، هذا مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ، ذكَرَهُ المُصَنِّفُ عنه، يعنِي: أنَّ الَّذينَ بنَوْا هذه الكَنِيسَةَ جَمَعُوا فيها بينَ فِتْنَتَيْنِ ضَلَّ بِهِمَا كثيرٌ مِن الخلْقِ:


الأُولَى:

فتنةُ القُبُورِ؛ لأنَّهُم افْتَتَنُوا بقبورِ الصَّالِحينَ، وعَظَّمُوهَا تَعْظِيمًا مُبْتَدَعًا، فآلَ بِهِم إلى الشِّرْكِ، وهي أَعْظَمُ الفتنتينِ، بل هي مَبْدأُ الفِتْنَةِ.


الثَّانيةُ:

وهي فتنةُ التَّماثِيلِ، أي: الصُّوَرِ؛ فإنَّهُم لَمَّا افْتَتَنُوا بقُبُورِ الصَّالِحينَ وعظَّمُوها، وبَنَوْا عليها المسَاجِدَ، وصَوَّرُوا فيها الصُّوَرَ للقَصْدِ الَّذي ذكَرَهُ القُرْطُبِيُّ، فآلَ الأمْرُ إلى أن عُبِدَتِ الصُّوَرُ ومَن هي صُورَتُهُ مِن دونِ اللهِ، وهاتان الفِتْنَتَانِ هما سَبَبُ عِبَادَةِ الصَّالِحينَ كاللاَّتِ، وَوَدٍّ، وسُوَاعٍ، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرٍ وغيرِهِم من الصَّالِحينَ.
قالَ
شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وهذه العِلَّةُ هي التي لأجلِهَا نَهَى الشَّارِعُ عن اتِّخَاذِ المسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ، وهي التي أوْقَعَتْ كثيرًا مِن الأُمَمِ إمَّا في الشِّركِ الأكبرِ، أو فيما دونَهُ من الشِّرْكِ؛ فإنَّ النُّفُوسَ قد أَشْرَكَتْ بتماثيلِ القومِ الصَّالِحينَ، وتماثيلَ يزْعُمُونَ أنَّهَا طلاسِمُ لكواكبَ ونحوِ ذلك، فإنَّ الشِّرْكَ بقبرِ الرَّجُلِ الَّذي يُعْتَقدُ صلاحُهُ أقرَبُ إلى النُّفُوسِ من الشِّرْكِ بخَشَبَةٍ أو حَجَرٍ).
ولهذا تَجِدُ أهلَ الشِّرْكِ يَتَضَرَّعُونَ عندَها ويَخْشَعُونَ ويَخْضَعُونَ، ويَعْبُدُونَ بقُلُوبِهِم عِبَادَةً لا يَفْعَلُونَهَا في بُيُوتِ اللهِ ولا وَقْتَ السَّحَرِ، ومِنهم مَن يَسْجُدُ لَهَا، وأكثرُهُم يَرْجُونَ من بَرَكَةِ الصَّلاةِ عندَهَا والدُّعاءِ ما لا يَرْجُونَهُ في المساجِدِ، فلأجلِ هذه المَفْسَدَةِ حَسَمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّتَها حتى نَهَى عن الصَّلاةِ في المَقْبَرَةِ مُطْلَقًا وإن لم يَقْصِدِ المُصَلِّي بَرَكَةَ البُقْعَةِ بصلاتِهِ، كمَا يَقْصِدُ بصلاتِهِ برَكَةَ المساجِدِ، كمَا نَهَى عن الصَّلاةِ وقْتَ طُلُوعِ الشَّمسِ وغروبِهَا؛ لأنهَا أوقاتٌ يَقْصِدُ المُشْرِكونَ فيها الصَّلاةَ للشَّمْسِ، فنَهَى أُمَّتَهُ عن الصَّلاةِ حينَئِذٍ وإن لم يَقْصِدْ ما قَصَدَهُ المُشْرِكونَ؛ سَدًّا للذَّريعَةِ.
قالَ:
(وأمَّا إذا قَصَدَ الرَّجُلُ الصَّلاةَ عندَ القُبُورِ مُتَبَرِّكًا بالصَّلاةِ في تلكَ البُقْعَةِ، فهذا عَيْنُ المُحَادَّةِ للهِ ورسولِهِ، والمخالَفَةِ لدينِهِ، وابتداعِ دينٍ لم يأذَنْ بِهِ اللهُ؛ فإنَّ المسلمينَ قد أجْمَعُوا عَلَى ما عَلِمُوهُ بالاضْطِرَارِ من دينِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الصَّلاةَ عندَ القُبُورِ مَنْهِيٌّ عنها، وأنَّهُ لَعَنَ مَن اتَّخَذَها مَسَاجِدَ).


فمِن أعظَمِ المُحْدَثاتِ وأسبابِ الشِّرْكِ الصَّلاةُ عندَهَا،

واتِّخَاذُهَا مساجِدَ، وبناءُ المساجِدِ عليها، فقد تَوَاتَرَتِ النُّصوصُ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنَّهيِ عن ذلك والتَّغليظِ فيه.
وقد صَرَّحَ عامَّةُ الطَّوائِفِ بالنَّهيِ عن بِنَاءِ المساجِدِ عليها مُتَابَعَةً مِنهم للسُّنَّةِ الصَّحيحَةِ الصَّريحَةِ.
وصرَّحَ أصحابُ
أحمدَ وغيرُهُم مِن أصحابِ مالكٍ، والشَّافِعِيِّ بتحريمِ ذلك، وطائِفَةٌ أطْلَقَتِ الكَرَاهَةَ.


والذي ينْبَغِي أن تُحْمَلَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحريمِ؛

إحسانًا للظَّنِّ بالعُلَماءِ، وأن لا يُظَنَّ بِهِم أن يُجَوِّزُوا فِعْلَ ما تَوَاترَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعْنُ فاعلِهِ والنَّهْيُ عنه.


(3)

هكذا ثَبَتَ في أوَّلِ هذا الحديثِ: (ولَهُمَا)وفي آخِرِهِ: (أخْرَجَاهُ) بِخَطِّ المُصَنِّفِ، وأَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يُغْنِي عن الآخَرِ؛ لأنَّ المُرادَ صَاحِبَا (الصَّحيحيْنِ).
قولُهُ: (لَمَّا نُزِلَ) هو بضمِّ النُّونِ وكسرِ الزَّايِ.
أي: نَزَلَ بهِ مَلَكُ الموْتِ والملائِكةُ الكرامُ عليهم السَّلامُ.
قولُهُ: (طَفِقَ) بكسرِ الفاءِ وفتحِهَا والكسرُ أفصحُ، وبهِ جاءَ القرآنُ، ومعناه: جَعَلَ.
قولُهُ: (خَمِيصَةً) بفتح المُعْجَمَةِ: كِسَاءٌ لَه أعلامٌ.
قولُهُ: (فإذا اغتمَّ بها كشفَهَا). أي: إذا احْتَبَسَ نَفَسُهُ عن الخُرُوجِ كشَفَهَا عن وَجْهِهِ.
قولُهُ:
((لعنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارَى …)) إلى آخِرِهِ، لَعَنَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هذا الفِعْلِ بعينِهِ وهو اتِّخَاذُ قُبُورِ الأنبياءِ والصَّالِحِينَ مساجِدَ، أي: كنائِسَ وبِيَعًا يَتَعَبَّدُون ويَسْجُدونَ فيها للهِ، وإن لم يُسَمُّوها مساجدَ؛ فإنَّ الاعْتِبَارَ بالمعنَى لا بالاسْمِ.
ومثلُ ذلك القِبَابُ والمشاهِدُ المَبْنِيَّةُ عَلَى قُبُورِ الأنبياءِ والصَّالِحينَ؛ فإنَّهَا هي المساجِدُ المَلْعُونُ مَنْ بنَاها عَلَى قُبُورِهِم وإن لم يُسَمِّها مَن بَنَاهَا مساجِدَ.


وفيه:

رَدٌّ عَلَى مَنْ أجَازَ البناءَ عَلَى قبورِ العلماءِ والصَّالحينَ تَمييزًا لهم عن غيرِهِم، فإذا كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعنَ مَنْ بَنَى المساجِدَ عَلَى قُبُورِ الأنبياءِ، فكيفَ بِمَن بناهَا عَلَى قبورِ غيرِهِم؟!
قولُهُ: (يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا) الظَّاهرُ أنَّ هذا من كلامِ
عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا، أي: أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اليهودَ والنَّصارَى عَلَى ذلك؛ تَحْذِيرًا لأُمَّتِهِ أن تَصْنَعَ ما صَنَعُوا.
قالَ
القُرْطُبِيُّ:(وكلُّ ذلك لقَطْعِ الذَّرِيعَةِ المُؤَدِّيَةِ إلى عِبَادَةِ مَنْ فيها كمَا كانَ السَّبَبُ في عِبَادَةِ الأصنامِ).
قولُهُ: (ولولا ذاك) أي: لولا تَحْذِيرُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صَنَعُوا، ولَعْنُ مَنْ فَعَلَ ذلك.
قولُهُ: (لأُبْرِزَ قَبْرُهُ) أي: لدُفِنَ خارِجَ بيتِهِ، ومنه الحديثُ:
((كانَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا بارِزًا للناس،)) أي: جالِسًا خارِجَ بيتِهِ.
قولُهُ: (غير أنَّهُ خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) رُوِيَ بفتحِ الخاءِ وضَمِّها بالبناءِ للفاعلِ والمفعولِ، قالُوا: فأمَّا رِوَايَةُ الفتْحِ، فإنَّهَا تَقْتَضِي أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الَّذي أمرَهُم بذلك، وأمَّا رِوَايَةُ الضَّمِّ، فيَحْتَمِلُ أن تكونَ
عائِشَةُ هي التي خَشِيَتْ كمَا في لفظٍ آخرَ: غيرَ أَنِّي أخْشَى.
أو هي ومَنْ مَعَهَا مِن الصَّحَابَةِ. قُلْتُ: وهذا أظْهَرُ، وروايةُ: غيرَ أنِّي أَخْشَى، لا تُخَالِفُهُ.
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (ولهذا بالَغَ المسلمونَ في سَدِّ الذَّريعَةِ في قَبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعلَوْا حِيطَانَ تُرْبَتِهِ، وسَدُّوا المداخِلَ إليها، وجَعَلُوهَا مُحْدِقَةً بقبرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خافُوا أن يُتَّخَذَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قِبْلَةً إذا كانَ مُسْتَقْبَلَ المُصَلِّينَ، فتُصَوَّرَ الصَّلاةُ إليه بصُورَةِ العِبَادَةِ، فبَنَوْا جِدَارَيْنِ مِن رُكْنَيِ القبرِ الشِّمَالِيَّيْنِ، وحَرَفُوهُمَا حتى الْتَقَيا عَلَى زَاوِيَةٍ مُثَلَّثَةٍ مِن ناحِيَةِ الشِّمَالِ حتى لا يَتَمَكَّنَ أحدٌ من اسْتِقْبَالِ قَبْرِهِ).
قلْتُ: وفي الحديثيْنِ مسائلُ نَبَّهَ
المُصَنِّفُ عَلَى بَعْضِهَا.


مِنها:

ما ذَكَرَ الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيمَنْ بَنَى مسجِدًا يَعْبُدُ اللهَ فيه عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ صالِحٍ، ولو صَحَّتْ نِيَّةُ الفاعِلِ.


ومِنها:

النَّهْيُ عن التَّماثيلِ بتغليظِ الأمرِ.


ومنها:

نهيُهُ عن فِعْلِهِ عندَ قبرِهِ قبلَ أن يُوجَدَ القبرُ.


ومنها:

أنَّهُ مِن سُنَنِ اليهودِ والنَّصارَى في قُبُورِ أنبيائِهِم.


ومنها:

لَعْنُهُ إيَّاهُم عَلَى ذلك.


ومنها:

مُرَادُهُ بذلك تَحْذيرُهُ إيَّانا عن قَبْرِهِ.


ومنها:

العِلَّةُ في عدَمِ إِبرازِ قبرِهِ.


ومنها:

ما بُلِيَ بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شِدَّةِ النَّزْعِ.


قلْتُ:

ومنها:التَّنبيهُ عَلَى عِلَّةِ تَحْريمِ ذلك، وعِلَّةِ لعْنِ مَن فَعَلَهُ.


(1)

قولُهُ: (عنْ جُنْدُبِ بنِ عبدِ اللهِ) أي: ابنِ سُفْيَانَ البَجَلِيِّ أبو عبدِ اللهِ، ويُنْسَبُ إلى جَدِّهِ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، ماتَ بعدَ السِّتِّينَ.
قولُهُ:
((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ)) أيْ: أَمْتَنِعُ مِنْ هذا وأُنْكِرُهُ.


والخليلُ:

هوَ المَحْبُوبُ غايَةَ المَحَبَّةِ، مُشْتَقٌّ من الخَلَّةِ بفتحِ الخاءِ، وهيَ تَخَلُّلُ المَوَدَّةِ في القلبِ، كمَا قالَ الشَّاعِرُ:

قدْ تَخَلَّلْتِ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وبِذَا سُمِّيَ الـخـَلـِيـلُ خـَلـِيـلاَ

هذا هوَ الصَّحيحُ في معناهُ، كمَا ذَكَرَهُ

شيخُ الإسلامِ، وابنُ القَيِّمِ، وابنُ كثيرٍ، وغيرُهُم.
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (وإنَّما كانَ ذلكَ؛ لأنَّ قلبَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد امْتَلأََ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ، وتعظِيمِهِ ومَعْرِفَتِهِ، فلا يَسَعُ لِمُخَالَّةِ غيرِهِ).
قولُهُ:
((فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً)) فيهِ التَّصريحُ بأنَّ الخُلَّةَ أكْمَلُ من المَحَبَّةِ.
قالَ
ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا مَا يَظُنُّهُ بعضُ الغالِطِينَ مِنْ أنَّ المَحَبَّةَ أكْمَلُ مِن الخُلَّةِ، وأنَّ إبراهيمَ خليلُ اللهِ، ومحمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبِيبُ اللهِ، فمِنْ جَهْلِهِم؛ فإنَّ المَحَبَّةَ عَامَّةٌ والخُلَّةَ خاصَّةٌ، وهيَ نِهَايَةُ المَحَبَّةِ، قالَ: وقدْ أَخْبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ قد اتَّخَذَهُ خَلِيلاً، ونَفَى أن يكونَ لهُ خَلِيلٌ غيرُ ربِّهِ، معَ إِخْبَارِهِ بِحُبِّهِ لعائِشَةَ ولأبيها، ولعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُم، وغيرِهِم.
وأيضًا فإنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ، ويُحِبُّ الصَّابرينَ، وخُلَّتُهُ خاصَّةٌ بالخليلَيْنِ، وفيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الإنسانِ ما فيهِ من الفَضْلِ إذا دَعَتِ الحاجَةُ الشَّرْعِيَّةُ إلى ذلكَ)
.
قولُهُ:
((وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً)) فيهِ دليلٌ عَلَى أنَّ الصِّدِّيقَ أفْضلُ الصَّحَابَةِ: حيثُ صَرَّحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ لو اتَّخَذَ خليلاً غيرَ ربِّهِ، لاتَّخَذَ أبا بكرٍ، ففيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّافِضَةِ، وعلى الجَهْمِيَّةِ الَّذينَ هم شَرُّ أهلِ البِدَعِ، بلْ أخْرَجَهُم بعضُ السَّلَفِ من الثِّنْتَيْنِ والسَّبعينَ فِرْقَةً، وبسببِ الرَّافِضَةِ حدَثَ الشِّركُ وعِبَادَةُ القُبُورِ، وهم أوَّلُ مَنْ بَنَى عليها المساجِدَ، قاتَلَهُم اللهُ، قالَهُ المُصنِّفُ.


وفيهِ إشارَةٌ إلى خلافَتِهِ؛

لأنَّ مَنْ كانَتْ مَحَبَّتُهُ لشَخْصٍ أَشَدَّ، فهوَ أحَقُّ النَّاسِ بالنِّيَابَةِ عنه، لا سيَّما وقدْ قالَ ذلكَ في مَرَضِ مَوْتِهِ، خُصُوصًا وقد اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الصَّلاةِ بالنَّاسِ، وغَضِبَ لَمَّا صلَّى بهِم عُمَرُ.
واسمُ
أبي بكرٍ: عبدُ اللهِ بنُ عُثْمَانَ بنِ عامِرِ بنِ عمرِو بنِ كَعْبِ بنِ سَعْدِ بنِ تَمِيمِ بنِ مُرَّةَ، الصِّدِّيقُ الأكبرُ، خَلِيفَةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفضلُ الصَّحَابَةِ بإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أهلِ السُّنَّةِ، ماتَ في جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ ثلاثَ عَشْرَةَ، ولهُ ثلاثٌ وسِتُّونَ سَنَةً.
قولُهُ:
((أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ)) إلى آخِرِ الحديثِ، قالَ الخَلْخَالِيُّ: (وإنْكَارُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنِيعَهُم هذا يُخَرَّجُ عَلَى وجهيْنِ:


أحدُهُما:

أنَّهُم يَسْجُدُونَ لقُبُورِ الأنبياءِ تَعْظيمًا لهم.


والثَّاني:

أنَّهُم يُجَوِّزُونَ الصَّلاةَ في مَدَافِنِ الأنبياءِ والسُّجُودَ في مقابرِهِم، والتَّوَجُّهَ إليها حالَةَ الصَّلاةِ، نَظَرًا مِنهم بذلكَ إلى عِبَادَةِ اللهِ، والمُبَالَغَةِ في تَعْظِيمِ الأنبياءِ.


والأوَّلُ:

هوَ الشِّرْكُ الجَلِيُّ.


والثَّاني:

الخَفِيُّ، فلذلكَ اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ).
قلْتُ: الحديثُ أعَمُّ مِنْ ذلكَ، فيَشْمَلُهُ ويَشْمَلُ بناءَ المساجِدِ والقِبَابِ عليهَا.
قولُهُ: (فقدْ نَهَى عنهُ في آخِرِ حياتِهِ) أيْ: كمَا في حديثِ
جُنْدُبٍ.
قولُهُ: (ثُمَّ إنَّهُ لَعَنَ - وهوَ في السِّياقِ - مَنْ فَعَلَهُ) أيْ: كمَا في حَديثِ
عائِشَةَ.
قولُهُ: (والصَّلاةُ عندَهَا مِنْ ذلكَ، وإن لم يَبْنِ مَسْجِدًا) يعنِي: أنَّ الصَّلاةَ عندَ القُبُورِ وإليهَا مِنِ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ المَلْعُونُ مَنْ فَعَلَهُ، وإن لم يَبْنِ مَسْجِدًا، فتَحْرُمُ الصَّلاةُ في المقبَرَةِ وإلى القُبُورِ، بلْ لا تَنْعَقِدُ أصلاً؛ لِمَا في هذه الأحاديثِ الصَّحيحَةِ وغيرِهَا مِنْ لَعْنِ مَن اتَّخَذَهَا مساجِدَ.
ورَوَى
مُسْلِمٌ، عنْ أبي مَرْثَدَ الغَنَوِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا)).
وعنْ
أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: ((الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ)) رواهُ أحمدُ، وأهلُ السُّنَنِ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ، مِنْ طُرُقٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وفي (صحيحِ البُخَارِيِّ): أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رأَى أَنَسَ بنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عندَ قبرٍ فقالَ: (القَبْرَ القَبْرَ).
وهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ كانَ من المُسْتَقِرِّ عندَ الصَّحابةِ ما نَهَاهُمْ عنه نَبِيُّهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الصَّلاةِ عندَ القُبُورِ، وفِعْلُ
أَنَسٍ لا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِ جَوَازِهِ؛ فإنَّهُ لَعَلَّهُ لم يَرَهُ، ولم يَعْلَمْ أنَّهُ قَبرٌ أوْ ذَهَلَ عنه، فلَمَّا نبَّهَهُ عُمَرُ تَنَبَّهَ.
وفي هذا كُلِّهِ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أنَّ النَّهْيَ عن الصَّلاةِ فيها لأجْلِ النَّجاسَةِ، فهذا أبْعَدُ شيءٍ عنْ مقاصِدِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل العِلَّةُ في ذلكَ الخوفُ عَلَى الأُمَّةِ أن يَقَعُوا فيما وَقَعَتْ فيهِ اليهودُ والنَّصارَى، وعُبَّادُ اللاَّتِ والعُزَّى مِن الشِّركِ، ويَدُلُّ عَلَى ذلكَ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَنَ اليهودَ والنَّصارَى عَلَى اتِّخَاذِ قُبُورِ أنبيائِهِم مَسَاجِدَ، ومَعْلُومٌ قَطْعًا أنَّ هذا ليسَ لأجلِ النَّجَاسَةِ؛ لأنَّ قُبُورَ الأنبياءِ مِنْ أَطْهَرِ البِقَاعِ، فإنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأرضِ أن تَأْكُلَ أجْسَادَهُم، فهم في قُبُورِهِم طَرِيُّونَ.


وقدْ لَعَنَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّخِذِي المساجِدِ عليها،

ومُوقِدِي السُّرُجِ عليها، ومَعْلُومٌ أنَّ إِيقَادَ السُّرُجِ عليها إنَّما هوَ لَعْنُ فاعِلِهِ؛ لكونِهِ وَسِيلَةً إلى تَعْظِيمِهَا وجَعْلِهَا نُصُبًا يُوفِضُ إليها المُشْرِكونَ كمَا هوَ الواقِعُ، فهكذا اتِّخَاذُ المساجِدِ عليها.
قالَ
ابنُ القَيِّمِ:(وبالجملةِ فمَنْ لهُ مَعْرِفَةٌ بالشِّرْكِ وأسبابِهِ وذرائِعِهِ، وفَهِمَ عن الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَاصِدَهُ جَزَمَ جَزْمًا لا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، أنَّ هذه المُبَالَغَةَ واللَّعْنَ والنَّهْيَ بصيغَتِهِ، صيغَةِ: (لا تَفْعَلُوا) وصيغَةِ: ((إنِّي أَنْهَاكُم)) ليسَ لأجلِ النَّجَاسَةِ، بلْ هوَ لأجْلِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ اللاحِقَةِ بِمَنْ عَصَاهُ، وارْتَكَبَ ما عنه نَهَاهُ، واتَّبَعَ هواهُ، ولم يَخْشَ ربَّهُ وموْلاَهُ، وقَلَّ نَصيبُهُ أوْ عُدِمَ منْ تَحْقِيقِ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فإنَّ هذا وأمثالَهُ مِن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صيانَةٌ لِحِمَى التَّوحيدِ أن يَلْحَقَهُ الشِّرْكُ ويَغْشَاهُ، وتَجْرِيدٌ لهُ، وغَضَبٌ لِرَبِّهِ أن يُعْدَلَ بهِ سِوَاهُ، فأبَى المُشركونَ إلاَّ مَعْصِيَةً لأمْرِهِ، وارْتِكَابًا لنهيِهِ، وغَرَّهُم الشَّيطانُ بأنَّ هذا التَّعظيمَ لقُبُورِ المشايخِ والصَّالِحينَ، وكلَّمَا كنتُم أشدَّ لَهَا تَعْظِيمًا، وأشَدَّ فيهم غُلُوًّا، كنتم بقُرْبِهِم أسْعَدَ، ومِنْ أعدائِهِم أبْعَدَ.
ولعَمْرُ اللهِ مِنْ هذا البابِ بعينِهِ دُخِلَ عَلَى عُبَّادِ
يَغُوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرٍ، ودُخِلَ على عُبَّادِ الأصنامِ مُنْذُ كانُوا إلى يومِ القيامَةِ. فجَمَعَ المُشركونَ بينَ الغُلُوِّ فيهم والطَّعْنِ في طريقَتِهِم، وهدَى اللهُ أهْلَ التَّوحيدِ لسُلُوكِ طريقِهِم، وإِنْزَالِهِم منازِلَهُم التي أنْزَلَهُم اللهُ إيَّاها من العُبُودِيَّةِ، وسَلْبِ خَصَائِصِ الإِلَهِيَّةِ)
.
قلْتُ: ومِمَّن عَلَّلَ بِخَوْفِ الفِتْنَةِ والشِّركِ
الشَّافِعِيُّ، وأبو بَكْرٍ الأَثْرَمُ، وأبو مُحَمَّدٍ المَقْدِسِيُّ، وشيخُ الإسلامِ، وغيرُهُم، وهوَ الحقُّ.
قولُهُ: (فإنَّ الصَّحَابَةَ لم يكونُوا ليَبْنُوا حَوْلَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا) أيْ: لِمَا عَلِمُوا مِنْ تَشْديدِهِ في ذلكَ وتَغْلِيظِهِ، ولَعْنِ مَنْ فَعَلَهُ، فكيفَ يَتَّخِذُونَ عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا؟ وإنَّما خَشُوْا أن يَعْتَادَهُ بَعْضُ الجُهَّالِ للصَّلاةِ عندَهُ منْ غيرِ شُعُورٍ من الصَّحَابَةِ بذلكَ، فلذلكَ دَفَنُوهُ في بَيْتِهِ.
قولُهُ: (وكلُّ مَوْضِعٍ قُصِدَت الصَّلاةُ فيهِ فقد اتُّخِذَ مَسْجِدًا) أيْ: وإنْ لم يَبْنِ مَسْجِدًا.
قولُهُ: (بلْ كلُّ مَوْضعٍ يُصَلَّى فيهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا) الظَّاهِرُ أنَّ الأوَّلَ في الأمكِنَةِ المُعَدَّةِ للصَّلاةِ، وإن لم يَبْنِ فيها مَسْجِدًا، وهذا في أيِّ مَوْضعٍ صُلِّي فيهِ، وإن لم يُعَدَّ لذلكَ، كالمَوَاضِعِ التي يُصَلِّي فيها المُسَافِرُ ونحوِ ذلكَ، فعَلَى هذا إذا صَلَّى عندَ القبورِ -ولوْ مرَّةً واحِدةً، وإنْ لم يَكُنْ هناكَ مَسْجِدٌ- فقد اتَّخَذَها مَسَاجِدَ.
قولُهُ: كمَا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا)) أيْ: فَسَمَّى الأرْضَ مَسْجِدًا، وليسَتْ مَسْجِدًا مَبْنِيًّا، لكن لَمَّا كانَت يُسْجَدُ فيها سُمِّيَتْ مَسْجِدًا. فدَلَّ هذا الحديثُ أنَّ مَنْ صلَّى عندَ القُبُورِ أوْ إليها فقد اتَّخَذَهَا مَسَاجِدَ.
وهذا الحديثُ طَرَفٌ مِنْ حديثٍ صحيحٍ مُتَّفَقٍ عليهِ عنْ
جَابِرٍ.
قالَ
البَغَوِيُّ في (شَرْحِ السُّنَّةِ): (أرادَ أنَّ أهْلَ الكِتَابِ لم تُبَحْ لَهم الصَّلاةُ إلاَّ في بِيَعِهِم وكنَائِسِهِم، وأباحَ اللهُ لهذه الأُمَّةِ الصَّلاةَ حيثُ كانُوا، تَخْفِيفًا عليهم وتَيْسيرًا، ثُمَّ خَصَّ مِنْ جَمِيعِ المواضِعِ الحمَّامَ والمَقْبَرَةَ، والمكانَ النَّجِسَ).
وقولُهُ:
((طهورًا)) أرادَ بهِ التَّيمُّمَ.
وفي حديثِ
جُنْدُبٍ من الفَوَائِدِ أيضًا:

-

العِبْرَةُ في مُبَالَغَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النَّهْيِ عنْ بناءِ المسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ، كيفَ بيَّن لهم ذلكَ أوَّلاً، ثُمَّ قبلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ قالَ ما قالَ، ثُمَّ لَمَّا كانَ في النَّزْعِ لم يَكْتَفِ بِمَا تَقَدَّمَ، بلْ لعَنَ مَنْ فَعَلَ ذلكَ.
فدَلَّتْ هذه الأحاديثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ
عَلَى تَحْريمِ البناءِ عَلَى القُبُورِ مُطْلَقًا، فلذلكَ اكْتَفَى المُصَنِّفُ بإيرادِهَا عنْ غيرِهَا، كحديثِ جَابِرٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أن يُجَصَّصَ القَبْرُ، وأن يُقْعَدَ عليهِ، وأن يُبْنَى عليهِ، روَاهُ مُسْلِمٌ وغيرُهُ، وزَادَ أبو داودَ والحاكِمُ: وأنْ يُكْتَبَ عليهِ.


(2)

قولُهُ: ((إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ)) هوَ بكسرِ الشِّينِ: جَمْعُ: شَرٍّ.
قولُهُ:
((مَنْ تُدْرِكُهُم السَّاعَةُ وهم أَحْيَاءٌ)) أيْ: مَنْ تَقُومُ عليهم السَّاعَةُ بحيثُ يُنْفَخُ في الصُّورِ وهم أحياءٌ، وهذا كحديثِهِ الآخَرِ الَّذي في مُسْلِمٍ: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ)).
فإن قلْتَ: ما الجَمْعُ بينَ هذا وبينَ حديثِ
ثَوْبَانَ: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ)) وما في مَعْنَاهُ؟

قيلَ:

حَدِيثُ ثَوْبَانَ مُسْتَغْرِقٌ للأزمِنَةِ، عامٌّ فيها، وهذا مُخَصِّصٌ، وسيأتِي زيادةٌ لذلكَ عندَ الكلامِ عَلَى حديثِ ثَوْبَانَ، إنْ شاءَ اللهُ تعَالى.
قولُهُ:
((وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ)).

((الَّذينَ))

في مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى ((مَنْ)) الموصولَةِ؛ أيْ: إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ الَّذينَ يتَّخِذُونَ القبورَ مساجِدَ، بالصَّلاةِ عندَهَا وإليها، وبناءِ المساجِدِ عليها، وهذا المعنَى مُتَوَاتِرٌ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، معلومٌ بالاضْطِرارِ منْ دينِهِ. وكلُّ ذلكَ شَفَقَةً عَلَى الأمَّةِ، وخوفًا عليهم أن يَقُودَهُم ذلكَ إلى الشِّركِ بهَا وبأصحابِهَا، كمَا قادَ إلى ذلكَ اليهودَ والنَّصارَى.


فأبى عُبَّادُ القُبُورِ إلاَّ الضَّرْبَ بِهَذه الأحاديثِ الجِدَارَ،

ونَبْذَهَا وراءَ الظَّهْرِ، أو الدَّفْعَ في صُدُورِهَا وأعْجَازِهَا؛ بِحَمْلِ ذلكَ عَلَى غيرِ قبورِ الأنبياءِ والصَّالحينَ.


أمَّا قُبُورُهُم فتَجُوزُ الصَّلاةُ إليها وعندَهَا،

وبناءُ المساجدِ والقِبابِ عليها؛ رجاءَ أن تَصِلَ إليهم العواطِفُ الرُّوحَانِيَّةُ.
ولا ريبَ أنَّ هذا مُرَاغَمَةٌ ومُحَادَّةٌ للهِ ورسولِهِ، وهذا هوَ قولُ اليهودِ:
{سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}[النساء:45].
فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّما لَعَنَ مَن اتَّخَذَ قُبُورَ الأنبياءِ والصَّالحينَ مساجدَ، كمَا هوَ نَصُّ حديثِ
عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا وغيرِهِ، وقبورُ غيرِهِم إنَّما أُخِذَ النَّهيُ عن البناءِ عليها منْ هذه الأحاديثِ ونحوِهَا بقياسِ الأَوْلَى، أوْ منْ عُمُومِ أحاديثَ أُخَرَ، فمِنْ أعْظَمِ المُرَاغَمَةِ والمُنَاصَبَةِ، والمُحَادَّةِ للهِ ورسولِهِ، أن تُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ ما وَرَدَتْ فيهِ، ويُبَاحَ ما وَرَدَتْ بالنَّهْيِ عنه، ولَعْنِ مَنْ فعلَهُ، ولكنَّ هذا شأنُ عُبَّادِ القُبُورِ {إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص:50].
وقدْ أجمعَ العلماءُ عَلَى النَّهيِ عن البناءِ عَلَى القُبُورِ وتَحْرِيمِهِ ووُجُوبِ هَدْمِهِ؛ لهذه الأحاديثِ الصَّحيحَةِ الصَّريحَةِ التي لا مَطْعَنَ فيها بوجهٍ من الوجوهِ، ولا فرْقَ في ذلكَ بينَ البناءِ في مقبرةٍ مُسَبَّلَةٍ، أوْ مَمْلُوكَةٍ، إلاَّ أنَّهُ في المملُوكَةِ أشَدُّ.
ولا عِبْرَةَ بمَنْ شَذَّ مِن المُتَأَخِّرينَ فأباحَ ذلكَ، إمَّا مُطْلَقًا، وإمَّا في المملُوكَةِ.
قالَ الإمامُ
أبو مُحَمَّدِ بنِ قُدَامَةَ:(ولا يَجُوزُ اتِّخَاذُ المساجِدِ عَلَى القُبُورِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيائِهِمْ مَسَاجِدَ)).
يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا؛ ولأنَّ تَخْصِيصَ القُبُورِ بالصَّلاةِ عندَها يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الأصنامِ بالسُّجُودِ لها والتَّقَرُّبِ إليها، وقدْ رَوَيْنَا أنَّ ابتداءَ عبادةِ الأصنامِ تعظيمُ الأمواتِ باتِّخَاذِ صُوَرِهِم، والتَّمَسُّحِ بِهَا، والصَّلاةِ عندَهَا.
وقالَ
شيخُ الإسلامِ:(أمَّا بناءُ المساجدِ عَلَى القبورِ، فقدْ صرَّحَ عامَّةُ علماءِ الطَّوائفِ بالنَّهيِ عنه مُتابعةً للأحاديثِ الصَّحيحةِ، وصرَّحَ أصحابُنَا - وغيرُهُم منْ أصحابِ مالِكٍ والشَّافِعِيِّ - بتحريمِهِ، قالَ: ولا ريبَ في القَطْعِ بتحريمِهِ، ثُمَّ ذكَرَ الأحاديثَ في ذلكَ … إلى أنْ قالَ: فهذه المساجدُ المبنِيَّةُ عَلَى قبورِ الأنبياءِ والصَّالحينَ، أو المُلُوكِ وغيرِهِم، تَتَعَيَّنُ إزالتُهَا بِهَدْمٍ أوْ بغيرِهِ، هذا مِمَّا لا أعلمُ فيهِ خِلافًا بينَ العلماءِ المعروفينَ).
وقالَ
ابنُ القيِّمِ:(يَجِبُ هدمُ القِبَابِ التي عَلَى القبورِ؛ لأنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى معصيَةِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
وقالَ
أبو حَفْصٍ:(تَحْرُمُ الحُجْرَةُ؛ بلْ تُهْدَمُ، فإذا كانَ هذا كلامُهُ في الحُجْرَةِ فكيفَ بالقُبَّةِ).
وقالَ
الشَّافِعِيُّ: (أكرَهُ أن يُعَظَّمَ مَخْلُوقٌ حتَّى يُجْعَلَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا؛ مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عليهِ، وعلى مَنْ بعدَهُ مِن النَّاسِ).
وقالَ أيضًا:
(تُسَطَّحُ القُبُورُ ولا تُبْنَى ولا تُرْفَعُ، وتكونُ عَلَى وَجْهِ الأرضِ).
وقدْ أَفتَى جَمَاعَةٌ من الشَّافِعِيَّةِ بِهَدْمِ ما في القَرَافَةِ من الأبْنِيَةِ، منهم
ابنُ الجُمِّيزِيِّ، والظَّهيرُ التَّرْمنْتِيُّ، وغيرُهُما.
وقالَ القاضِي
ابنُ كَجٍّ:(ولا يَجوزُ أن تُجَصَّصَ القُبُورُ، ولا أن يُبْنَى عليها قِبَابٌ، ولا غيرُ قِبَابٍ، والوَصِيَّةُ بها باطِلَةٌ).


وقالَ الأَذْرُعِيُّ: (وأمَّا بُطْلانُ الوَصِيَّةِ ببناءِ القِبَابِ وغيرِها من الأبْنِيَةِ العظيمَةِ، وإِنْفَاقِ الأموالِ الكثيرةِ، فلا ريبَ في تَحْريمِهِ).
قُلْتُ: وجَزَمَ
النَّوَوِيُّ في (شَرْحِ المُهَذَّبِ) بتحريمِ البناءِ مُطْلَقًا، وذَكَرَ في (شرحِ مسلمٍ) نَحْوَهُ أيضًا.
وقالَ
القُرْطُبِيُّ في حديثِ جابرٍ: (نَهَى أن يُجَصَّصَ القَبْرُ أوْ يُبْنَى عليهِ، وبظاهرِ هذا الحديثِ).
قالَ
مالِكٌ: (وكَرِهَ البناءَ والجَصَّ عَلَى القُبُورِ) وقدْ أجازَهُ غيرُهُ، وهذا الحديثُ حُجَّةٌ عليهِ، وَوَجْهُ النَّهْيِ عن البناءِ والتَّجصيصِ في القُبُورِ أنَّ ذلكَ مُبَاهَاةٌ، واسْتِعْمَالُ زِينَةِ الدُّنيا في أوَّلِ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، وتَشَبُّهٌ بِمَنْ كانَ يَعْبُدُ القُبُورَ ويُعَظِّمُهَا، وباعتبارِ هذه المعانِي، وبظاهِرِ هذا النَّصِّ، يَنْبَغِي أن يُقالَ: هوَ حَرَامٌ، كمَا قالَ بهِ بَعْضُ أهلِ العلمِ.
وقالَ
ابنُ رُشْدٍ:(كَرِهَ مالكٌ البناءَ عَلَى القبرِ، وجَعْلَ البَلاطَةِ المكْتُوبَةِ، وهوَ مِنْ بِدَعِ أهلِ الطَّوْلِ، أَحْدَثُوهُ إِرادَةَ الفَخْرِ والمُبَاهَاةِ والسُّمْعَةِ، وهوَ مِمَّا لا اخْتِلافَ فيهِ).
وقالَ
الزَّيْلَعِيُّ في (شرحِ الكَنْزِ): (ويُكْرَهُ أن يُبْنَى عَلَى القبرِ).
وفي
(الخُلاَصَةِ): (ولا يُجَصَّصُ القَبْرُ ولا يُطَيَّنُ، ولا يُرْفعُ عليهِ بناءٌ.
وذَكَرَ أيضًا قاضِي خَان أنَّهُ لا يُجَصَّصُ القبرُ، ولا يُبْنَى عليهِ؛ لِمَا رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أنَّهُ نَهَى عن التَّجصيصِ، وعن البناءِ فوقَ القبرِ)).


والمرادُ بالكراهةِ عندَ الحَنَفِيَّةِ كراهَةُ التَّحريمِ التي هيَ في مُقَابَلَةِ تَرْكِ الواجِبِ).


وقدْ ذَكَرَ ذلكَ
ابنُ نُجَيْمٍ في (شَرْحِ الكَنْزِ).
ومثلُ هذا كثيرٌ في كلامِ العُلَمَاءِ أَتْبَاعِ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهِم، والمقصودُ أنَّ كلامَ العلماءِ موافِقٌ لِمَا دلَّت عليهِ السُّنَّةُ الصَّحيحةُ في النَّهيِ عن البناءِ عَلَى القُبُورِ.
واعْلَمْ أنَّهُ قدْ وَقَعَ بسببِ البناءِ عَلَى القبورِ من المفاسِدِ -التي لا يُحِيطُ بِهَا عَلَى التَّفصيلِ إلاَّ اللهُ- ما يَغْضَبُ مِنْ أجلِهِ كلُّ مَنْ في قلبِهِ رائِحَةُ إِيمَانٍ، كمَا نَبَّهَ عليهِ
ابنُ القَيِّمِ وغيرُهُ.


فمِنها:

اعْتِيادُهَا للصَّلاةِ عِندَها،

وقدْ نَهَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ ذلِكَ.


ومنها:

تَحَرِّي الدُّعاءِ عندَها.


ويقولُونَ: (مَنْ دَعَا اللهَ عندَ قبرِ فُلانٍ اسْتَجابَ لَهُ، وقبرُ فلانٍ التِّرياقُ المُجَرَّبُ) وهذا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ.

ومِنها:

ظَنُّهم أنَّ لها خُصُوصيَّاتٍ بأنفسِهَا في دَفْعِ البلاءِ وجَلْبِ النَّعْمَاءِ.


ويقولُونَ: (إنَّ البلاءَ يُدْفَعُ عنْ أهلِ البُلْدَانِ بقُبُورِ مَنْ فيها مِن الصَّالِحينَ) ولا ريْبَ أنَّ هذا مُخَالِفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، فالبيتُ المُقَدَّسُ كانَ عندَهُ منْ قبورِ الأنبياءِ والصَّالحينَ ما شاءَ اللهُ، فلمَّا عَصَوا الرَّسولَ وخالَفُوا ما أمَرَهُم اللهُ بهِ، سَلَّطَ اللهُ عليهم مَن انْتَقَمَ مِنهُمْ.

وكذلِكَ أهلُ المدينةِ لَمَّا تَغَيَّروا بعضَ التَّغَيُّرِ،

جرَى عليهم عامَ الحَرَّةِ من النَّهْبِ والقَتْلِ وغيرِ ذلكَ مِن المصائِبِ، ما لم يَجْرِ عليهم قبلَ ذلكَ. وهذا أكثرُ مِنْ أنْ يُحْصَرَ.


ومنها:

الدُّخُولُ في لَعْنَةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتِّخَاذِ المساجدِ عليها، وإيقادِ السُّرُجِ عليها.


ومنها:

أنَّ ذلكَ يَتَضَمَّنُ عِمَارَةَ المَشَاهِدِ،

وخَرَابَ المَسَاجِدِ، كمَا هوَ الواقِعُ، ودِينُ اللهِ بِضِدِّ ذلكَ.


ومِنها:

اجْتِمَاعُهُم لزيارَتِها،

واخْتِلاطُ النِّساءِ بالرِّجالِ، وما يَقَعُ في ضِمْنِ ذلكَ مِن الفواحِشِ وتَرْكِ الصَّلواتِ، ويَزْعُمُونَ أنَّ صاحِبَ التُّرْبَةِ يَحْمِلُهَا عنهم، بل اشْتَهَرَ أنَّ البَغَايَا يُسْقِطْنَ أُجْرَتَهُنَّ عَلَى البِغَاءِ في أيَّامِ زيارةِ المشايخِ، كالبَدَوِيِّ وغيرِهِ؛ تَقَرُّبًا إلى اللهِ بذلكَ، فهلْ بعدَ هذا في الكُفْرِ غَايَةٌ؟!!.


ومنها:

كِسْوَتُهَا بالثِّيابِ النَّفِيسَةِ المَنْسُوجَةِ بالحريرِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ، ونحوِ ذلكَ.


ومنها:

جَعْلُ الخَزَائِنِ والأموالِ، ووَقْفُ الوُقُوفِ، لِمَا يُحتَاجُ إليهِ منْ تَرْمِيمِهَا، ونحوِ ذلكَ.


ومنها:

إهداءُ الأموالِ ونَذْرُ النُّذُورِ لسَدَنَتِهَا العاكفينَ عليها،

الَّذينَ هم أصلُ كلِّ بَلِيَّةٍ وكُفْرٍ؛ فإنَّهُم الَّذينَ يَكْذِبونَ عَلَى الجُهَّالِ والطَّغَامِ بأنَّ فُلانًا دَعَا صاحِبَ التُّرْبَةِ فأجابَهُ، واسْتَغَاثَهُ فأغَاثَهُ، ومُرادُهُم بذلكَ تَكْثيرُ النَّذْرِ والهدايا لهم.


ومنها:

جعلُ السَّدَنَةِ لها كَسَدَنَةِ عُبَّادِ الأصنامِ.


ومنها:

الإِقْسَامُ عَلَى اللهِ في الدُّعاءِ بالمَدْفُونِ فيها.


ومنها:

أنَّ كثيرًا من الزُّوَّارِ

إذا رأَى البناءَ الَّذي عَلَى قبرِ صاحِبِ التُّرْبَةِ سَجَدَ لَهُ، ولا ريبَ أنَّ هذا كفرٌ بنصِّ الكتابِ والسنَّةِ وإجماعِ الأمَّةِ، بلْ هذا هوَ عبادةُ الأوثانِ؛ لأنَّ السُّجُودَ للقُبَّةِ عبادةٌ لها، وهوَ منْ جِنْسِ عِبَادَةِ النَّصارَى للصُّوَرِ التي في كنائِسِهِم عَلَى صُوَرِ مَنْ يَعْبُدونَهُ بزعمِهِم الباطِلِ، فإنَّهُم عَبَدُوهَا ومَنْ هيَ صورتُهُ، وكذلِكَ عُبَّادُ القبورِ لَمَّا بَنَوا القِبَابَ عَلَى القبورِ آل بِهِم أن عُبِدَتِ القِبَابُ ومَنْ بُنِيَتْ عليهِ منْ دونِ اللهِ عزَّ وجلَّ.


ومنها:

النَّذرُ للمدفونِ فيها، وفَرْضُ نصيبٍ من المالِ والوَلَدِ، وهذا هوَ الَّذي قالَ اللهُ فيهِ: {وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَـذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَائِنَا}[الأنعام:136] بلْ هذا أبلغُ؛ فإنَّ المشركينَ ما كانُوا يَبِيعونَ أولادَهُم لأوثانِهِم.


ومنها:

أنَّ المدفونَ فيها أعظمُ في قلوبِ عُبَّادِ القبورِ

من اللهِ وأخوفُ، ولهذا لوْ طلبْتَ منْ أحدِهِم اليمينَ باللهِ تعالى، أعطاكَ ما شِئْتَ من الأيمانِ كاذِبًا أوْ صادِقًا، وإذا طلبْتَ بصاحبِ التُّرْبَةِ لم يُقدِمْ إنْ كانَ كاذبًا، ولا ريبَ أنَّ عُبَّادَ الأوثانِ ما بَلَغَ شِرْكُهُم إلى هذا الحدِّ، بلْ كانُوا إذا أرادُوا تغليظَ اليمينِ غلَّظُوهَا باللهِ، كمَا في قِصَّةِ القَسَامَةِ وغيرِهَا.


ومنها:

سؤالُ الميِّتِ قضاءَ الحاجاتِ،

وتفريجَ الكُرُباتِ، والإخلاصُ لهُ منْ دونِ اللهِ في أكثرِ الحالاتِ.


ومنها:

التَّضَرُّعُ عندَ مَصَارِعِ الأمواتِ،

والبُكَاءُ بالهَيْبَةِ والخُشُوعِ لِمَنْ فيها، أعظمُ مِمَّا يفعلونَهُ معَ اللهِ في المساجدِ والصَّلواتِ.


ومنها:

تَفْضِيلُهَا عَلَى خيرِ البِقَاعِ وأحبِّهَا إلى اللهِ وهيَ المساجدُ،

فيَعْتَقِدونَ أنَّ العبادةَ والعُكُوفَ فيها أفضلُ من العبادةِ والعُكُوفِ في المساجدِ، وهذا أمرٌ ما بلَغَ إليهِ شركُ الأوَّلينَ؛ فإنَّهُم يُعَظِّمُونَ المسجدَ الحرامَ أعظمَ منْ بُيوتِ الأصنامِ، يَرَوْنَ فضلَهُ عليها، وهؤلاء يرَوْنَ العكوفَ في المشَاهِدِ أفضلَ مِن العكوفِ في المساجدِ.


ومنها:

أنَّ الَّذي شَرَعَهُ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارةِ القبورِ

إنَّما هوَ تَذْكِرَةُ الآخِرَةِ، كمَا قالَ: ((زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ)) والإحسانُ إلى المَزُورِ بالتَّرَحُّمِ عليهِ والدُّعاءِ لهُ والاسْتِغْفَارِ، وسؤالِ العافِيَةِ لهُ، فيكونُ الزَّائرُ مُحْسِنًا إلى نفسِهِ وإلى الميِّتِ، فقَلَبَ عُبَّادُ القبورِ الأمْرَ، وعَكَسوا الدِّينَ، وجَعَلُوا المقصودَ بالزِّيارَةِ الشِّركَ بالميتِ، ودعاءهُ والدُّعاءَ بهِ، وسؤالَهُ حوائِجَهُم ونَصْرَهُم عَلَى الأعداءِ، ونحوَ ذلكَ. فصارُوا مُسِيئِينَ إلى نُفُوسِهِم وإلى الميِّتِ، ولوْ لم يَكُنْ إلاَّ بِحِرْمَانِهِ بَرَكَةَ ما شَرَعَهُ اللهُ من الدُّعاءِ والتَّرَحُّمِ عليهِ والاستغفارِ لَهُ.


ومنها:

إيذاءُ أصحابِهَا بما يَفْعَلُهُ عُبَّادُ القُبُورِ بِهَا؛

فإنَّهُ يُؤْذِيهم ما يَفْعَلُونَهُ عندَ قبورِهِم، ويكرهونَهُ غايَةَ الكَرَاهةِ، كمَا أنَّ المسيحَ عليهِ السَّلامُ يكرَهُ ما يفْعَلُهُ النَّصارَى، وكذلِكَ غيرُهُ من الأنبياءِ والأولياءِ يُؤْذِيهِم ما يَفْعَلُهُ أشباهُ النَّصارَى عندَ قبورِهِم، ويومَ القيامَةِ يَتَبَرَّؤُونَ مِنهم كمَا قالَ تعالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:5،6].


ومنها:

مُحَادَّةُ اللهِ ورسولِهِ، ومُنَاقَضَةُ ما شَرَعَهُ فيها.


ومنها:

التَّعَبُ العظيمُ،

معَ الوِزْرِ الكبيرِ والإثمِ العظيمِ.
وكلُّ هذه المفاسدِ العظيمةِ وغيرُهَا مِمَّا لم يُذْكَرْ، إنَّما حدثَتْ بسببِ البناءِ عَلَى القبورِ، ولهذا نَجِدُ القبورَ التي ليسَ عليها قِبَابٌ لا يأتيها أحدٌ ولا يَعْتَادُهَا لشيءٍ مِمَّا ذُكِرَ إلاَّ ما شاءَ اللهُ، وصاحِبُ الشَّرْعِ أعلمُ بما يَؤُولُ إليهِ هذا الأمرُ، فلذلكَ غَلَّظَ فيهِ وأبدأَ وأعادَ، ولَعَنَ مَنْ فَعَلَهُ، فالخيرُ والهُدَى في طاعتِهِ، والشَّرُّ والضَّلالُ في مَعْصِيَتِهِ ومُخَالَفَتِهِ.


والعَجَبُ مِمَّنْ يُشَاهِدُ هذه المفاسِدَ العظيمةَ عندَ القبورِ،

ثُمَّ يَظُنُّ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّما نَهَى عن اتِّخَاذِ المساجِدِ عليها لأجلِ النَّجَاسَةِ، كمَا يَظُنُّهُ بعضُ مُتَأَخِّرِي الفُقَهَاءِ، ولوْ كانَ ذلكَ لأجلِ النَّجاسَةِ، لكانَ ذِكْرُ المَجَازِرِ والحُشُوشِ -بلْ ذِكْرُ التَّحَرُّزِ من البَوْلِ والغَائِطِ- أَوْلَى.
وإنَّما ذلكَ لأجلِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ التي وَقعَتْ مِنْ عُبَّادِ القُبُورِ لَمَّا خالَفُوا ذلكَ ونَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِم، واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَليلاً، فبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ مِن التغليظِ فِيمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صالِحٍ، فَكَيْفَ إِذا عَبَدَهُ؟) أي: الرجلَ الصالحَ؛ فإنَّ عبادَتَهُ هيَ الشرِكُ الأكبرُ، وعبادةُ اللهِ عندَهُ وسيلةٌ إلى عبادتِهِ، ووسائِلُ الشركِ محرَّمَةٌ؛ لأنَّها تُؤَدِّي إلى الشركِ الأكبرِ، وهوَ أعظمُ الذنوبِ.


(2)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في (الصحيحِ) عنْ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، أنَّ أمَّ سَلَمةَ ذَكَرَتْ لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَا فِيها مِن الصُّوَرِ.
فَقَالَ:
((أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)) فهؤلاءِ جمعوا بينَ الفتنتيْنِ؛ فتنةِ القبورِ وفتنةِ التماثيلِ)
.
قولُهُ: (في
(الصحيحِ)) أي: (الصحيحيْنِ).
قولُهُ: (أنَّ أُمَّ سلَمَةَ)، هيَ
هنْدُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ بنِ المغيرةِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ مَخْزُومٍ القُرَشِيَّةُ المخزوميَّةُ.


تزوَّجَهَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ أبي سلَمَةَ سنَةَ أرْبَعٍ.
وقيلَ:ثلاثٍ.
وكانَتْ قدْ هاجَرَتْ معَ
أبي سلَمَةَ إلى الحبشةِ، ماتَتْ سنَةَ اثْنَتَيْنِ وستِّينَ.
قولُهُ: (ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ) وفي
(الصحيحيْنِ) أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا ذَلِكَ لِرسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكَنِيسَةُ بفتحِ الكافِ وكسرِ النونِ: مَعْبَدُ النَّصَارَى.
قولُهُ:
((أُولَئِكِ)) بكسرِ الكافِ، خِطَابٌ للمرأَةِ.
قولُهُ:
((إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ)) هذا واللهُ أعلمُ شكٌّ مِنْ بعضِ رُوَاةِ الحديثِ: هلْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا أوْ هذا؟
ففيهِ التحرِّي في الروايَةِ، وجوازُ الروايَةِ بالمعنى.
قولُهُ:
((وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ)) الإشارةُ إلى ما ذكَرَتْ أُمُّ سلَمَةَ، وأُمُّ حبيبةَ من التصاويرِ التي في الكنيسةِ.
قولُهُ:
((أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)) وهذا يقتضي تحريمَ بناءِ المساجِدِ على القبورِ، وقدْ لُعِنَ مَنْ فَعَلَ ذلكَ كما سيأتي.
قالَ
البيْضَاويُّ: (لما كانَت اليَهودُ والنصارَى يَسْجُدُونَ لقبورِ الأنبياءِ؛ تعظيمًا لشأنِهم، ويجعَلُونَها قبلةً يتوجَّهونَ في الصلاةِ نحوَها، واتَّخذُوهَا أوثانًا لَعَنَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (وإنَّما صوَّرَ أوائِلُهم الصورَ ليتأسَّوْا بها ويَتَذَكَّرُوا أفعالَهم الصالحةَ، فيجتهِدُوا كاجتهادِهم؛ ويَعْبُدُوا اللهَ عندَ قبورِهِم، ثمَّ خلَفَهم قومٌ جَهِلوا مُرَادَهم ووسوسَ لهم الشيطانُ أنَّ أسلافَهم كانوا يعبدونَ هذهِ الصورَ ويُعَظِّمونَها؛ فحذَّرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ مثلِ ذلكَ؛ سدًّا للذريعةِ المؤدِّيَةِ إلى ذلكَ).


(3)

قولُهُ: (فهؤلاءِ جَمَعُوا بينَ الفتنتيْنِ؛ فتنةِ القبورِ وفتنةِ التماثيلِ) هذا مِنْ كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ، ذكَرَهُ المصنِّفُ رحمَهُ اللهُ تنبيهًا على ما وَقَعَ مِنْ شدَّةِ الفتنةِ بالقبورِ والتماثيلِ؛ فإنَّ الفتنةَ بالقبورِ كالفتنةِ بالأصنامِ أوْ أشدُّ.
قالَ
شيخُ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ: (وهذهِ العِلَّةُ -التي لأجلِها نهى الشارِعُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اتِّخاذِ المساجدِ على القبورِ- هيَ التي أَوْقَعَتْ كثيرًا مِن الأممِ إمَّا في الشركِ الأكبرِ أوْ فيما دونَهُ مِن الشِّركِ؛ فإنَّ النفوسَ قدْ أشرَكَتْ بتماثيلِ الصالحينَ وتماثيلَ يَزْعُمُونَ أنَّها طلاسِمُ الكواكِبِ ونحوِ ذلكَ؛ فإنَّ الشِّركَ بقبرِ الرجلِ الذي يُعْتَقَدُ صلاحُهُ أقرَبُ إلى النفوسِ من الشركِ بخشبةٍ أوْ حجرٍ.
ولهذا تجِدُ أهلَ الشركِ يَتَضَرَّعُونَ عندَها، ويَخْشَعُونَ ويَخْضَعُونَ، ويعبدونَ بقلوبِهم عبادةً لا يفعَلُونَها في بيوتِ اللهِ ولا وقتَ السَّحَرِ، ومنهم مَنْ يسجُدُ لها، وأكثرُهُم يَرْجُونَ مِنْ بركةِ الصلاةِ عنْدَها والدعاءِ ما لا يرجونَهُ في المساجدِ؛ فلأجلِ هذهِ المفسدةِ حسَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مادَّتَها، حتَّى نَهَى عن الصلاةِ في المقبرةِ مُطْلَقًا، وإنْ لمْ يقصِد المُصَلِّي بركَةَ البُقْعَةِ بصلاتِهِ، كما يقْصِدُ بصلاتِهِ بركَةَ المساجدِ.
كما نَهَى عن الصلاةِ وقتَ طلوعِ الشمسِ وغروبِها؛ لأنَّها أوقاتٌ يقصِدُ فيها المشركونَ الصلاةَ للشمسِ، فنَهَى أُمَّتَهُ عن الصلاةِ حينئذٍ وإنْ لم يُقْصَدُ ما قَصَدَهُ المشركونَ؛ سدًّا للذريعةِ.
وأمَّا إذا قصَدَ الرجلُ الصلاةَ عندَ القبورِ متبرِّكًا بالصلاةِ في تلكَ البقعةِ فهذا عينُ المحادَّةِ للهِ ولرسولِهِ، والمخالفةُ لدينِهِ، وابتداعُ دينٍ لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ؛ فإنَّ المسلمينَ قدْ أجمعوا على ما عَلِموهُ بالاضْطِرارِ منْ دينِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ الصلاةَ عندَ القبورِ مَنْهِيٌّ عنها، وأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَنَ من اتَّخذَها مساجِدَ.
فمِنْ أعظمِ المُحْدَثَاتِ وأسبابِ الشركِ الصلاةُ عنْدَها واتِّخاذُها مساجِدَ، وبناءُ المساجِدِ عليها.
وقدْ تواتَرَت النصوصُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنَّهْيِ عنْ ذلكَ والتغليظِ فيهِ.
وقدْ صرَّحَ عامَّةُ الطوائفِ بالنَّهْيِ عنْ بناءِ المساجِدِ عليها، مُتَابَعَةً منهم للسُّنَّةِ الصحيحةِ الصريحةِ.
وصرَّحَ أصحابُ
أحمدَ وغيرُهُم منْ أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ بتحريمِ ذلكَ.
وطائفةٌ أطلقَت الكراهةَ، والذي ينْبَغِي أن تُحْمَلَ على كراهةِ التحريمِ؛ إحسانًا للظَنِّ بالعلماءِ، وأنْ لا يُظَنَّ بهم أنْ يُجَوِّزُوا فِعْلَ ما تَوَاتَرَ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ فاعِلِهِ والنهيُ عنهُ)
انتهَى كلامُهُ رحمَهُ اللهُ تعالى.


(4)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَهُمَا عنها -أَيْ: عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها- قالَتْ: لَمَّا نُزِلَ بِرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ علَى وَجْهِهِ، فَإِذا اغتَمَّ بِها كَشَفَهَا، فَقَالَ وَهُوَ كَذلِكَ:((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) يُحَذِّرُ ما صنَعوا، وَلَوْلا ذَلِكَ أَبْرَزَ قَبرَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا أَخْرَجَاهُ).
قولُهُ: (وَلَهُمَا) أي:
البخاريِّ ومسلمٍ، وهوَ يُغْنِي عنْ قولِهِ في آخرِهِ: (أَخْرَجَاهُ).


قولُهُ: (لَمَّا نُزِلَ) هوَ بضمِّ النونِ وكسرِ الزَّايِ؛ أيْ: نَزَلَ بهِ مَلَكُ الموتِ والملائكةُ الكِرامُ عليهم السلامُ.
قولُهُ: (طَفِقَ) بكسرِ الفاء وفتْحِها، والكسرُ أفصحُ، وبهِ جاءَ القرآنُ، ومعناهُ جَعَلَ.
قولُهُ: (خَمِيصَةً) بفتحِ المعجمةِ والصادِ المهملَةِ، كِساءٌ لهُ أعلامٌ.
قولُهُ: (فَإِذا اغتَمَّ بِها كَشَفَهَا) أيْ: عنْ وجهِهِ.
قولُهُ: ((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) يُبَيِّنُ أنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذلكَ حلَّ عليهِ من اللعنةِ ما حلَّ على اليهودِ والنصارَى.
قولُهُ: (يُحَذِّرُ ما صنَعوا) الظاهرُ أنَّ هذا منْ كلامِ
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ لأنَّها فَهِمَتْ منْ قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلكَ تحذيرَ أُمَّتِهِ مِنْ هذا الصنيعِ الذي كانتْ تفعلُهُ اليهودُ والنصارى في قبورِ أنبيائِهم؛ فإنَّهُ من الغُلُوِّ في الأنبياءِ؛ ومنْ أعظمِ الوسائلِ إلى الشِّرْكِ.


ومنْ غُرْبَةِ الإسلامِ أنَّ هذا الذي لَعَنَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعِلِيهِ؛

تحذيرًا لأمَّتِهِ أنْ يَفْعَلُوهُ معَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعَ الصالحينَ منْ أمَّتِهِ، قدْ فعَلَهُ الخلْقُ الكثيرُ منْ مُتَأَخِّرِي هذهِ الأمَّةِ، واعْتَقَدُوهُ قُرْبَةً من القُرُبَاتِ، وهوَ منْ أعظمِ السيِّئَاتِ والمُنْكَرَاتِ، وما شَعَرُوا أنَّ ذلكَ مُحَادَّةٌ للهِ ورسولِهِ.
قالَ
القُرطُبِيُّ في معنى هذا الحديثِ: (وكلُّ ذلكَ لقَطْعِ الذريعةِ المؤدِّيَةِ إلى عبادةِ مَنْ فيها، كما كانَ السببُ في عبادةِ الأصنام) انتهى.
إذْ لا فرْقَ بينَ عبادةِ القبرِ ومَنْ فيهِ وعبادةِ الصنمِ. وتأمَّلْ قولَ اللهِ تعالى عنْ نَبِيِّهِ
يوسفَ بنِ يعقوبَ حيثُ قالَ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ}[يوسف:38] نكِرةٌ في سياقِ النفي تَعُمُّ كلَّ شركٍ.
قولُهُ: (وَلَولا ذَلِكَ) أيْ: ما كانَ يَحْذَرُ من اتِّخاذِ قبرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجدًا لأبْرَزَ قبرَهُ وجُعِلَ معَ قبورِ الصحابةِ الذينَ كانتْ قُبُورُهم في البقيعِ.
قولُهُ: (غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) رُويَ بفتحِ الخاءِ وضمِّها. فعلى الفتحِ يكونُ هوَ الذي خَشِيَ ذلكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَمَرَهُم أنْ يَدْفِنوهُ في المكانِ الذي قُبِضَ فيهِ. وعلى روايَةِ الضمِّ يحتَمِلُ أنْ يكونَ الصحابةُ هم الذينَ خَافُوا أنْ يقعَ ذلكَ منْ بعضِ الأمَّةِ، فلَمْ يُبْرِزوا قبرَهُ؛ خشيَةَ أنْ يقعَ ذلكَ منْ بعضِ الأمَّةِ؛ عُلُوًّا وتعظيمًا بما أَبْدَى وأعادَ من النهيِ والتحذيرِ منهُ وَلَعْنِ فاعلِهِ.
قالَ
القُرطُبِيُّ: (ولهذا بالَغَ المسلمونَ في سدِّ الذريعةِ في قبرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَعْلَوْا حيطانَ تُرْبَتِهِ وسدُّوا المَدْخَلَ إليها؛ وجَعَلُوهَا مُحْدِقَةً بقبرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ خَافُوا أنْ يُتَّخَذَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قِبْلَةً؛ إذْ كانَ مُسْتَقْبَلَ المصلِّينَ، فتَتَصَوَّرُ الصلاةُ إليهِ بصورةِ العبادةِ، فبَنَوْا جداريْنِ منْ رُكْنَي القبرِ الشماليِّيْنِ وحرَّفُوهما حتَّى التَقَيَا على زاويَةٍ مُثَلَّثَةٍ مِنْ ناحيَةِ الشمالِ؛ حتَّى لا يَتَمَكَّنَ أحدٌ من استقبالِ قَبْرِهِ)
انْتَهَى.

(1)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بنِ عَبْدِ اللهِ، قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يقولُ:((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَليلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ))).
قولُهُ: (عَنْ
جُنْدُبِ بنِ عَبْدِ اللهِ) أي: ابنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ، ويُنْسَبُ إلى جدِّهِ، صحابيٌّ مشهورٌ ماتَ بعدَ الستِّينَ.
قولُهُ:
((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ)) أيْ: أمتَنِعُ عمَّا لا يجوزُ لي أنْ أفعَلَهُ، والخُلَّةُ فوقَ المَحَبَّةِ.
والخليلُ هوَ
المحبوبُ غايَةَ الحبِّ، مشتقٌّ من الخَلَّةِ -بفتحِ الخاءِ- وهيَ تَخَلُّلُ المَوَدَّةِ في القلبِ، كما قالَ الشاعِرُ:

قدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الـخـلـيـلُ خـلـيـلاَ

هذا هوَ الصحيحُ في مَعْناها، كمَا ذكرَهُ

شيخُ الإِسلامِ، وابنُ القيِّمِ، وابنُ كثيرٍ، وغيرُهم رحِمَهم اللهُ تعالَى.
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (وإنَّما كانَ ذلكَ؛ لأنَّ قَلْبَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد امتلأَ مِنْ محبَّةِ اللهِ وتعظيمِهِ ومعرفتِهِ، فلا يَسَعُ خُلَّةَ غيرِهِ).
قولُهُ:
((فَإنَّ اللهَ قَد اتَّخَذَنِي خَلِيلاً)) فيهِ بيانُ أنَّ الخُلَّةَ فوقَ المحبَّةِ.
قالَ
ابنُ القيِّمِ رحِمَهُ اللهُ: (وأمَّا ما يَظُنُّهُ بعضُ الغالِطينَ منْ أنَّ المحبَّةَ أكملُ من الْخُلَّةِ، وأنَّ إبراهيمَ خليلُ اللهِ؛ ومحمَّدًا حبيبُ اللهِ، فمِنْ جهلِهِم؛ فإنَّ المحبَّةَ عامَّةٌ، والخُلَّةَ خاصَّةٌ، وهيَ نهايَةُ المحبةِ، وقدْ أخبرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ قد اتَّخَذَهُ خليلاً، ونفَى أنْ يكونَ لهُ خليلٌ غَيْرَ ربِّهِ؛ معَ إخبارِهِ بحُبِّهِ لعائشةَ ولأَبِيها، ولِعُمَرَ بنِ الخطَّابِ، ومُعَاذِ بنِ جبَلٍ وغيرِهم رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وأيضًا فإنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ، ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، ويُحِبُّ الصابرينَ، وخُلَّتُهُ خاصَّةٌ بالخليلَيْنِ).
قولُهُ:
((وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً)) فيهِ بيانُ أنَّ الصِّدِّيقَ أفضلُ الصحابةِ، وفيهِ: الردُّ على الرافِضَةِ وعلى الجَهْمِيَّةِ؛ وهما شَرُّ أَهْلِ البدَعِ، وأخرَجَهُم بعضُ السلَفِ من الثِّنْتَيْنِ والسبعينَ فِرْقَةً.


وبسببِ الرافِضَةِ حدَثَ الشِّركُ وعبادةُ القبورِ،

وهمْ أوَّلُ مَنْ بنَى عليها المساجِدَ. قالَهُ المُصَنِّفُ، وهوَ كمَا قالَ بلا رَيْبٍ.


وفيهِ:

إشارةٌ إلى خلافَةِ أبي بكْرٍ؛ لأنَّ مَنْ كانَتْ محبَّتُهُ لشخصٍ أشدَّ كانَ أوْلَى بِهِ منْ غيْرِهِ، وقد استخلَفَهُ على الصلاةِ بالنَّاسِ، وغَضِبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ: يُصَلِّي بِهِم عُمَرُ، وذلكَ في مَرَضِهِ الذي تُوُفِّيَ فيهِ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ.
واسمُ
أبي بكْرٍ: عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ بنِ عامرِ بنِ عمرِو بنِ كعْبِ بنِ سعْدِ بنِ تَيْمِ بن مُرَّةَ، الصِّدِّيقُ الأكبرُ، خليفةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفضلُ الصحابةِ بإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بقولِهِ مِنْ أهلِ العِلْمِ، ماتَ في جُمَادَى الأُولَى سنةَ ثلاثَ عَشْرَةَ، ولهُ ثلاثٌ وسِتُّونَ سنةً، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ:
((أَلاَ)) حرفُ استفتاحٍ ((أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ))الحديثَ.
قالَ
الْخَلْخَالِيُّ:(وإِنْكَارُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنيعَهم هذا يَخْرُجُ على وجهيْنِ:


أحدُهُما:

أنَّهم يَسْجُدُونَ لقبورِ الأنبياءِ تعظيمًا لَهم.


الثاني:

أنَّهم يُجَوِّزُونَ الصلاةَ في مدافنِ الأنبياءِ والتوجُّهَ إليها حالَةَ الصلاةِ؛ نظرًا منهم بذلكَ إلى عبادةِ اللهِ والمبالغةِ في تعظيمِ الأنبياءِ.


والأوَّلُ:

هوَ الشِّركُ الجلِيُّ.


والثاني:

الخفيُّ؛ فلذلكَ استحقُّوا اللَّعْنَ)


(2)

قولُهُ: (فَقَدْ نَهى عَنْهُ في آخِرِ حَيَاتِهِ) أيْ: كما في حديثِ جُنْدُبٍ، وهذا مِنْ كلامِ شيخِ الإسلامِ، وكذا ما بعدَهُ.
قولُهُ (ثُمَّ إِنَّهُ لَعَنَ -وَهُوَ في السِّيَاقِ- مَنْ فَعَلَهُ) كما في حديثِ
عائشةَ.
قُلْتُ: فكيفَ يَسُوغُ بعدَ هذا التغليظِ مِنْ سيِّدِ المرسلينَ أنْ تُعَظَّمَ القبورُ ويُبْنَى عليها، ويُصلَّى عنْدَها وإلَيْهَا؟
هذا أعظمُ مُشَاقَّةٍ ومُحَادَّةٍ للهِ تعالَى ولرسولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لوْ كانُوا يَعْقِلُونَ.
قولُهُ: (الصَّلاةُ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ مَسْجِدٌ) أيْ: مِن اتِّخَاذِها مساجِدَ، الملعونُ فاعِلُهُ.
وهذا يقتَضِي تحريمَ الصلاةِ عندَ القبورِ وإليها.
وعنْ
أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: ((الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ)). رواهُ أحمدُ وأهلُ السُّنَنِ، وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ.


قالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ تعالَى: (وبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ لهُ معرِفَةٌ بالشرْكِ وأسبابِهِ وذرائِعِهِ، وَفَهِمَ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقاصِدَهُ، جَزَمَ جزْمًا لا يحتمِلُ النقيضَ أنَّ هذهِ المبالغةَ واللَّعنَ والنهيَ بصيغتَيْهِ؛ صيغةِ (لاَ تَفْعَلُوا))


وصيغةِ ((إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ))

ليسَ لأجلِ النجاسةِ، بلْ هوَ لأجلِ نجاسةِ الشِّركِ اللاحِقَةِ لِمَنْ عَصَاهُ، وارتَكَبَ ما عنهُ نهاهُ، واتَّبعَ هواهُ؛ ولمْ يَخْشَ ربَّهُ ومولاهُ، وَقَلَّ نصيبُهُ أوْ عُدِمَ منْ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ)؛ فإنَّ هذا وأمثالَهُ من النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَانَةٌ لِحِمَى التوحيدِ أنْ يَلْحَقَهُ الشركُ ويَغْشَاهُ، وتجريدٌ لهُ وغضَبٌ لربِّهِ أنْ يَعْدِلَ بهِ سِوَاه، فأبَى المشركونَ إلاَّ معصيَةً لأمرِهِ وارتكابًا لنهيِهِ؛ وَغَرَّهُم الشيطانُ بأنَّ هذا تعظيمٌ لقبورِ المشايخِ والصالحينَ.
وكلَّمَا كُنْتُمْ لها أشدَّ تعظيمًا وأشدَّ فيهم غُلُوًّا كُنْتُمْ بقُرْبِهم أسعدَ، ومِنْ أعدائِهم أبعدَ، ولعَمْرُ اللهِ، مِنْ هذا البابِ دَخَلَ على عُبَّادِ يَعُوقَ، ويَغُوثَ، ونَسْرٍ، ودخَلَ على عُبَّادِ الأصنامِ منذُ كانوا إلى يومِ القيامةِ؛ فَجَمَعَ المشركونَ بيْنَ الغُلُوِّ فيهم والطعنِ في طريقتِهِم، فهدى اللهُ أهلَ التوحيدِ لسلوكِ طريقَتِهِم وإنزالِهم منازِلَهم التي أنْزَلَهم اللهُ إيَّاها مِن العبوديَّةِ وسلْبِ خصائِصِ الإلهيَّةِ عنهم).


قالَ الشارِحُ:

(ومِمَّنْ علَّلَ بِخَوْفِ الفتنةِ بالشركِ الإِمامُالشافعيُّ، وأبو بكرٍ الأَثْرَمُ، وأبو محمَّدٍ المَقْدِسِيُّ، وشيخُ الإِسلامِ، وغيرُهم، وهوَ الحقُّ الذي لا ريبَ فيهِ.
قولُهُ: (فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْنُوا حَوْلَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا) أيْ: لِمَا عَلِمُوا مِنْ تشديدِهِ في ذلكَ وتغليظِهِ، وَلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُ.
قولُهُ: (وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُصِدَت الصَّلاةُ فِيهِ فَقَد اتُّخِذَ مَسْجِدًا) أيْ: وإنْ لمْ يُبْنَ مسجِدٌ، بلْ كُلُّ موضعٍ يُصَلَّى فيهِ يُسَمَّى مسجِدًا؛ يعني: وإنْ لم يُقْصَدْ بذلكَ، كما إذا عَرَضَ لِمَنْ أرادَ أنْ يُصَلِّيَ فأوقعَ الصلاةَ في ذلكَ الموضعِ الذي حانَت الصلاةُ عندَهُ مِنْ غيرِ أنْ يقصِدَ ذلكَ الموضِعَ بخصوصِهِ، فصارَ بفعلِ الصلاةِ فيهِ مسجِدًا.
قولُهُ (كمَا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا))) أيْ: فَسَمَّى الأرضَ مسجِدًا، تَجُوزُ الصلاةُ في كلِّ بُقْعَةٍ منها إلاَّ ما استثنَى من المواضِعِ التي لا تجوزُ الصلاةُ فيها؛ كالمقبرَةِ ونحْوِها.
قالَ
البَغَوِيُّ في (شرحِ السُّنَّةِ): (أرادَ أنَّ أهلَ الكتابِ لمْ تُبَحْ لهم الصلاةُ إلاَّ في بِيَعَهِم وكنائِسِهِم؛ فأباحَ اللهُ لهذهِ الأمَّةِ الصلاةَ حيثُ كانوا؛ تخفيفًا عليهم وتيسيرًا، ثمَّ خَصَّ مِنْ جميعِ المواضِعِ الحمَّامَ والمقبرةَ والمكانَ النَّجِسَ) انتهى.


(3)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولأَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَن ابنِ مَسْعودٍ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ))روَاهُ أَبُو حاتِمٍ وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ)).
قولُهُ:
((إنَّ مِنْ شِرارِ النَّاسِ)) بكسرِ الشينِ، جمعُ شِرِّيرٍ.
قولُهُ:
((مَنْ تُدْرِكُهُم السَّاعةُ وَهُمْ أَحْياءٌ)) أيْ: مُقَدِّمَاتُها، كَخُرُوجِ الدابَّةِ، وطُلُوعِ الشمسِ منْ مَغْرِبِها، وبعدَ ذلكَ يُنْفَخُ في الصُّورِ نَفْخَةُ الفَزَعِ.
قولُهُ:
((وَالَّذينَ يَتَّخِذُونَ القُبورَ مَساجِدَ)) معطوفٌ على خَبَرِ إنَّ في مَحَلِّ نَصْبٍ على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامِلِ؛ أيْ: ومِنْ شِرارِ الناسِ الذينَ يتَّخِذُونَ القبورَ مساجِدَ؛ أيْ: بالصلاةِ عندَها وإليها، وبناءِ المساجِدِ عليها، وتَقَدَّمَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أنَّ هذا مِنْ عَمَلِ اليهودِ والنَّصارى، وأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَنَهم على ذلكَ؛ تحذيرًا للأمَّةِ أنْ يَفْعَلُوا معَ نَبِيِّهِم وصالحِيهِم مِثْلَ اليهودِ والنصارَى، فمَا رَفَعَ أكثرُهم بذلكَ رأسًا؛ بل اعْتَقَدُوا أنَّ هذا الأمْرَ قُرْبَةٌ للهِ تعالَى، وهوَ مِمَّا يُبْعِدُهم عن اللهِ ويطْرُدُهم عنْ رَحْمَتِهِ ومَغْفِرَتِهِ.
والعجَبُ أنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَدَّعِي العِلْمَ مِمَّنْ هوَ مِنْ هذهِ الأمَّةِ لا يُنْكِرونَ ذلكَ، بلْ رُبَّمَا اسْتَحْسَنُوهُ ورَغَّبُوا في فِعْلِهِ؛ فلَقَد اشْتَدَّتْ غُرْبَةُ الإِسلامِ وعادَ المعروفُ مُنْكَرًا والمنْكَرُ مَعْرُوفًا، والسُّنَّةُ بِدْعَةً والبِدْعَةُ سُنَّةً، نَشَأَ على هذا الصغيرُ، وهَرِمَ عليهِ الكبيرُ.
قالَ
شيخُ الإِسلامِ رحمَهُ اللهُ: (أمَّا بِنَاءُ المسَاجِدِ على القُبورِ فقدْ صرَّحَ عامَّةُ الطوائِفِ بالنَّهْيِ عنهُ؛ مُتَابَعَةً للأحاديثِ الصحيحةِ).
وصرَّحَ أصحابُنا وغيرُهم منْ أصحابِ مالِكٍ، والشافِعِيِّ، بتحريمِهِ.
قالَ:
(ولا رَيْبَ في القَطْعِ بتحريمِهِ) ثُمَّ ذَكَرَ الأحاديثَ في ذلكَ (إلى أنْ قالَ): (وهذهِ المساجِدُ المَبْنِيَّةُ على قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ أو الملوكِ وغيرِهم تتعيَّنُ إِزَالَتُها بهدْمٍ أوْ غيرِهِ، هذا مِمَّا لا أعْلَمُ فيهِ خِلافًا بينَ العلماءِ المعروفينَ).
وقالَ
ابنُ القيِّمِ رحِمَهُ اللهُ: (يَجِبُ هَدْمُ القِبَابِ التي بُنِيَتْ على القبورِ؛ لأنَّها أُسِّسَت على مَعْصِيَةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدْ أَفْتَى جماعةٌ مِن الشافعيَّةِ بهدْمِ ما في القَرافَةِ من الأبْنِيَةِ، منهمابنُ الجُمَّيزِيِّ، والظَّهِيرُ، والتَّرْمَنْتيُّوغيرُهما).
وقالَ القاضِي
ابنُ كَجٍّ:(ولا يجوزُ أنْ يُجَصَّصَ القُبُورُ، ولا أنْ يُبْنَى عليها قِبابٌ ولا غيرُ قِبَابٍ، والوصيَّةُ بها باطِلَةٌ).
وقال
الأَذْرَعِيُّ: (وأمَّا بُطْلانُ الوصيَّةِ ببناءِ القِبَابِ وغيرِها من الأبنيَةِ وإنْفَاقِ الأموالِ الكثيرةِ؛ فلا ريْبَ في تحريمِهِ).
وقالَ
القُرْطُبِيُّ في حديثِ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((نَهَى أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ أَوْ يُبْنَى عَلَيهِ)) وبظاهِرِ هذا الحديثِ قالَ مالِكٌ، وكَرِهَ البِناءَ والجَصَّ على القبورِ، وقدْ أجازَهُ غيرُهُ، وهذا الحديثُ حُجَّةٌ عليهِ.
وقالَ
ابنُ رُشْدٍ:(كَرِهَ مَالِكٌ البناءَ على القَبْرِ، وجَعَلَ البلاطةَ المكْتوبةَ، وهوَ مِنْ بِدَعِ أَهْلِ الطَّوْلِ، أحْدَثُوهُ إرادةَ الفَخْرِ والمُبَاهَاةِ والسُّمْعَةِ، وهوَ ممَّا لا اخْتِلافَ فيهِ).
وقالَ
الزَّيْلَعِيُّ في (شَرْحِ الكَنْزِ): (ويُكْرَهُ أنْ يُبنَى على القَبْرِ).
وذكَرَ
قاضِي خَانْ:(أنَّهُ لا يُجَصَّصُ القبرُ ولا يُبْنَى عليهِ؛ لِمَا رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ نهَى عن التَّجْصِيصِ والبناءِ فوقَ القبْرِ، والمرادُ بالكَرَاهَةِ عندَ الحنَفِيَّةِ كرَاهَةُ التَّحْرِيمِ) وقدْ ذَكَرَ ذلكَ ابنُ نُجَيْمٍ في (شرحِ الكَنْزِ).
وقالَ
الشافعيُّ رحِمَهُ اللهُ: (أَكْرَهُ أنْ يُعَظَّمَ مَخْلُوقٌ حتَّى يُجْعَلَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا؛ مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عليهِ وعلى مَنْ بَعْدَهُ مِن الناسِ) وكلامُ الشافعيِّ رحِمَهُ اللهُ يُبَيِّنُ أنَّ مُرَادَهُ بالكراهَةِ كراهَةُ التحريمِ.
قال
الشارِحُ رحِمَهُ اللهُ تعالى: (وجَزَمَ النَّوَوِيُّ رحِمَهُ اللهُ في (شرحِ المُهَذَّبِ)بتحْرِيمِ البناءِ مُطْلَقًا، وذَكَرَ في (شرْحِ مُسْلِمٍ) نحوَهُ أيضًا).
وقالَ
أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ قُدَامَةَ إمامُ الحنابِلَةِ صاحِبُ المصنَّفَاتِ الكِبَارِ؛ (كالْمُغْنِي) و(الكَافِي): (ولا يجوزُ اتِّخَاذُ المسَاجِدِ على القبورِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى)) الحديثَ.
وقَدْ رُوِّينَا أنَّ ابْتِدَاءَ عِبادةِ الأصنامِ: تعظيمُ الأمواتِ، واتِّخاذُ صُوَرِهِم، والتَّمَسُّحُ بها، والصلاةُ عندَها) انْتَهَى.
قالَ
شيخُ الإِسلامِ رحِمَهُ اللهُ: (وأمَّا المقبرةُ فلا فَرْقَ فيها بينَ الجديدةِ والعَتِيقَةِ، انْقَلَبَت تُرْبَتُها أوْ لمْ تَنْقَلِبْ، ولا فَرْقَ بينَ أنْ يكونَ بينَهُ وبينَ الأرضِ حائِلٌ أوْ لا؛ لِعُمُومِ الاسمِ وعُمُومِ العِلَّةِ، ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الذينَ اتَّخَذُوا قُبورَ أنْبيائِهِم مسَاجِدَ، ومعلومٌ أنَّ قبورَ الأنبياءِ لا تَنْجُسُ.
وبالْجُمْلَةِ فمَنْ علَّلَ النَّهْيَ عن الصلاةِ في المقبرةِ بنجاسةِ التُّربَةِ خاصَّةً؛ فهوَ بعيدٌ عنْ مقْصُودِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ لا يَخْلُو أنْ يكونَ القبرُ قدْ بُنِيَ عليهِ مَسْجِدٌ، فلا يُصَلَّى في هذا المسجِدِ، سواءٌ كانَ خَلْفَ القَبْرِ أوْ أَمَامَهُ بغيرِ خِلافٍ في المَذَاهِبِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:
((إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ)) وخصَّ قبورَ الأنبياءِ والصالحينَ؛ لأنَّ عُكُوفَ الناسِ على قبورِهِم أعظمُ، واتِّخَاذَها مساجِدَ أشَدُّ)
.
وكذلكَ إنْ لَمْ يكُنْ بُنِيَ عليهِ مسجِدٌ، فهذا قد ارْتَكَبَ حقيقةَ المفْسَدَةِ التي كانَ النَّهْيُ عن الصلاةِ عندَ القبورِ مِنْ أجْلِها، فإنَّ كلَّ مكانٍ صُلِّيَ فيهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا، كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا)) وإنْ كانَ مَوْضِعَ قبرٍ أوْ قَبْرَيْنِ.
وقالَ بعضُ أصحابِنا: لا يَمْنَعُ الصلاةَ فيها؛ لأنَّهُ لا يَتَنَاوَلُها اسمُ المقبرةِ. وليسَ في كلامِ
أحمَدَ ولا بَعْضِ أصحابِهِ هذا الفَرْقُ، بلْ عُمُومُ كلامِهِم يَقْتَضِي مَنْعَ الصلاةِ عندَ كلِّ قَبْرٍ.
وقدْ تَقَدَّمَ عنْ
عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: (لاَ أُصَلِّي في حَمَّامٍ ولا عِنْدَ قَبْرٍ).
فعَلى هذا يكونُ النَّهيُ مُتَنَاوِلاً لِحَرِيمِ القبرِ وفِنَائِهِ، ولا تجوزُ الصلاةُ في مَسْجِدٍ بُنِيَ في مَقْبَرَةٍ، سواءٌ كانَ لهُ حِيطَانٌ تَحْجِزُ بينَهُ وبينَ القُبُورِ أوْ كانَ مَكْشُوفًا.
قالَ في روايَةِ
الأَثْرَمِ: (إذا كانَ المسجِدُ بينَ القُبُورِ لا يُصلَّى فيهِ الفَريضَةُ، وإنْ كانَ بيْنَها وبينَ المسْجِدِ حاجِزٌ فَرَخَّصَ أنْ يُصَلَّى فيهِ على الجنَائِزِ، ولا يُصَلَّى فيهِ على غيرِ الجنائِزِ).
وذكَرَ حديثَ
أبي مَرْثَدٍ عَن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ)) وقالَ: إسنادُهُ جَيِّدٌ) انتَهَى.
ولوْ تَتَبَّعْنَا كلامَ العلماءِ في ذلكَ لاحْتَمَلَ عِدَّةَ أَوْرَاقٍ؛ فتبيَّنَ بهذا أنَّ العلماءَ رحِمَهم اللهُ بيَّنُوا أنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ مَا يُؤَدِّي إليهِ ذلكَ من الغُلُوِّ فيها، وعبادتِها منْ دونِ اللهِ كمَا هوَ الواقِعُ، واللهُ المُسْتَعَانُ.
وقدْ حَدَثَ بعدَ الأَئِمَّةِ ومَنْ يُعْتَدُّ بقولِهم أُنَاسٌ كَثُرَ في أبوابِ العلْمِ باللهِ اضْطِرابُهُمْ، وغَلُظَ عنْ مَعْرِفَةِ ما بَعَثَ اللهُ بِهِ رسولَهُ مِن الهُدَى والعِلْمِ حِجَابُهُم، فقيَّدُوا نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ بقيودٍ أوْهَنَت الانْقِيادَ، وغَيَّرُوا بها ما قصَدَهُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنهيِ وأرادَ.
فقالَ بعضُهُم:
(النهيُ عن البناءِ على القبورِ يَخْتَصُّ بالمقْبَرَةِ المُسْبَلَةِ، والنهيُ عن الصلاةِ فيها لِتَنَجُّسِهَا بصَديدِ الموْتَى، وهذا كُلُّهُ باطِلٌ لِوُجُوهٍ:


منها:

أنَّهُ مِن القولِ على اللهِ بلا عِلْمٍ، وهوَ حرامٌ بِنَصِّ الكتابِ.


ومنها:

أنَّ ما قالَهُ لا يَقْتَضِي لعْنَ فاعِلِهِ والتغليظَ،

وما المانِعُ لهُ أنْ يقولَ: مَنْ صلَّى في بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ فعليهِ لعنةُ اللهِ).
ويَلْزَمُ على ما قالَهُ هؤلاءِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يُبَيِّن العِلَّةَ، وأحالَ الأمَّةَ في بيانِها على مَنْ يَجِيءُ بعدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعدَ القرونِ المفضَّلَةِ والأئمَّةِ.
وهذا باطِلٌ قَطْعًا وعَقْلاً وشَرْعًا؛ لِمَا يَلْزَمُ عليهِ مِنْ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَزَ عن البيانِ أوْ قَصَّرَ في البلاغِ. وهذا منْ أَبْطَلِ الباطِلِ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلَّغَ البلاغَ المُبينَ، وقُدْرَتُهُ في البيانِ فَوقَ قُدْرَةِ كُلِّ أَحَدٍ، فَإِذا بَطَلَ اللازِمُ بَطَلَ الملزومُ.
ويُقَالُ أيضًا: (هذا اللَّعنُ والتغليظُ الشديدُ إنَّما هوَ فيمَن اتَّخَذَ قبورَ الأنبياءِ مساجِدَ، وجاءَ في بعضِ النصوصِ ما يَعُمُّ الأنبياءَ وغيرَهم، فلوْ كانَتْ هذهِ هيَ العِلَّةَ لكانَتْ مُنْتَفِيَةً في قبورِ الأنبياءِ؛ لكونِ أجسادِهِم طَرِيَّةً لا يكونُ لها صَدِيدٌ يَمْنَعُ من الصلاةِ عندَ قبورِهِم).
فإذا كانَ النهيُ عن اتِّخاذِ المساجِدِ عندَ القبورِ يَتَنَاوَلُ قبورَ الأنبياءِ بالنَّصِّ؛ عُلِمَ أنَّ العِلَّةَ ما ذكَرَهُ هؤلاءِ العلماءُ الذينَ نَقَلْتُ أقوالَهم.


والحمدُ للهِ على ظُهُورِ الحُجَّةِ وبيانِ المحَجَّةِ،

والحمْدُ للهِ الذي هَدَانَا لهذا، ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لوْلا أنْ هَدَانا اللهُ.

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)

بابُ: ما جاءَ أنَّ الغُلُوَّ في قُبُورِ الصَّالِحِينَ يُصَيِّرُها أوثانًا تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ.
مَا ذَكَرَ
المُصَنِّفُ في البابَيْنِ يَتَّضِحُ بذِكْرِ تَفْصِيلِ القَوْلِ فيما يُفْعَلُ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وغَيْرِهِم.
وذَلك أنَّ مَا يُفْعَلُ عِنْدَها نَوْعانِ:
مَشْرُوعٌ ومَمْنُوعٌ.


أمَّا المَشْرُوعُ:

فهو مَا شَرَعَه الشارِعُ مِن زِيارَةِ القُبُورِ عَلَى الوجْهِ الشَّرْعِيِّ مِن غَيْرِ شَدِّ رَحْلٍ،

يَزُورُها المُسْلِمُ مُتَّبِعًا للسُّنَّةِ، فيَدْعُو لأَِهْلِها عُمومًا، ولأقارِبِه ومعارِفِه خصوصًا، فيكونُ مُحْسِنًا إِلَيْهِم بالدُّعاءِ لَهُم وَطَلَبِ العَفْوِ والمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ لَهُم، ومُحْسِنًا إلِى نَفْسِهِ باتِّباعِ السُّنَّةِ وَتَذَكُّرِ الآخِرَةِ والاعْتِبارِ بِها والاتِّعاظِ.


وأمَّا المَمْنُوعُ فإنَّه نَوْعانِ:

أحدُهُما:

مُحرَّمٌ ووسيلةٌ للشرْكِ؛

كالتَّمَسُّحِ بِها، والتَّوَسُّلِ إلِى اللهِ بأهْلِها، والصَّلاَةِ عِنْدَها، وكإِسْرَاجِها والبناءِ عَلَيْها، والغُلُوِّ فيها وفي أَهْلِها إذا لَمْ يَبْلُغْ رُتْبةَ العِبادَةِ.


والنوعُ الثانِي:

شرْكٌ أكْبَرُ؛

كدُعاءِ أَهْلِ القُبُورِ والاسْتِغاثَةِ بِهِم، وطَلَبِ الحَوائِجِ الدُّنْيويَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ مِنْهم، فهذا شِرْكٌ أَكْبَرُ، وهو عَيْنُ مَا يَفْعَلُه عُبَّادُ الأصْنامِ مَعَ أصْنامِهِم.
ولا فَرْقَ في هذا بَيْنَ أنْ يَعْتَقِدَ الفاعلُ لذلك أنَّهم مُسْتَقِلُّونَ في تَحْصِيلِ مَطَالِبِه، أو مُتَوَسِّطُونَ إلى اللهِ، فإنَّ المُشرِكِينَ يَقُولُونَ:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللهِ زُلْفَى}[الزمر:3]{وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يونس:18].
فمَن زَعَمَ أنَّه لاَ يَكْفُرُ مَن دعا أَهْلَ القبورِ حَتَّى يَعْتَقِدَ أنَّهم مُسْتَقِلُّونَ بالنَّفْعِ ودَفْعِ الضَّرَرِ، وأنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أنَّ اللهَ هو الفاعِلُ وأَنَّهم وسائِطُ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ مَن دَعَاهُم واسْتَغَاثَ بِهم، لَمْ يَكْفُرْ.


مَن زَعَمَ ذَلك فَقَدْ كَذَّبَ مَا جَاءَ بِهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ،

وأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ، مِن أنَّ مَن دَعَا غَيْرَ اللهِ فهو مُشْرِكٌ كافرٌ في الحَالَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، سَواءٌ اعْتَقَدَهم مُسْتَقِلِّينَ أو مُتَوَسِّطِينَ.
وهذا معلومٌ بالضرورةِ مِن دينِ الإسلامِ.
فعليك بهذا التفصيلِ الذِي يَحْصُلُ بِهِ الفُرْقانُ في هذا البابِ المُهِمِّ الذِي حَصَلَ بِهِ مِن الاضْطِرَابِ والفِتْنَةِ مَا حَصَلَ، ولَمْ يَنْجُ مِن فِتْنَتِهِ إلاَّ مَن عَرَفَ الحَقَّ واتَّبَعَهُ.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)

قولُهُ: (التَّغْلِيظُ) التَّشْدِيدُ.
قولُهُ: (مَنْ عَبَدَ اللهَ عندَ قبرِ رجلٍ صالحٍ) أي: عَمِلَ عملاً تَعَبَّدَ للهِ به مِن قراءةٍ أو صلاةٍ أو صدقةٍ أو غيرِ ذلك.
قولُه: (فكيفَ إذا عَبَدَه)؟ أيْ: يكونُ أَشَدَّ وأَعْظَمَ؛ وذلكَ لأنَّ المَقابِرَ والقبورَ لِلصَّالحين، أو مَنْ دونَهم مِنَ المسلمينَ أهلُها بحاجةٍ إلى الدعاءِ، فهم يُزارُون لِيُنْفَعوا، لا لِيُنْتَفَعَ بِهم، إلاَّ باتِّباعِ السُّنَّةِ في زِيارةِ المَقابِرِ، والثَّوابِ الحاصلِ بذلكَ، لكنْ هذا ليس انْتِفاعًا بأشخاصِهم، بل انْتِفاعٌ بعملِ الإنسانِ نفسِه بما أَتَى بِه مِنَ السُّنَّةِ.
فالزِّيارةُ التي يُقْصَدُ منها الانْتِفاعُ بالأمواتِ زِيارةٌ بِدْعِيَّةٌ.
والزِّيارةُ الِّتي يُقْصَدُ بها نَفْعُ الأمواتِ، والاعْتِبارُ بحالِهم زِيارةٌ شرعيَّةٌ.

(2)

قولُهُ: (في (الصَّحيحِ))أي: (الصَّحيحين) وقد سَبَق الكلامُ على مثلِ هذه العِبارةِ، في بابِ تَفْسِيرِ التَّوحيدِ، وشَهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ.


(3)

قولُهُ: (أمُّ سَلَمةَ) كانَتْ مِمَّنْ هاجَرَ مع زَوْجِها إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ، ولما تُوُفِّيَ زوجُها أبو سَلَمةَ تَزَوَّجَها النَّبيُّ -صلَّى اللهَ عليه وسلَّمَ- وأَخْبَرَتْه بما رَأَتْ وهو في مَرضِ مَوْتِهِ، كما في (الصحيحِ).
قولُها: (من الصُّوَرِ) الظاهرُ أنَّ هذه الصُّورَ صورٌ مُجَسَّمةٌ، وتَماثيِلُ مَنْصُوبةٌ.


(4)

قولُهُ: ((أُولئِكَ)) المُشارُ إليهم نَصارَى الحبَشَةِ، ويُحْتَمَلُ أن يُرادَ مَن فَعَلُوا هذه الأفعالَ أيًّا كانوا.
وقولُهُ:
((أُولئِكِ)) يَجوزُ في الكافِ الكَسْرُ إذا كانَ الخِطابُ لأمِّ سَلَمةَ، والفَتْحُ إذا كانَ الخِطابُ باعْتِبارِ الجِنْسِ.


وقد ذَكَرَ العلماءُ أنَّ في كافِ الخِطابِ المُتَّصِلِ باسمِ الإشارةِ ثلاثةَ أَوْجُهٍ:

الوجهُ الأولُ:

أنْ يَكونَ مُطابِقًا لِلمُخاطَبِ، المُفْرَدُ لِلمفردِ، والمُثَنَّى لِلمُثنَّى، الجَمْعُ لِلجَمْعِ، مُذَكَّرًا كان أم مُؤَنَّثًا.


الوجهُ الثاني:

الفتحُ مُطْلَقًا.


الوجهُ الثالثُ:

الكَسْرُ لِلمُؤَنَّثِ

مُطْلَقًا، والفتحُ لِلمذكَّرِ مُطْلَقًا.


وأَشْهَرُها: أنْ يَكونَ مُطابِقًا لِلمُخاطَبِ،

ثُمَّ الفتحُ مُطْلَقًا، ثُمَّ الفتحُ لِلمُذَكَّرِ، والكسرُ للمُؤَنَّثِ.
قولُهُ:
((الرَّجُلُ الصَّالِحُ، أوِ العَبْدُ الصَّالِحُ)) (أو) شَكٌّ مِن الرَّاوِي.


(5)

قولُهُ: ((بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ)) أيْ: قَبْرِ ذلكَ الرَّجلِ الصالحِ.
قولُه:
((وَصَوَّروا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ)) أيْ: التي رَأَتْ، والأَقْرَبُ: أنَّها صورةُ ذلكَ الرَّجلِ الصَّالحِ، وربَّما أنَّهم يُضِيفُون إلى صورتِهِ صورةَ بعضِ الصَّالحين، وربَّما تَكونُ الصُّوَرُ على أحجامٍ مُخْتَلِفةٍ، فتَجْتَمِعُ منها صُوَرٌ كثيرةٌ.


(6)

قولُهُ: ((أُولئِكَ شِرارُ الخلْقِ عِنْدَ اللهِ)) لأنَّ عَمَلَهم هذا وَسِيلةٌ إلى الكفرِ والشِّركِ، وهذا أعظمُ الظُّلمِ وأَشَدُّه، فما كانَ وسيلةً إليه فإنَّ صاحبَه جديرٌ بأنْ يكونَ مِنْ شرارِ الخلْقِ عندَ اللهِ -سبحانَه وتعالى-.
قال
ابن القيم الجوزيّة في (إغاثة اللهفان) (1/190): (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل؛ وهما الفتنتان التي أشار إليهما الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية.
فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم :
(أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح ، أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى))
أخرجه البخاري وأحمد،فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور، وهذا كان سبب عبادة اللات) .


(7)

قولُهُ: (ولَهُما عَنْها) الضميرُ يَعودُ على البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ، وإنْ لم يَسْبِقْ لهما ذِكْرٌ، لكنَّه لمَّا كانَ ذلِكَ مُصْطَلَحًا مَعْروفًا صَحَّ أنْ يَعودَ الضميرُ عليهما، وهما لم يُذْكَرا، اعْتِمادًا على المعروفِ المَعْهودِ.
وقولُه: (عَنْها) أيْ: عَنْ
عائِشةَ.


(8)

قالَتْ: (لما نُزِلَ برسولِ اللهِ) أي: نَزَلَ به مَلَكُ الموتِ لِقَبْضِ رُوحِه.
قولُهُ: (طفِقَ) مِنْ أفعالِ الشُّروعِ، ، واسمُها مُسْتَتِرٌ، وجملةُ (يَطْرَحُ) خَبرُها.
قولُهُ: (خَمِيصةً) هي كِساءٌ مُربَّعٌ، له أعلامٌ كانَ يَطْرَحُهُ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- على وجهِهِ.

(9)

قولُهُ: (فإذا اغْتَمَّ بها) أي: أَصَابَهُ الغَمُّ بِسببِها، وقد احْتُضِرَ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-.

(10)

قولُهُ: (وهو كذلكَ) أيْ: وهو في هذِهِ الحالِ عندَ الاحْتِضارِ.

(11)

قولُهُ: ((لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليهودِ والنَّصارَى، اتَّخَذوا قُبُورَ أَنبيائِهِم مَسَاجِدَ)) يَقولُ هذا في سِياقِ الموتِ.
و
((لعنةُ اللهِ)) أيْ: طَرْدُه وإبْعادُه، وهذه الجملةُ يُحْتَمَلُ أنَّه يُرادُ بها ظاهرُ اللَّفظِ، أي: أنَّ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسَلَّمَ- يُخْبِرُ بأنَّ اللهَ لَعَنَهم.


ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بها الدُّعاءُ فَتَكونَ خبريَّةً لفظًا،

إنْشائِيَّةً مَعْنًى، والمعنى على هذا الاحْتِمالِ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- دَعا عَلَيْهِم، وهُوَ في سِياقِ الموتِ بِسببِ هذا الفعلِ.
قولُهُ:
((اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ)) الجملةُ هذِهِ تعليلٌ لِقولِهِ: ((لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليهودِ والنَّصارَى)) كأنَّ قائِلاً يَقولُ: لماذا لَعَنَهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؟


فكان الجوابُ:

أنَّهم اتَّخَذُوا قبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ، أي: أَمْكِنةً لِلسُّجودِ، سَواءٌ بَنَوْا مَساجِدَ أم لا، يُصَلُّون ويَعْبُدون اللهَ تعالى فيها، مع أنَّها مَبْنِيَّةٌ على القبورِ.


(12)

قولُهُ: (يُحَذِّرُ ما صَنَعوا) أي: أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- قالَ ذلكَ في سِياقِ الموتِ تَحْذِيرًا لأُمَّتِه ممَّا صَنَعَ هؤلاءِ؛ لأنه عَلِمَ أنَّه سَيَموتُ، وأنَّه ربَّما يَحْصُلُ هذا ولو في المُسْتَقْبَلِ البعيدِ.

(13)

قولُهُ: (ولولا ذلك أُبْرِزَ قَبْرُهُ) أُبْرِزَ، أي: أُخْرِجَ مِنْ بيتِه؛ لأنَّ البُرُوزَ مَعْناه الظهورُ، أيْ: لولا التَّحْذِيرُ وخَوْفُه أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا لأُخْرِجَ ودُفِنَ في البَقِيعِ مَثَلاً، لكنَّه في بيتِه أَصْوَنُ له، وأَبْعَدُ عَنِ اتِّخاذِه مَسْجِدًا، فلِهذا لم يُبْرَزْ قبرُه، وهذا أحدُ الأسبابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ أن لا يُبْرَزَ مَكانُ قَبْرِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-.

ومِنْ أسْبابِ ذلكَ:

إِخْبارُه -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-، أنه ما قُبِضَ نبيٌّ إلا دُفِنَ حيث قُبِضَ. ولا مانِعَ أنْ يَكونَ للحُكْمِ الواحدِ سَبَبان فأَكْثَرُ، كما أنَّ السَّببَ الواحدَ قد يَتَرَتَّبُ عليه حُكْمانِ، كغُروبِ الشَّمسِ يَتَرَتَّبُ عليه جَوَازُ إفطارِ الصَّائمِ، وصَلاةَ المَغْرِبِ.


(14)

قولُهُ: (غَيْرَ أنه خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) خُشِيَ فيها رِوايَتان: خُشِيَ، وخَشِيَ.
فعلى رِوايةِ (خُشِيَ) يكونُ الذين وقَعَتْ منهم الخَشْيَةُ الصَّحابةَ -رَضِيَ اللهُ عنهم-.
وعلى رِوايةِ (خَشِيَ)
يكونُ الذي وَقَعَت مِنه الخَشْيةُ النَّبِيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-.
والحَقِيقةُ: أنَّ الأَمْرَ كلَّه حاصِلٌ، فالرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- أَخْبرَ بأنَّه ما قُبِضَ نبيٌّ إلا دُفِنَ حيث قُبِضَ، ولَعَنَ اليَهودَ والنَّصارَى؛ لأنَّهم اتَّخَذُوا قبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ خَوْفًا مِن اتِّخاذِ قبرِه مسجدًا، والصَّحابةُ، -رَضِيَ اللهُ عنهم-، اتَّفَقُوا على أنْ يُدْفَنَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في بيتِه بَعْدَ تَشاوُرِهم؛ لأنَّهم خَشُوا ذلِكَ.


ويَجوزُ أنْ يَكونَ بعضُهم أَشارَ بأنْ يُدْفَنَ في بيتِه،

وليسَ في ذِهْنِه إلاَّ هذه الخَشْيةُ، وبعضُهم أشارَ أنْ يُدْفَنَ في بيتِه، وعندَه عِلمٌ بأنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم- قال: ((ما قُبِضَ نبيٌّ إلا دُفِنَ حيث قُبِضَ)) وخَوْفًا مِن اتِّخاذِه مَسْجِدًا.


وفي هذا الحديثِ والحديثِ السَّابقِ:

التَّحذيرُ مِنَ اتِّخاذِ قبورِ الأنبياءِ مساجدَ، وهُم أَفْضَلُ الصَّالحين؛ لأنَّ مَرْتَبةَ النَّبيِّين هي المَرْتبةُ الأُولَى مِن المَرَاتبِ الأرْبعِ الَّتِي قالَ اللهُ -تعالى- عنها: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا}.


اعتراضٌ وجوابُه:

إذا قالَ قائلٌ: إن قبر الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ -الآنَ في وَسَطِ المَسْجِدِ فما هو الجوابُ؟

قلنا:

الجوابُ على ذلِكَ مِنْ وجوهٍ:


الوجهُ الأوَّلُ:

أنَّ المسجدَ لم يُبْنَ على القبرِ،

بَلْ بُنِيَ المسجدُ في حَياةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-.


الوجهُ الثاني:

أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- لم يُدْفَنْ في المسجدِ

حتَّى يُقالَ: إنَّ هذا مِنْ دَفْنِ الصَّالحين في المسجدِ، وإنَّه حَلالٌ، بل دُفِنَ في بيتِه.


الوجهُ الثالثُ:

أنَّ إِدْخالَ بُيوتِ الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-

ومنها بيتُ عائِشةَ مع المسجدِ لَيسَ باتِّفاقٍ مِنَ الصَّحابةِ، بَلْ بعدَ أن انْقَرَضَ أَكْثَرُهم ولم يَبْقَ منهم إلاَّ القَليلُ وذلك عامَ (94هـ) تَقْرِيبًا، فليسَ ممَّا أَجازَهُ الصَّحابةُ، أو أَجْمَعُوا عليه مَعَ أنَّ بعضَهم خالَفَ في ذلِكَ، وممَّن خالَفَ -أيضًا- سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ، مِن التَّابِعين، فلم يَرْضَ بهذا العملِ.


الوجهُ الرابعُ:

أنَّ القبرَ لَيْسَ في المسجدِ حتَّى بعدَ إدخالِه؛

لأنَّه في حُجْرةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنِ المسجدِ، فليسَ المسجدُ مَبْنِيًّا عليه، ولهذا جُعِلَ هذا المكانُ مَحْفوظًا ومَحُوطًا بِثلاثةِ جُدْرانٍ، وجُعِلَ الجَدارُ في زَاوَيةٍ مُنْحَرِفةٍ عَنِ القِبْلةِ، أيْ: مُثَلَّثٍ، والركنُ في الزَّاويةِ الشَّماليةِ بحيثُ لا يَسْتَقْبِلُه الإنسانُ إذا صَلَّى؛ لأنَّه مُنْحَرِفٌ.
فبهذا كلِّه يَزُولُ الإشكالُ الَّذي يَحْتَجُّ به أهلُ القبورِ علينا.


ويَقولون:

هذا مُنْذُ عَهْدِ التَّابِعين إلى اليومِ، والمسلمون قَدْ أَقَرُّوه، ولم يُنْكِرُوه.


فنَقولُ:

إنَّ الإنْكارَ قَدْ وُجِدَ حتَّى في زَمَنِ التَّابِعين،

ولَيْسَ مَحَلَّ إجْماعٍ، وعلى فَرْضِ أنَّه إِجْماعٌ فقد تَبَيَّنَ الفَرْقُ مِن الوُجوهِ الأربعةِ الَّتي ذَكَرْنَاها.




(1)

قولُهُ: (بِخَمْسٍ) أي: خمسِ لَيالٍ، لكنَّ العربَ تُطْلِقُها على الأيَّامِ واللَّيالي.
قولُه:

((أَبْرَأُ)) البَرَاءةُ هي: التَّخَلِّي، أيْ: أَتَخَلَّى أنْ يكونَ لي منكم خَليلٌ.
قولُه:
((خَليلٌ)) هو الذي يَبْلُغُ في الحبِّ غايتَه؛ لأنَّ حُبَّه يَكونُ قد تَخَلَّلَ الجسمَ كلَّه، كما قالَ الشَّاعرُ يُخاطِبُ مَحْبوبتَه:


قد تَخَلَّلْتِ مَسْلَكَ الرُّوحِ منِّي = وبذا سُمِّيَ

الـخـلـيـلُ خـلـيـلاً


والخُلَّةُ أَعْظَمُ أنواعِ المحبَّةِ وأَعْلاها،

ولم يُثْبِتْها اللهُ -عزَّ وجلَّ- فيما نَعْلَمُ إلا لاثنين مِنْ خَلْقِهِ، وهما إبراهيمُ في قولِهِ تعالى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.


ومحمدٌ

لِقولِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-: ((إنَّ اللهَ قَد اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبراهيمَ خليلاً)).


(2)

قولُهُ:

((فَإنَّ اللهَ قَد اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبراهيمَ خليلاً)) هذا تَعْلِيلٌ لِقولِهِ: ((إنِّي أَبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَليلٌ)) فالنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- لَيْسَ في قَلْبِه خُلَّةٌ لأحدٍ إلاَّ للهِ -عزَّ وجلَّ-.


(3)

قولُهُ:

((وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلاً)) وهذا نصٌّ صريحٌ على أنَّ أبا بَكْرٍ، أَفْضَلُ مِن عَلِيٍّ-رَضِيَ اللهُ عنهما-، وفي هذا ردٌّ على الرَّافضةِ الذين يَزْعُمُون أنَّ عَلِيًّا أَفْضَلُ مِنْ أبي بَكْرٍ.


وقولُهُ:

((لو)) حرفُ امْتِنَاعٍ لامْتِناعٍ، فيَمْتَنِعُ الجوابُ لامتناعِ الشَّرطِ، وعلى هذا امْتَنَعَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- مِنَ اتِّخاذِ أبي بَكْرٍ خليلاً؛ لأنَّه يَمْتَنِعُ أنْ يَتَّخِذَ مِنْ أمَّتِهِ خليلاً.


(4)

قولُهُ:

((ألا وإنَّ مَن كان قَبْلَكم))((ألا)) لِلتَّنْبِيهِ، وهذه الجملةُ مِنَ الحديثِ الأوَّلِ، لكنَّه ابْتَدَأَها بالتَّنبيهِ لأهميَّةِ المَقامِ.
قولُهُ:
((أَلا فَلا تَتَّخِذوا)) هذا تنبيهٌ آخَرُ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخاذِ القبورِ مَساجدَ، وهذا عامٌّ يَشْمَلُ قبرَه وقبرَ غيْرِه.
قولُه:
((فَإِنِّي أَنْهاكُمْ عَنْ ذلِكَ)) هذا نَهْيٌ باللفظِ دونَ الأداةِ تَأْكِيدًا لهذا النهيِ؛ لأهميَّةِ المَقامِ.


(5)

قولُهُ: (فقد نَهَى عنه في آخِرِ حَياتِه..) هذا مِن كَلامِ شيخِ الإسلامِ

ابنِ تَيْمِيَّةَ.


وقولُهُ: (فقد نَهَى عنه في آخِرِ حَياتِه) الضَّميرُ يَعُودُ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-، والمَنْهِيُّ عنه هو اتِّخاذُ القبورِ مَساجدَ.

(6)

قولُه: (ثم إنَّه لَعَنَ وهو في السِّياقِ مَن فَعَلَهُ) فالنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- وهو عِنْدَ فِراقِ الدُّنيا، لَعَنَ مَن اتَّخَذَ القبورَ مَساجدَ.

(7)

قولُهُ: (والصَّلاةُ عِنْدَها مِن ذلِكَ، وإن لم يُبْنَ مَسْجدٌ) عندَها، أيْ: القبورِ، وقولُهُ: (مِنْ ذِلكَ) أي: مِن اتِّخاذِها مَساجدَ، وعلى هذا فلا تَجُوزُ الصَّلاةُ عندَ القبورِ، ولهذا نَهَى النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- كما في

(صحيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ حديثِ أبي مَرْثَدٍ الغَنَوِيِّ أنْ يُصَلَّى إلى القبورِ فقالَ: ((لا تُصَلُّوا إلى القبورِ)).


(8)

قولُهُ: (وهو معنى قولِها: خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مَسجدًا) الضَّميرُ في (قولِها) يَرْجِعُ إلى

عائِشةَ،رَضِيَ اللهُ عنها.


(9)

قولُهُ: (فإنَّ الصَّحابةَ لم يَكُونوا لِيَبْنُوا حولَ قبرِهِ مَسجدًا) هذا مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ

ابنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَه اللهُ تعالى- قد يُقالُ: (خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مَسجدًا) معناه: خَشِيَ أنْ يُبْنَى عليه مَسجدٌ، لكنْ يُبْعِدُه أنَّ الصَّحابةَ لا يُمْكِنُ أنْ يَبْنُوا حَوْلَ قبرِه مَسجدًا؛ لأنَّ مَسجدَه مُجاوِرٌ لِبيتِه، فكيفَ يَبْنُون مَسجدًا آخَرَ؟!
هذا شيءٌ مُسْتَحِيلٌ بِحَسَبِ العادةِ، فيَكونُ معنى قولِها: (خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مَسْجدًا) أي: مَكانًا يُصَلَّى فيه وإنْ لم يُبْنَ المسجدُ.


ولا رَيْبَ أنَّ أصلَ تحريمِ بِناءِ المساجدِ على القبورِ؛

أنَّ المساجدَ مَكانُ الصَّلاةِ، والناسُ سيَأْتُون إليها للصَّلاةِ فيها، فإذا صَلَّى الناسُ في مسجدٍ بُنِيَ على قبرٍ فكَأنَّهم صَلَّوا عندَ القبرِ، والمَحْذورُ الذي يُوْجَدُ في بناءِ المساجدِ على القبورِ يُوجَدُ فيما إذا اتُّخِذَ هذا المَكانُ للصَّلاةِ، وإنْ لم يُبْنَ مسجدٌ.


فتَبَيَّنَ بهذا أنَّ اتِّخاذَ القبورِ مَساجدَ له مَعْنَيان:

الأوَّلُ:

أن تُبْنَى عليها مَساجدُ.


الثاني:

أن تُتَّخَذَ مَكانًا للصَّلاةِ عندَها وإنْ لم يُبْنَ المسجدُ، فإذا كانَ هؤلاءِ القومُ مَثَلاً يَذْهَبون إلى هذا القبرِ، ويُصَلُّون عندَه ويَتَّخِذُونه مُصَلًّى، فإنَّ هذا بمعنى بِناءِ المساجدِ عليها، وهو أيضًا مِن اتِّخاذِها مَساجدَ.


(10)

قولُهُ: (وكلُّ مَوْضِعٍ قُصِدَت الصَّلاةُ فيه فقد اتُّخِذَ مَسجدًا) وهذا يَشْهَدُ له العُرْفُ، فإنَّ النَّاسَ الَّذين لهم مَساجدُ في مَكانِ أعمالِهم؛ كالوِزاراتِ والإداراتِ، لو سَأَلْتَ واحِدًا منهم أينَ المَسجدُ؟
لأََشارَ إلى المكانِ الذي اتَّخَذُوه مُصَلًّى يُصَلُّون فيه، مع أنَّه لم يُبْنَ، لكن لمَّا كانَت الصَّلاةُ تُقْصَدُ فيه صارَ يُسَمَّى مَسجدًا.

(11)

قولُهُ: (بَلْ كلُّ موضعٍ يُصَلَّى..) فقولُهُ: (مَسجدًا) أي: مَكانًا لِلسُّجودِ، وهذا مَعْنًى ثالثٌ زائدٌ على المعنيين الأَوَّلَيْنِ، وهو أنْ يُقالَ: كلُّ شيءٍ تُصَلِّي فيه فإنَّه مَسجدٌ ما دُمْتَ تُصَلِّي فيه، كما يُقالُ لِلسَّجادةِ التي تُصَلِّي عليها: مَسجدٌ أو مُصَلًّى، وإنْ كانَ الغالبُ عليها اسمَ مُصَلًّى.

والخلاصةُ:

أنّهُ لا يَجوزُ بِناءُ المساجدِ على القبورِ؛

لأنَّها وَسيلةٌ إلى الشِّركِ، وهو عبادةُ صاحبِ القبرِ.


ولا يَجوزُ أيضًا أنْ تُقْصَدَ القبورُ للصَّلاةِ عندَها،

لأنَّ هذا مِن اتِّخاذِها مَساجدَ؛ والعِلَّةَ مِن اتِّخاذِها مساجدَ موجودةٌ في الصَّلاةِ عندَها، فلو فُرِضَ أنَّ رَجُلاً يَذْهَبُ إلى المَقْبَرةِ، ويُصَلِّي عندَ قبرِ وَليٍّ مِن الأَوْلِياءِ على زَعْمِهِ، قُلْنا: إنَّكَ اتَّخَذْتَ هذا القبرَ مَسْجدًا، وإنّك مُسْتَحِقٌّ لِما اسْتَحَقَّه اليهودُ والنَّصارَى مِنَ اللَّعْنةِ، وفي كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ دليلٌ على صِحَّةِ تَسْمَيةِ كلِّ شيءٍ يُصَلَّى فيه مسجدًا بالمعنى العامِّ.


(12)

قولُه: (مَرْفوعًا)

المرفوعُ:ما أُسْنِدَ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-.


(13)

قولُه:

((إِنّ مِنْ شِرارِ النَّاسِ)) مِنْ: للتَّبْعِيضِ، وشِرارِ: جمعُ شرٍّ، مثلُ صِحابٍ جمعُ صَحْبٍ، والمعنى: أصحابُ الشَّرِّ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ الناسَ يَتَفاوَتون في الشَّرِّ، وأنَّ بعضَهم أَشَرُّ مِنْ بعضٍ.
قولُه:
((مَنْ تُدْرِكُهُم السَّاعةُ)) مَن: اسمٌ مَوْصولٌ؛ اسمُ إنَّ، والسَّاعةُ، أيْ: يومُ القيامةِ، وسُمِّيَتْ بذلِكَ؛ لأَِنَّها داهِيةٌ، وكلُّ شيءٍ داهِيةٍ عَظِيمةٍ يُسَمَّى ساعةً، كَمَا يُقالُ: هذه ساعتُك. في الأمورِ الدَّاهيةِ الَّتي تُصِيبُ الإنسانَ.
قولُه:
((وَهُمْ أَحياءٌ)) الجملةُ حالٌ من الهاءِ في ((تُدْرِكُهُمْ)).
وفي قولِهِ:
((تُدْرِكُهُم السَّاعةُ وَهُمْ أَحياءٌ)) إشْكالٌ، وهو أنَّه ثَبَتَ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قولُه: ((لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي على الحقِّ ظَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)).
وفي رِوايةٍ:
((حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)).


فكيفَ نُوَفِّقُ بينَ الحديثين؟

لأنَّ ظاهرَ الحديثِ الذي سَاقَه

المؤلِّفُ أنَّ كلَّ مَنْ تُدْرِكُهم السَّاعةُ، وهم أحياءٌ، فَهُمْ مِنْ شِرارِ الخَلْقِ.


والجمعُ بَيْنَهُما:

أنْ يُقالَ: إنَّ المرادَ بقولِهِ: ((حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ)) أيْ: إلى قُرْبِ قِيامِ السَّاعةِ، ولَيْسَ إلى قِيامِها بالفعلِ؛ لأنَّها لا تَقُومُ إلا على شِرارِ الخلْقِ، فاللهُ يُرْسِلُ رِيحًا تَقْبِضُ نَفْسَ كلِّ مُؤْمِنٍ، ولا يَبْقَى إلا شِرارُ الخلْقِ، وعليهم تَقُومُ السَّاعةُ.


(14)

قولُهُ:

((الَّذينَ يَتَّخِذُونَ القُبورَ مَساجِدَ)) فَهُم مِنَ شِرارِ الخَلْقِ، وإنْ لم يُشْرِكوا؛ لأنَّهم فَعَلوا وَسيلةً مِنْ وسائلِ الشِّركِ، والوَسائلُ لها أحكامُ المَقاصِدِ، وإنْ كانَتْ دونَ مَرْتَبتِها، لكنَّها تُعْطَى حُكْمَها بالمعنى العامِّ، فإنْ كانَتْ وسيلةً لِواجبٍ صارَتْ واجبةً، وإنْ كانَتْ وسيلةً لمُحَرَّمٍ فهي مُحَرَّمةٌ.


فشَرُّ النَّاسِ كما في هذا الحديثِ يَنْقَسِمون إلى صِنْفَيْنِ:

الأوَّلُ:

الذين تُدْرِكُهم السَّاعةُ، وهم أحياءٌ.


الثاني:

الذين يَتَّخِذون القبورَ مَساجدَ.


وفي قولِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-:

((إِنَّ مِنْ شِرارِ النَّاسِ)) دليلٌ على أنَّ النَّاسَ يَتَفاوَتون في الشَّرِّ؛ لأنَّ بعضَهم أَشَدُّ مِنْ بعضٍ فيه، كما أنَّهم يَتَفاوَتون في الخيرِ أيضًا؛ لقولِهِ تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
وذلكَ مِنْ حيثُ الكَمِّيَّةُ: مثلَ مَنْ صَلَّى رَكْعَتين فَلَيْسَ كمَن صَلَّى أَرْبعًا.


ومن حيثُ الكيفيَّةُ:

فمَنْ صَلَّى، وهو قانِتٌ خاشِعٌ حاضِرُ القلبِ، ليس كَمَنْ صَلَّى وهو غافِلٌ.


ومن حيثُ النوعيَّةُ:

فالفرضُ أَفْضَلُ مِن النَّفْلِ، وجِنْسُ الصَّلاةِ أفضلُ مِنْ جِنسِ الصَّدَقةِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ أفضلُ الأعمالِ البَدَنيَّةِ.
وهذا الذي تَدُلُّ عليه الأَدِلَّةُ هو مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وهو التَّفاضُلُ في الأعمالِ، حتَّى في الإيمانِ الذي هو في القلبِ يَتَفاضَلُ النَّاسُ فيه، بَلْ إنَّ الإنسانَ يُحِسُّ في نفسِه أنَّه في بعضِ الأحيانِ يَجِدُ في قلبِه مِن الإيمانِ ما لا يَجِدُه في بعضِ الأحيانِ، فكَيْفَ بَيْنَ شخصٍ وشخصٍ؟
فهو يَتَفاضَلُ أَكْثرَ.


وخُلاصةُ البابِ:

أنَّه يَجِبُ البُعْدُ عَن الشِّركِ ووَسائِلِهِ،

ويُغَلَّظُ على مَنْ عبدَ اللهَ عندَ قبرِ رجلٍ صالحٍ.
وكلامُ
المؤلِّفِ -رَحِمَهُ اللهُ- في قولِهِ: (فيمَن عَبَدَ اللهَ) يَشْمَلُ الصَّلاةَ وغيرَها، والأحاديثُ التي ساقَها في الصَّلاةِ، لكنَّه-رَحِمَهُ اللهُ- كأنَّه قاسَ غيرَها عَلَيْها، فمَنْ زَعَمَ أنَّ الصَّدقةَ عندَ هذا القبرِ أَفْضَلُ مِنْ غيرهِ فهو شَبِيهٌ بِمَن اتَّخَذَه مَسجدًا؛ لأنَّه يَرَى أنَّ لهذه البُقْعةِ أو لِمَنْ فيها شَأْنًا يَفْضُلُ بِهِ على غيرِهِ، فالشَّيخُ عَمَّمَ، والدَّليلُ خاصٌّ.


فإنْ قِيلَ: لا يُسْتَدَلُّ بالدَّليلِ الخاصِّ على العامِّ؟

أُجِيبُ:

أنَّ الشَّيخَ أَرادَ بذلكَ أنَّ العِلَّةَ هي تعظيمُ هذا المكانِ لِكَوْنِه قَبْرًا، وهذا كما يُوجَدُ في الصَّلاةِ يُوجَدُ في غيرِها مِن العِباداتِ، فيكونُ التَّعْمِيمُ مِنْ بابِ القِياسِ، لا مِنْ بابِ شُمولِ النَّصِّ له لفظًا.


(15)

فيه مسائلُ:


الأُولَى:

ما ذكَرَ الرَّسولُ

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فيمَنْ بَنَى مَسجدًا يَعْبُدُ اللهَ فيه عندَ قبرِ رجلٍ صالحٍ، ولو صَحَّتْ نيَّةُ الفاعلِ:
تُؤْخَذُ مِنْ لَعْنِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- الذين اتَّخَذُوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ.
قولُهُ: (ولو صَحَّت نيَّةُ الفاعلِ) لأنَّ الحُكْمَ عُلِّقَ على مُجَرَّدِ صورتِه، فهذا العملُ لا يَحْتاجُ إلى نيَّةٍ؛ لأنَّه مُعلَّقٌ بمجرَّدِ الفعلِ.
فالنِّيَّةُ تُؤَثِّرُ في الأعمالِ الصَّالحةِ وتَصْحِيحِها، وتُؤَثِّرُ في الأعمالِ التي لا يَقْدِرُ عليها فيُعْطَى أَجْرَها، وما أَشْبَهَ ذلكَ، بخِلافِ ما عُلِّقَ على فعلٍ مجرَّدٍ فلا حاجَةَ فيه إلى النِّيَّةِ، أيْ: ولو كانَ يَعْبُدُ اللهَ، ولو كانَ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إلى اللهِ بِبِناءِ هذا المسجدِ اعْتِبارًا بما يَؤُولُ إليه الأمرُ، وبالنَّتيجةِ السَّيِّئَةِ التي تَتَرَتَّبُ على ذلك، وهذه النُّقْطةُ نَتَدَرَّجُ منها إلى نُقْطةٍ أُخْرَى، وهي التَّحذيرُ مِنْ مُشابَهةِ المُشرِكين، وإنْ لم يَقْصِد الإنسانُ المُشابَهةَ، وهذه قد تَخْفَى على بعضِ النَّاسِ حيثُ يَظُنُّ أنَّ التَّشبُّهَ إنَّما يَحْرُمُ إذا قُصِدَت المُشابَهةُ، والشَّرْعُ إنَّما عَلَّقَ الحُكْمَ بالتَّشبُّهِ، أيْ: بأنْ يُفْعَلَ ما يُشْبِهُ فِعلَهم، سَواءً قُصِدَ أو لم يُقْصَدْ.


ولهذا قالَ العُلماءُ في مَسألةِ التَّشبُّهِ:

(وإنْ لم يَنْوِ ذلكَ، فإن التَّشبِيهَ يَحْصُلُ بمُطْلَقِ الصُّورةِ).
فإنْ قيلَ: قاعِدةُ
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) هل تُعارِضُ ما ذَكَرْنا؟


الجوابُ:

لا تُعارِضُه؛

لأنَّ ما عُلِّقَ بالعملِ ثَبَتَ له حُكْمُه، وإنْ لم يَنْوِ الفعلَ، كالأشياءِ المُحَرَّمةِ؛ كالظِّهارِ والزِّنا وما أشْبَهَهَا.


(16)

الثانيةُ: النَّهْيُ عَنِ التَّماثيلِ

وغِلَظُ الأمرِ في ذلِكَ:
تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ:
((وصَوَّرُوا فيه تلك الصُّورَ)) ولا سِيَّما إذا كانَتْ هذه الصُّوَرُ مُعَظَّمةً عادةً؛ كالرُؤَساءِ والزُّعَماءِ والأبِ والأخِ والعمِّ.


أو شَرْعًا:

مثلَ: الأَوْلِياءِ والصَّالحين والأنبياءِ، وما أَشْبَهَ ذلِكَ.
(17)
الثالثةُ:العِبْرةُ في مُبالَغتِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في ذلِكَ كَيْفَ بَيَّنَ لهم هذا أوَّلاً، ثُمَّ قَبْلَ مَوْتِه بخمسٍ قالَ ما قالَ، ثُمَّ لمَّا كانَ في السِّياقِ لم يَكْتَفِ بما تَقَدَّمَ؟:
وهذا مما يَدُلُّ على حِرْصِ النِّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- على حِمايةِ جانِبِ التَّوحيدِ؛ لأنَّه خُلاصةُ دَعوةِ الرُّسلِ؛ ولأنَّ التَّوحيدَ أَعْظَمُ الطَّاعاتِ، فالمعاصِي، ولو كَبُرَتْ، أَهْوَنُ مِنَ الشِّركِ، حتَّى قالَ
ابنُ مَسْعودٍ:(لأََنْ أَحْلِفَ باللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا) لأنَّ الحَلِفَ بغيرِهِ نوعٌ مِن الشِّركِ، والحَلِفَ باللهِ كاذبًا مَعْصيةٌ، وهي أَهْوَنُ مِنَ الشِّركِ.


فالشِّركُ أَمْرُه عظيمٌ جِدًّا،

ونحن نُحَذِّرُ إخوانَنا المُسْلِمينَ ممَّا هم عليه الآنَ مِن الانْكِبابِ العظيمِ على الدُّنيا حتَّى غَفَلوا عمَّا خُلِقُوا له، واشْتَغَلُوا بما خُلِقَ لهم، فعامَّةُ النَّاسِ الآنَ تَجِدُهم مُشْتَغِلِين بالدُّنيا ليس في أفكارِهم إلا الدُّنيا، قائِمِين وقاعِدِين ونائِمِين ومُسْتَيْقِظِين، وهذا في الحقيقةِ نوعٌ مِنَ الشِّركِ؛ لأنَّه يُوجِبُ الغَفْلةَ عَنِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، ولهذا سَمَّى النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- مَنْ فعلَ ذلك عبدًا لِمَا تَعَبَّدَ له، فَقَالَ: ((تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ)).
ولو أقبَلَ العبدُ على اللهِ بِقَلبِهِ وجَوَارحِه لَحَصَلَ ما قُدِّرَ له مِنَ الدُّنيا، فالدُّنيا وَسيلةٌ ولَيْسَتْ غايةً، وتَعِسَ مَنْ جَعَلَها غايةً، كيف تَجْعَلُها غايةً وأَنْتَ لا تَدْرِي مَقامَك فيها، وكيف تَجْعَلُها غايةً، وسُرورُها مَصْحُوبٌ بالأحزانِ؟
كما قالَ الشَّاعرُ:

فـيـومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرُّ

فالحاصلُ:

أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بُعِثَ لِتَحْقيقِ عِبادةِ اللهِ، ولهذا كانَ حريصًا على سَدِّ كلِّ الأبوابِ الَّتي تُؤَدِّي إلى الشِّركِ، فالرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- حَذَّرَ مِنَ اتِّخاذِ القبورِ مساجدَ ثلاثَ مَرَّاتٍ:


الأُولَى:

في سائرِ حَياتِه.


والثانيةُ:

قَبْلَ موتِه بخمسٍ.


والثالثةُ:

وهو في السِّياقِ.


(18)

الرابعةُ: نَهْيُه عَنْ فِعْلِهِ عندَ قبرِهِ قَبْلَ أنْ يُوجَدَ القبرُ: تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((أَلا فَلا تَتَّخِذوا القُبورَ مَسَاجِدَ)) فإنَّ قبرَه داخلٌ في ذلِكَ بلا شكٍّ، بَلْ أوَّلُ ما يَدْخُلُ فيه.


(19)

الخامسةُ: أنَّه مِنْ سُنَنِ اليهودِ والنَّصارَى في قبورِ أنبيائِهم:

تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ)) وبِئْسَ رجلٌ جَعَلَ إمامَه اليهودَ والنَّصارَى، وتَشَبَّهَ بهم في قَبيحِ أعمالِهم.


(20)

السادسةُ: لَعْنُه إيَّاهُم على ذلِكَ،

تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليهودِ والنَّصارَى)).


(21)

السابعةُ: أنَّ مُرادَه

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- تَحْذيرُه إيَّانا عَنْ قبرِهِ،
تُؤْخَذُ مِنْ قولِ
عائِشةَ: ((يُحَذِّرُ ما صَنَعوا)) أي: ما صنَعَه اليهودُ والنَّصارَى في قبورِ أنبيائِهم.


(22)

الثامنةُ: العِلَّةُ في عدمِ إبرازِ قبرِهِ:

تُؤْخَذُ مِنْ قولِ عائِشةَ: ((ولولا ذلك أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أنَّه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا)).
هناك عِلَّةٌ أخرى، وهي: إخبارُه بأنَّه ما مِنْ نبيٍّ يَموتُ إلا دُفِنَ حيثُ يَموتُ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكونَ لِلحُكْمِ عِلَّتان، كما لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكونَ لِلعِلَّةِ حُكْمانِ.


(23)

التاسعةُ:

في معنى اتِّخاذِها مَسجدًا:


سَبَقَ أنْ ذكَرْنا أنَّ لها معنيين:

الأول:

بِناءَ المساجدِ عليها.


والثاني:

اتِّخاذَها مَكانًا للصَّلاةِ تُقْصَدُ فيُصَلَّى عندَها،

بَلْ إنَّ مَنْ صَلَّى عندَها ولم يَتَّخِذْها للصَّلاةِ فَقَد اتَّخَذَها مَسجدًا بالمعنى العامِّ.


(24)

العاشرةُ: أنَّه قَرَنَ بينَ مَن اتَّخَذَها مَسْجدًا،

وبينَ مَنْ تَقومُ عَلَيْهِم السَّاعةُ، فذكَرَ الذَّرِيعةَ إلى الشِّركِ قَبْلَ وُقوعِهِ مع خاتِمتِه:
ومعنى هذا أنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ذَكَرَ التَّحْذِيرَ مِن الشِّركِ قَبْلَ أنْ يَموتَ.
وقولُه:
((مَعَ خاتِمتِهِ)) وهِيَ: أنَّ مَنْ تَقومُ عليهم شِرارُ الخَلْقِ، والذينَ تَقومُ عَلَيْهِم السَّاعةُ، وهُم أحياءٌ هؤلاءِ كُفَّارٌ، والذين يَتَّخِذُون القبورَ مَساجدَ هؤلاءِ فَعَلوا أسبابَ الشِّركِ والكُفْرِ.


(25)

الحاديةَ عشرةَ: ذِكْرُه في خُطْبتِه قَبْلَ موتِهِ بخمسٍ الرَّدَّ على الطَّائفتين اللَّتين هما أَشَرُّ أهلِ البِدَعِ:


قولُه:(قبلَ موتِه بخمسٍ) أي: خمسِ لَيالٍ، والعربُ يُعَبِّرُون عن الأيَّامِ باللَّيالي وبالعَكْسِ.
قولُه: (أَشَرُّ أهلِ البِدَعِ) يُقالُ: أَشَرُّ، ويُقالُ: شَرٌّ، بحذفِ الهَمْزةِ، وهو الأَكْثَرُ اسْتِعْمالاً.
وإنمَّا تَكَلَّمَ

المؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ حالِ الرَّافِضةِ والجَهْمِيَّةِ، وحُكْمِهما قَبْلَ ذِكْرِ اسمِهِما مِنْ أجلِ تَهْيِيجِ النَّفْسِ على معرفتِهما والاطِّلاعِ عَلَيْهِما؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ذُكِرَ له الحُكْمُ والوَصْفُ قَبْلَ ذِكْرِ المَوْصُوفِ والمَحْكومِ عَلَيْهِ، صارَتْ نفسُه تَتَطَلَّعُ وتَتَشَوَّقُ إلى هذا، فلو قالَ مِنْ أوَّلِ الكلامِ: الرَّدُّ على الرَّافضةِ والجَهْمِيَّةِ، فلا يَكونُ للإنسانِ التَّشَوُّقُ مِثلَما لو تَكَلَّمَ عن حالِهما وحُكْمِهِما أوَّلاً.


وحالُهما:

أنَّهما أَشَرُّ أهلِ البِدَعِ.


وحُكْمُهُما:

أنَّ بعضَ أهلِ العِلْمِ أَخْرَجَهم مِن الثِّنْتَين والسَّبعينَ فِرْقةً.


والرَّافِضةُ:

اسمُ فاعلٍ مِنْ رَفَضَ الشَّيءَ إذا اسْتَبْعَدَه، وسُمُّوا بذلك؛ لأنّهم رَفَضوا زَيْدَ بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طالِبٍ حينَ سَأَلُوه: ما تَقُولُ في أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ؟ فأَثْنَى عليهما، وقالَ: هما وَزِيرا جَدِّي، فرَفَضُوه وتَرَكُوه وكانوا في السَّابقِ معه، لكنْ لمَّا قال الحقَّ المُخالِفَ لأهوائِهم نَفَرُوا منه، والعِياذُ باللهِ فسُمُّوا رافِضةً.
وأصلُ مَذْهبِهم مِنْ
عبْدِ اللهِ بنِ سَبَأٍ، وهو يَهودِيٌ تَلبَّسَ بالإسلامِ، فأَظْهَرَ التَّشَيُّعَ لآلِ البيتِ والغُلُوَّ فيهم؛ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عن دينِ الإسلامِ ويُفْسِدَه، كما أَفْسَدَ بُولِصُ دِينَ النَّصارَى عندَما تَلَبَّسَ بالنَّصْرانِيَّةِ.
وأمَّا
الجَهْمِيَّةُ: فَهُم أتباعُ الجَهْمِ بنِ صَفْوانَ، وأوَّلُ بِدْعتِه أنَّه أنكَرَ صِفاتِ اللهِ، وقالَ: إنَّ اللهَ لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلاً، ولم يُكَلِّمْ موسَى تَكْلِيمًا، فَأَنْكَرَ المَحَبَّةَ والكلامَ، ثم بدأَتْ هذه البِدْعةُ تَنْتَشِرُ وتَتَّسِعُ، فاعْتَنَقَها طَوَائفُ غيرُ الجَهْمِيَّةِ؛ كالمُعْتَزِلةِ ومُتَأَخِّرِي الرَّافضةِ؛ لأنَّ الرَّافضةَ كانوا بالأوَّلِ مُشَبِّهةً، ولهذا قالَ أهلُ العِلْمِ: أوَّلُ مَنْ عُرِفَ بالتَّشْبيهِ هِشامُ بنُ الحَكَمِ الرَّافِضيُّ، ثم تحوَّلوا مِنَ التَّشْبيهِ إلى التَّعْطيلِ، وصاروا يُنْكِرون الصِّفاتِ.
فمَذْهبُهم مِنْ أَخْبَثِ المذاهبِ، إن لم نَقُلْ أَخْبَثُها، لكنْ أَخْبَثُ مِنْه مَذهبُ الرَّافِضةِ، حتَّى قالَ شيخُ الإسلامِ
ابنُ تَيْمِيَّةَ-رَحِمَه اللهُ-: (إنَّ جميعَ البِدَعِ أصلُها مِنَ الرَّافضةِ).
فهم أصلُ البَلِيَّةِ في الإسلامِ، ولهذا قال
المؤلِّفُ: (أَخْرَجَهم بعضُ أهلِ العِلْمِ من الثِّنْتَين والسَّبعينَ فِرْقةً)
ولعلََّ الصَّوَابَ مِنَ الثلاثِ والسبعينَ فِرْقةً، أو أنَّ الصَّوابَ أَخْرَجَهم إلى الثِّنْتَين والسبعين، أيْ: أَخْرَجَهُم مِنَ الثالثةِ الَّتي كانَ عليها الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وأصحابُهُ؛ لأنَّ المَعْروفَ أنَّ هذِهِ الأمَّةَ تَفْتَرِقُ على ثلاثٍ وسبعينَ فِرْقةً، كلُّها في النَّارِ إلا واحِدةً، وهي مَنْ كانَتْ على ما كانَ عليه النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وأصحابُه.
وصدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ- في قولِه عن هاتين الطَّائفتين؛
الرَّافِضةِ والجَهْمِيَّةِ:(شَرُّ طوائفِ أهلِ البِدَعِ)


وقولُ

المؤلِّفِ: (وبسببِ الرَّافضةِ حَدَثَ الشِّركُ، وعِبادةُ القبورِ، وهُم أوَّلُ مَنْ بَنَى عليها المَساجدَ).


ولهذا يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ بِدْعَتِهم وبِدْعةِ الجَهْمِيَّةِ وغيرِها،

ولا شكَّ أنَّ البِدَعَ دَرَكاتٌ، بعضُها أسفلُ مِنْ بعضٍ، فعلى المرءِ الحَذَرُ مِن البِدَعِ، وأنْ يَكونَ مُتَّبِعًا لِمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالحِ في هذا البابِ وفي غيرِه.


(26)

الثانيةَ عَشْرَةَ: ما بُلِيَ بهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- مِنْ شِدَّةِ النَّزْعِ:


تُؤْخَذُ مِنْ قولِها:

((طفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصةً لَهُ على وَجْهِهِ، فإذا اغتَمَّ بها كَشَفَها)).
وفي هذا دَليلٌ على شِدَّةِ نَزْعِه، وهكذا كانَ الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، يَمْرَضُ ويُوعَكُ كما يُوعَكُ الرَّجلانِ مِن النَّاسِ، وهذا مِنْ حِكْمةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- فهو -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- شُدِّدَ عليه البَلاءُ في مُقابَلةِ دَعْوتِهِ، وأُوذِيَ إِيذاءً عظيمًا، وكذلك -أيضًا- فيما يُصِيبُه مِن الأمراضِ يُضاعَفُ عليه، والحِكْمةُ مِنْ ذلِكَ: لأجلِ أنْ يَنالَ أَعلَى دَرَجاتِ الصَّبْرِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ابْتُلِيَ بالشَّرِّ وصَبَرَ كانَ ذلِكَ أَرْفَعَ لِدَرجَتِه.


والصَّبرُ دَرَجةٌ عاليةٌ لا تُنالُ إلا بوجودِ أسبابِها،

ومنها الابْتِلاءُ، فيَصْبِرُ ويَحْتَسِبُ حتَّى يَنالَ دَرَجةَ الصَّابرينَ.


(27)

الثالثةَ عشرةَ: ما أُكْرِمَ بهِ مِنَ الخُلَّةِ:

ويَدُلُّ عليها قولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((إنّ اللهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبراهيمَ خليلاً)) ولا شكَّ أنَّ هذه الكَرَامةُ العظيمةُ؛ لأنَّنا لا نَعْلَمُ أحدًا نالَ هذِهِ المَرْتَبةَ إلا رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وإبراهيمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.


(28)

الرابعةَ عشرةَ: التَّصْرِيحُ بأنَّها أَعْلَى مِنَ المَحَبَّةِ:

ودليلُ ذلِكَ: أنّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -كانَ يُحِبُّ أبا بَكْرٍ، وكانَ أَحَبَّ النَّاسِ إليهِ، فأَثْبَتَ له المحبَّةَ ونَفَى عنه الخُلَّةَ، فدَلَّ هذا على أنّها أَعْلَى مِنَ المحبَّةِ، والتَّصْريحُ لَيْسَ مِنَ هذا الحديثِ فَقَطْ، بَلْ بِضمِّهِ إلى غيرِه، فَقَدْ وردَ مِنْ حديثٍ آخَرَ أنَّه صَرَّحَ: بأنَّ أبا بكرٍ أَحَبُّ الرِّجالِ إليه. ثُمَّ قالَ هنا: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا أحَدًا خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلاً)) فدَلَّ على أنَّ الخُلَّةَ أَعْلَى مِنَ المحبَّةِ.


(29)

الخامسةَ عشرةَ: التَّصْرِيحُ بأنَّ الصِّدِّيقَ

أَفْضَلُ الصَّحابةِ: تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((ولَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلاً)) فلو كانَ غيرُه أَفْضَلَ مِنْه عندَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، لَكانَ أَحَقَّ بذلِكَ.


ومن المَسائِلِ الهامَّةِ أيضًا:

أنَّ الأَفْضَلِيَّةَ في الإيمانِ والعملِ الصالحِ فوقَ الأَفْضَلِيَّةِ بالنَّسَبِ؛ لأنَّنا لو رَاعَيْنا الأفضليَّةَ بالنَّسَبِ لَكانَ حَمْزَةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ، والعَبَّاسُ -رَضِيَ اللهُ عنهما- أَحَقَّ مِنْ أبي بكرٍ في ذلِكَ، ومِنْ ثَمَّ قُدِّمَ أبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- على عليِّ بنِ أَبِي طالِبٍ وغَيرِه مِنْ آلِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-.


(30)

السادسةَ عشرةَ:

الإشارةُ إلى خِلافتِهِ: لم يَقُل: التَّصْرِيحُ، وإنمَّا قالَ: الإشارةُ؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ-، لم يَقُلْ: إنَّ أبا بَكْرٍ هو الخَلِيفةُ مِنْ بعدِهِ، لكنْ لمَّا قالَ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلاً)) عُلِمَ أنه- رَضِيَ اللهُ عنه- أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-، فيَكونُ أَحَقَّ النَّاسِ بخِلافَتِه.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟

هذا الباب مع الأبواب بعده: في بيان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصاً على هذه الأمة، كان بالمؤمنين -عليه الصلاة والسلام- رؤوفاً رحيماً، ومن تمام حرصه على الأمة أن:

- حذّرهم كل وسيلة من وسائل الشرك، التي تصل بهم إلى الشرك.

- وسدّ جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك.
- وغلّظ في ذلك؛ وشدّد فيه؛ وأبدى وأعاد، حتى إنه بيّن ذلك خشية أن يفوت تأكيده، وهو في النـزع، وهو يعاني سكرات الموت عليه الصلاة والسلام.
فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر؛ وأن الشرك الأكبر له وسائل، وله ذرائع، يجب سَدُّها؛ ويجب منعها رعاية وحماية للتوحيد؛ ولأن النبي -عليه الصلاة والسلام- غلّظ فيمن يفعلون شيئاً من تلك الوسائل، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك.

هذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك، والذرائع التي يجب منعها.
قال رحمه الله: (باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح) صورة ذلك: أن يأتي إلى قبر رجل صالح يعلم صلاحه.
- إما أن يكون من الأنبياء والمرسلين.
- أو أن يكون من صالحي هذه الأمة.
- أو صالحي أمةٍ غير هذه الأمة، فيتحرّى ذلك المكان لكي يعبد الله وحده دون ما سواه، فيأتي إلى هذا القبر؛ أو يأتي إلى هذه البقعة لكي يعبد الله فيها، رجاء بركة هذه البقعة، وهذا يَرُوْج عند كثيرين في أن ما حول القبور، قبور الصالحين، أو قبور الأنبياء: مبارك؛ وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- غلّظ في ذلك مع أن المغلّظ عليه لم يعبد إلا الله جل وعلا؛ ولم يعبد صاحب القبر، لكنه اتخذ ذلك المكان:
- رجاء بركته.
- ورجاء تنزّل الرحمات كما يقولون.
- ورجاء تنزل النسمات والفضل من الله عليه، واختاره لأجل بركته، ولكنه لم يعبد إلا الله جل وعلا، ومع ذلك لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الصنف الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
وقوله هنا: (فيمن عبد الله) يعني: لم يشرك بالله، عبد الله وحده: صلى لله مخلصاً؛ أو دعا لله مخلصاً؛ أو تضرّع واستغاث، واستعاذ لله -جل وعلا- مخلصاً، عند قبر رجل صالح، لكنه تحرّى القبر لأجل البركة.

والرجل الصالح كما سبق أن ذكرنا: هو المقتصد الذي أتى بالواجبات، وابتعد عن المحرمات، وأعلى منه درجة السابق بالخيرات، فالصالحون من الرجال والنساء مقامات، هم درجات عند الله، بعض أهل العلم يُعبّر في تعريف الرجل الصالح بقوله: (الصالح من عباد الله:هو القائم بحقوق الله، القائم بحقوق عباده، وهذا صحيح، ولأن المقتصد قائم بحقوق الله، قائم بحقوق عباده: أتى بالواجبات وانتهى عن المحرمات.
وأعظم منه درجة: السابق بالخيرات، فأهل السبق بالخيرات من العباد الصالحين: لا يجوز أن تُعظّم قبورهم؛ وأنْ يُغلى فيها، بظن أن البقعة التي حول القبر بقعة مباركة، فإن هذا جاء فيه الوعيد الذي يأتي في هذا الباب، وغلّظ فيه عليه الصلاة والسلام.
قال: (فكيف إذا عبده) يعني: هذا التغليظ؛ ولعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ،ومن أسرج على القبور؛ أو من عظم القبور وعظّم من فيها؛ وعبد الله -جل وعلا- عندها، عبد الله وحده: جاء فيه اللعن؛ وجاء فيه أنه من شرار الخلق عند الله، فكيف إذا توجه ذلك العابد إلى صاحب القبر: يدعوه؛ ويرجوه؛ أو يخافه؛ أو يأمل منه؛ أو يستغيث به؛ أو يصلي له؛ أو يذبح له؛ أو يستشفع به؟
لا شك أن هذا أعظم وأعظم في التغليظ من عبادة الله وحده، عند قبر رجل صالح.
لهذا قال الشيخرحمه الله: (من تأمّل هذه الأحاديث التي سترد فإنه -هذا مقتضى كلام الشيخ في التبويب- فإنه يجد أن التغليظ يكون أشد وأشد، لو كان في القلوب إيمان ومحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، يكون أشد وأشد إذا عُبِدَ صاحب ذلك القبر، فإذا صُلِّي له هل هو بمنزلة من صلى لله عنده؟
ذاك وسيلة وهذا غاية، هذا شرك أكبر، فأولئك شرار الخلق عند الله مع أنهم فعلوا وسائل الشرك، ووسائل المحرمات.
فكيف بمن فعل الشرك الأكبر بعينه، وتوجَّه إلى قبور الصالحين؛ واتخذها أوثاناً مع الله جل وعلا؟
لا شك أن هذا أبلغ وأبلغ في التغليظ؛

وذلك لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام إذا فعله مسلم)
قال (فكيف إذا عبده) عبده: يعني: عبد القبر؛ أو عبد الرجل، لأن العبادة؛ عبادة القبوريين:

- تارةً تتوجه إلى القبر.
- وتارة تتوجه إلى صاحب القبر.
- بل وتارة تتوجه إلى ما حول القبر، فالأبنية المحاطة بالقبور، في قبور الأولياء عندهم التي بُنيت على القبور وصارت مشاهد:
- تارة تُتخذ تلك الستور الحديدية أنها آلهة، فإذا تمسّحوا بها، رَجْوا منها البركة واتخذوها وسيلة إلى الله جل وعلا، يعكفون عندها؛ فيتخذون تلك المشاهد أوثاناً يعبدونها؛ ويرجونها؛ ويخافونها، وإذا ضمّ أحدهم إلى صدره تلك المشاهد؛ أو الحديد؛ أو الستور ونحو ذلك، فكأنه صار مقرباً عند الله وقُبلت وسيلته تلك، وهذا نوع من أنواع اتخاذ المشاهد أوثاناً.

كذلك:

اتخاذ القبور أوثاناً، أو اتخاذ الرجل الصالح الذي هو متبرئ من أولئك، ومن عبادتهم له، يتخذونهم آلهة مع الله
إذا توجهوا إليهم بالعبادة، وقد علمنا أن العبادة معناها واسع؛ وأنه قد تكون:
- بالصلاة له.
- أو بدعوته.

- بسؤاله.
- بطلبه كشف المدلهمات.

- أو جلب الخيرات.
- أو الذبح له.

- أو وضع النذور له، ونحو ذلك من أنواع العبادة، وهذا هو الواقع عند أولئك الذين يعبدون الأوثان وقبور الصالحين.
أم سلمة -رضي الله عنها- لما كانت في الحبشة رأت كنيسة؛ ورأت في تلك الكنيسة صور الصالحين، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح)) قد يكون نبيّاً من أنبيائهم؛ أو عبداً من عباد الله الصالحين فيهم، ماذا عملوا معه؟
قال: ((بنوا على قبره مسجداً)) فيجعلون المسجد: وهو مكان العبادة في اللغة بما يدخل فيه الكنيسة، مكان العبادة يُقال له مسجد، والمسجد: مكان السجود.

والسجود: هو الخضوع والتذلل لله جل وعلا، فالمسجد يطلق على كل مكانٍ يُعبد فيه، كل مكان يُتخذ لعبادة الله وحده، لعبادة الله جل وعلا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) فمكان العبادة يقال له: مسجد.
فالكنيسة هنا، قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في شأنها: ((بنوا على قبره مسجداً)) يعني: مكاناً للعبادة، فإذاً: الكنائس بُنيت على القبور؛ قبور أولئك الصالحين، وصوروا فيها صوراً، جعلوا صورة ذلك العبد، جعلوها على قبره؛ أو فوق قبره على الحائط؛ لكي يَدلُّوا الناس على عبادة الله بتعظيم ذلك الرجل الصالح، وتعظيم قبره، فاتخذوا البناء على القبور الذي هو وسيلة من وسائل الشرك الأكبر، ومن البدع التي يُحدثها الخلوف بعد الأنبياء، اتخذوا ذلك فوق القبور، وتعبدوا فيها.
قال عليه الصلاة والسلام: ((أولئكِ شرار الخلق عند الله جل وعلا))((أولئكِ)): الخطاب لأم سلمة، والخطاب إذا توجه إلى مؤنث: تُكسر فيه الكاف؛ كاف الخطاب ((أولئك شرار الخلق عند الله)) من هم شرار الخلق عند الله؟
هم الذين عظموا الصالحين؛

فبنوا على قبورهم مساجد، هل في هذا الحديث أنهم توجهوا بالعبادة لأولئك الصالحين؟

لا، إنما عظّموا قبور الصالحين، وجعلوا لهم صوراً، فجمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة الصور.

- وفتنة الصور وسيلة من وسائل حدوث الشرك الأكبر.
وكذلك:

فتنة القبور:

- بالبناء عليها.
- وبتعظيمها.
- وبإرشاد الناس لها.
هذا وسيلة إلى أن يُعتقد في صاحب القبر أن له شيئاً من خصائص الإلهية، أو أنه يتوسط عند الله -جل وعلا- في الحاجات، كما حصل ذلك فعلاً.

قال المصنف الإمام رحمه الله: (فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل) وهذا هو الواقع، وهذا التغليظ في أنهم شرارا الخلق عند الله، هذا نفهم منه التحذير؛ تحذير هذه الأمة أن يبنوا على قبر أحدٍ مسجداً؛ لأنه إن بُني على قبر أحد مسجد، فإنه من بنى ذلك ودلّ الخلق على تعظيم ذلك القبر، فإنه من شرار الخلق عند الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)) فإذاً: وجه الدلالة من هذا الحديث: أنه قال: ((أولئك شرار الخلق عند الله)) وهذا تغليظ فيمن عبد الله في الكنيسة التي فيها القبور والصور، والقبور والصور من وسائل الشرك بالله جل وعلا.
هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي فيها التغليظ في وسائل الشرك،

وبناء المساجد على القبور، واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.


ووجه ذلك:

أنه -عليه الصلاة والسلام- وهو في ذلك الغم وتلك الشدّة، ونزول سكرات الموت به عليه الصلاة والسلام، يُعانيها: لم يَغْفَل عليه الصلاة والسلام، بل اهتم اهتماماً عظيماً -وهو في تلك الحال- بتحذير الأمة من وسيلة من وسائل الشرك، وتوجيه اللعن والدعاء على اليهود والنصارى بلعنة الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.


سبب ذلك:

أنه -عليه الصلاة والسلام- في تلك الحال يخشى أن يُتخذ قبره مسجداً كما اتُّخذت قبور الأنبياء قبله مساجد، ومن الذي اتخذ قبور الأنبياء مساجد؟

شرار الخلق عند الله من اليهود والنصارى الذين لعنهم النبي عليه الصلاة والسلام،

فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى)) واللعنة: هي الطرد والإبعاد من رحمة الله، وذلك يدل على أنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب، وهذا كذلك، فإن البناء على القبور، واتخاذ قبور الأنبياء مساجد: هذا من وسائل الشرك، وهو كبيرة من الكبائر قال: ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))فإذاً سبب اللعن: أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد، والنبي

-عليه الصلاة والسلام- يلعن، ويحذر، وهو في ذلك الموقف العصيب، فقام ذلك مقام آخر وصية أوصى بها عليه الصلاة السلام: (ألا تُتخذ القبور مساجد) فخالف كثير من الفئام في هذه الأمة، خالفوا وصيته عليه الصلاة والسلام.


قال: ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))اتخاذ القبور مساجد: يكون على أحد ثلاث صور:


الصورة الأولى:

أن يسجد على القبر،

يعني: يجعل القبر مكان سجوده ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يعني: جعلوا القبر مكان السجود. هذه صورة، وهذه الصورة في الواقع: لم تحصل بانتشار؛ لأن قبور الأنبياء في اليهود والنصارى لم تكن مباشرة للناس يمكن أن يصلوا على القبر وأن يسجدوا عليه، بل كانوا يعظمون قبور أنبيائهم؛ فلا يصلوا عليها مباشرة لكن قوله: ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) أبلغ صورة أن يتخذ القبر نفسه مسجداً، يعني يصلى عليه مباشرة، وهذه أفظع تلك الأنواع، وهي التي تدل على أعظم وسيلة من وسائل الشرك والغلو بالقبر.


الصورة الثانية:

أن يصلي إلى القبر، أن يتخذ القبر مسجداً،

يعني: أن يكون أمام القبر يصلي إليه، فإنه اتخذ القبر -وما حوله له حكمه- اتخذه مكاناً للتذلل والخضوع، والمسجد: لا يُعنى به مكان السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض فقط، وإنما يُعنى به مكان التذلل والخضوع، فاتخذوا قبورهم مساجد، يعني: جعلوها قبلة لهم ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُصلى إلى القبر؛ لأجل أن الصلاة إليه وسيلة من وسائل التعظيم، وهذا يوافق قول الشيخ -رحمه الله- في الباب: (باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح) قوله: عند قبره نفهم منه هذه الصورة التي هي: أن يكون أمامه القبر، فيجعل القبر بينه وبين القبلة تعظيماً للقبر.


الصورة الثالثة:

أن يتخذ القبر مسجداً،

بأن يجعل القبر في داخل بناءٍ، وذلك البناء هو المسجد، فإذا دفن النبي قام أولئك بالبناء عليه، فجعلوا حول قبره مسجداً، واتخذوا ذلك المكان للتعبد وللصلاة فيه، هذه هي الصورة الثالثة، وهي أيضاً موافقة لقول الشيخ رحمه الله: عند قبر رجل صالح، وهذا يبين لك بعض المناسبة في إيراد هذا الحديث تحت الباب.
قالت
عائشة: (يُحذِّر ما صنعوا) يعني: ما سبب اللعن، لماذا لعن النبي -عليه الصلاة والسلام- اليهود والنصارى في ذلك المقام العظيم؟
وهو أنه في سكرات الموت، السبب: أنه يريد أن يُحذر الصحابة من ذلك، قالت: (يُحذر ما صنعوا) وقد قبل الصحابة -رضوان الله عنهم- تحذيره، وعملوا بوصيته، قالت: (و لولا ذلك أُبْرِزَ قبره) (أبرز قبره): يعني أُظهر وجُعل قبره مع سائر القبور في البقيع أو نحو ذلك، ولكن كان من العلل التي جعلتهم لا ينقلونه -عليه الصلاة والسلام-من مكانه الذي يتوفى فيه: قوله هنا عليه الصلاة والسلام: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
قالت: (يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره)
فهذه أحد علتين.
والعلة الثانية:
قول أبي بكر رضي الله عنه: إنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الأنبياء يقبرون حيث يُقبضون)) قالت: (غير أنه خَشي) أو خُشي، تروى بالوجهين (غير أنه خشي) يعني: عليه الصلاة والسلام (أن يُتَّخذ مسجداً) يعني: أن يُتَّخذ قبره مسجداً، ويجوز أن تقرأها: غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً، يعني: خشي الصحابة أن يتخذ قبره مسجداً، وهذا تنبيه على إحدى العلتين.
الصحابة -رضوان الله عليهم- قبلوا هذه الوصية، وجعلوا دفنه عليه الصلاة والسلام في مكانه، وحجرة
عائشة التي دفن فيها عليه الصلاة والسلام:كانت عائشة تقيم أو أقامت جداراً بينها وبين القبور، فكانت غرفة عائشة فيها قسمان:


1- قسم فيه القبر.
2- وقسم هي فيه.

كذلك لما توفى

أبو بكر -رضي الله عنه- ودفن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جهة الشمال: كانت أيضاً في ذلك المقام، في جزء من الغرفة، من الحجرة؛ ثم بعد ذلك لما دُفن عمر تركت الحجرة رضي الله عنها؛ ثم أُغلقت الحجرة، فلم يكن ثم باب فيها يدخل، وإنما كان فيها نافذة صغيرة، وكانت الحجرة كما تعلمون من بناءٍ ليس من حجر ولا من بناء مجصص، وإنما كانت من البناء الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام، من خشب ونحو ذلك.
ثم بعد ذلك لما جاءت الزيادة في المسجد النبوي، في عهد
الوليد بن عبد الملك -وكان أمير المدينة يوم ذاك عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ وأخذوا شيئاً من حُجر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام: بقيت حجرة النبي عليه الصلاة والسلام كذلك، فأخذوا من الروضة؛ روضة المسجد، أخذوا منها شيئاً، وجعلوا عليه بناءً، فبنوه من ثلاث جهات - جدار آخر غير الجدار الأول - بنوه من ثلاث جهات، وجعلوا الجهة التي تكون شمالاً، يعني: جهة الشمال، جعلوها مسنَّمة، جعلوها مُثلثة قائمة هكذا، وصار عندنا الآن جداران، الجدار الأول مغلق تماماً، وهو جدار حجرة عائشة.
والجدار الثاني الذي عُمل في زمن
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه- في زمن الوليد بن عبد الملك، جعلوا جهة الشمال وهي عكس القبلة، جعلوها مسنمة لأنه في تلك الجهة جاءت التوسعة، وسَّعوها من جهة الشمال، فخشوا أن يكون ذلك الجدار مربعاً، يعني: مُسامتاً للمُستقبل، فيكون إذا استقبله أحد استقبالاً للقبر، فجعلوه مُثلثاً يبعد كثيراً عن الجدار الأول، وهو جدار حجرة عائشة؛ لأجل أن لا يُمكن أحد أن يستقبله لبعد المسافة، ولأجل أن الجدار صار مُثلثاً، ثم بعد ذلك بأزمان، جاء جدار ثالث أيضاً، وبني حول ذَيْنِك الجدارين، وهو الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله تعالى: في النونية، في وصف دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام- في قوله: - ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد)).
قال: -


فـأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بـثـلاثــةالـجُدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عــزةٍ
وحــمــايـةٍ وصيـان


فالنبي -عليه الصلاة والسلام- صار قبره في ثلاثة جدران، وكل جدار ليس فيه باب، ولا يمكن لأحد حتى في زمن الصحابة يعني: في زمن المتأخرين منهم- في عهد

الوليد وما قبله- لا يمكن أن يدخل ويقف على القبر بنفسه؛ لأنه صار ثم جداران وكل جدار ليس له باب؛ ثم بعد ذلك وضع الجدار الثالث، وهذا الجدار أيضاً كبير مرتفع إلى فوق، وُضعت عليه القبة فيما بعد، وهذا الجدار أيضاً ليس له باب؛ فلا يستطيع الآن أحد أن يدخل إلى القبر أو أن يصل القبر، أو أن يتمسح بالقبر، أو أن يرى قبر النبي عليه الصلاة والسلام.


ثم بعد ذلك وضع السور الحديدي هذا،

وهذا السور الحديدي: بينه وبين الجدار الثالث الذي ذكرت لكم، بينه نحو متر ونصف في بعض المناطق، ونحو متر في بعضها، وبعضها نحو متر وثمانين إلى مترين، في بعضها يضيق ويزداد، لكن من مَشَى فإنه يمشي بين ذلك الجدار الحديدي وبين الجدار الثالث، فقبر النبَّي -عليه الصلاة والسلام- عمل المسلمون بوصيته عليه الصلاة والسلام، وأُبعد تماماً فلا يمكن أن يصل أحد إلى القبر، ولا يمكن أيضاً أن يتخذ ذلك القبر مسجداً.


ولهذا لما جاء الخُرافيون في الدولة العثمانية جعلوا التوسعة التي هي من جهة الشرق،

جعلوا فيها ممراً لكي يمكن من يريد أن يطوف بالقبر، أو أن يُصليَ في تلك الجهة، ذلك الممر الشرقي الذي هو قدر مترين أو نحو ذلك، أو يزيد قليلاً، ذلك الممر الشرقي في عهد الدولة السعودية الأولى وما بعدها: مُنع من الصلاة فيه، فكأنه أُخرج من كونه مسجداً، لأنه إذا كان من مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يجوز أن يمنعوا أحداً من الصلاة فيه، فلما منعوا أحداً أن يُصلي فيه جعلوا له حكم المقبرة؛ ولم يجعلوا له حكم المسجد، فلا يمكن لأحد أن يصلي فيه بل يغلقونه وقت الصلاة.
أما وقت السلام، أو وقت الزيارة فإنهم يفتحونه للمرور، فإذاً: تبين بذلك أن قبر النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يُتخذ مسجداً، وإنما دخلت الغرف بالتوسعة في عهد التابعين في المسجد، ولكن جهتها الشرقية خارجة عن المسجد، فصارت كالشيء الذي دخل في المسجد، ولكن حيطان متعددة تمنع أن يكون القبر في داخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيه أربع جدارات تفصل بين المسجد وبين قبر النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: مكان الدفن.


وأعظم من ذلك مما يدل على أَخْذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم بوصية النبي عليه الصلاة والسلام

هذه، وسدّ الطرق المُوصلة إلى الشرك به عليه الصلاة والسلام، وباتخاذ قبره مسجدا: أنهم أخذوا من الروضة الشريفة، أخذوا من الروضة التي هي روضة من رياض الجنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)) أخذوا منها قدْر ثلاثة أمتار لكي يقوم الجدار الثاني؛ ثم يقوم الجدار الثالث؛ ثم يقوم السور الحديدي، وأكثر من ثلاثة أمتار، فهذا من أعظم التطبيق، وهو أنهم أخذوا من الروضة وأجازوا أن يأخذوا من المسجد لأجل أن يُحمى قبر النبي -عليه الصلاة والسلام- من أن يتخذ مسجداً، وهذا ولاشك من أعظم الفقه فيمن فعل ذلك، ومن رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة، ومن إجابة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سيأتي بعد هذا الباب: - ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد)).


إذاً:

فقوله عليه الصلاة والسلام: - ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذّر ما صنعوا، فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يُتخذ قبره مسجداً، واليوم الموجود قد يكون صورته عند غير المتأمل، وغير الفقيه صورته صورة قبر في داخل مسجد، وفي الحقيقة ليست صورته وليست حقيقته أنه قبر في داخل مسجد؛ لوجود الجدران المختلفة التي تفصل بين المسجد وبين القبر، ولأن الجهة الشرقية منه ليست من المسجد، ولهذا لما جاءت التوسعة الأخيرة كان مبتدؤها من جهة الشمال بعد نهاية الحجرة بكثير حتى لا تكون الحجرة في وسط المسجد، من جهة أنه يكون ثم توسعة من جهة الشرق، وثم الروضة من جهة الغرب، فتكون وسط المسجد، فيكون ذلك من اتخاذ قبره مسجداً عليه الصلاة والسلام.
المقصود من هذا البيان المهم الذي ينبغي أن تعيَه جيداً: أن قبر النبي -عليه الصلاة والسلام- ما اتُّخذ مسجداً، ولكن وصيته -عليه الصلاة والسلام- في التحذير قد أُخذ بها في مسجده وفي قبره، ولكن خالفتها الأمة في قبور الصالحين من هذه الأمة فاتخذوا قبور بعض آل البيت مساجد؛ وعظموها كما تُعظم الأوثان.


سبب ذلك: أن الخُلّة هي أعظم درجات المحبة،

وهي التي تتخلّل الروح، وتتخلل القلب وشغاف الصدر، بحيث لا يكون ثَمَّ مكان لغير ذلك الخليل؛ لهذا النبي -عليه الصلاة والسلام- ليس له من أصحابه خليل، قال: ((ولو كنت مُتخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً)).


وجه الشاهد من هذا الحديث:

قوله بعد ذلك: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك؛ ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) وهذا جاء في رواية أخرى أيضاً: ((كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)).


وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة،

وهذا وسيلة من وسائل الشرك.


مناسبته للباب:

ظاهرة من أن تحريم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد،

مع أنه قد يكون العابد لا يعبد إلا الله؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك الأكبر، والوسائل تُفضي إلى ما بعدها، وقد تقرر في القواعد الشرعية وأجمع عليها المحققون: (أن سد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وإلى المحرمات: واجبة) فإن الذريعة التي توصل إلى المحرّم يجب سدُّها؛ لأن الشريعة جاءت بسدّ الأصول، وسد الذرائع بسدّ أصول المحرمات، وسد الذرائع إليها؛ فيجب أن يُغلق كل باب من أبواب الشرك بالله، ومن ذلك اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.


ولهذا لا تصح الصلاة في مسجد بنُي على قبر،

المسجد الذي يُبنى على قبر: فإنه لا تصح الصلاة فيه؛ لأن ذلك مُنافٍ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى وهم فعلوا، والنهي توجَّه إلى بقعة الصلاة فبطلت الصلاة، فالذي يُصلي في مسجد أُقيم على قبر: صلاته باطلة لا تصح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)) يعني: بالبناء عليها، وبالصلاة حولها ((فإني أنهاكم عن ذلك)).
قال: (فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبنَ مسجد، وهو معنى قولها:- خُشي أن يُتخذ مسجداً) يعني: الصلاة عند القبور لا تجوز سواءٌ صلى إليها أو صلّى عندها، رجاء بركة ذلك المكان، أو لم يرجُ بركة ذلك المكان، وإنما صلى صلاة نافلة - غير صلاة الجنازة - عندها، كل هذا لا يجوز، سواءٌ كان ثَمَّ بناء على القبر كمسجد، أو كان قبراً أو قبرين في غير بناءٍ عليهما، فإن الصلاة لا تجوز، ولهذا جاء في
(الصحيح) أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً)).
وفي
(البخاري) أيضاً مُعلَّقاً من كلام عمر رضي الله عنه: (أنه رأى أنساً يُصلي عند قبرٍ، فقال له: (القبرَ القبرَ)) يعني: احذر القبر، احذر القبر، وهذا يدل على أن الصلاة عند القبور لا تجوز؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك.


وأعظم: إذا كان ثَم بنيان واتخاذ لما حول القبر من الأبنية مسجداً للصلاة والدعاء والقراءة ونحو ذلك.
قال:(وهو معنى قولها: خُشي أن يُتخذ مسجداً، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قُصدت الصلاة فيه فقد اتُّخذ مسجداً، بل كل موضع يُصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم:

((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)))


وهذا ظاهر.
قال: [ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعاً: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد)) ورواه أبو حاتم، يعني: ابن حبان في (صحيحه)].


وجه الشاهد من هذا الحديث:

أنه قال:((والذين يتخذون القبور مساجد)) يعني: أنهم من شرار الناس، فالذين يتخذون القبور مساجد من شرار الناس؛ وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد -كما ذكرنا- وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا.
وقوله:
((والذين يتخذون القبور مساجد)) هذا يعُم كلَّ متخذٍ القبر مسجداً، سواءٌ اتخذه بالصلاة عليه، أو بالصلاة إليه، أو بالصلاة عنده؛ فذلك القصد للصلاة عند القبر يجعل مَنْ قصد في شرار الناس الذين وصفهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك.


ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة،

فإنه ذكر أن من شرار الناس: الذين يتخذون القبور مساجد، والقصد من اتخاذ القبر مسجداً: أن يعبد الله عند قبر ذلك الرجل الصالح، فكيف حال الذي توجه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بالعبادة؟


القبر لا يُخلَص إليه، والاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ وتأليه النبي عليه الصلاة والسلام:

هذا قد يقع بحسب الاعتقادات، وبحسب المناداة، كما حصل من الجاهليين: (مناداة الملائكة، واتخاذ الملائكة آلهة مع الله جل جلاله، كذلك اتخاذ الأولياء معبودين) هل هؤلاء من خيار الناس عند الله؟
بل هم أشر من الذين وصفهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله:
((من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) فإن الذي اتخذ القبر مسجداً ملعون بلعنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولو كان لم يعبد إلا الله جل وعلا، فكيف حال الذي عبد صاحب ذلك القبر؟
نسأل الله -جل وعلا- العافية والسلامة من كل وسائل الشرك.
تأمل هذا مع ما فشا في بلاد المسلمين؛ من البناء على القبور، والقباب عليها؛ ومن بناء المشاهد، وتعظيم ذلك، وتوجيه الناس إليها؛ وذكر الحكايات الطويلة في مناقب أولئك الأولياء، وفي إجابتهم للدعوات، وإغاثتهم للهفات ونحو ذلك: يتبين لك غُربة الإسلام أشد غربة في هذه الأزمنة وما قبلها، كيف إذا قالوا: إن ذلك جائز، وذلك توحيد؟
بل كيف إذا اتهموا من نهاهم عن ذلك بعدم المعرفة وعدم الفهم، وهو يدعوهم إلى الله جل وعلا؟
وهم يدعونه إلى النار، نسْأل الله السلامة والعافية.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

27 Oct 2008

العناصر


الحكمة في إخراج المصنف التحذير من الافتتان بالقبور في أبواب مختلفة


مقدمة في بيان أن هذا الباب (ما جاء في التغليظ...) وما بعده لبيان وسائل الشرك


شرح قول المصنف: (باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ..) إلخ

- بيان حكم من عبد الله عند قبر رجل صالح


شرح حديث أم سلمة رضي الله عنها

- ترجمة أم سلمة رضي الله عنها

- متى كان ذكر أم سلمة هذه الكنيسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
- بيان معنى الكنيسة
- أوجه ضبط كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة (أولئك)
- معنى قوله: (إذا مات فيهم الرجل الصالح...) الحديث
- تعريف العبد الصالح


أنواع ما يفعل عند قبور الصالحين من حيث المشروعية


بيان أقسام عبادة القبوريين


بيان حكم من لم يكفِّر من دعا أهل القبور حتى يعتقد فيهم الاستقلال بالنفع ودفع الضر

- معنى قوله: (وصوروا فيه تلك الصور)

- المراد بالصور
- السبب في تصوير اليهود والنصارى تلك الصور، وكونهم شرار الخلق
- ذكر فتنتين أضلت أكثر الخلق


شرح حديث عائشة رضي الله عنها

- معنى قوله: (لما نُزل برسول الله طفق يطرح خميصة..) الحديث

- بيان معنى اللعن
- بيان أن من بنى القباب على القبور فهو ملعون
- السبب في نهي الشارع عن اتخاذ القبور مساجد
- بيان صور اتخاذ القبور مساجد
- من القائل (يحذِّر ما صنعوا)، وبيان ما يستفاد منه
- معنى قول عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبره)
- معنى قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، وما يستفاد منه


الجواب عن إشكال حول وقوع قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد

- بيان العلة من عدم إبراز قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

- بيان وضع قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت عائشة
- بيان وضع قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زمن عبد الملك بن مروان
- بيان وضع قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوقت الحالي


شرح مسائل الباب.


شرح حديث جندب بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

- ترجمة جندب رضي الله عنه

- معنى قوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل)
- السبب في امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ خليل من الصحابة
- الفرق بين الخلة والمحبة، وحكم قول: (إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله)
- حكم ذكر الإنسان ما فيه من الفضل
- ما يستفاد من قوله: (لاتخذت أبا بكر خليلاً)
- ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه


فوائد من حديث جندب رضي الله عنه

- الأوجه الجائزة في معنى اتخاذ القبور مساجد

- بيان حكم الصلاة في مسجدٍ بني على قبر
- حكم الصلاة عند القبور وإليها وإن لم يبن مسجد
- بيان المقصود بالمسجد
- بيان أن النهي عن الصلاة في القبور لأجل خوف الشرك لا للنجاسة، وذكر من صرح بذلك من العلماء
- الرد على من زعم أن النهي عن الصلاة في المقبرة لأجل نجاستها، ومن خص النهي بالمقبرة
- هل يقاس على الصلاة عند القبر غيرها من العبادات
- ذكر كلام العلماء في حكم البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها
- بعض المفاسد التي وقعت بسبب البناء على القبور
- السبب في دفن الصحابة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيته


شرح حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

- معنى قوله: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء)

- في قوله: (إن من شرار الناس) دليلٌ على تفاضل الأعمال
- مسألة: اشتراط النية هل هو لجميع الأعمال أو لا؟
- الجمع بين هذا الحديث، وحديث (لا تزال طائفة من أمتي..)
- بيان معنى قوله: (الذين يتخذون القبور مساجد)
- معنى قوله: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون..) الحديث


خلاصة الباب


شرح مسائل الباب

- بيان مذهب الرافضة والجهمية .