26 Oct 2008
باب قوله تعالى: {حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (15 - بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأٌ:23].
فِي (الصَّحِيحِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا
قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ
بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى
صَفْوَانٍ، يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ
هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَصَفَهُ سُفْيَانُبِكَفِّهِ،
فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ
فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ
تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ،
فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا
أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ،
فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا
وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ
السَّمَاءِ)).
وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا
أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ بِالأَمْرِ، تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ
أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ، أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ،
خَوْفًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ
السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا للهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ
يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَاجِبْرِيلُ؟
فَيَقُولُ: قَالَ الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَجِبْرِيلُ،فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُبِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ)).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَةِ.
الثَّانِيَةُ: مَا فِيهَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ خُصُوصًا مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَهِيَ الآيَةُ الَّتِي قِيلَ: إِنَّهَا تَقْطَعُ عُرُوقَ شَجَرَةِ الشِّرْكِ مِنَ الْقَلْبِ.
الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
الرَّابِعَةُ: سَبَبُ سُؤَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ جِبْرِيلَ يُجِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ((قَالَ: كَذَا وَكَذَا)).
السَّادِسَةُ: ذِكْرُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَقُولُ لأَِهْلِ السَّمَاوَاتِ كُلِّهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْغَشْيَ يَعُمُّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ كُلَّهُمْ.
التَّاسِعَةُ: ارْتِجَافُ السَّمَاوَاتِ لِكَلاَمِ اللهِ.
الْعَاشِرَةُ: أَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ذِكْرُ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِينِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: صِفَةُ رُكُوبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إِرْسَالُ الشُّهُبِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ تَارَةً يُدْرِكُهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَتَارَةً يُلْقِيهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ مِنَ الإِنْسِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: كَوْنُ الْكَاهِنِ يَصْدُقُ بَعْضَ الأَحْيَانِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: كَوْنُهُ يَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ كَذِبُهُ إِلاَّ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَبُولُ النُّفُوسِ الْبَاطِلَ:
كَيْفَ يَتَعَلَّقُونَ بِوَاحِدَةٍ وَلاَ يَعْتَبِرُونَ بِمِائَةٍ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: كَوْنُهُمْ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ تِلْكَ الْكَلِمَةَ ويَحْفَظُونَهَا وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا.
الْعِشْرُونَ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ خِلاَفًا لِلأَشْعَرِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الرَّجْفَةَ وَالغَشْيَ خَوْفًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُمْ يَخِرُّونَ للهِ سُجَّدًا.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
أَرَادَ المُصَنِّفُ
رَحِمَهُ اللهُ بهذهِ التَّرْجَمَةِ بيانَ حالِ الملائِكَةِ الَّذِينَ
هُمْ أَقْوَى وأعظمُ مَنْ عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ، فإذا كانَ هذا حالَهُمْ
معَ اللهِ تعالى، وهَيْبَتَهُم منهُ، وخَشْيَتَهُم لهُ، فكيفَ يَدْعُوهُمْ
أَحَدٌ مِنْ دُونِ اللهِ؟ ففيهِ: الرَّدُّ عَلَى جميعِ فِرَقِ المُشْرِكينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ معَ اللهِ مَنْ لا يُدَانِي الملائكةَ ولا يُساويهِمْ في صفةٍ مِنْ صِفَاتِهِم.
- وقدْ قالَ تعالى فيهِم: {وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ
إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:26-28].
فهذه حَالُهُم وصفاتُهُم، وليسَ لَهُم مِن الرُّبُوبِيَّةِ والإِلَهِيَّةِ شَيْءٌ، بلْ ذلكَ للهِ وَحْدَهُ لا شريكَ لهُ.
وكذا قالَ في هذهِ الآيَةِ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أيْ: زَالَ الفَزَعُ عنها.
قالَهُ ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عُمَرَ، وأبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَمِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والحَسَنُ، وغيرُهُم.
والضَّميرُ عائِدٌ عَلَى ما عَادَتْ عليهِ الضَّمائِرُ التي لِلْغَيْبَةِ في قولِهِ: {لاَ يَمْلِكُونَ}، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ}، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ}.
و{حتَّى} تَدُلُّ عَلَى الغايَةِ، وليسَ في الكلامِ ما يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ غايَةٌ لهُ، فقالَ ابنُ عَطِيَّةَ: (في
الكلامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عليهِ الظَّاهِرُ كأنَّهُ قالَ: ولا هُمْ
شُفَعَاءَ كمَا تَزْعُمونَ أنْتُمْ، بلْ هُمْ عَبَدَةٌ مُسْلِمونَ أبدًا؛
يعني: مُنْقَادُونَ حَتَّى إذا فُزِّعَ عنْ قُلُوبِهِم). والمُرَادُ: الملائكةُ عَلَى ما اخْتَارَهُ ابنُ جَرِيرٍ وغيرُهُ.
قالَ ابنُ كثيرٍ: (وهوَ الحَقُّ الَّذي لا مِرْيَةَ فيهِ؛ لصِحَّةِ الأحاديثِ فيهِ والآثارِ).
وقالَ أبو حَيَّانَ: (تَظَاهَرَت الأحاديثُ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ قَوْلَهُ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}
إنَّما هيَ في الملائِكَةِ، إذا سَمِعَت الوَحْيَ إلى جبريلَ يأمُرُ اللهُ
بِهِ سَمِعَتْ كَجَرِّ سِلْسِلَةِ الحَدِيدِ على الصَّفْوَانِ، فتَفْزَعُ
عندَ ذلكَ تَعْظِيمًا وهَيْبَةً).
قالَ: (وبِهذا المعنَى مِنْ ذِكْرِ الملائكةِ في صَدْرِ الآياتِ تَتَّسِقُ هذهِ الآيَةُ عَلَى الأُولَى.
ومَنْ لَمْ يَشْعُرْ أنَّ الملائكةَ مُشَارٌ إليهم مِنْ أَوَّلِ قولِهِ: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}، لَمْ تَتَّصِلْ لهُ هذهِ الآيَةُ بما قَبْلَها).
وقالَ ابنُ كثيرٍ: (هذا
مَقَامٌ رَفِيعٌ في العَظَمَةِ، وهوَ أنَّهُ تعالى إذا تَكَلَّمَ
بالْوَحْيِ، فسَمِعَ أهلُ السَّمَاواتِ كلامَهُ، أَرْعَدُوا من الهَيْبَةِ
حتَّى يَلْحَقَهُم مِثْلُ الغَشْيِ).
قالَهُ ابنُ مَسْعُودٍ ومَسْرُوقٌ وغيرُهُما.
وقولُهُ: {قَالُوا الْحَقَّ}
أَيْ: قالُوا: قالَ اللهُ الحَقَّ؛ وذلكَ لأنَّهُم إذا سَمِعُوا كلامَ
اللهِ وصُعِقُوا ثُمَّ أَفَاقُوا، أَخَذوا يَتَسَاءلُونَ فيقولونَ: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}، فيقولونَ: قالَ الحَقَّ.
قولُهُ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} أي: العَالِي، فهوَ فَوْقَ كُلِّ شيءٍ.
فهوَ تعالَى عَلَى العَرْشِ الَّذي هوَ فوقَ السَّماواتِ كمَا قالَ: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}.
(2) قولُهُ: (في (الصَّحيحِ)) أيْ: (صحيحِ البُخَارِيِّ).
قولُهُ: ((إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ)) أيْ: إذا تَكَلَّمَ اللهُ بأَمْرِهِ الَّذي قَضَاهُ في السَّماءِ مِمَّا يَكونُ، كمَا رَوَى سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ، وأبو دَاودَ، وابنُ جَرِيرٍ، عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: (إذا تَكَلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ، سَمِعَ أهلُ السَّماواتِ صَلْصَلَةً كجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ).
ورَوَى ابنُ أبي حاتِمٍ، وابنُ مِرْدُوَيْهِ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (لَمَّا أَوْحَى الْجَبَّارُ إِلَى مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الرَّسُولَ مِن الْمَلاَئِكَةِ
لِيَبْعَثَهُ بالوَحْيِ، فسَمِعَت الملائِكَةُ صَوْتَ الْجَبَّارِ
يَتَكَلَّمُ بالوَحْيِ، فلَمَّا كُشِفَ عنْ قُلُوبِهِم سَأَلُوا عمَّا قالَ
اللهُ، فقالُوا الحَقَّ، وعَلِمُوا أنَّ اللهَ لا يَقُولُ إِلاَّ حَقًّا).
قولُهُ: ((ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ)) أيْ: لِقَوْلِ اللهِ تعالى.
قالَ الحافِظُ: (خَضَعانًا بفتْحَتَيْنِ من الخُضُوعِ، وفي رِوَايَةٍ بضَمِّ أوَّلِهِ وسُكُونِ ثانِيهِ، وهوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى خَاضِعِينَ).
قولُهُ: ((كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ)) أيْ: كَأَنَّ الصَّوْتَ المَسْمُوعَ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، وهوَ الحَجَرُ الأَمْلَسُ.
قالَ الحافِظُ: (هوَ مِثْلُ قولِهِ في بَدْءِ الوَحْيِ: ((صَلْصَلَةٌ كَصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ))، وهوَ صَوْتُ المَلَكِ بالوَحْيِ).
وقدْ رَوَى ابنُ مِرْدُوَيْهِ منْ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: ((إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ)) الحديثَ.
قولُهُ: ((يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ)) هوَ بفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وسُكُونِ النُّونِ وضَمِّ الفاءِ والذَّالِ المُعْجَمَةِ. ((ذَلِكَ)) أي: القولُ. والضَّميرُ في يَنْفُذُهُم عائِدٌ عَلَى الملائِكَةِ؛ أيْ: يَنْفُذُ اللهُ ذلكَ القَوْلَ إلى الملائِكَةِ؛ أيْ: يُلْقِيهِ إليهِمْ.
وقِيلَ - وهوَ أظْهَرُ- : أيْ يَخْلُصُ ذلكَ القَوْلُ ويَمْضِي في قُلُوبِ الملائِكَةِ حتَّى يَفْزَعُوا مِنْ ذلكَ، كمَا في حديثِ النَّوَّاسِ.
وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ عن ابنِ مِرْدُوَيْهِ منْ طريقِ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ عنْ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ: ((فلا يَنْزِلُ عَلَى أهلِ سَمَاءٍ إلاَّ صَعِقُوا)).
وفي حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ عندَ أبي دَاودَ وغيرِهِ مَرْفُوعًا: ((إِذَا
تَكَلَّمَ اللهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا
صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيَصْعَقُونَ، فَلاَ
يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ)) الحديثَ.
قولُهُ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}[سبأ:23] أيْ: أُزِيلَ عنها الخَوْفُ والغَشْيُ.
قولُهُ: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أيْ: قَالَ الملائكةُ بعضُهُم لبَعْضٍ: ماذا قالَ ربُّكُم؟
قولُهُ: {قالُوا الحَقَّ} أيْ: قالُوا: قالَ اللهُ الحقَّ، عَلِمُوا أنَّ اللهَ لا يَقُولُ إلاَّ حَقًّا.
قولُهُ: ((فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ))
أيْ: يَسْمَعُ الكلِمَةَ التي قَضَاهَا اللهُ مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وهُم
الشَّياطِينُ يَرْكَبُ بعضُهُم بَعْضًا، فيَسْمَعُونَ أصواتَ الملائِكَةِ
بالأمْرِ يَقْضِيهِ اللهُ، كمَا قالَ تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}[الحِجْر:17،18].
وفي (صَحِيحِ البُخَارِيِّ) عنْ عائِشَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ
الْمَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ، وَهُوَ السَّحَابُ، فَتَذْكُرُ
الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ
فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ
كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)).
وظاهِرُ هذا أنَّهُم لا يَسْمَعُونَ كلامَ الملائِكَةِ الَّذِينَ في
السَّماءِ الدُّنيا، وإنَّما يَسْمَعُونَ كلامَ الملائِكَةِ الَّذِينَ في
السَّحَابِ.
قولُهُ: (وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ) أيْ: وَصَفَ رُكُوبَ بعضِهِم فوقَ بَعْضٍ.
وسُفْيَانُ هوَ ابنُ عُيَيْنَةَ أبو مُحَمَّدٍ الْهِلاَلِيُّ الكُوفِيُّ ثُمَّ المَكِّيُّ، ثِقَةٌ
حافِظٌ فَقِيهٌ إمامٌ حُجَّةٌ، إلاَّ أنَّهُ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بآخِرَةٍ،
ورُبَّمَا دَلَّسَ لكنْ عن الثِّقَاتِ، ماتَ سنةَ ثمانٍ وتسعينَ ومائةٍ
ولهُ إحدى وتِسْعُونَ سَنَةً.
قولُهُ: ((فَحَرَّفَهَا)) بحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وراءٍ مُشَدَّدَةٍ وَفَاءٍ.
قولُهُ: ((وَبَدَّدَ)) أيْ: فَرَّقَ بينَ أصابعِهِ.
قولُهُ: ((فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ))
أيْ: يَسْمَعُ المُسْتَرِقُ الْفَوْقَانِيُّ الكلمةَ مِن الوَحْيِ،
فيُلْقِيها إلى الشَّيطانِ الَّذي تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيها الآخَرُ مَنْ
تَحْتَهُ، حتَّى يُلْقِيَها عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ والكاهِنِ، وحينَئِذٍ
يَقَعُ الرَّجْمُ.
قولُهُ: ((فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا))الشِّهَابُ: هُوَ النَّجْمُ الَّذي يُرْمَى بهِ؛
أيْ: رُبَّما أدْرَكَ المُسْتَرِقَ الشِّهَابُ إذا رُمِيَ بهِ قبلَ أنْ
يُلْقِيَ الكلِمَةَ إلى مَنْ تَحْتَهُ، ورُبَّما أَلْقَاهَا المُسْتَرِقُ
قبلَ أنْ يُدْرِكَهُ الشِّهَابُ، وهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الرَّجْمَ
بالنُّجُومِ كانَ قبلَ المَبْعَثِ، كمَا رَوَى أحمدُ ومسلمٌ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ، عنْ مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ، عنْ عليِّ بنِ حُسَيْنٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالِسًا في نَفَرٍ مِنْ أصحابِهِ، فَرُمِيَ بنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فقالَ: ((مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟))قالُوا: كُنَّا نقولُ: يُولَدُ عَظِيمٌ، أَوْ يَمُوتُ عَظيمٌ، قالَ: ((فَإِنَّهَا
لاَ يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ
رَبَّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ
أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ، فَيَقُولُ
الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ
رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ، وَيُخْبِرُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ سَمَاءً،
حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ، وَتَخْطَفُ الْجِنُّ
السَّمْعَ، فَيُرْمَوْنَ. فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ
حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهَ وَيَزِيدُونَ فِيهِ)).
قالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ للزُّهْرِيِّ: (أَكَانَ يُرْمَى بِهَا في الجاهِلِيَّةِ)؟ قالَ: (نعَمْ).
قالَ: (أَرَأَيْتَ {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجنّ:9]؟) قالَ: (غُلِّظَتْ وشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ بُعِثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وفيهِ الرَّدُّ عَلَى المُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ الخيرَ والشَّرَّ، والإعطاءَ
والمَنْعَ إلى الكَوَاكِبِ بِحَسَبِ السُّعُودِ منها والنُّحُوسِ، وعلى
حسَبِ كونِها في البُرُوجِ المُوَافِقَةِ أو المُنَافِرَةِ، ونحوِ ذلكَ؛
لِما في الرَّمْيِ بِهَا مِن الدِّلالَةِ عَلَى تَسْخِيرِهَا لِمَا
خُلِقَتْ لَهُ، كمَا قالَ تعالَى: {إِنَّ
رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ}[الأعراف:53].
قولُهُ: ((فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ))
أيْ: يَكْذِبُ الكاهِنُ أو السَّاحِرُ معَ الكلمةِ التي ألْقَاها إليهِ
وَلِيُّهُ مِن الشَّياطينِ مائةَ كَذْبَةٍ، بفتحِ الكافِ وسُكُونِ الذَّالِ
المُعْجَمَةِ، أوْ يَكْذِبُ الشَّيطانُ معَ الكَلِمَةِ التي اسْتَرَقَها
مِائَةَ كَذْبَةٍ، ويُخْبِرُ بالجميعِ وَلِيَّهُ من الإِنْسِ. فما جَاءُوا بهِ عَلَى وَجْهِهِ فهوَ صِدْقٌ، وما
خَلَطَ فيهِ فهوَ كَذِبٌ، ومعَ هذا فيَفْتَتِنُ الإنْسُ بالإنسِ
السَّاحِرِ والكاهِنِ، ويَفْتَتِنَانِ بوَلِيِّهِمَا من الشَّياطينِ،
ويَقْبَلُونَ ما جَاءُوا بِهِ مِن الصِّدقِ والكَذِبِ؛ لكونِهِم قدْ
يَصْدُقُونَ فيما يَأْتُونَ بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّماءِ.
قولُهُ: ((فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا؟)) هكذا بَيَّضَ المُصَنِّفُ في هذا الموْضِعِ، ولفظُ الحديثِ في (الصَّحيحِ): ((فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا هَكَذَا؟)).
والمعنَى أنَّ الَّذِينَ يأْتُونَ الكُهَّانَ يُصَدِّقُونَهُم في
كَذِبِهِم، ويَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذلكَ بكَوْنِهِم يَصْدُقُونَ بعضَ
الأَحْيَانِ فيما سَمِعُوهُ من الوَحْيِ، ويَذْكُرُونَ أنَّهُ أخبرَهُم
بشيءٍ مَرَّةً فوَجَدُوهُ حقًّا. وتلكَ الكلِمَةُ مِن الحقِّ كمَا في (الصَّحيحِ) عنْ عائِشَةَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الكُهَّانَ كَانُوا يُحَدِّثُوننَا بالشَّيْءِ فنَجِدُهُ حقًّا، قالَ: ((تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقُّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقْذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ)). وفيهِ: قَبُولُ النُّفُوسِ للْبَاطِلِ، كيفَ يَتَعَلَّقُونَ بواحِدَةٍ ولا يَعْتَبِرُونَ بِمِائَةِ كَذْبَةٍ؟! ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ. وفيهِ: أنَّ الشَّيءَ إذا كانَ فيهِ نوعٌ من الحقِّ لا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ حقٌّ كلُّهُ، بلْ لا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ كمَا في الكَهَانَةِ والسِّحْرِ والتَّنْجِيمِ. قولُهُ: ((فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ)) أيْ: يَسْتَدِلُّونَ عَلَى صِدْقِهَا. (3) قولُهُ: (عن النَّوَّاسِ بنِ سِمْعَانَ)، بكَسْرِ السِّينِ؛ أي: ابنِ خالدٍ الْكِلاَبِيِّ، ويُقَالُ: الأنصاريُّ. صَحَابِيٌّ، ويُقَالُ: إنَّ أبَاهُ صَحَابِيٌّ أيضًا.
قالَ أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ: سَكَنَ الشَّامَ).
قولُهُ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُوحِيَ بِالأَمْرِ…))
إلخ، هذا واللهُ أعلمُ في جميعِ الأمورِ التي يَقْضِيها الرَّبُّ
تَبَارَكَ وتعالى، كمَا يَدُلُّ عليهِ عُمُومُ اللَّفْظِ، ويَدُلُّ عَلَى
ذلكَ أيضًا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ الَّذي تَقَدَّمَ، وغيرُهُ من الأحاديثِ المُتَقَدِّمَةِ.
قولُهُ: ((أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ)) هوَ برَفْعِ ((رَجْفَة)) عَلَى أنَّهُ فاعِلٌ؛ أيْ: أصابَ السَّماواتِ منهُ رَجْفَةٌ؛ أي: ارْتَجَفَتْ.
كمَا رَوَى ابنُ أبي حاتمٍ عنْ عِكْرِمَةَ قالَ: (إذا قَضَى اللهُ أمْرًا تَكَلَّمَ تَبَارَكَ وتعالى، فرَجَفَت السَّماواتُ والأرضُ والجبالُ، وخَرَّت الملائكةُ كُلُّهم سُجَّدًا).
قولُهُ: (أَوْ قالَ: ((رَعْدَةٌ شَدِيدَةٌ)))
يعني أنَّ الرَّاويَ شَكَّ هلْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: رَجْفَةٌ، أوْ قالَ: رَعْدَةٌ، وهُوَ بفتحِ الرَّاءِ بِمَعْنَى
الأوَّلِ.
قولُهُ: ((خَوْفًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) لا يُنْكَرُ أنَّ السَّمَاواتِ والأرْضَ تَرْجُفُ وتَرْتَعِدُ خَوْفًا من اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فقدْ قالَ تعالى: {تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[الإسراء:44].
وإذا كَانُوا لا يُدْعَوْنَ معَ اللهِ تعالى لا اسْتِقلالاً، ولا وَسَاطةً
بالشَّفاعَةِ، فغَيْرُهُم مِمَّنْ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ من الأمواتِ
والأصنامِ أوْلَى أنْ لا يُدْعَى ولا يُعْبَدَ
- وقالَ تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فُصِّلَتْ:11].
- وقالَ تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90].
- قالَ تعالى: {وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:74].
وفي (البُخَارِيِّ) عن ابنِ مسعودٍ قالَ: كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ.
وفي حديثِ أبي ذَرٍّ، أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ في يَدِهِ حَصَيَاتٍ،
فسُمِعَ لَهُنَّ تَسْبِيحٌ كَحَنِينِ النَّحْلِ، وكذا في يدِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعثمانَ. وهوَ حديثٌ مَشْهُورٌ في (المسانيدِ). وكذلِكَ في (الصَّحيحِ)
قِصَّةُ حَنِينِ الْجِذْعِ الَّذي كانَ يَخْطُبُ عليهِ النبيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلَ اتِّخَاذِ المِنْبَرِ. ومثلُ هذا كثيرٌ.
قولُهُ: ((صَعِقُوا وَخَرُّوا للهِ سُجَّدًا)) أيْ: يَقَعُ منهم الأمرانِ: الصَّعْقُ؛ وهوَ الغَشْيُ، والسُّجُودُ.
واللهُ أعلَمُ أيُّهُمَا قبلَ الآخَرِ؛ فإنَّ الواوَ لا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا.
قولُهُ: ((فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ)) معنَى جِبريل: عبدُ اللهِ، كمَا رَوَى ابنُ جَرِيرٍ وأبو الشَّيْخِ الأصْبَهَانِيُّ عنْ عَلِيِّ بنِ حُسَيْنٍ قالَ: اسمُ جِبريلَ عبدُ اللهِ، واسمُ ميكائِيلَعُبَيْدُ اللهِ، وإسرافِيلُ عبدُ الرَّحمنِ، وكُلُّ شيءٍ راجِعٌ إلى إِيلَ فهوَ مُعَبَّدٌ للهِ عزَّ وجلَّ.
وفيهِ دليلٌ عَلَى فضيلَةِ جِبريلَ علَيهِ السَّلامُ، كمَا قالَ تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (.2) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التكوير:19-21].
- قالَ أبو صالِحٍ في قولِهِ: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}. وفي ضِمْنِ ذلكَ النَّهْيِ عنْ دُعَائِهِم وعِبَادَتِهِم الشَّفاعَةُ وغيرُها، كمَا قالَ تعالى: {أَمِ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ
يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ
جَمِيعًا}[الزُّمَر:43،44].
قالَ: جِبْرِيلُ: (يَدْخُلُ في سبعينَ حِجَابًا منْ نُورٍ بغَيْرِ إِذْنٍ).
وقدْ وَرَدَ في صفةِ جِبريلَ أحاديثُ صحيحةٌ، منها ما رَوَاهُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ عنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: (رأى
رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريلَ في صُورَتِهِ، وَلَهُ
سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ،
يَسْقُطُ منْ جَنَاحِهِ من التَّهاوِيلِ والدُّرِّ والياقُوتِ ما اللهُ بهِ
عليمٌ).
قولُهُ: ((ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ)) إلى آخرِهِ، معناهُ ظاهِرٌ.
فإذا كانَ هذا حالُ الملائكةِ الَّذِينَ هم أَقْوَى وأعْظَمُ مِمَّنْ
عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ، وشِدَّةُ خَشْيَتِهِم من اللهِ وهيبتُهُم لهُ معَ
ما أعطاهُم اللهُ مِن القُوَّةِ العظيمةِ التي لا يَعْلَمُهَا إلاَّ اللهُ،
ومعَ هذا فقدْ نَفَى عنهُم الشَّفاعَةَ بغيرِ إذنِهِ، كمَا قالَ: {وَكَمْ
مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ
مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26].
وأخْبَرَ أنَّهُم لا يَمْلِكونَ كَشْفَ الضُّرِّ عمَّنْ دَعَاهُم ولا تَحْوِيلَهُ، فقالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}[الإسراء:56].
فكيفَ يَدْعُوهُم المُشْرِكُ وَيَظُنُّ أنَّهُم يَشْفَعونَ لهُ عندَ اللهِ كمَا يَشْفَعُ الْوُزَرَاءُ عندَ المُلُوكِ؟
وإذا بَطَلَتْ دَعْوَتُهُم معَ أنَّهُم أحياءُ نَاطِقُونَ مُقَرَّبونَ عندَ
اللهِ، فدُعَاءُ غيرِهِم من الأمواتِ الَّذِينَ لا يَسْتَطِيعونَ سَمْعًا
ولا يَمْلِكونَ ضَرًّا ولا نَفْعًا أَوْلَى بالبُطْلانِ، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الأعراف:193].
وقالَ: {وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
(19) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
(.2) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}[النحل:19-21].
قولُهُ: ((ثُمَّ يَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ)) قدْ بَيَّضَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ هذا.
وَلَعَلَّهُ أرَادَ أنْ يَكْتُبَ تَمَامَ الحديثِ ومَنْ رَوَاهُ، وتَمَامُهُ: ((إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).
ورَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ خُزَيْمَةَ، وابنُ أبِي حَاتِمٍ، والطَّبَرَانِيُّ.
وفي الحديثِ مِن الفوائِدِ إثباتُ الكلامِ خِلافًا للجَهْمِيَّةِ، وإثباتُ الصَّوْتِ خِلافًا لَهُمْ ولِلأَشَاعِرَةِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (بابُ قولِ اللهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ:23]).
قولُه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي: زالَ الفزَعُ عنها؛ قالَه ابنُ عَبَّاسٍ، وابنُ عمرَ، وأبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ، والشَّعبيُّ، والحسَنُ وغيرُهم.
وقالَ ابنُ جَريرٍ: (قالَ
بعضُهم: الذين فُزِّعَ عن قُلوبِهم: الملائكةُ، قالوا: وإنما فُزِّعَ عن
قُلوبِهم من غَشْيَةٍ تُصِيبُهم عند سَمَاعِهم كلامَ اللهِ بالوحيِ).
وقالَ ابنُ عَطِيَّةَ: (في الكلامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عليه الظاهرُ).
كأَنَّهُ قالَ: ولا هم شُفعاءُ كما تَزعُمونَ أنتم، بل هم عَبَدَةٌ
مُسلمونَ للهِ أبدًا؛ يعني: مُنْقَادُونَ، حتى إذا فُزِّعَ عن قُلُوبِهم.
والْمُرادُ الملائكةُ على ما اختارَه ابنُ جَريرٍ وغيرُه.
قالَ ابنُ كثيرٍ: (وهو الحقُّ الذي لا مِرْيَةَ فيه؛ لصِحَّةِ الأحاديثِ فيه والآثارِ).
وقالَ أبو حَيَّانَ: (تَظاهَرَت الأحاديثُ عن رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ قولَه:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ}إنما
هي الملائكةُ إذا سَمِعَت الوحيَ إلى جِبريلَ يَأْمُرُه اللهُ به،
سَمِعَتْ كَجَرِّ سلسلةِ الحديدِ على الصَّفْوَانِ، فتَفْزَعُ عندَ ذلك
تَعظيمًا وهَيْبَةً).
قالَ: (وبهذا
الْمَعْنَى مِن ذِكْرِ الملائكةِ في صَدْرِ الآية تَتَّسِقُ هذه الآيةُ
على الأُولَى، وَمَنْ لم يَشْعُرْ أنَّ الملائكةَ مُشَارٌ إليهم من أوَّلِ
قولِه: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} لم تَتَّصِلْ له هذه الآيةُ بما قَبْلَها.
قولُه: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ولم يَقولُوا ماذا خَلَقَ رَبُّنَا؟
ولو كانَ كَلامُ اللهِ مَخلوقًا لقَالُوا: ماذا خَلَقَ؟) انتهى من (شرحِ سُنَنِ ابنِ مَاجَةَ).
ومِثلُه الحديثُ: ((مَاذا قَالَ رَبُّنا يَا جِبْريلُ)) وأمثالُ هذا في الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرٌ.
وقولُه: {قَالُوا الْحَقَّ}
أي: قالَ اللهُ الحقَّ: وذلك لأَنَّهُم إذا سَمِعُوا كلامَ اللهِ
صَعِقُوا، ثم إذا أَفَاقُوا أَخَذُوا يَسألونَ، فيَقولونَ: ماذا قالَ
ربُّكُمْ؟
فيقولونَ: قالَ الحقَّ.
قولُه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} عُلُوُّ القَدْرِ وَعُلُوُّ القَهْرِ وعُلُوُّ الذاتِ، فله العُلُوُّ الكاملُ من جميعِ الوُجوهِ، كما قالَ عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ لَمَّا قِيلَ له: بماذا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟
قالَ: (بأَنَّهُ على عَرْشِه بائنٌ من خَلْقِه) تَمَسُّكًا منه بالقرآنِ لقولِه تعالى: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5]{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ}[الفرقان:59].
في سبعةِ مَواضِعَ في القرآنِ.
قولُه: {الكَبِيرُ} أي: الذي لا أَكبرَ منه ولا أَعْظَمَ تَبارَكَ وتعالى.
(2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (فِي (الصَّحيحِ) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: ((إِذَا
قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ
بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى
صَفْوانٍ، يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}،
فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذا
بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَصَفَهُ سُفيانُ بِكَفِّهِ، فَحَرَّفَهَا
وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فيُلْقِيهَا إِلى
مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى
يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ، فَرُبَّمَا
أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَها، وَرُبَّمَا أَلْقَاها
قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَها مِائةَ كَذْبَةٍ، فيُقالُ:
أَلَيْسَ قَدْ قالَ لَنا يَومَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ فيُصَدَّقُ
بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ)). وفي هذه الأحاديثِ وما بعدَها وما في معناها: إثباتُ عُلُوِّ اللهِ -تعالى-
على خَلْقِه على ما يَليقُ بجَلالِه وعَظَمَتِه، وأَنَّهُ -تعالى- لم
يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذا شاءَ بكلامٍ يُسْمِعُه الملائكةَ، وهذا قولُ أهلِ
السُّنَّةِ قَاطِبةً سَلَفًا وخَلَفًا. خِلافًا للأَشاعرةِ والْجَهْمِيَّةِ؛ ونُفاةِ الْمُعْتَزِلَةِ، فإيَّاكَ أن تَلْتَفِتَ إلى ما زَخْرَفَه أهلُ التعطيلِ، وحَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكيلُ. (3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وعَنِ النَّوَّاسِ بنِ سِمعانَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إِذا
أَرادَ اللهُ تَعالى أَنْ يُوحِيَ بِالأَمْرِ، تَكَلَّمَ بِالوَحْيِ،
أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفةٌ، أَو قالَ: رَعْدَةٌ شديدةٌ،
خَوْفًا مِنَ اللهِ عَزّ وَجَلّ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ
السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا للهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ
يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبريلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُعَلَى المَلاَئِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ: قَالَ الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ ما قالَ جِبْريلُ، فَيَنْتَهي جِبريلُ بِالوَحْيِ إِلى حَيْثُ أَمرَهُ اللهُ عَزَّ وجلَّ))). هذا الحديثُ رواه ابنُ أبي حاتمٍ بسَنَدِه كما ذَكَرَه العِمادُ ابنُ كثيرٍ في تَفسيرِه. النَّوَّاسُ بنُ سِمعانَ، بكَسْرِ السينِ، ابنِ خالدٍ الكلابيُّ، ويُقالُ: الأنصاريُّ، صحابيٌّ. - وقالَ تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ}[البقرة:74]. وفيه: فَضيلةُ جِبريلَ عليه السلامُ كما قالَ تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التكوير:19-21]. ولأحمدَ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ مَسعودٍ قال: ((رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي
صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمائةِ جَناحٍ؛ كُلُّ جَنَاحٍ مِنْها قَدْ سَدَّ
الأفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَناحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ والدُّرِّ والياقوتِ
مَا اللهُ بِهِ عَليمٌ))
فإذا كانَ هذا عِظَمَ هذه الْمَخلوقاتِ فخَالِقُها أَعْظَمُ وأَجَلُّ
وأَكْبَرُ فكيف يُسَوَّى به غيرُه في العِبادةِ: دُعاءً وخَوْفًا ورَجاءً
وتَوَكُّلاً وغيرَ ذلك من العِباداتِ التي لا يَسْتَحِقُّها غيرُه؟ فانْظُرْ إلى حالِ الملائكةِ وشِدَّةِ خَوْفِهم من اللهِ تعالى، وقد قالَ تعالى: {بَلْ
عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ
يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَـهٌ مِّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ
جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:26-29].
قولُه: ((فَيَنْتَهِي جِبريلُ بِالوَحْيِ إِلى حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) وهذا تَمامُ الحديثِ.
والآياتُ المذكورةُ في هذا البابِ والأحاديثُ تُقَرِّرُ التوحيدَ الذي هو
مَدلولُ شَهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فإنَّ الْمَلِكَ العظيمَ الذي
تَصْعَقُ الأملاكُ من كلامِه خَوْفًا منه ومَهابةً، وتَرْجُفُ منه
الْمَخلوقاتُ؛ الكاملُ في ذاتِه وصِفاتِه؛ وعِلْمِه وقُدْرَتِه ومُلْكِه
وعِزِّه، وغِناهُ عن جميعِ خَلْقِه؛ وافتقارِهم جميعِهم إليه، ونُفوذِ
تَصَرُّفِه وقَدَرِه فيهم لعِلْمِه وحِكْمَتِه، لا يَجوزُ شَرْعًا ولا
عَقْلاً أن يُجْعَلَ له شَريكٌ من خَلْقِه في عِبادتِه التي هي حَقُّه
عليهم، فكيفَ يُجْعَلُ المربوبُ رَبًّا، والعبدُ مَعبودًا؟
أينَ ذَهَبَت عُقولُ الْمُشركينَ؟
سُبحانَ اللهِ عَمَّا يُشرِكونَ.
وقالَ تعالى: {إِن
كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَـنِ عَبْدًا
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مَرْيَم:93،94] مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهم تَزْجُرُهم عن ذلك الشرْكِ وتَنهاهُمْ عن عِبادةِ ما سِوَى اللهِ، انْتَهَى من (شَرْحِ سُنَنِ ابنِ مَاجَةَ).
قولُه: (في (الصحيحِ)) أي: (صحيحِ البخاريِّ).
قولُه: ((إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّماءِ)) أي: إذا تَكَلَّمَ اللهُ بالأمْرِ الذي يُوحِيهِ إلى جَبْرَائِيلَ بما أَرادَه؛ كما صَرَّحَ به في الحديثِ الآتِي، وكما رَوَى سعيدُ بنُ منصورٍ وأبو دَاوُدَ وابنُ جَريرٍ عن ابنِ مَسعودٍ: (إِذا تَكَلَّمَ اللهُ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّماواتِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوانِ).
وروى ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ مَرْدُويَه عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: ((لَمَّا
أَوْحَى الجَبَّارُ إِلى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعا
الرَّسولَ مِنْ الملائِكَةِ لِيَبْعَثَهُ بِالوَحْيِ، فَسَمِعَتِ
الْمَلائِكَةُ صَوْتَ الْجَبَّارِ يَتَكَلَّمُ بِالوَحْيِ، فَلمَّا كُشِفَ
عَنْ قُلوبِهِم سَأَلُوا عَمَّا قَالَ اللهُ، فَقَالُوا: الحَقَّ،
وَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَقُولُ إلاَّ حَقًّا)).
قولُه: ((ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ)) أي: لقولِ اللهِ تعالى، قالَ الحافظُ: خَضَعَانًا بفَتحتينِ من الْخُضوعِ.
وفي روايةٍ: بضَمِّ أَوَّلِه وسُكونِ ثَانِيهِ، وهو مَصدرٌ بمعنى خَاضِعِينَ.
قولُه: ((كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوانٍ)) أي: كأنَّ الصوتَ المسموعَ سِلسلةٌ على صَفوانٍ، وهو الحجَرُ الأَمْلَسُ.
قولُه: ((يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ)) هو بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وسكونِ النونِ وضَمِّ الفاءِ والذالِ الْمُعْجَمَةِ، و((ذلك)) أي: القولُ، والضميرُ في ((يَنفُذُهُمْ)) للملائكةِ، أي: يَنْفُذُ ذلك القولُ الملائكةَ، أي: يَخْلُصُ ذلك القولُ ويَمْضِي فيهم حتى يَفْزَعُوا منه.
وعندَ ابنِ مَرْدُويَهْ من حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ: (فلا يَنْزِلُ عَلى أَهْلِ سَماءٍ إِلاَّ صَعِقُوا) وعندَ أبي دَاوُدَ وغيرِه مَرْفُوعًا: ((إِذا
تَكَلَّمَ اللهُ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّماءِ الدُّنْيا صَلْصَلَةً
كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفا فَيُصْعَقُونَ، فَلا يَزالُونَ
كَذلِكَ حَتَّى يَأتِيَهُم جِبريلُ)) الحديثَ.
قولُه: {حَتَّى إِذَا فَزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} تَقَدَّمَ معناه.
قولُه: {قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ} أي: قالوا: قالَ اللهُ الْحَقَّ، عَلِمُوا أنَّ اللهَ لا يَقولُ إلا الحقَّ.
قولُه: ((فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ)) أي: يَسْمَعُ الكلمةَ التي قَضَاهَا اللهُ، وهم الشياطينُ يَرْكَبُ بعضُهم بعضًا.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عن عائشةَ مَرفوعًا: ((إِنَّ
الملائِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ -وَهُوَ السَّحابُ- فَتَذْكُرُ
الأَمْرَ قُضِيَ في السَّماءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّياطِينُ السَّمْعَ؛
فَتُوحِيهِ إِلى الكُهَّانِ)).
قولُه: (وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ) أي: وَصَفَ رُكوبَ بعضِهم فوقَ بعضٍ.
وسفيانُ هو ابنُ عُيَيْنَةَ أبو مُحَمَّدٍ الهلاليُّ الكوفيُّ ثم الْمَكِّيُّ، ثِقَةٌ حافظٌ، فقيهٌ، إمامٌ حُجَّةٌ، ماتَ سنةَ ثَمانٍ وتِسعينَ ومائةٍ وله إحدى وتِسعونَ سَنَةً.
قولُه: ((فَحَرَّفَها)) بحاءٍ مُهمَلَةٍ وراءٍ مُشَدَّدَةٍ وفاءٍ.
قولُه: ((وَبَدَّدَ)) أي: فَرَّقَ بينَ أَصابِعِهِ.
قولُه: ((فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فيُلْقِيهَا إِلى مَنْ تَحْتهُ))
أي: يَسْمَعُ الفوقانيُّ الكلمةَ فيُلْقِيهَا إلى آخَرَ تَحْتَه، ثم
يُلْقِيهَا إلى مَن تَحْتَه حتى يُلْقِيَهَا على لِسانِ الساحرِ أو
الكاهِنِ.
قولُه: ((فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا))الشِّهابُهو النَّجْمُ الذي يُرْمَى به؛ أي: رُبَّمَا أَدْرَكَ الشهابُ الْمُسْتَرِقَ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الرميَ بالشُّهُبِ قبلَ الْمَبْعَثِ.
لِمَا رَوَى أحمدُ وغيرُه والسِّياقُ له في (المسنَدِ) من طَريقِ مَعْمَرٍ: أنْبَأَنَا الزُّهْرِيُّ عن عليِّ بنِ حسينٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (كَانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحابِهِ).
- قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: (مِنَ الأَنْصَارِ- قالَ: فَرُمِيَ بِنَجْمٍ عَظِيمٍ، فَاسْتَنَارَ، قالَ:((مَا كُنْتُمْ تَقولُونَ إِذا كَانَ مِثْلُ هَذا فِي الْجَاهِليَّةِ؟))قالَ: كُنَّا نَقُولُ: لَعَلَّهُ يُولَدُ عَظِيمٌ أَوْ يَموتُ عظيم.
قلتُ للزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرمَى بِها فِي الجَاهِلِيَّةِ؟
قالَ: نَعَمْ؛ وَلَكِنْ غَلُظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((فَإِنَّها
لا يُرْمَى بِها لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَياتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا
تَبارَكَ اسْمُهُ إِذا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ العَرْشِ؛ ثُمَّ
سَبَّحَ أَهْلُ السَّماءِ الذِينَ يَلُونَهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم،
حَتَّى يَبْلُغَ التَّسبيحُ هَذهِ السَّماءَ الدُّنيا. ثُمَّ يَسْتَخْبِرُ
أَهْلُ السَّمَاءِ الذينَ يَلونَ حَمَلَةَ العَرْشِ، فَيقولُ الَّذينَ
يلُونَ حَمَلَةَ العَرشِ لِحَمَلَةِ العَرْشِ: ماذا قَالَ رَبُّكُم؟
فَيُخبِرونَهُم، وَيُخْبِرُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ
الخَبَرُ إِلى هَذِهِ السَّمَاءِ، وَيَخْطَفُ الجِنُّ السَّمْعَ
فَيُرْمَوْنَ؛ فَما جاؤوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلكنَّهُم
يَقْرِفُونَ فِيه وَيَزِيدُونَ))).
- قالَ عبدُ اللهِ: قالَ أَبي: (قالَ عبدُ الرَّزَّاقِ: ((وَيَخْطَفُ الجِنُّ ويُرمَوْنَ))).
وفي روايةٍ له: ((لَكِنَّهُمْ يَزيدُونَ فِيهِ وَيَقْرِفُونَ ويَنْقُصُونَ)).
قولُه: ((فَيَكْذِبُ مَعَها مِائةَ كَذْبَةٍ)) أي: الكاهنُ أو الساحرُ.
و((كَذْبَةٍ)) بفَتْحِ الكافِ وسُكونِ الذالِ الْمُعْجَمَةِ.
قولُه: ((فَيقالُ: أَلَيْسَ قَدْ قالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟)) هكذا في نُسخةٍ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ، وكالذي في (صحيحِ البخاريِّ) سواءٌ.
قَالَ المُصَنِّفُ: (وفيهِ قَبولُ النُّفُوسِ للباطِلِ، كَيْفَ يَتَعلَّقونَ بِواحِدَةٍ ولا يَعْتبِرونَ بِمائَةٍ؟).
وفيه: أنَّ الشيءَ إذا كان فيه شيءٌ من الحقِّ فلا يَدُلُّ على أَنَّهُ حقٌّ كلُّه، فكثيرًا ما يَلْبِسُ أهلُ الضلالِ الحقَّ بالباطلِ ليكونَ أَقْبَلَ لباطِلِهم، قالَ تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:42].
ويُقالُ: إنَّ أباه صَحَابيٌّ أيضًا.
قولُه: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُوحِيَ بِالأمْرِ))
إلى آخِرِه: فيه النَّصُّ على أنَّ اللهَ -تعالى- يَتَكَلَّمُ بالوحيِ.
وهذا مِن حُجَّةِ أهلِ السُّنَّةِ على النُّفاةِ لقولِهم: لم يَزَل اللهُ
مُتَكَلِّمًا إذا شاءَ.
قولُه: ((أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْه رَجْفَةٌ)) السماواتِ مفعولٌ مُقَدَّمٌ، والفاعلُ ((رَجْفةٌ))أي: أصابَ السماواتِ من كلامِه تعالى رَجْفَةٌ، أي: ارْتَجَفَتْ. وهو صريحٌ في أنها تَسْمَعُ كلامَه تعالى، كما روى ابنُ أبي حاتمٍ عن عِكرمةَ قالَ: ((إِذا
قَضَى اللهُ أَمْرًا تَكَلَّمَ تَبَارَكَ وَتَعَالى رَجَفَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالجِبَالُ، وَخَرَّتِ المَلاَئِكَةُ كُلُّهمْ
سُجَّدًا)).
قولُه: (أَو قالَ: ((رَعْدَةٌ شَدِيدَةٌ))) شَكٌّ من الراوي، هل قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجْفَةٌ أو قالَ رَعْدَةٌ، والراءُ مَفتوحَةٌ فيهما.
قولُه: ((خَوْفًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))
وهذا ظاهرٌ في أنَّ السماواتِ تَخافُ اللهَ، بما يَجْعَلُ تعالى فيها من
الإحساسِ ومَعرِفةِ مَنْ خَلَقَهَا. وقد أَخْبَرَ تعالى أنَّ هذه
المخلوقاتِ العظيمةَ تُسَبِّحُهُ كما قالَ تعالى: {تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن
شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[الإسراء:44].
- وقالَ تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مَرْيَم:90].
وقد قَرَّرَ العَلاَّمَةُ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَه اللهُ أنَّ هذه المخلوقاتِ تُسَبِّحُ اللهَ وتَخشاهُ حَقيقةً، مُسْتَدِلاًّ بهذه الآياتِ وما في معناها.
وفي (البخاريِّ) عن ابنِ مسعودٍ قالَ: (كُنّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ) وفي حديثِ أبي ذَرٍّ (أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخذَ فِي يدِهِ حَصَياتٍ فَسُمِعَ لَهُنَّ تَسْبِيحٌ) الحديثَ، وفي (الصحيحِ) قِصَّةُ حَنينِ الْجِذْعِ الذي كان يَخْطُبُ عليه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلَ اتِّخاذِ الْمِنْبَرِ. ومِثلُ هذا كثيرٌ.
وقولُه: ((صَعِقُوا وَخَرُّوا للهِ سُجَّدًا)) الصَّعْقُ هو الْغَشْيُ؛ ومعه السجودُ.
وقولُه: ((فَيَكونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبريلُ)) بنَصْبِ (أوَّلَ) خَبَرُ يكونُ مُقَدَّمٌ على اسْمِها. ويَجوزُ العَكْسُ.
ومعنى جِبريلَ: عبدُ اللهِ؛ كما رَوَى ابنُ جَريرٍ وغَيرُه عن عليِّ بنِ الْحُسينِ قالَ: (كانَ اسمُجِبريلَ: عبدَ اللهِ، واسمُ مِيكائيلَ عُبَيْدَ اللهِ؛ وإِسرافيلَ عبدَ الرحمنِ، وكلُّ شيءٍ رَجَعِ إلى (إِيلَ) فهو مُعَبَّدٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ).
قالَ ابنُ كثيرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى: (إنَّ هذا القرآنَ لَتَبليغُ رسولٍ كَريمٍ).
قالَ أبو صَالِحٍ في الآيةِ: (جِبريلُ يَدخُلُ في سَبعينَ حِجَابًا من نُورٍ بغيرِ إِذْنٍ).
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)
وهذا أيضًا برهانٌ عظيمٌ آخَرُ عَلَى وجوبِ التوحيدِ وبطلانِ الشرْكِ،
وهو
ذِكْرُ النُّصوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كبرياءِ الرَّبِّ وعَظَمَتِه التي
تَتَضاءلُ وتَضْمَحِلُّ عِنْدَها عَظَمَةُ المَخْلُوقاتِ العَظِيمَةِ،
وتَخْضَعُ له المَلاَئِكَةُ والعَالَمُ العُلْوِيُّ والسُّفْلِيُّ، ولاَ
تَثْبُتُ أفْئِدَتُهم عِنْدَما يَسْمَعونَ كَلاَمَه أو تَتَبَدَّى لهم
بَعْضُ عَظَمَتِه ومَجْدِه. - فالمَخْلُوقاتُ بِأَسْرِها خاضِعَةٌ لِجَلاَلِه، مُعْتَرِفَةٌ
بِعَظَمَتِه ومَجْدِه خاضِعَةٌ لَهُ خَائِفَةٌ مِنْه، فَمَنْ كانَ هذا
شَأنَه فهو الرَّبُّ الذِي لاَ يَسْتَحِقُّ العبادةَ أو الحمدَ والثناءَ
والشكْرَ والتعْظِيمَ والتأَلُّهَ إلاَّ هو، وَمَنْ سِواه لَيْسَ لَهُ مِن
هذا الحَقِّ شيءٌ. فكما أنَّ الكَمَالَ المُطْلَقَ والكبرِياءَ والعَظَمَةَ ونُعُوتَ
الجَلاَلِ والجَمَالِ المُطْلَقِ كُلُّها للهِ، لاَ يُمْكِنُ أنْ
يَتَّصِفَ بِها غَيْرُه، فكذلك العبوديةُ الظاهرَةُ والباطِنةُ كلُّها
حَقُّهُ تعالى الخاصُّ الذِي لا يُشارِكُه فيه مُشارِكٌ بِوَجْهٍ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: (مناسبةُ الترجمةِ:
أنَّ هذا مِن البراهينِ الدَّالَّةِ على أنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أحدٌ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا مَعَ اللهِ؛
لأنَّ الملائكةَ وَهُمْ أَقْرَبُ ما يكونُ من الخلقِ للهِ عزَّ وجلَّ، مَا عدا خَوَاصَّ بَنِي آدمَ، يَحْصُلُ مِنْهم عِندَ كَلاَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ الفزَعُ. (أراد المصنف رحمه
الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عُبد من دون
الله، فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى، وهيبتهم منه، وخشيتهم له، فكيف
يدعوهم أحد من دون الله؟ (1) قولُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قالَ ذلكَ ولَمْ يَقُلْ: فَزِعَتْ قُلُوبُهم؛ إذْ عنْ تُفِيدُ المُجَاوَزَةَ. والفَزَعُ: الخوفُ المُفَاجِئُ؛ لأنَّ الخوفَ المُسْتَمِرَّ لا يُسمَّى فَزَعًا. وأصْلُهُ: النُّهوضُ مِن المَخُوفِ. والحقُّ في الكلامِ: هوَ الصِّدقُ في الأخبارِ، والعدلُ في الأحكامِ، كما قالَ اللهُ تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}. فإنْ قيلَ: ما دامَ بيانًا للواقعِ ومَعْرُوفًا عندَ الملائِكَةِ أنَّهُ لا يَقُولُ إلاَّ الحقَّ، فلماذا الاستفهامُ؟ أُجِيبُ: أنَّ هذا مِنْ بابِ الثناءِ عَلَى اللهِ بِمَا قالَ، وأنَّهُ سبحانَهُ لا يقولُ إلاَّ الحقَّ. والكبيرُ: ذُو الكِبْرِياءِ، وهيَ العَظَمَةُ التي لا يُدانِيها شَيءٌ؛ أي: العَظِيمُ الذي لاَ أعَظَمَ منهُ. والعُلُوُّ قسمانِ: الأوَّلُ: عُلُوُّ الصفاتِ. وقَدْ أَجْمَعَ عليهِ كلُّ مَنْ يَنْتَسِبُ للإسلامِ حتَّى الجَهْمِيَّةُ ونَحْوُهم. الثاني: عُلُوَّ الذاتِ. وقَدْ أنكرَهُ كثيرٌ مِن المُنْتَسِبينَ للإسلامِ مثلُ الجَهْمِيَّةِ
وبَعْضِ الأشاعرةِ غيرِ المُحَقِّقينَ منهم؛ فإنَّ المُحَقِّقينَ منهم
أَثْبَتُوا عُلُوَّ الذاتِ. وعُلُوُّهُ لا يُنَافِي كونَهُ معَ الخلقِ يَعلَمُهُم ويَسْمَعُهُم ويَرَاهُم؛ لأنَّهُ لَيْسَ كمثلِهِ شيءٌ في جميعِ صفاتِهِ. ومناسبةُ الآيَةِ للتوحيدِ: أنَّهُ إذا كانَ مُنْفَرِدًا في العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ فَيَجِبُ أنْ يكونَ مُنْفرِدًا في العبادةِ. (2) قولُهُ: ((قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ)) المُرادُ بالأمرِ الشأنُ، ويكونُ القَضاءُ بالقَوْلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قَضَى اللهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكونُ}. (3) قولُهُ: ((صَفْوَانٍ)) هوَ الحَجَرُ الأمْلَسُ الصُّلْبُ، والسِّلْسِلَةُ عليهِ يكونُ لها صَوْتٌ عظيمٌ. (4) قولُهُ: ((يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ))النفوذُ: هوَ الدخولُ في الشَّيءِ، ومنهُ: نَفَذَ السَّهْمُ الرَّمِيَّةَ؛ أيْ: دخَلَ فيها. (5) قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أيْ: أُزيلَ عنها الفزعُ. يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا ما قالَ ، وقَالُوا: إنَّهُ الحقُّ، فيكونُ هذا عائدًا إلى الوَحْيِ الذِي تَكَلَّمَ اللهُ بهِ. ويَحْتَمِلُ أنَّهم قَالُوا ذلكَ لعِلْمِهم أنَّ اللهَ سبحانَهُ لا يقولُ إلاَّ الحقَّ ، فلذلكَ قَالُوا هذا؛ لأنَّ ذلكَ صِفَتُهُ سبحانَهُ وتَعَالَى. (6) قولُهُ: ((فَيَسْمَعُهَا مُستَرِقُ السَّمْعِ)) أيْ: هذِهِ الكلمةَ التي تكلَّمَتْ بِها الملائكةُ. (7) قولُهُ: ((وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ)) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هذا مِنْ كَلامِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، أوْ مِنْ كَلاَمِ أَبِي هُرَيْرةَ، أوْ مِنْ كلامِ سُفْيَانَ، والأصل كونها من كلامه صلى الله عليه وسلم. (8) قولُهُ: (وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ)
أيْ: أنَّها واحدٌ فَوْقَ الثاني؛ أي: الأَصَابِعُ، فَالْجِنُّ
يَتَرَاكَبُونَ واحدًا فوقَ الآخرِ، إلى أنْ يَصِلُوا إلى السَّماءِ
فَيَقْعُدُونَ، لكلِّ واحدٍ مَقْعَدٌ خاصٌّ، قالَ تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}. (9) قولُهُ: ((فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ)) أيْ: يَسْمَعُ أعْلَى المُسْتَرِقِينَ الكَلِمَةَ فَيُلْقِيها إلى مَنْ تحتَهُ؛ ويُخْبِرُهُ بِها. (10) قولُهُ: ((ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا)) أيْ: يُلْقِيَ الكَلِمَةَ آخِرُهُم الذي في الأرضِ عَلَى لسانِ السَّاحرِ أو الكاهنِ. ولا يَصِلُ هؤلاءِ المُسْتَرِقُونَ إلاَّ إلى السَّماءِ الدُّنيا؛ لقولِهِ تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}، فلا يُمْكِنُ نُفُوذُهُ إلى مَا فَوْقَ. (11) قولُهُ: ((فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ)) إلخ. الشِّهابُ: جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ مِن النُّجومِ ثاقبٌ قَوِيٌّ يَنْفُذُ فيما يَصْطَدِمُ بهِ. فالشُّهُبُ: نَيَازِكُ تَنْطَلِقُ مِن النُّجومِ. وهيَ كمَا قالَ أهلُ الفَلَكِ: تَنْزِلُ إلى الأرضِ، وقدْ تُحدِثُ تصدُّعًا فيها. والثاني: هوَ الأقربُ، أنَّهم انْقَطَعُوا في وقتِ البعثةِ فقطْ، حتَّى لا يَلْتَبِسَ كلامُ الكُهَّانِ بالوَحْيِ. ثمَّ بعدَ ذلكَ زالَ السببُ الذي مِنْ أجْلِهِ انقَطَعوا. (12) قولُهُ: ((فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ)) هلْ هذا على سبيلِ التَّحْدِيدِ؟ الثاني: هوَ الأقربُ، وقدْ تزيدُ عنْ ذلكَ وقدْ تَنْقُصُ. ((فَيُقَالُ: أليسَ قدْ قالَ لنا يومَ كذا وكذا: كذا وكذا؟))
والنَّاسُ في هذهِ الأمورِ الغَرِيبةِ عَلَى حَسَبِ ما أَخْبَرَ بهِ
المُخْبِرُ، يَأْخُذُونَ كلَّ ما يقولُهُ صِدْقًا، فإذا أَخْبَرَ بشيءٍ
فوقَعَ، ثُمَّ أَخْبَرَ بشيءٍ قَالُوا: إذنْ لا بُدَّ أنْ يَصْدُقَ. (13) قولُهُ: (وعَن النَّوَّاسِ...) هذا الحديثُ لمْ يُخَرِّجْهُ المُؤَلِّفُ، لكنْ ذَكَرَهُ ابنُ كثيرٍ مِنْ رِوايَةِ ابنِ أَبِي حَاتِمٍ، وذَكَرَ فيهِ عِلَّةً، وهيَ أنَّ في سَنَدِهِ الوليدَ بنَ مسلمٍ وهوَ مُدَلِّسٌ، وقَدْ رَواهُ عنْ شَيْخِهِ بِالْعَنْعَنَةِ، فيكونُ في الحديثِ ضَعْفٌ. (14) قولُهُ: ((إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوحِيَ بِالأَمْرِ)) أيْ: بالشَّأْنِ. (15) قولُهُ: ((تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ))
جملةٌ شرطيَّةٌ تَقْتَضِي تأَخُّرَ المشروطِ عن الشرطِ، فالإرادةُ سابقةٌ،
والكلامُ لاحقٌ، فيكونُ فيهِ ردٌّ عَلَى الأشاعرةِ الذينَ يَقُولونَ: إنَّ
اللهَ لا يَتَكَلَّمُ بإرادةٍ، وأنَّ كَلامَهُ أَزَلِيٌّ كالسَّمْعِ
والبَصَرِ، ففيهِ إثباتُ الكلامِ الحادِثِ، ولا يَنْقُصُ كمالُ اللهِ إذا
قُلْنا: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ، كيفَ شاءَ، مَتَى شاءَ. بلْ هوَ صفةُ كمالٍ، لكنَّ النقصَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وصَوْتٍ، إنَّما الكلامُ معنًى قائمٌ بنفسِهِ. (16) قولُهُ: ((أَوْ قَالَ: رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ))
شَكٌّ مِن الرَّاوِي، وإنَّما تَأْخُذُ السَّماوَاتِ الرَّجْفَةُ أو
الرِّعْدَةُ؛ لأنَّهُ سُبحانَهُ عظيمٌ يَخَافُهُ كُلُّ شَيْءٍ، حَتَّى
السَّماواتُ. (17) قولُهُ: ((فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صُعِقُوا وَخَرُّوا للهِ سُجَّدًا)) فإنْ قيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُصْعَقُوا وَيَخِرُّوا سُجَّدًا؟ فالجوابُ: أنَّ الصَّعْقَ هنا -واللهُ أعْلَمُ- يكونُ قبلَ السجودِ، فإذا أَفَاقُوا سَجَدُوا. (18) قولُهُ: ((فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ)). (( (19) قولُهُ: ((بِمَا أَرَادَ)) أيْ: بِمَا شَاءَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئةٍ. (20) قولُهُ: ((ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ)) لأنَّهُ يُرِيدُ النُّزُولَ مِنْ عندِ اللهِ إلى حيثُ أَمَرَهُ اللهُ أنْ يَنْتَهِيَ إليهِ بالوَحْيِ. (21) قولُهُ: ((قَالَ الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))
سَبَقَ في تَفْسِيرِ ذلكَ: أنَّهُ يَحْتَمِلُ قالَ الحقَّ في هذهِ
القَضِيَّةِ المُعَيَّنَةِ، أوْ قالَ الحقَّ؛ لأنَّ مِنْ عَادَتِهِ
سبحانَهُ ألاَّ يقولَ إلاَّ الحقَّ. والأمينُ: هوَ الذي لاَ يَبُوحُ بالسِّـرِّ. (22) قولُهُ: ((فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ)) أيْ: قالَ الحقَّ وهوَ العليُّ الكبيرُ. (23) قولُهُ: ((فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ)) أيْ: يَصِلُ بالوحيِ إلى حَيْثُ أمرَ اللهُ مِن الأنبياءِ والرُّسلِ. (24) فيهِ مسائلُ: الأُولَى: (تفسيرُ الآيَةِ) أيْ: قولِهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآيَةَ، وقَدْ سَبَقَ تفسيرُها. (25) الثانيَةُ: (ما فيهِ مِن الحُجَّةِ عَلَى إبطالِ الشركِ)
وذلكَ أنَّ الملائكةَ وهُمْ مَنْ هُم في القوَّةِ والعظمةِ يُصْعَقُونَ
ويَفْزَعُونَ مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ، فكيفَ بالأصنامِ التي تُعْبَدُ مِنْ
دونِ اللهِ، وهيَ أقلُّ منهم بكثيرٍ، فكيفَ يتعلَّقُ الإنسانُ بها؟! ولذلكَ قيلَ: إنَّ هذِهِ الآيَةَ هيَ التي تَقْطَعُ عُرُوقَ الشركِ
مِن القلبِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا عَرَفَ عَظَمَةَ الرَّبِّ سبحانَهُ حيثُ
تَرْتَجِفُ السماواتُ ويُصْعَقُ أهلُهَا بمجرَّدِ تَكَلُّمِهِ بالوحيِ،
فكيفَ يُمْكِنُ للإنسانِ أنْ يُشْرِكَ باللهِ شيئًا مخلوقًا رُبَّمَا
يَصْنَعُهُ بيدِهِ؟! (26) الثالثةُ: (تفسيرُ قولِهِ: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}) وسَبَقَ تفسيرُها. (27) الرابعةُ: (سببُ سُؤَالِهم عنْ ذلكَ). (28) الخامسةُ: (أنَّ جِبْرِيلَ يُجِيبُهُم بعدَ ذلكَ بقولِهِ: قَالَ كذا وكذا) أيْ: يقولُ: قالَ الحقَّ. (29) السادسةُ: (ذُكِرَ أنَّ أوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأْسَهُ جبريلُ) لحديثِ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعانَ. وفيهِ: فضيلةُ جبريلَ. (30) السابعةُ: (أنَّهُ يقولُ لأهلِ السماواتِ كُلِّهِم) لأنَّهم يَسْأَلُونَهُ، وفي هذا دليلٌ عَلَى عَظَمَتِهِ بيْنَهم. (31) الثامنةُ: (أنَّ الغَشْيَ يَعُمُّ أهلَ السماواتِ كُلَّهَم) تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: ((فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صُعِقُوا وَخَرُّوا للهِ سُجَّدًا)). (32) التاسعةُ: (ارْتِجَافُ السَّماواتِ لكلامِ اللهِ) لقولِهِ: ((أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ)) أيْ: لأجْلِهِ؛ تعظيمًا للهِ. (33) العاشرةُ: (أنَّ جبريلَ هوَ الذِي يَنْتَهِي بالوحيِ إلى حيثُ أمرَهُ اللهُ) أيْ: لا أحدَ يَتَوَلَّى إِيصَالَ الوحيِ بعدَ جبريلَ حتَّى يُوصِلَهُ إلى حيثُ أَمَرَهُ بهِ؛ لأنَّهُ الأمينُ عَلَى الوحيِ. (34) الحاديَةَ عشرةَ: (ذكْرُ استراقِ الشياطينِ) أي: الذينَ يَسْتَرِقُونَ ما يُسْمَعُ في السماواتِ فَيُلْقُونَهُ على الكُهَّانِ، فَيَزِيدُ فيهِ الكُهَّانُ ويَنْقُصُونَ. (35) الثانيَةَ عشرَةَ: (صفةُ رُكُوبِ بعضهِم بعضًا) وصفَها سفيانُ رَحِمَهُ اللهُ بأنْ حَرَّفَ يَدَهُ وَبَدَّدَ بينَ أصابعِهِ. (36) الثالثةَ عشرَةَ: (إرسالُ الشُّهُبِ) يعني التي تُحْرِقُ مُسْتَرِقِي السَّمعِ، قالَ تعالى: {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}. (37) الرابعةَ عشرةَ: (أنَّهُ تَارَةً يُدْرِكُهُ الشِّهَابُ قبلَ أنْ يُلْقِيَهَا) وتارةً يُلْقِيهَا في أُذُنِ وَلِيِّهِ مِن الإنْسِ قبلَ أنْ يُدْرِكَهُ. (38) الخامسةَ عشرةَ: (كونُ الكاهنِ يصدُقُ بعضَ الأحيانِ) لأنَّهُ يأتي بما سَمِعَ مِن السَّماءِ ويزيدُ عليهِ، وإذا وقعَ ما في السَّماءِ صارَ صادقًا. فإن قيل: كيفَ يسمعُ المسترقونَ الكلمَةَ وعندَما يَسْأَلُ الملائكةُ جبريلَ يُجابونَ بِـ((قَالَ الْحَقَّ)) فقطْ؟ فالجوابُ: أنَّ الوحيَ لا يعلمُهُ أهلُ السماءِ، بلْ هوَ من اللهِ إلى جبريلَ إلى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. (39) السادسةَ عشرةَ: (كَوْنُهُ يَكْذِبُ معها مائةَ كَذْبَةٍ) أيْ: يَكْذِبُ مَعَ الكلمةِ التي تلقَّاها مِن المُسْتَرِقِ، وقولُهُ: ((مِائَةَ كَذْبَةٍ)) هذا على سبيلِ المبالغةِ ليسَ على سبيلِ التَّحديدِ. (40) السابعةَ عشرةَ: (أنَّهُ لمْ يَصْدُقْ إلاَّ بتلكَ الكلمةِ التي سُمِعَتْ مِن السماءِ)
وأمَّا ما قالَهُ مِنْ عِنْدِهِ فهوَ تخرُّصٌ، فالكلمةُ التي سَمِعَها
تَصْدُقُ، والذي يُضِيفُهُ كُلُّهُ كذِبٌ يُمَوِّهُ بهِ على الناسِ. (41) الثامنةَ عشرةَ: (قبولُ النفوسِ للباطلِ) كيفَ يَتَعَلَّقُونَ بواحدةٍ ولا يَعْتَبِرونَ بِمِائَةٍ؟! (42) التاسعةَ عشرةَ: (كونُهم يَتَلَقَّى بعضُهم مِنْ بعضٍ تلكَ الكلمَةَ ويَحْفَظُونَها...) إلخ. الكلمةُ: هيَ الصِّدْقُ؛ لأنَّها هيَ التي تُرَوِّجُ بضاعتَهم، ولوْ كانتْ بضاعتُهُم كُلُّها كَذِبًا ما راجَتْ بينَ الناسِ. (43) العشرونَ: (إثباتُ الصفاتِ) خلافًا للأَشْعَرِيَّةِ المُعَطِّلَةِ. (44) الحاديَةُ والعشرونَ: (التصريحُ بأنَّ تلكَ الرَّجْفَةَ والغَشْيَ خَوْفًا مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، فيدُلُّ على عظمةِ الخالقِ جلَّ وعَلاَ) حيثُ بلَغَ خَوْفُ الملائكةِ منهُ هذا المبلَغَ. (45) الثانيَةُ والعشرونَ: (أنَّهم يَخِرُّونَ للهِ سُجَّدًا) أيْ: تعظيمًا للهِ واتِّقَاءً لِمَا يَخْشَوْنَهُ، فتُفِيدُ تعظيمَ اللهِ عزَّ وجلَّ كَالَّتِي قَبْلَها.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله في (شرح التوحيد) ص265:
ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة، ولا يساويهم في صفة من صفاتهم).
والمعْنَى: جَاوَزَ الفَزَعُ قُلُوبَهُم؛ أيْ: أُزِيلَ الفَزَعُ عنْ قُلُوبِهِم.
وقولُهُ: {عَنْ قُلُوبِهِمْ} أيْ: قُلُوبِ المَلاَئكةِ؛ لأنَّ الضميرَ يَعودُ عليهم؛ بدليلِ ما سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرةَ، وَلاَ أَحَدَ مِن الخَلْقِ أَعْلَمَ بتَفْسيرِ القرآنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. قال ابن عطية: (وهذا الذي تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة).
وقال ابن كثير:(هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، وتظاهرت عليه الأحاديث والآثار)
قولُهُ: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} جَوابُ الشَّرْطِ.
والمعنَى: قالَ بعضُهم لبعضٍ.
وإنَّما قُلْنا ذلكَ؛ لأنَّ في الكلامِ قائلاً ومَقُولاً لهُ، فلوْ جَعَلْنا الضميرَ في {قَالُوا} عَائدًا عَلَى الجَمِيعِ، فأينَ المقولُ لهُ؟
والمعنَى: أيُّ شيءٍ قالَ رَبُّكم؟
وقولُهُ: {قَالُوا الْحَقَّ} أيْ: قالَ المَسْئُولُونَ.
و{الحقَّ} صِفَةٌ لمصدرٍ مَحْذُوفٍ مَعَ عامِلِهِ، والتقديرُ: قالَ القولَ الحقَّ.
والمعنى: أنَّ اللهَ سُبْحانَهُ قالَ القولَ الحقَّ؛ لأنَّهُ سُبْحانَهُ
هوَ الحقُّ، ولا يَصْدُرُ عنهُ إلاَّ الحقُّ، ولا يقولُ ولا يَفْعَلُ إلاَّ
الحقَّ.
ولا يُفْهَمُ منْ قولِهِ: {قَالُوا الْحَقَّ} أنَّهُ قدْ يكونُ قولُهُ باطلاً، بلْ هوَ بيانٌ للواقعِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي: العَلِيُّ في ذاتِهِ وصفاتِهِ.
قولُهُ: ((خُضْعَانًا)) أيْ: خُضُوعًا لِقَوْلِهِ.
والمعنَى: أنَّ هذا الصوتَ يَبْلُغُ مِنْهم كُلَّ مَبْلَغٍ.
قولُهُ: {قَالُوا} أيْ: قالَ بعضُهُم لبعضٍ.
قولُهُ: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} أيْ: قالُوا: قالَ الحقَّ؛ أيْ: قالَ القولَ الحقَّ، فالحقُّ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ معَ عاملِهِ، تقديرُهُ: قالَ القولَ الحقَّ.
وهذا القولُ الذِي يَقُولُونَهُ هلْ هُمْ يَقُولُونَهُ لأنَّهم سَمِعُوا ما
قالَ وعَلِمُوا أنَّهُ حقٌّ، أوْ أنَّهم كانُوا يَعْلَمُونَ أنَّهُ لا
يَقُولُ إلاَّ الحقَّ؟
وهذا الحديثُ مُطَابِقٌ للآيَةِ تمامًا.
وعَلَى هذا يَجِبُ أنْ يَكُونَ هذا تفسيرَ الآيَةِ، ولا يُقْبَلُ لأَيِّ
قَائلٍ أنْ يُفَسِّرَها بغيرِهِ؛ لأنَّ تَفْسِيرَ القرآنِ إذا كانَ
بالقرآنِ أو السُّنَّةِ فإنَّهُ نَصٌّ لاَ يُمْكنُ لأحدٍ أنْ
يَتَجَاوَزَهُ.
و((مُسْتَرِقُ)) مُفْرَدٌ مضافٌ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ المُسْتَرِقينَ.
وتأمَّلْ كلمةَ: (يَسْتَرِقُ) ففيها دليلٌ عَلَى أنَّهُ يُبادِرُ فيَخْتَلِسُها اخْتِلاَسًا بِسُرْعَةٍ.
ويُؤيِّدُهُ قولُهُ: {إلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}.
و((مَن)) اسمٌ مَوْصولٌ، وقولُهُ: ((تَحْتَهُ)) شِبْهُ جُمْلَةٍ صلةُ الموصولِ؛ لأنَّهُ ظَرْفٌ.
والسَّحَرةُ قَدْ يكونُ لَهُمْ مِن الْجِنِّ مَنْ يَسْتَرِقُ لَهُم السَّمْعَ.
قالَ العلماءُ في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} أيْ: جَعَلْنا شِهَابَهَا الذي يَنْطَلِقُ منها. فهذا مِنْ بابِ عَوْدِ الضميرِ إلى الجُزْءِ لا إلى الكُلِّ.
أمَّا النَّجْمُ فَلَوْ وَصَلَ إلى الأرضِ لأَحْرَقَها.
واخْتَلَفَ العلماءُ، هل المُسْتَرِقُونَ انقَطَعُوا عن الاسْتِرَاقِ
بَعْدَ بَعْثَةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى الأبدِ، أو
انْقَطَعُوا في وَقْتِهِ فقطْ؟
أو المُرَادُ المبالغةُ؛ أيْ: أنَّهُ يَكْذِبُ مَعَها كَذَبَاتٍ كثيرةً؟
إلاَّ أنَّهُ قدْ رَوَى مُسْلِمٌ وأحمدُ مِنْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ حديثًا
قدْ يكونُ شَاهِدًا لهُ؛ حيثُ أَخْبَرَ أنَّ اللهَ إذا تَكَلَّمَ بالوحيِ
سَمِعَهُ حملةُ العرشِ فسبَّحُوا، ثمَّ سَمِعَهُ أهلُ كلِّ سماءٍ
فيُسَبِّحُونَ كَمَا سَبَّحَ أهلُ السماءِ السابعةِ، حَتَّى يَصِلَ إلى
السماءِ الدُّنيا فَتَخْطَفُهُ الجنُّ أو الشياطينُ.
وهذَا وإنْ لَمْ يَكُنْ فيهِ ذِكْرُ رَجْفَةِ السَّماءِ أو السجودِ، لكنْ يَدُلُّ عَلَى أنَّ لهُ أصلاً.
وأيًّا كانَ فإنَّ جبريلَ لا يُخْبِرُ الملائكةَ بِمَا أَوْحَى اللهُ إليهِ، بَلْ يَقُولُ: قَالَ الحقَّ مُبْهَمًا؛ ولهذا سُمِّيَ عليهِ السلامُ بالأَمِينِ.
قولُهُ: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) تَقَدَّمَ الكلامُ عليهِ.
حتَّى كانَ جُهَّالُ العربِ يَصْنَعُونَ آلهةً مِن التَّمْرِ إذا جاعَ
أحَدُهُم أَكَلَها، ويَنْزِلُ أحدُهم بالوادِي فيأخذُ أربعةَ أحجارٍ؛
ثلاثةً يجعلُها تحتَ القِدْرِ، والرابعُ وهوَ أحسنُها يجعلهُ إلهًا لهُ!
فالسُّؤَالُ: ماذا قالَ ربُّكم؟
وسببُهُ شدَّةُ خوفِهم منهُ وفزعُهم خوفًا منْ أنْ يكونَ قدْ قالَ فيهم ما لا يُطِيقُونَهُ مِن التَّعْذِيبِ.
أمَّا الأمورُ القدرِيَّةُ التي يتَكَلَّمُ اللهُ بها فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بـجبريلَ، بلْ رُبَّما يعْلَمُها أهلُ السماءِ مُفَصَّلةً، ثمَّ يَسْمَعُها مُسْتَرِقُو السمعِ.
وهذا صحيحٌ، وليسَ صفةً عامَّةً لعامَّةِ الناسِ، بلْ لأهلِ الجهلِ
والسَّفَهِ، فهم يتعلَّقونَ بالكاهنِ مِنْ أجلِ صِدْقِهِ مرَّةً واحدةً، وأمَّا مِائَةُ كَذْبَةٍ فلاَ يَعْتَبِرونَ بِها، ولا شَكَّ أنَّ بعضَ السُّفهاءِ يَغْتَرُّونَ بالصالحِ المغمورِ بالمفاسدِ، ولكنْ لا يَغْتَرُّ بهِ أهلُ العقلِ والإيمانِ.
الأشْعَريَّةُ هُم الذينَ يَنْتَسِبونَ إلى أَبِي الحَسَنِ الأشعريِّ.
وسُمُّوا مُعَطِّلَةً؛ لأنَّهم يُعَطِّلونَ النصوصَ عَن المَعْنَى المرادِ بِها، ويُعَطِّلونَ ما وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ.
والمرادُ تَعْطِيلُ أكثرِ ذلكَ؛ فإنَّهم يُعطِّلونَ أكثرَ الصَّفاتِ، ولا يُعَطِّلونَ جَمِيعَها.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا الباب -كما ذكرنا بالأمس- مناسبته لكتاب التوحيد: أن فيه برهاناً على أنَّ المستحق للعبادة هو الله جل جلاله، ذلك أنه هو المتصف بصفات الكمال والجلال. وهذا الباب فيه ذكر لصفة أو لصفات الجلال لله جل وعلا، والله سبحانه كل مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض، خائف منه، وَجِلٌ منه في الحقيقة، إذ هو الجليل سبحانه، ولذلك كان الأعرف به في السماء الملائكة، فإن الملائكة: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}. - وقال -جل وعلا- في وصفهم أيضاً: {وهم من خشيته مشفقون}. فصفات الجلال لله -جل وعلا- صفات الكمال له سبحانه، وصفات الجمال له سبحانه: هذه كلها دلائل على أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، فمَن المتصف بالعظمة على كمالها؟
من الذي يكون كل ما في السماوات وما في الأرض على وفق أمره؟ هو الله جل وعلا، إذاً: هو -جل وعلا- ذو الأسماء الحُسنى، وذو الصفات العُلا.
ولهذا قال -جل وعلا- في آية سبأ:{حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم، قالوا الحق وهو العليُّ الكبير}{فُزّع} يعني: أُزيل الفزع عن قلوب الملائكة؛ فالملائكة مع أنهم مقربون؛ إلا أنهم:
- شديدوا المعرفة بالله جل وعلا.
- شديدوا العلم به.
- عظيمٌ علمهم بالرب جلا وعلا. ومما يعلمونه عن الله -جل وعلا- أنه هو
الجبار، وأنه هو الجليل سبحانه، وأنه ذو الملكوت؛ فلهذا يشتدُّ فزعهم منه
سبحانه؛ لأنه لا غنى بهم عنه -جل وعلا- طرفة عين، والصفات التي فيها هذا
البرهان: هي صفات الجلال لله جل وعلا، وصفات الجلال: هي الصفات التي تُورث الخوف في القلب. الصفات تنقسم إلى أقسام متنوعة باعتبارات: - صفات جلال.
ومن تقسيمات الصفات: أنها تنقسم إلى:
- وصفات جمال.
فالصفات التي تُحدث
في القلب الخوف، والهلع، والرهبة من الرب جل وعلا: هذه تسمى صفات الجلال؛ والذي يتّصف بصفات الجلال على الحقيقة هو الله جل وعلا؛ لأنه هو الكامل في صفاته سبحانه؛ فإذا كان كذلك، كان الكامل في صفاته هو المستحق للعبادة.
- وأما البشر، أما المخلوقون: فإنهم ناقصون في صفاتهم، يعلمون أن حياتهم ليست حياةً كاملة؛ وإنما هي حياة:
- إذا عرض لها أيُّ عارضٍ، صار المخلوق مَيْتاً.
- وإذا عرض له أي عارض، صار مريضاً.
- إذا عرض له أي عارض، صار ضعيفاً، لا يستطيع أن يعمل شيئاً؛ فهم ضعاف، فقراء، محتاجون؛ ليست لهم صفات الكمال. وهذا دليل نقصهم، ودليل عجزهم، ودليل أنهم مقهورون مربوبون؛ فيجب أن يتوجه العباد إلى من له صفات الكمال، ونعُوت الجلال والجمال؛ وهو الله -جل وعلا- وحده سبحانه وتعالى.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ قولِ اللهِ تَعالَى: {حَتَّى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم قَالوا ماذا قَالَ ربَّكم قالوا الحقَّ وهو العليُّ الكبير}
وعن النَّوَّاسِ بنِ سمعانَ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أنْ يُوحِيَ بالأَمْرِ تَكَلَّمَ بِالوَحْيِ …)) الحديثَ.
أخرجَهُ ابنُ خزيمةُ، وابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ الأعرابيِّ، والآجريُّ، وابنُ أبي عاصمٍ، والبغويُّ، وابنُ جريرٍ، والبيهقيُّ، وأبو نعيمٍ. من طريقِ نعيمِ بنِ حمَّادٍ ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي زكريَّا عن رجاء بنِ حيوةَ عن النَّوَّاسِ بنِ سمعانَ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - بهِ. وقدْ أُعِلَّ بعلَّتينِ: 1- ضعفُ نعيمِ بنِ حمَّادٍ. وقالَ ابنُ أبي حاتمٍ: سمعْتُ أبي يقولُ:(ليسَ هذا الحديثُ بالتَّامِّ عن الوليدِ بنِ مسلمٍ رحمَهُ اللهُ) اهـ.
ويحيى بن عثمان هو ابن صالح السهمي المصري -تقدم قول الهيثمي فيه أنه تكلم فيه من لم يسم بغير قادح- وقال الحافظ في (التقريب): صدوق لينه بعضهم.
وقالَ الذَّهبيُّ: (وقالَ أبو زرعةَ الدِّمشقيُّ: عرضْتُ على دحيمٍ حديثاً حدَّثناهُ نعيمُ بنَ حمَّادٍ عن الوليدِ بنِ مسلمٍ عن ابنِ رجاءٍ عن ابنِ أبي زكريَّا عن رجاءٍ بنِ حيوةَ عن النّوَّاسِ بنِ سمعانَ ((إذا تكلـَّمَ اللهُ بالوحيِ)) فقالَ دحيمٌ: لا أصلَ لَهُ) اهـ.
قلْتُ: إسنادُهُ ثقاتٌ غيرَ نعيمِ بنِ حمَّادٍ فقدْ اختلفَ فيه أهلُ العلمِ، فوثَّقَهُ بعضُهُمْ وضعَّفَهُ البعضُ الآخرُ، ولمَّا نقلَ الحافظُ ابنُ حجرٍ كلامَ النَّاسِ فيهِ قالَ: (وأمـَّا نعيمٌ فقدْ ثبتَتْ عدالتُهُ وصدقُهُ، ولكنْ في حديثِهِ أوهامٌ معروفةٌ، وقدْ قالَ فيهِ الدَّارَقطنيُّ: إمامٌ في السّنَّةِ كثيرُ الوهمِ.
وقالَ أبو أحمدَ الحاكمُ: ربَّمَا يخالِفُ في بعضِ حديثِهِ وقدْ مَضَى أنَّ ابنَ عديٍّ تتبَّعَ ما وَهِمَ فيهِ، فهذا فصلُ القولِ فيهِ) اهـ.
قلْتُ: وقولُ ابنِ عديٍّ فيهِ هذا نصُّهُ: (قدْ
أثنَى عليهِ قومٌ، وضعَّفَهُ قومٌ، وكانَ ممَّنْ يتصلَّبُ في السّنَّةِ..
وعامَّةُ ما أنكرَ عليهِ هو هذا الَّذِي ذكرْتُهُ، وأرجُو أنْ يكونَ باقي
حديثِهِ مستقيماً) اهـ باختصارٍ.
وهذا الحديثُ لم يذكرْهُ في عامَّةِ ما أنكرَ عليهِ، فدلَّ على أنَّهُ
مستقيمٌ، وممَّا يؤيِّدُ استقامتَهُ وصحَّتَهُ أنَّ إمامَ الأئمَّةِ ابنَ خزيمةَ استدلَّ
به على إثباتِ صفةِ تكلُّمِ اللهِ بالوحيِ وشدَّةِ خوفِ السَّماواتِ
منهُ.. الخ، في كتابِهِ التَّوحيدُ وإثباتُ صفةِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ.
وقد ذكرَ في مقدِّمتِهِ أنَّهُ يصفُ اللهَ بما وصفَ بهِ نفسَهُ في محكمِ
التَّنزيلِ، وبما صحَّ، وثبَتَ عن نبيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بالأسانيدِ الثَّابتةِ الصَّحيحةِ بنقلِ أهلِ العدالةِ موصولاً
إليهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اهـ.
وقالَ الهيثميُّ: (رواهُ الطَّبرانيُّ عن شيخِهِ يحيى بنِ عثمانَ بنِ صالحٍ وقد وُثِّقَ، وتكلَّمَ فيهِ من لم يُسَمَّ بغيرِ قادحٍ معيَّنٍ، وبقيَّةُ رجالِهِ ثقاتٌ) اهـ.
واستدلَّ به الحافظُ في (الفتحِ) وسكتَ عنهُ ولو كانَ ضعيفاً عندَهُ ما سكَتَ عليهِ.
وأمَّا تدليسُ الوليدِ بنِ مسلمٍ فيُجَابُ عنه بأنَّهُ قد صرَّحَ بالتَّحديثِ عندَ أبي نعيمٍ، وهذا لفظُهُ.
قالَ أبو نعيمٍ: حدَّثَنَا سليمانُ بنُ أحمدَ ثنَا يحيى بنُ عثمانَ وبكرُ بنُ سهلٍ، قالا: ثنَا نعيمُ بنُ حمَّادٍ، قالَ: ثنَا الوليدُ بن مسلم ثنا عبد الرحمن بن أبي يزيد بن جابر... إلى آخر السند.
وقرينه بكر بن سهل الدمياطي.
قال الذهبي في (المغني): (متوسط وضعَّفهُ النَّسائيُّ).
وبهذا اتضح أن السند حسنٌ، والله أعلم.
والحديث أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود مختصراً، فقال: حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، وعليٌّ بن الحسين بن إبراهيم وعلي بن مسلم، قالوا: حدثنا معاوية، جدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا
تَكَلَّمَ اللهُ بالوحيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّماءِ صلصلةً كجرِّ السلسلةِ
على الصَّفا، فيُصْعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريلُ، حتى إذا جاءهم
جبريل فزَّع عن قلوبهم.
قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟
فيقول: الحقُّ، فيقولون: الحقّ، الحقّ))وإسناده صحيح رجاله ثقات. مسلم هو ابن صبيح أبو الضحى.
العناصر
مناسبة الباب (حتى إذا فزع ...) لكتاب التوحيد
مناسبة قول الله تعالى: (حتى إذا فزع..) للتوحيد
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) الآية
- معنى قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم)، ومن المراد به
- مرجع الضمير في قوله: (قالوا ماذا قال..)، وإعراب (ماذا)، وبيان معنى الآية
- الفائدة من الاستفهام في قوله: (ماذا قال ربكم) مع أن الله سبحانه لا يقول إلا الحق
- معنى قوله: (قالوا الحق)، وبيان معنى (الحق) في الكلام
- السبب في قول الملائكة: (الحق ..)
- معنى العلي، والكبير في قوله: (وهو العلي الكبير)
- أقسام العلو، وبيان أنه لا ينافي المعية
شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (إذا قضى الله الأمر في السماء ...) الحديث
- معنى قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء)
- معنى قوله: (خضعانا)
- معنى (صفوان) في قوله: (كأنه سلسلة على صفوان)، ومعنى التشبيه
- معنى قوله: (ينفذهم ذلك)
- الكلام على استراق الجن السمع، وشرح ألفاظ الحديث المتعلقة بذلك
- هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة رسول الله إلى الأبد، أو إلى وفاته
- مسترقوا السمع لا يسمعون كلام ملائكة السماء الدنيا وإنما ملائكة السحاب
- هل يسمع المسترقون الوحي، أو الأمور القدرية؟
- ترجمة سفيان بن عيينة
- طرق التفسير
- ما هو الشهاب؟
- المراد بقوله: (مائة كذبة) التحديد أم المبالغة
- الذي يكذب إما الساحر أو الكاهن أو الجني المسترق للسمع
- جملة من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه
شرح حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر ...) الحديث
- الحكم على حديث النواس
- وذكر شاهد له
- ترجمة النواس بن سمعان
- صفات الله تعالى صفات جمال وجلال
- شرح قوله: (أخذت السماوات منه رجفة...) الحديث
- الرد على مذهب الأشاعرة في مسألة كلام الله بقوله: (تكلم بالوحي)
- معنى (جبريل)، و(ميكائيل)، و(إسرافيل)
شرح مسائل الباب.