الدروس
course cover
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
26 Oct 2008
26 Oct 2008

4969

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الخامس

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

4969

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وَتَرْكِهِمْ دِينَهُمْ هُوَ الْغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ

وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحقَّ إنما المَسِيحُ عِيسى ابنُ مَرْيمَ رَسُولُ اللهِ وكَلِمَتُهُ ألْقَاها إِلَى مَرْيمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}[النِّسَاء:171].
فِي
(الصَّحِيحِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نُوح:23].
قَالَ:
(هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِي الْعِلْمُ عُبِدَتْ).
وَقَالَ
ابْنُ الْقَيِّمِ: (قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ).
وَعَنْ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ)).
ولِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). قَالَهَا ثَلاَثًا.


فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

أَنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا الْبَابَ وَبَابَيْنِ بَعْدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ غُرْبَةُ الإِسْلاَمِ،

وَرَأَى مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَتَقْلِيبِهِ لِلْقُلُوبِ الْعَجَبَ.


الثَّانِيَةُ:

مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شِرْكٍ حَدَثَ فِي الأَرْضِ أَنَّهُ بِشُبْهَةِ الصَّالِحِينَ.


الثَّالِثَةُ:

مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شَيْءٍ غُيِّرَ بِهِ دِينُ الأَنْبِيَاءِ،

وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ، مَعَ مَعْرِفَةِ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُمْ.


الرَّابِعَةُ:

قَبُولُ الْبِدَعِ مَعَ كَوْنِ الشَّرَائِعِ وَالْفِطَرِ تَرُدُّهَا

.

الْخَامِسَةُ:

أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَزْجُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ

.

فَالأَوَّلُ:

مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ.


وَالثَّانِي:

فِعْلُ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ شَيْئًا أَرَادُوا بِهِ خَيْرًا

فَظَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غَيْرَهُ.


السَّادِسَةُ:

تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ نُوحٍ

.

السَّابِعَةُ:

جِبِلَّةُ الآدَمِيِّ فِي كَوْنِ الْحَقِّ يَنْقُصُ فِي قَلْبِهِ

وَالْبَاطِلِ يَزِيدُ.


الثَّامِنَةُ:

فِيهِ شَاهِدٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ

أَنَّ الْبِدَعَ سَبَبُ الْكُفْرِ.


التَّاسِعَةُ:

مَعْرِفَةُ الشَّيْطَانِ بِمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ الْبِدْعَةُ

وَلَوْ حَسُنَ قَصْدُ الْفَاعِلِ.


الْعَاشِرَةُ:

مَعْرِفَةُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَهِيَ النَّهْيُ عَنِ الْغُلُوِّ

وَمَعْرِفَةُ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ.


الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

مَضَرَّةُ الْعُكُوفِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لأَِجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ.


الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:

مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَاثِيلِ

وَالْحِكْمَةِ فِي إِزَالَتِهَا.


الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

مَعْرِفَةُ عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا

مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهَا.


الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

وَهِيَ - أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ -

قِرَاءتُهُمْ إِيَّاهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِمَعْنَى الْكَلاَمِ، وَكَوْنُ اللهِ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ فِعْلَ قَوْمِ نُوحٍ هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ فَهُوَ الْكُفْرُ الْمُبِيحُ لِلدَّمِ وَالْمَالِ.


الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:

التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ.


السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:

ظَنُّهُمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ صَوَّرُوا

الصُّوَرَ أَرَادُوا ذَلِكَ.


السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

الْبَيَانُ الْعَظِيمُ

فِي قَوْلِهِ: ((لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ))فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ بَلَّغَ الْبَلاَغَ الْمُبِينَ.


الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:

نَصِيحَتُهُ إِيَّانَا بِهَلاَكِ الْمُتَنَطِّعِينَ.


التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:

التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا لَمْ تُعْبَدْ

حَتَّى نُسِيَ الْعِلْمُ، فَفِيهَا بَيَانُ مَعْرِفَةِ قَدْرِ وُجُودِهِ وَمَضَرَّةِ فَقْدِهِ.


الْعِشْرُونَ:

أَنَّ سَبَبَ فَقْدِ الْعِلْمِ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ.

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)

أمَّا (تَرْكِهِم) فهو مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى المُضَافِ إليهِ، ولَمَّا ذَكَرَ

المُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- بَعْضَ ما يَفْعَلُهُ عُبَّادُ القُبُورِ مَعَ الأَمْوَاتِ مِن الشِّرْكِ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ السَّبَبَ في ذَلِكَ ليُحْذَرَ، وهو الغُلُوُّ مُطْلقًا لاَ سِيَّما في الصَّالِحِينَ، فإنَّهُ أَصْلُ الشِّرْكِ قَدِيمًا وحَدِيثًا لقُرْبِ الشِّرْكِ بالصَّالِحِينَ مِن النُّفُوسِ فإنَّ الشَّيْطانَ يُظْهِرُهُ في قَالَبِ المَحَبَّةِ والتَّعْظِيمِ.
وقولُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}[المائدة:77].
قالَ العُلَمَاءُ:
الغُلُوُّ هو مُجَاوَزةُ الحَدِّ في مَدْحِ الشَّيْءِ أو ذَمِّهِ.


وضَابِطُهُ:

تَعَدِّي مَا أَمَرَ اللهُ بهِ، وهو الطُّغْيانُ الَّذي نَهَى اللهُ عنه

في قولِهِ: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}[طه:81].


وكَذَا:

قَالَ تعالى في هذِهِ الآيَةِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أي: لاَ تَتَعَدَّوْا مَا حَدَّدَ اللهُ لَكُم.
وَأَهْلُ الكِتَابِ هنا هُمُ اليَهُودُ والنَّصارَى، فنَهَاهُم عن الغُلُوِّ في الدِّينِ، ونَحْنُ كذلِكَ، كمَا قالَ تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[هود:113].


والغُلُوُّ كَثِيرٌ في النَّصَارَى،

فإنَّهُم غَلَوْا في عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَنَقَلُوهُ مِن حَيِّزِ النُّبُوَّةِ إلى أن اتَّخَذُوه إِلَهًا مِن دونِ اللهِ يَعْبُدُونَهُ كَمَا يَعْبُدُونَ اللهَ، بل غَلَوْا فيمَن زَعَمَ أنَّهُ عَلَى دِينِهِ مِن أَتْبَاعِهِ، فادَّعَوْا فيهم العِصْمَةَ، فاتَّبعُوهُم في كُلِّ ما قَالُوه، سَوَاءً كَانَ حَقًّا أو بَاطِلاً، ونَاقَضَتْهُم اليَهُودُ في أَمْرِ عِيسَى -عليهِ السَّلاَمُ- فَغَلَوْا فيه فَحَطُّوهُ مِن مَنْزِلَتِهِ حتَّى جَعَلُوهُ وَلَدَ بَغِيٍّ.
قالَ
شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (وَمَن تَشَبَّهَ مِن هذه الأُمَّةِ باليهودِ والنَّصارَى وَغَلاَ في الدِّينِ بإِفْرَاطٍ فيه أَو تَفْرِيطٍ وضَاهَاهُم في ذلك فقدْ شابَهَهُم، كالخَوَارِجِ المَارِقِينَ مِن الإِسلاَمِ الَّذينَ خَرَجُوا في خِلاَفَةِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقَاتَلَهُم حِينَ خَرَجُوا عَلَى المُسْلِمِينَ بأَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِن عَشْرَةِ أَوْجُهٍ في (الصِّحَاحِ) و(المَسَانِيدِ) وغيرِ ذلك، وكذلِكَ مَنْ غلاَ في دينِهِ مِن الرَّافِضَةِ والقَدَرِيَّةِ والجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والأَشَاعِرَةِ).
وَقَالَ أيضًا:
فَإِذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَقَدْ مَرَقَ منه مَعَ عِبَادَتِهِ العَظِيمَةِ.


فلْيُعْلَمْ أنَّ المُنْتَسِبَ إلى الإسلاَمِ والسُّنَّةِ في هذه الأَزْمَانِ قَدْ يَمْرُقُ أيضًا مِن الإِسْلاَمِ وذَلِكَ بِأَسْبَابٍ:

منها:

الغُلُوُّ الَّذي ذَمَّهُ اللهُ في كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}[المائدة:77]، وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَرَّقَ الغَالِيَةَ مِن الرَّافِضَةِ، فأَمَرَ بأَخَادِيدَ خُدَّتْ لَهُم عندَ بابِ كِنْدةَ، فَقَذَفَهُم فيها، واتَّفَقَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- عَلَى قَتْلِهِم، ولكِنَّ ابنَ عبَّاسٍ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ يُقْتَلُوا بالسَّيْفِ مِن غَيْرِ تَحْرِيقٍ، وهو قَوْلُ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ.


(2)

قولُهُ: (في (الصَّحيحِ)) أي: (صَحِيحِ البُخَارِيِّ) وهَذَا الأَثَرُ اخْتَصَرَهُ المُصَنِّفُ، وَقَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ، عن ابنِ عبَّاسٍ، ولَفْظُهُ: وَصَارَتِ الأَوْثَانُ التي كَانَتْ في قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ بعدُ.
- أَمَّا
وَدٌّ فَكَانَتْ لكَلْبٍ بدَوْمَةِ الجَنْدَلِ.

-

وأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَت لهُذَيلٍ.

-

وأَمَّا يَغُوثُ فكَانَتْ لمُرَادٍ، ثُمَّ لبَنِي غطيفٍ بالجرفِ عندَ سبأٍ.

-

وأمَّا يَعُوقُ فكَانَت لهَمَدَانَ.

-

وأمَّا نَسْرٌ فكَانَت لحِمْيَرَ لآلِ ذِي الكَلاَعِ، أَسْماءُ رجالٍ صَالِحِينَ في قَوْمِ نُوحٍ إلى آخِرِهِ.
وهكذا رُوِيَ عن
عِكْرِمَةَ، والضَّحَّاكِ، وابنِ إِسْحَاقَ نحوُ هذا.
وقَالَ
ابنُ جَرِيرٍ: (حَدَّثَناابنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنامِهْرَانُ، عنسُفْيَانَ، عنمُوسَى، عن مُحَمَّدِ بنِ قَيْسٍ، أَنَّيَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًاكانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ مِن بَنِي آدَمَ، وكَانَ لهُم أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِم، فلَمَّا ماتُوا قالَ أَصْحَابُهُم الَّذِينَ كانُوا يَقْتَدُونَ بهِم: لو صَوَّرْنَاهُم كَانُوا أَشْوَقَ لَنَا إلى العِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُم، فَصَوَّرُوهُم، فلَمَّا مَاتُوا وجَاءَ آخَرُونَ، دَبَّ إليهم إِبْلِيسُ، فَقَالَ: إنَّما كَانُوا يَعْبُدُونَهُم وبهم يُسقَوْنَ المَطَرَ، فعَبَدُوهُم).


قالَ سُفْيانُ عن أَبِيهِ عن عِكْرِمَةَ قالَ: (كَانَ بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كلُّهُم عَلَى الإِسْلاَمِ)، ورَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُم كانُوا أولاَدَ آدَمَ لصُلْبِهِ، وكانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُم وأَبَرَّهُم بهِ، هكذا رَوَاهُ عُمَرُ بنُ شبَّةَ في (أَخْبارِ مكَّةَ) مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ).
وذَكَرَ
السُّهَيْلِيُّ في (التَّعْرِيفِ): (أَنَّ يَغُوثَ ابْنُ شِيثَ بنِ آدَمَ فيما قِيلَ، وَكَذَا سُوَاعٌ وما بَعْدَهُ.
فكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بدُعَائِهِم، وكُلَّمَا مَاتَ منهم أَحَدٌ مَثَّلُوا صُورَتَهُ وتَمَسَّحُوا بِهَا إلى زَمَنِ مهلاَييلَ، فعَبَدُوهَا بتَدْرِيجِ الشَّيْطَانِ لهُم، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً في العَرَبِ في الجَاهِلِيَّةِ.
ولاَ أَدْرِي مِن أَيْنَ سَرَتْ تِلْكَ الأَسْمَاءُ، أَمِنْ قِبَلِ الهِنْدِ؟!
فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُم كَانُوا المَبْدَأَ في عِبَادَةِ الأَصْنَامِ بَعْدَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، أم الشَّيْطَانُ أَلْهَمَ العَرَبَ ذلك)
انتهَى.
وقد رَوَى
الفَاكِهِيُّ، عن ابنِ الكَلْبِيِّ قالَ: (كَانَ لعمرِو بنِ رَبِيعَةَ رِئْيٌ مِن الجِنِّ فأَتَاهُ فَقَالَ: أَجِبْ أَبَا ثُمَامَةَ وادْخُلْ بِلاَ مَلاَمَةٍ، ثُمَّ ائْتِ سِيْفَ جُدَّةَ، تَجِدْ بِهَا أَصْنَامًا مُعَدَّةً، ثُمَّ أَوْرِدْهَا تِهَامَةَ ولاَ تَهَبْ، ثُمَّ ادْعُ العَرَبَ إلى عِبَادَتِهَا تُجَبْ).
قَالَ:
(فَأَتَى عمرٌو ساحِلَ جُدَّةَ فَوَجَدَ بهَا وَدًّا، وسُوَاعًا، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرًا، وهي الأَصْنامُ التي عُبِدَتْ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ وإِدْرِيسَ، ثُمَّ إنَّ الطُّوفَانَ طَرَحَهَا هناك فَسَفَى عليها الرَّمْلُ، فاسْتَثَارَهَا عمرٌو وَخَرَجَ بهَا إلى تِهَامَةَ، وحَضَرَ المَوسِمَ ودَعَا إلى عِبَادَتِهَا فأُجِيبَ).
و
عمرُو بنُ رَبِيعَةَ: هو عَمْرُو بنُ لُحيٍّ، قالَهُ الحافظُ.
قلْتُ: وهو سَيِّدُ
خُزَاعَةَ، وكَانَ أوَّلَ مَن سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وغيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. وَكَانَتِ العَرَبُ قبلَهُ عَلَى دينِ أَبِيهِم إِبْرَاهيمَ عليهِ السَّلاَمُ، حتَّى نَشَأَ فيهم عَمْرٌو فَأَحْدَثَ الشِّرْكَ، كَمَا رَوَى ابنُ جَرِيرٍ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لأَِكْثَمَ بنِ الجونِ: ((يَا أَكْثَمُ، رَأَيْتُ عَمْرَو بنَ لُحَيِّ بنِ قَمَعَةَ بنِ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بهِ وَلاَ بهِ مِنْكَ)) فَقَالَ أَكْثَمُ: أَتَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّكَ مُؤْمِنٌ، وَهُوَ كَافِرٌ، إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَبَحَّرَ البَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَحَمَى الحَامِيَ))
إسنادُهُ حَسَنٌ.
وفي
(الصَّحِيحَيْنِ) مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((رَأَيْتُ عَمْرَو بنَ عَامِرٍ الخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ)).
قولُهُ: (أَنِ انْصِبُوا) بكسرِ الصَّادِ المُهْمَلَةِ.
قولُهُ: (أَنْصَابًا) جَمْعُ نَصْبٍ، وأصْلُهُ ما نُصِبَ كغَرَضٍ ونحوِهِ، والمرادُ بهِ هنا
الأَصْنامُ المُصَوَّرَةُ عَلَى صُوَرِهِم المَنْصُوبَةُ في مَجَالِسِهِم.


قولُهُ: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ) أي: الَّذِينَ نَصَبُوهَا ليَكُونَ أَشْوَقَ لَهُم إلى العِبَادَةِ، وليَتَذَكَّرُوا برُؤْيتِهَا أَفْعَالَ أَصْحَابِهَا.
قولُهُ: (ونُسِيَ العِلْمُ) أي: زَالَت المَعْرِفَةُ بحَالِهَا وما قَصَدَهُ مَنْ صَوَّرَهَا، وغَلَبَ الجُهَّالُ الَّذِينَ لاَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ التَّوحيدِ والشِّرْكِ، وذَهَبَ العُلَمَاءُ الَّذينَ يَعْرِفُونَ ذلك.
قولُهُ: (عُبِدَتْ) تَقَدَّمَ أنَّهُ دَبَّ إليهم

إِبْلِيسُ، فَقَالَ: (إنَّما كَانُوا يَعْبُدُونَهُم، وبهِم يُسْقَوْنَ المَطَرَ، فعَبَدُوهُم).
وفي رِوَايةٍ أنَّهُم قَالُوا: (ما عَظَّمَ أوَّلُنَا هؤلاَء إلاَّ وهم يَرْجُونَ شَفَاعَتَهُم عندَ اللهِ، فعَبَدُوهُم فهَذَا هو السَّبَبُ في عِبَادَةِ هؤلاَءِ الصَّالِحِينَ، وهو رَجَاءُ شَفَاعَتِهِم عندَ اللهِ).


وكذلِكَ:

هو السَّبَبُ في عِبَادَةِ صُورِهِم،

وهذه هي الشُّبْهَةُ التي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى المُشْرِكينَ مِن الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ ذلك في القُرْآنِ بَيَانًا شَافِيًا، وتَقَدَّمَ في هَذَا الكِتَابِ مِن الكلاَمِ عَلَى ذلك مَا يَكْفِي لِمَن هدَاهُ اللهُ.


(3)

قولُهُ: (وقالَ ابنُ القيِّمِ) هو الإِمَامُ العَلاَّمَةُ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي بَكْرِ بنِ أيُّوبَ الزُّرْعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ المَعْرُوفُ بابنِ قيِّمِ الجَوْزِيَّةِ، تِلْمِيذُ شَيْخِ الإِسْلاَمِ، وصَاحِبُ المُصَنَّفاتِ الكَثِيرَةِ في فُنُونِ العِلْمِ.
قَالَ الحَافِظُ
السَّخَاوِيُّ في حَقِّهِ: (العَلاَّمةُ الحُجَّةُ، المُتَقَدِّمُ في سَعَةِ العِلْمِ ومَعْرِفَةِ الخِلاَفِ وقُوَّةِ الجَنَانِ، المُجْمَعُ عليه بينَ الموافِقِ والمخالِفِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ السَّائِرَةِ والمَحَاسِنِ الجَمَّةِ. مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وخَمْسِينَ وسَبْعِمِائَةٍ).
قولُهُ: (قَالَ غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ) إلى آخِرِه.
الظَّاهِرُ أنَّ
ابْنَ القيِّمِ ذَكَرَ ذَلِكَ بالمَعْنَى لاَ باللَّفْظِ، وَقَدْ رُوِيَ عن غَيْرِ واحِدٍ مِن السَّلَفِ مَعْنَى ذَلِكَ؛ مِنْهم أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ وغَيْرُهُ، وَتَقدَّمَ ما يَدُلُّ عَلَى ذلك.
قولُهُ: (ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِم الأَمَدُ فعَبَدُوهُم) أي: طَالَ عَلَيْهِم الزَّمانُ، ونَسُوا ما قَصَدَهُ الأَوَّلُونَ بتَصْوِيرِ صُوَرِهِم، فعَبَدُوهُم، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَبْدَأَ الشِّرْكِ بالصَّالِحِينَ هو الغُلُوُّ فيهم، كمَا أنَّ سبَبَ الشِّرْكِ بالنُّجُومِ هو الغُلُوُّ فيها واعْتِقَادُ النُّحوسِ فيها والسُّعودِ، ونحوُ ذلك.
وهذا هو الغَالِبُ عَلَى الفلاَسِفَةِ ونحوِهِم، كمَا أنَّ ذاك هو الغَالِبُ عَلَى عُبَّادِ القُبُورِ ونحوِهِم، وهو أَصْلُ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، فَإِنَّهُم عَظَّمُوا الأمْوَاتَ تَعْظِيمًا مُبْتَدَعًا، فصَوَّرُوا صُورَهُم، وتَبَرَّكُوا بِها، فآلَ الأَمْرُ إِلَى أَنْ عُبِدَت الصُّورُ ومَن صَوَّرَتْهُ، وهذا أوَّلُ شِرْكٍ حدَثَ في الأرضِ، وهو الَّذي أَوْحاهُ الشَّيطانُ إلى عُبَّادِ القُبُورِ في هذه الأزْمَانِ، فإنَّهُ أَلْقَى إليهم أنَّ البِنَاءَ عَلَى القُبُورِ والعُكُوفَ عليها مِن مَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ وتَعْظِيمِهِم، وأنَّ الدُّعاءَ عندَهَا أَرْجَى في الإِجَابَةِ مِن الدُّعاءِ في المَسْجِدِ الحَرَامِ والمَسَاجِدِ الأُخْرَى، فاعْتَادُوهَا لذلك، فإذا تَقَرَّرَ ذلك عندَهُم نَقَلَهُم منه إلى الدُّعاءِ بهِ والإِقْسَامِ عَلَى اللهِ بهِ.
قالَ
ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وهذا أعْظَمُ مِن الَّذي قبْلَهُ، فإنَّ شَأْنَ اللهِ أعْظَمُ مِن أن يُقْسَمَ عليهِ، أو يُسْأَلَ بأحدٍ مِن خَلْقِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذلك عندَهُم نَقَلَهُمْ منه إلى دُعَائِهِ وعِبَادَتِهِ، وسُؤَالِهِ الشَّفَاعَةَ مِن دونِ اللهِ، واتِّخاذِ قَبْرِهِ وثَنًا يُعْكَفُ عليهِ، وتُعلَّقُ عليه القَنَادِيلُ والسُّتورُ ويُطَافُ بهِ ويُسْتَلَمُ، ويُقَبَّلُ ويُحَجُّ إليهِ، ويُذبَحُ عندَهُ، فإِذَا تَقَرَّرَ ذلك عندَهُم نَقَلَهُم منه إلى دُعَاءِ النَّاسِ إلى عبادتِهِ، واتِّخاذِهِ عِيدًا ومَنْسَكًا، ورَأَوْا أنَّ ذلك أَنْفَعُ لَهُم في دُنْياهُم وأُخْرَاهُمْ، وكلُّ هذا ممَّا قد عُلِمَ بالاضْطِرَارِ مِن دينِ الإسلاَمِ أنَّهُ مُضَادٌّ لِمَا بَعَثَ اللهُ بهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِن تَجْرِيدِ التَّوحيدِ للهِ، وألاَّ يُعْبَدَ إلاَّ اللهُ، فإِذَا تَقَرَّرَ ذلك عندَهُم نَقَلَهُم منه إلى مَن نَهَى عن ذلك فَقَدْ تَنَقَّصَ أَهْلَ الرُّتَبِ العَالِيَةِ، وحَطَّهُم عن مَنْزِلَتِهِم، وزَعَمَ أنَّهُم لاَ حُرْمَةَ لَهُم، ولاَ قَدْرَ، وغَضِبَ المُشْرِكُونَ، واشْمَأَزَّتْ قُلُوبُهُم كمَا قالَ تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الزُّمَر:45].
وسَرَى ذَلِكَ في نُفُوسِ كَثِيرٍ مِن الجُهَّالِ والطَّغامِ، وكثيرٍ ممَّنْ يَنْتَسِبُ إلى العِلْمِ والدِّينِ، حَتَّى عَادَوْا أَهْلَ التَّوحيدِ، ورَمَوْهُم بالعَظَائمِ، ونَفَّرُوا النَّاسَ عنهم، ووالَوْا أهْلَ الشِّرْكِ وعظَّمُوهُم، وزَعَمُوا أنَّهُم أَوْلِياءُ اللهِ وأَنْصارُ دِينِه ورَسُولِه، ويَأْبَى اللهُ ذَلِكَ
{وَمَا كانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}[الأنفال:34])
.


قلْتُ:

وفي القِصَّةِ فَوَائِدُ نَبَّهَ المُصَنِّفُ عَلَى بَعْضِهَا.


منها:

(أنَّ مَن فَهِمَ هذا البَابَ وما بَعْدَهُ تَبَيَّنَ له غُرْبَةُ الإِسْلاَمِ، ورَأَى مِن قُدْرَةِ اللهِ، وتَقْلِيبِهِ القُلُوبَ العَجَبَ).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ أَنَّ أوَّلَ شِرْكٍ حَدَثَ في الأَرْضِ بشبهةِ محبَّةِ الصَّالحينَ).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ أوَّلِ شَيْءٍ غُيِّرَ بهِ دِينُ الأَنْبِيَاءِ).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ سَبَبِ قَبُولِ البِدَعِ مَعَ كَوْنِ الشَّرَائِعِ والفِطَرِ تُنْكِرُهَا).


ومنها:

(أنَّ سَبَبَ ذلك كلِّهِ مزجُ الحَقِّ بالباطلِ)


فالأوَّلُ:

(مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ)


والثَّاني:

(فِعْلُ أُنَاسٍ مِن أَهْلِ العِلْمِ والدِّينِ شَيْئًا أَرَادُوا بهِ خَيْرًا فَظَنَّ مَنْ بعدَهُم أنَّهُم أرادُوا غيرَهُ)


ومنها:

(مَعْرِفَةُ جِبِلَّةِ الإنسانِ في كَوْنِ الحَقِّ يَنْقُصُ في قَلْبِه، والبَاطِلِ يَزِيدُ)


ومنها:

(أنَّ فيها شَاهِدًا لِمَا نُقِلَ عن بعضِ السَّلفِ أنَّ البِدْعَةَ سَبَبٌ للكُفْرِ، وأَنَّهَا أَحَبُّ إلى إِبْلِيسَ مِن المَعْصِيَةِ؛ لأَِنَّ المَعْصِيَةَ يُتَابُ منها، والبِدْعَةَ لاَ يُتَابُ منها)


ومنها:

(معرفةُ الشَّيطانِ بما تَؤُولُ إليه البِدْعَةُ، ولو حَسُنَ قَصْدُ الفاعلِ)


ومنها:

(مَعْرِفَةُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ وهي النَّهْيُ عن الغُلُوِّ، ومَعْرِفَةُ ما يَؤُولُ إليهِ)


ومنها:

(مَضَرَّةُ العُكُوفِ عَلَى قَبْرٍ لأَِجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ)


ومنها:

(مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عن التَّمَاثِيلِ، والحِكْمَةِ في إِزَالَتِهَا)


ومنها:

(مَعْرِفَةُ عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ القِصَّةِ، وشِدَّةِ الحاجةِ إليها مَعَ الغَفْلَةِ عنها)


ومنها:

(وهي أَعْجَبُ العَجَبِ - قِرَاءَتُهُم إيَّاها في كُتُبِ التَّفْسِيرِ والحَدِيثِ، ومَعْرِفتُهُم بمَعْنَى الكَلاَمِ، وكَوْنِ اللهِ حالَ بينَ قُلُوبِهِم، حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ فِعْلَ قومِ نوحٍ هو أَفْضَلُ العِبَادَاتِ، واعْتَقَدُوا أنَّ نَهْيَ اللهِ ورسُولِهِ هو الكُفْرُ المُبِيحُ للدَّمِ والمَالِ)


ومنها:

(التَّصْرِيحُ أنَّهُم لم يُرِيدُوا إلاَّ الشَّفَاعَةَ)


ومنها:

(ظَنُّهُم أَنَّ العُلَمَاءَ الَّذينَ صَوَّرُوا الصُّورَ أَرَادُوا ذلك)


ومنها:

(التَّصْرِيحُ بأنَّهَا لَمْ تُعْبَدْ حَتَّى نُسِيَ العِلْمُ، ففيها مَعْرِفَةُ قدْرِ وجُودِهِ، ومَضَرَّةِ فَقْدِهِ)


ومنها:

(أنَّ سبَبَ فَقْدِ العِلْمِ مَوْتُ العُلَمَاءِ)

انتهَى بمعنَاهُ.


ومنها:

شِدَّةُ حَاجَةِ الخَلْقِ بل ضَرُورتُهُم إلى الرِّسالَةِ، وأنَّ ضَرُورَتَهُم إليها أَشَدُّ وأَعْظَمُ مِن ضَرُورتِهِم إلى الطَّعامِ والشَّرَابِ.


ومنها:

الرَّدُّ عَلَى مَن يُقَدِّمُ الشُّبُهَاتِ التي يُسَمِّيها عَقْلِيَّاتٍ عَلَى مَا جَاءَ مِن عندِ اللهِ؛

لأَِنَّ ذلك الَّذي أَوْقَعَ المُشْرِكينَ في الشِّرْكِ.


ومنها:

مَضَرَّةُ التَّقْلِيدِ وكيف آلَ بأَهْلِهِ إلى المُرُوقِ مِن الإِسْلاَمِ.


(4) قولُهُ (عن عُمَرَ) هو ابنُ الخطَّابِ بنِ نُفَيلٍ -بنونٍ وفاءٍ مُصَغَّرًا- ابنِ عبدِ العُزَّى بنِ رياحٍ -بتَحْتَانِيَّةٍ- ابنِ عبدِ اللهِ بنِ قُرطِ -بضمِّ القاف- ابنِ رزاحِ -براءٍ ثُمَّ زايٍ خفيفةٍ- ابنِ عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ القُرَشِيُّ العَدَوِيُّ، أَميرُ المُؤْمِنِينَ وأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ بعدَ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وَلِيَ الخِلاَفةَ عشرَ سِنينَ ونِصْفًا، فامْتَلأَتِ الدُّنيا عَدْلاً، وفُتِحَت في أيَّامِهِ مَمَالِكُ كِسْرَى وقَيْصَرَ، واسْتُشْهِدَ في ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ ثلاَثٍ وعِشْرِينَ.
قولُهُ:
((لاَ تُطْرُونِي كمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابنَ مَرْيمَ)).


(الإِطْرَاءُ: مُجَاوَزةُ الحَدِّ في المَدْحِ، والكَذِبُ فيه)

قَالَهُ أَبُو السَّعَادَاتِ.
وَقَالَ غيرُهُ:
(((لاَ تُطْرُونِي)) بضمِّ التَّاءِ وسُكُونِ الطَّاءِ المُهْمَلَةِ مِن الإِطْرَاءِ، أي: لاَ تَمْدَحُونِي بالبَاطِلِ، أو لاَ تُجَاوِزُوا الحَدَّ في مَدْحِي).
قولُهُ:
((إنَّما أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ)) أي: لاَ تَمْدَحُوني فتَغْلُوا في مَدْحِي كمَا غَلَتِ النَّصارَى في عِيسَى، فادَّعَوْا فيه الرُّبُوبيَّةَ، وإنَّما أَنَا عَبْدٌ للهِ، فَصِفُوني بذلك كمَا وَصَفَني بِهِ رَبِّي، وقَولُوا: ((عبدُ اللهِ ورَسُولُه)) فَأَبَى عُبَّادُ القُبُورِ إلاَّ مُخَالَفَةً لأَِمْرِهِ، وارْتِكَابًا لنَهْيِهِ، وناقَضُوه أَعْظَمَ المُنَاقَضَةِ، وظَنُّوا أنَّهُم إِذَا وَصَفُوهُ بأنَّهُ عبدُ اللهِ ورَسُولُه، وأنَّهُ لاَ يُدْعَى ولاَ يُسْتَغاثُ بهِ، ولاَ يُنْذَرُ له، ولاَ يُطَافُ بحُجْرَتِهِ، وأنَّهُ ليسَ له مِن الأَمْرِ شَيْءٌ، ولاَ يَعْلَمُ مِن الغَيْبِ إلاَّ ما عَلَّمَهُ اللهُ، أنَّ في ذلك هَضْمًا لجَنَابِهِ، وغَضًّا مِن قَدْرِهِ، فَرَفَعُوه فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ، وادَّعَوا فيه ما ادَّعَتِ النَّصارَى في عيسَى أو قَرِيبًا منه، فَسَألُوهُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ، وتَفْرِيجَ الكُرُوبِ.
وقد ذَكَرَ
شَيْخُ الإِسْلاَمِ في كِتَابِ (الاسْتِغَاثَةِ) عن بَعْضِ أَهْلِ زَمَانِه أنَّهُ جوَّزَ الاسْتِغَاثَةَ بالرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كُلِّ ما يُسْتَغَاثُ فيه باللهِ، وصَنَّفَ فيه مُصَنَّفًا، وكَانَ يَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْلَمُ مَفَاتِيحَ الغَيْبِ التي لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ اللهُ.
وحَكَى عن آخَرَ مِن جِنْسِهِ يُبَاشِرُ التَّدْريسَ، ويُنْسَبُ إلى الفُتْيا أنَّهُ كانَ يقولُ: (إنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَعْلَمُ ما يَعْلَمُهُ اللهُ، ويَقْدِرُ عَلَى ما يَقْدِرُ اللهُ عليهِ، وأَنَّ هذا السِّرَّ انْتَقلَ بعدَهُ إلى الحَسَنِ، ثُمَّ انْتَقلَ في ذُرِّيَّةِ الحَسَنِ إلى أَبِي الحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، وقَالُوا: هذا مَقَامُ القُطْبِ الغَوْثِ الفَرْدِ الجَامِعِ، ومِنْ هؤلاَءِ مَن يَقُولُ في قَوْلِ اللهِ -تعالى-: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}[الأحزاب:42] إنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الَّذي يُسَبَّحُ بُكْرَةً وأَصِيلاً. ومنهم مَن يَقُولُ: نحنُ نَعْبُدُ اللهَ ورسولَه؛ فيَجْعَلُونَ الرَّسُولَ مَعْبُودًا.
قلتُ: وقَالَ
البُوصِيرِيُّ:


فإِنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيا وضَرَّتَها ومـِن عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ والقَلَمِ

فجَعَلَ الدُّنيَا والآخِرَةَ مِن جودِهِ،

وجَزَمَ بأنَّهُ يَعْلَمُ ما في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وهذا هو الَّذي حَكَاهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ عن ذلك المُدَرِّسِ، وكلُّ ذلك كُفْرٌ صَرِيحٌ. ومِن العَجَبِ أَنَّ الشَّيْطانَ أَظْهَرَ لَهُم ذَلِكَ في صُورَةِ مَحَبَّتِهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وتَعْظِيمِهِ ومُتَابَعَتِهِ، وهذا شَأْنُ اللَّعِينِ، لاَبُدَّ وَأَنْ يَمْزِجَ الحَقَّ بالباطِلِ ليُرَوِّجَ عَلَى أَشْبَاهِ الأنْعَامِ أَتْباعِ كُلِّ نَاعِقٍ، الَّذينَ لم يَسْتَضِيئُوا بنُورِ العِلْمِ، ولَمْ يَلْجَؤُوا إلى رُكْنٍ وَثِيقٍ؛ لأَِنَّ هَذَا ليسَ بتَعْظِيمٍ، فإنَّ التَّعْظِيمَ مَحَلُّهُ القَلْبُ واللِّسَانُ والجَوَارِحُ وهم أَبْعَدُ النَّاسِ منهُ، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ بالقَلْبِ ما يَتْبَعُ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ عَبْدًا رَسُولاً، مِن تَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ والوَلَدِ والوَالِدِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ.


ويُصَدِّقُ هذه المَحَبَّةَ أمران:

أحدُهُمَا:

تَجْريدُ التَّوحيدِ،

فإنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ أَحْرَصَ الخَلْقِ عَلَى تَجْرِيدِهِ، حَتَّى قَطَعَ أَسْبَابَ الشِّرْكِ ووَسَائِلَهُ مِن جَمِيعِ الجِهَاتِ، حتَّى قالَ له رجُلٌ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ.
قالَ:
((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)) ونَهَى أَنْ يُحْلَفَ بغيرِ اللهِ، وأَخْبَرَ أنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ.

-

ونَهَى أنْ يُصَلَّى إلى القَبْرِ أو يُتَّخَذَ مَسْجِدًا أو عِيدًا، أو يُوقَدَ عليه سِرَاجٌ، بل مَدَارُ دينِهِ عَلَى هذا الأصلِ الَّذي هو قُطْبُ رَحَا النَّجاةِ، ولَمْ يُقَرِّرْ أَحَدٌ ما قَرَّرَهُ النَّبِيُّ بقولِهِ وفِعْلِهِ، وسَدِّ الذَّرائعِ المُنَافِيَةِ له، فتَعْظِيمُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بموافَقَتِهِ عَلَى ذلك لاَ بمُنَاقَضَتِهِ فيه.


الثَّاني:

تَجْرِيدُ مُتَابَعَتِهِ،

وتَحْكِيمُهُ وحْدَهُ في الدَّقِيقِ والجَلِيلِ مِن أُصُولِ الدِّينِ وفُرُوعِهِ، والرِّضَى بحُكْمِهِ، والاَنْقِيادُ له والتَّسْلِيمُ، والإِعْرَاضُ عَمَّا خَالفَهُ، وعَدَمُ الالْتِفَاتِ إلى ما خَالفَهُ، حتى يكونَ وحدَهُ هو الحاكمَ المتَّبَعَ المَقْبُولَ قولُهُ، المَرْدُودَ ما خَالفَهُ، كمَا كانَ رَبُّه تعالى وحدَهُ هو المَعْبُودَ المَأْلُوهَ المَخُوفَ المَرْجُوَّ المُسْتَغَاثَ بهِ، المتوكَّلَ عليهِ، الَّذي إليه الرَّغْبَةُ والرَّهْبَةُ، الَّذي يُؤَمَّلُ وحدَهُ لكَشْفِ الشَّدَائِدِ ومَغْفِرَةِ الذُّنوبِ، الَّذي مِن جُودِهِ الدُّنيا والآخِرَةُ، الَّذي خَلَقَ الخلْقَ وحْدَهُ، ورزَقَهُم وحدَهُ، ويَبْعَثُهُم وحْدَهُ، ويَغْفِرُ ويَرْحَمُ ويَهْدِي ويُضِلُّ، ويُسْعِدُ ويُشْقِي وحْدَهُ، وليسَ لغيرِهِ مِن الأمرِ شيءٌ كائنًا مَنْ كانَ؛ لاَ للنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولاَ لجبريلَ عليهِ السَّلاَمُ ولاَ غيرِهما.


فهذا هو التَّعْظِيمُ الحَقُّ المُطَابِقُ لحالِ المُعَظَّمِ،

النَّافعُ للمعظِّمِ في مَعَاشِهِ ومَعَادِهِ، والَّذي هو لاَزِمُ إيمانِهِ ومَلْزُومُهُ.
-
وأمَّا التَّعْظِيمُ باللِّسانِ، فهو: الثَّناءُ عليه بما هو أَهْلُهُ، ممَّا أَثْنَى بهِ عَلَيهِ رَبُّهُ وأَثْنَى عَلَى نفْسِهِ مِن غَيْرِ غُلُوٍّ ولاَ تَقْصِيرٍ، كَمَا فَعَلَ عُبَّادُ القُبُورِ، فإنَّهُم غَلَوا في مَدْحِهِ إلى الغايةِ.

-

وأمَّا التَّعْظِيمُ بالجَوَارِحِ، فهو العَمَلُ بطاعتِهِ، والسَّعْيُ في إظْهارِ دينِهِ، ونَصْرِ ما جَاءَ بهِ، وجِهَادِ ما خالَفَهُ.


وبالجُمْلَةِ فالتَّعْظيمُ النَّافِعُ هو التَّصْديقُ فيما أخْبَرَ،

وطاعتُهُ فيما أَمَرَ، والانْتِهاءُ عمَّا عنه نَهَى وزَجَرَ، والمُوالاَةُ والمُعَادَاةُ والحُبُّ والبُغْضُ لأجْلِهِ، وتَحْكِيمُهُ وحْدَهُ، والرِّضَا بحُكْمِهِ، وَأَنْ لاَ يُتَّخَذَ مِن دونهِ طَاغُوتٌ يكونُ التَّحاكُمُ إلى أقوالِهِ فما وافَقَها مِن قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهُ، وما خَالَفَها رَدَّهُ أو تأوَّلَهُ أو أعْرَضَ عنه، واللهُ -سبحانَهُ- يَشْهَدُ وكَفَى بهِ شَهِيدًا وملاَئِكَتُهُ ورُسُلُهُ وأولياؤُه أنَّ عُبَّادَ القُبُورِ وخُصُومَ المُوَحِّدِينَ لَيْسوا كذلِكَ، واللهُ المُسْتعانُ.


(5)

هكذا ثَبَتَ هذا البياضُ في أَصْلِ المُصَنِّفِ، وذَكَرَهُ أيضًا غيرَ مَعْزُوٍّ.
والحديثُ رواهُ الإمامُ
أحمدُ والتِّرْمذيُّ وابنُ ماجَه عن ابنِ عبَّاسٍ، وهذا لَفْظُ ابنِ ماجَه: حدَّثَنا عليُّ بنُ محمَّدٍ، حدَّثَنَا أبو أُسَامَةَ، عن عَوْفٍ، عن زِيادِ بنِ الحُصَيْنِ، عن أَبِي العَالِيَةِ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (قالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدَاةَ العَقَبَةِ وهو عَلَى ناقَتِهِ: ((الْقُطْ لِيَ حَصًى))فلَقَطْتُ له سَبْعَ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الحَذْفِ، فجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ في كَفِّهِ ويَقُولُ:((أَمْثَالَ هَؤلاَءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم الغُلُوُّ فِي الدِّينِ)) وهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وعَوْفٌ هو الأَعْرَابِيُّ، ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
قولُهُ:
((إيَّاكُم والغُلُوَّ …)) إلى آخرِهِ، قالَ شَيْخُ الإسلاَمِ: (هذا عَامٌّ في جَمِيعِ أَنْوَاعِ الغُلُوِّ في الاعْتِقَادَاتِ والأَعْمَالِ، وسَبَبُ هذا اللَّفْظِ العَامِّ رَمْيُ الجِمَارِ وهو دَاخِلٌ فيهِ، مثلَ الرَّمْيِ بالحِجَارَةِ الكِبَارِ، بِنَاءً عَلَى أنَّهُ أَبْلَغُ مِن الصِّغارِ ثُمَّ علَّلَه بما يَقْتَضِي مُجَانَبَةَ هَدْيِهِم، أي: هَدْيِ مَن كانَ قَبْلَنَا؛ إِبْعَادًا عن الوُقُوعِ فيما هَلَكُوا بهِ، وأنَّ المُشارِكَ لهم في بعضِ هديِهِم يُخَافُ عليه مِن الهلاَكِ).


(6)

قولُهُ: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ)) قالَ الخَطَّابيُّ: (المُتَنَطِّعُ: المُتَعَمِّقُ في الشَّيْءِ، المُتَكَلِّفُ البَحْثَ عنه عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الكلاَمِ، الدَّاخلينَ فيما لاَ يَعْنِيهِمْ، الخائِضِينَ فيما لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُم).
وقالَ
أبو السَّعَادَاتِ: (هم المُتَعَمِّقُونَ الغالُونَ في الكلاَمِ، المُتَكَلِّمُونَ بأقْصَى حُلُوقِهِم؛ مَأْخُوذٌ مِن النَّطْعِ وهو الغَارُ الأعْلَى مِن الفَمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في كُلِّ مُتَعَمِّقٍ قَوْلاً وفِعْلاً).
وقالَ غيرُهُ: (هم الغَالُونَ في عِبَادَتِهِم بِحَيْثُ تَخْرُجُ عن قَوَانِينِ الشَّرِيعَةِ، ويَسْتَرْسِلُ مَعَ الشَّيْطَانِ في الوَسْوَسَةِ).


وكلُّ هذه الأَقْوالِ صَحِيحَةٌ،

فإِنَّ المُتَكَلِّفِينَ مِن أَهْلِ الكَلاَمِ مُتَنَطِّعُونَ، والمُتَقَعِّرُونَ في الكَلاَمِ ومَخَارِجِ الحُرُوفِ مُتَنَطِّعُونَ، والغَالُونَ في عِبَادَاتِهِم مُتَنَطِّعُونَ، وبالجُمْلَةِ فالتَّنَطُّعُ: التَّعَمُّقُ في قَوْلٍ أو فِعْلٍ كَمَا قَالَ أَبُو السَّعَادَاتِ.
وَقَالَ
النَّووِيُّ: (فيه كَرَاهَةُ المُتَقَعِّرِ في الكلاَمِ بالتَّشَدُّقِ، وتَكَلُّفِ الفَصَاحَةِ، واسْتِعْمَالِ وَحْشِيِّ اللُّغَةِ ودَقَائِقِ الإِعْرَابِ في مُخَاطَبةِ العَوَامِّ ونَحْوِهِم).
قولُهُ: (قالَها ثلاَثًا) أي: قَالَ هذه الكَلِمَةَ ثلاَثَ مَرَّاتٍ؛ مُبَالَغَةً في التَّحْذِيرِ والتَّعْلِيمِ، فصَلَوَاتُ اللهِ وسلاَمُهُ عَلَى مَن بلَّغَ البلاَغَ المُبِينَ، فَمَا تَرَكَ شَيْئًا يُقَرِّبُ مِن الجنَّةِ ويُبَاعِدُ مِن النَّارِ إلاَّ أَخْبَرَنَا بهِ، وإنَّما ضَلَّ الأَكْثَرُونَ بمُخَالَفَةِ هذه الأحاديثِ وما في مَعْنَاهَا، فغَلَوْا وتَنَطَّعُوا فَهَلَكُوا، ولو اقْتَصَرُوا عَلَى ما جاءَهُم مِن رَبِّهِم عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَسَلِمُوا وسُعِدُوا، قالَ تعالى:
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51].

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ أنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وتَرْكِهِم دِينَهم هوَ الْغُلُوُّ في الصالحينَ).


قولُهُ: (تَرْكِهْم) بالجَرِّ عطفًا على الْمُضافِ إليهِ.
وأَرادَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بَيانَ ما يَؤُولُ إليهِ الغُلُوُّ في الصالحينَ من الشرْكِ باللهِ في الإِلهيَّةِ الذي هوَ أَعظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بهِ، وهوَ يُنافِي التوحيدَ الذي دَلَّتْ عليهِ كَلمةُ الإخلاصِ: شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ.


(2)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}[النساء:171]).


الْغُلُوُّ

هوَ: الإِفراطُ في التعظيمِ بالقولِ والاعتقادِ؛ أيْ: لا تَرفَعُوا المخلوقَ عنْ مَنزِلَتِهِ التي أَنْزَلَهُ اللهُ فتُنْـزِلُوهُ الْمَنـزِلَةَ التي لا تَنبغِي إلاَّ للهِ.
والْخِطابُ -وإنْ كانَ لأهلِ الكتابِ- فإنَّهُ عامٌّ يَتناوَلُ جَميعَ الأُمَّةِ؛ تَحذيرًا لهم أنْ يَفعلوا فِعْلَ النَّصَارَى في
عِيسَى عليهِ السلامُ، واليهودِ في العُزَيْرِ، كما قالَ تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:16].
ولهذا قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ)) ويَأْتِي.
فكُلُّ مَنْ دَعَا نَبِيًّا أوْ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فقَد اتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَضَاهَى النَّصَارَى في شِرْكِهم، وضَاهَى اليهودَ في تَفريطِهم.
فإنَّ النَّصارَى غَلَوْا في
عِيسَى عليهِ السلامُ، واليهودَ عادَوْهُ وسَبُّوهُ وتَنَقَّصُوهُ.


فالنَّصَارَى أَفْرَطُوا؛ واليهودُ فَرَّطُوا.

وقدْ قالَ تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} الآيَةَ [المائدة:75]، ففي هذه الآيَةِ وأمثالِها الرَّدُّ على اليهودِ والنَّصارَى.
قالَ
شَيخُ الإسلامِ: (ومَنْ تَشَبَّهَ منْ هذهِ الأُمَّةِ باليهودِ والنَّصارَى، وغَلاَ في الدِّينِ بإفراطٍ فيهِ أوْ تَفريطٍ؛ فقدْ شَابَهَهُم).
قالَ:
عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرَّقَ الغالِيَةَ من الرافضةِ، فأمَرَ بأخاديدَ خُدَّتْ لهم عندَ بابِ كِنْدَةَ فقَذَفَهم فيها، واتَّفَقَ الصحابةُ على قَتْلِهم).
لكنَّ
ابنَ عَبَّاسٍ مَذْهَبُهُ أن يُقْتَلُوا بالسيفِ منْ غيرِ تَحريقٍ، وهوَ قولُ أَكثَرِ العُلماءِ.


(3)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في (الصحيحِ) عن ابنِ عَبَّاسٍ في قولِ اللهِ تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23]، قالَ: (هذهِ أَسماءُ رِجالٍ صالحينَ مِنْ قَوْمِ نوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيطانُ إلى قَوْمِهِمْ: أَن انصِبُوا إِلى مَجالِسِهم الَّتي كانوا يَجْلِسونَ فيها أَنْصابًا وَسَمُّوها بِأسْمَائِهِم؛ فَفعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتى إِذا هَلَكَ أُولئكَ وَنُسِيَ العِلْمُ عُبِدَتْ).
قولُهُ: (في
(الصحيحِ)) أيْ: (صحيحِ البخاريِّ).
وهذا الأَثَرُ اخْتَصَرَهُ
الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ، ولفْظُ ما في البخاريِّ: عن ابنِ عبَّاسٍ: (صارَت الأوثانُ الَّتي فِي قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ بَعْدُ).
- أمَّا
(وَدٌّ) فكانَتْ لِكَلبٍ بِدُومَةِ الجَنْدَلِ.

-

وأمَّا (سُواعٌ) فَكانَتْ لِهُذَيلٍ.

-

وأمَّا (يَغُوثُ) فَكانَتْ لِمُرادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بالْجُرْفِ عِندَ سَبأٍ.

-

وأمَّا (يَعوقُ) فكانتْ لِهَمْدَانَ.

-

وأمَّا (نَسْرٌ) فكانت لِحِمْيَرَ لآلِ ذي الكَلاعِ.

-

أسماءُ رِجالٍ صَالحينَ في قَوْمِ نُوحٍ... إلى آخِرِهِ.
ورَوَى عِكرمةُ، والضَّحَّاكُ، وابنُ إسحاقَ، نحوُ هذا.
قالَ
ابنُ جَريرٍ: (حَدَّثَنَا ابنُ حُمَيْدٍ، قالَ: حَدَّثَنا مِهرانُ، عنْ سُفيانَ، عنْ موسى، عنْ مُحَمَّدِ بنِ قَيْسٍ: (أنَّ يَغوثَ، ويَعُوقَ، وَنَسْرًا كانوا قَوْمًا صَالحينَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وكانَ لهم أَتباعٌ يَقْتَدونَ بهم.
فلَمَّا ماتُوا قالَ أصحابُهم: لوْ صَوَّرْنَاهُمْ كان أَشْوَقَ لنا إلى العِبادةِ؛ فصَوَّرُوهُمْ، فلَمَّا مَاتُوا وجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إليهم إِبليسُ فقالَ: إنَّما كانُوا يَعْبُدُونَهم، وبهم يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ؛ فعَبَدُوهُمْ
))
.
قولُهُ: (أَن انْصِبُوا) هوَ بِكَسْرِ الصادِ الْمُهْمَلَةِ.
قولُهُ: (أَنْصابًا) جَمْعُ نَصْبٍ، والمرادُ بهِ هنا الأصنامُ الْمُصَوَّرَةُ على صُوَرِ أولئكَ الصالحينَ التي نَصَبُوها في مَجالسِهم، وسَمَّوْها بأسمائِهم، وفي سِياقِ حديثِ
ابنِ عبَّاسٍ ما يَدُلُّ على أنَّ الأصنامَ تُسَمَّى أَوْثانًا.


فاسْمُ الْوَثَنِ:

يَتناوَلُ كلَّ مَعبودٍ منْ دُونِ اللهِ، سواءٌ:

-

كانَ ذلكَ الْمَعبودُ قَبْرًا.

-

أوْ مَشْهَدًا.

-

أوْ صُورةً أوْ غَيرَ ذلكَ.


قولُهُ: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ) أي: الذينَ صَوَّروا تلكَ الأصنامَ.
قولُهُ: (وَنُسِيَ العِلْمُ) ورِوايَةُ

البخاريِّ (وَتَنَسَّخَ).


وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ

و(نُسِخَ العِلْمُ) أيْ: دَرَسَتْ آثارُهُ بذَهابِ العُلماءِ، وعَمَّ الْجَهْلُ حتَّى صَارُوا لا يُمَيِّزُونَ بينَ التوحيدِ والشرْكِ، فوَقَعُوا في الشرْكِ ظنًّا منهم أَنَّهُ يَنْفَعُهم عندَ اللهِ.
قولُهُ: (عُبِدَتْ) لَمَّا قالَ لهم
إبليسُ: (إنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكم كانوا يَعبدونَهم وبهم يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ)، هوَ الذي زَيَّنَ لهم عِبادةَ الأصنامِ وأَمَرَهم بها، فصارَ هوَ مَعبودَهم في الحقيقةِ، كما قالَ تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس:60-62].


وهذا يُفيدُ الْحَذَرَ من الْغُلُوِّ ووسائلِ الشرْكِ،

وإنْ كانَ القَصْدُ بها حَسَنًا؛ فإنَّ الشيطانَ أَدْخَلَ أولئكَ في الشِّرْكِ مِنْ بابِ الْغُلُوِّ في الصالحينَ والإفراطِ في مَحَبَّتِهم، كما قدْ وَقَعَ مِثلُ ذلكَ في هذهِ الأُمَّةِ، أَظْهَرَ لهم الْبِدَعَ والْغُلُوَّ في قالَبِ تَعظيمِ الصالحينَ ومَحَبَّتِهم؛ ليُوقِعَهم فيما هوَ أَعظَمُ منْ ذلكَ؛ منْ عِبادتِهم لهمْ منْ دُونِ اللهِ.
وفي روايَةٍ:
((أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا عَظَّمَ أَوَّلُنَا هَؤُلاَءِ إِلاَّ وَهُمْ يَرْجُونَ شَفَاعَتَهُمْ عِنْدَ اللهِ)) أيْ: يَرْجُونَ شَفاعةَ أولئكَ الصالحينَ الذينَ صَوَّرُوا تلكَ الأصنامَ على صُوَرِهِمْ وسَمَّوْهَا بأسمائِهم.


ومِنْ هنا يُعْلَمُ أنَّ اتِّخاذَ الشُّفعاءِ ورَجاءَ شَفاعَتِهم بطَلَبِها منهم شِرْكٌ باللهِ،

كما تَقَدَّمَ بيانُهُ في الآياتِ الْمُحْكَمَاتِ.


(4)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقالَ ابنُ القيِّمِ: (قالَ غَيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: لَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَماثِيلَهُمْ، ثُمَّ طالَ عَلَيْهِم الأَمَدُ فَعَبَدوهُمْ).
قولُهُ: (وقالَ
ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ) هوَ الإمامُ العَلاَّمَةُ مُحَمَّدُ بنُ أبي بكرِ بنِ أَيُّوبَ الزُّرَعِيُّ الدِّمشقيُّ المعروفُ بابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ.
قالَ الحافظُ
السَّخَاويُّ: (العَلاَّمَةُ الْحُجَّةُ الْمُتَقَدِّمُ في سَعَةِ العِلْمِ ومَعرِفةِ الْخِلافِ وقُوَّةِ الْجَنَانِ، الْمُجْمَعُ عليهِ بينَ الْمُوافِقِ والمُخَالِفِ، صاحِبُ التصانيفِ السائرةِ والْمَحَاسِنِ الْجَمَّةِ، ماتَ سَنَةَ إحدى وخَمسينَ وسَبْعِمائةٍ).
قولُهُ: (قالَ غيرُ واحدٍ من السَّلَفِ) هوَ بمعنى ما ذَكَرَهُ
البخاريُّ، وابنُ جَريرٍ، إلاَّ أَنَّهُ ذَكَرَ عُكوفَهم على قُبورِهم قَبلَ تَصويرِهم تَماثِيلَهم، وذلكَ منْ وَسائلِ الشرْكِ، بلْ هوَ شرْكٌ؛ لأنَّ العُكوفَ للهِ في المساجِدِ عِبادةٌ؛ فإذا عَكَفُوا على القُبورِ صارَ عُكوفُهم تَعظيمًا ومَحَبَّةً عِبادةً لها.
قولُهُ: (ثمَّ طالَ عليهم الأَمَدُ فعَبَدُوهم) أيْ: طالَ عليهم الزمانُ.


وسببُ تلكَ العِبادةِ والْمُوَصِّلُ إليها هوَ:

ما جَرَى من الأَوَّلِينَ من التعظيمِ بالعُكوفِ على قُبورِهم، ونَصْبِ صُوَرِهم في مَجالسِهم؛ فصَارَتْ بذلكَ أَوْثانًا تُعْبَدُ منْ دُونِ اللهِ، كما تَرْجَمَ بهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، فإنَّهُم تَرَكُوا بذلكَ دِينَ الإسلامِ الذي كانَ أُولئكَ عليهِ قَبلَ حُدوثِ وَسائلِ هذا الشِّرْكِ، وكَفَرُوا بعِبادةِ تلكَ الصُّوَرِ واتَّخَذوهم شُفعاءَ. وهذا أوَّلُ شِرْكٍ حَدَثَ في الأرضِ.
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (وإنَّما صَوَّرَ أوائِلُهم الصُّوَرَ ليَتَأَسَّوْا بهم ويَتَذَكَّرُوا أفعالَهم الصالحةَ، فيَجْتَهِدُوا كاجتهادِهم، ويَعْبُدوا اللهَ عندَ قُبورِهم.
ثمَّ خَلَفَهُمْ قومٌ جَهِلُوا مُرادَهم، فوَسْوَسَ لهم الشيطانُ أنَّ أَسلافَهم كانوا يَعبدُونَ هذهِ الصُّوَرَ ويُعَظِّمُونَها)
انتهَى.
قالَ
ابنُ الْقَيِّمِ: (وما زَالَ الشَّيطانُ يُوحِي إلى عُبَّادِ القُبورِ ويُلْقِي إليهم أنَّ البِناءَ والعُكوفَ عليها منْ مَحَبَّةِ أهلِ القُبورِ من الأنبياءِ والصالحينَ، وأنَّ الدُّعاءَ عندَها مُسْتَجَابٌ، ثمَّ يَنْقُلُهم منْ هذهِ الْمَرْتَبَةِ إلى الدُّعاءِ بِهِ، والإقسامِ على اللهِ بِهِ، فإنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ أنْ يُقسَمَ عليهِ، أوْ يُسأَلَ بأَحَدٍ منْ خَلْقِهِ.
فإذا تَقَرَّرَ ذلكَ عندَهم نَقَلَهم منهُ إلى دُعائِهِ وعِبادتِهِ؛ وسُؤالِهِ الشَّفاعةَ منْ دُونِ اللهِ، واتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَثَنًا تُعَلَّقُ عليهِ القَنادِيلُ والسُّتُورُ، ويُطافُ بهِ ويُسْتَلَمُ ويُقَبَّلُ، وَيُحَجُّ إليهِ ويُذْبَحُ عندَهُ.
فإذا تَقَرَّرَ ذلكَ عندَهم نَقَلَهم منهُ إلى دُعاءِ الناسِ إلى عِبادتِهِ، واتِّخاذِهِ عِيدًا ومَنْسَكًا، ورَأَوْا أنَّ ذلكَ أَنْفَعُ لهم في دُنياهُم وأُخْرَاهُم.
وكلُّ هذا مِمَّا قدْ عُلِمَ بالاضطرارِ منْ دِينِ الإسلامِ أَنَّهُ مُضادٌّ لِمَا بَعَثَ اللهُ بهِ رَسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ تَجديدِ التوحيدِ؛ وأنْ لا يُعْبَدَ إلاَّ اللهُ.
فإذا تَقَرَّرَ ذلكَ عندَهم نَقَلَهم منهُ إلى أنَّ مَنْ نَهَى عنْ ذلكَ فقدْ تَنَقَّصَ أهلَ هذهِ الرُّتَبِ العاليَةِ، وَحَطَّهُم عنْ مَنْزِلَتِهم، وزَعَم أَنَّهُ لا حُرْمَةَ لهم ولا قَدْرَ، فغَضِبَ المشرِكونَ واشْمَأَزَّتْ قُلُوبُهم كما قالَ تعالى:
{وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الزمر:45].
وسَرَى ذلكَ في نُفوسِ كثيرٍ من الْجُهَّالِ والطَّغامِ وكثيرٍ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلى العِلْمِ والدِّينِ، حتَّى عَادَوْا أهلَ التوحيدِ ورَمَوْهُم بالعظائمِ ونَفَّرُوا الناسَ عنهم، ووَالَوْا أَهلَ الشرْكِ وعَظَّمُوهم، وزَعَمُوا أَنَّهُم أَولياءُ اللهِ وأنصارُ دِينِهِ ورَسولِهِ، ويَأْبَى اللهُ ذلكَ
{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}[الأنفال:34])
. اهـ كلامُ ابنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ.
وفي القِصَّةِ فَوائدُ ذَكَرَها
الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:


مِنْهَا:

(أنَّ مَنْ فَهِمَ هذا البابَ وما بعدَهُ تَبَيَّنَ لهُ غُرْبَةُ الإسلامِ، ورأَى مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وتَقْلِيبِهِ القلوبَ العَجَبَ).


ومنها:

(أنَّ أوَّلَ شِرْكٍ حَدَثَ في الأرضِ سبَبُهُ مَحَبَّةُ الصالِحِينَ؛ أي: المَحَبَّةُ التي فيها غُلُوٌّ).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شَيءٍ غُيِّرَ بِهِ دينُ الأنبياءِ).
ومنها: (مَعْرِفَةُ سَبَبِ قَبُولِ البِدَعِ معَ كونِ الشرائِعِ والفِطَرِ تُنْكِرُهَا، وأنَّ سَبَبَ ذلكَ كلِّهِ مَزْجُ الحقِّ بالباطِلِ، بأمريْنِ:


الأَوَّلُ:

(مَحَبَّةُ الصالحينَ).


والثاني:

(فِعْلُ أُنَاسٍ مِنْ أهلِ العِلْمِ والدينِ شيئًا أرَادُوا بِهِ خيرًا، فَظَنَّ مَنْ بعدَهم أَنَّهم أرادوا غَيْرَهُ).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ جِبِلَّةِ الإنسانِ في كونِ الحقِّ يَنْقُصُ في قَلْبِهِ، والباطِلُ يَزِيدُ؛ أيْ: في الغَالِبِ).


ومنها:

(أنَّ فيها شاهِدًا لمَا نُقِلَ عنْ بعضِ السلَفِ: أنَّ البِدْعَةَ سَبَبُ الكُفْرِ، وأنَّها أَحَبُّ إلى إبليسَ مِن المعصيَةِ؛ لأنَّ المَعْصِيَةَ قدْ يُتَابُ منها، والبِدْعَةُ لا يُتَابُ مِنها).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ الشيطانِ بما تَؤُولُ إليهِ البِدْعَةُ، ولوْ حَسُنَ قَصْدُ الفاعِلِ).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ القاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ، وهيَ النهيُ عن الغُلُوِّ، ومَعْرِفَةُ ما يَؤُولُ إليهِ؛ أيْ: مِن الشِّرْكِ).


ومنها:

(النهيُ عن التماثيلِ، والحِكْمَةُ في إزالَتِهَا).


ومنها:

(مَعْرِفَةُ عِظَمِ شَأنِ هذهِ القِصَّةِ وشِدَّةِ الحاجَةِ إليها معَ الغَفْلَةِ عنها).


ومنها:

(وهي أَعْجَبُ: قِرَاءَتُهم إيَّاها في كُتُبِ التفسيرِ والحديثِ، ومَعْرِفَتُهُم لمعنى الكلامِ وكونِ اللهِ تعالى حالَ بينَ قلوبِهِم، حتَّى اعْتَقَدُوا أنَّ فِعْلَ قومِ نوحٍ هوَ أفْضَلُ العِبَادَةِ، واعْتَقَدُوا أنَّ نَهْيَ اللهِ ورسولِهِ هوَ الكفرُ المُبِيحُ للدَمِ والمالِ).


يعني:

لوْ نَهَاهُم ناهٍ بِنَهْيِ اللهِ لهمْ عن الشركِ لكَفَّرُوهُ واسْتَحَلُّوا دَمَهُ ومالَهُ بذلكَ.


ومنها:

(التصريحُ بأنَّهُم لمْ يُرِيدوا إلاَّ الشفاعةَ).


ومنها:

(ظَنُّهُم أنَّ الذينَ صَوَّرُوا الصُّوَرَ أرادُوا ذلكَ).


ومنها:

(التَّصْرِيحُ بأنَّها لم تُعْبَدْ حتَّى نُسِيَ العِلْمُ. ففيها: مَعْرِفَةُ قَدْرِ وُجُودِهِ ومَضَرَّةُ فَقْدِهِ).


ومنها:

(أنَّ سبَبَ فَقْدِ العِلْمِ موتُ العُلَمَاءِ)

انتهَى.


ومنها:

رَدُّ الشُّبَهِ التي يُسَمِّيهَا أهلُ الكلامِ عَقْلِيَّاتٍ، ويَدْفَعونَ بها ما جَاءَ بهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ منْ تَوحيدِ الصِّفاتِ، وإثباتِهَا على ما يَليقُ بجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِهِ وكِبريائِهِ.


ومنها:

مَضَرَّةُ التقليدِ.


ومنها:

ضَرورةُ الأُمَّةِ إلى ما جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا وعَمَلاً بما يَدُلُّ عليهِ الكتابُ والسُّنَّةُ؛ فإنَّ ضَرورةَ العَبْدِ إلى ذلكَ فَوقَ كلِّ ضَرورةٍ.


(5)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعنْ عُمرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قالَ: ((لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) أَخْرَجَاهُ).
قولُهُ: (عنْ
عُمرَ) هوَ ابنُ الْخَطَّابِ بنِ نُفَيْلٍ -بِنُونٍ وفَاءٍ مُصَغَّرًا- العَدَوِيُّ أميرُ المؤمنينَ، وأَفْضَلُ الصَّحابةِ بعدَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وَلِيَ الْخِلافةَ عَشْرَ سِنينَ ونِصْفًا، فامْتَلأََت الدنيا عَدْلاً، وفُتِحَتْ في أيَّامِهِ مَمَالِكُ كِسْرى وقَيْصَرَ، واسْتُشْهِدَ في ذي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وعِشرينَ.
قولُهُ:
((لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَت النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ))الإطراءُ: مُجاوَزَةُ الْحَدِّ في الْمَدْحِ والكَذِبِ عليهِ، قالَهُ أبو السَّعاداتِ.


وقالَ غيرُهُ

: (أيْ: لا تَمْدَحُونِي بالباطلِ، ولا تُجاوِزُوا الحدَّ في مَدْحِي).
قولُهُ:
((إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) أيْ: لا تَمْدَحُونِي فتَغْلُوا في مَدْحِي كما غَلَت النَّصارَى في عِيسَى عليهِ السلامُ فادَّعَوْا فيهِ الإِلَهِيَّةَ، ((وإنَّما أنا عبدُ اللهِ ورسولُهُ))فَصِفُونِي بذلكَ كما وَصَفَنِي رَبِّي، فقُولُوا عبدُ اللهِ ورسولُهُ.


فأَبَى الْمُشرِكونَ إلاَّ مُخالَفَةَ أَمْرِهِ وارْتكابَ نَهْيِهِ،

وعَظَّمُوهُ بما نَهَاهُم عنهُ وحَذَّرَهم منهُ، وناقَضُوهُ أَعظمَ مُناقَضَةٍ، وضَاهَوا النَّصارَى في غُلُوِّهم وشِرْكِهم، ووَقَعُوا في الْمَحذورِ، وجَرَى منهم من الْغُلُوِّ والشرْكِ شِعرًا ونثرًا ما يَطولُ عَدُّهُ؛ وصَنَّفُوا فيهِ مُصَنَّفَاتٍ.
وقدْ ذَكَرَ
شيخُ الإسلامِ عنْ بَعْضِ أهلِ زَمانِهِ أَنَّهُ جَوَّزَ الاستغاثةَ بالرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلِّ ما يُسْتَغَاثُ فيهِ باللهِ، وصَنَّفَ في ذلكَ مُصَنَّفًا رَدَّهُ شيخُ الإسلامِ، ورَدُّهُ موجودٌ بحَمْدِ اللهِ.
ويَقولُ:
(إنَّهُ يَعْلَمُ مَفاتيحَ الغَيْبِ التي لا يَعلمُها إلاَّ اللهُ) وذَكَرَ عنهم أشياءَ منْ هذا النَّمَطِ، نَعوذُ باللهِ منْ عَمَى البصيرةِ، وقد اشْتُهِرَ في نَظْمِ البُوصِيرِيِّ قولُهُ:

يَا أَكـْرَمَ الـْخـَلــْقِ مـا لــي مــَنْ أَلــُوذُ بهِ سِوَاكَ عندَ حُلُولِ الحادِثِ الْعَمَمِ
فـإِنَّ
مـِن جـُودِكَ الـدُّنــَيـا وضـَرَّتَها ومـِن عـُلـُومـِكَعـِلـْمُ الـلـَّوْحِ والـقَلَمِ

من الأبياتِ التي مَضمونُها إخلاصُ الدعاءِ، واللِّياذِ والرجاءِ والاعتمادِ في أَضْيَقِ الحالاتِ وأَعْظَمِ الاضطرارِ لغيرِ اللهِ، فنَاقَضُوا الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بارتكابِ ما نَهَى عنهُ أَعْظَمَ مُناقَضَةٍ، وشَاقُّوا اللهَ ورَسولَهُ أَعظمَ مُشَاقَّةٍ، وذلكَ أنَّ الشيطانَ أَظْهَرَ لهم هذا الشرْكَ العَظيمَ في قالَبِ مَحَبَّةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَعظيمِهِ، وأَظْهَرَ لهم التوحيدَ والإِخلاصَ الذي بَعَثَهُ اللهُ بهِ في قالَبِ تَنْقِيصِهِ.

وهؤلاءِ الْمُشرِكونَ هم الْمُتَنَقِّصُونَ الناقِصونَ،

أَفْرَطُوا في تَعظيمِهِ بما نَهاهُم عنه أَشَدَّ النهيِ، وفَرَّطوا في مُتابَعَتِهِ فلَمْ يَعْبَأُوا بأقوالِهِ وأَفعالِهِ، ولا رَضُوا بحُكْمِهِ ولا سَلَّمُوا لهُ، وإنَّما يَحْصُلُ تعظيمُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتعظيمِ أَمْرِهِ ونَهْيِهِ، والاهتداءِ بِهَدْيِهِ، واتِّباعِ سُنَّتِهِ، والدعوةِ إلى دِينِهِ الذي دَعَا إليهِ ونُصْرَتِهِ؛ ومُوالاةِ مَنْ عَمِلَ بهِ، ومُعاداةِ مَنْ خالَفَهُ.
فَعَكَسَ أولئكَ الْمُشرِكونَ ما أَرادَ اللهُ ورَسولُهُ عِلْمًا وعَمَلاً، وارْتَكَبوا ما نَهَى عنهُ ورسولُهُ؛ فاللهُ الْمُستعانُ.
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ))).
هذا الحديثُ ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ بدُونِ ذِكْرِ رَاوِيهِ، وقدْ رَواهُ الإِمامُ أحمدُ، والتِّرمذيُّ، وابنُ مَاجَهْ، منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ.


وهذا لفظُ رِوايَةِ أحمدَ: (عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: قالَ لي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَداةَ جَمْعٍ: ((هَلُمَّ الْقُطْ لِي)) فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الخَذْفِ؛ فلَمَّا وَضَعَهُنَّ في يَدِهِ قالَ: ((نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ)).
قالَ
شيخُ الإِسلامِ: (هذا عامٌّ في جميعِ أنواعِ الغُلُوِّ في الاعتقاداتِ، والأعمالِ).


وسَببُ هذا اللفظِ العامِّ:

رَمْيُ الْجِمارِ؛ وهوَ دَاخلٌ فيهِ؛ مِثْلُ الرميِ بالْحِجارةِ الكِبارِ؛ بِناءً على أَنَّهُ أَبْلَغُ من الصِّغارِ.
ثمَّ عَلَّلَهُ بما يَقْتَضِي مُجانَبَةَ هَدْيِ مَنْ كانَ قَبْلَنا إِبعادًا عن الوُقوعِ فيما هَلَكُوا بهِ؛ فإنَّ الْمُشارِكَ لهم في بعضِ هَدْيِهم يُخافُ عليهِ من الْهَلاكِ.
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولِمُسْلِمٍ عن ابنِ مَسعودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قالَها ثَلاثًا).
قالَ
الْخَطَّابيُّ: (الْمُتَنَطِّعُ: الْمُتَعَمِّقُ في الشيءِ، الْمُتَكَلِّفُ البَحْثَ عنهُ على مَذاهبِ أهلِ الكلامِ الداخلينَ فيما لا يَعْنِيهِمْ، الخائضينَ فيما لا تَبْلُغُهُ عقولُهم).
ومِن
التَّنَطُّعِ: الامتناعُ من الْمُباحِ مُطْلَقًا، كالَّذِي يَمْتَنِعُ منْ أَكْلِ اللحْمِ والْخُبْزِ، ومِنْ لُبْسِ الْكَتَّانِ والقُطْنِ، ولا يَلْبَسُ إلاَّ الصوفَ، ويَمتَنِعُ منْ نِكاحِ النساءِ، ويَظُنُّ أنَّ هذا من الزُّهْدِ الْمُستَحَبِّ.
قالَ الشيخُ
تَقِيُّ الدينِ: (فهذا جاهلٌ ضالٌّ) انْتَهَى.
وقالَ
ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (قالَ الغَزَالِيُّ: والْمُتَنَطِّعُونَ في البحثِ والاستقصاءِ).
وقالَ
أبو السَّعاداتِ: (هم الْمُتَعَمِّقُونَ الغَالُونَ في الكلامِ، الْمُتكلِّمونَ بأَقْصَى حُلُوقِهم).
مَأْخُوذٌ من النَّطْعِ، وهوَ الغارُ الأَعْلَى من الْفَمِ، ثمَّ اسْتُعْمِلَ في كلِّ مُتَعَمِّقٍ قَوْلاً وفِعْلاً.
وقالَ
النَّوَوِيُّ: (فيهِ كَراهةُ التَّقَعُّرِ في الكلامِ بالتشَدُّقِ وتَكَلُّفِ الفَصاحةِ، واستعمالِ وَحْشِيِّ اللغةِ ودَقائقِ الإِعرابِ في مُخاطَبَةِ العَوامِّ ونَحْوِهم).
قولُهُ: (قالَها ثَلاثًا) أيْ: قالَ هذهِ الكلمةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ مُبالَغَةً في التعليمِ والإِبلاغِ، فقدْ بلَّغَ البلاغَ الْمُبينَ صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجمعينَ.

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)

و الغُلُوُّهو مُجَاوَزَةُالحَدِّ؛ بأنْ يُجْعلَ للصَّالِحِينَ مِن حُقُوقِ اللهِ الخَاصَّةِ بِهِ شَيْءٌ، فإنَّ حَقَّ اللهِ الذِي لاَ يُشارِكُهُ فيهِ مُشارِكٌ، هو الكَمَالُ المُطْلَقُ، والغِنى المطلَقُ، والتصرُّفُ المطلَقُ، مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، وأنَّه لاَ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ والتَّأَلُّهَ أَحَدٌ سِواهُ.


فمَن غَلاَ بأحَدٍ مِن المَخْلُوقِينَ حَتَّى جَعَلَ له نصيبًا مِن هذِه الأشْياءِ، فَقَدْ سَاوَى بِهِ ربَّ العَالَمِينَ، وذلك أَعْظَمُ الشِّركِ.

واعْلَمْ أنَّ الحُقُوقَ ثَلاَثَةٌ:

1- حقٌّ خَاصٌّ للهِ:

لاَ يُشارِكُهُ فيهِ مُشَارِكٌ، وهو التَّأَلُّهُ لَهُ، وعِبادَتُه وحدَه لاَ شَرِيكَ لَهُ، والرَّغْبَةُ والإِنَابَةُ إِليه حبًّا وخوفًا ورجاءً.


2- وحقٌّ خاصٌّ للرُّسُلِ:

وهو تَوْقِيرُهم وتَبْجِيلُهم والقيامُ بِحُقُوقِهم الخاصَّةِ.


3- وحقٌّ مُشْتَرَكٌ:

وهو الإِيمانُ باللهِ ورُسُلِه، وطاعةُ اللهِ ورُسُلِه، ومحبةُ اللهِ ومحبةُ رُسُلِه،

ولكن هذه للهِ أصْلاً وللرُّسُلِ تبعًا لِحَقِّ اللهِ.
فأَهْلُ الحَقِّ يَعْرِفُونَ الفُرقانَ بَيْنَ هذِه الحُقُوقِ الثَّلاَثَةِ، فيَقُومُونَ بعبودِيَّةِ اللهِ وإخلاصِ الدينِ لَهُ، ويَقُومُونَ بِحَقِّ رُسُلِه وأوليائِه عَلَى اخْتِلاَفِ مَنازِلِهم ومَرَاتِبِهم، واللهُ أعلمُ.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)

قولُهُ: (سَبَبُ كُفْرِ بَنِي آدَمَ)السَّبَبُ في اللُّغَةِ: مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى غَيْرِهِ.


وأمَّا في الاصْطِلاَحِ عندَ أَهْلِ الأُصُولِ:

فهوَ الذي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الوُجُودُ، ومِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ.

أيْ: إذا وُجِدَ السَّبَبُ وُجِدَ المُسَبَّبُ، وإِذَا عُدِمَ السَّبَبُ عُدِمَ المُسَبَّبُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ يَثْبُتُ بِهِ المُسَبَّبُ.


الغُلُوُّ:

هوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في الثَّنَاءِ مَدْحًا أوْ قَدْحًا.


والقَدْحُ:

يُسَمَّى ثناءً، ومنهُ الجَنَازَةُ التي مَرَّتْ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا.
والغُلُوُّ هنا:
مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في الثَّنَاءِ مَدْحًا.).
قال شيخ الإسلام:
(الغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في شيء في حمده أو ذمه على ما يستحق)
قولُهُ: (الصَّالِحِينَ)
الصَّالِحُ: هوَ الذي قَامَ بِحَقِّ اللهِ وحَقِّ العِبَادِ.
وفي هذه التَّرْجَمَةِ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إلى سَبَبِهِ دونَ أنْ يُنْسَبَ إلى اللهِ بِقَوْلِهِ: (إنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وتَرْكِهِم دِينَهُم هوَ الغُلُوُّ في الصَّالِحِينَ) وهذا جَائِزٌ إذا كَانَ السَّبَبُ حَقِيقَةً وصَحِيحًا، وذَلِكَ إذا كَانَ السَّبَبُ قَدْ أُثْبِتَ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، أو الحِسِّ، أو الوَاقِعِ.
وقدْ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
((لوْلاَ أَنَا؛ لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)) يَعْنِي عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ.


(2)

قولُهُ: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أيْ: لاَ تَتَجَاوَزُوا الحَدَّ مَدْحًا أوْ قَدْحًا.
والأمْرُ واقِعٌ كذلكَ بالنِّسْبَةِ لأَِهْلِ الكِتَابِ عُمُومًا، فإِنَّهم غَلَوْا في
عيسَى بنِ مَرْيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَدْحًا وقَدْحًا؛ حَيْثُ قَالَ النَّصارَى: إنَّهُ ابنُ اللهِ وَجَعَلُوهُ ثَالِثَ ثَلاَثَةٍ.


واليَهُودُ غَلَوْا فيهِ قَدْحًا

وقَالُوا: (إنَّ أُمَّهُ زَانِيَةٌ، وإنَّهُ ولَدُ زِنًا) قَاتَلَهُم اللهُ، فَكُلٌّ مِن الطَّرَفَيْنِ غَلاَ في دِينِهِ وتَجَاوَزَ الحَدَّ بَيْنَ إِفْرَاطٍ وتَفْرِيطٍ.
قولُهُ:
{وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} وهوَ مَا قَالَهُ سُبْحانَهُ وتَعَالَى عنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولاَ وَلَدًا.
قولُهُ:
{ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ } هذه صِيغَةُ حَصْرٍ، وطَرِيقُهُ {إِنَّما} فيكونُ الْمَعْنَى: مَا المَسِيحُ عِيسَى بنُ مَرْيمَ إِلاَّ رَسُولُ اللهِ، وأَضَافَهُ إلى أُمِّهِ ليَقْطَعَ قَوْلَ النَّصارَى الذينَ يُضِيفُونَهُ إلى اللهِ.
وفي قَوْلِهِ:
{رَسُولُ اللهِ} إِبْطَالٌ لِقَوْلِ اليهودِ: إِنَّهُ كَذَّابٌ، ولقَوْلِ النَّصارَى: إِنَّهُ إِلَهٌ.
وفي قَوْلِهِ:
{وَكَلِمَتُهُ} إِبْطَالٌ لِقَوْلِ اليهودِ: (إِنَّهُ ابنُ زِنًا).
وكَلِمَتُهُ التي ألْقَاهَا إلى مَرْيمَ: أنْ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ.
قولُهُ:
{وَرُوحٌ مِنْهُ} أيْ: أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَغَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ جَسَدٍ ورُوحٍ، وأَضَافَ رُوحَهُ إليهِ تَشْرِيفًا وتَكْرِيمًا، كَمَا في قولِهِ تَعَالَى في آدَمَ: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } فهذا للتَّشْرِيفِ والتَّكْرِيمِ.
قولُهُ:
{ إِنَّمَا اللهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أيْ: تَنْزِيهًا لَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ؛ لأَِنَّهُ مَالِكٌ لِمَا في السَّماواتِ ومَا في الأَرْضِ، ومِنْ جُمْلَتِهِم عِيسَى بنُ مَرْيمَ عَلَيهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فهوَ مِنْ جُمْلَةِ المَمْلُوكِينَ المَرْبُوبِينَ، فكيفَ يكونُ إِلَهًا مَعَ اللهِ أوْ وَلَدًا للهِ؟!.
والشَّاهِدُ مِنْ هذه الآيَةِ قولُهُ:
{ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ }فنَهَى عَنِ الغُلُوِّ في الدِّينِ؛ لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَفَاسِدَ كَثِيرَةً:


مِنْهَا:

أنَّهُ تَنْزِيلٌ للمَغْلُوِّ فيهِ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ إنْ كَانَ مَدْحًا، وتَحْتَها إِنْ كَانَ قَدْحًا.


ومنها:

أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عِبَادَةِ هذا المَغْلُوِّ فيهِ

كَمَا هوَ الوَاقِعُ مِنْ أَهْلِ الغُلُوِّ.


ومنها:

أَنَّهُ يَصُدُّ عنْ تَعْظِيمِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى؛ لأنَّ النَّفْسَ إِمَّا أنْ تَنْشَغِلَ بالبَاطِلِ أوْ بالحَقِّ، فإذا انْشَغَلَتْ بالغُلُوِّ بِهَذا المَخْلُوقِ وإِطْرَائِهِ وتَعْظِيمِهِ تَعَلَّقَتْ بِهِ، ونَسِيَتْ مَا يَجِبُ للهِ تَعَالَى مِنْ حُقُوقٍ.


ومنها:

أنَّ المَغْلُوَّ فيهِ إنْ كانَ مَوْجُودًا فإِنَّهُ يَزْهُو بنَفْسِهِ،

ويَتَعاظَمُ ويُعْجَبُ بِهَا، وهذه مَفْسَدَةٌ تُفْسِدُ المَغَلُوَّ فيهِ إنْ كَانَتْ مَدْحًا، وتُوجِبُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ، وقِيامَ الحُرُوبِ والبَلاَءِ بَيْنَ هَذَا وهَذَا، إنْ كَانَتْ قَدْحًا.
قولُهُ:
{فِي دِينِكُمْ} الدِّينُ يُطْلَقُ عَلَى العَمَلِ والجَزَاءِ، والمُرَادُ بِهِ هنا: العَمَلُ.


والمَعْنَى: لاَ تَجْعَلُوا عِبَادَتَكُم غُلُوًّا في المَخْلُوقِينَ وغَيرِهم.

وهَلْ يَدْخُلُ في هَذَا الغُلُوُّ في العِبَادَاتِ؟

الجَوابُ:

نَعَمْ يَدْخُلُ الغُلُوُّ في العِبَادَاتِ، مِثْلُ: أنْ يُرْهِقَ الإنسانُ نَفْسَهُ بالعِبَادَةِ ويُتْعِبَها، فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى عنْ ذلكَ، أو يَزِيدَ عنِ المَشْرُوعِ كَأَنْ يَرْمِيَ بِجَمَرَاتٍ كبيرةٍ، أوْ يَأْتِيَ بأَذْكارٍ زَائِدةٍ عنِ المَشْرُوعِ أَدْبَارَ الصَّلواتِ تَكْمِيلاً للوَارِدِ، أوْ غيرِ هذا، فالنَّهْيُ عن الغُلُوِّ في الدِّينِ يَعُمُّ الغُلُوَّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.


(3)

قولُهُ: {لاَ تَذَرُنَّ} أيْ: لاَ تَدَعُنَّ وتَتْرُكُنَّ، وهذا نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بالنُّونِ.
قَوْلُهُ:
{آلِهَتَكُمْ}هَلِ المُرَادُ: لاَ تَذَرُوا عِبَادَتَها، أوْ: تُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ إِهَانَتِها؟


الجَوابُ:

المَعْنَيانِ كلاهما؛ أي: انْتَصِروا لآلِهَتِكُم ولاَ تُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ إِهَانَتِهَا ولاَ تَدَعُوهَا للنَّاسِ، ولاَ تَدَعُوا عِبَادَتَها أيضًا، بل احْرِصُوا عليها، وهذا مِن التَّواصِي بالباطلِ، عكسَ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَتَوَاصَوْنَ بالحَقِّ.
قولُهُ تَعَالَى:
{ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } هذه الخَمْسَةُ كَانَ لَهَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا؛ لأنَّ قولَهُ: {آلِهَتَكُمْ} عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَعْبَدُونَ، وكَأَنَّها كِبَارُ آلِهَتِهِم فَخَصُّوها بالذِّكْرِ.


والآلِهَةُ:

جَمْعُ (إِلَهٍ) وهوَ: كُلُّ مَا عُبِدَ سَوَاءٌ بِحَقٍّ أوْ بِبَاطِلٍ، لكنْ إذَا كَانَ المَعْبُودُ هوَ اللهُ فهوَ حَقٌّ، وإِنْ كَانَ غَيْرَ اللهِ فهوَ بَاطِلٌ.
قالَ
ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في هذه الآيَةِ: (هذه أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ).
وفي هَذَا التَّفْسِيرِ إِشْكَالٌ حَيْثُ قَالَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ
نُوحٍ، وظَاهِرُ القُرْآنِ أنَّها قَبْلَ نُوحٍ، قَالَ تَعَالَى: { قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }.
فظَاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ قَوْمَ
نُوحٍ كَانُوا يَعْبُدُونَها، ثُمَّ نَهَاهُم نُوحٌ عَن عِبَادَتِهَا وأَمَرَهُم بِعِبَادَةِ اللهِ وحْدَهُ، ولكنَّهم أَبَوْا وقَالُوا: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } وهَذَا - أَعْنِي القَوْلَ بأَنَّهُم قَوْمُ نُوحٍ - قَولُ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ ومُحَمَّدِ بنِ قَيْسٍ، وهوَ الرَّاجِحُ لِمُوافَقَتِهِ ظَاهِرَ القُرْآنِ، ويَحْتَمِلُ -وهوَ بَعِيدٌ- أَنَّ هذا في أَوَّلِ رِسَالَةِ نُوحٍ، وأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ هؤلاَءِ الرِّجَالُ وآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذلكَ مَاتُوا قَبْلَ نُوحٍ ثُمَّ عَبَدُوهُم، لَكِنَّ هذا بَعِيدٌ حَتَّى مِنْ سِيَاقِ الأَثَرِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ.


فالمُهِمُّ في تَفْسيرِ الآيَةِ أَنْ يُقَالَ: هذه أَصْنامٌ في قَوْمِ نُوحٍ كَانُوا رِجَالاً صَالِحِينَ، فَطَالَ عَلَى قَوْمِهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدُوهُم.


(4)

قولُهُ: (أَوْحَى الشَّيطَانُ) أيْ: وحْيَ وَسْوَسَةٍ، ولَيْسَ وحْيَ إِلْهَامٍ.

(5)

قولُهُ: (أَن انْصِبُوا إلى مَجَالِسِهِم)

الأَنْصَابُ: جَمْعُ نُصْبٍ، وهوَ كُلُّ مَا يُنْصَبُ مِنْ عَصًا أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ.


(6)

قولُهُ: (وسَمُّوها بِأَسْمَائِهم) أيْ: ضَعُوا أَنْصَابًا في مَجَالِسِهِم وقَولُوا: هذا وَدٌّ، وهَذَا سُواعٌ، وهَذَا يَغُوثُ، وهَذَا يَعُوقُ، وهذا نَسْرٌ، لأَِجلِ إذَا رَأَيْتُمُوهم تَتَذَكَّرُوا عِبَادَتَهم فَتَنْشَطُوا عليها، هكذا زَيَّنَ لَهُم الشَّيْطَانُ، وهَذَا غُرُورٌ وَوَسْوَسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ لآدَمَ: { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى }.
وإذا كَانَ لاَ يَتَذَكَّرُ عِبَادَةَ اللهِ إِلاَّ برُؤْيَةِ أَشْباحِ هؤلاءِ فهذه عِبَادَةٌ قَاصِرَةٌ أوْ مَعْدُومَةٌ.


(7)

قولُهُ: (فَفَعَلُوا، ولَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إذا هَلَكَ أولئكَ ونُسِيَ العِلْمُ، عُبِدتْ مِنْ دونِ اللهِ) ذَكَرَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، والقَرْنُ مِائةُ سَنَةٍ، حَتَّى إذَا طَالَ عَلَيْهم الأَمَدُ حَصَلَ النِّزَاعُ والتَّفَرُّقُ؛ فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الآيَةَ.
والآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
ابنُ عَبَّاسٍ، إِلاَّ أنَّ ظَاهِرَ السِّياقِ أَنَّ هؤلاءِ القَوْمَ الصَّالِحينَ كَانُوا قَبْلَ نُوحٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، وقدْ عَرَفْتَ القَوْلَ الرَّاجِحَ.


(8)

قولُهُ: (الأَمَدُ) الزَّمَنُ، وهذا كَتَفْسِيرِ ابنِ عباسٍ، إلاَّ أنَّ ابنَ عباسٍ يقولُ: (إنَّهم جَعَلُوا الأَنْصَابَ في مَجَالِسِهِم) وهنا يَقُولُ: (عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِم) ولاَ يَبْعُدُ أَنَّهم جَعَلُوا هذا وهذا، أوْ أنَّهم قُبِرُوا في مَجَالِسِهم فَتَكُونُ هيَ مَحَلَّ القُبُورِ.
والشَّاهِدُ قولُهُ: (ثُمَّ طَالَ عَلَيْهم الأَمَدُ فعَبَدُوهم) فَسَبَبُ العِبَادَةِ إذًا الغُلُوُّ في هؤلاءِ الصَّالِحينَ حَتَّى عَبَدُوهم.
(9) قولُهُ:
((لاَ تُطْرُونِي)) الإِطْرَاءُ: المُبَالَغَةُ في المَدْحِ.


وهذا النَّهْيُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ مُنْصَبٌّ عَلَى هذا التَّشْبِيهِ وهوَ قولُهُ: ((كَمَا أَطْرتِ النَّصارَى ابنَ مَرْيَمَ)) حيثُ جَعَلُوهُ إِلَهًا، أو ابْنًا للهِ.
ويَحْتَمِلُ أنَّ النَّهْيَ عَامٌّ، فيَشْمَلُ مَا يُشَابِهُ غُلُوَّ النَّصارَى في
عِيسَى ابنِ مَرْيمَ ومَا دونَهُ، ويكونُ قولُهُ: ((كَمَا أَطْرَتْ)) لِمُطْلَقِ التَّشْبِيهِ لاَ للتَّشْبِيهِ المُطْلَقِ؛ لأَِنَّ إِطْرَاءَ النَّصارَى عيسَى بنَ مَرْيمَ سَبَبُهُ الغُلُوُّ في هذا الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، حيثُ جَعَلُوهُ ابْنًا للهِ وثَالِثَ ثَلاَثَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَى أنَّ المُرَادَ هذا قولُهُ: ((إِنَّما أَنا عَبْدٌ، فَقُولوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)).


(10)

قولُهُ: ((إِنَّما أَنا عَبْدٌ)) أيْ: ليسَ لِي حقٌّ مِن الرُّبُوبِيَّةِ، ولاَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ اللهُ عزَّ وجلَّ أَبَدًا.


(11)

قولُهُ: ((فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) هذانِ الوَصْفَانِ أَصْدَقُ وَصْفٍ وأَشْرَفُهُ في الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَأَشْرَفُ وَصْفٍ للإنْسانِ أنْ يكونَ مِنْ عِبَادِ اللهِ. قَالَ تَعَالَى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَـنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا }، وقَالَ تَعَالَى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } فَوَصَفَهم اللهُ بالعُبُودِيَّةِ قبلَ الرِّسَالَةِ، مَعَ أنَّ الرِّسَالَةَ شَرَفٌ عَظِيمٌ، لَكِنَّ كَوْنَهم عِبَادًا للهِ عَزَّ وجَلَّ أَشْرَفُ وأَعْظَمُ، وأَشْرَفُ وَصْفٍ لَهُ وأَحَقُّ وَصْفٍ بِهِ.


فمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَبْدٌ لاَ يُعْبَدُ، ورَسُولٌ لاَ يَكْذِبُ، ولهذا نَقُولُ في صَلاَتِنا عِنْدَمَا نُسَلِّمُ عَلَيْهِ ونَشْهَدُ لهُ بالرِّسالَةِ: (وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) فهذا أَفْضَلُ وَصْفٍ اخْتَارَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لنَفْسِهِ.


واعْلَمْ أنَّ الحُقُوقَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ وهيَ:

الأوَّلُ:

حَقٌّ للهِ لاَ يُشرَكُ فيهِ غَيْرُهُ لاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وهوَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِن الرُّبُوبِيَّةِ، والأُلُوهِيَّةِ، والأَسْمَاءِ والصِّفاتِ.


الثاني:

حقٌّ خَاصٌّ للرُّسُلِ، وهوَ إِعَانَتُهم وتَوْقِيرُهم وتَبْجِيلُهم بِمَا يَسْتَحِقُّونَ.


الثالثُ:

حَقٌّ مُشْتَرَكٌ وهوَ: الإِيمَانُ باللهِ ورُسُلِهِ، وهذه الحُقُوقُ مَوْجُودَةٌ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ وهيَ قولُهُ تَعَالَى: { لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ } فهذا حَقٌّ مُشْتَرَكٌ، { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } هذا خاصٌّ بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } هذا خاصٌّ باللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.
-
والذينَ يَغْلُونَ في الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَجْعَلُونَ حَقَّ اللهِ لَهُ فيَقُولُونَ:{ وتُسَبِّحُوهُ } أي: الرَّسُولَ، فيُسَبِّحُونَ الرَّسُولَ كَمَا يُسَبِّحُونَ اللهَ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ شِرْكٌ؛ لأَِنَّ التَّسْبِيحَ مِنْ حُقُوقِ اللهِ الخَاصَّةِ بهِ بِخِلاَفِ الإيمَانِ فهوَ مِن الحُقُوقِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اللهِ ورَسُولِهِ.
ونَهَى عن الإِطْرَاءِ في قولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ:
((كَمَا أَطْرَتِ النَّصارَى عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ)) لأَِنَّ الإِطْرَاءَ والغُلُوَّ يُؤَدِّي إلى عِبَادَتِهِ، كَمَا هوَ الوَاقِعُ الآنَ، فيُوجَدُ عندَ قَبْرِهِ في المَدَينَةِ مَنْ يَسْأَلُهُ فيَقُولُ: (يا رَسُولَ اللهِ، المَدَدَ المَدَدَ، يا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنا، يا رَسُولَ اللهِ، بِلاَدُنا يابِسَةٌ..) وهكذا، ورَأَيْتُ بعَيْنَيَّ رَجُلاً يَدْعُو اللهَ تَحْتَ مِيزَابِ الكَعْبَةِ مُوَلِّيًا ظَهْرَهُ البَيْتَ مُسْتَقْبِلاً المَدِينةَ؛ لأنَّ اسْتِقْبالَ القَبْرِ عندَهُ أَشْرَفُ مِن اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، والعِياذُ باللهِ.

-

ويَقُولُ بعضُ المُغَالِينَ:الكَعْبَةُ أَفْضَلُ مِن الحُجْرَةِ، فأَمَّا والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فيها فَلاَ واللهِ، ولاَ الكَعْبَةُ، ولاَ العَرْشُ وحَمَلَتُهُ، ولاَ الجَنَّةُ، فهوَ يُرِيدُ أنْ يُفَضِّلَ الحُجْرةَ عَلَى الكَعْبَةِ، وعَلَى العَرْشِ وحَمَلَتِهِ، وعَلَى الجَنَّةِ، وهذه مُبَالَغَةٌ لاَ يَرْضَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَنَا ولاَ لنَفْسِهِ.
وصَحِيحٌ أنَّ جَسَدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَفْضَلُ ولَكِنَّ كَوْنَهُ يَقُولُ: إنَّ الحُجْرَةَ أَفْضَلُ مِن الكَعْبَةِ والعَرْشِ والجَنَّةِ؛ لأنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فيها، هَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ مِنْ ذلكَ.


(12)

قولُهُ: ((إِيَّاكُمْ)) للتَّحْذِيرِ.
قولُهُ:
((والغُلُوَّ)) مَعْطُوفٌ عَلَى إيَّاكُم، وقد اضْطَرَبَ فيهِ المُعْرِبونَ اضْطَرَابًا كثيرًا، وأَقْرَبُ مَا قِيلَ للصَّوابِ وأَقَلُّهُ تَكَلُّفًا أَنَّ (إِيَّا) مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: إِيَّاكَ أُحَذِّرُ، أي: احْذَرْ نَفْسَكَ أنْ تَغُرَّكَ، والغُلُوُّ مَعْطُوفٌ عَلَى إِيَّاكَ؛ أيْ: واحْذَر الغُلُوَّ.


والغُلُوُّ

كَمَا سَبَقَ: هوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ مَدْحًا أوْ ذمًّا، وقَدْ يَشْمَلُ ما هوَ أَكْثَرَ مِنْ ذلكَ أيضًا، فيُقَالُ: مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في الثَّنَاءِ وفي التَّعَبُّدِ وفي العَمَلِ؛ لأَِنَّ هذا الحَدِيثَ وَرَدَ في رَمْيِ الجَمَرَاتِ، حيثُ رَوَى ابنُ عباسٍ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ غَدَاةَ العَقَبَةِ وهوَ عَلَى نَاقَتِهِ:((الْقُطْ لِيَ حَصًى))فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَياتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَل يَنْفُضُهنَّ في كَفِّهِ ويَقُولُ:((أَمْثَالُ هَؤُلاَءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ، فإنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))) هذا لَفْظُ ابنِ مَاجَه.


(13)

و((الغُلُوُّ)) فَاعِلُ ((أَهْلَكَ)).
قولُهُ:
((مَنْ كَان قَبْلَكُمْ)) مَفْعولٌ مُقَدَّمٌ.
قولُهُ:
((فَإِنَّما)) أَدَاةُ حَصْرٍ، والحَصْرُ: إِثْباتُ الحُكْمِ للمَذْكُورِ ونَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ.
قولُهُ:
((أَهلْكَ))يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:


الأوَّلُ:

أنَّ المُرَادَ هَلاَكُ الدِّينِ،

وعَلَيْهِ يَكُونُ الْهَلاَكُ واقِعًا مُباشَرَةً مِن الغُلُوِّ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ الغُلُوِّ هَلاَكٌ.


الثاني:

أنَّهُ هَلاَكُ الأَجْسامِ،

وعَلَيْهِ يَكُونُ الغُلُوُّ سَبَبًا للهَلاَكِ؛ أيْ: إذا غَلَوْا خَرَجُوا عَن طَاعَةِ اللهِ فَأَهْلَكَهُم اللهُ.


وهلِ الحَصْرُ في قولِهِ:

((فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَان قَبْلَكُم الغُلُوُّ))حَقِيقِيٌّ أوْ إِضَافِيٌّ؟


الجَوَابُ:

إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، حَصَلَ إِشْكَالٌ وهوَ أنَّهُ هناكَ أَحَادِيثُ أضافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الهَلاَكَ فيها إلى أَعْمَالٍ غيرِ الغُلُوِّ.
مثلُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
((إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ)) فهنا حَصْرَانِ مُتَقَابِلاَنِ، فإذَا قُلْنَا: إِنَّهُ حَقِيقِيٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ هَلاَكَ إِلاَّ بِهَذا حَقِيقَةً، صَارَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ تَنَاقُضٌ.


وإنْ قيلَ:

إِنَّ الحَصْرَ إِضَافِيٌّ، أيْ: باعْتِبَارِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فإنَّهُ لاَ يَحْصُلُ تَنَاقُضٌ بِحَيْثُ يُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى جِهَةٍ لاَ تُعَارِضُ الَحدِيثَ الآخَرَ، لِئَلاَّ يكُونَ في حَدِيثِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَنَاقُضٌ، وحينَئذٍ يكُونُ الحَصْرُ إِضَافيًّا.
فيُقَالُ: أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم الغُلُوُّ، هذا الحَصْرُ باعْتِبَارِ الغُلُوِّ في التَّعَبُّدِ في الحَدِيثِ الأوَّلِ، وفي الآخَرِ يُقَالُ: أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم باعْتِبَارِ الحُكْمِ، فيَهْلِكُ النَّاسُ إذا أَقَامُوا الحَدَّ عَلَى الضَّعِيفِ دُونَ الشَّرِيفِ.


وفي هذا الحَدِيثِ يُحَذِّرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أُمَّتَهُ مِن الغُلُوِّ،

ويُبَرْهِنُ عَلَى أنَّ الغُلُوَّ سَبَبٌ للهَلاَكِ؛ لأنَّهُ مُخَالِفٌ للشَّرْعِ، ولإِهْلاَكِهِ للأُمَمِ السَّابِقَةِ.


فيُسْتَفَادُ منهُ تَحْريمُ الغُلُوِّ مِنْ وجْهَيْنِ:

الوجْهُ الأَوَّلُ:

تَحْذِيرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والتَّحْذِيرُ نَهْيٌ وزِيادَةٌ.


الوجْهُ الثَّانِي:

أنَّهُ سَبَبٌ لِإِهْلاَكِ الأُمَمِ كَمَا أَهْلَكَ كلَّ مَنْ قبلَنا، ومَا كَانَ سَبَبًا للَهَلاَكِ كانَ مُحَرَّمًا.
والنَّاسُ في العِبَادَةِ طَرَفَانِ ووَسَطٌ:
فَمْنْهم المُفْرِطُ، ومنهم المُفرِّطُ، ومنهم المُتَوسِّطُ.
فدِينُ اللهِ بَيْنَ الغَالِي فيهِ والجَافِي عنه،
وكونُ الإنسانِ مُعْتَدلاً لاَ يَمِيلُ إِلَى هذا ولاَ إلى هذا، هذا هوَ الواجِبُ، فَلاَ يَجُوزُ التَّشَدُّدُ في الدِّينِ والمُبَالَغَةُ، ولاَ التَّهَاونُ وعَدَمُ المُبَالاَةِ، بلْ كُنْ وسَطًا بَيْنَ هذا وهذا.


(14)

قولُهُ: ((المُتَنَطِّعُونَ)) المُتَنَطِّعُ:هوَ المُتَعَمِّقُ المُتَقَعِّرُ المُتَشَدِّقُ، سَواءٌ كَانَ في الكَلاَمِ أوْ في الأفعالِ، فهوَ هَالِكٌ حَتَّى ولوْ كَانَ ذلكَ في الأقوالِ المُعْتادةِ.


(15)

فيهِ مَسائِلُ:

الأُولَى:

(أنَّ مَنْ فَهِمَ هذا البابَ) أيْ: بِمَا مَرَّ مِنْ تَفْسِيرِ الآيَةِ الكَرِيمةِ: { وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }- وبَابَيْنِ بعدَهُ تَبَيَّنَ لهُ غُرْبَةُ الإسْلاَمِ.
وهذا حقٌّ، فإنَّ الإسْلاَمَ المَبْنِيَّ على التَّوْحيدِ الخَالِصِ غَرِيبِ.


(16)

الثَّانِيَةُ:

(مَعْرِفَةُ أوَّلِ شِرْكٍ حَدَثَ في الأَرْضِ) وجْهُ ذلكَ: أنَّ هذه الأَصْنامَ التي عَبَدَها قَوْمُ نُوحٍ كَانُوا أَقْوامًا صَالِحِينَ، فَحَدَثَ الغُلُوُّ فيهم، ثُمَّ عَبَدُوهم مِنْ دونِ اللهِ، ففيهِ الحَذَرُ مِن الغُلُوِّ في الصَّالِحِينَ.


(17)

الثَّالِثَةُ:

(مَعْرِفَةُ أوَّلِ شيءٍ غُيِّرَ بهِ دِينُ الأَنْبياءِ) ومَا سَبَبُ ذلكَ، مَعَ مَعْرِفَةِ أنَّ اللهَ أَرْسَلَهُم.
أوَّلُ شيءٍ غُيِّرَ بهِ دِينُ الأنبياءِ هوَ الشِّرْكُ، وسَبَبُهُ هوَ الغُلُوُّ في الصَّالِحِينَ.
وقولُهُ: (مَعَ مَعرِفةِ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُم) قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أيْ: كَانُوا أُمَّةً واحِدَةً عَلَى التَّوْحِيدِ فاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَذَا أوَّلُ مَا حَدَثَ مِنَ الشِّركِ في بَنِي آدَمَ.


(18)

الرابعةُ:

(قَبُولُ البِدَعِ معَ كَوْنِ الشَّرَائعِ والفِطَرِ تَرُدُّها).


قولُهُ: (قَبُولُ البِدَعِ) أيْ: أنَّ النُّفُوسَ تَقْبَلُها لاَ لأنَّها مَشْرُوعَةٌ، بَلْ إنَّ الشَّرَائِعَ تَرُدُّها، وكذلكَ الفِطَرُ السَّلِيمَةُ تَرُدُّها؛ لأَِنَّ الفِطَرَ السَّلِيمَةَ جُبِلَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } فالفِطَرُ السَّلِيمَةُ لاَ تَقْبَلُ تَشْرِيعًا إِلاَّ مِمَّنْ يِمْلِكُ ذلِكَ.


(19)

الخامِسةُ:

(أنَّ سَبَبَ ذلكَ كُلِّهِ مَزْجُ الحَقِّ بالباطِلِ) أَرَادَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ مَزْجَ الحَقِّ بالباطِلِ حَصَلَ بِأَمْرَيْنِ:


الأوَّلُ:

(مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ) ولِهَذا صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُم مَحَبَّةً لَهُم، ورَغْبَةً في مُشَاهَدَةِ أَشْبَاحِهِم.


الثاني:

(أنَّ أَهْلَ العِلْمِ والدِّينِ أَرَادُوا بذلكَ خَيْرًا) وهُوَ أنْ يَنْشَطُوا عَلَى العِبَادَةِ، ولَكِنَّ مَنْ بعدَهم أَرَادُوا شَرًّا غيرَ الخَيْرِ الذي أَرَادَهُ أولئِكَ، ويُؤْخَذُ مِنْهُ: أنَّ مَنْ أَرَادَ تَقْوِيَةَ دِينِهِ ببدعةٍ فإنَّ ضَرَرَها أكثرُ مِنْ نَفْعِها.


مثالُ ذلكَ: أولئكَ الذينَ يَغْلُونَ في الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ،

ويَجْعَلُونَ لهُ المَوالِدَ، وهُم يُرِيدُونَ بذلكَ خَيْرًا، لَكِنْ أَرَادُوا خَيْرًا بِهَذِهِ البِدْعَةِ فَصَارَ ضَرُّها أَكْثرَ مِنْ نفعِها؛ لأنَّها تُعْطِي الإنسانَ نَشَاطًا غيرَ مَشْرُوعٍ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ فُتُورٌ غَيرُ مشروعٍ في بَقِيَّةِ العَامِ.
ولهذا تَجِدُ هؤلاءِ الذينَ يُغَالُون في هذه البِدَعِ فَاتِرِينَ في الأُمُورِ المَشْرُوعَةِ الوَاضِحَةِ ليسوا كنَشَاطِ غَيْرِهم، وهذا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِ البِدَعِ في القُلُوبِ، وأنَّها مَهْمَا زيَّنَها أَصْحَابُها لاَ تَزِيدُ الإنْسَانَ إِلاَّ ضَلاَلاً؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ:
((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)).


(20)

السادسةُ:

(تَفْسيرُ الآيَةِ التي في سُورَةِ نُوحٍ) وقَدْ سَبَقَ ذلِكَ وبيانُ أنَّهم يَتَوَاصَوْنَ بالبَاطِلِ، وهذا خِلاَفُ طَرِيقِ المُؤْمِنينَ الذينَ يَتَوَاصَوْنَ بالحَقِّ والصَبْرِ والمَرْحَمَةِ، ويُشْبِهُهُم أَهْلُ البَاطِلِ والضَلاَلِ الذينَ يَتَوَاصَوْنَ بِمَا هُم عَلَيْهِ، سَواءٌ كَانُوا رُؤَسَاءَ سِيَاسِيِّينَ أوْ رؤساءَ دِينِيِّينَ يَنْتَسِبونَ إلى الدِّينِ، فتَجِدُ الواحِدَ مِنْهم لاَ يَمُوتُ إِلاَّ وقَدْ وَضَعَ لَهُ رَكِيزَةً مِنْ بعدِهِ يُنَمِّي هذا الأمرَ الذي هُوَ عَلَيْهِ.


(21)

السَّابِعَةُ:

(جِبِلَّةُ الآدَمِيِّ في كَوْنِ الحَقِّ يَنْقُصُ في قَلْبِهِ والباطِلِ يَزِيدُ) هذه العِبَارَةُ تُقَيَّدُ مِنْ حيثُ كونُهُ آدَمِيًّا بقَطْعِ النَّظَرِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، فإنَّ اللهَ يَقُولُ: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }.
قولُهُ: (جِبِلَّةُ) عَلَى وَزْنِ فِعِلَّة، وهوَ مَا يُجْبَلُ المَرْءُ عَلَيْهِ أيْ: يُخْلَقُ عَلَيْهِ ويُطْبَعُ ويُبْدَعُ، بِمَعْنَى الطَّبِيعَةِ التي عَلَيْها الإنْسَانُ مِنْ حيثُ هوَ إِنْسانٌ، بقَطْعِ النَّظرِ عَنْ كونِهِ زَكَّى نَفْسَهُ أوْ دَسَّاها.


(22)

الثَّامِنَةُ:

(فيهِ شَاهِدٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ أنَّ البِدَعَ سَبَبُ الكُفْرِ) قالَ أهلُ العلمِ: إنَّ الكُفْرَ لَهُ أسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ ولاَ مَانِعَ أنْ يَكُونَ للشَّيْءِ الوَاحِدِ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، ومِنْ ذلِكَ الكُفْرُ، ذَكَرُوا مِنْ أَسْبَابِهِ البِدْعَةَ.
وقَالُوا:(إنَّ البِدْعَةَ لاَ تَزَالُ في القَلْبِ يُظْلِمُ منها شيئًا فشيئًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى الكُفْرِ) واسْتَدَلُّوا بقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وكُلُّ ضَلاَلَةٍ في النَّارِ)).


(23)

التَّاسِعَةُ:

(مَعْرِفَةُ الشَّيْطَانِ بِمَا تَؤُولُ إليهِ البِدْعَةُ ولوْ حَسُنَ قَصْدُ الفَاعِلِ) لأنَّ الشَّيْطانَ هوَ الذي سَوَّلَ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ أنْ يُصَوِّرُوا هذه التَّمَاثيلَ والتَّصَاوِيرَ؛ لأنَّهُ يَعْرِفُ أنَّ هذه البِدْعَةَ تَؤُولُ إلى الشِّرْكِ.
وقولُهُ: (ولَوْ حَسُنَ قَصْدُ الفَاعِلِ) أيْ:
أنَّ البِدْعَةَ شَرٌّ ولوْ حَسُنَ قَصْدُ فَاعِلِهَا، ويَأْثَمُ إنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّها بِدْعَةٌ ولوْ حَسُنَ قَصْدُهُ؛ لأَِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى المَعْصِيَةِ، كَمَنْ يُجِيزُ الكَذِبَ والغِشَّ ويدَّعِي أنَّهُ مَصْلَحَةٌ، أمَّا لوْ كانَ جَاهِلاً فإنَّهُ لاَ يَأْثَمُ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ المَعَاصِي لاَ يَأْثَمُ بِهَا إِلاَّ مَعَ العِلْمِ، وَقَدْ يُثابُ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِ، وقَدْ نبَّهُ عَلَى ذلِكَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في كِتَابِهِ (اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ): (فيُثَابُ عَلَى نيَّتِهِ دِونَ عَمَلِهِ، فعَمَلُهُ هذا غَيْرُ صَالِحٍ ولاَ مَقْبُولٍ عِنْدَ اللهِ ولاَ مَرْضِيٍّ لكنْ لحُسْنِ نيَّتِهِ مَعَ الجَهْلِ يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ، ولِهَذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للرَّجُلِ الذي صَلَّى وأَعَادَ الوُضُوءَ بَعْدَما وَجَدَ الماءَ وصَلَّى ثانيَةً: ((لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ)) لحُسْنِ قَصْدِهِ؛ ولأنَّ عمَلَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ في الأَصْلِ، لكنْ لوْ أَرَادَ أَحَدٌ أنْ يَعْمَلَ العَمَلَ مَرَّتَيْنِ - مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ غَيرُ مَشْرُوعٍ - لَمْ يكنْ لَهُ أَجْرٌ؛ لأَِنَّ عَمَلَهُ غيرُ مشروعٍ لكونِهِ خِلاَفَ السُّنَّةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للذي لَمْ يُعِدْ: ((أَصَبْتَ السُّنَّةَ))).


(24)

العَاشِرَةُ:

(مَعْرِفَةُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ وهيَ النَّهْيُ عَنِ الغُلُوِّ ومَعْرِفَةُ ما يَؤُولُ إليهِ) هذا ما حَذَّرَ منهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ لأَِنَّ الغُلُوَّ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ، وهُوَ كَمَا يكونُ في العِبَادَاتِ يكونُ في غيرِها.
- قَالَ تَعَالَى:
{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا }.

-

وقَالَ: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } وقَدْ سَبَقَ بيانُ ذلِكَ.


(25)

الحَادِيَةَ عشرةَ:

(مَضَرَّةُ العُكُوفِ عَلَى القَبْرِ مِنْ أَجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ) المَضَرَّةُ الحَاصِلَةُ: هيَ أَنَّها تُوصِلُ إلى عِبَادَتِهِم.


(26)

الثانيَةَ عشرةَ:

(مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَاثِيلِ والحِكْمَةِ في إِزَالِتِها) التماثيلُ: هِيَ الصُّورُ عَلَى مثالِ رَجُلٍ، أوْ حَيَوَانٍ، أوْ حَجَرٍ، والغَالِبُ أنَّها تُطْلَقُ عَلَى مَا صُنِعَ ليُعْبَدَ مِنْ دونِ اللهِ، والحِكْمَةُ في إِزَالِتِها سَدُّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ.


(27)

الثالثةَ عشرةَ:

(مَعْرفةُ عِظَمِ شأنِ هذه القِصَّةِ) أيْ: قِصَّةِ هؤلاءِ الذينَ غَلَوْا في الصَّالِحِينَ وغَيْرِ الصَّالِحِينَ لكن اعْتَقَدُوا فيهم الصَّلاَحَ، حَتَّى تَدَرَّجَ بِهم الأمرُ إلى عِبَادَتِهم مِنْ دونِ اللهِ، فتَجِبُ مَعْرِفةُ هذه القِصَّةِ، وأنَّ أمْرَ الغُلُوِّ عَظِيمٌ، ونَتَائِجَهُ وخِيمَةٌ، فالحَاجَةُ شديدةٌ إلى ذلِكَ، والغَفْلَةُ عنها كثيرةٌ، والنَّاسُ لوْ تَدَبَّرْتَ أَحْوالَهم، وسَبَرَتْ قُلُوبَهم وجَدَتْ أنَّهم في غَفْلَةٍ عَنْ هذا الأَمْرِ، وهذا مَوْجُودٌ في البِلاَدِ الإسْلاَمِيَّةِ.


(28)

الرابعةَ عشرة:

(وهِيَ أَعْجَبُ العَجَبِ: قَرَاءتُهم إِيَّاهَا في كُتُبِ التفسيرِ والحديثِ)
قولُهُ: (وأعْجَبُ) أيْ: أكثرُ عجبًا وأشدُّ.


والعَجَبُ نوعانِ:

الأوَّلُ:

بمعنى الاسْتِحْسَانِ، وهوَ مَا إِذَا تَعَلَّقَ بِمَحْمُودٍ كَقَوْلِ عَائِشَةَ في الحَدِيثِ: (كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ في تَنَعُّلِهِ وتَرَجُّلِهِ وطُهورِهِ، وفي شَأْنِهِ كُلِّهِ).


الثَّانِي:

بِمَعْنَى الإنْكَارِ، وذلِكَ فِيمَا إِذَا تَعَلَّقَ بِمَذْمُومٍ، قَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وكَلاَمُ المُؤَلِّفِ هنا مِنْ بابِ الإنْكَارِ.
وكَلاَمُ
المُؤَلِّفِ هنا عَمَّا كَانَ في زَمَنِهِ حَيْثُ غَفَلُوا عَنْ هذهِ القِصَّةِ مَعَ قِرَاءَتِهم لَهَا في كُتُبِ التَّفْسِيرِ والحَدِيثِ.
قولُهُ: (فاعْتَقَدُوا أنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عنه هوَ الكُفْرُ المُبِيحُ للدَّمِ والمَالِ) أيْ: مَن اعْتَقَدَ أنَّ الشِّرْكَ والكُفْرَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ وأنَّهُ مُقَرِّبٌ إلى اللهِ فَهَذَا كُفْرٌ مُبِيحٌ لِدَمِهِ ومَالِهِ، هَذَا مَا أَرَادَ
المُؤَلِّفُ، وإنْ كَانَ لاَ يُسْعِفُهُ ظَاهِرُ كَلاَمِهِ، ثُمَّ بَدَا لي مَا لَعَلَّهُ المرادُ: أنَّ هؤلاءِ الغَالِينَ اعْتَقَدُوا أنَّ المَنْهِيَّ عنه هوَ الكُفْرُ المُبِيحُ للدَّمِ والمَالِ، وأمَّا مَا دونَهُ مِن الغُلُوِّ فَلاَ نَهْيَ فيهِ، واللهُ أعْلَمُ.


(29)

الخامسةَ عشرةَ:

(التَّصْرِيحُ بأنَّهم لَمْ يُرِيدُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ) أيْ: مَا أَرَادُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ ومَعَ ذلكَ وقَعُوا في الشِّرْكِ.


(30)

السادسةَ عشرةَ:

(ظَنُّهم أنَّ العلماءَ الذينَ صَوَّرُوا الصُّوَرَ أَرَادُوا ذلِكَ) أيْ: أَرَادُوا أنْ تَشْفَعَ لَهُم، بَلْ ظَنُّوا أَنَّها تُنَشِّطُهم عَلَى العِبَادَةِ، وهذا ظَنٌّ فَاسِدٌ كَمَا سَبَقَ.


(31)

السابعةَ عشرةَ: (البيانُ العَظِيمُ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:

((لاَ تَطْرُونِي..))الحديثَ) و مَعْنَى الإطْرَاءِ: الغَلُوُّ في المَدْحِ، والمُبَالَغَةُ فيهِ، وهذا الذي نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَقَعَ فيهِ بَعْضُ هذِهِ الأُمَّةِ، بَلْ أَشَدَّ حَتَّى جَعَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المَرْجِعَ في كُلِّ شَيْءٍ، وهذا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى: المَسْيحُ ابنُ اللهِ وثَالِثُ ثَلاَثَةٍ.
ومعنى:
(بَلَّغَ) أيْ: أَوْصَلَ وبَيَّنَ.


(32)

الثامنةَ عشرةَ:

(نَصِيحَتُهُ إِيَّانَا بِهَلاَكِ المُتَنَطِّعِينَ) وذلِكَ بقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) فَلَمْ يُرِدْ مُجَرَّدَ الخَبَرِ، ولكن التَّحْذِيرَ مِن التَّنَطُّعِ.


(33)

التاسعةَ عشرةَ:

(التَّصْرِيحُ بأَنَّها لَمْ تُعْبَدْ حَتَّى نُسِيَ العِلْمُ) أيْ: لَمْ تُعْبَدْ هذه التماثيلُ إِلاَّ بعدَ أنْ نُسِيَ العِلْمُ واضْمَحَلَّ، ففيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ وُجُودِهِ -أي: العِلْمِ- وأنَّ وُجُودَهُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ للأُمَّةِ؛ لأنَّهُ إذا فُقِدَ العِلْمُ حَلَّ الجَهْلُ مَحَلَّهُ، وإذا حَلَّ الجَهْلُ فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حَالِ النَّاسِ فَسَوْفَ لاَ يَعْرِفُونَ كيفَ يَعْبُدُونَ اللهَ، ولاَ كيفَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ.


(34)

العشرونَ:

(أنَّ سَبَبَ فَقْدِ العِلْمِ موتُ العُلَمَاءِ) فهذا مِنْ أَكْبَرِ الأسْبابِ لفَقْدِ العِلْمِ، فإذا مَاتَ العُلَمَاءُ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ جُهَّالُ الخَلْقِ يُفْتُونَ بغيرِ عِلْمٍ.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم: هو الغلو في الصالحين


هذا الباب جاء بعد الأبواب قبله، من أول الكتاب إلى هنا،

والشيخ -رحمه الله- بَيَّن أصولاً في ما سبق.

- بيَّن شيئاً من البراهين على التوحيد.

- وبيّن ما يتعلق به المشركون؛ وأبطل أصول اعتقادهم بالشريك، أو الظهير، أو الشفيع ونحو ذلك؛ فإذا كان هذا الاعتقاد مع ما أُورد من النصوص بهذه المثابة من الوضوح والبيان؛ وأن النصوص دالة على ذلك دلالة واضحة، فكيف إذاً: دخل الشرك؟

كيف صار الناس إلى الشرك بالله جل وعلا، والأدلة على انتفائه، وعلى عدم جوازه، وعلى بطلانه: واضحة ظاهرة؟


وأن الرسل جميعاً بُعثت ليُعبد الله وحده دون ما سواه:

{ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} فما سبب الغواية؟


ما سبب الشرك؟
هذا الذي بُيِّن من أوضح الواضحات، الأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على إحقاق عبادة الله وحده، وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله -جل جلاله- وتقدّست أسماؤه، فإذاً: ما سبب وقوع الشرك؟

كيف وقع الشرك في الأمم؟
جاء الشيخ -رحمه الله- بهذا الباب، وما بعده؛ ليُبين أن سبب الشرك، وسبب الكفر: هو الغلوّ، الذي نهى الله -جل وعلا- عنه،؛ ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء في هذه الأمة أو في الأمم من قبل، فسبب وقوع الكفر والشرك: هو الغلوّ في الصالحين.
هذا أحد أسباب وقوع الكفر والشرك، بل هو سببها الأعظم.
قال هنا: (الغلوّ: هو الغلوّ في الصالحين) الغلوّ: مأخوذ من غلا في الشيء، يغلو غلوّاً: إذا جاوز به حده، وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رمى الجمرات بحصيات، قال:

((بمثل هذه فارموا، وإياكم والغلوّ)) يعني: مجاوزة الحدّ حتى في حجم تلك الحصاة، وفي مقدار الحصى.

قال: ((بمثل هذه فارموا)) فإذا جاوز في المثلية بأن رمى بكبيرة، فإنه قد غلا، يعني: جاوز الحدّ الذي حُدّ له في ذلك، فإذاً: الغلو هو مجاوزة الحد.

قال هنا: (الغلو في الصالحين) معناه: أن سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم الذي أمرهم الله به: هو مجاوزة الحد الذي أُذن به في الصالحين.

والصالحون: يشمل الأنبياء، والرسل.

-

ويشمل أيضاً الأولياء.

-

ويشمل كل من اتصف بالصلاح في الأمم.

وأصل كلمة الصالحون، أصلها: جمع الصالح، والصالح: هو اسم من قام به الصلاح، والصلاح في الكتاب والسنة:

-

تارةً يكون بمعنى نفي الفساد، ما يقابل الفساد.

- وتارة يكون بمعنى ما يقابل السيئات، فيقال: (صالح) بمعنى: ليس بذي فساد.

ويقال أيضاً:

(صالح) بمعنى: ليس بسيئٍ، فهذا جاء وهذا جاء، والصالحون هنا: المراد بهم: أهل الصلاح، يعني أهل الطاعة والإخلاص لله جل وعلا، الذين اجتنبوا الفساد؛ واجتنبوا السيئات، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات وترك المحرمات؛ أو كانوا من السابقين بالخيرات.


فاسم الصالح يقع شرعاً على:
-

المقتصد.

-

وعلى السابق بالخيرات.

فالمقتصد صالح؛ والسابق بالخيرات صالح، وكلٌ درجاتٌ عند الله جل وعلا.

قال: (هو الغلو في الصالحين) يعني: مجاوزة الحد في الصالحين، ما هو الحد الذي أذن به الشرع في الصالحين، حتى نعلم ما الذي يكون مجاوزة له؟

الصالحون: أُذن في حقهم بأن يُحَبّوا في الله؛

وأن يُوَقَّروا في الله؛ وأن يُقتَدى بهم في صلاحهم وفي علمهم، وإذا كانوا من الرسل والأنبياء، فإنهم يؤخذ بشرائعهم وبما أمروا به ويتبع ذلك، ويقتدى بآثارهم، هذا هو الحد الذي أُذن به: احترامٌ، ومحبةٌ، وموالاةٌ لهم، ودفعٌ عنهم، ونُصْرة لهم، ونحو ذلك من المعاني.


أما الغلو فيهم بأن يُجاوز ذلك الحد فهو بحر لا ساحل له،

فمما حصل من الغلو فيهم: أنهم جُعلت فيهم خصائص الإلهية، جُعل في بعض البشر أنه يعلم سر اللوح والقلم؛ وأنه من جُوده الدنيا وضُرَّتها؛ كما قال البوصيري في قصيدته المشهورة:

فإن من جُودك الدنيا وضرتها ومـن علومك

علم اللوح والقلم

وهذا ليس إلا لله جل وعلا، هذا من الغلو المنهي عنه.

كذلك:

قوله في النبي -عليه الصلاة والسلام- غالياً فيه أعظم الغلو، قال:

لـــونــاســبــتْ قــَدْرَه آيــاتــُه عِظَماً أحيا اسمه حين يُدعى دارسَ الرِّمَمِ

يقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يُعط آيةً تناسب قدْره.


قال الشُرَّاح:

حتى القرآن لا يناسب قدْر النبي صلى الله عليه وسلم -والعياذ بالله- يقولون: القرآن المتلو بخلاف غير المتلو عند الأشاعرة؛ لأنهم يُفرقون بين هذا وهذا، فهذا البوصيري يغلو ويقول: (لو ناسبت قدْره) يعني: النبي عليه الصلاة والسلام، لو ناسبت قدره آياتُه عِظماً، يعني: في العظمة، أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم، لكان لا يناسب قدره إلا إذا ذكر اسمه على مَيْتٍ قد دَرَسَ؛ وذهب رميمه في الأرض؛ وذهبت عظامه، لتجمعت هذه العظام وحَييَ لأجل ذكر اسم النبي -صلى الله عليه وسلم عليه-.


وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله جل وعلا؛

ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل، ويجعلون في حقهم من خصائص الألوهية ما لا إِذْنَ لهم به، بل هو من الشرك الأكبر بالله جل وعلا ومن سوء الظن بالله، ومن تشبيه المخلوق بالخالق، وهذا كفرٌ والعياذ بالله، يُقابل ذلك: هناك حد مأذون به، وهناك غلو.


والحالة الثالثة:

الجفاء، الجفاء في حق الصالحين:

-

وهذا بعدم موالاتهم.

-

وعدم احترامهم.

-

وعدم إعطاءهم حقهم.

-

وترك محبة الصالحين، فكل تقصير في الأمر يعد جفاء؛ وكل زيادة فيه يُعدُّ غلوّاً.

- قوله: {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم}مناسبته للباب ظاهرة، أي: أنه نهى أهل الكتاب عن الغلو، فقال: {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم}ووجه الاستدلال: أنه قال: {لا تغلو} وتغلو هنا: فعل جاء في سياق النهي، وهذا يعم جميع أنواع الغلو في الدين {لا تغلوا في دينكم} يعني: لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين، فنهوا عن أي نوع من أنواع الغلو، هذا موطن الشاهد، ووجه الاستدلال من الآية على الحديث، وإذا كان كذلك، دَخل في هذا العموم الغلو في الصالحين.

والمتأمل لحال أهل الكتاب؛ ولِمَا قصّ الله -جل وعلا- من أخبارهم: يَجد أنهم قد غلوا في صالحيهم.

- قد غلا النصارى في عيسى عليه السلام.

-

وفي أمّه.

- وفي حوارييه.

وقد غلا اليهود أيضاً في عزير.

-

وفي أصحاب موسى.

- وفي أحبارهم.
- وفي رُهبانهم، وهكذا.

فحصل الغلو من أهل الكتاب: تارة بأن جعلوا الرسل والأنبياء لهم خصائص الألوهية من جهة التوجه لهم،

وقد قال الله جل وعلا: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله، فقد حرّم الله عليه الجنة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار(72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}.

- وفي آخر سورة المائدة أيضاً، قال الله جل وعلا: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله، قال سبحانك} يعني: تنزيهاً وتعظيماً لك أن أقول لهم ذلك، وذلك من الشرك، فكيف أقول لهم ذلك؟

قال: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علاّم الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، أن اعبدوا الله ربي وربكم} وهذا كله في التوحيد.

فحصل أن غلا أتباع الرسل، وأتباع الأنبياء في الأنبياء والرسل؛ وغلو أيضاً في الصالحين من أتباعهم؛ وجعلوا لهم بعض خصائص الإلهية:
-

جعلوا لهم الشفاعة.

-

جعلوا لهم أن لهم نصيباً من الملك.

- أو أنهم يُدبرون الأمر.

- أو أنهم يُصرّفون شيئاً من الملكوت.

فيعتقد الآن بعض الصوفية: أن للكون أقطاباً أربعة؛ وأن ربما في ربع العالم المسؤول عنه فلان، وفي الربع الثاني المسؤول عنه فلان، إلى آخره.
-

فجعلوا لهم نصيباً من الملك.

- جعلوا لهم نصيباً من الربوبية.

- وجعلوا لهم أيضاً نصيباً من الإلهية، فتقربوا إليهم بأنواع القربات من:

-

الذبح.

-

والاستغاثة.

-

والتذلل.

-

والخضوع.

- والمحبة.

- والتوكل.

- والرَّغَب.
- والرَّهَب.
- وخوف السر، إلى آخر أنواع العبادات القلبية والعملية.
قال رحمه الله:

(في (الصَّحيحِ) عَنِ ابنِ عَبّاسٍ رضيَ الله عَنْهُما، في قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وقد أضلُّوا كثيراً}قالَ: هَذِهِ أَسْماءُ رِجالٍ صالِحينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلمّا هَلَكوا أَوْحَى الشَّيطانُ إلى قَوْمِهِمْ،...).

هذه القصة أو هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما: محمول على الرفع؛ لأن هذا خبر غَيْبِي، وهذا الخبر الغَيْبِي فيه أنه لا يُستقى إلا من مشكاة النبوة؛ وود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، نوح -عليه السلام- أتى بالرسالة بأن يُعبد الله وحده دون ما سواه، بالتوحيد.

فكيف دخل الشرك في قوم نوح؟

في القرآن ذكرٌ لأصلين من أصول الشرك، وثَم غيرهما أيضاً:

الأصل الأول:

شرك قوم نوح.


والأصل الثاني:

شرك قوم إبراهيم.


وشرك قوم نوح: كان بالصالحين، بالغلو في الصالحين وأرواح الصالحين، فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح، وأثر تلك الروح، وأن من تعلّق به: فإنه يشفع له، ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى:

- الصور.

- والأنصاب.

- والأوثان.

- والأصنام.


والنوع الثاني:

شرك قوم إبراهيم،

وذلك شرك في تأثير من جهة النظر في الكواكب ومن يؤثر ويُحرك، فهذا شرك في الربوبية، وما تبعه من الشرك في الألوهية؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناماً؛ وجعلوا لها صوراً؛ وجعلوها أوثاناً، فعبدوها من دون الله -جل وعلا- وتوجهوا إليها.
- وأما قوم
نوح: فكان شركهم في الصالحين، في الغلو في الصالحين.
كما قال
ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا الشرك: (فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم.
ففعلوا، ولم تُعبَد، حتى إذا هلك أولئك؛ ونُسي العلم: عُبدَت)
.
قالَ
ابنُ القيِّمِ: (قالَ غَيرُ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ: لما مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِم؛ ثُمّ صَوّروا تَماثِيلَهُمْ؛ ثُمّ طالَ عَلِيْهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدوهُمْ).


الشاهد من هذا:

أن أولئك توجهوا إلى الصور؛ صور الصالحين، فكانوا أهل علم، يعلمون أنهم إذا اتخذوا الصور فإنهم لن يعبدوها، لكن كانت الصور تلك للصالحين والمعظمين: وسيلة، وطريق، وسبب لأنْ عُبدت في المستقبل لما نُسي العلم، والشيطان ربما أتى إلى الصورة فجعل في عيني الناظر إليها، أو المخاطب لها: أنها تتحدث؛ وأن فم المصوَّر يتكلم؛ وأنه يُسمع منه كلام؛ ونحو ذلك من الأشياء، وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الروحانيات -كما يقول- وتلك الأرواح، فيُغرى أولئك بهم، وهذا هو الذي حصل عند القوم الذين عكفوا على القبور؛ وعبدوا أهلها مع الله جل وعلا.
يأتي ويقول:
(ذهبت إلى القبر الفلاني فكلمني أبي)وهو شيطان نطق على لسان أبيه، وربما تصوّر بصورة أبيه؛ فخرج له في ظلام ونحوه، فيُحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه؛ أو يُحدثه العالم، أو الولي بصوته الذي يعرفه منه، فتقع الفتنة وهذا من الشيطان.
ولهذا قال
ابن عباس هنا كلمة تبين السبب في ذلك، فقال: (أوحى الشيطان إلى قومهم)والوحي: إلقاء في خفاء، الشيطان ما يتحدث علناً.
(لكن أوحى) يعني: ألقى في خفاء.


الوحي:

هو إلقاء الخبر في خفاء.


(فألقي في روعهم):

ألقى في أنفسهم ذلك الأمر، فكان سبباً للشرك بالله جل وعلا، أول الأمر ما عُبدت.
جُعلت وسائل الشرك من الصور، والأنصاب، والتسمية بأسماء الصالحين؛ وكان ذلك وسيلة إلى الشرك، لم تعبد، جعلوا الوسائل، لكن عندهم من العلم ما يحجزهم عن أن يعبدوا أولئك الصالحين، لكن لما نُسي العلم عُبدت، وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان: كان من الغلو في أولئك الصالحين، وهذا وجه الشاهد من أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم؛ أو صوروا تلك الصور؛ أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم ليتذكروهم، وليكون أنشط لهم في العبادة أو العلم؛ ولكنهم لما فعلوا ذلك كان ذلك سبباً من أسباب العبادة؛ لأنهم غلو في الصالحين، وهذا مراد
الشيخ -رحمه الله- من إيراد هذا الأثر.
قال: [وعن
عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))].
قوله:
((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)): فيه نهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام، والإطراء هو: مجاوزة الحد أيضاً في المدح، الغلو عام في أشياء كثيرة:


-

قد يكون في المدح.

-

قد يكون في الذم.

-

قد يكون في الفهم.

-

قد يكون في العلم.

-

قد يكون في العمل.


لكن الإطراء:

-الغلو في المدح.

-

الغلو في الثناء.

-

الغلو في الوصف.

والنبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن إطرائه كإطراء النصارى ابن مريم، وقال: ((إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).

قوله هنا: ((كما أطرت النصارى ابن مريم)) (الكاف) هنا، بعض الناس يظن أنها (كاف) المِثلية، يعني: لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم، ويقول: إن النصارى أطرت ابن مريم في شيء واحد، وهو أن قالوا: إنه ولدٌ لله جل وعلا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- نهى أن تجعل له رُتبة البنوة، فإذا كان كذلك، ما عداه فجائز؛ وهذا هو قول الخرافيين؛ كما قال البوصيري في هذا المقام:


دع ما ادّعــتــه الــنـصـارى فـي نـبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

يعني:

لا تقل إنه ولد لله؛ أو أنه ابن الله، وبعد ذلك قل ما شئت غير ملوم وغير مثرّب عليك.


الوجه الثاني:

وهو الفهم الصحيح،

وهو الذي يدل عليه السياق: أن (الكاف) هنا: هي كاف القياس، أي: لا تطروني إطراءً، كما أطرت النصارى ابن مريم، وكاف القياس: هي كاف التمثيل الناقص؛ بأن يكون هناك شَبَه بين ما بعدها وما قبلها في أصل الفعل.
((لا تطروني كما أطرت)) فهنا: نهى أن يُطرى -عليه الصلاة والسلام- كما حصل أن النصارى أطرت، فهو تمثيل للحدث بالحدث، لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء.
قال:
((لا تطروني كما أطرت)) فنهى عن إطراءٍ له عليه الصلاة والسلام؛ لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم فقادهم ذلك إلى الكفر والشرك بالله؛ وادعاء أنه ولد لله جل وعلا، ولهذا قال: ((إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) فإذاً: (الكاف) هنا، ليست كاف التمثيل الكامل، بأن يكون ما بعدها مماثل لما قبلها تماماً يعني: في الوصف، وإنما هي كاف التمثيل الذي يكون ما بعده مُشْتَرِك مع ما قبله في المعنى، وهي القياسية التي تجمعها العلة، ولهذا يقول الفقهاء كما هو معلوم: هذا كذا كهذا، نقول مثلاً: (نبيذ غير التمر والعنب كنبيذ التمر والعنب) مساواة بين هذا وهذا لوجود أصل المعنى بينهما، وهنا نهي عن الإطراء لأجل وجود أصل الإطراء في الاشتراك بين إطراء النصارى وما سبَّبَه من الشرك، وإطراء ما لو أطري النبي -صلى الله عليه وسلم- وما سيسببه من الشرك.


والأمة في كثير من طوائفها خالفت ذلك،

وأطرت النبي -صلى الله عليه وسلم- إطراءً، حتى بلغ:

- أن جعلوا من علومه علم اللوح والقلم.

- وأن جعلوا من جوده الدنيا وضرتها.

- وأن جعلوا له من الملك نصيباً عليه الصلاة والسلام، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً، أرشدهم بقوله: ((إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) وهذا هو الكمال في حقه عليه الصلاة والسلام: أن يكون رسولاً، هذا أشرف مقاماته عليه الصلاة والسلام.


هذا نهي عن الغلو بأنواعه،

وأن من قبلنا إنما أهلكهم الغلو، أهلكهم من جهة الدين، وأهلكهم أيضاً من جهة الدنيا، أنهم غلو في دينهم، فالغلو سبب لكل شر، والاقتصاد سبب في كل فلاح وخير، والغلو منهي عنه بجميع صوره في الأقوال والأعمال.

- أقوال القلب؛ وأعمال القلوب.

-

وكذلك أقوال اللسان؛ وأعمال الجوارح، فالغلو سبب للهلاك؛ هلاك العبد في دينه ودنياه.
قال: [
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((هلك المتنطعون))] هذه الكلمة ((هلك المتنطعون))يعني: الذين تنطعوا فيما يأتون به، في أفعالهم أو أقوالهم، وهم الذين جاوزوا الحد في ذلك؛ وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئاً لم يأذن به الله فزادوا عما أُذن لهم، فأتوا بأشياء لم يؤذن لهم فيها.


والتنطّع والإطراء والغلو: متقاربة يجمعها الغلو،

الغلو: يشمل الإطراء ويشمل التنطع، فكل تنطع وكل إطراءٍ غلو، والغلو اسم جامع لهذه جميعاً، فالشيخ -رحمه الله- في هذا الباب، بيّن أن سبب كفر بني آدم؛ وسبب تركهم دينهم: هو الغلو في الصالحين؛ بأن جاوزوا الحد فيهم، جاوز قوم نوح الحد في الصالحين فيهم، فعكفوا على قبورهم وألّهوها، فصارت آلهة.


والنصارى غلت في رسولهم

عيسى عليه السلام، وفي الحواريين، وفي البطارقة حتى جعلوهم آلهة مع الله جل وعلا: يستغيثون بهم؛ ويؤلهونهم؛ ويسألونهم؛ ويعبدونهم، وكذلك في هذه الأمة جُعل للنبي -عليه الصلاة والسلام- نصيب من خصائص الإله، وهذا هو عين ما نهى عنه -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) في هذا القدر كفاية. وأسأل الله لي ولكم عموم الانتفاع، والعلم والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.


سؤال: بعض أصحاب السيارات الخاصة كالليموزين، وسيارات النقل الكبيرة: يضعون على أطراف السيارة خرقاً سوداء اعتقاداً منهم بأنها حروز تمنعهم الحوادث، فهل نقوم بنزعها أو ماذا نفعل؟

جواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.


أما بعد:

إذا كان الأمر كما وصفه السائل، من جهة وضع تلك الشارات أو الخرق، ومن جهة اعتقاد أهلها فيها، فيجب نزعها، ومن نزعها فله فضل نزع التمائم من أماكنها؛ أو تخليص أصحابها منها، لكن هذا متوقف على أن يعلم أنهم وضعوها لهذا الغرض: فإن وضع الشارات مثل هذه لهذا الغرض غير معروف أنه لأجل دفع التمائم، فإذا كان بعض الناس يستعملها لدفع الشر؛ ويستعملها لأنها تمائم، فهذه يجب نزعها، ومن رآها لا يحلّ له أن يتعداها حتى ينزعها؛ لأنها اعتقاد في غير الله؛ ولأنها نوع من أنواع المنكر؛ واعتقاد ذلك فيها كبيرة من الكبائر، وشرك أصغر بالله جل وعلا.

سؤال:وهذا سائل يقول: كيف نخرِّج قول النبي صلى الله عليه وسلم:

((لولا أنا لكان عمي في الدرك الأسفل من النار))؟


جواب:

هذا يأتي في بابه إن شاء الله تعالى، ضبط القاعدة في ذلك، وهو أن قول القائل: (لولا فلان لكان كذا) مُنِع منه وصار شركاً لفظياً، ونوع تشريك؛ لأنه نسبةٌ للنعمة لغير الله جل وعلا.
يقول: (لولا فلان لأصابني كذا) و(لولا فلان أنه كان جيداً معي لكان حصل لي كذا وكذا) أو (لولا السيارة أنها قوية لكان هلكت) أو (لولا كذا لكان كذا) مما فيه تعليق دفع النقم، أو حصول النعم بأحدٍ من المخلوقين،
والواجب على العباد أن ينسبوا النعم إلى الله جل وعلا، لأنه هو الذي يُسدي النعم.

-

قال -جل وعلا- في سورة الأنعام:{وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون}.
- وقال -جل وعلا- أيضاً في السورة نفسها:
{يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}. فالواجب على العبد المسلم أن ينسب النعم: إسداءً، وتفضلاً، وإنعاماً لله جل وعلا؛ وأن يتعلق قلبه بالذي جعل تلك النعم تصل إليه.


والناس، أو الخلق والأسباب: إنما هي فضل من الله -جل وعلا- جعلها أسباباً،

ففلان من الناس جعله الله سبباً لكي يصل إليك النفع عن طريقه، أما النافع في الحقيقة فهو الله جل وعلا، إذا اندفعت عنك نقمة، فالذي دفعها هو الله جل وعلا، بواسطة سبب ذلك المخلوق: إمّا آدمي؛ وإمّا غير آدمي؛ فيجب نسبة النعم إلى الله جل وعلا، فلا تنسب نعمة لغيره سبحانه، ومن نسبها لغيره سبحانه فهو داخل في قول الله جل وعلا: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}.
وأما الحديث الذي في
(الصحيح) من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئِل: هل نفعتَ عَمَّك أبا طالب بشيء؟
قال:
((هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)).
قوله عليه الصلاة والسلام:
((لولا أنا)) هذا فيه ذكر لعمله عليه الصلاة والسلام، وافترق عن قول القائل: لولا فلان لحصل كذا، من جهتين:


الجهة الأولى:

أن ذلك القائل هو الذي حصلت له النعمة أو اندفعت عنه النقمة،

والنبي -صلى الله عليه وسلم- هنا يُخبر عن صنيعه بعمّه؛ وأن عمّه اندفعت عنه النقمة، فذاك في المتحدث الذي تعلق قلبه بالذي نفعه أو دفع عنه الضرّ، وأما قول النبي
-صلى الله عليه وسلم- فهو إخبار عن نفعه لغيره، فليس فيه تعلق القلب في اندفاع النقمة، أو حصول النعمة بغير الله جل وعلا، هذا وجه.
فيكون إذاً معنى ذلك: أن الوجه الذي نُهي عنه العلة التي من أجلها نُهي عن قول:
((لو لا أنا)) أن يكون فيها نسبة النعمة إلى غير الله من جهة تعلق القلب بذلك الذي حصّل له النعمة، وهذا غير وارد في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار))لأنه -عليه الصلاة والسلام- ليس هو الذي حصلت له النعمة، وإنما هو مخبر عن فعله لعمّه.


الوجه الثاني في ذلك:

أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد بين أن نفعه لعمّه من جهة الشفاعة، فهو يشفع لعمه حتى يكون في ضَحْضَاح من نار، فقوله: ((لولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار)) يعني: لولا شفاعتي، ومعلوم بنصوص الشرع أنه -عليه الصلاة والسلام- يُكْرَمُ بالشفاعة؛ ويُعطى الشفاعة، فهو سائل؛ وهو سببٌ من الأسباب.

والمتفضل حقيقةً: هو الله جل وعلا، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام- بضميمة علمنا أنه يشفع لعمه- كأنه قال: (لولا أن الله شفَّعَني فيه لكان في الدرك الأسفل من النار) فليس فيه -بالوجهين جميعاً- تعليق للقلب بغير الله -جل وعلا- في حصول النعم أو اندفاع النقم، مما يكون في قول القائل: (لولا فلان لحصل كذا) أو (لولا السيارة لحصل كذا) أو (لولا الطيار لحصل كذا) أو (لولا البيت كان مُحَصَّناً لحصل كذا) ونحو ذلك مما فيه تعلق قلب من حصلت له النعمة بالمخلوقين، والله أعلم.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

27 Oct 2008

العناصر


بيان مناسبة هذا الباب (ما جاء أن سبب...) لما قبله من الأبواب


شرح قول المصنف: (باب ما جاء أن سبب كفر..) إلخ

- بيان معنى (الغلو)

- بيان ما يشمله لفظ (الصالحين)
- الحد المأذون به شرعاً في الصالحين
- ذم مجافاة الصالحين
- بيان أحوال الناس مع الصالحين
- ذكر أمثلة على غلو أهل الكتاب والصوفية وغيرهم
- من غلا من هذه الأمة ففيه شبه باليهود والنصارى
- الغلو من أسباب المروق من الدين
- بيان أصلين من أصول الشرك(الشرك بأرواح الصالحين، والشرك بأرواح الكواكب)
- بيان كيف دخل الشرك في قوم نوح


تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم...) الآية

- مناسبة قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لاتغلوا في دينكم) للترجمة

- بيان المراد بالغلو في قوله تعالى: (لا تغلوا في دينكم)


شرح أثر ابن عباس في بيان مبدأ الشرك

- ذكر أثر ابن عباس بتمامه، ورواياته، وطرقه

- معنى قوله: (أوحى الشيطان)
- معنى قوله: (أن انصبوا.. أنصابا)
- الغلو في الصالحين وسيلة إلى الشرك
- المراد بقوله: (حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عُبدت)
- بم يحصل لبس الحق بالباطل؟
- حجية تفسير الصحابي
- بعض الفوائد من أثر ابن عباس

بيان سبب الشرك بالصالحين، وبالنجوم، وبالقبور.. ونحوها


الروايات في قصة دخول الأصنام إلى بلاد العرب على يد عمرو بن لُحيّ


البدعة تؤول إلى الشرك ولو حسن قصد الفاعل


شرح حديث عمر رضي الله عنه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم...)

- ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- معنى الإطراء في قوله: (لا تطروني..) الحديث، والمراد بالنهي
- معنى الكاف في قوله: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم...)
- معنى قوله: (إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله)
- الإطراء من وسائل الشرك

أنواع الحقوق التي لله تعالى والتي للرسل


الأمور الدالة على صدق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم


ذكر بعض شركيات من غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم فجوَّز الاستغاثة به والردُّ عليه


شرح قول ابن القيم: (قال غير واحد من السلف..) إلخ

- ترجمة ابن القيم رحمه الله


شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)

- ذكر حديث (إياكم والغلو..) بتمامه، وتخريجه والحكم عليه

- معنى قوله: (إياكم والغلو..) الحديث
- قوله: (إياكم والغلو..) يدل على تحريم الغلو من وجهين
- المراد بالهلاك في قوله: (فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، وبيان نوع الحصر
- أقسام الغلو والأمثلة عليها
- مفاسد الغلو

شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه (هلك المتنطعون)

- الفرق بين التنطع، والغلو، والاجتهاد

- معنى المتنطع في قوله: (هلك المتنطعون)، وما يستفاد منه
- السبب في تكرار النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (هلك المتنطعون) ثلاثاً

أقسام الناس في العبادة


شرح مسائل الباب

- في الباب: التصريح بفضيلة العلم، وأنه يذهب بفقد العلماء


أنواع العجب

- مسألة تفضيل الكعبة على الحجرة


سؤال عن توجيه استعمال لفظ (لولا) في قول النبي صلى الله عليه وسلم عن عمه (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)