باب الشفاعة
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ الشَّفَـاعَـةِ
- وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ
مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأَنْعَام:51]. فَهَذِهِ
الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُونَ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، كَمَا نَفَاهَا الْقُرْآنُ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم: ((أَنَّهُ
يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ - لاَ يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ
أَوَّلاً - ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ،
وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ)). فَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ لأَِهْلِ الإِخْلاَصِ بِإِذْنِ اللهِ، وَلاَ تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ. انْتَهَى كَلاَمُهُ. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَاتِ. الثَّانِيَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ. الثَّالِثَةُ: صِفَةُ الشَّفَاعَةِ الْمُثْبَتَةِ. الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. الْخَامِسَةُ: صِفَةُ مَا يَفْعَلُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لاَ يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ بَلْ يَسْجُدُ، فَإِذَا أَذِنَ اللهُ لَهُ شَفَعَ. السَّابِعَةُ: أَنَّهَا لاَ تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ. الثَّامِنَةُ: بَيَانُ حَقِيقَتِهَا.
- وَقَوْلِهِ: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزُّمَر:44].
- وَقَوْلِهِ:{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[الْبَقَرَة:255].
- وَقَوْلِهِ: {وَكَم
مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ
مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النَّجْم:26].
- وَقَوْلِهِ: {قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ومَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن
شِرْكٍ ومَا لَهُ مِنْهُم مِّنْ ظَهِيرٍ (22) ولا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سَبَأ:22،23].
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: (نَفَى
اللهُ عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَنَفَى
أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْهُ، أَوْ يَكُونَ عَوْنًا
للهِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الشَّفَاعَةُ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا لاَ
تَنْفَعُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ، كَمَا قَالَ:{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[الأَنْبِيَاء:28]).
وَقَالَ لَهُأَبُو هُرَيْرَةَ:(مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قَالَ: ((مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ)).
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي
يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الإِخْلاَصِ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ
دُعَاءِ مَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ، وَيَنَالَ
الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.
فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ،
وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَقَدْ بَيَّنَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ لأَِهْلِ
التَّوْحِيدِ وَالإِخْلاَصِ)
السَّادِسَةُ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا؟
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
لَمَّا كانَ المُشْركونَ في قَدِيمِ الزَّمانِ وحديثِهِ
إنَّما وَقَعُوا في الشِّرْكِ لِتعلُّقِهِم بأذيالِ الشَّفاعةِ، كمَا قالَ تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18]. - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن
وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}[السجدة:4]. فإنْ قلْتَ: إِذَا كَانَ مَن اتَّخَذَ شَفِيعًا عندَ اللهِ، إنَّما
قَصْدُهُ تَعْظِيمُ الرَّبِّ تعالى وتَقَدَّسَ أَنْ يُتَوصَّلَ إليه
إِلاَّ بالشُّفَعَاءِ، فَلِمَ كَانَ هَذَا القدْرُ شِرْكًا؟!. قيلَ: قَصْدُهُ للتَّعْظيمِ لا يَدُلُّ عَلَى أنَّ ذَلِكَ تَعْظِيمٌ للهِ تَعَالى، فكم مَن يَقْصِدُ التَّعظيمَ لشَخْصٍ يَنْقُصُهُ بتَعْظِيمِهِ، ولهذا قيلَ في المَثَلِ المَشْهُورِ: (يَضُرُّ الصَّدِيقُ الجَاهِلُ ما لا يَضُرُّ العَدُوُّ العَاقِلُ). فإنَّهُم ظَنُّوا بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ حتَّى أَشْرَكُوا بهِ، ولو
أَحْسَنُوا بهِ الظَّنَّ لوحَّدُوهُ حَقَّ تَوْحيدِهِ، ولهذا أَخْبرَ
سُبْحانَهُ وتعالى عن المُشرِكِينَ أنَّهُم ما قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ
وكيف يَقْدِرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَن اتَّخَذَ مِن دونِهِ نِدًّا، أو
شَفِيعًا يُحِبُّهُ ويَخَافُهُ ويَرْجُوهُ، ويَذِلُّ لَهُ، ويَخْضَعُ له
ويَهْرُبُ مِن سَخَطِهِ ويُؤْثِرُ مَرْضَاتَهُ ويَدْعُوه ويَذْبَحُ له
ويَنْذِرُ، وهذه هي التَّسْويَةُ التي أَثْبَتَهَا المُشْرِكونَ بينَ اللهِ
وبينَ آلهتِهِم وعَرَفُوا وهم في النَّارِ أنَّها كانَتْ باطلاً
وضَلاَلاً، فيَقُولُونَ وهم في النَّارِ: {تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ}[الشعراء:97،98]. ومَعْلومٌ أنَّهُم ما سَاوَوْهُم بهِ في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأَفْعَالِ، وَلاَ
قَالُوا: إنَّ آلِهَتَكُم خَلَقَتِ السَّمَاواتِ والأَرْضَ، وإنَّهَا
تُحْيي وتُمِيتُ، وإنَّما سَاوَوْهُم به في المَحَبَّةِ والتَّعْظِيمِ
والعِبَادَةِ، كَمَا تَرَى عَلَيْهِ أَهْلَ الإِشْرَاكِ ممَّنْ يَنْتَسِبُ
إلى الإسلامِ، وإنَّما كانَ ذلك هَضْمًا لحَقِّ الرُّبُوبيَّةِ،
وتَنَقُّصًا لعظمةِ الإلهيَّةِ، وسُوءَ ظَنٍّ برَبِّ العَالَمِينَ؛ لأنَّ
المُتَّخِذَ للشُّفعاءِ والأَنْدَادِ؛ - وإمَّا أَنْ يَظُنَّ أنَّ اللهَ سبحانَهُ إنَّما تَتِمُّ قُدْرتُهُ بقُدْرةِ الشَّفيعِ. - وإمَّا أنْ يَظُنَّ أنَّهُ لا يَعْلَمُ حتى يُعَلِّمَهُ الشَّفِيعُ،
أو لاَ يَرْحَمُ حتى يَجْعَلَهُ الشَّفيعُ يَرْحَمُ، أو لا يَكْفِي
وحدَهُ، أو لا يَفْعَلُ ما يُرِيدُ العَبْدُ حتى يَشْفَعَ عندَهُ كمَا
يَشْفَعُ عندَ المخلوقِ، أو لا يُجِيبُ دُعاءَ عِبادِهِ حَتَّى يَسْأَلُوا
الشَّفِيعَ أن يَرْفَعَ حاجَتَهُم إليهِ، كمَا هو حالُ مُلُوكِ الدُّنيا،
وهذا أَصْلُ شِرْكِ الخَلْقِ، أو يَظُنُّ أنَّهُ لا يَسْمَعُ حتى يَرْفَعَ
الشَّفِيعُ إِلَيْهِ ذَلِكَ، أو يَظُنُّ أنَّ للشَّفيعِ عليه حقًّا، فهو
يُقْسِمُ عليه بحَقِّهِ، ويَتَوَسَّلُ إليهِ بذلكَ الشَّفيعِ، كمَا
يَتَوَسَّلُ النَّاسُ إلى الأكابرِ والمُلُوكِ بمَنْ يَعِزُّ عليهِم، ولا
تُمْكِنُهُم مُخَالَفتُهُ، وكلُّ هذا تَنَقُّصٌ للرُّبُوبيَّةِ، وهَضْمٌ
لحَقِّها، ذَكَرَ مَعْنَاه ابنُ القَيِّمِ. فلهذه الأُمُورِ وغيرِها أَخْبَرَ سبحانَهُ وتعالى أنَّ ذلك شِرْكٌ، ونَزَّهَ نَفْسَهُ عنه فقالَ: {وَيَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ
هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ
يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سبحانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ}[يُونُس:18]. فإنْ قلْتَ: إنَّما حَكَمَ سبحانَهُ وتعالى بالشِّرْكِ عَلَى مَن عَبَدَ الشُّفَعَاءَ، أَمَّا مَنْ دَعَاهُم للشَّفَاعَةِ فَقَطْ، فهو لَمْ يَعْبُدْهُم، فلا يَكُونُ ذلك شِرْكًا. قيلَ: مُجَرَّدُ اتِّخَاذِ الشُّفعاءِ مَلْزُومٌ للشِّرْكِ، والشِّرْكُ
لاَزِمٌ لَهُ، كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ مَلْزُومٌ لتَنَقُّصِ الرَّبِّ
سبحانَهُ وتعالى، والتَّنَقُّصُ لاَزِمٌ لَهُ ضَرُورَةً، شَاءَ المُشْرِكُ
أَم أَبَى، وعَلَى هذا فالسُّؤَالُ باطِلٌ مِن أَصْلِهِ لا وجُودَ له في
الخَارِجِ، وإنَّما هو شَيْءٌ قَدَّرَهُ المُشْرِكُونَ في أَذْهَانِهِم،
فإنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، بل هو مُخُّ العِبَادَةِ، فَإِذَا دَعَاهُم
للشفاعةِ، فَقَدْ عَبَدَهُم وأَشْرَكَ في عِبَادَةِ اللهِ شَاءَ أم أَبَى. (2) الإِنْذَارُ: هو الإِعْلامُ بمَوْضِعِ المَخَافَةِ. وقولُهُ: {بهِ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (بالقُرْآنِ). قلْتُ: فنَفَى سبحانَهُ وتعالى عن المؤمنينَ أن يكونَ لهم وَلِيٌّ
أو شَفِيعٌ مِن دونِ اللهِ كمَا هو دينُ المُشْرِكِينَ، فمَن اتَّخذَ مِن
دونِ اللهِ شَفِيعًا، فليسَ مِن المؤمنينَ، ولا تَحْصُلُ له الشَّفاعَةُ. (3) هَكَذَا أَوْرَدَها المُصَنِّفُ، ونَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا وعَلَى الآيةِ التي قَبْلَهَا ليَتَّضِحَ المَعْنَى. - وقالَ تعالى: {فَلَوْلاَ
نَصَرَهُمُ الَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ
ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}[الأحقاف:28] فهذا هو مَقْصودُ المشركينَ ممَّن عَبَدُوهُم وهو الشَّفَاعَةُ لَهُم عندَ اللهِ. - قولُهُ: {قُلْ أَوَلَوْ كانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ}[الزمر:43]
أي: أَيَشْفَعُونَ ولو كَانُوا عَلَى هذه الصِّفَةِ كمَا تُشَاهِدُونَهُم
جَمَادَاتٍ لا تَقْدِرُ ولا تَعْلَمُ، أو أمواتًا كذلِكَ، حتى ولا
يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ كمَا قالَ: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزُّمَر:44] أي: هو مَالِكُهَا كُلِّها فليسَ لمَنْ تَدْعُونَهُم منها شَيْءٌ. - قَالَ البَيْضَاوِيُّ: (لَعَلَّهُ
رَدٌّ لِمَا عَسَى يُجِيبُونَ بهِ وهو أنَّ الشُّفعاءَ أَشْخَاصٌ
مُقَرَّبُونَ، هي تَمَاثيلُهُم، والمعْنَى: أنَّهُ مَالِكُ الشَّفَاعَةِ
كُلِّها لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ شَفَاعَةً إِلاَّ بإذْنِهِ، وَلاَ
يَسْتَقِلُّ بها). - وقولُهُ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الحديد:2]
تَقْرِيرٌ لبُطْلاَنِ اتِّخَاذِ الشُّفعاءِ مِن دونِهِ بأنَّهُ مالِكُ
المُلْكِ كُلِّهِ، لا يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يَتَكلَّمَ في أمرِهِ دونَ
إذنِهِ ورضاهُ، فانْدَرَجَ في ذلك مِلْكُ الشَّفاعةِ، فإِذَا كانَ هو
مَالِكَهَا بَطَلَ اتِّخاذُ الشُّفعاءِ مِن دونِهِ كَائِنًا مَنْ كانَ. - وقالَ تعالى: {وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكانَكُمْ
أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكَاؤُهُمْ
مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}[يونس:28،29]. - وقولِهِ: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[هود:105]. - فقالَ اللهُ تعالى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}[النساء:17]
وتَقَرَّرَ في هذه الآيةِ أنَّ اللهَ يَأْذَنُ لمَنْ يَشَاءُ بالشَّفاعةِ،
وهم الأَنْبِياءُ والعُلَمَاءُ وغَيْرُهُم، والإِذْنُ راجِعٌ إلى الأمرِ
فيما نَصَّ عليه كمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قِيلَ له: اشْفَعْ تُشَفَّعْ، وكذلِكَ قالَه غيرُ واحدٍ مِن المُفَسِّرِينَ). (4) قالَ أَبُو حيَّانَ: ((كم) خَبَرِيَّةٌ ومعناها: التَّكْثِيرُ وهي في مَوْضِعِ رفْعٍ بالابْتِدَاءِ والخَبَرُ {لاَ تُغْنِي} والغَنَاءُ جَلْبُ النَّفْعِ، ودَفْعُ الضَّرَرِ بحَسَبِ الأمرِ الَّذي يكونُ فيه الغَنَاءُ. قلْتُ: في
هذه الآياتِ مِن الرَّدِّ عَلَى مَنْ عَبَدَ المَلاَئِكَةَ والصَّالِحِينَ
لشَفَاعَةٍ أو غيرِهَا ما لا يَخْفَى، لأنَّهُم إذا كانُوا لا يَشْفَعُونَ
إِلاَّ بإذنٍ مِن اللهِ ابْتِدَاءً، فَلأَِيِّ معنًى يُدعَونَ
ويُعْبَدُونَ؟ واللهُ لا يَرْتَضِي إِلاَّ التَّوحيدَ كمَا قالَ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عِمْرَانَ:84] وقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبهِ)) فَلَمْ يَقُلْ: أَسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِي مَن دَعَانِي. قيلَ: فإنَّ اللهَ لم يَجْعَلِ الشِّرْكَ بهِ ودُعَاءَ غيرِهِ سببًا لإذنِهِ ورِضَاهُ، بل ذلك سَبَبٌ لغَضَبِه، ولهذا نَهَى عن دُعَاءِ غَيْرِهِ في غيرِ آيةٍ كَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}[يونس:106]. - وقالَ تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]. - وقالَ تعالى: {وَإِذْ
قَالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}[المائدة:116]. - وقالَ تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}[الإسراء:56]. فإِنَّ الغَرَانِيقَ هي: المَلاَئِكَةُ عَلَى قَوْلٍ. -
وعَلَى آخَرَ هي الأَصْنَامُ ولاَ تَنافِيَ بينَهُمَا، فإنَّ المَقْصُودَ
بعِبَادَتِهم الأصنامَ والمَلائِكَةَ والصَّالِحِينَ كمَا تَقَدَّمَ عن البَيْضَاوِيِّ. - وفي رِوَايَةٍ عنه عندَهما في قَوْلِهِ: {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ}[الإسراء:56] قَالَ: عيسَى وأُمُّهُ وعُزَيْرٌ. - وقَالَ تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98] إلى قولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُم مِّنَّا الحُسْنَى}[الأنبياء:101]. - فإِنَّ الغَرَانِيقَ هي المَلاَئِكَةُ عَلَى قَوْلٍ. - وعَلَى آخَرَ هي الأَصْنَامُ ولاَ تَنافِيَ بينَهُمَا، فإنَّ المَقْصُودَ بعِبَادَتِهم الأصنامَ والمَلائِكَةَ والصَّالِحِينَ كمَا تَقَدَّمَ عن البَيْضَاوِيِّ. والمقصودُ أنَّ المشركينَ الأوَّلينَ يَدْعُونَ الملائكةَ والصَّالحينَ ليَشْفَعُوا لهم عندَ اللهِ، كمَا
تَشْهَدُ بهِ نُصُوصُ القرآنِ، وكُتُبُ التَّفْسيرِ والسِّيَرِ، والآثارُ
طافحَةٌ بذلك، ويَكْفِي العَاقِلَ المُنْصِفَ قولُهُ تعالى: {وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ
إِيَّاكُمْ كانُواْ يَعْبُدُونَ (.4) قالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا
مِن دُونِهِمْ بَلْ كانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بهِم
مُّؤْمِنُونَ}[سبأ:40،41].
- وقالَ تعالى: {وَالَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزُّمَر:3]
وكذلِكَ قَطَعَ اللهُ أَطْماعَ المُشرِكينَ منها، وأَخْبَرَ أنَّهُ
شِرْكٌ، ونَزَّهَ نَفْسَهُ عنه، ونَفَى أَنْ يَكُونَ للخَلْقِ مِن دونِهِ
وَلِيٌّ أو شَفِيعٌ.
أَرَادَ المُصَنِّفُ في
هذا البابِ إِقَامَةَ الحُجَجِ عَلَى أنَّ ذلك هو عينُ الشِّرْكِ وأنَّ
الشَّفاعةَ التي يَظُنُّهَا مَنْ دَعَا غيرَ اللهِ ليَشْفَعَ له كمَا
يَشْفَعُ الوزيرُ عندَ المَلِكِ مُنْتَفِيةٌ دُنيا وأُخْرَى، وإنَّما اللهُ
هو الَّذي يَأْذَنُ للشَّافعِ ابتداءً، لا يَشْفَعُ ابتداءً كمَا
يَظُنُّهُ أَعْدَاءُ اللهِ.
فإنَّ اتِّخاذَ الشُّفَعَاءِ والأنْدَادِ مِن دونِ اللهِ هَضْمٌ لِحَقِّ
الرُّبُوبِيَّةِ، وتَنَقُّصٌ للعَظَمَةِ الإِلَهِيَّةِ، وسوءُ ظَنٍّ
بِرَبِّ العَالَمِينَ، كمَا قالَ تعالى: {وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لهمْ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح:6].
إمَّا أَنْ يَظُنَّ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَحْتَاجُ إلى مَن يُدَبِّرُ
أَمْرَ العَالَمِ مَعَهُ مِن وَزيرٍ أو ظَهِيرٍ أو مُعِينٍ، وَهَذَا
أَعْظَمُ التَّنَقُّصِ لمَنْ هو غَنِيٌّ عن كلِّ ما سِوَاهُ بذاتِهِ، وكلُّ
ما سواه فَقِيرٌ إليه بذاتِهِ.
وقولُهُ: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى ربِّهِمْ}[الأنعام:50] أي: أَنْذِرْ يا مُحَمَّدُ
بالقُرْآنِ الَّذينَ هم مِن خَشْيَةِ ربِّهِم مُشْفِقونَ، الَّذينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهم، ويَخَافُونَ سُوءَ الحِسابِ، وهم المُؤْمِنُونَ، كمَا
رُوِيَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ، والسُّدِّيِّ.
وعن الفُضَيْلِ بنِ عِيَاضٍ: (ليسَ كلُّ خَلْقِهِ عَاتَبَ، إنَّما عَاتَبَ الَّذينَ يَعْقِلُونَ فقالَ: {وَأَنذِرْ بهِ الَّذينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى ربِّهِمْ}أي:
وهم المُؤمِنونَ أَصْحابُ القُلُوبِ الوَاعِيةِ، فإنَّهُم المَقْصُودونَ،
والمَنْظُورُ إليهِم لا أَصْحابُ التَّجَمُّلِ والسِّيادَةِ، فإنَّ اللهَ
لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُم وأَمْوَالِكُم، ولكنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم
وأَعْمَالِكُمْ).
وقولُهُ: {لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}[الأنعام:51] قَالَ الزَّجَّاجُ: (مَوضِعُ {ليسَ}نَصْبٌ عَلَى الحالِ، كأنَّهُ قالَ: مُتَخَلِّينَ مِن وَلِيٍّ وشَفِيعٍ، والعَامِلُ فيه{يَخَافُونَ}).
وقالَ ابنُ كثيرٍ: (ليسَ لهم مِن دونِهِ يَوْمَئذٍ وَلِيٌّ ولا شَفِيعٌ مِن عَذَابهِ إنْ أَرَادَهُم بهِ {لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ}فيَعْمَلُونَ في هذه الدَّارِ عَمَلاً يُنَجِّيهِم اللهُ بِهِ مِن عَذَابِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ).
وليسَ في الآيةِ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ لأهْلِ الكَبَائرِ -بإذنِ
اللهِ- كمَا ادَّعتْهُ المُعْتَزِلَةُ، بل فيها دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ
اتِّخاذِ الشُّفعاءِ مِن المؤمنينَ، وعلى نَفْيِهَا بغيرِ إذنِ اللهِ،
ولهذا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بإذنهِ في مَوَاضِعَ كمَا قالَ: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}.
قالَ اللهُ -تعالى-: {أَمِ
اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ
يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُل للهِ الشَّفَاعَةُ
جَمِيعًا له مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[الزُّمَر:43،44]
فقولُهُ: أَمِ اتَّخَذُوا، أي: بلِ اتَّخَذُوا، أي: المُشْرِكُونَ
والهَمْزَةُ للإنْكَارِ مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، أي: أَتَشْفَعُ لَهُم
عندَ اللهِ بزَعْمِهِم كمَا قالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18].
- وقالَ: {وَالَّذينَ
اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي
مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَـفَّارٌ}[الزمر: 3] فكذَّبَهُم وكفَّرَهُم بذلك.
- قولُهُ: {مِن دُونِ اللهِ}
أي: مِن دونِ إذْنِهِ وأمْرِهِ، والحالُ أنَّهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ
إلاَّ بإذْنِهِ، وأن يكونَ المَشْفُوعُ له مُرْتَضًى، وهاهنا الشَّرْطانِ
مَفْقُودَانِ، فإنَّ اللهَ سبحانَهُ لم يَجْعَلِ اتِّخاذَ الشُّفعاءِ
ودُعَاءهُم مِن دونِهِ سَبَبًا لإذْنِهِ ورِضَاهُ، بل ذلك سَبَبٌ لمَنْعِهِ
وغَضَبِهِ.
وقولُهُ: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
أي: فتَعْلَمُونَ أنَّهُم لا يَشْفَعُونَ، ويَخِيبُ سَعْيُكُم في
عِبَادَتِهِم، بل يَكُونُونَ عليكُمْ ضِدًّا ويَتَبَرَّؤونَ مِن
عِبَادتِكُم كمَا قالَ تعالى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}[مريم:82].
قالَ: (وقولُهُ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255])
في هذه الآيةِ رَدٌّ عَلَى المشركينَ الَّذينَ اتَّخذُوا الشُّفعاءَ مِن
دونِ اللهِ مِن المَلاَئِكَةِ والأنبياءِ والأصْنَامِ المُصَوَّرةِ عَلَى
صُوَرِ الصَّالِحِينَ وغيرِهِم، وظَنُّوا أنَّهُم يَشْفَعُونَ عندَهُ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَأَنْكَرَ ذلك عليهِمْ، وبَيَّنَ عَظِيمَ مَلَكُوتِهِ
وكِبْرِيائِهِ وأنَّ أَحَدًا لا يَتَمالَكُ أَنْ يَتَكلَّمَ يَوْمَ
القِيَامَةِ إِلاَّ إذا أُذِنَ له في الكَلاَمِ كَقَوْلِهِ: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ له الرَّحْمَـنُ}[النبأ:38].
قالَ ابنُ جَرِيرٍ في هذه الآيةِ: (نَزَلَتْ لَمَّا قالَ الكُفَّارُ: ما نَعْبُدُ أَوْثانَنَا هذه إِلاَّ ليُقَرِّبونَا إلى اللهِ زُلْفَى.
و(كم) لَفْظُهَا مُفْردٌ، ومعناها جَمْعٌ.
وإذا كانَتِ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبونَ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم إِلاَّ
بعدَ إذنِ اللهِ ورِضَاهُ أن يَرْضَاه أَهْلاً للشَّفاعةِ، فكيفَ تَشْفَعُ
الأَصْنَامُ لمَنْ عَبَدَهَا؟)
وأيضًا فإنَّ اللهَ لا يَأْذَنُ إلا لمَن ارْتَضَى قولَهُ وعَمَلَهُ، وهو المُوحِّدُ لا المُشْرِكُ كمَا قالَ: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ له الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ له قَوْلاً}[طه:109].
فَإِنْ قالَ المُشْرِكُ: أَنَا أَعْلَمُ أنَّهُم لا يَشْفَعُونَ إلا بإذنِهِ لكن أَدْعُوهم ليَأْذَنَ اللهُ لهم في الشَّفاعةِ لي.
فَتَبَيَّنَ أنَّ دُعاءَ الصَّالِحِينَ مِن المَلاَئِكَةِ والأَنْبِياءِ
وغَيْرِهِم شِرْكٌ كمَا كانَ المُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ يَدْعُونَهُم
ليَشْفَعُوا لهم عندَ اللهِ، فَأَنْكَرَ اللهُ عليهِم ذلِكَ، وأَخْبَرَ
أنَّهُ لا يَرْضَاهُ، ولا يَأْمُرُ بهِ كمَا قالَ تعالى: {وَلاَ
يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عِمْرَانَ:80].
قالَ ابنُ كثيرٍ: (تَبَرَّأَتْ منهم المَلاَئِكَةُ الَّذينَ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهُم يَعْبُدُونَهُم في الدُّنيا: فتَقُولُ المَلاَئِكَةُ: {تَبَرَّأْنَا إليكَ ما كَانُوا إيَّانَا يَعْبُدُونَ}).
رَوَى سعيدُ بنُ مَنْصورٍ، والبُخَارِيُّ، والنَّسَائِيُّ، وابنُ جَرِيرٍ، عن ابنِ مسعودٍ،
في الآيةِ: كانَ نَفَرٌ مِن الإنسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِن الجِنِّ
فَأَسْلَمَ نَفَرٌ مِن الجِنِّ وتَمَسَّكَ الإنْسِيُّونَ بِعِبَادَتِهِم
فَأَنْزَلَ اللهُ: {أُولَئِكَ الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ}[الإسراء:57]، كِلاَهُمَا بالياءِ.
ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ في الآيةِ: (قَدْ رَجَعَ إلى دِينِه الأَوَّلِ ودِينِ قَوْمِهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ آخِرَ
النَّجْمِ سَجَدَ، وسَجَدَ كُلُّ مَن حَضَرَ مِن مُسْلِمٍ ومُشْرِكٍ،
ففَشَتْ تلك الكَلِمَةُ في النَّاسِ، وأَظْهَرَها الشَّيْطَانُ حتَّى
بَلَغَتْ أَرْضَ الحَبَشَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}[الحجّ:52]
فلَمَّا بيَّنَ اللهُ قَضَاءهُ وبَرَّأَهُ مِن سَجْعِ الشَّيطانِ
انْقَلَبَ المشركونَ بعَدَاوتِهِم وضَلاَلتِهِم للمُسْلِمِينَ، واشْتَدُّوا
عليهِ).
وهي قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ: رُوِيت عنِ ابنِ عبَّاسٍ مِن طُرُقٍ بَعْضُهَا صَحِيحٌ.
ورُوِيَت عن جَمَاعَةٍ مِن التَّابِعِينَ بأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ؛ منهم عُرْوَةُ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو العَالِيَةِ، وأبو بَكْرِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، ومُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، ومُحَمَّدُ بنُ قَيْسٍ، والسُّدِّيُّ وغيرُهُم.
وذكرَهَا أيضًا أهلُ السِّيَرِ وغيرُهُم وأصْلُهَا في (الصَّحيحينِ) والمَقْصُودُ منْها قولُهُ: (تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وإِنَّ شَفَاعتَهُنَّ لتُرْتَجَى).
فلَمَّا سَمِعَ المُشْرِكُونَ هَذَا الكَلاَمَ المُقْتَضِيَ لجَوَازِ
عِبَادَةِ المَلاَئِكَةِ رَجَاءَ شَفَاعَتِهِم عندَ اللهِ ظنُّوا أنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَهُ، فَرَضُوا عنه
وسَجَدُوا مَعَهُ، وحَكَمُوا بأنَّهُ قد وافَقَهُم عَلَى دِينِهِم من
دُعَاءِ المَلاَئِكَةِ والأصْنَامِ للشَّفاعةِ حتى طارتِ الكَلِمَةُ كلَّ
مطارٍ، وبَلَغَ المُهَاجِرينَ إلى الحَبَشَةِ أنَّهُم صالَحُوا رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفْتَ أَنَّ الفَارِقَ
بينَهُم وبينَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي
مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ؛ لأنَّهُم يَقُولُونَ: نُرِيدُ مِن المَلاَئِكَةِ
والأَصْنَامِ المُصَوَّرةِ عَلَى صُورِهِم بزعمِهِم أن يَشْفَعُوا لنا عندَ
اللهِ، والرَّسولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كَانَ أَهْلُ
الشِّرْكِ يَعْبُدُونَ المَلاَئِكَةَ والمَسِيحَ وعُزَيْرًا.
قال ابنُ إسْحَاقَ: (لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ ابنِ الزِّبَعْرَى ومُخَاصَمتَهُ لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عندَ نُزُولِ هذه الآيةِ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ}[الأنبياء:101] أي: عِيسَى وعُزَيْرٌ ومَن
عُبِدَ مِن الأَحْبارِ والرُّهْبانِ الذين مَضَوْا على أَمْرِ اللهِ،
فاتَّخَذَهُم مَن يَعْبُدُهم مِن أَهْلِ الضَّلاَلَةِ أَرْبابًا مِن دونِ
اللهِ، وَقَالَ تَعَالى:{وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا
تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا
يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحجّ:52] الآياتِ).
ورَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن الزُّهْرِيِّ قَالَ: (نَزَلَتْ
سُورَةُ النَّجْمِ وكَانَ المشركون يَقُولُونَ: لو كَانَ هَذَا الرَّجُلُ
يَذْكُرُ آلِهَتَنَا بخَيْرٍ أَقْرَرْنَاهُ وأَصْحَابَهُ، ولكنَّه لا
يَذْكُرُ مَن خَالَفَ دِينَهُ مِن اليَهُودِ والنَّصارَى بمثلِ الذي
يَذْكُرُ آلهِتَنَا مِن السَّبِّ والشَّتْمِ والشَّرِّ، وكانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قد اشْتَدَّ عَلَيْهِ مَا نَالَ
أَصْحَابَهُ مِن أَذَاهُم وتَكْذِيبِهِم، وأَحْزَنَهُ ضَلاَلَتُهم فَكَانَ
يَتَمَنَّى هُدَاهُم، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ سُورَةَ النَّجْمِ قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:19،20]
أَلْقَى الشَّيْطَانُ عندَها كَلِمَاتٍ حينَ ذَكَرَ الطَّوَاغِيتَ
فَقَالَ: تلك الغَرَانِيقُ العُلَى، وإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى،
وَكَانَ ذَلِكَ مِن سَجْعِ الشَّيْطَانِ وفِتْنَتِه، فَوَقَعَتْ هَاتانِ
الكَلِمَتانِ في قَلْبِ كُلِّ مُشْرِكٍ في مَكَّةَ، وذَلَّتْ بها
أَلْسِنَتُهم، وتَبَاشَرُوا بها وقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَجَعَ إلى دِينِه الأَوَّلِ ودِينِ قَوْمِهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ آخِرَ
النَّجْمِ سَجَدَ، وسَجَدَ كُلُّ مَن حَضَرَ مِن مُسْلِمٍ ومُشْرِكٍ،
ففَشَتْ تلك الكَلِمَةُ في النَّاسِ وأَظْهَرَها الشَّيْطَانُ حتَّى
بَلَغَتْ أَرْضَ الحَبَشَةِ فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}[الحجّ: 52]الآياتِ،
فلَمَّا بيَّنَ اللهُ قَضَاءهُ وبَرَّأَهُ مِن سَجْعِ الشَّيطانِ
انْقَلَبَ المشركونَ بعَدَاوتِهِم وضَلاَلتِهِم للمُسْلِمِينَ، واشْتَدُّوا
عليهِ).
وهي قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ: رُوِيت عنِ ابنِ عبَّاسٍ مِن طُرِقٍ بَعْضُهَا صَحِيحٌ.
ورُوِيَت عن جَمَاعَةٍ مِن التَّابِعِينَ بأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ منهم عُرْوَةُ،
وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبو العَالِيَةِ، وأبو بَكْرِ بنُ عبدِ
الرَّحمنِ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، ومُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ
القُرَظِيُّ، ومُحَمَّدُ بنُ قَيْسٍ، والسُّدِّيُّ وغيرُهُم.
وذكرَهَا أيضًا أهلُ السِّيَرِ وغيْرَها وأصْلُهَا في (الصَّحيحينِ) والمَقْصُودُ منْهُ قولُهُ: (تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وإِنَّ شَفَاعتَهُنَّ لتُرْتَجَى).
فلَمَّا سَمِعَ المُشْرِكُونَ هَذَا الكَلاَمَ المُقْتَضِيَ لجَوَازِ
عِبَادَةِ المَلاَئِكَةِ رَجَاءَ شَفَاعَتِهِم عندَ اللهِ ظنُّوا أنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَهُ، فَرَضُوا عنه
وسَجَدُوا مَعَهُ، وحَكَمُوا بأنَّهُ قد وافَقَهُم عَلَى دِينِهِم من
دُعَاءِ المَلاَئِكَةِ والأصْنَامِ للشَّفاعةِ حتى طارتِ الكَلِمَةُ كلَّ
مطارٍ، وبَلَغَ المُهَاجِرينَ إلى الحَبَشَةِ أنَّهُم صالَحُوا رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَتْ أنَّ الفَارِقَ بينَهُم
وبينَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مَسْأَلَةُ
الشَّفَاعَةِ، لأنَّهُم يَقُولُونَ: نُرِيدُ مِن المَلاَئِكَةِ
والأَصْنَامِ المُصَوَّرةِ عَلَى صُورِهِم بزعمِهِم أن يَشْفَعُوا لنا عندَ
اللهِ، والرَّسولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أَتَاهُم
بإِبْطَالِ ذلك، والنَّهيِ عنه، وتَكْفِيرِ مَن دانَ بهِ وتَضْليلِهِم
وتَسْفِيهِ عُقُولِهِم ولم يُرَخِّصْ لهم في سُؤالِ الشَّفاعةِ مِن
المَلاَئِكَةِ، ولاَ مِن الأَنْبياءِ وَلاَ الأَصْنَامِ، بل أَتَاهُمْ
بقولِهِ تعالى: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزُّمَر:44] وقولِهِ: {أَأَتَّخِذُ
مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ
عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونَ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[يس:23،24] وهذا كَثِيرٌ جدًّا لمَنْ تَتَبَّعَهُ.
(5)
هذه الآيةُ هي التي قالَ فيهَا بعضُ العلماءِ: إنَّهَا تَقْطَعُ عُرُوقَ شَجَرَةِ الشِّرْكِ مِن القَلْبِ لِمَنْ عَقَلَهَا. - إمَّا مالكٌ لِما يُرِيدُ عَابِدُهُ منه. - فإنْ لم يَكُنْ مَالِكًا كانَ شريكًا للمالكِ. - فإنْ لم يكنْ شريكًا لَهُ. - كانَ مُعِينًا له وظَهِيرًا. فإن
لم يكنْ مُعِينًا ولا ظَهِيرًا، كانَ شَفيعًا عندَهُ، فنَفَى سبحانَهُ
المَرَاتِبَ الأربعَ نَفْيًا مُرَتَّبًا مُنْتَقِلاً مِن الأَعْلَى إلى ما
دُونَهُ، فنَفَى المُلْكَ، والشِّرْكَةَ، والمُظَاهَرَةَ، والشَّفاعةَ،
التي يَطْلُبُها المُشْرِكُ، وأَثْبَتَ شفاعةً لا نَصِيبَ فيها لمُشْرِكٍ
وهي الشَّفاعةُ بإذنِهِ). - وَقَالَ اللهُ تَعَالى حَاكِيًا عن أَسْلاَفِ هؤلاء المُشْرِكينَ: {وَالَّذينَ
اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي
مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَـفَّارٌ}[الزُّمَر:3]
فهذه حالُ مَن اتَّخَذَ مِن دونِ اللهِ وليًّا يَزْعُمُ أنَّهُ
يُقَرِّبُهُ إلى اللهِ تعالى، وما أَعَزَّ مَن يَخْلُصُ مِن هذا، بلْ ما
أَعَزَّ مَن يُعَادِي مَن أَنْكَرَهُ. انتهَى. كقَوْمٍ عُرَاةٍ في ذُرَى مصرَ ما يُرَى عـَلـَى عــَوْرةٍ مـنهم هناك ثيابُ ومِن العَجَبِ
أنَّهُم لم يَأْتُوا بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى كونِ هؤلاءِ الشَّياطينِ مِن
جُمْلَةِ المُسْلِمِينَ، فَضْلاً عن كونِهِم أولياءَ، فَضْلاً عن كونِهِم
يُدْعَوْنَ ويُسْتَغاثُ بهِم إِلاَّ بِشَيْءٍ مِن المَخَارِيقِ والسِّحْرِ
والشَّعْبَذَةِ، يَدَّعُونَ أنَّ لهم كَرَامَاتٍ، وأنَّهُم أولياءُ؛ لِمَا
يُظْهِرُونَهُ مِن المَخَارِيقِ. (6) قولُهُ: (قالَ أبو العبَّاسِ) هو شَيْخُ الإِسْلاَمِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بنُ عبدِ الحَلِيمِ بنِ عَبْدِ السَّلاَمِ ابنِ تَيْمِيَّةَ،
الإمامُ المَشْهُورُ، صَاحِبُ المُصَنَّفاتِ شُهْرتُهُ وإِمَامَتُهُ في
عُلُومِ الإِسْلاَمِ، وتَفَنُّنُهُ تُغْنِي عن الإِطْنَابِ في وَصْفِهِ. الأوَّلُ: المِلْكُ، فنفَاهُ بقولِهِ: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ}. الثَّاني: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فيَكُونُ شَرِيكًا للمالِكِ، فنَفَاهُ بقولِهِ: {وَمَا لهمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ}. الثَّالِثُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَلاَ شَرِيكًا للمالِكِ فيَكُونُ عَوْنًا ووَزِيرًا، فنَفَاهُ بقولِهِ: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ}. الرَّابعُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا ولاَ شَرِيكًا وَلاَ عَوْنًا فيَكُونُ شَفِيعًا، فنَفَى
سُبْحَانَهُ وتعالى الشَّفاعةَ عندَهُ إِلاَّ بإذْنِهِ، فهو الَّذي
يَأْذَنُ للشَّافعِ ابْتِدَاءً فيَشْفَعُ، فبنَفْيِ هذه الأُمورِ بَطَلَتْ
دَعْوَةُ غيرِ اللهِ، إذ ليسَ عندَ غيرِهِ مِن النَّفْعِ والضُّرِّ ما
يُوجِبُ قَصْدَهُ بِشَيْءٍ مِن العِبَادَةِ، كمَا قالَ تعالى: {وَاتَّخَذُواْ
مِن دُونِهِ آلهةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ
يَمْلِكُونَ لأَِنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ
مَوْتًا وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُورًا}[الفُرْقَان:3]. - وقالَ تعالى عن مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ:{لاَ جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ له دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ}[غافر:43]. - وقالَ تعالى: {فَلَوْلاَ
نَصَرَهُمُ الَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ
ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كانُواْ يَفْتَرُونَ}[الأحقاف:28]. - وقالَ تعالى: {فَمَا
أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن
شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}[هود:102]. - وقالَ تعالى: {وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم
مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمُ الَّذينَ زَعَمْتُمْ أنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد
تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:94]. - وقالَ تعالى: {وَقِيلَ
ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ
وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ}[القَصَص:64] فهذه حالُ كُلِّ مَن دُعِيَ مِن دونِ اللهِ لشَفَاعَةٍ أو غيرِهَا في الدُّنيا والآخِرَةِ. فَقَالَ: ((لَقَدْ
ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ
أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ،
أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قالَ: لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ)). - وقالَ في الحديثِ الصَّحيحِ: ((مَنْ سَأَلَ اللهَ لِيَ الوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ))
ولم يَقُلْ: كانَ أَسْعَدَ النَّاسِ بشَفَاعَتِي، فعُلِمَ أَنَّ ما
يَحْصُلُ للعَبْدِ بالتَّوحيدِ والإِخْلاَصِ مِن شَفَاعَةِ الرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرِهَا ما لا يَحْصُلُ بغيرِهِ مِن
الأعْمَالِ، وإن كانَ صالحًا لسُؤَالِ الوَسِيلَةِ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيفَ بما لم يَأْمُرْ بهِ مِن الأَعْمَالِ، بل نَهَى
عنه، فذلك لا يُنالُ بهِ خَيْرٌ؛ لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ، مثلَ
غُلُوِّ النَّصارَى في المَسِيحِ، فإنَّهُ يَضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهُم، ونَظِيرُ هذا في (الصَّحيحِ) عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((لِكُلِّ
نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي
شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَهِي نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ
مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا))
وكذلِكَ في أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ كُلِّها إنَّما يَشْفَعُ في أَهْلِ
التَّوحيدِ، فبِحَسَبِ توحيدِ العَبْدِ لرَبِّهِ، وإِخْلاَصِهِ دِينَهُ
للهِ تعالى يَسْتَحِقُّ كَرَامَةَ اللهِ بالشَّفاعةِ وغيرِها. ومِنْ جَهْلِ المُشْرِكِ اعْتِقَادُهُ أنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ وليًّا أو شَفِيعًا أنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ، ويَنْفَعُهُ
عندَ اللهِ، كمَا يكونُ خواصُّ المُلُوكِ والوُلاَةِ تَنْفَعُ مَنْ
والاهُم، ولم يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ لا يَشْفَعُ عندَه أَحَدٌ إِلاَّ
بإذنِهِ، ولا يأذَنُ في الشَّفاعةِ إِلاَّ مَن رَضِيَ قولَهُ وعَمَلَه. - كمَا قالَ تعالى في الفصلِ الأوَّلِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255]. وفي الفصلِ الثَّاني: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وبَقِيَ فصلٌ ثالثٌ: وهو أنَّهُ لا يَرْضَى مِن القَوْلِ والعَمَلِ إِلاَّ توحيدَهُ،
واتِّباعَ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه ثلاثةُ فُصولٍ
تَقْطَعُ شَجَرَةَ الشِّركِ مِن قَلْبِ مَنْ وعَاها وعقلَهَا) انتهَى
ملخَّصًا. فأَسْعَدُ النَّاسِ بها مَن يَسْبِقُ إلى الجنَّةِ، وهم
الَّذينَ يَدْخُلُونَهَا بغيرِ حسابٍ، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُم وهو مَن
يَدْخُلُهَا بغيرِ عَذَابٍ بعدَ أن يُحَاسَبَ ويَسْتَحِقَّ العَذَابَ،
ثُمَّ مَن يُصِيبُهُ لَفْحٌ مِن النَّارِ وَلاَ يَسْقُطُ. واعْلَمْ أنَّ شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القِيَامَةِ سِتَّةُ أَنْواعٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابنُ القيِّمِ. الأوَّلُ: الشَّفاعةُ الكُبْرَى ، التي يَتَأَخَّرُ عنها أُولُو العَزْمِ عليهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ حتى تَنْتَهِيَ إليهِ فيَقُولُ: ((أَنَا لَهَا)) وذلك حِينَ يَرْغَبُ الخَلاَئِقُ إلى الأَنْبِيَاءِ ليَشْفَعُوا لَهُم إلى رَبِّهِم حتى يُرِيحَهُم مِن مَقَامِهِم في المَوْقِفِ. الثَّاني: شفاعتُهُ لأَِهْلِ الجَنَّةِ في دُخُولِهَا، وقد ذَكَرَهَا أبو هُرَيْرَةَ في حَدِيثِهِ الطَّويلِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ. الثَّالثُ: شفاعتُهُ لقومٍ مِن العُصَاةِ مِن أُمَّتِهِ قد اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، فيَشْفَعُ لَهُم أنْ لا يَدْخُلُوهَا. الرَّابعُ: شَفَاعتُهُ في العُصَاةِ مِن أَهْلِ التَّوحيدِ الَّذينَ دَخَلُوا النَّارَ بذُنُوبِهِم، والأحاديثُ بها مُتَواتِرَةٌ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الخامسُ: شفاعتُهُ لقومٍ مِن أَهْلِ الجنَّةِ في زيادَةِ ثَوَابِهِم ورَفْعِ دَرَجَتِهِم، وهذه ممَّا لم يُنَازِعْ فيها أَحَدٌ. السَّادسُ: شفاعتُهُ في بعْضِ الكفَّارِ مِن أَهْلِ النَّارِ حتى يُخَفَّفَ عَذَابُهُ، وهذه خاصَّةٌ بـأَبِي طَالِبٍ وحْدَهُ. وأمَّا المُشْرِكُ الدَّاعِي لغيرِ اللهِ ليَشْفَعَ لَهُ فَلاَ تَنْفَعُهُ الشَّفاعةُ، ولا يُؤذَنُ لأَِحَدٍ في الشَّفاعةِ فيه، كمَا قالَ: {فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المُدثِّر:48]. - وَقَالَ تعالى: {وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لهمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أنَّهُمْ كانُواْ يَهْتَدُونَ}[القَصَص:64].
قالَ ابنُ القيِّمِ في الكلامِ عليها: (وقد
قَطَعَ اللهُ الأسبابَ التي يَتَعلَّقُ بها المشركونَ جميعَها قَطْعًا،
يَعْلَمُ مَن تَأَمَّلَهُ وعَرَفَهُ أنَّ مَن اتَّخَذَ مِن دونِ اللهِ
وليًّا، فمَثَلُهُ كمَثَلِ العَنْكَبوتِ اتَّخذَتْ بيتًا وإنَّ أَوْهنَ
البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ، فالمشركُ إنَّما يتَّخِذُ مَعْبودَهُ لِما
يَحْصُلُ لَهُ بهِ من النَّفْعِ، والنَّفْعُ لا يَكُونُ إِلاَّ ممَّن يكونُ
فيه خَصْلَةٌ مِن هذه الأَرْبعِ:
قالَ: (فهو
الَّذي يأذَنُ للشَّافعِ، وإن لم يأذَنْ له لم يَتَقدَّمْ في الشَّفاعةِ
بينَ يَدَيْهِ كمَا يكونُ في حَقِّ المَخْلُوقِينَ، فإنَّ المَشْفُوعَ
عندَهُ يَحْتاجُ إلى الشَّافعِ ومُعَاونَتِهِ لَهُ، فيَقْبَلُ شفاعَتَهُ
وإن لم يأذَنْ له فيها، وأمَّا كلُّ ما سواهُ فهو فَقِيرٌ إليهِ بذاتِهِ
وهو الغَنِيُّ بذاتِهِ عن كلِّ ما سِوَاهُ، فكيفَ يَشْفَعُ عندَهُ أحدٌ
بدونِ إذنِهِ؟
فكفَى بهذِهِ الآيةِ نورًا وبرهانًا ونجاةً وتَجْريدًا للتَّوحيدِ، وقَطْعًا لأُصُولِ الشِّرْكِ ومَوَادِّهِ لمَنْ عَقَلهَا.
والقُرْآنُ مملوءٌ من أمثالِها ونظائرِهَا، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا
يَشْعُرُونَ بدُخُولِ الواقعِ تَحْتَهُ وتَضَمُّنِهِ لَهُ، ويَظُنُّه في
نوعٍ وقومٍ قَدْ خَلَوا مِن قبلُ ولم يُعَقِّبُوا وارِثًا، وهذا الَّذي
يَحُولُ بينَ القَلْبِ وبينَ فَهْمِ القرآنِ، ولَعَمْرُ اللهِ إنْ كانَ
أولئك قد خَلَوا، فقد وَرِثَهُم مَن هو مثلُهُم وشرٌّ منهم ودونَهُم،
وتَنَاوُلُ القرآنِ لهم كتَنَاوُلِهِ لأولئك، ولكنَّ الأمرَ كمَا قالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إنَّما تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوةً، إذا نَشَأَ في الإِسْلامِ مَنْ لم يَعْرِفِ الجاهليَّةَ).
وهذا لأنَّهُ إذا لم يَعْرِفِ الجاهليَّةَ والشِّرْكَ، وما دَعَا بهِ
القرآنُ وذَمَّهُ، وَقَعَ فيه وأَقَرَّهُ، ودَعَا إليه وصَوَّبَهُ
وحَسَّنَهُ، وهو لا يَعْرِفُ أنَّهُ الَّذي كانَ عليهِ الجاهليَّةُ، أو
نَظِيرُهُ أو شرٌّ منه أو دونَهُ، فتُنْتَقَضُ بذلك عُرَى الإسلامِ،
ويَعُودُ المَعْرُوفُ مُنْكَرًا، والمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، والبِدْعَةُ
سُنَّةً، والسُّنَّةُ بدعةً، ويَكْفُرُ الرَّجُلُ بمَحْضِ الإيمانِ
وتَجْريدِ التَّوحيدِ، ويُبَدَّعُ بتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومُفَارَقَةِ الأَهْواءِ والبِدَعِ. ومَنْ
لَهُ بَصِيرةٌ وقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذلك عِيانًا، فاللهُ المُسْتَعَانُ.
والذي في قُلُوبِ هؤلاءِ المُشْرِكينَ وسَلَفِهِم أنَّ آلهتَهُم تَشْفَعُ لَهُم عندَ اللهِ، وهذا عَيْنُ الشِّرْكِ.
وقد أَنْكَرَهُ اللهُ عليهِم في كتابِهِ، وأبطَلَهُ، وأَخْبَرَ أنَّ
الشَّفَاعَةَ كلَّها لَهُ، وأنَّهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إِلاَّ لمَنْ
أَذِنَ اللهُ تعالى أنْ يَشْفَعَ له فيه، ورَضِيَ قولَهُ وعَمَلَهُ. وهم
أَهْلُ التَّوحيدِ الَّذينَ لم يتَّخِذُوا مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ،
فإنَّهُ سبحانَهُ وتعالى يَأْذَنُ في الشَّفَاعةِ فيهم لمَنْ يَشَاءُ،
حَيْثُ لم يتَّخِذُوهُم شُفَعاءَ مِن دونِهِ، فيكونُ أَسْعدُ النَّاسِ
بشَفاعتِهِ مَن يَأْذَنُ اللهُ تعالى لَهُ، صاحبَ التَّوحيدِ الَّذي لم
يتَّخِذْ شَفِيعًا مِن دونِ اللهِ.
والشَّفاعةُ التي أَثْبتَهَا اللهُ تعالى ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هي الشَّفاعةُ الصَّادِرَةُ عن إذْنِهِ لمَنْ وَحَّدَهُ، والتي
نَفَاهَا اللهُ تعالى هي الشَّفاعةُ الشِّرْكيَّةُ التي في قُلُوبِ
المشركينَ المتَّخِذِينَ مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، فيُعَامَلُونَ بنَقِيضِ
مَقْصُودِهِم مِن شَفَاعتِهِم، ويَفُوزُ بها المُوحِّدُونَ)
ولكنْ تأمَّلِ الآيةَ كيفَ أَمَرَهُم تعالى بدُعاءِ المَلاَئِكَةِ أَمْرَ
تَعْجِيزٍ؟! والمُرَادُ بيانُ أنَّهُم لا يَمْلِكُونَ شيئًا، فلا
يُدْعَوْنَ لا لشفاعةٍ ولا غيرِهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أنَّهُم هم الَّذينَ
اتَّخَذُوهم بزَعْمِهِم شُفعاءَ فنَسَبَهُ إلى زَعْمِهِم وإِفْكِهِم الَّذي
ابْتَدَعُوهُ مِن غيرِ بُرْهانٍ ولا حُجَّةٍ مِن اللهِ، وهذه الآيةُ
نَزَلَتْ في دَعْوَةِ المَلاَئِكَةِ، ودُخُولُ غيرِهِم فيها مِن بابِ
أَوْلَى، كمَا رَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ}[سبأ:22] يقولُ: (مِنْ عَوْنِ المَلاَئِكَةِ) وكمَا يَدُلُّ عليه قولُهُ تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبهِمْ}[سبأ:23]كمَا تَقَدَّمَ.
فإِذَا كانَ اتِّخَاذُ المَلائِكَةِ شُفَعَاءَ مِن دونِ اللهِ شِرْكًا،
فكيفَ باتِّخَاذِ الأمواتِ كمَا يَفْعَلُهُ عُبَّادُ القُبُورِ؟
أم كيفَ باتِّخَاذِ الفُجَّارِ والفُسَّاقِ إِخْوانِ الشَّياطِينِ مِن المَجَاذِيبِ الَّذينَ جَذَبَهُم إبْلِيسُ إلى جَانِبِه وطَاعَتِه شُفَعَاءَ؟
وأَعْظَمُ مِن ذلك اعْتِقَادُ الرُّبُوبيَّةِ في هؤلاءِ المَلاَعِينِ مَعَ
ما يُشَاهِدُهُ النَّاسُ منهم مِن الفُجُورِ، وأَنْواعِ الفُسُوقِ، وتَرْكِ
الصَّلواتِ، وفِعْلِ المُنْكَرَاتِ، والمَشْيِ في الأسواقِ عُرَاةً.
كمَا قالَ بعضُ المُتَأَخِّرِينَ:
يَدُورُونَفـيــها كاشِفـيـنَ لعَوْرَةٍ تــَواتــــَرَهــذا لا يــُقـَالُ كـِذَابُ
يَعُدُّونَهُمفي مِصْرِهِم فُضَلاَءَهُم دُعـَاؤُهـُم فـيـمـا يـَرَوْنَ مـُجَابُ
واعْلَمْ أنَّ الضَّلالَ والكُفْرَ إنَّما اسْتَوْلَى عَلَى أكثرِ
المتأخِّرينَ بسببِ نَبْذِهِم كِتَابَ اللهِ ورَاءَ ظُهُورِهِم، وإِحْسانِ
الظَّنِّ بمَنْ سَحَرَهُم، وَدَعَا إلى نَفْسِهِ، واقْتِصَارِهِم عَلَى
القَوَانِينِ والدَّعَاوَى والأوْضَاعِ التي وَضَعُوهَا لأَِنْفُسِهم،
وإلاَّ فَلَوْ قَرَؤُوا كِتَابَ اللهِ، وعَمِلُوا بما فيه، ورَجَعُوا عندَ
الاخْتِلاَفِ إليه لوَجَدُوا فيه الهُدَى والشِّفَاءَ والنُّورَ ولكن
نَبَذُوهُ ورَاءَ ظُهُورِهِم واشْتَروْا بهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ ما
يَشْتَرُونَ! وتَقَدَّمَ الكَلاَمُ عَلَى بَقِيَّةِ الآيةِ.
قالَ الذَّهَبِيُّ: (لَمْ
يَأْتِ قبلَهُ بخَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مثْلُهُ، وفي رِوَايةٍ: بأربعِ
مائةٍ، وقالَ أيضًا: لو حُلِّفْتُ بينَ الرُّكنِ والمَقَامِ لحَلَفْتُ
أَنِّي لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، وَمَا رَأَى بعَيْنَيْهِ مثلَ نَفْسِه رحمَهُ
اللهُ).
وقالَ ابنُ دَقِيقِ العيدِ: (لَمَّا اجْتَمَعْتُ بابنِ تَيْمِيَّةَ رَأَيْتُ رَجُلاً كُلُّ العُلُومِ بينَ عَيْنَيْهِ، يَأْخُذُ ما يَشَاءُ، ويَدَعُ ما يَشَاءُ).
وبالجُمْلَةِ فما أَتَى بعدَ عصرِ الإمامِ أَحْمَدَ له نَظِيرٌ، وكَانَت وفاتُهُ سَنَةَ ثمانٍ وعشرينَ وسبعِ مائةٍ.
قولُهُ: (نَفَى اللهُ عمَّا سِوَاه كُلَّ ما يَتَعَلَّقُ به المُشْرِكُونَ) أي: أنَّ اللهَ -تعالى-
نَفَى في الآيةِ المَذْكُورَةِ قبلُ ما يَتَعَلَّقُ بهِ المُشْرِكُونَ مِن
الاعْتِقَادِ في غَيْرِ اللهِ مِن المِلْكِ والشَّرِكَةِ فيه
والمُعاوَنَةِ والشَّفاعةِ، فهذه الأُمُورُ الأَرْبَعَةُ هي التي
يَتَعَلَّقُ بها المُشْرِكُونَ.
قولُهُ: (فنَفَى أَنْ يَكُونَ لغيرِهِ مِلْكٌ) وذَلِكَ في قَوْلِهِ تعالَى: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ}[سبأ:22] ومَن لاَ يَمْلِكُ هَذَا المِقْدارَ فليسَ بأَهْلٍ أَنْ يُدْعَى.
قولُهُ: (أو قِسْطٌ منهُ) أي: مِن المِلْكِ، والقِسْطُ بكَسْرِ القافِ- هو النَّصِيبُ مِن الشَّيْءِ، وذلك في قولِهِ: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ}
أي ما لِمَنْ تدعُونَ من الملائكةِ وغيرِهِم فيها، أي: في السَّماواتِ
والأرضِ من شركٍ، ومَنْ ليسَ بمالكٍ ولا شريكٍ للمالكِ فكيف يُدْعَى من
دونِ اللهِ؟
قولُهُ: (أو أن يكونَ عونًا للهِ) وذلكَ في قولِهِ: {وَمَا له مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} أي: ما للَّه مِمَّنْ تدعونَهُم عونٌ.
قولُهُ: (ولم يبقَ إلا الشَّفاعةُ، فتبيَّنَ أنَّهَا لا تنفعُ إلا لمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ …) إلخ.
جملةُ الشُّروطِ التي لا بدَّ وأن يكونَ أحدُهَا في المدعوِّ، أربعةٌ حتى يقدِرَ عَلَى إجابةِ مَن دَعَاهُ:
- وقالَ تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَّعَلهُمْ يُنصَرُونَ (74) لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لهمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ}[يس:74-75].
- وقالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55].
قولُهُ: (فَهَذِه الشَّفاعَةُ التي يَظُنُّها المُشْرِكُونَ. هي مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ القِيَامةِ، كمَا نفاهَا القُرْآنُ).
يعني: أنَّ الشَّفاعةَ التي يَطْلُبُهَا المُشْرِكونَ مِن الشُّفعاءِ
والأندادِ مِن دونِ اللهِ مُنْتَفِيَةٌ دُنْيا وأُخْرَى، كمَا قالَ تعالى
عن مُؤْمِنِ يس: {أَأَتَّخِذُ
مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ
عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونَ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[يس:23،24].
قولُهُ: (وأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ
يَأْتِي فيَسْجُدُ لرَبِّهِ ويَحْمَدُهُ، لا يَبْدَأُ بالشَّفاعةِ أوَّلاً
…) إلى آخرِهِ، هذا ثابتٌ في (الصَّحيحينِ) وغيرِهِما مِن حديثِ أَنَسٍ وغيرِهِ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ الشَّفاعَةِ قالَ: ((فَأَقُومُ
فَأَمْشِي بَيْنَ سِمَاطَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ حَتَّى أسْتَأْذِنَ
عَلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعتُ له، أَوْ خَرَرْتُ سَاجِدًا
لِرَبِّي فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي.
ثُمَّ قالَ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قلْ يُسْمَعْ واشْفَعْ تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهُ.
فأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ بتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لي حَدًّا فأُدْخِلُهُم الجنَّةَ.
ثُمَّ أَعُودُ إليه الثَّانِيَةَ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ له، أو
خَرَرْتُ سَاجِدًا لرَبِّي، فيَدَعُنِي ما شاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي.
ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ فتُعْطَهُ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ.
فأَرْفَعُ رَأْسِي فأَحْمَدُه بتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنيِهِ.
ثُمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَدًّا، فأُدْخلُهُم الجنَّةَ ثُمَّ أعودُ الثَّالثةَ.
فإذا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ له، أو خَرَرْتُ سَاجِدًا لربِّي، فَيَدَعُنِي ما شاءَ اللهُ أَنْ يدَعَنِي.
ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَهُ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ.
فأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَدًّا فَأُدْخلُهُم الجنَّةَ.
ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فأقولُ: يا رَبِّ ما بَقِيَ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ …))
الحَدِيثَ، فبَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ لا يَشْفَعُ
إِلاَّ بَعْدَ الإِذْنِ في الشَّفاعةِ وفي المَشْفُوعِ فيهِم، كمَا قالَ: ((فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ)).
قولُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَن أَسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِكَ) إلى آخِرِهِ، هذا الحديثُ رواهُ البُخَارِيُّ، ومُسْلِمٌ، والنَّسائِيُّ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وفي رِوَايَةٍ: ((خَالِصًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ)) رواهُ أحمدُ مِن طَرِيقٍ آخَرَ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، وفيه: ((وَشَفَاعَتِي لمَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ وَلِسانُهُ قَلْبَهُ)).
قالَ شيخُ الإسلامِ: (فجَعَلَ أَسْعَدَ النَّاسِ بشَفاعَتِهِ أَكْمَلَهُم إِخْلاَصًا).
وقالَ ابنُ القيِّمِ ما
مَعْنَاهُ: (تَأَمَّلْ هذا الحديثَ كيفَ جَعَلَ أَعْظَمَ الأَسْبابِ التي
تُنَالُ بها شفاعتُهُ تَجْرِيدَ التَّوحيدِ؛ عكسَ ما عندَ المُشْرِكِينَ
مِن أنَّ الشَّفاعةَ تُنَالُ باتِّخَاذِهِم شُفَعاءَ، وعبادتِهِم
وموالاتِهِم من دونِ اللهِ، فقَلَبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ما في زَعْمِهِم الكاذبِ، وأَخْبَرَ أنَّ سببَ الشَّفاعةِ
تَجْرِيدُ التَّوحيدِ، فحينَئذٍ يأذَنُ اللهُ للشَّافعِ أن يَشْفَعَ.
وقالَ الحافظُ: (المُرادُ بهذه الشَّفاعةِ المسؤولِ عنها هنا بعضُ أنواعِ الشَّفاعةِ، وهي التي يَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((أُمَّتِي أُمَّتِي)) فيُقَالُ له: أَخْرِجْ مِن النَّارِ مَنْ كانَ في قَلْبِهِ وزنُ كذا مِن الإيمَانِ).
فأَسْعَدُ النَّاسِ بهذه الشَّفَاعَةِ مَنْ يكونُ إيمانُهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ دونَهُ، وأمَّا الشَّفاعةُ العُظْمَى فالإِرَاحَةُ مِن كَرْبِ المَوْقِفِ.
وهذه شَفَاعَةٌ يَخْتَصُّ بها، لا يَشْرَكُهُ فيها أَحَدٌ.
وقد أَجْمَعَ عَلَيْهَا الصَّحابَةُ وأَهْلُ السُّنَّةِ قَاطِبَةً،
وبَدَّعُوا مَن أَنْكَرَهَا، وصَاحُوا بهِ مِن كُلِّ جانبٍ، ونَادَوْا
عليهِ بالضَّلالِ.
قولُهُ: (وحقيقتُهُ) أي: حَقِيقَةُ الأمرِ، أي: أَمْرُ الشَّفاعةِ
أنَّ اللهَ سبحانَهُ هو الَّذي يَتَفَضَّلُ عَلَى أهلِ الإخلاصِ، فيَغْفِرُ
لهم بواسِطَةِ دُعَاءِ مَن أَذِنَ له أنْ يَشْفَعَ، ليُكَرِّمَهُ،
ويَنَالَ المَقَامَ المَحْمُودَ.
فَهَذَا هو حَقِيقَةُ الشَّفَاعَةِ، لاَ كَمَا يَظُنُّ المُشْرِكُونَ
والجُهَّالُ أَنَّ الشَّفاعةَ هي كونُ الشَّفيعِ يَشْفَعُ ابْتِدَاءً فيمَن
شَاءَ، فيُدْخِلُهُ الجنَّةَ ويُنْجِيهِ مِن النَّارِ.
ولهذا يَسْأَلُونَهَا مِن الأمواتِ وغيرِهِم إذا زارُوه وذلك أنَّهُم
قالُوا: إنَّ المَيِّتَ المُعَظَّمَ الَّذي لرُوحِهِ قُرْبٌ ومَزِيَّةٌ
عندَ اللهِ لا تَزَالُ تَأْتِيه الأَلْطَافُ مِن اللهِ، وتَفِيضُ عَلَى
رُوحِهِ الخَيْرَاتُ، فإذا عَلَّقَ الزَّائِرُ رُوحَهُ بهِ، وأَدْناهَا منه
فاضَ مِن رُوحِ المَزُورِ عَلَى رُوحِ الزَّائرِ مِن تلكَ الأَلْطافِ
بواسطَتِهَا، كمَا يَنْعَكِسُ الشُّعَاعُ مِن المِرْآةِ الصَّافِيَةِ
والمَاءِ ونحوِهِ عَلَى الجِسْمِ المُقَابِلِ له.
قالُوا: فتَمَامُ الزِّيارَةِ أَنْ يَتَوَجَّهَ الزَّائرُ برُوحِهِ وقَلْبِهِ إلى المَيِّتِ، ويَعْكُفَ بهِمَّتِهِ عليه، ويُوَجِّهَ قَصْدَهُ كُلَّهُ وإِقْبالَهُ عليه بحيثُ لا يَبْقَى فيه الْتِفَاتٌ إلى غيرِهِ.
وكلَّمَا كانَ جَمْعُ الهِمَّةِ والقلبِ عليه أعظمَ كانَ أَقْرَبَ إلى انْتِفَاعِهِ بهِ، وشَفَاعَتِهِ لَهُ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: (وقد ذَكَرَ هذه الزِّيارَةَ عَلَى هذا الوجْهِ ابنُ سِينَا، والفَارَابِيُّ،
وغيرُهُما، وصَرَّحَ بها عُبَّادُ الكَواكِبِ في عِبَادَتِهَا وقالُوا:
إذا تَعَلَّقَتِ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ بالأَرْواحِ العُلْويَّةِ فَاضَ
عليها منها النُّورُ، وبهذا السِّرِّ عُبِدَتِ الكَوَاكِبُ، واتُّخِذَت لها
الهَياكِلُ، وصُنِّفَتْ لها الدَّعَوَاتُ، واتُّخِذَت الأَصْنَامُ
المُجَسَّدَةُ لها؛ وهَذَا بعينِهِ هو الَّذي أوْجَبَ لعُبَّادِ القُبُورِ
اتِّخَاذَ أعيادٍ، وتَعْلِيقَ السُّتورِ عليها، وإِيقَادَ السُّرُجِ عليها،
وبِنَاءَ المَسَاجِدِ عليها، وهو الَّذي قَصَدَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبطالَهُ ومَحْوَهُ بالكلِّيَّةِ، وسَدَّ الذَّرائعِ
المُفْضِيَةِ إليه، فوقَفَ المشركونَ في طريقِهِ، ونَاقَضُوهُ في قَصْدِهِ
وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شِقٍّ وهؤلاء في شِقٍّ.
وهذا الَّذي ذَكَرَهُ هؤلاء المُشْرِكُونَ في زيارةِ القُبُورِ هو
الشَّفَاعَةُ التي ظَنُّوا أنَّ آلهِتَهُم تَنْفَعُهُم بها، وتَشْفَعُ
لَهُم عندَ اللهِ.
قالُوا: فإنَّ العبدَ إذا تَعَلَّقَتْ رُوحُهُ برُوحِ الوجِيهِ المُقَرَّبِ
عندَ اللهِ، وتَوَجَّهَ بهِمَّتِهِ إليه، وعكَفَ بقلبِهِ عليه، صَارَ
بينَهُ وبينَهُ اتِّصالٌ يَفِيضُ بهِ عَلَيْهِ منه نَصِيبٌ ممَّا يَحْصُلُ
له منَ اللهِ، وشَبَّهُوا ذلك بمَن يَخْدِمُ ذا جاهٍ وحُظْوةٍ وقُرْبٍ مِن
السُّلطانِ، فهو شَدِيدُ التَّعَلُّقِ بهِ، فَمَا يَحْصُلُ لذلك
السُّلْطانِ مِن الإنْعامِ والإفْضَالِ يَنَالُ ذلك المُتَعَلِّقَ بحَسَبِ
تَعَلُّقِهِ بهِ. فهذا سِرُّ عِبَادَةِ الأصنامِ وهو الَّذي بَعَثَ اللهُ
رُسُلَهُ، وأَنْزَلَ كُتُبَهُ بإبطالِهِ وتَكْفِيرِ أَصْحابِه، ولعَنَهُم،
وأَبَاحَ دِماءَهُم، وأَمْوالَهُم، وسَبَى ذَرَارِيَّهُم، وأَوْجَبَ لَهُم
النَّارَ، والقُرْآنُ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِه، مَمْلُوءٌ مِن الرَّدِّ
عَلَى أَهْلِهِ وإِبْطَالِ مَذْهَبِهِم) انتهَى.
قولُهُ: (ويَنَالُ المَقَامَ المَحْمُودَ) أي: المَقَامَ الَّذي يَحْمَدُهُ فيه الخَلاَئِقُ كلُّهم، وخالقُهُم تبارَكَ وتعالى.
قالَ ابنُ جَرِيرٍ: (قالَ
أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأويلِ: ذلك المقامُ الَّذي يَقُومُهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشَّفاعةِ للناسِ ليُرِيحَهُم رَبُّهم مِمَّا هُمْ فيه
مِن شِدَّةِ ذلك اليومِ).
وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: (المَقَامُ المَحْمُودُ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ، وكذا قالَابنُ أَبِي نجيحٍ عن مجاهدٍ).
وقالَ قتادةُ: (هو أوَّلُ مَن تَنْشَقُّ عنه الأَرْضُ، وأَوَّلُ شَافِعٍ، وكَانَ أَهْلُ العِلْمِ يَرَوْنَ أنَّهُ المَقَامُ المَحْمُودُ).
قولُهُ: (فالشَّفاعةُ التي نَفَاهَا القُرْآنُ ما كانَ فيها شِرْكٌ)
يَعْنِي: أنَّ الشَّفاعةَ التي نَفَاهَا اللهُ في القُرْآنِ هي
الشَّفاعَةُ التي فيها شِرْكٌ باللهِ، مِن دُعَاءِ غيرِ اللهِ وعِبَادَتِهِ
ليَشْفَعَ لَهُ عندَ اللهِ، فإنَّ اللهَ سبحانَهُ نَفَى هذه الشَّفاعةَ،
وأَخْبَرَ أنَّها لا تَكُونُ أَبَدًا، بل أَخْبَرَ أنَّ ذلك شِرْكٌ،
ونَزَّهَ نَفْسَهُ عنه، ونَفَى أَنْ يَكُونَ للمُؤْمِنِينَ وَلِيٌّ أو
شَفِيعٌ مِن دونِهِ، مَعَ أنَّ الشَّفاعةَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُم
بإذْنِهِ، لا للمُشْرِكينَ كمَا قالَ تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ له الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ له قَوْلاً}[طه:109]
فنَفَى سُبْحَانَهُ أَنْ تَنْفَعَ الشَّفاعةُ أَحَدًا إِلاَّ مَن أَذِنَ
لَهُ الرَّحمنُ ورَضِيَ قولَهُ وعَمَلَهُ، وهو المُؤْمِنُ المُخْلِصُ.
قولُهُ: (وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلى آخِرِه، تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، واللهُ أَعْلَمُ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (بابُ الشَّفاعَةِ) أي: بيانُ ما أَثْبَتَه القرآنُ منها وما نَفَاهُ، وحقيقةُ ما دَلَّ القرآنُ على إثباتِه. (2) قولُه: وقولِ اللهِ -عزَّ وجَلَّ-: {وَأَنذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم
مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأنعام:51]. الإنذارُ: وهو الإعلامُ بأسبابِ الْمَخَافَةِ والتحذيرُ منها. قولُه: {بِهِ} قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (بالقرآنِ:{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ}وَهُمُ الْمُؤمِنونَ) وعن الفُضيلِ بنِ عِياضٍ: (ليس كلُّ خَلْقِهِ عَاتَبَ، إنما عَاتَبَ الذين يَعْقِلون؛ فقالَ:{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبِّهِم}أي: وهم المؤمنونَ أصحابُ العُقولِ الوَاعِيَةِ). - وهذه كقولِه تعالى: {وَيَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ
هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ
يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ}[يونس:18]
فبَيَّنَ تعالى في هذه الآياتِ وأمثالِها أنَّ وُقوعَ الشفاعةِ على هذا
الوَجْهِ مُنْتَفٍ ومُمْتَنِعٌ، وأنَّ اتِّخاذَهُم شُفعاءَ شِرْكٌ،
يَتَنَزَّهُ الربُّ تعالى عنه. - وقد قالَ تعالى: {فَلَوْلاَ
نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ قُرْبَاناً آلِهَةً
بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}[الأحقاف:28] فبَيَّنَ تعالى أنَّ دَعواهُم أَنَّهُم يَشْفَعُونَ لهم بتَأَلُّهِهِم؛ أنَّ ذلك منهم إفكٌ وافتراءٌ. - وقولُه تعالى: {قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً}
أي: هو مالِكُها؛ فليس لِمَن تُطْلَبُ منه شيءٌ منها، وإنما تُطْلَبُ
مِمَّنْ يَمْلِكُها دونَ كلِّ مَا سِواهُ؛ لأنَّ ذلك عِبادةٌ وتَأَلُّهٌ لا
يَصْلُحُ إلا للهِ. - قالَ اللهُ تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[الزُّمَر:44]. (3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُه: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255]) قد تَبيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ من الآياتِ أنَّ الشفاعةَ التي نفاها القرآنُ هي التي تُطْلَبُ من غيرِ اللهِ. (4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وقولِه: {وَكَم
مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ
مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النَّجْم:26]. (5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُه -تعالى-: {قُلِ
ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن
شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ(22) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:22،23]). - إمَّا مالكٌ لِمَا يُريدُه عابدُه منه. - فإن لم يكنْ مالكًا كان شَريكًا للمالِكِ. - فإن لم يكنْ شَريكًا له كان مُعِينًا له وظَهيرًا. - فإن لم يكنْ مُعينًا ولا ظَهيرًا كان شَفيعًا عندَه. وهذا الذي ذَكَرَه هذا الإمامُ هو حقيقةُ دِينِ الإسلامِ؛ كما قالَ تعالى: {وَمَنْ
أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلاً}[النساء:125]. ورواه أحمدُ، وصَحَّحَه ابنُ حِبَّانَ، وفيه: ((وَشَفَاعَتِي لِمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، ولِسَانُهُ قَلْبَهُ)). وذَكَرَ -أيضًا- رَحِمَه اللهُ أنَّ الشفاعةَ سِتَّةُ أنواعٍ: الأَوَّلُ: الشفاعةُ الكُبْرَى، التي
يَتَأَخَّرُ عنها أُولو الْعَزْمِ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- حتى
تَنْتَهِيَ إليه -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-، فيَقُولَ: أنا لها، وذلك
حينَ يَرْغَبُ الخلائقُ إلى الأنبياءِ، ليَشْفَعُوا لهم إلى رَبِّهم حتى
يُرِيحَهُم مِن مَقامِهم في الْمَوْقِفِ، وهذه شفاعةٌ يُخْتَصُّ بها، لا
يَشْرَكُه فيها أَحَدٌ. الثاني: شَفاعتُه لأهلِ الْجَنَّةِ، في دُخولِها، وقد ذَكَرَها أبو هُريرةَ، في حديثِه الطويلِ الْمُتَّفَقِ عليه. الثالثُ: شفاعتُه لقومٍ من العُصاةِ من أمَّتِهِ، قد اسْتَوْجَبُوا النارَ بذُنُوبِهم، فيَشْفَعُ لهم أن لا يَدْخُلُوها. الرابعُ: شفاعتُه في العُصاةِ من أهلِ التوحيدِ، الذين
يَدْخُلُونَ النارَ بذُنوبِهم. والأحاديثُ بها مُتواتِرَةٌ عن النبيِّ
-صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ-، وقد أَجْمَعَ عليها الصحابةُ وأهلُ السنَّةِ
قَاطِبَةً، وبَدَّعُوا مَن أَنْكَرَها، وصاحُوا به مِن كلِّ جانبٍ،
ونادَوْا عليه بالضلالِ. الخامسُ: شَفاعتُه لقومٍ من أهلِ الْجَنَّةِ، في زِيادةِ ثَوابِهم ورِفعةِ دَرَجَاتِهم، وهذه مِمَّا لم يُنازِعْ فيها أَحَدٌ. السادسُ: شَفاعتُه في بعضِ الكُفَّارِ من أهلِ النارِ، حتى يُخفَّفَ عَذَابُه، وهذه خاصةٌ بـأبي طالبٍ وَحْدَه.
قولُه: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} قالَ الزَّجَّاجُ: (مَوْضِعُ {ليس}نَصْبٌ على الحالِ، كأَنَّهُ قالَ: مُتَخَلِّينَ من كلِّ وَلِيٍّ وشَفيعٍ، والعاملُ فيه {يَخافونَ}).
قولُه: {لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} أي: فيَعملونَ في هذه الدارِ عَمَلاً يُنْجِيهِم اللهُ به من عَذابِ يومِ القِيامةِ.
وقولُه: {قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً}[الزمر:44].
وقَبْلَها: {أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ}[الزُّمَر:43].
قالَ البَيْضَاوِيُّ: (لعَلَّه رَدٌّ لِمَا عَسَى أن يُجِيبُوا به، وهو أنَّ الشُّفعاءَ أَشخاصٌ مُقَرَّبُونَ).
وقولُه تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
تقريرٌ لبُطلانِ اتِّخاذِ الشُّفعاءِ من دونِه؛ لأَنَّهُ مالِكُ
الْمُلْكِ، فانْدَرَجَ في ذلك مُلْكُ الشفاعةِ، فإذا كانَ هو مالِكَها
بَطَلَ أن تُطْلَبَ مِمَّنْ لا يَمْلِكُها {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255]{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء:28].
قالَ ابنُ جَريرٍ: (نَزَلَتْ لمـَّا قالَ الكُفَّارُ: ما نَعْبُدُ أَوْثَانَنا هذه إلا ليُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى).
وفي هذه الآيةِ بَيانُ أنَّ الشفاعةَ إنما تَقَعُ في الدارِ الآخِرَةِ بإذْنِه، كما قالَ تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}[طه:109]
فبَيَّنَ أنها لا تَقَعُ لأَحَدٍ إلا بشَرطينِ: إِذْنُ الربِّ تعالى
للشافِعِ أن يَشْفَعَ؛ ورِضاهُ عن الْمَأذونِ بالشفاعةِ فيه، وهو تعالى لا
يَرْضَى من الأقوالِ والأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ إلا ما أُريدَ به
وَجْهُه، ولَقِيَ العبدُ به رَبَّه مُخْلِصًا غيرَ شاكٍّ في ذلك، كما دَلَّ
على ذلك الحديثُ الصحيحُ، وسيأتي ذلك مُقَرَّرًا أيضًا في كلامِ شيخِ الإسلامِ رَحِمَه اللهُ.
قالَ ابنُ كثيرٍ: ({وَكَم
مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ
مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى}.
- كقولِه: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}{وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}
فإذا كان هذا في حَقِّ الملائكةِ الْمُقَرَّبِينَ، فكيف تَرْجُونَ أيُّها
الجاهلونَ شَفاعةَ هذه الأندادِ عندَ اللهِ؛ وهو لم يُشَرِّعْ عِبادتَها
ولا أَذِنَ فيها، بل قد نَهَى عنها على أَلْسِنَةِ جَميعِ رُسُلِه؛
وأَنزَلَ بالنهْيِ عن ذلك جَميعَ كُتُبِه).
قالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى في الكلامِ على هذه الآياتِ: (وقد
قَطَعَ اللهُ الأسبابَ التي يَتَعَلَّقُ بها الْمُشرِكونَ جَميعَها؛
فالْمُشْرِكُ إنما يَتَّخِذُ مَعبودَه لِمَا يَحْصُلُ له من النَّفْعِ،
والنَّفْعُ لا يكونُ إلا مِمَّنْ فيه خَصْلَةٌ من هذه الأَربعِ:
فنَفَى سُبحانَه الْمَراتِبَ الأربعَ نَفيًا مُرَتَّبًا، مُتَنَقِّلاً من
الأَعْلَى إلى الأَدْنَى؛ فنَفَى الْمُلْكَ والشَّرِكَةَ والْمُظاهَرَةَ
والشفاعةَ التي يَطْلُبُها الْمُشْرِكُ، وأَثْبَتَ شَفاعةً لا نَصيبَ فيها
لِمُشْرِكٍ، وهي الشفاعةُ بإِذْنِه.
فكَفَى بهذه الآيةِ نُورًا وبُرهانًا وتَجريدًا للتوحيدِ؛ وقَطْعاً لأُصولِ الشرْكِ ومَوادِّهِ لِمَن عَقَلَها.
والقرآنُ مَملوءٌ من أَمثالِها ونَظائرِها، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا
يَشْعُرونَ بدُخولِ الوَاقِعِ تَحْتَه وَتَضَمُّنِهِ له، وَيَظُنُّونَها في
نَوْعٍ وَقَوْمٍ قد خَلَوْا من قَبْلُ ولم يُعَقِّبُوا وارِثًا، وهذا هو
الذي يَحولُ بينَ القلبِ وبينَ فَهْمِ القُرآنِ، ولعَمْرُ اللهِ؛ إن كان
أولئكَ قد خَلَوْا فقد وَرِثَهم مَنْ هو مِثلُهم أو شَرٌّ منهم أو دونَهم،
وَتَنَاوُلُ القرآنِ لهم كتَنَاوُلِه لأولئكَ).
ثم قالَ: (ومن أنواعِه، أي: الشرْكِ: طَلَبُ الحوائجِ من الْمَوْتَى والاستغاثةُ بهم، وهذا أَصْلُ شِرْكِ العالَمِ.
فإنَّ الْمَيِّتَ قد انْقَطَعَ عملُه وهو لا يَمْلِكُ لنفسِه نَفْعًا ولا
ضَرًّا، فَضْلاً عمَّن استغاثَ به وسألَه أن يَشفعَ له إلى اللهِ، وهذا مِن
جَهْلِه بالشافعِ والمشفوعِ عندَه.
فإنه لا يَقْدِرُ أن يَشفعَ له عندَ اللهِ إلا بإذنِه، واللهُ لم يَجْعَل
استغاثتَه وسؤالَه سَببًا لإذْنِه؛ وإنما السبَبُ كمالُ التوحيدِ، فجاءَ
هذا الْمُشرِكُ بسَببٍ يَمنعُ الإذنَ، وهو بِمَنزلةِ مَن استعانَ في
حاجَتِه بما يَمْنَعُ حُصُولَها.
وهذه حالةُ كلِّ مُشْرِكٍ، فجَمَعُوا بينَ الشرْكِ بالمعبودِ وتَغييرِ
دِينِه، ومُعاداةِ أهلِ التوحيدِ، ونِسبةِ أهلِه إلى التنَقُّصِ بالأمواتِ،
وهم قد تَنَقَّصُوا الخالقَ بالشرْكِ، وأولياءَه الْمُوَحِّدِينَ بذَمِّهم
وعَيْبِهم ومُعاداتِهم، وتَنَقَّصُوا مَن أَشْرَكُوا به غايةَ
التَّنَقُّصِ؛ إذ ظَنُّوا أَنَّهُم رَاضُونَ منهم بهذا، وأَنَّهُم
أَمَرُوهم به، وأَنَّهُم يُوالُونَهم عليه، وهؤلاءِ هم أعداءُ الرُّسُلِ في
كلِّ زَمانٍ ومكانٍ، وما أكثرَ الْمُسْتَجِيبِينَ لهم؛ وما نَجَى مِن
شَرَكِ هذا الشرْكِ الأكبرِ إلا مَن جَرَّدَ تَوحيدَه للهِ، وعَادَى
المشرِكينَ في اللهِ، وتَقَرَّبَ بِمَقْتِهِم إلى اللهِ، واتَّخَذَ اللهَ
وَحدَه وَليَّه وإلَهَه ومَعبودَه.
فجَرَّدَ حُبَّهُ للهِ وخَوفَه للهِ، ورَجاءَه للهِ؛ وذُلَّه للهِ،
وتَوَكُّلَه على اللهِ، واستعانتَه باللهِ، والتجاءه إلى اللهِ، واستغاثتَه
باللهِ، وقَصْدَه للهِ، مُتَّبِعًا لأَمْرِه مُتَطَلِّبًا لِمَرضاتِه، إذا
سألَ سألَ اللهَ، وإذا استعانَ استعانَ باللهِ، وإذا عَمِلَ عَمِلَ للهِ،
فهو للهِ وباللهِ ومع اللهِ) انْتَهَى كلامُه رَحِمَه اللهُ تعالى.
قولُه: (قالَ أبو العَبَّاسِ) هو كُنْيَةُ شيخِ الإسلامِ، أحمدَ بنِ عبدِ الحليمِ بنِ عبدِ السلامِ ابنِ تَيميةَ الْحَرَّانِيِّ، إمامِ المسلمينَ -رَحِمَه اللهُ-.
قولُه: (وقالَ أبو هُريرةَ) إلى آخِرِه، هذا الحديثُ رواه البخاريُّ، والنسائيُّ، عن أبي هُريرةَ.
وشاهدُهُ في (صحيحِ مسلِمٍ)، عن أبي هُريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لِكُلِّ
نَبِيٍّ دَعْوةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ،
وإنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيامَةِ،
فَهِيَ نَائِلةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا)).
وقد ساقَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ كلامَ شَيخِ الإسلامِ هنا، فقالَ مَقامَ الشرْحِ والتفسيرِ لِمَا في هذا البابِ من الآياتِ، وهو كافٍ وافٍ، بتحقيقٍ مع الإيجازِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وقد عَرَّفَ الإخلاصَ بتعريفٍ حَسَنٍ، فقالَ: الإخلاصُ: مَحَبَّةُ اللهِ وَحْدَه، وإرادةُ وَجْهِه.
وقالَ ابنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَه اللهُ- في معنى حديثِ أبي هُريرةَ: (تَأَمَّلْ
هذا الحديثَ كيف جَعَلَ الأسبابَ التي تُنالُ بها شَفاعتُه: تَجريدَ
التوحيدِ، عَكْسَ ما عندَ الْمُشرِكينَ أنَّ الشفاعَةَ تُنالُ باتِّخاذِهم
شُفعاءَ وعِبادَتِهم ومُوَالاَتِهم، فقَلَبَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه
وَسَلَّمَ ما في زَعْمِهِمُ الكاذبِ، وأَخْبَرَ أنَّ سَبَبَ الشفاعةِ
تَجريدُ التوحيدِ، فحِينئذٍ يَأْذَنُ اللهُ للشافِعِ أن يَشْفَعَ.
ومَن جَهْلِ الْمُشْرِكِ اعتقادُهُ أنَّ مَن اتَّخَذَه وَليًّا أو شفيعًا،
أنه يَشْفَعُ له ويَنْفَعُه عندَ اللهِ، كما يكونُ خَواصُّ الملوكِ
والوُلاةِ تَنفعُ مَن وَالاَهُم.
ولا يَعْلَمُونَ أنه لا يَشْفَعُ عندَه أحدٌ إلا بإِذْنِه، ولا يَأذَنُ في الشفاعةِ إلا لِمَن رَضِيَ قولَه وعَمَلَه؛ كما قالَ في الفصلِ الأَوَّلِ:{مَن ذَا الذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}.
وفي الفصلِ الثاني:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}.
وبَقِيَ فَصْلٌ ثالثٌ:وهو أنه لا يَرْضَى من القولِ والعملِ إلا تَوحيدَه واتِّباعَ رَسولِه -صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- فهذه ثلاثةُ فُصولٍ، تَقْطَعُ شَجرةَ الشِّرْكِ من قَلْبِ مَن وَعَاهَا وعَقَلَها) انتهى.
وكُلُّها مُخْتَصَّةٌ بأهلِ الإخلاصِ، الذين لم يَتَّخِذُوا من دُونِ اللهِ وَليًّا ولا شَفيعًا، كما قالَ تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الذِينَ يَخَافونَ أَن يُحْشَروا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفيعٌ}. [الأنعام:51].
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)
إِنَّما ذَكَرَ المُصَنِّفُ
الشَّفَاعَةَ في تَضَاعِيفِ هذِه الأبوابِ؛ لأنَّ المُشْرِكِينَ
يُبَرِّرُونَ شِرْكَهُم ودُعَاءهُم للمَلاَئِكَةِ، والأنبياءِ، والأولياءِ
بقَوْلِهِم: نَحْنُ نَدْعُوهم،
مع عِلْمِنا أَنَّهم مَخْلُوقونَ مَمْلُوكُونَ، ولَكِن حَيْثُ إنَّ لَهُم
عِنْدَ اللهِ جاهًا عظيمًا ومقاماتٍ عاليةً نَدْعُوهم ليقرِّبُونا إلى
اللهِ زُلْفَى وليَشْفَعُوا لنا عندَه، كما يُتَقَرَّبُ إلى الوجهاءِ عندَ
الملوكِ والسلاطينِ، ليَجْعَلُوهم وسائطَ لقضاءِ حاجاتِهم وإدراكِ مآربِهم. وهذا مِن أبْطلِ الباطلِ،
وهو تَشْبِيهُ اللهِ العَظيمِ مَلِكِ الملوكِ الذِي يَخافُه كُلُّ أَحَدٍ
وتَخْضَعُ لَهُ المَخْلُوقاتُ بِأَسْرِهَا ، بالملوكِ الفقراءِ
المُحْتاجِينَ للوُجَهَاءِ والوُزَراءِ في تكميلِ مُلْكِهِم ونُفُوذِ
قُوَّتِهم. فأبطلَ اللهُ هذا الزعْمَ،
وبيَّنَ أنَّ الشفاعةَ كلَّها له، كما أنَّ المُلْكَ كلَّه له، وأنَّه لا
يَشْفَعُ عِندَه أحدٌ إلاَّ بإذْنِه، ولاَ يَأْذَنُ إلاَّ لِمَن رَضِيَ
قولَهُ وعملَهُ، ولا يرْضَى إلا توحيدَه وإخلاصَ العملِ له.
فبيَّنَ أنَّ المُشْرِكَ لَيْسَ له حَظٌّ ولا نَصِيبٌ من الشفاعَةِ.
وبيَّنَ أنَّ الشفاعَةَ المُثْبَتَةَ التي تَقَعُ بإذْنِه إنَّما هي
الشفاعةُ لأهلِ الإِخلاصِ خاصَّةً ، وأنَّها كلَّها منه؛ رحمةً منه،
وكرامةً للشافعِ، ورحمةً منه وعفوًا عن المشفوعِ له، وأنَّه هو المحمودُ
عليها في الحقيقةِ، وهو الذِي أَذِنَ لمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها وأنالَه المقامَ المحمودَ.
فهذا ما دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ في تفصيلِ القَوْلِ في الشفاعةِ.
وقَدْ ذَكَرَ المصنفُ رَحِمَهُ اللهُ كَلاَمَ الشيخِ تَقِيِّ الدِّينِ في هذا الموضعِ ، وهو كافٍ شافٍ.
فالمقصودُ في هذا البابِ ذِكْرُ النصوصِ الدَّالَّةِ على إبطالِ كلِّ
وسيلةٍ وسببٍ يَتَعَلَّقُ به المُشْرِكونَ بآلِهَتِهِم، وأنَّه ليسَ لَهَا
مِن المُلْكِ شَيْءٌ؛ لا اسْتِقْلاَلاً، ولا مُشارَكةً، ولا مُعاونةً، ولا
مُظاهرةً، ولا مِن الشفاعةِ شيءٌ ، وإنَّما ذلك كلُّه للهِ وحدَه،
فتَعَيَّنَ أنْ يكونَ المعبودَ وحدَه.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
ذَكَرَ المُؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ الشَّفَاعَةَ في
(كِتَابِ التَّوحيدِ) لأنَّ المُشْرِكِينَ الذينَ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ يقولونَ: إنَّها شُفَعَاءُ لهم عندَ اللهِ، وهم يُشْرِكُونَ باللهِ سُبْحانَهُ وتَعَالَى فيها بالدُّعاءِ والاسْتِغَاثَةِ، ومَا أَشْبَهَ ذلكَ.
وهم بذلكَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُعَظِّمُونَ للهِ، ولكنَّهم
مُنْتَقِصُونَ لهُ؛ لأنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ ولهُ الحُكْمُ
التَّامُّ المُطْلَقُ والقُدْرَةُ التامَّةُ، ومَنْ كَانَ كذلكَ فإنَّهُ
لاَ يَحْتاجُ إِلَى شُفَعَاءَ. ثُمَّ الشَّفَاعَةُ لاَ
يُرادُ بِهَا مَعُونَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ في شَيْءٍ مِمَّا شُفِعَ فيهِ،
فهذا مُمْتَنِعٌ كَمَا سَيأْتِي في كَلاَمِ شَيْخِ الإسْلاَمِ ابنِ تَيْمَيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ، ولَكِنْ يُقْصَدُ بِهَا أَمْرانِ هُمَا: - إِكْرَامُ الشَّافِعِ. - ونَفْعُ المَشْفُوعِ لَهُ. والشَّفَاعَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ: شَفَعَ يَشْفَعُ، إذا جَعَلَ الشَّيْءَ اثْنَيْنِ، والشَّفْعُ ضِدُّ الوَتْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}. واصْطَلاَحًا: التَّوَسُّطُ للغَيْرِ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ. مثالُ جَلْبِ المَنْفَعَةِ: شَفَاعَةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لأَِهلِ الجنَّةِ بدُخُولِها. ومِثَالُ دَفْعِ المَضَرَّةِ: شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِمَن اسْتَحَقَّ النَّارَ أنْ لاَ يَدْخُلَها. الشفاعة نوعان: - شفاعة منفيّة في القرآن، وهي الشفاعة للكافر والمشرك، قال تعالى:{من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}، وقال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}. والنوع الثاني: الشفاعة التي أثبتها القرآن، وهي خالصة لأهل الإخلاص، وقيدها الله تعالى بأمرين: الأول: إذنه للشافع أن يشفع، كما قال: {من ذا لذي يشفع عنده إلاّ بإذنه} الثاني: رضاه عمن أذن للشافع أن يشفع فيه، لما قال تعالى: {ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى}. (2) قولُهُ: {وَأَنذِرْ بِهِ} الإنْذَارُ: هوَ الإعْلاَمُ المُتَضَمِّنُ للتَّخْويفِ، أَمَّا مُجَرَّدُ الخَبَرِ فليسَ بإنْذَارٍ، والخَطَابُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. - وقَالَ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. - وقولُهُ: {يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا} أيْ: يَخَافُونَ مِمَّا يَقَعُ لَهُم مِنْ سُوءِ العَذَابِ في ذلكَ الحشرِ. والحَشْرُ: الجَمْعُ، وقَدْ ضُمِّنَ هنا مَعْنَى الضَّمِّ والانْتِهَاءِ، ومَعْنَى (يُحْشَرُونَ) أيْ: يُجْمَعُونَ حَتَّى يَنْتَهوا إلَى اللهِ. ومَفْهُومُها: أَنَّها ثَابِتَةٌ بإذنِهِ وهذا هوَ المَقْصُودُ، فالشَّفَاعَةُ مِنْ دونِهِ مُسْتَحِيلَةٌ، وبإذْنِهِ جَائِزَةٌ ومُمْكِنَةٌ. أمَّا عندَ المُلُوكِ فَجَائِزَةٌ بإذْنِهم وبغَيْرِ إذْنِهِم، فيُمْكِنُ لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ السُّلْطَانِ أنْ يَشْفَعَ بدونِ أنْ يَسْتَأْذِنَ. وقَدْ قَسَّمَ أَهْلُ العِلْمِ - رَحِمَهم اللهُ - الشَّفَاعَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ كبيرين: القِسْمُ الأولُ: الشَّفَاعَةُ الخَاصَّةُ بالرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهيَ أنواعٌ: النَّوْعُ الأوَّلُ: الشَّفَاعَةُ العُظْمَى، وهيَ مِن المَقَامِ المَحْمُودِ الذي وَعَدَهُ اللهُ، فإنَّ النَّاسَ
يَلْحَقُهم يومَ القيامةِ في ذلكَ المَوْقِفِ العَظِيمِ مِن الغَمِّ
والكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَهُ، فيَشْفَعُ إلَى اللهِ ليُرِيحَ أَهْلَ
المَوْقِفِ مما هم فيه بعد أن يتدافعها الأنبياء آدم، ونوح، وإبراهيم،
وموسى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام ثم تنتهي إليه. الثَّانِي: شَفَاعَتُهُ في أهْلِ الجنَّةِ أنْ يَدْخُلُوها ؛
لأَِنَّهم إذا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وَوَصَلُوا إِلَيْها وجَدُوهَا
مُغْلَقَةً، فيَطْلُبونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُم، فيَشْفَعُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلَى اللهِ في فَتْحِ أَبْوابِ الجَنَّةِ
لأَِهْلِها، ويُشِيرُ إلَى ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فَقَالَ: {وفُتِحَتْ} فهناكَ شيءٌ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: وحَصَلَ ما حَصَلَ مِن الشَّفَاعَةِ، وفُتِحَتِ الأبْوابُ، أمَّا النَّارُ فَقَالَ فيها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوابُهَا}. الثَّالِثُ: شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُخَفَّفَ عنه العَذَابُ، وهذه مُسْتَثْناةٌ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقولِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} وذلكَ لِمَا كانَ لأَِبِي طَالبٍ مِنْ
نُصْرَةٍ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ودِفَاعٍ عنه، وهوَ لَمْ
يَخْرُجْ مِن النَّارِ لكنْ خُفِّفَ عنه، حَتَّى صَارَ - والعِياذُ باللهِ
- في ضَحْضَاحٍ مِنْ نارٍ وعليهِ نَعْلاَنِ منها يَغْلِي منهما دِمَاغُهُ،
وهذه الشَّفَاعَةُ خَاصَّةٌ بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لاَ
أَحَدَ يَشْفَعُ في كَافِرٍ أَبَدًا إِلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ومَعَ ذلكَ لَمْ تُقْبَل الشَّفَاعَةُ كَامِلَةً وإِنَّما هيَ
تَخْفِيفٌ فقطْ. القِسْمُ الثَّانِي: الشَّفَاعَةُ العَامَّةُ لَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولجَميعِ المُؤْمِنينَ: وهي ثلاثة أنواعٌ: النوعُ الأولُ: الشَّفاعةُ فيمَن اسْتَحَقَّ النارَ أنْ لاَ يَدْخُلَها، وهذه قَدْ يُسْتَدَلُّ عليها بقولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((مَا
مِنْ مُسْلِمٍ يَموتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنازَتِهِ أرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ
يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ)) فإنَّ هذه شَفَاعَةٌ قبلَ أنْ يَدْخُلَ النارَ فيُشَفِّعُهُم اللهُ في ذلكَ، وقال ابن القيم: (وهذا النوع لم أقف إلى الآن على حديث يدل عليه). النوعُ الثاني: الشَّفَاعَةَُ فيمَنْ دَخَلَ النَّارَ أنْ يَخْرُجَ منها، وَقَدْ
تَواتَرَتْ بِهَا الأحاديثُ، وأَجْمَعَتْ عليها الصَّحَابَةُ، واتَّفَقَ
عليها أهلُ المللِ ما عَدَا طَائِفَتَيْنِ وهما: المُعْتَزِلَةُ
والخَوَارِجُ، فإنَّهم يُنْكِرونَ الشَّفاعَةَ في أهْلِ المَعَاصِي
مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهم يَرَوْنَ أنَّ فَاعِلَ الكَبِيرةِ مُخَلَّدٌ في
النَّارِ، ومَن اسْتَحَقَّ الخُلُودَ فَلاَ تَنْفَعُ فيهِ الشَّفَاعَةُ،
فهم يُنْكِرُونَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أوْ غَيْرَهُ
يَشْفَعُ في أَهْلِ الكَبَائرِ أَنْ لاَ يَدْخُلُوا النَّارَ، أوْ إذا
دَخَلُوها أنْ يَخْرُجُوا منها، لكنَّ قَوْلَهم هذا بَاطِلٌ بالنَّصِّ
والإجماعِ. النوعُ الثالثُ: الشَّفَاعةُ في رَفْعِ دَرَجَاتِ المُؤْمِنينَ، وهذه تَؤْخَذُ مِنْ دُعاءِ المُؤْمِنينَ بَعْضِهم لبعضٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في أَبِي سَلَمَةَ: ((اللهُمَّ
اغْفِرْ لأَِبِي سَلَمَةَ وارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ،
وأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، واخْلُفْهُ فِي
عَقِبِهِ)). والدُّعاءُ شَفَاعَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((مَا
مِنْ مُسلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَربَعونَ رَجُلاً لاَ
يُشْرِكُونَ باللهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُم اللهُ فيهِ)). إِشْكَالٌ وجَوَابُهُ: فإنْ
قِيلَ: إنَّ الشَّفَاعَةَ لاَ تَكُونُ إلاَّ بإذْنِهِ سُبْحَانَهُ، فكيفَ
يُسَمَّى دُعَاءُ الإنْسَانِ لأَِخيهِ شَفَاعَةً وهوَ لَمْ يَسْتَأْذِنْ
مِنْ رَبِّهِ؟ فالجَوابُ: أنَّ اللهَ أَمَرَ بأنْ يَدْعُوَ الإنسانُ لأَِخِيهِ المَيِّتِ، وأَمْرُهُ بالدُّعَاءِ إذْنٌ وزيادةٌ. وأمَّا الشَّفَاعَةُ المَوْهُومَةُ التي
يَظُنُّها عُبَّادُ الأصنامِ مِنْ مَعْبُودِيهم، فهيَ شَفَاعَةٌ باطِلَةٌ؛
لأنَّ اللهَ لا يأذنُ لأَِحَدٍ بالشَّفَاعَةِ إِلاَّ مَن ارْتَضَاهُ مِن
الشُّفَعَاءِ والمَشْفُوعِ لَهُم. (4) قولُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي} مَن: اسمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى النَّفْيِ؛ أيْ: لاَ يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ بإذنِهِ. {ذَا} هلْ تجْعَلُ {ذَا}اسْمًا مَوْصُولاً، أوْ لا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ اسْمًا مَوْصُولاً هنا لِوُجُودِ الاسْمِ المَوْصُولِ (الذي)؟ الثاني: هوَ الأَقْرَبُ، وإِنْ كَانَ بَعْضُ المُعْرِبِينَ قَالَ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ (الذي) تَوْكِيدًا لَهَا. والصَّحِيحُ: أنَّ {ذَا} هنا إِمَّا مُرَكَّبَةٌ مَعَ {مَنْ} أوْ زَائِدَةٌ للتَّوْكِيدِ، وأيًّا كانَ الإعْرَابُ فالمَعْنَى: أَنَّهُ لاَ أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ بإذْنِ اللهِ. وسَبَقَ أنَّ
النَّفْيَ إذا جَاءَ في سِياقِ الاسْتِفْهامِ فإنَّهُ يكونُ مُضَمَّنًا
مَعْنَى التَّحَدِّي؛ أيْ: إذا كَانَ أَحَدٌ يَشْفَعُ بِغَيْرِ إذْنِ اللهِ
فَأْتِ بهِ. وأَفَادَت الآيَةُ: أنَّهُ
يُشْتَرَطُ للشَّفَاعَةِ إذنُ اللهِ فيها لكَمَالِ سُلْطَانِهِ جَلَّ
وعَلاَ، فإنَّهُ كُلَّمَا كَمُلَ سُلْطَانُ المَلِكِ فإنَّهُ لاَ أَحَدَ
يَتَكَلَّمُ عِنْدَهُ ولوْ كَانَ بِخَيْرٍ إِلاَّ بَعْدَ إذْنِهِ، ولذلكَ
يُعْتَبَرُ اللَّغَطُ في مَجْلِسِ الكَبِيرِ إِهَانَةً لهُ ودَلِيلاً علَى
أنَّهُ ليسَ كَبِيرًا في نُفُوسِ مَنْ عندَهُ، وقد كانَ الصَّحَابَةُ مَعَ
الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَأنَّما عَلَى رُءُوسِهم
الطَّيْرُ مِن الوَقَارِ وعَدَمِ الكَلاَمِ، إلاَّ إذا فُتِحَ الكَلاَمُ
فإنَّهم يَتَكَلَّمُونَ.
والمُلُوكُ في الدُّنيا يَحْتاجُونَ إلَى شُفَعَاءَ، إِمَّا لِقُصُورِ
عِلْمِهم، أوْ لِنَقْصِ قُدْرَتِهم، فيُسَاعِدُهم الشُّفَعَاءُ في ذَلِكَ،
أوْ لقُصُورِ سُلْطَانِهم فَيَتَجرَّأُ عَلَيْهم الشُّفَعَاءُ فيَشْفَعُونَ
بدونِ اسْتِئْذَانٍ، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ كامِلُ العِلْمِ والقُدْرَةِ
والسُّلْطانِ، فَلاَ يَحْتَاجُ لأَِحَدٍ أنْ يَشْفَعَ عندَهُ، ولهذا لا
تكونُ الشَّفَاعَةُ عندَهُ سبحانَهُ إلاَّ بإذْنِهِ لِكَمَالِ سُلْطَانِهِ
وعَظَمَتِهِ.
قال في (قرة عيون الموحدين) ص100:
والضَّمِيرُ في {بِهِ} يَعُودُ للقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}.
وقولُهُ: {لَيْسَ لَهُمْ مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}، ولِيٌّ أيْ: ناصِرٌ يَنْصُرُهم. {ولاَ شَفِيعٌ}
أيْ: شَافِعٌ يَتَوسَّطُ لَهُم، وهذا مَحَلُّ الشَّاهِدِ، فَفِي هذه
الآيَةِ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ مِنْ دونِ اللهِ؛ أيْ: مِنْ دونِ إذنِهِ.
ويُفِيدُ قولُهُ: {مِنْ دُونِهِ} أنَّ لهم بإذنِهِ وليًّا وشَفِيعًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ}.
(3) قولُهُ تَعَالَى: {للهِ الشَّفَاعَةُ}
مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، وقُدِّمَ الخَبَرُ للحَصْرِ، والمعنَى: للهِ وحْدَهُ
الشَّفَاعَةُ كلُّهَا، لاَ يُوجَدُ شَيْءٌ منها خَارِجًا عنْ إذنِ اللهِ
وإرادَتِهِ، فأَفَادَت الآيَةُ في قولِهِ: {جَمِيعًا} أنَّ هناكَ أَنْواعًا للشَّفَاعَةِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن
أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر ثابتة متواترة عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد اتفق عليها السلف الصالح؛ من الصحابة وتابعيهم بإحسان وأئمة
المسلمين).
قال ابن القيم: (هي نوع ينكرها كثير من الناس) .
إذًا قولُهُ: {للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} تُفِيدُ أنَّ الشَّفَاعَةَ مُتَعَدِّدَةٌ كَمَا سَبَقَ.
قولُهُ {عِنْدَهُ}
ظَرْفُ مَكَانٍ، وهوَ سبحانَهُ في العُلُوِّ؛ فَلاَ يَشْفَعُ أَحَدٌ
عِنْدَهُ ولوْ كَانَ مُقَرَّبًا -كالمَلاَئِكَةِ المُقَرَّبِينَ- إلاَّ
بإذْنِهِ الكَوْنِيِّ، والإذْنُ لاَ يكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الرِّضَا.
(5) قولُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ}{كم}
خَبَرِيَّةٌ للتَّكْثيرِ، والمَعْنَى: مَا أَكْثَرَ المَلاَئِكَةَ الذينَ
في السَّماءِ، ومَعَ ذلكَ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهم شيئًا إِلاَّ بَعْدَ
إذنِ اللهِ ورِضَاهُ.
قولُهُ: {إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}.
فللشَّفَاعَةِ شَرْطَانِ هما:
- الإذْنُ مِن اللهِ: لقولِهِ: {أَن يَأْذَنَ اللهُ}. - ورِضَاهُ عن الشَّافِعِ والمَشْفُوعِ لهُ: لقولِهِ: {وَيَرْضَى} وكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} فَلاَ بُدَّ مِنْ إذنِهِ تَعَالَى ورِضَاهُ عن الشَّافِعِ والمَشْفُوعِ لَهُ؛ إلاَّ في التَّخْفِيفِ عنْ أَبِي طَالِبٍ، وقَدْ سَبَقَ ذلكَ. وهذا غايَةٌ في التَّحْقِيرِ، ثُمَّ قَالَ: {أَلَكُمُ
الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ
هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنَزَلَ
اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا
تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِن رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ
لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى (25) وَكَمْ
مِن مَلَكٍ} الآيَةَ. (6) قولُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا} الأمرُ في قولِهِ {ادْعُوا} للتَّحَدِّي والتَّعْجِيزِ، وقولُهُ: {ادْعُوا} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الأولى: أَحْضِرُوهم. الثاني: ادْعُوهُم دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ. فلوْ دَعَوْهم دَعَاءَ مَسْأَلَةٍ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ
تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا
لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. ومعنى: {يَكْفُرُونَ}
يَتَبَرَّءُونَ، ومَعَ هذه الآياتِ العَظَيمَةِ يَذْهَبُ بَعْضُ النَّاسِ
يُشْرِكُ باللهِ ويَسْتَنْجِدُ بغَيْرِ اللهِ، وكذلكَ لوْ دَعَوْهم دُعَاءَ
حُضُورٍ لَمْ يَحْضُرُوا، ولوْ حَضَروا مَا انْتَفَعُوا بِحُضُورِهم. {مِنْ شِرْكٍ} أيْ: مُشَارَكَةٍ، أيْ: لاَ يَمْلِكُونَهُ انْفِرَادًا ولاَ مُشَارَكَةً. وكُلُّ زيادةٍ لَفْظِيَّةٍ في القُرْآنِ فَهِي زِيَادَةٌ في المَعْنَى ، وأَتَتْ {مِنْ} للمُبَالَغَةِ في النَّفْيِ، وأَنَّهُ ليسَ هناكَ شِرْكٌ لاَ قَلِيلٌ ولاَ كثيرٌ. (7) قولُهُ: (قَالَ أبو العبَّاسِ) هوَ شيخُ الإسلامِ تَقِيُّ الدَّينِ أحمدُ بنُ عبدِ الحليمِ بنِ عبدِ السَّلاَمِ بنِ تَيْمِيَّةَ (8) قولُهُ: (لغيرِهِ مُلْكٌ) أيْ: لغيرِ اللهِ في قولِهِ: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثقَالَ ذَرَّةٍ في السَّمَاواتِ ولاَ في الأَرْضِ}. (9) قولُهُ: (أوْ قِسْطٌ منهُ) في قولِهِ: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}. (10) قولُهُ: (أوْ يكونَ عَوْنًا للهِ) في قولِهِ تَعَالَى: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ. (11) قولُهُ: (وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الشَّفَاعَةُ) فبَيَّنَ أَنَّها لاَ تَنْفَعُ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}. واعْلَمْ أنَّ شِرْكَ المُشْرِكِينَ في السَّابِقِ كَانَ في عِبَادَةِ الأصنامِ، أمَّا
الآنَ فهوَ في طَاعَةِ المَخْلُوقِ في المَعْصِيَةِ، فإنَّ هؤلاءِ
يُقَدِّسُونَ زُعَمَاءَهُم أَكْثَرَ مِنْ تَقْدِيسِ اللهِ إنْ أَقَرُّوا
بِهِ، فيُقَالُ لَهُم: إنَّهم بَشَرٌ مِثْلُكم خَرَجَوا مِنْ مَخْرَجِ
البَوْلِ والحَيْضِ، وليسَ لَهُم شِرْكٌ في السَّماواتِ ولاَ في الأَرْضِ،
ولاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لَكُم عِنْدَ اللهِ، إذًا فكيفَ
تَتَعَلَّقُونَ بهم؟ (12) قولُهُ: (وَأَخْبَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ: أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ) أيْ: وكَمَا أَخْبَرَ، والواوُ عَاطِفَةٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافِيَّةً. (13) قولُهُ: ((ارْفَعْ رَأْسَكَ)) أيْ: مِن السُّجُودِ. (14) قولُهُ: ((وقُلْ يُسْمَعْ)) السَّامِعُ هوَ اللهُ، و((يُسْمَعْ)) جَوابُ الأَمْرِ مَجْزُومٌ. (15) قولُهُ: ((وَسَلْ تُعْطَ)) أيْ: سَلْ مَا بَدَا لكَ تُعْطَ إيَّاهُ، و((تُعْطَ)) مَجْزُومٌ بِحَذْفِ حَرْفِ العِلَّةِ جَوَابًا لـ((سَلْ)). (16) قولُهُ: ((واشْفَعْ تُشَفَّعْ)) وحينَئذٍ يَشْفَعُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الخَلاَئِقِ أَنْ يُقْضَى بينَهُم. (17) قولُهُ: (وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟) هذا السُّؤَالُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ لهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((لَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أنْ لاَ يَسْأَلَنِي أَحَدٌ غَيْرُكَ عنهُ لِمَا أَرَى مِنْ حِرْصِكَ عَلَى العِلْمِ)) وفي هذا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ مِنْ وَسَائِلِ تَحْصِيلِ العِلْمِ السُّؤَالَ. (18) قولُهُ: ((مَنْ قالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ)) وعليهِ فالمُشْرِكُونَ ليسَ لَهُم حَظٌّ مِن الشَّفَاعَةِ؛ لأَِنَّهم لاَ يَقُولونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ
(35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} وقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. والحَقِيقَةُ: أنَّ صَنْيعَهُم هوَ العُجَابُ، قالَ تَعَالَى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}. (20) قولُهُ: (وحَقْيقَتُهُ
أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هوَ الذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الإِخْلاَصِ،
فيَغْفِرُ لهم بواسِطَةِ دُعاءِ مَنْ أَذِنَ لهُ أنْ يَشْفَعَ)
وحَقِيقَتُهُ - أيْ: حَقِيقَةُ أَمْرِ الشَّفَاعَةِ والفَائِدَةُ منها -
أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أَرَادَ أنْ يَغْفِرَ للمَشْفُوعِ لهُ، ولكنْ
بواسِطَةِ هذه الشَّفَاعَةِ. والْحِكْمَةُ مِنْ هذه الوَاسِطَةِ بَيَّنَها بقولِهِ: (ليُكْرِمَهُ ويَنَالَ المَقَامَ المَحْمُودَ)
ولوْ شَاءَ اللهُ لَغَفَرَ لَهُم بِلاَ شَفَاعَةٍ، ولَكِنَّهُ أَرَادَ
بَيَانَ فَضْلِ هذا الشَّافِعِ وإِكْرامَهُ أمامَ الناسِ، ومِن المعلومِ
أنَّ مَنْ قَبِلَ اللهُ شَفَاعَتَهُ فهوَ عندَهُ بِمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ، فيَكُونَ في هذا إِكْرَامٌ للشَّافِعِ مِنْ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: إِكْرَامُ الشافِعِ بقَبُولِ شَفَاعَتِهِ. الثاني: ظُهُورُ جَاهِهِ وشَرَفِهِ عندَ اللهِ تَعَالَى. قولُهُ: (المقامُ المحمودُ)
أي: المَقَامُ الذي يُحْمَدُ عليهِ، وأَعْظَمُ النَّاسِ في ذَلِكَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ فإنَّ اللهَ وَعَدَهُ أنْ يَبْعَثَهُ
مَقَامًا مَحْمُودًا، ومِن المَقَامِ المَحْمُودِ: أنَّ اللهَ يَقْبَلُ
شَفَاعَتَهُ بَعْدَ أنْ يَتَرَاجَعَ الأنبياءُ أُولُو العَزْمِ عنها. ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ. - وقولُهُ: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. - وقولُهُ: {وَكَمْ
مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ
مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}. ووجْهُ
إدخالِ بابِ الشَّفَاعَةِ في كِتَابِ التَّوْحيدِ: أنَّ الشَّفَاعَةَ
الشِّرْكِيَّةَ تُنَافِي التَّوْحيدَ، والبَرَاءةُ منها هيَ حَقِيقَةُ
التَّوْحيدِ. فيهِ مَسَائلُ: الأُولَى: (تَفْسيرُ الآياتِ) وهيَ خَمْسٌ، وسَبَقَ تَفْسِيرُها في مَحَالِّها. (26) الثالثةُ: (صِفَةُ الشَّفَاعَةِ المُثْبَتَةِ) وهيَ شَفَاعَةُ أهلِ التوحيدِ بشرطِ إذنِ اللهِ تعَالَى ورَضِاهُ عَنِ الشافِعِ والمَشْفُوعِ لَهُ. (27) الرابعةُ: (ذِكْرُ الشفاعَةِ الكُبْرَى) وهيَ المَقَامُ المَحْمُودُ: وهيَ الشَّفَاعَةُ في أهلِ المَوْقِفِ أنْ يُقْضَى بَيْنَهم، وقَولُ الشَّيْخِ: (وهيَ المَقَامُ المَحْمُودُ) أيْ: منهُ. (28) الخَامِسةُ: (صِفَةُ مَا يَفْعَلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) وأَنَّهُ لاَ يَبْدَأُ بالشَّفَاعَةِ بلْ يَسْجُدُ فإذا أُذِنَ لهُ شَفَعَ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ رَحِمَهُ اللهُ وهوَ ظَاهِرٌ، وهذا يَدُلُّ علَى عَظَمَةِ الرَّبِّ، وكَمَالِ أَدَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. (29) السَّادِسَةُ: (مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا؟) هم أهلُ التوحيدِ والإخْلاَصِ، مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، خالِصًا مِنْ قَلْبِهِ. و(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) مَعْناهُ: لاَ مَعْبُودَ حَقٌّ إِلاَّ اللهُ، وليسَ
المعنَى: لاَ مَعْبُودَ إِلاَّ اللهُ؛ لأَِنَّهُ لوْ كَانَ كذلكَ لَكَانَ
الواقِعُ يُكذِّبُ هذا، إذْ إنَّ هناكَ مَعْبُودَاتٍ مِنْ دونِ اللهِ
تُعْبَدُ وتُسَمَّى آلِهَةً، ولكنَّها باطِلَةٌ، وحينَئذٍ يَتَعَيَّنُ أنْ
يَكُونَ المُرادُ: لاَ إِلَهَ حَقٌّ إلاَّ اللهُ. (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) تَتَضَمَّنُ نَفْيًا وإِثْبَاتًا، هذا
هوَ التَّوْحيدُ؛ لأَِنَّ الإِثْباتَ المُجَرَّدَ لاَ يَمْنَعُ
المُشَارَكَةَ، والنَّفْيَ المُجَرَّدَ تَعطيلٌ مَحْضٌ، فلوْ قُلْتَ: لاَ
إِلَهَ، مَعْناهُ عطَّلْتَ كُلَّ إِلَهٍ، ولوْ قُلْتَ: اللهُ إِلَهٌ، ما
وحَّدْتَ؛ لأَِنَّ مثلَ هذه الصَّيغَةِ لاَ تَمْنَعُ المُشَارَكَةَ.
ولِهَذا قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ} لَمَّا جاءَ الإثباتُ فقطْ أكَّدَهُ بقولِهِ: واحِدٌ. (30) السابعةُ: (أنَّها لاَ تَكُونُ لِمَنْ أَشْرَكَ باللهِ) لقولِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وغيرِ ذلكَ مِمَّا نَفَى اللهُ فيهِ الشَّفَاعَةَ للمُشْرِكِينَ، ولِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ)). (31) الثامنةُ: (بيانُ حَقِيقَتِهَا) وحَقِيقَتُها: أنَّ
اللهَ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الإخْلاَصِ فيَغْفِرُ لَهُم
بَواسِطَةِ مَنْ أَذِنَ لَهُ أنْ يَشْفَعَ ليُكْرِمَهُ ويَنَالَ المَقَامَ
المَحْمُودَ.
وهذه الآيَةُ في سِياقِ بَيانِ بُطْلاَنِ أُلُوهِيَّةِ اللاَّتِ والعُزَّى،
قَالَ تَعَالَى بعدَ ذِكْرِ المِعْرَاجِ ومَا حَصَلَ للنَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيهِ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي: العَلاَمَاتِ الدَّالَّةِ عليهِ عزَّ وجلَّ، فكيفَ بهِ سبحانَهُ؟
فهوَ أَكْبَرُ وأَعْظَمُ.
ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}
وهذا اسْتِفْهامٌ للتَّحْقِيرِ، فبعدَ أنْ ذَكَرَ اللهُ هذه العَظَمَةَ
قَالَ: أَخْبِرُونِي عنْ هذه اللاَّتِ والعُزَّى مَا عَظَمَتُها؟
فإذا كَانَت المَلاَئِكَةُ -وهيَ في السَّماواتِ فِي العُلُوِّ- لاَ
تُغْنِي شَفَاعَتُهُم إِلاَّ بعدَ إذْنِهِ تَعَالَى ورِضَاهُ، فكيفَ
باللاَّتِ والعُزَّى وهيَ في الأرضِ؟!
ولهذا قَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ}
مَعَ أنَّ المَلاَئِكَةَ تَكُونُ في السَّماواتِ وفي الأرضِ، ولكنْ
أَرَادَ المَلاَئِكَةَ التي في السَّماواتِ العُلَى، وهيَ عندَ اللهِ
سبحانَهُ، فحَتَّى المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبونَ حَمَلَةُ العَرْشِ لاَ
تُغْنِي شَفَاعَتُهُم إِلاَّ مِنْ بعدِ أن يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ
ويَرْضَى.
قولُهُ: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثقَالَ ذَرَّةٍ} واحِدَةِ الذَّرِّ، وهيَ صِغَارُ النَّمْلِ، ويُضْرَبُ بِهَا المَثَلُ في القِلَّةِ.
قولُهُ: {مِثقَالَ ذَرَّةٍ}
وكذلكَ مَا دونَ الذَّرَّةِ لاَ يَمْلِكُونَهُ، والمَقْصُودُ بذِكْرِ
الذَّرَّةِ المُبَالَغَةُ، وإِذَا قُصِدَ المُبالَغَةُ بالشَّيْءِ قِلَّةً
أوْ كَثْرَةً فَلاَ مَفْهُومَ لَهُ، فالمُرَادُ الحُكْمُ العَامُّ،
فَمَثَلاً قولُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} أيْ: مَهْمَا بالَغْتَ في الاسْتِغْفَارِ.
ولاَ يُرَدُّ عَلَى هذا: أَنَّ اللهَ أَثْبَتَ مُلْكًا للإِنْسانِ؛ لأنَّ مُلْكَ الإنْسانِ قَاصِرٌ وغيرُ شاملٍ، ومُتَجَدِّدٌ وزائلٌ، وليسَ كمُلْكِ اللهِ.
قولُهُ: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أيْ: مَا لِهَؤلاَءِ الذينَ تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللهِ، {فيهما} أيْ: في السَّماواتِ والأرْضِ.
وقولُهُ: {مِنْ شِرْكٍ} مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ دَخَلَتْ عليهِ{مِنْ} الزَّائِدَةُ لَفْظًا لكنَّها للتَّوْكِيدِ مَعْنًى.
قولُهُ: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الضَّمِيرُ في {ومَا لَهُ} يَعُودُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وفي {مِنْهُم} يَعُودُ إِلَى الأَصْنامِ؛ أيْ: مَا للهِ تَعَالَى مِنْ هذه الأصْنامِ ظهيرٌ.
و {مِنْ} حَرْفُ جرٍّ زائدٌ، و{ظهيرٍ} مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ بِمَعْنَى: مُعينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أيْ: مُعِينًا، وقَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أيْ: مُعينٌ.
أيْ: ليسَ للهِ مُعينٌ يُعِينُهُ في أَفْعَالِهِ، وبذلكَ يَنْتَفِي عنْ هذه
الأصنامِ كلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بهِ العَابِدُونَ، فَهِي لاَ تَمْلِكُ
شيئًا عَلَى سَبِيلِ الانْفِرَادِ وَلاَ المُشَارَكَةِ ولاَ الإِعَانَةِ؛
لأَِنَّ مَنْ يُعِينُكَ وإنْ كانَ غيرَ شَرِيكٍ لَكَ يَكُونُ لهُ مِنَّةٌ
عَلَيْكَ، فَرُبَّمَا تُحَابِيهِ في إِعْطَائِهِ مَا يُرِيدُ.
فإذَا انْتَفَتْ هذه الأُمُورُ الثَّلاَثَةُ، لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الشَّفَاعَةُ، وقَدْ أَبْطَلَها اللهُ بقولِهِ: {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}
فَلاَ تَنْفَعُ عِنْدَ اللهِ الشَّفَاعَةُ لِهَؤلاِءِ؛ لأَِنَّ هذه
الأَصْنامَ لاَ يَأْذَنُ اللهُ لِهَا، فانْقَطَعَتْ كُلُّ الوَسَائلِ
والأَسْبابِ للمُشْرِكِينَ، وهذا مِنْ أَكْبرِ الآياتِ الدَّالَّةِ عَلَى
بُطْلاَنِ عِبَادَةِ الأَصْنامِ؛ لأَِنَّها لاَ تَنْفَعُ عَابِدِيهَا، لاَ
اسْتِقْلاَلاً ولاَ مُشَارَكةً، ولاَ مُسَاعَدَةً ولاَ شَفَاعَةً، فتَكُونُ عِبَادَتُها بَاطِلَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} حَتَّى ولوْ كَانَ المَدْعُوُّ عَاقِلاً، لقولِهِ: {مَنْ} ولَمْ يَقُلْ: (مَا) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
وكُلُّ هذه الآياتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإنْسَانِ قَطْعُ
جميعِ تَعَلُّقَاتِهِ إِلاَّ باللهِ عِبَادَةً وخَوْفًا، ورَجَاءً
واسْتعَانَةً، ومَحَبَّةً وتَعْظِيمًا، حَتَّى يكونَ عَبْدًا للهِ
حَقِيقَةً؛ يكونُ هَوَاهُ وإِرَادَتُهُ وحُبُّهُ وبُغْضُهُ ووَلاَؤُهُ
ومُعَادَاتُهُ للهِ وفِي اللهِ؛ لأَِنَّهُ مَخْلُوقٌ للعِبَادَةِ فَقَطْ،
قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}
أيْ: لاَ نَأْمُرُكُم ولاَ نَنْهاكُم، إِذْ لَو خَلَقْنَاكُم فقطْ
للأَكْلِ والشُّربِ والنِّكَاحِ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْنَ العَبَثِ، ولَكِنْ
هناكَ شَيْءٌ وَرَاءَ ذَلِكَ وهوَ عِبَادَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ في هذه
الدُّنيا.
وقولُهُ: {إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} أيْ: وحَسِبْتُم أَنَّكم إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فنُجَازِيَكُم، وإذا كَانَ هذَا هوَ حُسْبَانَكم فهوَ حُسْبَانٌ باطِلٌ.
- وقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذَِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ومَعْلُومٌ أَنَّهُ لاَ يَرْضَى هذه الأصنامَ؛ لأَِنَّها بَاطِلَةٌ، وحينَئذٍ فتَكُونُ شَفَاعَتُها مُنْتَفِيَةً.
حتَّى إنَّ الوَاحِدَ منهم يَرْكَعُ لرَئِيسِهِ أوْ يَسْجُدُ لهُ كَمَا يَسْجُدُ لرَبِّ العَالَمِينَ؟
والواجبُ علينا نحوَ وُلاَةِ الأُمُورِ طَاعَتُهُم، وطَاعَتُهُم مِنْ
طَاعَةِ اللهِ ولَيْسَت اسْتِقْلاَلاً، أَمَّا عِبَادَتُهم كَعِبَادَةِ
اللهِ فهذه جَاهِليَّةٌ وكُفْرٌ.
فهذه الشَّفَاعَةُ التي يَظُنُّها المُشْرِكونَ هيَ مُنْتَفِيَةٌ يومَ
القيامةِ كَمَا نَفَاهَا القُرْآنُ، فاللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى نَفَى
أنْ تَنْفَعَهم أَصْنَامُهُم، بلْ قَالَ: {إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا
وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَـؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ
فِيهَا خَالِدُونَ} حتَّى الأصْنَامُ لاَ تَنْفَعُ نَفْسَها ولاَ يُشْفَعُ لَهَا، فكيفَ تكونُ شافعةً؟
بلْ هيَ في النَّارِ وعَابِدُوهَا.
فإذا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -وهوَ
أَعْظَمُ النَّاسِ جَاهًا عندَ اللهِ- لاَ يَشْفَعُ إِلاَّ بعدَ أنْ
يَحْمَدَ اللهَ ويُثْنِيَ عليهِ، فيَحْمَدُ اللهَ بِمَحَامِدَ عَظِيمَةٍ
يَفْتَحُها اللهُ عليهِ لَمْ يكنْ يَعْلَمُها مِنْ قبلُ، ويَطُولُ
سُجُودُهُ، فكيفَ بهذه الأصْنَامِ؛ هَلْ يُمْكِنُ أنْ تَشْفَعَ
لأَِصْحَابِهَا؟!.
وقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
وقولُهُ: ((خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ))
خَرَجَ بذلكَ مَنْ قَالَهَا نِفَاقًا، فإنَّهُ لاَ حَظَّ لَهُ في
الشَّفَاعَةِ، فإنَّ المُنَافِقَ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ،
ويَقُولُ: أَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، لَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَابَلَ شَهَادَتَهم هذه بِشَهَادَتِهِ عَلَى كَذِبِهم، قَالَ تَعَالَى: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أيْ: في شَهَادَتِهم في قَوْلِهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، فَهُم كَاذِبُونَ في شَهَادَتِهم، وفي قَوْلِهم: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ لأَِنَّهم لوْ شَهِدُوا ذلكَ حقًّا مَا نَافَقُوا، ولاَ أَبْطَنُوا الكُفْرَ.
قولُهُ: ((خَالِصًا)) أيْ: سَالِمًا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ، فَلاَ يَشُوبُها رِيَاءٌ ولاَ سُمْعَةٌ، بَلْ هيَ شَهَادَةُ يَقِينٍ.
قولُهُ: ((مِنْ قَلْبِهِ)) لأَِنَّ المَدَارَ عَلَى القَلْبِ وهوَ ليسَ مَعْنًى مِن المَعَانِي، بلْ هوَ مُضْغَةٌ في صُدُورِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: {فإِنَّها لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ ولَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ)).
وبِهَذَا يَبْطُلُ قولُ مَنْ قَالَ: إِنَّ العَقْلَ فِي الدِّمَاغِ، ولاَ
يُنْكَرُ أنَّ للدِّمَاغِ تَأْثِيرًا فِي الفَهْمِ والعَقْلِ، لَكِنَّ
العَقْلَ في القَلْبِ، ولِهَذَا قَالَ أحمدُ: (العَقْلُ في القَلْبِ ولهُ اتِّصَالٌ في الدِّمَاغِ).
ومَنْ قَالَ كَلِمَةَ الإِخْلاَصِ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، فَلاَ بُدَّ أنْ
يَطْلُبَ هذا المَعْبُودَ بسُلُوكِ الطُّرُقِ المُوصِلَةِ إليهِ، فيقومَ
بأَمْرِ اللهِ ويَدَعَ نَهْيَهُ.
(19) قولُهُ: (فتلكَ الشَّفَاعَةُ لأَِهلِ الإِخْلاَصِ) لأَِنَّ مَنْ أَشْرَكَ باللهِ قَالَ اللهُ فيهِ: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}.
ومَنْ يَشْفَعْ مِن المُؤْمِنينَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلَهُ مَقَامٌ يُحْمَدُ عليهِ عَلَى قَدْرِ شَفَاعَتِهِ.
(21) قولُهُ: (فالشَّفَاعَةُ التي نَفَاهَا القُرْآنُ مَا كَانَ فيها شِرْكٌ) هذا مِنْ كَلاَمِ شيخِ الإِسْلاَمِ
(22) قولُهُ: (ولهذا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بإِذْنِهِ في مَوَاضِعَ) ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
(23) قولُهُ: (وقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّها لاَ تَكُونُ إِلاَّ لأَِهْلِ الإِخْلاَصِ والتَّوْحيدِ) أَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ فإِنَّ الشَّفَاعَةَ لاَ تَكُونُ لَهُم؛ لأَِنَّ شُفَعَاءَهُم هُم الأَصْنامُ، وهيَ باطِلَةٌ.
(24)
(25) الثانيَةُ: (صِفَةُ الشَّفَاعَةِ المَنْفِيَّةِ) وهيَ ما كانَ فيها شِرْكٌ، فَكُلُّ شَفَاعَةٍ فيها شِرْكٌ فإِنَّها مَنْفِيَّةٌ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا باب الشفاعة وإيراد هذا الباب بعد البابين قبله: مناسبٌ جدّاً، ذلك أن
الذين يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- ويستغيثون به، ويطلبون منه، أو
يسألون غيره من الأولياء أو الأنبياء، إذا أقمت عليهم الحُجّة بما ذُكِرَ
من توحيد الربوبية، قالوا: نحن نعتقد ذلك، ولكن هؤلاء مُقربون عند الله
مُعظمون، ورفعهم الله -جل وعلا- عنده، ولهم الجاه عند الرب جل وعلا، وإذا
كانوا كذلك، فهم يشفعون عند الله؛ لأن لهم جاهاً عنده، فمن توجّه إليهم
أرضوه بالشفاعة، وهم ممن رفعهم الله، ولهذا يقبل شفاعاتِهم، فكأن الشيخ
-رحمه الله -رأى حال المشركين، وحال الخُرافيين، واستحضر حججهم، وهو كذلك،
إذ هو أخبر أهل هذه العصور المتأخرة بحُجج المشركين، استحضر ذلك فقال: (لم يبق إلا الشفاعة لهم إذا حاججتهم، فهذا باب الشفاعة). والشفاعة في الأصل: مأخوذة من الشَّفْع، والشَفْع: هو الزوج؛ لأن
الشافع طالب، فصار مع صاحب الطلب الأصلي شفعاً، فواحدٌ يريد شيئاً فأتى
الثاني يشفع له، فصار شَفْعاً له؛ فسُمِّيت شفاعة لأنه بعد أن كان صاحب
الطلب واحداً، صار شفعاً بعد أن كان فردا؛ فسميت شفاعة لذلك. - والشفاعة هي: الدعاء، وطلب الشفاعة هو طلب الدعاء، فإذا قال قائل: (أستشفع
برسول الله) كأنه قال: أطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يَدْعُوَ لي
عند الله، فالشفاعة طلب، ولهذا من استشفع فقد طلب الشفاعة، فالشفاعة دعاء،
وهي طلب الدعاء أيضاً. صار كل دليل تقدّم لنا، وكل
دليل في الكتاب، أو في السنة، فيه إبطال أن يُدْعَى مع الله -جل وعلا- إله
آخر: يصلح أن يكون دليلاً للشفاعة، يعني: لإبطال الاستشفاع بالموتى،
وبالذين غابوا عن دار التكليف؛ لأن حقيقة الشافع أنه طالب، ولأن حقيقة
المستشفع أنه طالب؛ فالشافع في ظن المستشفع يدعو؛ والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة،
يعني: إذا أتى آتٍ إلى قبر النبي، أو قبر وليٍّ، أو نحو ذلك، فقال:
(استشفع بك، أو أسألك الشفاعة) يعني طلب منه، ودعا أن يدعو له؛ فلهذا صار
صرفها، أو صار التوجه بها إلى غير الله -جل وعلا- شركاً أكبر؛ لأنها في
الحقيقة دعوة لغير الله؛ لأنها في الحقيقة سؤال من هذا الميت، سؤال وتوجه
بالطلب والدعاء من غير الله جل وعلا، فيتوجه إلى غير الله بالسؤال والطلب
والدعاء؛ إذاً: فالشفاعة عَرَفْتَ معناها، وأن التوجه إلى غير الله
بالشفاعة، يعني: بطلب الشفاعة شرك أكبر إذا كان هذا المُتوجه إليه من
الأموات. أما إذا كان حيّاً، فإنه في دار التكليف، يُطلب منه أن يشفع عند الله، بمعنى: أن يدعوَ، قد يُجاب دعاؤه وقد لا يُجاب. - أو كما يحصل أن يشفع بعض الناس لبعض بالشفاعة الحسنة، أو بالشفاعة السيئة {من يشفع شفاعة حسنة}، {ومن يشفع شفاعة سيئة}
فهذا يحصل لأنهم في دار تكليف ويقدرون على الإجابة، وقد أَذن الله في طلب
الشفاعة منهم بأن يدعوا، لهذا كان الصحابة في عهد النبي -صلى الله عليه
وسلم- ربّما أتى بعضُهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وطلب أن يشفع له،
يعني: أن يَدْعو له. مسألة الشفاعة من المسائل التي تخفى على كثيرين، ولهذا
وقع بعض أهل العلم في أغلاط من جهة طلب الشفاعة من النبي -عليه الصلاة
والسلام-، فأوردوا قصصاً في كتبهم فيها استشفاع بالنبي عليه الصلاة والسلام
دون إنكار؛ كما فعل النووي؛ وكما فعل ابن قدامة في (المغني) ونحو ذلك، وهذا لا يُعدُّ خلافاً في المسألة؛ لأن هذا الخلاف راجع إلى عدم فهم حقيقة هذا الأمر، ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء. ولهذا يقول أهل العلم من أئمة الدعوة رحمهم الله: (إقامة
الحُجة في مسائل التوحيد: تختلف بحسب قوة الشُّبهة، فأقلّ الشبهات وروداً،
وأيسر الحجج قدوماً على المخالف فيما يتعلق بأصل دعوة غير الله معه،
وبالاستغاثة بغير الله، وفي الذبح لغير الله، ونحو ذلك، ومن أكثرها
اشتباهاً إلا على المحقق من أهل العلم مسألة الشفاعة).
ولهذا الشيخ -رحمه الله- أتى بهذا الباب، وقال: [باب الشفاعة].
وبيّن لك بما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة، أن الشفاعة لا تصح إلا بشروط.
الشفاعة التي تنفع فإنها لا تصح إلا بشروط، وكذلك هناك شفاعة منفية، ليست كل شفاعة تُقْبل، وإنما هناك شفاعة تُقبل، وهناك شفاعة تُرد، تُقبل بشروط، وترد أيضاً بأوصاف، فإذاً: صار عندنا أن الشفاعة قسمان في القرآن والسنة:
1- شفاعة منفية.
2- وشفاعة مثبتة.
أما الشفاعة المنفية:فهي التي نفاها الله -جل وعلا- عن أهل الإشراك؛ كما ساق الشيخ -رحمه الله- أول دليل، قال: وقول الله عز وجل: {وأنذر به الذين يخافون أن يُحشروا إلى ربهم، ليس لهم من دونه وليٌّ ولا شفيع}فهذه الشفاعة منفية؛ وهي منفية عن الجميع: عن الذين يخافون، عن أهل التوحيد، وعن غيرهم.
- أما عن أهل التوحيد، فهي منفية إلا بشروط، وهي:
- إذن الله للشافع أن يشفع.-ورضاه -جل وعلا- عن الشافع، وعن المشفوع له، فإذاً: قوله هنا: {ليس لهم من دونه وليٌ ولا شفيع} يعني: أن الشفيع في الحقيقة هو الله -جل جلاله- دون ما سواه، ولهذا عقَّبها بالآية الأخرى: {قل لله الشفاعة جميعاً} فالشفاعة جميعاً ملك لله.
- وأهل الإيمان، وغيرهم: في الحقيقة ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع،
ليس أحد يشفع لهم من دون الله جل وعلا، بل لابد أن تكون الشفاعة بالله، يعني: بإذنه وبرضاه.
فإذاً: إذا تقرر ذلك، فإنه إذا نُفِيَت الشفاعة عن أحدٍ سوى الله جل وعلا، وأن الذي يملك الشفاعة إنما هو الله جل وعلا وحده، فإذاً بطل التعلق؛ تعلق قلوب أهل الشفاعة الذين يسألون الموتى الشفاعة، بَطَل تعلقهم بمسألة الشفاعة؛ لأن الشفاعة ملك لله، وهذا لا يملكها.هل تنفع الشفاعة مطلقاً، أم لابد أيضاً من قيود؟
نعم، الشفاعة تنفع لكن لابد من شروط، ولهذا أورد الآيتين بعدها.
- قال جل وعلا: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.
- قال: وقوله: {وكم من ملك في السموات لا تُغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} فوجه الاستدلال من الآية الأولى: أن فيها قيد الإذن، فليس أحد يشفع إلا بشرط أن يأذن الله له {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} يعني: لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا المقربون؛ وإنما الله -جل وعلا- هو الذي يملك الشفاعة، إذا كان كذلك وأنه لا بد من إذنه -جل وعلا- فمَنْ الذين يأذن الله -جل وعلا- لهم؟لا أحد إذاً يبتدئ بالشفاعة دون أن يؤذن له،
فإذا كان كذلك، فإذاً: رجع الأمر إلى أن الله هو الذي يوفّق للشفاعة، وهو الذي يأذن بها، ولا أحد يبتدئ بالشفاعة، كذلك الآية الأخرى قال: {إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء} يعني: من الشافعين {ويرضى}: يرضى قول الشافع؛ ويرضى أيضاً عن المشفوع له.
هذه الشروط فائدتها:
وهي فائدة هذا الباب: أنه لا أحد يتعلّق إذاً: بأن هذا الذي طُلِبَت منه الشفاعة، أن له مقاماً عند الله يملك به أن يشفع؛ كما يعتقد أهل الشرك في أن آلهتهم تشفع ولابد أن تشفع، فاعتقاد المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواءً أكانوا من الأمّيين، أم من أهل الكتاب: يعتقدون أن من توجهوا له بالشفاعة من الآلهة، أنه يشفع جَزْماً، إذا تُوجِّه إليه، وتذُلِّل له، وتُقرِّب إليه بالعبادات، وطلبت منه الشفاعة عند الله، فإنه يشفع جَزْماً، وأن الله -جل وعلا- لا يَردُّ شفاعته.
فهذه الآيات فيها إبطال لدعوى أولئك المشركين، في أنه ثَمَّ أحد يملك الشفاعة بدون إذن الله، وبدون رضاه عن المشفوع له؛ وإذا ثبت أنه لا أحد يملكها؛ وأن من يشفع إنما يشفع بإكرام الله له؛ وبإذنه -جل وعلا- له، فإذاً: كيف يتعلق المتعلق بهذا المخلوق؟
إنما يتعلق بالذي يملك الشفاعة، ولهذا شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة حاصلة، لكن نطلبها ممن؟
نطلبها من الله، فنقول: اللهم شَفّع فينا نبيك؛ لأنه هو الذي يفتح ويُلهم النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يشفع في فلان وفي فلان، فيمن سألوا الله أن يشفع لهم النبي عليه الصلاة والسلام.
لهذا أعقبها الشيخ -رحمه الله- بآية سبأ.
قال: [وقوله: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك، وما له منهم من ظهير}] هذه ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يدعوا الذين زعموهم من دون الله،
وأن ينظروا: هل يملكون مثقال ذرة في السموات أو في الأرض، قال جل وعلا: {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} فإذاً: الملك الاستقلالي لهم نُفي، وهذه هي الحالة الأولى.
والثانية:
قال:{وما لهم فيهما من شرك}أيضاً نُفِيَ أن يكونوا شركاء لله في الملك، في تدبير السموات والأرض، في ملك شيء من السموات والأرض؛ فنُفي أولاً: أن يملكوا استقلالا؛ ونفي ثانياً: أن يملكوا شركةً.
- قال -جل وعلا- بعدها:
{وما له منهم من ظهير}الظهير: هو المعاون، والمُؤازر، والوزير.
قال: {ماله} جل وعلا {منهم} يعني: من تلك الآلهة، من وزير ولا مُعاون؛ لأنه قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن ثمّة من يعين الله على أمره، مثل: الملائكة، أو مثل: الأنبياء؛ فإذا تُوُجِّه إلى أولئك بالدعاء، وبالطلب، كان التوجه إلى من يعين الله؛ فيكون إذا طلب من الله، فإن الله لا يرُدُّه لأنه يُعينه، بَنَوا ذلك على تشبيه الخالق -جل وعلا- بما يحصل من المخلوقين، فإن الملك في هذه الدنيا، أو الحاكم أو الأمير: إذا كان له من يُعينه ومن يُظاهره، وشفع لأحد، فإنه لا يَردُّ شفاعته؛ لأنه يحتاجه؛ فلأجل هذه الحاجة، لا يرد الأمير، أو الملك، شفاعة من كان له ظهيراً، فيظن المشركون أن بعض تلك الآلهة مُعاونة لله جل وعلا، فنفى الله -جل وعلا- هذا الاعتقاد الجاهلي.
ونفى أخيراً آخر اعتقاد: وهو أن تلك الآلهة تملك الشفاعة،
قال جل وعلا: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم، قالوا الحق وهو العليُّ الكبير}.
- فنفى آخر ما نفى الشفاعة، وأثبتها بشرط، قال: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فالشفاعة تنفع بشرط أن يأذن الله، فإذاً: لا يبتدئ هذا الشافع فيشفع.
فإذا كان كذلك، توجه السؤال إذاً الآن، من يأذن الله لهم؟إذا كان ليس له شريك؛ وليس له ظهير؛ وليس له أيضاً شفيع عنده، ليس عنده شفيع إلا بإذنه؛ فمن ذا الذي إذاً يشفع عنده بإذنه؛ من هم؟
ومن الذي يأذن له الله جل وعلا؟
الجواب: فيما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، فيما ساقه الشيخ -رحمه الله- بعد ذلك.
إذاً: فالآيات التي سبقت من أول الباب إلى هنا، رتّبها الإمام -رحمه الله- ترتيباً موضوعياً، فالآيات الأُول، وجه الاستدلال منها: أن الشفاعة مِلكٌ لله، الآية الأولى والثانية؛ وأنه ليس لأحدٍ شيء من الشفاعة، يعني: ليس أحدٌ يملك شيئاً من الشفاعة؛ فإذا كان لا يملك، إذاً: مَنْ يشفع؟
كيف يشفع؟
يشفع بأن يُعطى الشفاعة،
يؤذن له بالشفاعة، يُكرم بالشفاعة، مَنْ يشفع؟ هل يشفع استقلالاً؟
نفى شفاعة الاستقلال، وأثبت الشفاعة بشرط، وهو شرط الإذن والرضا؛ إذا كان كذلك، فمن الذي يؤذن له؟ومن الذي يُرضى له أن يشفع؟
ومن الذي يُرضى عنه أن يُشفّع فيه؟
هذه ثلاثة أسئلة.
جوابها في كلام شيخ الإسلام، حيث قال المصنف رحمه الله: قال أبو العباس: (نفى الله عمّا سواه كل ما يتعلق به المشركون؛ فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قِسْطٌ منه ، أو يكون عَوْناً لله؛ ولم يَبق إلا الشفاعة؛ فبيّن أنها لا تنفع إلا لمن أَذِن له الرب ؛كما قال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} فهذه الشفاعة التي يَظنها المشركون: هي مُنتفية يوم القيامة؛ كما نفاها القرآن، منتفية يوم القيامة، يعني: عن جميع الخلق إلا لمن أثبت الله -جل وعلا- له الاستحقاق؛ أو أن يكون نائلاً تلك الشفاعة، يعني: الأصل أن لا شفاعة إلا لمن رضي الله قوله؛ أو أَذن له جل وعلا، قال: كما نفاها القرآن وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي فيسجد لربه، ويحمده).
قول الشيخ رحمه الله: (فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون: هي منتفية يوم القيامة؛ كما نفاها القرآن، يعني: منتفية بدون شروط؛ لأن المشركين يعتقدون أنها تحصل بدون إذنٍ من الله ولا رضاه؛ لأن الشافع عندهم يملك الشفاعة).
ولكن هي تحصل بالشرط كما أثبت ذلك الكتاب والسنة، قال: ((يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسَلْ تُعط، واشفع تشفّع)) وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟قال: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) فالدليل الأول من السنة في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سيّد ولد آدم، لا يَشْفع حتى يُؤْذن له ((يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع وسل تُعطَ، واشفع تُشفّع)) هذا في دليل الإذن، من الذي يؤذن له؟
يؤذن للنبي عليه الصلاة والسلام، ويؤذن لغيره، لا يبتدؤون، وإنما يستأذنون في الشفاعة فيؤذن لهم، لِمَ؟
لأنهم لا يملكونها، وإنما الذي يملكها عند الله إنما هو الله -جل وعلا- سبحانه وتعالى.
من الذي يؤذن في الشفاعة فيه؟
من الذي يُرضى عنه في الشفاعة؟
جاء بالحديث الآخر، حيث قال أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟
قال: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) فهذا الذي يُرضى عنه، فيُشفَع فيه بعد إِذن الله -جل وعلا- هو صاحب الإخلاص، هم أهل التوحيد، فإذاً: تلك الشفاعة منتفية عن أهل الشرك، لهذا قال: فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
فإذا كان كذلك، فيكون الذي توجه إلى الموتى، إلى الرُّسل، أو إلى الأنبياء، أو إلى الصالحين، أو إلى الطالحين يطلب منهم الشفاعة فإنه مُشركٌ؛ لأنه توجه بالدعاء لغير الله، وأولئك لا يملكون الشفاعة، وإنما يشفعون بعد الإذن والرضا، والرضا يكون عن أهل التوحيد، وأهل التوحيد هم الذين لا يسألون الشفاعة أحداً من الموتى، فإذاً: كل من سأل ميتاً الشفاعة: فقد حَرَم نفسه الشفاعة، لأنه أشرك بالله جل وعلا، والشفاعة المثبتة إنما هي لأهل الإخلاص، ليس لأهل الشرك فيها نصيب.
سؤال:
فهذا أخٌ يقول: ما الفرق بين التوسل والشفاعة، نرجو التوضيح وجزاكم الله خيراً ؟
جواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.أما بعد:
التوسّل:هو اتخاذ الوسيلة.
- والوسيلة: هي الحاجة نفسها، أو مَنْ يُوصل إلى الحاجة.
- قد يكون ذلك التوسل باستشفاع،
يعني: بطلب شفاعة، يعني: يصل إلى حاجته بحسب ظنّه بالاستشفاع.
- وقد يصل إلى حاجته بحسب ظنه بغير الاستشفاع، فيتوسل مثلاً بالذوات:
- يسأل الله بالذات.- يسأل الله بالجاه.
- يسأل الله بُحرمة فلان.
مثل أن يقول: أسألك اللهم بنبيك محمد -بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- أو يقول: أسألك اللهم بأبي بكر، أو بعمر، أو بالإمام أحمد، أو بابن تيمية، أو إلى آخره، بالولي الفلاني، بأهل بدر، بأهل بيعة الرضوان: يسأله بهم، هذا هو الذي يُسمُّونه توسلاً، وهذا التوسل معناه: أنه جعل أولئك وسيلة، وأحياناً يقول لفظ الحُرْمَة: أسألك بحُرمتهم، أسألك بجاههم، ونحو ذلك.
أما الاستشفاع: فهو أن يسألهم الشفاعة،
يطلب منهم أن يشفعوا له، فتحصَّل من ذلك أن التوسّل يختلف عن الاستشفاع، فإن المُستشفع طالب للشفاعة، والشفاعة إذا طلبها من العبد، فيكون قد سأل غير الله.
- وأما المتوسل -بحسب العُرف؛ عُرف الاستعمال- المُتوسل يَسأل الله، لكن يجعل ذلك بوسيلة أحد، فالاستشفاع سؤال لغير الله.
- وأما الوسيلة: فهي سؤال الله بفلان، بحُرمته، بجاهه؛ والتوسل بالذوات، وبالجاه، وبالحرمة لا يجوز؛ لأنه اعتداء في الدعاء، ولأنه بدعة مُحدثة، وهو وسيلة إلى الإشراك.
- وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء، وهو الميت أو الغائب
أو نحو ذلك: فهذا طلب ودعاء بغير الله، وهو شرك أكبر؛ فالتوسل بحسب العرف، هذا من البدع المُحدثة، ومن وسائل الشرك؛ وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله، وهو شرك أكبر.
الجاهليون، والخُرافيون، والقُبوريون: يُسمون عباداتهم جميعاً؛ من طلب الشفاعة، ومن الذبح، والنذر، ومن الاستغاثة، ومن دعاء الموتى: يسمونها توسلاً، وهذا غلط على اللغة وعلى الشرع، فالكلام في أصل ما يصح المعنى به لغةً، وبين التوسل والشفاعة في أصل ما يصح لغة، أما إذا أخطأ الناس وسمّوا العبادات المختلفة توسلاً، فهذا غلط من عندهم.
سؤال: وهذا يقول: ما حكم من يضع على السيارات، أو المنازل عبارات مثل: ما شاء الله أو تبارك الله، أو هذا من فضل ربي؟
جواب:
هذا له حكم تعليق بعض الآي، أو الآي، على الحيطان، أو في السيارات، أو نحو
ذلك؛ فإن كان المقصود منها الإرشاد إلى عمل شرعي مسنون، فهذا مشروع أو
مباح؛ وأما إن كان القصد منها الحفظ: أن تحفظه، وأن تحرسه من العين، أو من
الأذى، فهذا راجع إلى اتخاذ التمائم من القرآن ونحوه. سؤال:
وهذا يقول: ما رأيكم في امرأة طلبت من قريب لها ذاهب إلى مكة أن يشتري لها
كفناً من هناك؛ وأن يغسل الكفن بماء زمزم، يقول: وهذا الأمر منتشر، وجزاكم
الله خيراً؟ جواب:
هذا تبرّك بما يُباع في مكة واعتقاد فيه، هذا باطل ولا يجوز؛ لأن ما يباع
في مكة ليس له خصوصية في البركة؛ وليس له خصوصية في النفع، بل هو وما يباع
في غيره سواء، هو وما يباع في غير الحرم سواء؛ وأما غسله بما زمزم لرجاء أن
يكون ذلك الكفن فيه من بركة ماء زمزم، فكذلك هذا غلط؛ لأن بركة ماء زمزم
مُقيّدة بما ورد فيه الدليل، ليست بركة عامة، إنما هي بركة خاصة بما جاء
فيه الدليل؛ ولهذا الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يستعملون ماء زمزم
إلا فيما جاءت به الأدلة من مثل: ((ماء زمزم لما شرب له)) ومن مثل قوله -عليه الصلاة والسلام- في زمزم: ((إنها طعام طُعم وشفاء سُقم)) أما التبرك بها في غير ذلك، فهذا ليس له أصل شرعي. سؤال: وهذا يقول: ما حكم الاغتسال بماء زمزم؛ والماء المقروء فيه القرآن في بيوت الخلاء؟ جواب: لا بأس بذلك؛ لأنه ليس فيه قرآن مكتوب، وليس فيه المصحف مكتوباً، وإنما
فيه الريق: النفث، الهواء الذي خالطه المصحف أو خالطته القراءة؛ ومن
المعلوم أن أهل مكة في أزمنتهم الأولى كانوا يستعملون ماء زمزم؛ ولم يكن
عندهم غير ماء زمزم؛ فالصواب أن لا كراهة في ذلك، وأنه جائز؛ والماء ليس
فيه قرآن، إنما فيه نفثٌ بالقرآن، وفرق بين المقامين. سؤال: وهذا يقول: ما الحكم إذا ذبح العبد ذبيحة من أجل أن الله قد شفى مريضه وخرج من المستشفى؟ جواب: هذا يرجع إلى نيته في ذبح هذه الذبيحة،
فإذا كانت بعد الانتهاء من المرض وبعد أن ارتفع المرض وعُوفي وشُفي ذلك
المريض بفضل الله -جل وعلا- وبنعمته، فهذا يختلف حاله، إذا قصد أنها شكر
لله جل وعلا. يتصدق بلحمها،
فهذا حسن؛ لأن المرض قد انتهى وارتفع، فهو لا يقصد بها الاستشفاع، وإنما
هي نوع شكر لله جل وعلا؛ أو دعا عليها أحداً من أقربائه،أو ممن يحبون ذلك
المريض ونحو ذلك، فهذا من باب الإكرام؛ وأما إذا كانت مقاصده أو نياته في
هذا الذبح، أن يدفع رجوع هذا المرض مرة أخرى، أو أن يدفع شيئاً من انتكاسات
المرض، أن يدفع شيئاً مما يخافه، فهذا داخل في عدم الجواز، سدّاً لذريعة
الاعتقادات الباطلة. سؤال:
وهذا يقول: قرأت في كتاب لأحد المؤلفين ينقل فيه: إذا خفت على ولدك أو على
نفسك من العين، فضع نقطة سوداء على الجبهة لتصرف عنك العين؟ جواب: اعتقادات الناس في دفع العين لا حصر لها،
والجامع لذلك: أن كل شيء يفعله الناس مما يعتقدونه سبباً؛ وليس هو بسببٍ
شرعي؛ ولا قدري، فإنه لا يجوز اتخاذه، وهذا يختلف عما جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه رأى غلاماً صغيراً حسن الصورة وخاف عليه العين، فقال لأهله: دسّموا نونته) ففعلوا، هذا من إظهار عدم الحُسن. سؤال: وهذا يقول: بعض العلماء أجاز التوسل، ودليلهم حديث الأعمى، فكيف يُرد عليهم وجزاكم الله خيراً؟ جواب: حديث الأعمى، رواه الترمذي وغيره، وهو حديث حسن. التوجيه الأول: أن ذلك الدعاء كان خاصّاً بذلك الأعمى، بدليل عدم استعمال بقية الصحابة ذلك الدعاء؛ وعدم إرشاد النبي -عليه الصلاة والسلام- لهم أن يُزال ما بهم من عمى البصر بذلك الدعاء. والتوجيه الثاني: أن ذلك خاص بحياته عليه الصلاة والسلام؛ ولا يكون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا الثاني والأول: جميعاً ظاهرة صحيحة، والصحابة فهموا ذلك، ولهذا ثبت في (البخاري) وغيره: أن عمر -رضي الله عنه- لما أجْدَبوا قال -وهو يخطب الاستسقاء- قال: (اللهم إنا كنا إذا أجْدَبنا توسّلنا بنبيك، وإنا نتوسّل إليك اليوم بعمّ نبيك، يا عباس، قم فادع الله لنا). قال العلماء: (انتقل عمر من الفاضل: وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المفضول: وهو العباس عمّ النبي -عليه الصلاة والسلام- لعلّةٍ شرعية، وهو أن الدعاء من الحي ممكن). وأما من غير الحي -حياة
الدنيا المعروفة- فإنه غير ممكن، وإلا يكون عمر -رضي الله عنه- انتقل من
الفاضل إلى المفضول لغير عِلّةٍ شرعية، وهذا ممتنع فقهاً للصحابة رضوان
الله عليهم. 1- الإذن. إذا تقرر ذلك، فما حقيقة الشفاعة؟ الجواب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، في قوله: (حقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضَّل على أهل الإخلاص) يعني: أن الذين شُفع لهم إنما ذلك بتفضل الله -جل وعلا- عليهم، وهم أهل الإخلاص، حيث جاء في حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام ((أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)). - وتشفع الملائكة. - ويشفع أيضاً الصالحون،
فهذه شفاعات مختلفة في أهل الكبائر؛ لإكرام الله -جل وعلا- للشافع؛ ورحمة
بالشافع؛ وأيضاً رحمة بالمشفوع له؛ وإظهار فضل الله -جل وعلا- على الشافع
والمشفوع له، هذه هي حقيقة الشفاعة: أن الله -جل وعلا- يتفضل فيقبل الشفاعة بإذنه،
يتفضل على الشافع ويكرمه بأن يشفع، يتفضل ويرحم المشفوع له فيقبل فيه
الشفاعة، فإذاً: هي كلها دالة -لمن كان له قلب- على عظم الله -جل وعلا-
وتفرده بالملك؛ وتفرده بتدبير الأمر؛ وأنه الذي يُجير ولا يُجار عليه
سبحانه وتعالى، هو الذي له الشفاعة كلها، هو الذي له ملك الأمر كله، ليس
لأحد منه شيء؛ وإنما يُظهر فضله، ويُظهر إحسانه، ويظهر رحمته ويظهر كرمه:
لتتعلق القلوب به، فبطل إذاً: أن يكون ثَم تعلق للقلب بغير الله -جل وعلا-
لأجل الشفاعة، فالذين تعلقوا بالأولياء، أو تعلقوا بالصالحين، أو
بالأنبياء، أو بالملائكة؛ لأجل الشفاعة: هذه هي حقيقة الشفاعة، من أنها فضل
من الله -جل وعلا- وإكرام. فإذا كانت كذلك، وجب أن تتعلق القلوب به -سبحانه وتعالى- في رجاء الشفاعة، إذ
هو المتفضل بها على الحقيقة، والعباد مكرمون بها، لا يبتدؤون بالقول؛ ولا
يسبقون بالقول، وإنما يجلون ويخافون؛ ويثنون على الله ويحمدون، حتى يؤذن
لهم بالشفاعة. - أما الشفاعة المثبتة: فهي التي أُثبتت، يعني: جاء إثباتها بشرط الإذن والرضا). وخلاصة الباب: أن تعلق أولئك بالشفاعة: إنما هو عليهم ليس لهم؛
لأنهم لما تعلقوا بالشفاعة حُرِموها؛ لأنهم تعلقوا بشيءٍ لم يأذن الله -جل
وعلا- به شرعاً، بأن استخدموا الشفاعات الشركية؛ وتوجهوا إلى غير الله؛
وتعلقت قلوبهم بغير الله.
ليس التَّدْسيم: وهو وضع نقطة في بعض الوجه، ليس لأجل أن تدفع تلك النقطة العين، ولكن لأجل أن يظهر بمظهر ليس بحسن،
فلا تتعلق النفوس الشريرة به، فإذا كان وضع هذه النقطة التي ذكر، لأجل
اعتقاد أنها تدفع العين، فهذا من اتخاذ الأسباب الشركية التي لا تجوز؛ وإن
كان لأجل إظهار عدم الحُسن في ذلك، تلك الصورة الجميلة، أو ذلك الجسد
المعافى، أو نحو ذلك، فإن هذا لا بأس به، والله أعلم.
وهناك رواية أخرى طويلة في (معجم الطبراني الصغير) لهذا الحديث، وفيها زيادة:(أن أحد الصحابة، وهو عثمان بن حَنيف رضي الله عنه، أنه أرشد إلى استعمال ذلك الدعاء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام،)
القدْر الأول: وهو أن الأعمى توسّل بالنبي -عليه الصلاة والسلام- في
حياته، هذا صحيح وجارٍ على الأصول، حيث إن توسله بالنبي -عليه الصلاة
والسلام- في حياته: توسلٌ بدعائه وهو -عليه الصلاة والسلام- يملك ذلك
ويستطيعه ويقدر عليه.
أما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام، أي: بدعائه؛ أو بذاته؛ أو بنحو ذلك بعد وفاته، فإنه لا يجوز؛ لأنه من طلب الشيء ممن لا يملكه، والرواية التي في الطبراني(الصغير): ضعيفة، وفيها مجاهيل، ولذلك ليست بحجة فيما ورد في استعمال الصحابة ذلك بعد وفاته.
والذي يدل أيضاً على أن ذلك خاص بالأعمى؛ وعلى أصل الاستشفاع أنه رحمة من
الله -جل وعلا- للمُستشفع؛ وفضل منه عليه؛ وإزالة عمّا به: أن ذلك الأعمى
رأى النور، وأبصر، بعد دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام- له، وتوجُّه ذلك
الأعمى إلى الله -جل وعلا- أن يجيب فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام،
الصحابة الآخرون الذين كانوا مكفوفين لم يدعوا بهذا الدعاء، فكان في
المدينة أُناس عِدة قد كُفّت أبصارهم، منهم: ابن أم مكتوم، وجماعة، فما دعوا بذلك الدعاء، وإنما كان ذلك خاصاً بذلك الأعمى، فالعلماء لهم في ذلك توجيهان:
بقي في الباب [باب الشفاعة] الأسطر الأخيرة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فوقفنا عند قوله: [وحقيقته] يعني: حقيقة الشفاعة،
أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من
أَذن له أن يشفع ليُكرمه وينال المقام المحمود، هذا في حقيقة الشفاعة،
فإننا ذكرنا لكم أن الشفاعة نُفي أن يملكها أحد، إلا الله جل وعلا: {قل لله الشفاعة جميعاً} (اللام) هذه لام المِلْك، يعني: الذي يملك الشفاعة هو الله جل وعلا، وقال: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} فإن الشفاعة إنما هي لله تبارك وتعالى، وجاء في الأدلة: أن الشفاعة منفية عن المشركين؛ وأن الشفاعة النافعة إنما هي لأهل الإخلاص بشرطين:
2- والرضى.
يعني: ما حقيقة حصولها؛ وكيف تحصل؟
أو قال: ((خالصاً من قلبه ونفسه))
فأهل الإخلاص هم الذين يكرمهم الله بالشفاعة، فالمتفضّل بالشفاعة هو الله
جل وعلا، فإذا ثبت ذلك انقطع القلب من التعلق بغير الله لأجل الشفاعة، فإن
الذين توجهوا إلى المعبودات المختلفة، إلى الأولياء، إلى الصالحين، إلى
الملائكة، إلى غير ذلك: توجهوا إليهم رجاء الشفاعة، كما قال -جل وعلا-
عنهم: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}
فإذا بطل أن تكون لهم الشفاعة؛ وأن المتفضّل بالشفاعة هو الله جل وعلا،
فإن الله جل جلاله، إنما يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة من دعا،
بواسطة دعاء الذي أَذِن له أن يشفع.
وهاهنا سؤال: لم لم يتفضّل الله عليهم أنْ غَفَرَ لهم بدون واسطة الشفاعة؟
والجواب عن ذلك، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله: (ليُكرمه).
فهو إظهار فضل الشافع، إظهار إكرام الله -جل وعلا- للشافع في ذلك المقام، إذ كما هو معلوم، أن الشافع الذي قُبِلَت شفاعته ليس في المقام مثل المشفوع له، فالله -جل
وعلا- يُظهر إكرامه لمن أذِن له أن يشفع؛ ويُظهر رحمته بالشافع؛ لأن
الشافع له قرابة يُريد أن يشفع لهم، له أحباب يريد أن يشفع لهم، لذلك
الشفاعة يوم القيامة لأهل الكبائر، ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
- بل يشفع الأنبياء.
ثم قال شيخ الإسلام: (فالشفاعة التي نفاها القرآن، ما كان فيها شرك، التي نفاها القرآن في مثل قوله جل وعلا:{ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع} هذه شفاعة منفية، هي الشفاعة التي فيها شرك، كذلك الشفاعة للمشركين منفية؛
لأنهم لم يُرض عنهم، فالشفاعة التي فيها شرك من جهة الطلب، أو من جهة من
سُئل له بأن كان ذلك مشركاً، فإنها منفية عن أهلها، لا تنفعهم، فإذاً: يثبت
بذلك أن الذي هو حقيق بالشفاعة ،هو الذي أنعم الله عليه بالإخلاص ووفقه
لتعظيمه، وتعليق القلب به وحده دون ما سواه، فإذاً: كل مشرك الشفاعة عنه
منفية، كل مشرك الشرك الأكبر فالشفاعة عنه منفية؛ لأن الشفاعة فضل من الله
لأهل الإخلاص.
قال شيخ الإسلام بعد ذلك: (ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وهذه هي الشفاعة المثبتة، أثبتها بإذنه في مواضع.
يعني: بشرط الإذن.
والإذن: إذنٌ كوني، وإذن شرعي، فالمأذون له لا يمكن أن تحصل منه الشفاعة
إلا أن يأذن الله له كوناً بأن يشفع، فإذا منعه الله كوناً أن يشفع ما حصلت
منه الشفاعة، ولا تحرك بها لسانه، كذلك الإذن الشرعي في الشفاعة، بأن تكون
الشفاعة ليس فيها شرك وأن يكون المشفوع له ليس من أهل الشرك، ويُخصُّ من
ذلك أبو طالب، حيث
يشفع له النبي -عليه الصلاة والسلام- في تخفيف العذاب عنه، فهي شفاعة ليست
في الانتفاع بالإخراج من النار، إنما هي في تخفيف العذاب، وهي خاصة هذه
بالنبي عليه الصلاة والسلام، بما أوحى الله -جل وعلا- إليه، وأذن له بذلك).
قال -رحمه الله- في آخر كلامه: (وقد بين النبي-صلى الله عليه وسلم- أنها لا
تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، وهذه هي الشفاعة المثبتة، فتبين بهذا
الباب أن الشفاعة التي تعلقت بها قلوب الخرافيين، والمتعلقين بغير الله؛ أن
ذلك باطل، وأن قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله}
هذا قول باطل إذ الشفاعة التي تنفع إنما هي لأهل الإخلاص، ومادام أنهم
طلبوا الشفاعة من غير الله، فقد سألوا غير الله -جل وعلا- الشفاعة، وهذا
مؤذن بحرمانهم من الشفاعة، فإنما هي لأهل الإخلاص).
العناصر
مناسبة باب الشفاعة لكتاب التوحيد
مناسبة باب الشفاعة لما قبله من الأبواب
فائدة مهمة في سبب تأخير باب الشفاعة عن الأبواب السابقة شرح قول المصنف: (باب الشفاعة)
- أقسام الشفاعة، والأدلة عليها تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون..) الآية معنى قوله تعالى: (ليس لهم من دونه ولي...) الآية، والشاهد من الآية - الرد على المعتزلة استدلالهم بقوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون..) على نفي الشفاعة لأهل الكبائر تفسير قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا..) الآية
- ذكر طرف من حديث الشفاعة
- طلب الشفاعة من الأموات دعاء لهم
- بيان حقيقة الشفاعة، وضلال المشركين وعباد القبور فيها
- الفرق بين الشفاعة الشركية وطلب الدعاء من الأحياء
- سؤال عن الفرق بين التوسل والشفاعة
- سؤال عن كيفية الرد من أجاز التوسل استدلالاً بحديث الأعمى
- بيان معنى الشفاعة المنفية
- بيان شروط الشفاعة المثبتة
- بيان فائدة شروط الشفاعة المثبتة
- من اتخذ شفعاء من دون الله جل وعلا فقد أشرك تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وما يستفاد منه - الجواب على شبهة من يقول: الذي يتخذ الشفيع قصده تعظيم الله فكيف يكون مشركاً؟ تفسير قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات..) الآية
- الإذن بالشفاعة كوني وقدري تفسير قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله..) الآية - بيان أن هذه الآية تقطع عروق الشرك من القلب تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء..) الآية بيان دقة المؤلف رحمه الله في ترتيب آيات الشفاعة في الباب في آيات الباب الرد على من عبد غير الله لشفاعة، أو غيرها كيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة، وهو لم يستأذن ربه؟ شرح كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - ترجمة ابن تيمية رحمه الله
- لا أحد يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه
- الحكمة من الشفاعة
- قصة الغرانيق، وبيان حكمها
- بيان عدم قدرة من دعي من دون الله على إجابة الدعاء
شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (من أسعد الناس بشفاعتك ...) الحديث
- أنواع شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
- معنى المقام المحمود
- بيان معنى الإخلاص
- بيان أن أهل الشفاعة هم أهل الإخلاص لله تعالى
- الشفاعة التي نفاها القرأن هي الشفاعة الشركية