26 Oct 2008
باب قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): ( بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهتَدِينَ}[الْقَصَص:56]
فِي (الصَّحِيحِ) عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ ، جَاءهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَأَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُ: ((يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)). فَقَالاَ لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: تَفْسِيرُ قَوْلِهِ:{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ قَوْلِهِ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}. الثَّالِثَةُ: - وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْكَبِيرَةُ - تَفْسِيرُ قَوْلِهِ:((قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) بِخِلاَفِ مَا عَلَيْهِ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ يَعْرِفُونَ مُرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ لِلرَّجُلِ: ((قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) فَقَبَّحَ اللهُ مَنْ أَبُو جَهْلٍ أَعْلَمُ مِنْهُ بِأَصْلِ الإِسْلاَمِ. الْخَامِسَةُ: جِدُّهُ صلى الله عليه وسلم، وَمُبَالَغَتُهُ فِي إِسْلاَمِ عَمِّهِ. السَّادِسَةُ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ إِسْلاَمَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَسْلاَفِهِ. السَّابِعَةُ: كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، بَلْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. الثَّامِنَةُ: مَضَرَّةُ أَصْحَابِ السَّوْءِ عَلَى الإِنْسَانِ. التَّاسِعَةُ: مَضَرَّةُ تَعْظِيمِ الأَسْلاَفِ وَالأَكَابِرِ. الْعَاشِرَةُ: الشُّبْهَةُ لِلْمُبْطِلِينَ فِي ذَلِكَ لاِسْتِدْلاَلِ أَبِي جَهْلٍ بِذَلِكَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الشَّاهِدُ لِكَوْنِ الأَعْمَالِ بِالْخَوَاتِيمِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قَالَهَا لَنَفَعَتْهُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّأَمُّلُ فِي كِبَرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي قُلُوبِ الضَّالِّينَ؛
لأَِنَّ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَادِلُوهُ إِِلاَّ بِهَا مَعَ
مُبَالَغَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَكْرِيرِهِ فَلأَِجْلِ عَظَمَتِهَا
وَوُضُوحِهَا عِنْدَهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَيْهَا.
فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعَادَا فَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لأََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)).
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ
لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ
لهُمْ أَنهَّم أَصحَابُ الجَحِيمِ}[التَّوْبَة:113].
وَأَنْزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لاَ تَهْـدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْـدِي مَن يَشَاءُ}[الْقَصَص:56].
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
أَرَادَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- الرَّدَّ عَلَى عُبَّادِ القُبُورِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ في الأَنْبِياءِ والصَّالِحِين أنَّهُم يَنْفَعُونَ ويَضُرُّونَ،
فيَسْأَلُونَهُم مَغْفِرَةَ الذُّنوبِ، وتَفْرِيجَ الكُرُوبِ، وهِدَايَةَ
القُلُوبِ، وغيرَ ذلك مِن أَنْواعِ المَطَالِبِ الدُّنْيَويَّةِ
والأُخْرَويَّةِ، ويَعْتَقِدُونَ أنَّ لَهُم التَّصَرُّفَ بعدَ المَوْتِ
عَلَى سبيلِ الكَرَامَةِ. فإنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيا وضَرَّتَها ومـِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ والقَلَمِ فإِذَا
عَرَفَ الإِنْسَانُ مَعْنَى هذه الآيَةِ ومَنْ نَزَلَتْ فيه؛ تَبَيَّنَ له
بُطْلاَنُ قَوْلِهِم وفَسَادُ شِرْكِهِم؛ لأَِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الخَلْقِ وأَقْرَبُهُم مِن اللهِ،
وأَعْظَمُهُم جاهًا عندَهُ، ومَعَ ذلك حَرِصَ واجْتَهدَ عَلَى هِدَايَةِ
عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ في حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ وعندَ
مَوْتِهِ، فَلَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ
اسْتَغْفَرَ له بعدَ موتِهِ، فَلَمْ يُغْفَرْ له حَتَّى نَهَاهُ اللهُ عَن
ذلِكَ. ففي هَذَا أَعْظَمُ البَيَانِ،
وأَوْضَحُ البُرْهَانِ عَلَى أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ
يَمْلِكُ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا، وَلاَ عَطَاءً وَلاَ مَنْعًا، وأَنَّ
الأَمْرَ كلَّهُ بيدِ اللهِ، فهو الَّذي يَهْدِي مَن يَشَاءُ، ويُضِلُّ مَن
يَشَاءُ، ويُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ، ويَرْحَمُ مَن يَشَاءُ، ويَكْشِفُ
الضُّرَّ عمَّن يَشَاءُ، ويُصِيبُ بهِ مَن يَشَاءُ مِن عبادِهِ وهو
الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وهو الَّذي مِن جُودِهِ الدُّنيا والآخِرَةُ، وهو
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ولو كَانَ عندَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِن هِدَايَةِ القُلُوبِ ومَغْفِرَةِ الذُّنوبِ وتَفْرِيجِ الكُرُوبِ
شَيْءٌ؛ لكانَ أَحَقَّ النَّاسِ بهِ وأَوْلاَهُم مَنْ قامَ مَعَهُ أَتَمَّ
القِيَامِ ونَصَرَهُ، وأحاطَهُ مِن بُلُوغِهِ ثَمَانيَ سِنِينَ، وإِلَى ما
بَعْدَ النُّبوَّةِ بثَمَانِ سِنِينَ أو أكثرَ، بل قالَ تعالى: {قُل
لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا
مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:187] وقالَ تعالى: {قُل
لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى
إِلَيَّ}[الأنعام:50]
فَهَلْ يَجْتَمِعُ في قَلْبِ عبدٍ الإيمانُ بهذه الآياتِ وما أَشْبَهَها،
والإيمانُ بذلك البيتِ وما أَشْبَهَهُ، ولكنْ قَاتَلَ اللهُ أَعْدَاءَهُ
الَّذينَ جَاوَزُوا الحَدَّ في إِطْرَائِهِ والغُلُوِّ فيهِ. فإنْ قلْتَ: قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] فالجَمْعُ بَيْنَهَا وبَيْنَ الآيَةِ المُتَرْجَمِ لَهَا. قيلَ: الهِدَايةُ التي تَصِحُّ نِسْبَتُهَا لغيرِ اللهِ بوجْهٍ مَا، هي هِدَايَةُ الإِرْشَادِ والدَّلاَلَةِ، كمَا قالَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
أي: تُرْشِدُ وتُبَيِّنُ، والهِدَايَةُ المَنْفِيَّةُ عن غَيْرِ اللهِ هي
هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ وخَلْقِ القُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، ذَكَرهُ
بَعْضُهُم بمَعْنَاهُ. (2) قولُهُ: (في (الصَّحيحِ)). أي: (الصَّحيحينِ). وفيه دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الأَعْمَالَ بالخَوَاتِيمِ،
لأَِنَّهُ لو قَالَهَا لنَفَعَتْهُ، وإِنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحيدِ
نَفَعَتْهُ الشَّفاعَةُ وإِنْ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا غيرَ ذَلِكَ، وَأَنَّ
مَنْ كانَ كَافِرًا يَجْحَدُهَا إِذَا قالَهَا عندَ المَوْتِ أُجْرِيَتْ
عَلَيهِ أَحْكَامُ الإِسْلاَمِ، فإنْ كانَ صَادِقًا مِن قَلْبِهِ
نَفَعَتْهُ عندَ اللهِ، وإِلاَّ فَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ الظَّاهِرُ،
بِخِلاَفِ مَنْ كانَ يَتَكلَّمُ بهَا في حَالِ كُفْرِهِ. فَلَوْ كَانَ عندَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن هِدَايَةِ القُلُوبِ، وتَفْرِيجِ الكُرُوبِ شَيْءٌ، لكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بذلك وأَوْلاَهُم عَمُّه الَّذي فَعَلَ مَعَهُ مَا فَعَلَ. وفيه: الحِرْصُ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ. -
والصَّبْرُ عَلَى الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عن المُنْكَرِ، وإِنْ
رُدَّ ذَلِكَ عَلَى صَاحبِهِ، وتَكْرِيرُه وعَدَمُ الاكْتِفَاءِ بمَرَّةٍ
واحِدَةٍ. - قالَ النَّووِيُّ: (وفيه
جَوَازُ الحَلِفِ مِن غَيْرِ اسْتِحْلاَفٍ، وكَأَنَّ الحَلِفَ هنا
لتَأْكِيدِ العَزْمِ عَلَى الاسْتِغْفَارِ، وتَطْيِيبًا لنَفْسِ أَبِي
طَالِبٍ، وكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ
بقَلِيلٍ). - قَالَ ابنُ فَارِسٍ:(مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ولرَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ وأَرْبَعُونَ سَنَةً
وثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وأحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وتُوفِّيَتْ خَدِيجَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْها بعدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بثَمَانِيَةِ أيَّامٍ). وَهَذَا فيه إِشْكَالٌ؛ لأَِنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ بمَكَّةَ قبلَ الهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَتَى قَبْرَ أمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ
فاسْتَأْذَنَ ربَّه أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ، وفيهِ
دَلاَلَةٌ عَلَى تَأَخُّرِ نُزُولِ الآيةِ عن وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ،
وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الآيةِ تَأَخَّرَ وإِنْ كَانَ
سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، ويَكُونَ لنُزُولِهَا سَبَبانِ: مُتَقَدِّمٌ؛ وهو
أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ، ومُتَأَخِّرٌ: وهو أَمْرُ أمِّهِ،
ويُؤَيِّدُ تَأَخُّرَ النُّزُولِ اسْتِغْفَارُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- للمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عن ذلك، فإنَّ ذلك
يَقْتَضِي تَأَخُّرَ النُّزُولِ وإنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، ويُشِيرُ إلى
ذلك أيضًا قولُهُ في حديثِ البابِ، وأَنْزَلَ اللهُ في أَبِي طَالِبٍ:{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القَصَص:56] لأنَّهُ يُشْعِرُ بأنَّ الأُولَى نَزَلَتْ في أَبِي طَالِبٍ وفي غَيْرِهِ، والثَّانِيَةَ فيه وحْدَهُ. وفيه: تَحْرِيمُ الاسْتِغْفَارِ للمُشْرِكِينَ. - وتَحْرِيمُ مُوَالاَتِهِم ومَحَبَّتِهِم؛ لأَِنَّهُ إذا حَرَّمَ الاسْتِغْفَارَ لَهُم، فمُوالاَتُهُم ومَحَبَّتُهُم أَوْلَى.
وقد وقَفْتُ عَلَى رِسَالَةٍ لرَجُلٍ منهم في ذلك، ويَحْتَجُّونَ عَلَى ذلك بِقَوْلِهِ: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}[الزُّمَر:34] يَقُولُ قَائِلُهُم في حَقِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
وأمَّا مَعْنَى الآيةِ فَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ:(يَقُولُ
تَعَالَى لرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إنَّكَ يَا
مُحَمَّدُ لاَ تَهْدِي مَن أَحْبَبْتَ) أي: ليسَ إليكَ ذلك، إنَّما
عَلَيْكَ البَلاَغُ واللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ، وله الحِكْمَةُ
البَالِغَةُ، والحُجَّةُ الدَّامِغَةُ كَمَا قالَ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[البقرة:272] وقالَ: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يُوسُف:103] وهذه الآيةُ أَخَصُّ مِن هذا كُلِّهِ فإنَّهُ قالَ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وهو أَعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ}[القصص:56] أي: أَعْلَمُ بمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ مِمَّن يَسْتَحِقُّ الغِوَايةَ).
وقد ثَبَتَ في (الصَّحِيحَيْنِ) أنَّهَا نَزَلَتْ في أَبِي طَالِبٍ،
وَقَدْ كَانَ يَحُوطُهُ ويَنْصُرُهُ، ويَقُومُ في حَقِّهِ، ويُحِبُّه
حُبًّا طَبْعِيًّا لاَ حُبًّا شَرْعِيًّا، فلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ
وحَانَ أَجَلُهُ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إلى الإِيمانِ والدُّخُولِ في الإِسْلاَمِ فَسَبَقَ القَدَرُ
فيهِ،واخْتُطِفَ مِن يدِهِ، واسْتَمَرَّ عَلَى ما كانَ عَلَيْهِ مِن
الكُفْرِ، وللَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ.
قولُهُ: (عن ابنِ المُسَيِّبِ) هو سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ بنِ حزنِ بنِ أبي وهبِ بنِ عمرِو بنِ عائذِ بنِ عِمْرَانَ بنِ مَخْزُومٍ القُرَشِيُّ المَخْزُومِيُّ،
أَحَدُ العُلَمَاءِ الأَثْبَاتِ، الفُقَهاءِ الكِبَارِ، الحُفَّاظِ
العُبَّادِ، اتَّفقُوا عَلَى أنَّ مُرْسَلاَتِهِ أَصَحُّ المَرَاسِيلِ.
وقالَ ابنُ المَدِينيِّ:
(لاَ أَعْلَمُ في التَّابِعِينَ أَوْسَعَ عِلْمًا منه، مَاتَ بعدَ
التِّسْعِينَ وقد نَاهَزَ الثَّمانينَ، وأبوه المُسَيِّبُ صَحَابِيٌّ،
بَقِيَ إلى خِلاَفَةِ عُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكذلِكَ جَدُّه حزنٌ صَحَابيٌّ، اسْتُشْهِدَ باليَمَامَةِ).
قولُهُ: (لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ)
أي: حَضَرَتْ عَلاَمَاتُ الوَفَاةِ وإِلاَّ فلَوْ كانَ انْتَهَى إلى
المُعَاينةِ لم يَنْفَعْهُ الإيمانُ لو آمَنَ، ويدُلُّ عَلَى ذلك ما وَقَعَ
من المُرَاجَعَةِ بينَهُ وبينَهُم، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ انتهَى إلى تلك
الحَالَةِ، لكنْ رَجَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ
إِذَا أقرَّ بالتَّوحيدِ ولو في تلك الحَالَةِ أنَّ ذلك يَنْفَعُهُ
بخُصُوصِهِ، ويُسَوِّغُ فيه شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
ولهذا قالَ: أُجَادِلُ لك بهَا، وأَشْهَدُ لك بهَا، وأُحَاجُّ لك بهَا،
ويَدُلُّ عَلَى الخُصُوصِيَّةِ أنَّهُ بعدَ أَن امْتَنَعَ مِن الإِقْرَارِ
بالتَّوحيدِ، وَمَاتَ عَلَى الامْتِنَاعِ منه لَم يَتْرُك النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفاعةَ له، بل شَفَعَ له حتَّى
خَفَّفَ عنه العَذَابَ بالنِّسْبَةِ إِلَى غيرِهِ، وكَانَ ذَلِكَ مِن
الخَصَائِصِ في حَقِّهِ.
قولُهُ: (جَاءهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ المُسَيِّبُ حَضَرَ هذه القصَّةَ، فإنَّ المَذْكُورِينَ مِن بَنِي مَخْزُومٍ، وهو أيضًا مَخْزُوميٌّ، وكَانُوا يومَئذٍ كُفَّارًا فَمَاتَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى كُفْرِهِ، وأَسْلَمَ الآخَرَانِ.
وقولُ بعضِ الشُّرَّاحِ:
إنَّ هذا الحديثَ مِن مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ مَرْدُودٌ، وفي هذا جَوَازُ
عِيَادَةِ المُشْرِكِ إِذَا رُجِيَ إِسْلاَمُهُ، وجَوَازُ حَمْلِ العِلْمِ
إذا كانَ فيه مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى عَدَمِهِ.
قولُهُ: ((يا عَمِّ)) مُنَادًى مُضَافٌ يَجُوزُ فيه إِثْبَاتُ الياءِ وحَذْفُهَا.
قولُهُ: ((قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))
أي: قُلْ هَذِهِ الكَلِمَةَ، عارِفًا لمَعْنَاهَا، مُعْتَقِدًا لَهَا في
هذِهِ الحالِ وإنْ لَمْ تَعْمَلْ بهَا، إذ لا يُمْكِنُ عندَ المَوْتِ
إِلاَّ ذلك، وَلاَ بُدَّ مَعَ ذلك مِن شَهَادَةِ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
قولُهُ: ((كلمةً)) قالَ القُرْطُبِيُّ: (أَحْسَنُ ما تُقَيَّدُ ((كَلِمَةً))بالنَّصْبِ عَلَى أنَّهُ بَدَلٌ مِنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ويَجُوزُ رَفْعُهَا عَلَى احْتِمَالِ المُبْتَدأِ).
قولُهُ: ((أُحَاجَّ لَكَ بهَا عندَ اللهِ))
هو بتَشْدِيدِ الجِيمِ مِن المُحَاجَّةِ، وهي مُفَاعَلَةٌ مِن الحُجَّةِ،
والجِيمُ مَفْتُوحَةٌ، عَلَى الجَزْمِ جَوَابُ الأَمْرِ، أي: أَشْهَدُ لَكَ
بِهَا عندَ اللهِ كمَا في الرِّوَايَةِ الأُخْرَى.
قولُهُ: (فَقَالاَ لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ)
ذَكَّرَاهُ الحُجَّةَ المَلْعُونَةَ التي يَتَعلَّقُ بهَا المشرِكُونَ مِن
الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ، ويَرُدُّونَ بِهَا عَلَى الرُّسُلِ، وهي
تَقْلِيدُ الآبَاءِ والكُبَرَاءِ، وأَخْرَجَا الكَلاَمَ مَخْرَجَ
الاسْتِفْهَامِ؛ مُبَالَغَةً في الإِنْكَارِ لِعَظَمَةِ هذه الحُجَّةِ في
قُلُوبِ الضَّالِّينَ، وكذلِكَ اكْتَفَيَا بهَا في المُجَادَلَةِ مَعَ
مُبَالَغَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَكْرِيرِهِ، فَلأَِجْلِ
عَظَمَتِها ووضُوحِهَا عندَهُم اقْتَصَرَا عَلَيْهَا.
قَالَ المُصنِّفُ: (وفيه تَفْسِيرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ بِخِلاَفِ ما عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَن يَدَّعِي العِلْمَ).
وفيه: أنَّ أبا جَهْلٍ ومَن مَعَهُ يَعْرِفُونَ مُرَادَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَالَ الرَّجُلُ: قلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فقَبَّحَ اللهُ مَن أَبُو جَهْلٍ أَعْلَمُ منه بِأَصْلِ الإِسْلاَمِ.
قولُهُ: (فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَعَادَا)
أي: أَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَقَالَتَهُ، وأَعَادَا عَلَيْهِ مَقَالتَهُمَا؛ مُبَالَغَةً منه صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحِرْصًا عَلَى إسلامِ عمِّهِ، ومَعَ ذلك لم
يَقْدِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذلك، ولا عَلَى
تَخْلِيصِه مِن عَذَابِ اللهِ، بل سَبَقَ فيه القَضَاءُ المَحْتُومُ،
واسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ ليَعْلَمَ النَّاسُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللهُ.
قولُهُ: (فَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ) هو بِنَصْبِ (آخِرَ) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أي: آخِرَ زَمَنِ تَكْلِيمِهِ إِيَّاهُم، ويَجُوزُ رفْعُهُ.
قولُهُ: (هو عَلَى مِلَّةِ عبدِ المطَّلبِ) الظَّاهرُ أنَّ أبا طالبٍ قالَ: أنَا، فَغَيَّرَهُ الرَّاوِي أَنَفَةً أَنْ يَحْكيَ كَلاَمَ أَبِي طَالِبٍ اسْتِقْباحًا للَّفْظِ المَذْكُورِ، وهي مِن التَّصَرُّفاتِ الحَسَنَةِ، قَالَهُ الحَافِظُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بلَفْظِ (أَنَا) فَدَلَّ عَلَى ما ذَكَرْنَاهُ.
قولُهُ: (وَأَبَى أنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) قالَ الحَافِظُ: (هذا تَأْكِيدٌ مِن الرَّاوِي في نَفْيِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنأَبِي طَالِبٍ،
وكَأنَّهُ اسْتَنَدَ في ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ سَمَاعِهِ منه في تِلْكَ
الحَالِ، كَذَا قَالَ وفيه نَظَرٌ، بل نَفْيُهُ مُسْتَنِدٌ إلى إِبَاءِأَبِي طَالِبٍعن قَوْلِهَا بقولِهِ: (هو عَلَى مِلَّةِعبدِ المطَّلبِ).
قالَ المُصَنِّفُ: (وفيه الرَّدُّ عَلَى مَن زَعَمَ إِسْلاَمَ عبدِ المطَّلبِ وأَسْلاَفِهِ، ومَضَرَّةُ أَصْحَابِ السَّوْءِ عَلَى الإِنْسَانِ، ومَضَرَّةُ تَعْظِيمِ الأَسْلاَفِ والأَكَابرِ).
أي: زِيَادةً عَلَى المَشْرُوعِ بحَيْثُ يَجْعَلُ أَقْوَالَهُم حُجَّةً يَرْجِعُ إليها عندَ التَّنازُعِ.
قولُهُ: (فَقَالَ النَّبِيُّ: ((لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ))) أَقْسَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليَسْتَغْفِرَنَّ لَه؛ إلا أَنْ يُنْهَى عن ذلك، كمَا في رِوَايَةِ مسلمٍ: ((أَمَا وَاللهِ لأََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)).
قولُهُ: (فَأَنْزَلَ اللهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}[التوبة:114]) أي: ما يَنْبَغِي لَهُم ذلك، وهو خَبَرٌ بمَعْنَى النَّهْيِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عن عمرِو بنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَلاَ أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لأَِبِي طَالِبٍ حَتَّى نَهَانِي عَنْهُ رَبِّي)) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَسْتَغْفِرُ لآبائِنَا كمَا اسْتَغْفَرَ نَبِيُّنَا لعَمِّهِ فَنَزَلَتْ: {مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آمَنوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (114) وَمَا كانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ
إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ له أنَّهُ
عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة:114،115]
ويُؤيِّدُ تَعَدُّدَ السَّبَبِ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ عن عَلِيٍّ قالَ: (سَمِعْتُ
رَجُلاً يَسْتَغْفِرُ لوَالِدَيْهِ وهُمَا مُشْرِكانِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{مَا كانَ لِلنَّبِيِّ}الآيةَ، قالَهُ الحَافِظُ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (بابُ قولِ اللهِ -تعالى-: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56]). سببُ نُزولِ هذه الآيةِ :مَوتُ أبي طالِبٍ على مِلَّةِ عبدِ الْمُطَّلِبِ، كما سيأتِي بيانُ ذلك في حديثِ البابِ. - له الْحِكمةُ البالغةُ، والْحُجَّةُ الدامغةُ، كما قالَ تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[البقرة:272] . - وقالَ تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103]. قلتُ: والْمَنْفِيُّ هنا هدايةُ التوفيقِ والقَبولِ، فَإِنَّ أَمْرَ ذلك إلى اللهِ، وهو القادرُ عليه. وأمَّا الهدايةُ المذكورةُ في قولِ اللهِ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] فإنها هِدايةُ الدَّلالةِ والبيانِ، فهو المُبَيِّنُ عن اللهِ، والدالُّ على دِينِه وشَرْعِه. (2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (في (الصَّحِيحِ)عَنِابنِ المسيِّبِ عَنْ أبيهِ،قالَ: لَمَّا حَضَرَتْأَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَأَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُ:((يَا عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)) فَقَالاَ لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعَادَا فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللهُ. - وقالَ ابنُ الْمَدِينِيِّ:(لا أَعلَمُ في التابعينَ أَوسعَ عِلْمًا منه، ماتَ بعدَ التسعينَ وقد ناهَزَ الثمانينَ). فلا يقولُها إلا مَن تَرَكَ الشرْكَ وبَرِئَ منه،
ولَمَّا هَاجَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه إلى
المدينةِ كان فيها المسلِمونَ المُوَحِّدُونَ والمنافِقونَ الذين
يَقولونَها بأَلْسِنَتِهم وهم يَعْرِفونَ معناها، لكن لا يَعْتَقِدُونَها،
لِمَا في قُلوبِهم من العَداوةِ والشكِّ والرَّيْبِ؛ فهم مع المسلمينَ
بظَاهِرِ الأعمالِ دونَ الباطنِ؛ وفيها اليهودُ؛ وقد أَقَرَّهُم رسولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هاَجَرَ، ووَادَعَهم بأنْ لا
يَخُونُوه ولا يُظاهِروا عليه عَدُوًّا كما هو مَذكورٌ في كُتُبِ الحديثِ
والسِّيَرِ. - فرَدَّ عليهم بقولِه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}[الصافات:37] . ويُضْعِفُ ما ذَكَرَه السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ في بعضِ كُتُبِالْمَسعوديِّ أَنَّهُ أَسْلَمَ؛ لأنَّ مِثلَ ذلك لا يُعارِضُ ما في الصحيحِ) انتهى. وفيه: تَحريمُ الاستغفارِ للمُشركينَ ومُوالاتُهم ومَحَبَّتُهم؛ لأَنَّهُ إذا حَرُمَ الاستغفارُ لهم فمُوالاتُهم ومَحَبَّتُهم أَوْلَى.
قالَ ابنُ كثيرٍ:(قولُ تعالى لرسولِه: إنك يا مُحَمَّدُلا تَهْدِي مَن أَحْبَبْتَ، أي: ليس إليك ذلك، إنما عليكَ البلاغُ، واللهُ يَهدِي مَن يَشاءُ)
فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)) فأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة:113] .
وأَنْزَلَ اللهُ في أبي طالِبٍ:{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
قولُه: (في(الصحيحِ)) أي: في (الصحيحين) وابنُ الْمُسَيِّبِ هو سعيدُ بنُ الْمُسَيِّبِ بنِ حَزْنِ بنَ أبي وَهْبِ بنِ عمرِو بنِ عائذِ بنِ عِمرانَ بنِ مَخزومٍ القُرَشِيُّ المخزوميُّ، أحَدُ العُلماءِ والفُقهاءِ الكِبارِ السبعةِ من التابعينَ.
اتَّفَقَ أهلُ الحديثِ على أنَّ مَراسيلَه أَصَحُّ الْمَراسيلِ.
وأبوه المسيِّبُ صحابيٌّ، بَقِيَ إلى خِلافةِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكذلك جَدُّه حَزْنٌ، صحابيٌّ استُشْهِدَ باليَمَامَةِ.
قولُه: (لَمَّا حَضَرَتْ أَبا طَالِبٍ الوَفَاةُ) أي: عَلاماتُها ومُقَدِّمَاتُها.
قولُه: (جاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُحْتَمَلُ أن يكونَ المسيِّبُ حَضَرَ مع الاثنينِ.
فإنهما من بني مَخزومٍ، وهو أيضًا مَخْزُومِيٌّ، وكان الثلاثةُ إذ ذاك كُفَّارًا؛ فَقُتِلَ أبو جَهْلٍ على كُفْرِه، وأَسْلَمَ الآخرانِ.
قولُه: ((يَاعَمِّ)) مُنادَى مُضافٌ يَجوزُ فيه إثباتُ الياءِ وحَذْفُها؛ حُذِفَت الياءُ هنا، وبَقِيَت الكسرةُ دَليلاً عليها.
قولُه: ((قُلْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) أَمَرَه أن يَقولَها لعِلْمِ أبي طالبٍ بما
دَلَّتْ عليه من نَفْيِ الشرْكِ باللهِ وإخلاصِ العِبادةِ له وَحدَه،
فإنَّ مَن قالَها بعِلْمٍ ويَقينٍ فقد بَرِئَ من الشرْكِ والمشرِكينَ
ودَخَلَ في الإِسلامِ؛ لأَنَّهُم يَعلمونَ ما دَلَّتْ عليه، وفي ذلك الوقتِ
لم يكنْ بِمَكَّةَ إلا مُسلِمٌ أو كافرٌ.
قولُه: ((كَلِمَةً)) قالَ القُرطبيُّ: (بالنَّصْبِ على أَنَّهُ بَدَلٌ من ((لا إلهَ إلا اللهُ))ويَجوزُ الرفْعُ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ).
قولُه: ((أُحَاجُّ لَكَ بِها عِنْدَ اللهِ))
هو بتشديدِ الجيمِ من الْمُحاجَّةِ، وفيه دليلٌ على أنَّ الأعمالَ
بالْخَوَاتِيمِ؛ لأَنَّهُ لو قالَها في تلكَ الحالِ مُعْتَقِدًا ما دَلَّتْ
عليه مُطابَقَةً من النفيِ والإثباتِ لنَفَعَتْه.
قولُه: (فَقالا لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) ذَكَّراه الْحُجَّةَ الْمَلعونةَ التي يَحْتَجُّ بها الْمُشرِكون على الْمُرْسَلينَ، كقولِ فرعونَ لموسى:{فَمَا بالُ القُرونِ الأُولَى}[طه:51] وكقولِه تعالى: {وَكَذَلِكَ
مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزخرف:23].
قولُه: (فَأعَادَ عَلَيهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأعَادا) فيه مَعرِفَتُهما لمعنى ((لا إلهَ إلا اللهُ)) لأَنَّهُما عَرَفَا أنَّ أبا طالِبٍ لو قالَها لَبَرِئَ من مِلَّةِ عَبدِ الْمُطَّلِبِ. فإنَّ مِلَّةَ عبدِ الْمُطَّلِبِ هي الشرْكُ باللهِ في إلهيَّتِه، وأمَّا الرُّبوبِيَّةُ فقد أَقَرُّوا بها كما تَقَدَّمَ.
وقد قالَ عبدُ الْمُطَّلِبِ لأَبْرَهَةَ:(أنا ربُّ الإِبِلِ؛ والبيتُ له رَبٌّ يَمْنَعُه مِنكَ) وهذه الْمَقالةُ منهما عندَ قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَمِّه: ((قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) استكبارًا عن العملِ بِمَدلولِها، كما قالَ اللهُ تعالى عنهما وعن أمثالِهما مِن أولئك المشرِكينَ:{إِنَّهُمْ
كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ
(35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}[الصافات:35،36] .
فبَيَّنَ تعالى أنَّ استكبارَهم عن قولِ (لا إلهَ إلا اللهُ)
لدلالتِها على نَفْيِ عِبادتِهم الآلِهةَ التي كانوا يَعبدونَها من دُونِ
اللهِ، فإنَّ دَلالةَ هذه الكلمةِ على نَفْيِ ذلك دَلالةُ تَضَمُّنٍ،
ودَلالتَها عليه وعلى الإِخلاصِ دَلالةُ مُطابَقَةٍ.
ومِن حِكمةِ الربِّ تعالى في عَدَمِ هِدايةِ أبي طالبٍ
إلى الإِسلامِ لِيُبَيِّنَ لعِبادِه أنَّ ذلك إليه، وهو القادِرُ عليه
دونَ مَن سِواهُ، فلو كانَ عندَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الذي هو أَفْضَلُ خَلْقِه-من
هِدايةِ القُلوبِ وتَفريجِ الكُروبِ؛ ومَغفِرَةِ الذُّنوبِ، والنجاةِ من
العَذابِ، ونحوِ ذلك شيءٌ؛ لكانَ أحقَّ الناسِ بذلك وأَوْلاَهُمْ به عَمُّه
الذي كان يَحُوطُه ويَحمِيهِ ويَنْصُرُه ويُؤْوِيهِ، فسُبحانَ مَن
بَهَرَتْ حِكمتُه العقولَ، وأَرْشَدَ العِبادَ إلى ما يَدُلُّهُمْ على
مَعرِفَتِه وتَوحيدِه، وإخلاصِ العملِ له وتَجريدِه.
قولُه: (فَكَانَ آخِرُ مَا قَالَ) الأحسَنُ فيه الرَّفْعُ على أَنَّهُ اسمُ (كان) وجُملةُ (هو) وما بعدَها الخبرُ.
قولُه: (هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) الظاهرُ أنَّ أبا طالبٍ قالَ: ((أنا)) فَغَيَّرَه الراوي استِقْبَاحًا للفظِ المذكورِ، وهو من التَّصَرُّفاتِ الْحَسَنَةِ، قالَه الحافظُ.
قولُه: (وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) قالَ الحافظُ: (هذا تأكيدٌ من الراوي في نَفْيِ وُقوعِ ذلك من أبي طالبٍ).
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ: (وفيه الرَّدُّ على مَن زَعَمَ إسلامَ عبدِ الْمُطَّلِبِ وأَسلافِه، ومَضَرَّةُ أصحابِ السَّوْءِ على الإنسانِ، ومَضَرَّةُ تعظيمِ الأَسْلافِ).
أي: إذا زادَ على المشروعِ؛ بحيث تُجْعَلُ أقوالُهم حُجَّةً يُرْجَعُ إليها عندَ التَّنَازُعِ.
قولُه: (فقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ))) قالَ النوويُّ: (وفيه جَوازُ الْحَلِفِ مِن غيرِ استحلافٍ. وكأنَّ الْحَلِفَ -هنا- لتأكيدِ العَزْمِ على الاستغفارِ تَطْيِيبًا لنفْسِ أبي طالبٍ).
وكانتْ وَفاةُ أبي طالِبٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجرةِ بقَليلٍ.
قالَ ابنُ فَارِسٍ:(ماتَ أبو طالِبٍ ولرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسعٌ وأربعون سَنَةً وثمانيةُ أَشْهُرٍ وأَحَدَ عَشَرَ يَومًا).
وتُوُفِّيَتْ خَديجةُ أمُّ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بعدَ مَوتِ أبي طالبٍ بثَمانيةِ أَيَّامٍ.
قولُه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}.
أي: ما يَنبغِي لهم ذلك، وهو خَبَرٌ بِمَعنى النَّهْيِ، والظاهِرُ أنَّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ في أبي طالِبٍ؛ فإنَّ الإتيانَ بالفاءِ الْمُفيدةِ للترتيبِ، في قولِه: (فَأَنْزَلَ اللهُ) بعدَ قولِه: ((لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)) يُفيدُ ذلك.
وقد ذَكَرَ العُلماءُ لنُـزولِ هذه الآيةِ أَسبابًا أُخَرَ؛ فلا مُنافاةَ؛ لأنَّ أسبابَ النُّـزولِ قد تَتَعَدَّدُ.
قالَ الحافظُ: (أَمَّا نُزولُ الآيةِ الثانيةِ فوَاضحٌ في قِصَّةِ أبي طالبٍ.
وأَمَّا نُزولُ الآيةِ التي قَبْلَها ففيه نَظَرٌ، ويَظْهَرُ أنَّ
الْمُرادَ أنَّ الآيةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بالاستغفارِ نَزَلَتْ بعدَ أبي طالبٍ بِمُدَّةٍ، وهي عامَّةٌ في حَقِّه وحَقِّ غيرِه؛ يُوَضِّحُ ذلك ما يَأْتِي في التفسيرِ، فأَنْزَلَ اللهُ بعدَ ذلك:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}الآيةَ، ونَزَلَ فيأبي طالبٍ:{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}كلُّه ظاهِرٌ في أَنَّهُ ماتَ على غيرِ الإِسلامِ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)
وهذا البابُ أيضًا نَظِيرُ البابِ الذِي قبلَه، وذلك أنه إذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أفضلَ الخلقِ عَلَى الإِطْلاَقِ وأعْظَمَهم عِنْدَ اللهِ جاهًا وأَقْرَبَهم إليه وسيلةً، لا يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ مَن أَحَبَّ هِدَايةَ التوفيقِ،
وإنَّما الهدايةُ كُلُّها بيَدِ اللهِ، فهو الذِي تَفَرَّدَ بِهدَايَةِ
القُلُوبِ كما تَفَرَّدَ بِخَلْقِ المَخْلُوقاتِ، فتَبَيَّنَ أنَّه الإِلهُ
الحقُّ. فالمُرَادُ بالهِدَايَةِ هنا هِدَايَةُ البَيانِ، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُبَلِّغُ عَن اللهِ وحْيَهُ الذِي اهْتَدَى بِهِ الخَلْقُ.
وأمَّا قولُه تعالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52].
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
مُنَاسَبةُ هذا البَابِ لِمَا: مَنْاسَبَتُهُ أنَّهُ نَوْعٌ فيه فإذا كَانَ لاَ أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَنْفَعَ أَحَدًا بالشَّفَاعَةِ والخَلاَصِ من الَعذَابِ، كذلكَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أنْ يَهْدِيَ أَحَدًا حَتَّى يَقُومَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بهِ. والجَوَابُ : إِمَّا أنْ يُقالَ: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ المَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايتَهُ، لاَ: مَنْ أَحْبَبْتَهُ هوَ. أو يُقَالَ: إِنَّهُ أَحَبَّ عَمَّهُ مَحَبَّةً طَبِيعِيَّةً كمَحَبَّةِ الابنِ أَبَاهُ ولوْ كَانَ كَافِرًا. أو يُقَالُ: إِنَّ ذلكَ قَبْلَ النَّهْيِ عَن مَحَبَّةِ المُشْرِكِينَ. والأوَّلُ أَقْرَبُ؛ أيْ: مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايتَهُ لاَ عَيْنَهُ، وهذا عَامٌّ لأبِي طَالِبٍ وغيرِهِ. (2) قولُهُ: (فَقَالَ لَهُ: ((يَا عَمِّ، قلْ:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))) قولُهُ: ((قلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))
يَجُوزُ أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الأَمْرِ والإِلْزَامِ؛ لأَِنَّهُ
يَجِبُ أَنْ يَأْمُرَ كُلَّ أَحَدٍ أنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. (3) قولُهُ: (فَقَالاَ لهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبدِ الْمُطَّلِبِ؟) القَائِلاَنِ هُمَا: عبدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وأبو جَهْلٍ، والاسْتِفْهَامُ للإنكارِ عليهِ؛ لأنَّهُما عَرَفَا أنَّهُ إِذَا قَالَهَا - كَلِمَةَ الإخْلاَصِ - وَحَّدَ، ومِلَّةُ عبدِ المُطَّلِبِ الشِّرْكُ، وذَكَرَا لهُ ما تَهِيجُ بِهِ نَعْرتُهُ، وهيَ مِلَّةُ عبدِ المُطَّلِبِ حَتَّى لاَ يَخْرُجَ عَن مِلَّةِ آبائِهِ. (4) قولُهُ: (فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) أيْ قولَهُ: ((قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)). - القَسَمِ. - واللاَّمِ. - ونُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ. والاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ المَغْفِرَةِ، وكَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في نَفْسِهِ شَيْءٌ مِن القَلَقِ حَيْثُ قَالَ: ((مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)) فَوَقَعَ الأَمْرُ كَمَا تَوَقَّعَ ونُهِيَ عنه. (5) قَوْلُهُ: {مَا كَانَ} اعْلَمْ: أنَّ جملة (مَا كَانَ) أوْ (مَا يَنْبَغِي) أوْ (لاَ يَنْبَغِي) ونَحْوَها، إِذَا جَاءَتْ في القُرْآنِ والحَديثِ فالمُرَادُ أنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ غَايَةَ الامْتِنَاعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ }. - وقولِهِ: { لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ }، وقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ ولاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ)). (6) قولُهُ: (وأَنْزَلَ اللهُ في أَبِي طَالِبٍ) أيْ: في شَأْنِهِ. (7) قولُهُ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } الخِطَابُ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ أيْ: لاَ تُوَفِّقُ مَنْ أَحْبَبْتَ للهِدَايَةِ. فيهِ مَسَائِلُ: (8) الأُولَى: (تَفْسيرُ قولِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}) أيْ: مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ، وسَبَقَ تَفْسِيرُها، وبَيَّنَّا أنَّ
الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِذَا كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ
أَنْ يَهْدِيَ أَحَدًا وهوَ حَيٌّ، فكيفَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدِيَ
أَحَدًا وهوَ مَيِّتٌ؟ وأَنَّهُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى في حَقِّهِ: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا}. (9) الثَّانِيَةُ: (تَفْسِيرُ قولِهِ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ } الآيَةَ) (10) الثَّالِثَةُ: (وهيَ المَسْأَلَةُ الكَبِيرَةُ) أي: الكبيرةُ مِنْ هذا البَابِ، قولُهُ - أيْ قولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِعَمِّهِ:((قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))وعَمُّهُ
عَرَفَ المَعْنَى أَنَّهُ التَّبَرُّؤُ مِنْ كُلِّ إِلَهٍ سِوَى اللهِ،
ولِهَذا أَبَى أنْ يَقُولَهَا؛ لأَِنَّهُ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا
ومُقْتَضَاهَا ومَلْزُومَاتِها. (11) الرَّابِعَةُ: (أنَّ أبَا جَهْلٍ ومَنْ مَعَهُ يَعْرِفُونَ مُرادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ) أي: في قول: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ولذا ثَارُوا وقَالُوا لَهُ: أَتَرْغَبُ عَن مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلبِ؟
وهوَ أيضًا أَبَى أنْ يَقُولَهَا لأَِنَّهُ يَعْرِفُ مُرَادَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِهَذه الكَلِمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ
يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا
لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ }. واحْتَرَزَ المُؤَلِّفُ في عَدَمِ ذِكْرِ مَنْ كانَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ؛ لأَِنَّهم أَسْلَمُوا، وبذلكَ صَارُوا أَعْلَمَ مِمَّن بعدَهم؛ خَاصَّةً مَنْ بعدَهم في العُصُورِ المُتَأَخِّرَةِ في زَمَنِ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ. (12) الخامسةُ: (جِدُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومُبَالَغَتُهُ في إِسْلاَمِ عَمِّهِ) حِرْصُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وكَوْنُهُ يَتَحَمَّلُ أنْ يُحَاجَّ بالكلمةِ عندَ اللهِ واضِحٌ مِنْ نَصِّ الحديثِ لسَبَبَيْنِ هما: - القَرَابَةُ. (14) السَّابِعَةُ: (كونُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَمْ يُغْفَرْ له)
الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَقْرَبُ النَّاسِ أنْ يُجِيبَ
اللهُ دُعَاءَهُ، ومَعَ ذلكَ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أنْ لاَ يُجِيبَ
دُعَاءَهُ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ؛ لأَِنَّ الأَمْرَ بيدِ اللهِ لاَ بيدِ الرَّسُولِ ولاَ غيرِهِ، قَال تَعَالَى: { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ } وقَالَ تَعَالَى: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } ليسَ لأحدٍ تَصَرُّفٌ في هذا الكونِ إِلاَّ رَبَّ الكَوْنِ. (15) الثَّامِنَةُ: (مَضَرَّةُ أَصْحَابِ السُّوءِ عَلَى الإنْسانِ)
المَعْنَى: أَنَّهُ لَوْلاَ هذانِ الرَّجُلاَنِ لَرُبَّمَا وُفِّقَ أبو
طَالِبٍ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ، لكنَّ هؤلاَءِ -
والعِياذُ باللهِ - ذَكَّرَاهُ نَعْرَةَ الجَاهِليَّةِ، ومَضَرَّةُ
رُفَقَاءِ السُّوءِ ليسَ خاصًّا بالشِّرْكِ، ولَكِنْ فِي جَمِيعِ سُلُوكِ
الإِنْسانِ. (16) التاسعةُ: (مَضَرَّةُ تَعْظِيمِ الأَسْلاَفِ والأَكَابرِ) لأنَّ أَبَا طَالِبٍ اخْتَارَ
أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلبِ حينَ ذَكَّرُوهُ
بأَسْلاَفِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَشِريعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ. (17) العَاشِرةُ: (الشُّبْهَةُ للمُبْطِلِينَ في ذلكَ) لاسْتِدْلاَلِ أَبِي جَهْلٍ بذلكَ: (18) الحاديَةَ عشْرةَ: (الشاهدُ لكونِ الأعمالِ بالخَوَاتِيمِ)
وهذا مَبْنِيٌّ على القَوْلِ بأنَّ مَعْنَى (حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ) أيْ:
ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُها وَلَمْ يَنْزِلْ بِهِ كَمَا سَبَقَ. (19) الثانيَةَ عشرةَ: (التَّأَمُّلُ في كِبَرِ هذه الشُّبْهَةِ في قُلُوبِ الضَّالِّينَ.. إلخ) وهذه الشُّبْهَةُ هيَ: تَعْظِيمُ الأَسْلاَفِ والأَكَابِرِ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الخَطَابُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكَانَ يُحِبُّ هِدَايَةَ عَمِّهِأَبِي طَالِبٍ أوْ مَنْ هوَ أَعَمُّ منهُ.
فأَنْتَ يا مُحَمَّدُ
المُخَاطَبُ بِكَافِ الخِطَابِ، ولهُ المَنْزِلَةُ الرَّفِيعَةُ عندَ
اللهِ، لاَ تَسْتَطِيعُ أن تَهْدِيَ مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايتَهُ،
ومَعْلُومٌ أَنَّهُ إذا أَحَبَّ هِدَايتَهُ فَسَوْفَ يَحْرِصُ عَلَيهِ،
ومَعَ ذلكَ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ هذا الأَمْرَ؛ لأَِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ
بيدِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ }.
وقَالَ تَعَالَى: { وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ }
فَأَتَى بـ (أَلْ) الدَّالَّةِ عَلَى الاسْتِغْرَاقِ؛ لأَِنَّ (أَلْ) فِي
قَوْلِهِ (الأَمْرُ) للاسْتِغْرَاقِ، فهيَ نَائِبَةٌ مَنَابَ كُلٍّ؛ أيْ:
وإليهِ يُرْجَعُ كُلُّ الأَمْرِ، ثُمَّ جَاءَتْ مَؤَكَّدةً (بكُلّ)، وذلكَ
تَوْكِيدَانِ.
والْهِدَايَةُ الَّتِي نَفَاهَا اللهُ عَن رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ هي هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ، والَّتِي أَثْبتَها هي هِدَايَةُ
الدَّلاَلَةِ والإِرْشَادِ، ولِهَذا أَتَتْ مُطْلَقَةً لِبَيانِ أَنَّ الذي
بِيدَهِ هوَ هِدَايَةُ الدَّلاَلَةِ فقطْ، لاَ أنْ يَجْعَلَهُ
مُهْتَدِيًا، قَالَ تَعَالَى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
فَلَمْ يُخَصِّصْ سَبْحَانَهُ فَلاَنًا وفُلاَنًا ليُبيِّنَ أَنَّ
المُرَادَ أَنَّكَ تَهْدِي هِدَايَةَ دَلاَلَةٍ، فَأَنْتَ تَفْتَحُ
الطَّرِيقَ أمامَ النَّاسِ فقطْ، وتُبَيِّنُ لَهُم وتُرْشِدُهم، وأَمَّا
إِدْخَالُ النَّاسِ في الهِدَايَةِ، فهذا أمرٌ ليسَ إلى الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إِنَّما هوَ مِمَّا تَفَرَّدَ اللهُ بِهِ
سُبْحَانَهُ، فنَحْنُ عَلَيْنَا أنْ نُبَيِّنَ ونَدْعُوَ، وأمَّا هِدَايَةُ
التَّوْفِيقِ -أيْ: أَنَّ الإنْسَانَ يَهْتَدِي- فهذا إلى اللهِ سبحانَهُ
وتَعالَى، وهذا هوَ الجَمْعُ بينَ الآيتينِ.
وقَوْلُهُ: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } ظَاهِرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُحِبُّ أَبَا طَالِبٍ، فكيفَ يُؤَوَّلُ ذلكَ؟
ويَجُوزُ أَنْ يُحِبَّهُ مَحَبَّةَ قَرَابَةٍ، ولاَ يُنَافِي هذا
المَحَبَّةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَقَدْ أُحِبُّ أَنْ يَهْتَدِيَ هذا الإنْسانُ
-وإِنْ كُنْتُ أَبْغَضُهُ شَخْصيًّا لكُفْرِهِ- ولكنْ لأَِنِّي أُحِبُّ
أنَّ النَّاسَ يَسْلُكُونَ دِينَ اللهِ.
ويَجُوزُ أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الإِرْشَادِ والتَّوْجِيهِ.
ويَجُوزُ أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَجِّي والتَّلَطُّفِ معَهُ، وأَبُو طَالِبٍ والذينَ عندَهُ يَعْرِفُونَ هذه الكَلِمةَ ويَعْرِفُونَ مَعْناها؛ ولِهَذا بَادَرَ بالْإنْكَارِ.
قولُهُ: ((كَلِمَةً))
مَنْصُوبَةً؛ لأَِنَّها بَدَلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ويَجُوزُ إِذَا
لَمْ تَكُن الرِّوايَةُ بالنَّصْبِ أَنْ تَكُونَ بالرَّفْعِ؛ أيْ: هيَ
كَلِمَةٌ، ولَكِنَّ النَّصبَ أَوْضَحُ.
قولُهُ: ((أُحَاجُّ))
المعنى: أَذْكُرُهَا حُجَّةً لَكَ عندَ اللهِ، وليسَ أُخاصِمُ وأُجادِلُ
لكَ بِهَا عندَ اللهِ، وإنْ كانَ بعضُ أهلِ العِلْمِ قَالَ: إِنَّ
مَعْناهَا (أُجَادِلُ اللهَ بِهَا)، ولَكِنَّ الذي يَظْهَرُ لِي أَنَّ
المَعْنَى: ((أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عندَ اللهِ)) أيْ: أَذْكُرُهَا حُجَةً لَكَ، كَمَا جَاءَ في بَعْضِ الرِّوَاياتِ: ((أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِندَ اللهِ)).
وقَدْ مَاتَ أبو جهلٍ عَلَى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ، أَمَّا عبدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، والمُسَّيبُ الذي رَوَى الحديثَ فَأَسْلَمَا، فَأَسْلَمَ مِنْ هؤلاءِ الثَّلاَثَةِ رَجُلاَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قولُهُ: (مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ) أيْ: دِينِ عبدِ المُطَّلِبِ.
قولُهُ: (فأَعَادَا عَلَيْهِ) أيْ قَوْلَهُمَا: (أَتَرْغَبُ عنْ مِلَّةِ عبدِ المُطَّلَبِ؟).
قولُهُ: (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:((لأََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ))) إلخ، جُمْلَةُ: ((لأََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) مُؤَكَّدَةٌ بثَلاَثةِ مُؤَكِّدَاتٍ:
قولُهُ:((مَا لَمْ أُنْهَ عنْكَ)) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، والنَّاهِي عنه هوَ اللهُ.
- وقولِهِ: { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَـنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا }.
وقولُهُ: {أَن يَسْتَغْفِرُوا} أيْ: يَطْلُبوا المَغْفِرَةَ للمُشْرِكِينَ.
وقولُهُ: {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}
أيْ: حَتَّى ولوْ كانُوا أَقَارِبَ لَهُم، ولِهَذا لَمَّا اعْتَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ومَرَّ بِقَبْرِ أُمِّهِ
اسْتَأْذَنَ اللهَ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا فَمَا أَذِنَ اللهُ لَهُ،
فاسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَزُورَ قَبْرَها فَأَذِنَ لهُ، فَزَارَهُ
للاعْتِبَارِ وبَكَى وأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ.
فاللهُ مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ المَغْفِرَةِ للمُشْرِكِينَ؛ لأَِنَّ هؤلاءِ
المُشْرِكِينَ لَيْسُوا أهَلاً للمَغْفِرَةِ، إِذَا دَعَوْتَ اللهَ أَنْ
يَفْعَلَ مَا لاَ يَلِيقُ فَهو اعْتِدَاءٌ في الدُّعَاءِ.
قولُهُ: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
أيْ: يَهْدِي هِدَايَةَ التَّوْفِيقِ مَنْ يَشَاءُ، واعْلَمْ أنَّ كُلَّ
فِعْلٍ يُضَافُ إلى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى فهوَ مَقْرُونٌ بالْحِكُمَةِ؛
أيْ: مَن اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أنْ يَهْدِيَهُ فإنَّهُ يَهْتَدِي، ومَن
اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يُضِلَّهُ أَضَلَّهُ.
وهذا الحَدِيثُ يَقْطَعُ وسَائلَ الشِّرْكِ بالرَّسُولِ وغيرِهِ، فالذينَ
يَلْجَأُونَ إليهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ويَسْتَنْجِدُونَ بِهِ
مُشْرِكُونَ، فَلاَ يَنْفَعُهُم ذلكَ؛ لأنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أنْ
يَسْتَغْفِرَ لِعَمِّهِ، مَعَ أنَّهُ قَدْ قَامَ مَعَهُ قِيامًا عَظَيمًا، نَاصَرَهُ وآزَرَهُ في دَعْوَتِهِ، فكيفَ بغيرهِ مِمَّن يُشْرِكُونَ باللهِ؟!.
قال في (فتح المجيد) ص244 : (ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام؛ ليبين لعباده أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه.
فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو أفضل خلقه ـ من هداية
القلوب وتفريج الكروب، ومغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب؛ لكان أحق الناس
بذلك وأولاهم به عمّهُ، الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه. فسبحان من
بهرت حكمتهُ العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده وإخلاص
العمل له، وتجريده).
وقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُها، وبَيَانُ تَحْرِيمِ اسْتِغْفَارِ المُسْلِمِينَ للمُشْرِكِينَ ولوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى.
وقولُهُ: (بِخِلاَفِ مَا عَلَيْهِ مَنْ يَدَّعِي العِلْمَ) كأَنَّهُ
يُشِيرُ إلى تَفْسيرِ المُتَكَلِّمِينَ لِمَعْنَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللهُ، حيثُ يَقُولُونَ: إِنَّ الإِلَهَ هوَ القَادِرُ عَلَى الاخْتِرَاعِ،
وأَنَّهُ لاَ قَادِرَ عَلَى الاخْتِرَاعِ والإِيجَادِ والإِبْدَاعِ إِلاَّ
اللهُ، وهذا تَفْسيرٌ باطِلٌ كما تقدم.
فالحَاصِلُ: أنَّ الذينَ يدَّعُونَ أنَّ مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) أنه لاَ قَادِرَ عَلَى الاخْتِرَاعِ إِلاَّ هوَ، أوْ يَقُولُونَها وهم يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كالأَوْلِياءِ، هم أَجْهَلُ مِنْ أَبِي جَهْلٍ.
-ولِمَا أَسْدَى للرَّسُولِ والإِسْلاَمِ مِن المَعْرُوفِ، فهوَ عَلَى هذا مَشْكُورٌ وإِنْ كَانَ عَلَى كُفْرِهِ مَأْزُورًا في النَّارِ.
(13) السَّادِسَةُ: (الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ إِسْلاَمَ عبدِ المُطْلَبِ)
بدَلِيلِ قَوْلِهِمَا: أَتَرْغَبُ عَن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلبِ؟ حينَ
أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَقُولَ: لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلَّةَ عبدِ المُطَّلِبِ الكُفْرُ والشِّرْكُ.
وفي الحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بإسْلاَمِ أَبِي طَالِبٍ أوْ نُبُوَّتِهِ، كَمَا تَزْعُمُهُ الرَّافِضَةُ قبَّحَهُمُ اللهُ، وأنَّ آخِرَ مَا قَالَ هوَ: عَلَى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ، وأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
وكذا أمُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ في
الاسْتِغْفَارِ لَهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الكُفْرِ لَيْسوا أهْلاً
للمَغْفِرةِ بأَيِّ حَالٍ، ولاَ يُجابُ لَنَا فيهم، ولاَ يَحِلُّ
الدُّعَاءُ لَهُم بالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ، وإِنَّما يُدْعَى لَهُم
بالْهِدَايَةِ وهم أَحْياءٌ.
وهذا ليسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، فَتَعْظِيمُهم إِنْ كَانُوا أَهْلاً لذلكَ
فَلاَ يَضُرُّ، بلْ هوَ خَيْرٌ، فأَسْلاَفُنا مِنْ صَدْرِ هذه الأُمَّةِ
لاَ شَكَّ أنَّ تَعْظِيمَهم وإِنْزَالَهم مَنَازِلَهم خَيْرٌ لاَ ضَرَرَ
فيهِ.
وإنْ كَانَ تَعْظِيمُ الأَكَابِرِ لِمَا هُم عَلَيْهِ مِن العِلْمِ والسِّنِّ فليسَ فيهِ مَضَرَّةٌ.
وإنْ كَانَ تَعْظِيمُهم لِمَا هم عَلَيْهِ مِن البَاطِلِ فهوَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَى دِينِ المَرْءِ.
شُبَهُ المُبْطِلينَ في تَعْظِيمِ الأَسَلاَفِ، هيَ اسْتِدْلاَلُ أبي جَهْلٍ بذلكَ في قولِهِ: (أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟) وهذه الشُّبْهَةُ ذَكَرَها اللهُ في القُرْآنِ في قَولِهِ تَعَالَى: {
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ
إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }.
فالمُبْطِلُونَ يَقُولُونَ في شُبْهَتِهم أنَّ أَسْلاَفَهم عَلَى الحقِّ
وسَيَقْتَدُونَ بِهِم، ويَقُولُونَ: كيفَ نُسَفِّهُ أَحْلاَمَهم؟
ونُضَلِّلُ ما هم عليهِ؟
وهذا يُوجَدُ في المُتَعَصِّبِينَ لِمَشَايِخِهم وكُبَرَائِهم ومذَاهِبِهم،
حَيْثُ لاَ يَقْبَلُونَ قُرْآنًا ولاَ سُنَّةً في مُعَارَضَةِ الشَّيْخِ
أو الإمامِ، حتَّى إنَّ بعضَهم يَجْعَلُهُم مَعْصُومِينَ كالرَّافِضَةِ
والتِّيجَانِيَّةِ والقَادِيانيَّةِ وغيرِهِم، فهم يَرَوْنَ أنَّ إمامَهم
لاَ يُخْطِئُ، والكِتَابُ والسُّنَّةُ يُمْكِنُ أَنْ يُخْطِئَا.
والواجِبُ على المرءِ أنْ يَكُونَ تَابِعًا لِمَا جَاءَ بهِ الرَّسُولُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأنَّ مَنْ خَالَفَهُ مِن الكُبَرَاءِ
والأَئِمَّةِ فإِنَّهم لاَ يُحْتَجُّ بِهِم على الكتابِ والسُّنَّةِ، لكنْ
يُعْتَذرُ لهم عنْ مُخَالَفَةِ الكتابِ والسُّنَّةِ إنْ كَانُوا أَهْلاً
للاعْتِذَارِ، بِحَيْثُ لَمْ يُعْرَفْ عنهم مُعَارَضَةٌ للنُّصُوصِ،
فيُعْتَذَرُ لهم بِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ العِلْمِ، ومِنْ أَحْسَنِ مَا
أُلِّفَ في ذلكَ كِتَابُ شَيْخِ الإِسْلاَمِ (رَفْعُ المَلاَمِ عن الأئمَّةِ الأعلامِ)، أمَّا مَنْ يُعْرَفُ بِمَعَارَضَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فَلاَ يُعْتَذَرُ لهُ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن الهداية من أعزّ المطالب، وأعظم ما تعلق به الذين تعلقوا بغير الله، أن يكون لهم النفع في الاستشفاع؛ وفي التوجه، في الدنيا والأخرى. ولا يستطيع أن ينفع قرابته ((يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أُغني عنك من الله شيئاً))
إذا كان هذا في المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يُغني من الله -جل
وعلا- عن أحبابه شيئاً، وعن أقاربه شيئاً؛ وأنه لا يملك شيئاً من الأمر؛
وأنه ليس بيده هداية التوفيق، فإنه أن ينتفي ذلك وما دونه عن غير النبي
-صلى الله عليه وسلم- من باب أولى. قال هنا: [باب قول الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}]{لا} هنا نافية، وقوله: {تهدي} الهداية المنفية هنا: هي هداية التوفيق، والإلهام الخاص، والإعانة الخاصة؛ هي التي يُسميها العلماء هداية التوفيق والإلهام، ومعناها: أن الله -جل وعلا- يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قبول الهدى ما لا يجعله لغيره؛
فالتوفيق إعانة خاصة لمن أراد الله توفيقه، بحيث يقبل الهدى ويسعى فيه؛
فَجَعْلُ هذا في القلوب ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إذ القلوب بيد
الله، يُقلبها كيف يشاء؛ حتى من أحب، لا يستطيع عليه الصلاة والسلام أن
يجعله مُسلماً مهتدياً؛ فمن أنفع قرابته له: أبو طالب، ومع ذلك لم يستطع أن يهديه هداية توفيق؛ فالمنفي هنا: هو هداية التوفيق. والنوع الثاني من الهداية المتعلقة بالمكلف:
فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- ليس له من الأمر شيء؛
هداية الدلالة والإرشاد، وهذه ثابتة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بخصوصه، ولكل داعٍ إلى الله، ولكل نبيٍ ورسول، قال جل وعلا: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}.
- وقال -جل وعلا- في نبيه عليه الصلاة والسلام:{وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله}{لتهدي} يعني: لتدل وترشد إلى صراط مستقيم، بأبلغ أنواع الدلالة، وأبلغ أنواع الإرشاد؛ الدلالة والإرشاد المؤيدان بالمعجزات والبراهين، والآيات الدالة على صدق ذلك الهادي، وصدق ذلك المرشد.
فإذاً: الهداية المنتفية: هي هداية التوفيق، وهذا يعني: أن النفع وطلب النفع في هذه المطالب المهمة يجب أن يكون من الله جل وعلا؛ وأن محمداً عليه الصلاة والسلام؛ مع عِظَمِ شأنه عند ربه، وعظم مقامه عند ربه، وأنه سيد ولد آدم؛ وأنه أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، وأشرف الأنبياء والمرسلين، إلا أنه لا يملك من الأمر شيئاً عليه الصلاة والسلام، فبطل إذاً: تعلق القلوب في المطالب المهمة؛ في الهداية، وفي المغفرة، وفي الرضوان، وفي البعد - بعد الشرور- وفي جلب الخيرات إلا بالله جل وعلا، فإنه هو الذي تتعلق القلوب به -جل وعلا- خضوعاً، وإنابةً، ورغباً، ورهباً، وإقبالاً عليه، وإعراضاً عما سواه؛ سبحانه وتعالى.قال بعد ذلك: [في (الصحيح) عن ابن المسيَّب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالبالوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: فقال له:((يا عمِّ قل لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله)) فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فأعاد عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب؛ وأبى أن يقول: لا إله إلا الله] في هذا القدر من الفائدة، أن هذه الكلمة؛ كلمة (لا إله إلا الله)
ليست كلمة مُجردة عن المعنى تنفع من قالها ولو لم يُقرّ بمعناها، والعرب
كانوا لصلابتهم، وعزتهم، ورجولتهم، ومعرفتهم بما يقولون: كانوا إذا تكلموا
بكلام يَعُون ما يتكلمون به، يعون كل حرف، وكل كلمة، خُوطبوا به، أو نطقوا
به هم؛ فلما قيل لهم: قولوا (لا إله إلا الله) مع أنها كلمة يسيرة لكن أبوا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة معناها: إبطال إلاهة من سوى الله جل وعلا.
ولهذا قال جل وعلا: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون، بل جاء بالحق وصدّق المرسلين…} الآيات.
وكذلك:
قوله في أول سورة ص: قول الله -جل وعلا- مُخبراً عن قولهم: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً} استنكروا (لا إله إلا الله) وهذا هو الذي حصل مع أبي طالب، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((قل لا إله إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله)) فلو كانت مجردة من المعنى عندهم؛ أو يمكن أن يقولها دون اعتقاد ما فيها، ورضى بما فيها، ويقين، وانتفاء الريب: لقالها، ولكن ليس هذا هو المقصود من قول (لا إله إلا الله) بل المقصود: هو قولها مع تمام اليقين بها، وانتفاء الريب، والعلم والمحبة… إلى آخر الشروط.
(فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب)
وهذا فيه -والعياذ بالله- ضرر جليس السوء على المُجالِسِ له، فكان آخر ما قال: (هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك)) ) وهذا موطن الشاهد من هذا الحديث.
ومناسبة هذا الحديث لهذا الباب:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لأستغفرن لك)) و(اللام) هنا: هي التي تقع في جواب القسم، فثَمّ قسم مُقدَّر، تقديره: واللهِ لأستغفرن لك، وحصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنِ استغفر لعمّه، ولكن هل نفع عمّه استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- له؟
لم ينفعه ذلك.وطلبُ الشفاعة والاستشفاع: هو من جنس طلب المغفرة.
- فالاستغفار: طلب المغفرة.
- والشفاعة: قد يكون منها طلب المغفرة، فَرُدَّت، رُدّ ذلك لأن المطلوب له المستشفع له هو مشرك؛ لأن المستشفع له، المشفوع له، مشرك بالله، والاستغفار والشفاعة لا تنفع أهل الشرك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك أن ينفع مشركاً بمغفرة ذنوبه؛ أو أن ينفع أحداً ممن توجه إليه بشرك في إزالة ما به من كُرُبات، أو جَلْبِ الخيرات له، لهذا قال: ((لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك)) فأنزل الله عز وجل:{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} وهذا ظاهر في المقام: أن الله -جل وعلا- نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر للمشركين.
وكلمة (ما كان) في الكتاب والسنة: تأتي على استعمالين:
الاستعمال الأول:
النهي.
والاستعمال الثاني:
النفي.
النهي: مثل هذه الآية، وهي قوله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} هذا نهي عن الاستغفار لهم.وكذلك قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
والنفي كقوله: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} ونحو ذلك من الآيات.
فإذاً: (ما كان) في القرآن: تأتي على هذين المعنيين، وهنا المراد بها النهي: نهي أن يستغفر أحدٌ لمشرك، وإذا كان كذلك، فالميت الذي هو من الأولياء، من الأنبياء، من الرُّسل؛ فإذا نُهي في الحياة الدنيا أن يستغفر لمشرك، فهو أيضاً لو فُرض أنه يقدر على الاستغفار في حال البرزخ، فإنه لن يستغفر لمشرك؛ ولن يسأل الله لمشرك توجه إليه بالاستشفاع؛ أو توجه إليه بالاستغاثة، أو بالذبح، أو بالنذر؛ أو تألَّهَهُ؛ أو توكَّلَ عليه؛ أو أنزل به حاجاته من دون الله جل وعلا.- قال: وأنزل الله في أبي طالب: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
العناصر
بيان مناسبة هذا الباب (باب قول الله تعالى: (إنك لا تهدي...)) لكتاب التوحيد
مناسبة الباب لما قبله
تفسير قول الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)، وذكر سبب نزولها
- معنى المحبة في قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) شرح حديث المسيب بن حزن رَضِيَ اللهُ عَنْهُما
- معنى قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) تفسير قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين ءامنوا..)شرح مسائل الباب.
- المراد بـ(ما كان)، أو (ما ينبغي)، أو (لا ينبغي) إذا جاءت في القرءان والسنة
- تأريخ وفاة أبي طالب، وخديجة رضي الله عنها
- ما يدل عليه قول المسيب: (جاءه رسول الله)، وحكم عيادة المشرك
- المراد بالأمر في قوله: (قل: لا إله إلا الله)
- معنى قوله: (كلمة أحاج لك بها عند الله..)
- معنى قولهما: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟)، والسبب في إخراجهما الكلام مخرج الاستفهام
- السبب في قول الراوي: (هو على ملة عبد المطلب) بدل: (أنا..)
- السبب في إعادة النبي صلى الله عليه وسلم على عمه مقالته
- السبب في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه
- في قوله: (وأبى أن يقول: لا إله إلا الله) الرد على من زعم إسلام أبي طالب
- ما يستفاد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك)
- سبب نزول قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين)
- الجمع بين القول بنزول قوله تعالى: (ما كان للنبي..) في أبي طالب، ونزولها بعد ذلك في استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمِّه
- ما يستفاد من حديث المسيب رضي الله عنه
- معرفة أبي جهل وصاحبه بمعنى كلمة التوحيد
- بطلان تفسير (لا إله إلا الله) بالقادر على الاختراع
- هل يكفي مجرد النطق بكلمة التوحيد
- بيان أثر أصحاب السوء على المرء