الدروس
course cover
باب قول الله تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون * ولايستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

6024

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الرابع

باب قول الله تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون * ولايستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

6024

0

0


0

0

0

0

0

باب قول الله تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون * ولايستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون}


قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (14- بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ولا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأَعْرَاف:191،192]

وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُمْ وَيَومَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِركِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير}[فَاطِر:13،14].

وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (شُجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فَقَالَ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟)) فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عِمْرَان:28].

وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ مِنَ الْفَجْرِ: ((اللهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا))، بَعْدَ مَا يَقُولُ:((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عِمْرَان:28])).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَدْعُو عَلَىصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عِمْرَان:28])).

وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ((قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَ عَلَيهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشُّعَرَاء:214] فَقَالَ:((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ؛ لاَ أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَاعَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ -عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ الآيَتَيْنِ.

الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أُحُدٍ.

الثَّالِثَةُ: قُنُوتُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَلْفَهُ سَادَاتُ الأَوْلِيَاءِ يُؤَمِّنُونَ فِي الصَّلاَةِ.

الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِمْ كُفَّارٌ.

الْخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا أَشْيَاءَ مَا فَعَلَهَا غَالِبُ الْكُفَّارِ، مِنْهَا: شَجُّهُمْ نَبِيَّهُمْ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، وَمِنْهَا: التَّمْثِيلُ بِالْقَتْلَى مَعَ أَنَّهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ.

السَّادِسَةُ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.

السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فَتَابَ عَلَيْهِمْ فَآمَنُوا.

الثَّامِنَةُ: الْقُنُوتُ فِي النَّوَازِلِ.

التَّاسِعَةُ: تَسْمِيَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلاَةِ بَأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ.

الْعَاشِرَةُ: لَعْنُ الْمُعَيَّنِ فِي الْقُنُوتِ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قِصَّتُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: جِدُّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الأَمْرِ بِحَيْثُ فَعَلَ مَا نُسِبَ بِسَبَبِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَكَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ الآنَ.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ لِلأَبْعَدِ وَالأَقْرَبِ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا))، حَتَّى قَالَ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ.. لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا))

فَإِذَا صَرَّحَ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّهُ لاَ يُغْنِي شَيْئًا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَآمَنَ الإِنْسَانُ بِأَنَّهُ لاَ يَقُولُ إِلاَّ الْحَقَّ، ثُمَّ نَظَرَ فِيمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِ خَوَاصِّ النَّاسِ الْيَوْمَ، تَبَيَّنَ لَهُ تَرْكُ التَّوْحِيدِ وَغُرْبَةُ الدِّينِ.

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)

المُرادُ مِنْ هذهِ التَّرْجَمَةِ بيانُ حَالِ المَدْعُوِّينَ مِنْ دُونِ اللهِ أنَّهُم لا يَنْفَعُونَ ولا يَضُرُّونَ،

وسَواءٌ في ذلكَ الملائِكةُ، والأنبياءُ، والصَّالِحُونَ، والأصْنَام، فكلُّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللهِ فهذهِ حالُهُ، كمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (72) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحجّ:72،73].


ويكفيكَ في ذلكَ قولُهُ تعالى لأكْرَمِ الخلقِ:

{قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا (22) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (23) إِلاَّ بَلاَغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ}

[الجنّ:22-24].

- وقالَ: {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[ الأعْرَاف: 188].

وقالَ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَِنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا}[الفُرْقَان:3].


ومِن المَعْلُومِ أنَّهُم كانُوا قدْ عَبَدُوا الملائِكَةَ والأنبياءَ والصَّالِحينَ؛

ولهذا أخْبَرَ سُبْحَانَهُ وتعالى عن الملائِكَةِ أنَّهُم يَتَبَرَّءُونَ مِنهم يومَ القِيامَةِ، كمَا قالَ تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (41) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41،42].

إذا تَبيَّنَ ذلكَ؛ فحَاصِلُ كلامِ المُفَسِّرينَ عَلَى الآيَةِ المُتَرْجَمِ لها أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[الأعراف:191] تَوْبِيخٌ وتَعْنيفٌ للمُشْرِكينَ بأنَّهُم يَعْبُدونَ معَ اللهِ تعالى عِبادًا لا تَخْلُقُ شيئًا، ولَيْسَ فيها ما تَسْتَحِقُّ بهِ العِبادةَ مِن الخَلْقِ والرَّزْقِ والنَّصْرِ لأنفُسِهِم أوْ لِمَنْ عَبَدَهُم، وهمْ معَ ذلكَ مَخْلُوقُونَ مُحْدَثُونَ، ولهمْ خالِقٌ خلَقَهُم، وإنْ خَرَجَ الكلامُ مَخْرَجَ الاسْتِفهامِ، فالمُرادُ بهِ ما ذكرْنَاهُ.

وقولُهُ: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}[الأعراف:191]؛ أيْ: ويُشْرِكونَ بهِ، ويَعْبُدُونَ مَنْ هذهِ حَالُهُ لا يَسْتَطِيعُ نَصْرَ عَابِدِيهِ ولا نَصْرَ نَفْسِهِ بأنْ يَدْفَعَ عنْ نَفْسِهِ مَنْ أرادَ بِهِ الضُّرَّ، ومَنْ هذهِ حالُهُ فهوَ في غايَةِ العَجْزِ، فكيفَ يكونُ إلَهًا مَعْبُودًا؟! وجميعُ الأنبياءِ والملائِكَةِ والصَّالِحِينَ وغيرِهِم داخِلُونَ في هذهِ الأوْصَافِ، فلا يَقْدِرُ أحدٌ منهم أنْ يَخْلُقَ شيئًا، ولا يَسْتَطيعونَ لِمَنْ عبَدَهُم نَصْرًا، ولا يَنْصُرُونَ أنفُسَهُم. وإذا كانَ كذلِكَ بَطَلَتْ دَعْوَتُهُم مِنْ دونِ اللهِ.


(2)

حاصِلُ كلامِ المُفَسِّرينَ،

كابنِ كثيرٍ وغيرِهِ: أنَّهُ تعالى يُخْبِرُ عنْ حالِ المَدْعُوِّينَ مِنْ دُونِهِ مِن الملائِكَةِ، والأنبياءِ، والأصْنَامِ وغيرِهِم بما يَدُلُّ عَلَى عَجزِهِم وضَعْفِهِم، وأنَّهُم قد انْتَفَتْ عنهُم الشُّروطُ التي لا بُدَّ أن تَكُونَ في المَدْعُوِّ؛ وهيَ المُلْكُ، وسَمَاعُ الدُّعَاءِ، والقُدْرَةُ عَلَى اسْتِجَابَتِهِ.

فمتى عُدِمَ شَرْطٌ بَطَلَ أن يَكونَ مَدْعُوًّا، فكيفَ إذا عُدِمَتْ كُلُّها؟

فنَفَى عنهُم المُلْكَ بقولِهِ: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13].

قالَ: ابنُ عبَّاسٍ، ومُجَاهِدٌ، وعِكْرِمةُ، وعَطَاءٌ، والحَسَنُ، وقَتَادَةُ: القِطْمِيرُ: اللِّفَافَةُ التي تكونُ عَلَى نَوَاةِ التَّمْرِ؛ أيْ: ولا يَمْلِكُونَ من السَّمَاوات والأرضِ شيئًا، ولا بمقدارِ هذا القِطْمِيرِ، كمَا قالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}[النمل:72].

وقالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ}[سبأ:21].

فمَنْ كانَ هذا حَالَهُ فكيفَ يُدْعَى مِنْ دونِ اللهِ؟

ونَفَى عنهم سَمَاعَ الدُّعاءِ بقولِهِ: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}[فاطر:13]؛ يعني: أنَّ الآلِهَةَ التي تَدْعُونَهَا لا يَسْمَعُونَ دُعاءَكُم؛ لأنَّهُم أمْوَاتٌ، أوْ ملائِكَةٌ مَشْغُولونَ بأَحْوَالِهِم مُسَخَّرُونَ لِمَا خُلِقُوا لهُ، أوْ جَمَادٌ.

فلَعَلَّ المُشْرِكَ يقولُ: هذا في الأصنامِ، أمَّا الملائِكةُ والأنبياءُ والصَّالِحونَ فيَسْمَعُونَ ويَسْتَجِيبُونَ، فنفَى سبحانَهُ ذلكَ بقولِهِ: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}؛ أيْ: لا يَقْدِرُونَ عَلَى ما تَطْلُبُونَ مِنهم، وما خَصَّ تعالى الأصنامَ، بلْ عَمَّ جَمِيعَ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ، ومِن المعلُومِ أنَّهُم كانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ والأنبياءَ والصَّالِحِينَ، كمَا ذَكَرَ اللهُ تعالى ذلكَ في كتابِهِ، فلمْ يُرَخِّصْ في دُعَاءِ أحدٍ مِنهم، لا اسْتِقلالاً ولا وَساطةً بالشَّفاعةِ.

- وقولُهُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}[فاطر:14].

كقولِهِ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}[مريم:81،82].

وهذا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أنَّ مَنْ دَعَا غيرَ اللهِ فقدْ أشْرَكَ بِشَرْطِهِ، وأنَّ المَدْعُوِّينَ يَكْفُرونَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، ويَتَبَرَّءُونَ مِنهم، كقولِهِ تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166].


فهلْ عَلَى كلامِ ربِّ العِزَّةِ اسْتِدْراكٌ؟

ولهذا قالَ: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أيْ: ولاَ يُخْبِرُكَ بعَوَاقِبِ الأُمُورِ ومآلِهَا وما تَصِيرُ إليهِ مِثلُ خبيرٍ بِهَا.

قالَ قَتَادَةُ(يعني نفسَهُ تبارَكَ وتعالى؛ فإنَّهُ أخْبَرَ بالواقِعِ لا مَحَالَةَ).


(3)

قولُهُ: في (الصَّحيحِ) أي: (الصَّحيحيْنِ)، فعَلَّقَهُ البُخَارِيُّ، عنْ حُمَيْدٍ، وثَابتٍ، عنْ أنَسٍ، ووَصَلَهُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ، عنْ حُمَيدٍ، عنْ أنَسٍ بهِ.

وَوَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عنْ ثابتٍ، عنْ أَنَسٍ، وقالَ ابنُ إسحاقَ في (المَغَازِي): (حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّويلُ، عنْ أنَسٍ قالَ: (كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ وَهُوَ يَقُولُ:((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟))فأَنْزَلَ اللهُ الآيَةَ.

قولُهُ: (شُجَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قالَ أبو السَّعَاداتِ: (الشَّجُّ في الرَّأسِ خَاصَّةً في الأصْلِ، وهوَ أنْ يَضْرِبَهُ بشيءٍ فيَجْرَحَهُ فيهِ ويَشُقَّهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في غيرِهِ من الأعضاءِ).

وذكَرَ ابنُ هشامٍ، منْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ(أنَّ عُتْبَةَ بنَ أبي وَقَّاصٍ هُوَ الَّذي كَسَرَ رَبَاعِيَةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّفْلَى، وجَرَحَ شَفَتَهُ السُّفْلَى، وأنَّ عبدَ اللهِ بنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ هوَ الَّذي شَجَّهُ في جَبْهَتِهِ، وأنَّ عبدَ اللهِ بنَ قَمِئَةَ جَرَحَهُ في وَجْنَتِهِ، فدَخلَتْ حَلْقَتَانِ منْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ في وَجْنَتِهِ، وأنَّ مالِكَ بنَ سِنَانٍ مَصَّ الدَّمَ مِنْ وَجْهِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ، فقالَ لَهُ: ((لَنْ تَمَسَّكَ النَّارُ)).

ورَوَى الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ أبي أُمَامَةَ قالَ: (رَمَى عبدُ اللهِ بنُ قَمِئَةَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أُحُدٍ، فشَجَّهُ في وَجْهِهِ، وكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ، فقالَ: خُذْهَا وأنا ابنُ قَمِئَةَ، فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا لَكَ أَقْمَأَكَ اللهُ؟)) فسَلَّطَ اللهُ عليهِ تَيْسَ جَبَلٍ، فلمْ يَزَلْ يَنْطَحُهُ حتَّى قطَّعَهُ قِطْعَةً قِطْعَةً).

قالَ القُرْطُبِيُّ(والرَّبَاعِيَةُ بفَتْحِ الرَّاءِ وتَخْفِيفِ اليَاءِ، وهيَ كُلُّ سِنٍّ بعدَ ثَنِيَّةٍ).

قالَ النَّوَوِيُّ(وللإنسانِ أَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ).

قالَ الحافِظُ: (والمُرادُ أنَّهَا كُسِرتْ فذهبَتْ مِنها فِلْقَةٌ ولَمْ تُقْلَعْ منْ أصلِهَا).

قُلْتُ: فظَهَرَ بِهَذا أنَّ قَوْلَ بعضِهِم: إنَّهُ شُجَّ في رأسِهِ، فيهِ نَظَرٌ.

قالَ النَّوَوِيُّ(وفي هذا وُقُوعُ الأَسْقَامِ والابْتِلاءِ بالأنْبِياءِ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم؛ لِينالُوا جَزِيلَ الأَجْرِ والثَّوَابِ، ولِتَعْرِفَ أُمَمُهُم وغيرُهُم ما أصابَهُم، ويَتَأَسَّوْا بِهِم).

قالَ القُرْطُبِيُّ(ولِيُعْلَمَ أنَّهُم مِن البَشَرِ تُصِيبُهُم مِحَنُ الدُّنيا، ويَطْرأُ عَلَى أجْسَامِهِم ما يَطْرأُ عَلَى أَجْسَامِ البَشَرِ؛ ليَتَيَقَّنوا أنَّهُم مَخْلُوقونَ مَربُوبونَ، ولا يُفْتَتَنَ بما ظَهَرَ عَلَى أيديهم من المُعْجِزاتِ، ويُلَبِّسَ الشَّيطانُ منْ أمْرِهِم ما لَبَّسَهُ عَلَى النَّصارَى وغيرِهِم).

قولُهُ: (يومَ أُحُدٍ) جَبَلٌ مَعْرُوفٌ إلى الآنَ، كانَتْ عندَهُ الواقِعَةُ المَشْهورةُ فأُضِيفَتْ إليهِ.

قولُهُ: (فقالَ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟))) زادَ مسلمٌ منْ طريقِ ثابتٍ عنْ أنَسٍ((وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَأَدْمَوْا وَجْهَهُ)).

قولُهُ: (فأنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}).

قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحِقَهُ في تلكَ الحَالِ يَأْسٌ مِنْ فلاحِ كُفَّارِ قريشٍ، فمَالَتْ نفْسُهُ إلى أنْ يَسْتَأْصِلَهُم اللهُ ويُرِيحَ مِنهم.

فقيلَ لَهُ بسَبَبِ ذلكَ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}أيْ: عَواقِبُ الأُمُورِ بِيَدِ اللهِ؛ فامْضِ أنتَ لشأْنِكَ، ودُمْ عَلَى الدُّعاءِ لربِّكَ).

وقالَ غيرُهُ: (المعنَى أنَّ اللهَ تعالَى مالِكُ أمرِهِم، فإمَّا أنْ يُهْلِكَهُم أوْ يَكْبِتَهُم، أوْ يتوبَ عليهِم إنْ أسْلَمُوا، أوْ يُعَذِّبَهم إنْ أَصَرُّوا، وليسَ لكَ منْ أمْرِهِم شيءٌ، وإنَّمَا أنتَ عبدٌ مأمورٌ بإِنْذَارِهِم وجِهَادِهِم).

فَعَلَى هذا يكونُ قولُهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} اعْتِراضًا بينَ المَعْطُوفِ والمعطوفِ عليهِ.

وقالَ ابنُ إسحاقَ: (أيْ: ليسَ لكَ من الحُكْمِ بشيءٍ في عِبادِي إلاَّ ما أَمَرْتُكَ بِهِ فيهِمْ).


(4)

قولُهُ: (وفيهِ) أيْ: في (الصَّحيحِ)، والمُرادُ بهِ: (صحيحُ البُخَارِيِّ) ورَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

قولُهُ: (عن ابنِ عُمَرَ) هوَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، صَحَابِيٌّ جلِيلٌ، مِنْ عُبَّادِ الصَّحَابَةِ، شَهِدَ لَهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالصَّلاحِ، ماتَ سَنَةَ ثلاثٍ وسبعينَ في آخِرِهَا، أوْ أوَّلِ التي تَلِيها.

قولُهُ: (أنَّهُ سَمِعَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلى آخِرِهِ، هذا القُنُوتُ عَلَى هؤلاءِ هوَ بَعْدَمَا شُجَّ وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يومَ أُحُدٍ.

قولُهُ: (اللهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا) قالَ أبو السَّعاداتِ(أصلُ اللَّعْنِ الطَّرْدُ والإبعادُ مِن اللهِ، ومِن الخَلْقِ السَّبُّ والدُّعاءُ).


قُلْتُ:

الظَّاهِرُ أنَّهُ مِن الخَلْقِ طَلَبُ طَرْدِ المَلْعُونِ وإِبْعَادِهِ مِن اللهِ بلَفْظِ اللَّعْنِ، لا مُطْلَقُ السَّبِّ والشَّتمِ.

قولُهُ: (فُلاَنًا وَفُلاَنًا) يعني صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلَ بنَ عَمْرٍو، والحارِثَ بنَ هِشَامٍ، كمَا بَيَّنَهُ في الرِّوَايَةِ التي بعدَهَا.


وفيهِ:

جَوازُ الدُّعَاءِ عَلَى المُشْرِكِينَ في الصَّلاةِ،

وتَسْمِيَةِ المَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ ولَهُمْ بأسمائِهِم في الصَّلاةِ، وأنَّ ذلكَ لا يَضُرُّ الصَّلاةَ.

قولُهُ: (بَعْدَمَا يقولُ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ))) قالَ أبو السَّعاداتِ؛ أيْ: (أَجَابَ حَمْدَهُ وتَقَبَّلَهُ).

وقالَ السُّهَيْلِيُّ(مفعولُ ((سَمِعَ)) مَحذوفٌ؛ لأنَّ السَّمْعَ مُتَعَلِّقٌ بالأقوالِ والأصواتِ دونَ غيرِهَا، فاللامُ تُؤْذِنُ بمعنًى زائِدٍ وهوَ الاسْتِجَابَةُ المُقَارِنَةُ للسَّمْعِ، فاجْتَمَعَ في الكلِمَةِ الإيجازُ والدِّلالةُ عَلَى الزَّائدِ، وهوَ الاسْتِجَابةُ لِمَنْ حمِدَهُ).

وقالَ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى ما معنَاهُ: (عَدَّى سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ باللامِ لتَضَمُّنِهِ معنى: اسْتَجَابَ لَهُ، ولا حَذْفَ هُنَاكَ، وإنَّما هوَ مُضْمَرٌ).

قولُهُ: (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) في بعْضِ رواياتِ البُخَارِيِّ بإِسْقَاطِ الواوِ.

قالَ النَّوَوِيُّ(لا تَرْجِيحَ لإحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى).

وقالَ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ: (كأنَّ إِثْبَاتَها دَالٌّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ؛ لأنَّهُ يكونُ التَّقديرُ مثلاً: ربَّنَا اسْتَجِبْ، ولَكَ الحمْدُ. فيَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ ومعنَى الخَبَرِ).

قالَ شيخُ الإسلامِ: (والحَمْدُ ضِدُّ الذَّمِّ، والحمْدُ يكونُ عَلَى مَحَاسِنِ المَحْمُودِ معَ المَحَبَّةِ لَهُ، كمَا أنَّ الذَّمَّ يكونُ عَلَى مسَاوِئِهِ معَ البُغْضِ لَهُ).

وكذا قالَ ابنُ القَيِّمِ، وفَرَّقَ بينَهُ وبينَ المَدْحِ بأنَّ الإِخْبَارَ عنْ مَحَاسِنِ الغَيْرِ، إمَّا أنْ يكونَ إِخْبَارًا مُجَرَّدًا عنْ حُبٍّ وإِرَادَةٍ، أوْ مَقْرُونًا بِحُبِّهِ وإِرَادَتِهِ، فإنْ كانَ الأوَّلَ فهوَ المَدْحُ، وإنْ كانَ الثَّانيَ فهوَ الحَمْدُ.

فالحَمْدُ إخبارٌ عنْ محاسنِ المحمودِ معَ حُبِّهِ وإجلالِهِ وتَعْظِيمِهِ؛ ولهذا كانَ خَبَرًا يَتَضَمَّنُ الإِنْشَاءَ، بِخِلافِ المَدْحِ؛ فإنَّهُ خَبَرٌ مُجَرَّدٌ.

فالقائِلُ إذا قالَ: (الحمدُ للهِ) وقالَ: (رَبَّنَا ولكَ الحمدُ) تَضَمَّنَ كلامُهُ الخبرَ عنْ كلِّ ما يُحْمَدُ عليهِ تعالى باسمٍ جامِعٍ مُحِيطٍ مُتَضَمِّنٍ لكلِّ فَرْدٍ منْ أفْرَادِ الجملةِ المُحَقَّقَةِ والمُقَدَّرَةِ، وذلكَ يَسْتَلْزِمُ إثباتَ كلِّ كمَالٍ يُحْمَدُ عليهِ الرَّبُّ تعالى.

ولهذا لا تَصْلُحُ هذهِ اللَّفْظَةُ عَلَى هذا الوجهِ ولا تَنْبَغِي إلاَّ لِمَنْ هذا شأنُهُ، وهوَ الحميدُ المَجِيدُ.


وفيهِ: التَّصريحُ بأنَّ الإمامَ يَجْمَعُ بينَ التَّسْمِيعِ والتَّحميدِ،

وهوَ قولُ الشَّافِعِيِّ وأحمدَ وأبي يُوسُفَ.

وخالَفَ في ذلكَ مالِكٌ وأبو حَنِيفَةَ فقالاَ: (يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ).

قولُهُ: (وفي روايَةٍ: يَدْعُو عَلَى صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو، والحارِثِ بنِ هِشَامٍ).

إنَّمَا دَعَا عليهمْ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنَّهُم رُؤَسَاءُ المُشْرِكينَ يومَ أُحُدٍ، والسَّبَبُ في تلكَ الأفاعيلِ التي جَرَتْ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُمْ وأبو سُفْيانَ.


ومعَ ذلكَ فما استُجِيبَ لهُ فيهِمْ،

بلْ أنْزَلَ اللهُ عليهِ: {ليس لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فتابَ اللهُ عليهم وآمَنُوا، معَ أنَّهُم فعَلُوا أشياءَ لمْ يَفْعَلْهَا أكْثَرُ الكُفَّارِ، منها غَزْوُهُم نبيَّهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بلادِهِ، وشَجُّهُم لهُ، وكَسْرُ رَبَاعِيتِهِ، وقَتْلُهُم بَنِي عَمِّهم المؤمنينَ، وقَتْلُهُم الأنْصَارَ، والتَّمْثِيلُ بقَتْلَى المسلمينَ، وإعلانُهُم بشِركِهِم وكُفْرِهِم.


ومعَ هذا كلِّهِ لم يَقْدِر النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَدْفَعَهُم عنْ نفسِهِ،

ولا عنْ أصحابِهِ، كمَا قالَ تعالى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (21) إِلاَّ بَلاَغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ}[الجنّ:20-22].


بلْ لَجَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ربِّهِ المالكِ القادِرِ عَلَى النَّفْعِ والضَّرِّ وإهلاكِهِم،

ودعا عليهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصَّلاةِ المكتوبةِ جَهْرًا، وخَلْفَهُ ساداتُ الأولياءِ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ.

ومعَ هذا كلِّهِ ما اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ فيهم، بلْ تابَ عليهِمْ وآمَنُوا، فَلَوْ كانَ عندَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النَّفْعِ والضَّرِّ شيءٌ لكانَ يَفْعَلُ بِهِم ما يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى هذهِ الأفعَالِ العَظِيمَةِ، ولكنَّ الأَمْرَ كمَا قالَ تعالى: {هَـذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}.


فأينَ هذا مِمَّا يَعْتَقِدُهُ عُبَّادُ القُبُورِ في الأولياءِ والصَّالِحِينَ،

بلْ في الطَّواغِيتِ الَّذينَ يُسَمُّونَهم المَجَاذِيبَ والفُقَرَاءَ، أَنَّهُم يَنْفَعُونَ مَنْ دَعَاهُمْ، ويَنْصُرُونَ مَنْ لاَذَ بِحِمَاهُمْ، ويَدْعُونَهُم بَرًّا وبَحْرًا، في غَيْبَتِهِم وحَضْرَتِهِم؟!


(5)

قولُهُ: (وفيهِ) أيْ: في (صحيحِ البخاريِّ).

قولُهُ: (عنْ أبي هُرَيْرَةَ) اخْتَلَفَ الحُفَّاظُ في اسْمِهِ عَلَى أكْثَرَ مِنْ ثلاثينَ قَوْلاً.

وصحَّحَ النَّوَوِيُّ أنَّ اسْمَهُ عبدُ الرَّحْمنِ بنُ صَخْرٍ.


كمَا رَوَاهُ الحاكِمُ في (المُسْتَدْرَكِ) عنْ أبي هُريرةَ قالَ: (كانَ اسْمِي في الجاهِلِيَّةِ عبدَ شَمْسِ بنَ صَخْرٍ، فسُمِّيتُ في الإسلامِ عبدَ الرَّحمنِ).

وقالَ غيرُهُ: (اسمُهُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو).


وقيلَ:

ابنُ عامِرٍ.


وقالَ ابنُ الكَلْبِيِّ: (اسمُهُ عُمَيْرُ بنُ عامِرٍ) ويُقَالُ: (كانَ اسمُهُ في الجاهِلِيَّةِعبدَ شَمْسٍ، وكُنْيَتُهُ أبو الأَسْوَدِ،فسَمَّاهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدَ اللهِ، وَكَنَّاهُ أبا هُريرةَ).

ورَوَى الدُّولاَبِيُّبإسنادِهِ عنْ أبي هُريرةَ:(أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمَّاهُ عبدَ اللهِ، وهوَ دَوْسِيٌّ، مِنْ فُضَلاءِ الصَّحَابَةِ وحُفَّاظِهِم وعُلَمَائِهِم، حَفِظَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثرَ مِمَّا حَفِظَهُ غيرُهُ، ورُوِيَ لهُ في كُتُبِ السُّنَّةِ أكثرُ مِنْ خَمْسَةِ آلافِ حديثٍ، وماتَ سنةَ سبْعٍ أوْ ثَمَانٍ أوْ تِسْعٍ وخمسينَ وهوَ ابنُ ثمانٍ وسبعينَ سنَةً).

قولُهُ: (قامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في (الصَّحيحِ) منْ روايَةِ ابنِ عبَّاسٍ: (صَعِدَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا).

قولُهُ: (حينَ أنزلَ اللهُ عليهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}) عشِيرَةُ الرَّجُلِ: هُمْ بَنُو أبيهِ الأدنَوْنَ أوْ قبيلَتُهُ.

و{الأقربينَ} أي: الأقْرَبُ فالأقْرَبُ مِنهم؛ لأنَّهُم أحقُّ النَّاسِ بِبِرِّكَ وإحسانِكَ الدِّينِيِّ والدُّنْيَوِيِّ.

كمَا قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم:6].

وقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ قالَ لهُ: مَنْ أَبَرُّ؟

قالَ: ((أُمَّكَ)) قالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قالَ: ((ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ أُخْتَكَ وَأَخَاكَ)).


ولأنَّهُ إذا قامَ عليهِم في أمْرِ اللهِ كانَ أدْعَى لغيرِهِم إلى الانْقِيادِ والطَّاعَةِ لَهُ، ولئلاَّ يأْخُذَهُ ما يَأْخُذُ القريبَ للقريبِ من الرَّأفَةِ والمُحَابَاةِ فيُحَابيهِمْ في الدَّعْوَةِ والتَّخْوِيفِ؛ ولذلكَ أُمِرَ بإِنْذَارِهِم خَاصَّةً.

وقدْ أَمَرَهُ اللهُ أيضًا بِالنِّذَارَةِ العَامَّةِ كمَا قالَ: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}[مَرْيَم:98].

وقالَ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}[يس:60].

ولا تَنَافِيَ بينَهُمَا؛ لأنَّ النِّذَارَةَ الخَاصَّةَ فَرْدٌ منْ أفْرَادِ العَامَّةِ.

قولُهُ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ) المَعْشَرُ كمَسْكَنٍ: الجَمَاعَةُ.

قولُهُ: (أوْ كلمةً نَحْوَهَا) هوَ بِنَصْبِ (كَلِمَةً) عَلَى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ما قَبْلَهُ؛ أيْ: أوْ قالَ كلمةً نحوَ قولِهِ: يا مَعْشَرَ قريشٍ؛ أيْ: بمعنَاهَا.

قولُهُ: (اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ) أيْ: بتوحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العبادَةِ لَهُ، وعدمِ الإشْرَاكِ بِهِ، وطاعَتِهِ فيما أَمَرَ، والانتهاءِ عمَّا عنهُ زَجَرَ؛ فإنَّ جميعَ ذلكَ ثَمنُ النَّجاةِ والخلاصِ مِنْ عذابِ اللهِ، لا الاعْتِمَادُ عَلَى الأنسابِ، وتَرْكُ الأسبابِ؛ فإنَّ ذلكَ غيرُ نافعٍ عندَ ربِّ الأربابِ.

ودفعَ بقولِهِ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا))ما عَسَاهُ أنْ يَتَوَهَّمَ بعضُهُمْ أنَّهُ يُغْنِي عنهُمْ من اللهِ شيئًا بشفاعَتِهِ؛ فإذا كانَ لا يَمْلِكُ لنَفْسِهِ نفْعًا ولا ضَرًّا، ولا يَدْفَعُ عنْ نفسِهِ عذابَ رَبِّهِ لوْ عصاهُ، كمَا قالَ تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزُّمَر:13]، فكيفَ يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ نَفْعًا أوْ ضَرًّا، أوْ يَدْفَعُ عنهُ عذابَ اللهِ؟!


وأمَّا شفاعتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعضِ العُصَاةِ؛

فهوَ أَمْرٌ من اللهِ ابتداءً فضلاً عليهِ وعليهِم، لا أنَّهُ يَشْفَعُ فيمَنْ يشاءُ، ويُدْخِلُ الجنَّةَ مَنْ يشاءُ.

وفي (صحيحِ البُخَارِيِّ) بعدَ قولِهِ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا))، ((يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) فلَعَلَّ المُصَنِّفَ اخْتَصَرَهَا.

قولُهُ: (يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بنَصْبِ (ابنٍ) ويَجُوزُ في (عبَّاسٍ) الرَّفعُ والنَّصبُ. وكذا القولُ في قولِهِ: ((وَيَاصَفِيَّةُعَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ)) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قولُهُ: (سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ) في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ: (لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214]قامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((يَافَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ)).


فبيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ لا يُنَجِّيهم منْ عذابِ اللهِ،

ولا يُدْخِلُهُم الجنَّةَ، ولا يُقَرِّبُهُم إلى اللهِ، وإنَّما الَّذي يُقَرِّبُ إلى اللهِ ويُدْخِلُ الجنَّةَ ويُنَجِّي من النَّارِ برحمةِ اللهِ، هوَ طاعةُ اللهِ.

وأمَّا ما يَقْدِرُ عليهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمُورِ الدُّنيا فلا يَبْخَلُ بِهَا عنْهُم، كمَا قالَ: ((سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ)) وكمَا قالَ:((أَلاَ إِنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلاَلِهَا)) رَوَاهُ أحمدُ وعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ وابنُ المُنْذِرِ.

وهوَ عندَ مسلمٍ في حديثٍ آخَرَ.

فإذا صَرَّحَ وهوَ سيِّدُ المُرسلينَ لأقارِبِهِ المؤمنينَ وغيرِهِم، خُصُوصًا سَيِّدَةَ نِسَاءِ العالَمِينَ وعمِّهِ وعَمَّتِهِ، وآمنَ الإنسانُ أنَّهُ لا يقولُ إلاَّ الحقَّ، ثُمَّ نظرَ إلى ما وَقَعَ في قُلوبِ كثيرٍ من النَّاسِ من الاعْتِقادِ فيهِ وفي غيرِهِ من الأنبياءِ والصَّالحينَ، أنَّهُم يَنْفَعُونَ ويَضُرُّونَ ويُغْنُونَ منْ عذابِ اللهِ، حتَّى يقولَ صاحِبُ (البُرْدَةِ):

فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنيا وضُرَّتَها ومـِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ والقَلَمِ

تبيَّنَ لهُ التَّوحيدُ، وعَرَفَ غُرْبَةَ الدِّينِ.

فأينَ هذا منْ قولِ صاحِبِ

(البُرْدَةِ) وَالْبُرَعِيِّ وأضرابِهِما من المادِحِينَ لهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما هوَ يَتَبَرَّأُ منهُ لَيْلاً ونَهَارًا، ويُبَيِّنُ اخْتِصَاصَهُ بالخالِقِ تعالى وتَقَدَّسَ، كمَا قالَ تعالَى: {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:187].

{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[يُونُس:32،33] تاللهِ لقدْ تَاهَتْ عُقُولٌ تَرَكَتْ كلامَ رَبِّهَا وكلامَ نَبيِّها لِوَسَاوِسِ صَدْرِهَا وما أَلْقَاهُ الشَّيطانُ في نفوسِهَا.

ومن العَجَبِ أنَّ اللعينَ كادَهُم مَكِيدَةً أدْرَكَ بهَا مَأْمولَهُ، فأظهرَ لهم هذا الشِّرْكَ في صُورَةِ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمِهِ، ومَحَبَّةِ الصَّالحينَ وتعظيمِهِم. وَلَعَمْرُ اللهِ إنَّ تَبْرِئَتَهُم مِنْ هذا التَّعظيمِ والمحبَّةِ هوَ التَّعظيمُ لَهُمْ والمحبَّةُ، وهوَ الواجبُ المُتَعَيِّنُ.

وأظهرَ لهم التَّوحيدَ والإخلاصَ في صورةِ بُغْضِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبُغْضِ الصَّالِحينَ، والتَّنَقُّصِ بِهِم، وما شَعَرُوا أنَّهُم تَنَقَّصُوا الخالِقَ سبحانَهُ وتعالى، وبَخَسُوهُ حقَّهُ، وتَنَقَّصُوا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصَّالحينَ بذلِكَ.


أمَّا تنقُّصُهم للخالقِ تعالى؛

فلأنَّهم جَعَلُوا المخلوقَ العاجِزَ مثلَ الرَّبِّ القادِرِ في القُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ والضَّرِّ.


وأمَّا بَخْسُهُم حَقَّهُ تعالَى؛

فلأنَّ العِبَادَةَ بجميعِ أنواعِها حَقٌّ للهِ تعالى، فإذا جَعَلُوا شيئًا مِنها لغيرِهِ فقدْ بَخَسُوهُ حَقَّهُ.


وأمَّا تنقُّصُهُم للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللصَّالحينَ؛

فلأنَّهم ظنُّوا أنَّهُم راضُونَ منهمْ بذلكَ، أوْ أَمَرُوهُمْ بِهِ، وحاشَا للهِ أنْ يَرْضَوْا بذلكَ أوْ يأْمُرُوا بِهِ، كمَا قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].

وفي الحديثِ من الفوائِدِ غيرُ ما تَقَدَّمَ، جِدُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الأمْرِ، بحيثُ فَعَلَ ما نُسِبَ بهِ إلى الجُنُونِ، وكذلِكَ لوْ يَفْعَلُهُ مُسْلِمٌ الآنَ، قالَهُ المُصَنِّفُ.


وفيهِ:

دليلٌ عَلَى الاجْتِهَادِ في الأعمالِ،

وتَرْكِ البَطَالَةِ والاعْتِمَادِ عَلَى مُجَرَّدِ الانْتِسَابِ إلى الأَشْخَاصِ، كما يَفْعَلُهُ أهلُ الطَّيْشِ والحُمْقِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلى نبيٍّ أوْ صالِحٍ ونحوِ ذلكَ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خَاطَبَ بِنْتَهُ وعمَّهُ وعَمَّتَهُ وقَرَابَتَهُ بهذا الخِطَابِ كانَ تَنْبِيهًا لذُرِّيَّتِهِم ونَحْوِهِم عَلَى ذلكَ؛ لأنَّهُ إذا كانَ لا يُغْنِي عنْ هؤلاءِ شيئًا كانَ ذُرِّيَّتُهم أَوْلَى أنْ لا يُغْنِيَ عنهُم من اللهِ شيئًا، وقدْ قالَ تعالى لِمَن اكْتَفَى بالانْتِسابِ إلى الأنبياءِ عنْ مُتَابَعَتِهِم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة:133] وفيهِ أنَّ أَوْلَى النَّاسِ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ أهلُ طَاعَتِهِ ومُتَابَعَتِهِ في مَحْيَاهُ ومَمَاتِهِ، كمَا قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِي -يَعْنِي فُلاَنًا- لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ)) رَوَاهُ مسلمٌ.

ورَوَى عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عن الحَسَنِ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أهلَ بَيْتِهِ قبلَ مَوْتِهِ فقالَ: ((أَلاَ إِنَّ لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَلاَ إِنِّي لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، أَلاَ لاَ أَعْرِفَنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ وَيَأْتِي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الآخِرَةَ)).

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (بابُ قولِ اللهِ تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:191،192]).

قولُه: {أَيُشْرِكُونَ} أي: في العِبادةِ.


قالَ المُفَسِّرُون في هذه الآيَةِ:

هذا تَوبيخٌ وتَعنيفٌ للمشرِكينَ في عِبادتِهم مع اللهِ تعالى ما لا يَخْلُقُ شيئًا وهو مَخلوقٌ، والمخلوقُ لا يكونُ شَريكًا للخالِقِ في العِبادةِ التي خَلَقَهم لها؛ وبَيَّنَ أَنَّهُم لا يَستطيعونَ لهم نَصْرًا ولا أنْفُسَهم يَنْصُرون، فكيف يُشرِكون به مَن لا يَستطيعُ نَصْرَ عابِدِيهِ ولا نَصْرَ نفسِه؟


وهذا بُرهانٌ ظاهرٌ على بُطلانِ ما كانوا يَعبُدُونَه من دونِ اللهِ،

وهذا وَصْفُ كلِّ مخلوقٍ، حتى الملائكةِ، والأنبياءِ، والصالحينَ.


وأشرَفُ الخلْقِ

مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يَسْتَنْصِرُ رَبَّه على المشرِكينَ ويَقولُ: ((اللهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصيرِي، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقاتِلُ)) وهذه الآيةُ كقولِه تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُورًا}[الفرقان:3] .


وقولِه: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:188].

- وقولِه: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ}[الجن:21،23].

فَكَفَى بهذه الآياتِ بُرهانًا على بُطلانِ دَعوةِ غيرِ اللهِ كائنًا مَن كانَ.

فإن كان نَبِيًّا أو صالِحًا فقد شَرَّفَه اللهُ تعالى بإخلاصِ العِبادةِ له، والرِّضا به ربًّا ومَعبودًا، فكيف يَجوزُ أن يُجْعَلَ العابدُ مَعبودًا مع تَوجيهِ الْخِطابِ إليه بالنَّهْيِ عن هذا الشرْكِ؟

كما قالَ تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] .

وقالَ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}[يوسف:40] فقد أَمَرَ عِبادَه من الأنبياءِ والصالحينَ وغيرِهم بإخلاصِ العِبادةِ له وَحدَه؛ ونَهاهُمْ أن يَعبُدُوا معه غيرَه؛ وهذا هو دينُه الذي بَعَثَ به رُسلَه، وأَنزلَ به كُتُبَه؛ ورَضِيَه لعِبادِه؛ وهو الإسلامُ، كما رَوَى البخاريُّ عن أبي هُريرةَ في سؤالِ جَبْرَائِيلَ عليه السلامُ قالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، ما الإِسْلامُ؟

قالَ: الإِسْلامُ أَنْ تَعبُدَ اللهَ ولا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقيمَ الصَّلاةَ؛ وتُؤتِيَ الزَّكاةَ الْمَفروضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضانَ...)) الحديثَ.


(2)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وقولِه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:13،14]) يُخْبِرُ تعالى عن حالِ الْمَدْعُوِّينَ من دونِه من الملائكةِ والأنبياءِ والأصنامِ وغيرِها بما يَدُلُّ على عَجْزِهم وضَعْفِهم وأَنَّهُم قد انْتَفَتْ عنهم الأسبابُ التي تكونُ في الْمَدْعُوِّ؛ وهي الْمُلْكُ، وسَماعُ الدعاءِ والقُدرةُ على استجابتِه، فمتى لم تُوجَدْ هذه الشُّروطُ تامَّةً بَطَلَتْ دَعوتُه فكيفَ إذا عُدِمَتْ بالْكُلِّيَّةِ؟

فنَفَى عنهم الْمُلْكَ بقولِه: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} قالَ: ابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكرمةُ، وعَطاءٌ، والحسَنُ، وقَتادةُ: (القِطْمِيرُ: اللِّفافةُ التي تكونُ على نَواةِ التمْرِ) كما قالَ تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}[النحل:73] وقالَ: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:22،23] ونَفَى عنهم سَماعَ الدعاءِ بقولِه: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ} لأَنَّهُم ما بينَ مَيِّتٍ وغائبٍ عنهم، مُشْتَغِلٍ بما خُلِقَ له، مُسَخَّرٍ بما أُمِرَ به كالملائكةِ، ثم قالَ: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ} لأنَّ ذلك ليس إليهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يَأْذَنْ لأَحَدٍ من عِبادِه في دُعاءِ أَحَدٍ منهم، لا استقلالاً ولا واسطةً كما تَقَدَّمَ بعضُ أَدِلَّةِ ذلك.

وقولُه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ} فتَبيَّنَ أنَّ دعوةَ غيرِ اللهِ شِرْكٌ.

وقالَ تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}[مريم:81،82].

وقولُه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ}.

قالَ ابنُ كثيرٍ: (يَتَبَرَّؤونَ منكم).

كما قالَ تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:5،6].

قالَ: وقولُه: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: ولا يُخْبِرُكَ بعَواقِبِ الأمورِ ومآلِها وما تَصيرُ إليه مِثلُ خَبيرٍ بها.

قالَ قَتادةُ(يعني نفسَه تَبارَكَ وتعالى؛ فإنه أَخْبَرَ بالوَاقعِ لا مَحالةَ).


قلتُ:

والمشرِكون لم يُسَلِّموا للعَليمِ الخبيرِ ما أَخْبَرَ به عن مَعبوداتِهم فقالُوا: تَمْلِكُ وتَسمعُ وتَستجيبُ وتَشفَعُ لِمَن دَعَاهَا، ولم يَلْتَفِتُوا إلى ما أَخْبَرَ به الخبيرُ مِن أنَّ كلَّ معبودٍ يُعادِي عابِدَه يومَ القِيامةِ ويَتَبَرَّأُ منه؛ كما قالَ تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ، وَقالَ شُرَكَاؤُهْم مَا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[يونس:28-30] أَخْرَجَ ابنُ جَريرٍ عن ابنِ جُرَيْجٍ قالَ: قالَ مُجاهِدٌ{إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} قالَ: (يقولُ ذلك كلُّ شيءٍ كان يُعبَدُ من دونِ اللهِ).


فالكَيِّسُ يَستقبِلُ هذه الآياتِ التي هي الْحُجَّةُ والنورُ والبُرهانُ؛

بالإيمانِ والقَبولِ والعملِ، فيُجرِّدُ أعمالَه للهِ وَحدَه دُونَ كلِّ ما سِواهُ مِمَّنْ لا يَمْلِكُ لنفسِه نَفْعًا ولا دَفْعًا، فَضْلاً عن غيرِه.


(3)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وفي (الصَّحيحِ) عَنْ أنسٍ قالَ: (شُجَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ.

فَقالَ:((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم؟)) فَنَزَلَت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عمران:128]).

قولُه: (في (الصَّحيحِ)) أي: (الصحيحينِ) عَلَّقَه البخاريُّ، عن حُمَيْدٍ وعن ثابِتٍ: عن أَنَسٍ- ووَصَلَه أحمدُ، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، عن حُمَيْدٍ، عن أَنَسٍ به، ووَصَلَه مُسلِمٌ عن ثابتٍ عن أَنَسٍ، وقالَ ابنُ إسحاقَ، في (الْمَغازي): حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطويلُ، عن أَنَسٍ، قالَ: كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ وَجْهُهُ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسيلُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ وَهُو يقولُ:((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبوا وَجْهَ نَبيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعوهُمْ إِلى رَبِّهِم؟)) فَأنزَلَ اللهُ الآيةَ.

قولُه: (شُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قالَ أبو السعاداتِ: (الشَّجُّ في الرأسِ خاصَّةً في الأَصْلِ، وهو أن يَضْرِبَه بشيءٍ فيَجْرَحَه فيه ويَشُقَّه، ثم اسْتُعْمِلَ في غيرِه من الأعضاءِ).

وذَكَرَ ابنُ هِشامٍ من حديثِ أبي سعيدٍ الْخُدريِّ: (أنَّ عُتبةَ بنَ أبي وَقَّاصٍ،هو الذي كَسَرَ رَباعِيَةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّفْلَى وجَرَحَ شَفَتَه السفلى، وأنَّ عبدَ اللهِ بنَ شِهابٍ الزُّهْرِيَّ، هو الذي شَجَّهَ في وَجْهِه، وأنَّعبدَ اللهِ بنَ قَمِئَةَ، جَرَحَهُ في وَجْنَتِهِ، فدَخَلَتْ حَلْقَتَانِ من حِلَقِ الْمِغْفَرِ في وَجنتِه، وأنَّمالِكَ بنَ سِنانٍ مَصَّ الدَّمَ من وَجْهِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وازْدَرَدَهُ؛ فقالَ له:((لَنْ تَمَسَّكَ النَّارُ)).

قالَ القُرطبيُّ(والربَّاعِيَةُ بفتحِ الراءِ وتَخفيفِ الياءِ، وهي كلُّ سِنٍّ بعدَ ثَنِيَّةٍ).

قالَ النوويُّ(وللإنسانِ أَربعُ رَبَاعِيَاتٍ).

قالَ الحافظُ(والْمُرادُ أنها كُسِرَتْ، فذَهَبَ منها فَلْقَةٌ ولم تُقْلَعْ من أَصْلِها).

قالَ النوويُّ(وفي هذا وُقوعُ الأسقامِ والابتلاءِ بالأنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُه عليهم لِيَنَالوا بذلك جَزيلَ الأَجْرِ والثوابِ، ولِتَعْرِفَ أُمَمُهُم ما أصابَهم ويَأْتَسُوا بهم).

قالَ القاضي(ولِيُعْلَمَ أَنَّهُم من البَشَرِ تُصيبُهم مِحَنُ الدنيا، ويَطْرَأُ على أَجسامِهم ما يَطْرَأُ على أَجسامِ البَشَرِ ليُتَيَقَّنَ أَنَّهُم مَخلوقونَ مَربوبونَ، ولا يُفْتَتَنَ بما ظَهَرَ على أَيْدِيهم من الْمُعجزاتِ، ويُلَبِّسَ الشيطانُ مِن أَمْرِهم ما لَبَّسَه على النصارى وغيرِهم) انتهى.


قلتُ:

يعني من الغُلُوِّ والعِبادةِ.

قولُه: (يَوْمَ أُحُدٍ) هو جَبَلٌ مَعروفٌ كانت عندَه الوقعةُ الْمَشهورةُ فأُضِيفَتْ إليه.

قولُه: ((كَيْفَ يُفلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم)) زادَ مسلمٌ((وكَسَروا رَباعِيَتَهُ وَأَدْمَوْا وَجْهَهُ)).

قولُه: (فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: (كأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحِقَه في تلك الحالِ يَأْسٌ من فَلاحِ كُفَّارِ قُريشٍ؛ فقِيلَ له بسَبَبِ ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}أي: عَواقبُ الأمورِ بيدِ اللهِ، فامْضِ أنت لِشَأْنِكَ، وَدُمْ على الدعاءِ لرَبِّكَ).

وقالَ ابنُ إِسحاقَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}في عِبادِي إلا ما أَمَرْتُكَ به فيهم).

(4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وفيه عن ابنِ عمرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ في الرَّكْعَةِ الأخِيرةِ مِنَ الفَجْرِ:((اللهُمَّ العَنْ فُلانًا وَفُلانًا)) بَعْدَمَا يَقُولُ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ))فَأنْزَلَ اللهُ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}).

وفي روايةٍ: (يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ})).

قولُه: (وَفيهِ) أي: في (صحيحِ البخاريِّ) ورواه النَّسائيُّ.

قولُه: (عَنِ ابنِ عُمَرَ) هو عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ، صَحابيٌّ جَليلٌ، شَهِدَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاحِ، ماتَ سنةَ ثلاثٍ وسبعينَ في آخِرِها أو أَوَّلِ التي تَلِيهَا.

قولُه: (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ) هذا القُنوتُ على هَؤلاءِ بعدَ ما شُجَّ وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُه يومَ أُحُدٍ.

قَوله: ((اللهُمَّ العَنْ فُلاَنًا وَفُلانًا)) قالَ أبو السَّعاداتِ: (أَصْلُ اللعنِ الطردُ والإبعادُ من اللهِ، ومن الْخَلْقِ السَّبُّ والدعاءُ) وتَقَدَّمَ كلامُ شيخِ الإسلامِ.


قولُه:

((فُلانًا وفُلانًا)) يعني صَفوانَ بنَ أُمَيَّةَ وسُهيلَ بنَ عمرٍو والحارِثَ بنَ هِشامٍ، كما بَيَّنَه في الروايةِ الآتيةِ.


وفيه:

جَوازُ الدعاءِ على المشرِكينَ بأعيانِهم في الصلاةِ، وأنَّ ذلك لا يَضُرُّ الصلاةَ.

قولُه: (بَعْدَمَا يَقُولُ:((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ))) قالَ أبو السَّعاداتِ: (أي: أَجَابَ حَمْدَهُ وتَقَبَّلَه).

وقالَ السُّهَيليُّ(مفعولُ سَمِعَ محذوفٌ؛ لأنَّ السمْعَ مُتَعَلِّقٌ بالأقوالِ والأصواتِ دونَ غيرِها فاللامُ تُؤْذِنُ بمعنًى زائدٍ وهو الاستجابةُ للسمْعِ، فاجْتَمَعَ في الكلمةِ الإيجازُ والدَّلالةُ على الزائدِ، وهو الاستجابةُ لِمَن حَمِدَه).

وقالَ ابنُ الْقَيِّمِ ما معناه: (عُدِّيَ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ))باللامِ الْمُتَضَمِّنَةِ معنى استجابَ له. ولا حَذْفَ هناك وإنما هو مُضَمَّنٌ).

قولُه: ((رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ)) في بعضِ رواياتِ البخاريِّ بإسقاطِ الواوِ.

قالَ ابنُ دَقيقِ العيدِ(كأنَّ إثباتَها دالٌّ على معنًى زائدٍ؛ لأَنَّهُ يكونُ التقديرُ: رَبَّنَا استَجِبْ ولك الْحَمْدُ فيَشْتَمِلُ على معنى الدعاءِ ومعنى الْخَبَرِ).

قالَ شيخُ الإسلامِ(والحمْدُ ضِدُّ الذمِّ، والحمدُ يَكونُ على مَحاسِنِ المحمودِ مع الْمَحَبَّةِ له. كما أنَّ الذَّمَّ يَكونُ على مَساوِيهِ مع الْبُغْضِ له).

وكذا قالَ ابنُ الْقَيِّمِ، وفَرَّق بينَه وبينَ الْمَدْحِ بأنَّ الإخبارَ عن مَحاسِنِ الغيرِ:

- إمَّا أن يكونَ إخبارًا مُجَرَّدًا عن حُبٍّ وإرادةٍ.

- أو يكونَ مَقرونًا بِحُبِّه وإرادتِه.

فإن كان الأَوَّلَ: فهو الْمَدْحُ.

وإن كانَ الثانيَ: فهو الْحَمْدُ.

فالحمْدُ إخبارٌ عن مَحاسِنِ المحمودِ مع حُبِّهِ وإجلالِه وتَعظيمِه، ولهذا كان خَبَرًا يَتَضَمَّنُ الإنشاءَ بخِلافِ الْمَدْحِ، فإنه خَبَرٌ مُجَرَّدٌ.

فالقائلُ إذا قالَ (الحمدُ للهِ) أو قالَ (رَبَّنَا ولك الْحَمْدُ) تَضَمَّنَ كلامُه الخبَرَ عن كلِّ ما يُحْمَدُ عليه تعالى باسمٍ جامعٍ مُحيطٍ مُتَضَمِّنٍ لكلِّ فَرْدٍ من أفرادِ الجملةِ الْمُحَقَّقَةِ والْمُقَدَّرَةِ، وذلك يَستلزِمُ إثباتَ كلِّ كَمالٍ يُحْمَدُ عليه الربُّ تعالى، ولهذا لا تَصْلُحُ هذه اللفظةُ على هذا الوجهِ ولا تَنْبَغِي إلا لِمَنْ هذا شأنُه، وهو الحميدُ الْمَجيدُ.


وفيه:

التصريحُ بأنَّ الإمامَ يَجمَعُ بينَ التسميعِ والتحميدِ،

وهو قولُ الشافعيِّ وأحمدَ، وخالَفَ في ذلك مالِكٌ وأبو حَنيفةَ، فقالاَ: يَقْتَصِرُ على (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ).


(5)

قولُه: (وفي روايةٍ: (يَدْعُو على صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بنِ هِشامٍ))وذلك لأَنَّهُم رُؤوسُ المشرِكينَ يومَ أُحُدٍ، هم وأبو سُفيانَ بنُ حَرْبٍ، فما اسْتُجِيبَ لَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، بلْ أَنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فتابَ عليهم فأَسْلَمُوا وحَسُنَ إسلامُهم.

وفي هذا كلِّه معنى شَهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ الذي له الأمْرُ كلُّه، يَهْدِي مَن يَشاءُ بفَضْلِه ورَحمتِه، ويُضِلُّ مَن يَشاءُ بعَدْلِه وحِكْمَتِه. فهو المُسْتَحِقُّ أن يُعْبَدَ وَحْدَه.

وفي هذا من الْحُجَجِ والبراهينِ ما يُبيِّنُ بُطلانَ ما يَعتقِدُه عُبَّادُ القُبورِ في الأولياءِ والصالحينَ، بل في الطواغيتِ من أَنَّهُم يَنفعونَ مَن دَعَاهُم، ويَمنعونَ مَن لاذَ بِحِمَاهم، فسُبحانَ مَن حالَ بينَهم وبينَ فَهْمِ الكتابِ، وذلك عَدْلُه سُبحانَه، وهو الذي يَحولُ بينَ الْمَرءِ وقَلْبِه، وبه الْحَوْلُ والقُوَّةُ.


(6)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (وفيهِ عَنْ أبي هُريرةَ قالَ: قامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -حِينَ أنْزَلَ اللهُ عليهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214].

فقالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَها- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْني عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عَبْدِ المطَّلِبِ لا أُغْني عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يا صَفِيّةُ -عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالي مَا شِئْتِ، لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).


قولُه: (وفيه) أي:

(صحيحِ البخاريِّ).

قولُه: (عن أبي هُريرةَ) اخْتُلِفَ في اسْمِه.

وصَحَّحَ النوويُّ أنَّ اسْمَه عبدُ الرحمنِ بنُ صَخْرٍ، كما رواه الحاكِمُ في (الْمُستَدْرَكِ) عن أبي هُريرةَ قالَ: (كان اسمِي في الجاهليَّةِ: عبدَ شَمْسِ بنَ صَخْرٍ، فسُمِّيتُ في الإسلامِ عبدَ الرحمنِ). ورَوَى الدُّولابيُّ بإسنادِه عن أبي هُريرةَ:(أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ عَبْدَ الله وهو دَوْسِيٌّ من فُضَلاءِ الصحابةِ وحُفَّاظِهم، حَفِظَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكثرَ مِمَّا حَفِظَه غيرُه، ماتَ سنةَ سبعٍ أو ثَمانٍ أو تِسعٍ وخمسينَ، وهو ابنُ ثَمانٍ وسبعين سنةً).

قولُه: (قَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الصحيحِ من روايةِ ابنِ عبَّاسٍ: (صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا).

قولُه: (حِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}) عَشِيرَةُ الرجُلِ: هم بنو أَبِيهِ الأَدْنَوْنَ أو قَبيلتُه؛ لأَنَّهُم أَحَقُّ الناسِ بِبِرِّكَ وإحسانِك الدِّينيِّ والدُّنيويِّ؛ كما قالَ تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم:6].

-وقد أَمَرَه اللهُ تعالى أيضًا بالنِّذارةِ العَامَّةِ، كما قالَ تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}[يس:6]{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهُمُ العَذَابُ}[إبراهيم:44].

قولُه: ((يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ))الْمَعْشَرُ الجماعةُ.

قولُه: (أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا) هو بنَصْبِ (كلمةً) عَطْفٌ على ما قَبْلَه.

قولُه: ((اشْتَرُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: بتوحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العِبادةِ له وَحدَه لا شَريكَ له، وطاعتِه فيما أَمَرَ به، والانتهاءِ عمَّا نَهَى عنه. فإنَّ ذلك هو الذي يُنْجِي من عذابِ اللهِ لا الاعتمادُ على الأنسابِ والأحسابِ، فإنَّ ذلك غيرُ نافعٍ عندَ ربِّ الأربابِ.

قولُه: ((لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا))فيه حُجَّةٌ على مَن تَعلَّقَ على الأنبياءِ والصالحينَ، ورَغِبَ إليهم ليَشفَعُوا له ويَنفعوهُ، أو يَدْفَعُوا عنه، فإنَّ ذلك هو الشِّرْكُ الذي حَرَّمَه اللهُ تعالى، وأقامَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإنذارِ عنه، كما أَخْبَرَ تعالى عن المشرِكينَ في قولِه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر:3]{هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18] فأَبْطَلَ اللهُ ذلك ونَزَّه نفسَه عن هذا الشرْكِ، وسيأتي تَقريرُ هذا الْمَقامِ -إن شاءَ اللهُ تعالى- وفي (صحيحِ البخاريِّ)((يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ لا أُغْنِي عَنْكُم مِنَ اللهِ شَيْئًا)).

قولُه: ((يا عَبَّاسُبنَ عَبدِ المُطَّلِبِ)) بنَصبِ (ابنَ) ويَجوزُ في عَبَّاسَ الرفْعُ والنصبُ. وكذا في قولِه: ((يا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ، وفَاطِمَةُ بنتَ مُحَمَّدٍ)).

قولُه: ((سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ)) بَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لا يُنْجِي من عذابِ اللهِ إلا الإيمانُ والعملُ الصالحُ.


وفيه:

أَنَّهُ لا يَجوزُ أن يُسألَ العبدُ إلا ما يَقْدِرُ عليه من أمورِ الدنيا.

وأمَّا الرحمةُ والْمَغفِرَةُ والْجَنَّةُ والنجاةُ من النارِ

ونحوُ ذلك من كلِّ ما لا يَقْدِرُ عليه إلا اللهُ تعالى، فلا يَجوزُ أن يُطْلَبَ إلا منه؛ فإنَّ ما عندَ اللهِ لا يُنالُ إلا بتَجريدِ التوحيدِ، والإخلاصِ له بما شَرَعَه ورَضِيَهُ لعِبادِه أن يَتَقَرَّبُوا إليه به، فإذا كان لا يَنْفَعُ ابنَتَه وعَمَّه وعَمَّتَه وقَرابتَه إلا ذلك، فغيرُهم أَوْلَى وأَحْرَى، وفي قِصَّةِ عَمِّه أبي طالبٍ مُعْتَبَرٌ.

فانْظُرْ إلى الواقِعِ الآنَ من كثيرٍ من الناسِ من الالتجاءِ إلى الأمواتِ والتوَجُّهِ إليهم بالرَّغَبَاتِ والرَّهَباتِ، وهم عاجزونَ لا يَمْلِكون لأنفسِهم ضَرًّا ولا نَفْعًا، فَضْلاً عن غيرِهم يَتَبَيَّنْ لك أَنَّهُم لَيْسُوا على شيءٍ: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}[الأعراف:30] أَظْهَرَ لهم الشيطانُ الشِّرْكَ في قالَبِ مَحَبَّةِ الصالحينَ، وكلُّ صالحٍ يَبْرَأُ إلى اللهِ من هذا الشِّرْكِ في الدنيا ويومَ يَقومُ الأشهادُ، ولا رَيبَ أنَّ مَحَبَّةَ الصالحينَ إنما تَحْصُلُ بِمُوافَقَتِهم في الدينِ، ومُتابَعَتِهم في طاعةِ ربِّ العالمينَ، لا باتِّخاذِهم أَنْدَادًا من دُونِ اللهِ يُحِبُّونَهم كحُبِّ اللهِ إشراكًا باللهِ، وعِبادةً لغيرِ اللهِ، وعَداوةً للهِ ورُسُلِهِ والصالحينَ من عِبادِه، كما قالَ تعالى: {وَإِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:116،117].

قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ في هذه الآيةِ بعدَ كلامٍ سَبَقَ: (ثم نَفَى أن يكونَ قالَ لهم غيرَ ما أُمِرَ به، وهو مَحْضُ التوحيدِ فقالَ:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}ثم أَخْبَرَ أنَّ شَهادتَه عليهم مُدَّةَ مَقَامِه فيهم، وأَنَّهُ بعدَ الوَفاةِ لا اطِّلاعَ له عليهم؛ وأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ الْمُنْفَرِدُ بعدَ الوَفاةِ بالاطِّلاعِ عليهم فقالَ:{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}وَصَفَهُ سُبحانَه بأن شَهادتَه فوقَ كلِّ شَهادةٍ وأَعَمُّ) انتهَى مُلَخَّصًا.


قلتُ:

ففي هذا بيانُ أنَّ الْمُشرِكينَ خالَفوا ما أَمَرَ اللهُ به رُسُلَه من تَوحيدِه الذي هو دِينُهم الذي اتَّفَقُوا عليه، ودَعَوا الناسَ إليه؛ وفارَقُوهم فيه إلا مَنْ آمَنَ؛ فكيف يُقالُ لِمَن دانَ بدينِهم، وأَطاعَهم فيما أَمَرُوا به من إخلاصِ العِبادةِ للهِ وَحْدَه: إنه قد تَنَقَّصَهم بهذا التوحيدِ الذي أطاعَ به رَبَّه، واتَّبَعَ فيه رُسُلَه عليهم السلامُ، ونَزَّه به رَبَّه عن الشرْكِ الذي هو هَضْمٌ للرُّبُوبِيَّةِ، وتَنَقُّصٌ للإلهيَّةِ وسوءُ ظَنٍّ بربِّ العالمينَ؟


والْمُشرِكون هم أَعداءُ الرُّسُلِ وخُصماؤُهم في الدنيا والآخِرةِ،

وقد شَرَعُوا لأتباعِهم أن يَتَبَرَّؤُوا من كلِّ مُشرِكٍ ويَكْفُرُوا به، ويَبْغَضُوه ويُعادُوه في ربِّهم ومَعْبُودِهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:109].

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)

{أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}

هذا شُروعٌ في بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وأدِلَّتِه، فالتَّوْحِيدُ لَهُ مِن البَرَاهِينِ النَّقْلِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ ما لَيْسَ لغَيْرِه.


فتَقَدَّمَ أنَّ التَّوْحِيدَيْنِ:

تَوْحيدَ الربوبيةِ.

وتَوْحِيدَ الأسماءِ والصفاتِ مِن أكبرِ بَرَاهينِه وأضْخَمِها، فالمُتَفَرِّدُ بالخَلْقِ والتَّدْبيرِ، والمُتَوَحِّدُ في الكمالِ المطْلَقِ مِن جَميعِ الوُجُوهِ هو الذي لاَ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ سِواهُ.


وكذلك مِن بَرَاهِينِ التَّوْحيدِ:

مَعْرِفَةُ أوصافِ المَخْلُوقِينَ، وَمَن عُبِدَ مَعَ اللهِ، فإنَّ جميعَ ما يُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ؛ مِن مَلَكٍ وبَشَرٍ، ومِن شَجَرٍ وحَجَرٍ وغَيرِها، كلُّهم فُقراءُ إلى اللهِ، عَاجِزُونَ ليسَ بيدِهِم مِن النفْعِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ، ولاَ يَخْلُقونَ شيئًا وهُم يُخْلَقُونَ، ولاَ يَمْلِكُونَ ضرًّا ولاَ نَفْعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، واللهُ تعَالَى هو الخَالِقُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ، وهو الرازِقُ لكلِّ مَرْزوقٍ، المُدَبِّرُ للأمورِ كلِّها، الضارُّ، النافِعُ، المُعْطِي، المانعُ، الذي بيدِه ملكوتُ كلِّ شَيْءٍ، وإليه يُرْجَعُ كُلُّ شَيْءٍ ولَهُ يَقْصِدُ ويَصْمُدُ ويَخْضَعُ كُلُّ شَيْءٍ.


فأَيُّ بُرْهانٍ أعَظَمُ مِن هذَا البرهانِ الذِي أعادَهُ اللهُ وأبدَاهُ

في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن كِتَابِهِ وعلى لسانِ رَسُولِه، فهو دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ فِطْرِيٌّ، كما أَنَّه دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ نَقْلِيٌّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِ اللهِ وأَنَّه الحَقُّ، ودَلِيلٌ كذلك على بُطْلاَنِ الشرْكِ.


وإذا كانَ أشْرَفُ الخَلْقِ على الإِطلاقِ لاَ يَمْلكُ نَفْعَ أَقْرَبِ الخلقِ إليه

وَأَمَسِّهم بِهِ رَحِماً، فكَيْفَ بغَيْرِه؟

فَتَبًّا لِمَنْ أَشْرَكَ باللهِ وسَاوَى به أحدًا مِن المَخْلوقِينَ، لَقَدْ سُلِبَ عَقْلَه بَعْدَما سُلِبَ دينَه.

فنُعوتُ البارِي تعالَىَ وصفاتُ عَظَمَتِه وتَوَحُّدِه في الكَمَالِ المُطْلَقِ أَكْبرُ بُرْهانٍ عَلَى أَنَّه لاَ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إلاَّ هو.


وكذلك:

صفاتُ المخلوقاتِ كلِّها، وما هي عليه مِن النَّقْصِ، والحَاجَةِ، والفَقْرِ إلى ربِّها في كلِّ شُؤونِها، وأنَّه لَيْسَ لَهَا مِن الكَمَالِ، إلاَّ ما أَعْطاهَا رَبُّها، مِن أَعْظَمِ البراهينِ عَلَى بُطلاَنِ إلهيةِ شَيْءٍ مِنْها.


فمَن عَرَفَ اللهَ، وعَرَفَ الخَلْقَ، اضْطَرَّتْه هذه المعرفَةُ إلى عبادَةِ اللهِ وحدَه،

وإِخْلاَصِ الدِّينِ لَهُ، والثناءِ عَلَيْهِ، وحَمْدِه وشُكْرِه بلِسانِهِ وقَلْبِه وأرْكانِه، وانْصَرَفَ تَعَلُّقُه بالمَخْلُوقِينَ خَوْفًا ورجاءً وطمعًا، واللهُ أعْلَمُ.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)

مناسبةُ البابِ لما قبْلهُ: لمّا ذَكَرَ رَحِمَهُ اللهُ الاستعاذةَ، والاستغاثةَ بغيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ذَكَرَ البراهينَ الدَّالَّةَ عَلَى بُطْلانِ عبادةِ ما سِوَى اللهِ؛ ولهذا جَعَلَ الترجمةَ لهذا البابِ نَفْسَ الدَّليلِ، وذَكَرَ رَحِمَهُ اللهُ ثَلاَثَ آياتٍ:

- قولُهُ: {أَيُشْرِكُونَ} الاستفهامُ للإنْكَارِ والتَّوْبِيخِ؛ أيْ: يُشْرِكُونَهُ مَعَ اللهِ.
- قولُهُ: 
{مَا لاَ يَخْلُقُ} هنا عَبَّرَ بِـ{مَا} دُونَ (مَنْ).

وفي قولِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ} عبَّرَ بِـ{مَنْ}.

والمناسبةُ ظاهرةٌ؛ لأنَّ الدَّاعِينَ هناكَ نَزَّلُوهم منزلةَ العاقلِ.


أمَّا هنا فالمَدْعُوُّ جمادٌ؛

لأنَّ الذي لا يَخْلُقُ شيئًا، ولا يَصْنَعُهُ جَمَادٌ لا يُفِيدُ.

قولُهُ: {شيئًا} نَكِرةٌ في سياقِ النَّفْيِ، فتفيدُ العمومَ.

قولُهُ: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وَصَفَ هذهِ الأصنامَ بالعجْزِ والنَّقصِ، والربُّ المعبودُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا بلْ هوَ الخالقُ، فلا يجوزُ عليهِ الحدوثُ، ولا الفناءُ.


والمخلوقُ حادثٌ،

والحادثُ يَجُوزُ عليهِ العدمُ؛ لأنَّ ما جازَ انْعِدَامُهُ أوَّلاً جازَ انعدامُهُ آخِرًا.
فكيفَ يُعْبَدُ هَؤُلاءِ مِنْ دونِ اللهِ؟
إذ
المخلوقُ هوَ بنفْسِهِ مُفْتَقِرٌ إلى خالقِهِ، وهوَ حادثٌ بعدَ أنْ لَمْ يكُنْ، فهوَ ناقِصٌ في إيجادِهِ وبَقَائِهِ.
قولُهُ: 
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أيْ: لا يَقْدِرُونَ على نَصْرِهِمْ لوْ هاجَمَهُمْ عَدُوٌّ، لأنَّ هؤلاءِ المعبودينَ قَاصِرُونَ.


والنَّصرُ: الدفعُ عن المخذولِ

بحيثُ يَنْتَصِرُ عَلَى عَدُوِّهِ.
قولُهُ: 
{وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}أيْ: زيادةً على ذلكَ هُمْ عاجِزُونَ عن الانتصارِ لأنْفُسِهم، فكيفَ يَنْصُرُونَ غَيْرَهُمْ؟

فبيَّنَ اللهُ عَجْزَ هذهِ الأصنامِ، 
وأنَّها لا تَصلُحُ أنْ تَكُونَ معبودةً مِنْ أربعةِ وُجُوهٍ، هيَ:


الأول:

أَنَّها لا تَخْلُقُ،

ومَنْ لا يَخْلُقُ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبدَ.


الثاني:

أنَّهُم مَخْلُوقونَ مِن العدمِ،

فهمْ مُفْتَقِرونَ إلى غيرهِم ابتداءً ودَوَامًا.


الثالث:

أنَّهم لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ الدَّاعِينَ لَهُم.


وقولُهُ: 
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ} أبْلَغُ مِنْ قولِهِ: {لاَ يَنْصُرُونَهُمْ} لأنَّهُ لوْ قالَ: {لاَ يَنْصُرونَهُمْ} فقدْ يقولُ قائلٌ: لكنَّهمْ يَسْتَطِيعُونَ.
لكنْ لَمَّا قالَ: 
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا}، كانَ أَبْلَغَ لظهورِ عَجْزِهِمْ.


الرابع:

أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ.


(2)

قولُهُ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}يَشْمَلُ دُعاءَ المسألةِ، ودُعاءَ العبادةِ.


و{مِنْ دُونِه} أيْ: سِوَى اللهِ.

قولُهُ: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أيْ: أنَّ هذِهِ الأصنامَ لوْ دَعَوْتُموها ما سَمِعَتْ، ولوْ فُرِضَ أنَّها سَمِعَتْ ما استجابَتْ؛ لأنَّها لا تَقْدِرُ على ذلكَ.
ولهذا قالَ 
إبراهيمُ عليهِ السلامُ لأبيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}.


فإذا كانتْ كذلكَ؛

فأيُّ: شيءٍ يَدْعُو إلى أنْ تُدْعَى منْ دونِ اللهِ؟!


بلْ هذا سَفَهٌ،

قالَ تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.
قولُهُ: 
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ}، هوَ كقولِهِ تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
فهؤلاءِ المعبودونَ إنْ كانُوا يُبْعَثُونَ ويُحْشَرُونَ فكُفْرُهمْ بِشِرْكِهمْ ظاهرٌ كمَنْ يَعبدُ 
عُزَيْرًا والمسيحَ.
وإنْ كانُوا أحْجارًا وأشْجارًا ونَحْوَها؛ فيَحْتَمِلُ أنْ يَشْمَلَها بظاهرِ الآيَةِ، وهوَ أنَّ اللهَ يأتي بهذهِ الأشْجارِ ونحوِها فتَكْفُرُ بشرْكِ مَنْ يُشْرِكُ بها.
ويُؤَيِّدُهُ قولُهُ تعالى: 
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، وما ثَبَتَ في (الصَّحِيحَيْنِ) عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَنَّهُ عِنْدَ بَعْثِ النَّاسِ يُقَالُ لِكُلِّ أُمَّةٍ: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ)) فالحجَرُ يكونُ إمامَهُمْ يومَ القيامةِ، ويكونُ لهُ كلامٌ يَنْطِقُ بهِ، ويَكفُرُ بشركِهِم، فإذا كانت تُحْضَرُ وتُحْصَبُ في النارِ إهانةً لعابدِيها، وتُحْضَرُ لِتُتْبَعَ إلى النَّارِ، فلاَ غَرْوَ أنْ تَكْفُرَ بعابدِيها إذا أُحْضِرَتْ.
قولُهُ: 
{وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}معناهُ: أنَّهُ لا يُخْبِرُكَ بالخَبَرِ مِثْلُ خبيرٍ بهِ، وهوَ اللهُ؛ لأنَّهُ لا يَعْلَمُ أحدٌ ما يكونُ في يومِ القيامةِ إلاَّ اللهُ، وهوَ خَبَرُ صِدْقٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى يقولُ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً}.


والخبيرُ:

العالِمُ ببواطنِ الأمورِ.


مسألةٌ: هلْ يَسْمَعُ الأمواتُ السلامَ وَيَرُدُّونَهُ عَلَى مَنْ سلَّمَ عَلَيْهِمْ؟

اخْتُلِفَ في ذلكَ على قولَيْنِ:

القولُ الأوَّلُ:

أنَّ الأمواتَ لا يَسْمَعُونَ السَّلامَ،

وأنَّ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حينَ زِيارَةِ المَقْبَرةِ:((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ)) دُعاءٌ لا يُقصَدُ بهِ المُخاطَبةُ، ثمَّ على فَرْضِ أنَّهم يَسْمَعُونَ كما جاءَ في الحديثِ الذي صحَّحَهُ ابنُ عبدِ البَرِّ وأقرَّهُ ابنُ القَيِّمِ: ((بِأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى شَخْصٍ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ فَرَدَّ السَّلاَمَ)) فيقال: عَلَى تَقْديرِ صِحَّةِ هذا الحديثِ، لا يَلْزَمُ أنْ يَسْمَعُوا كُلَّ شيءٍ بل يسمعون السلام ويردونه.
ثمَّ لوْ فُرِضَ أنَّهم يَسْمَعُونَ غيرَ السَّلاَمِ، فإنَّ اللهَ صرَّحَ بأنَّ المَدْعُوِّينَ مِنْ دونِ اللهِ بأَنَّهم لاَ يَسْمَعُونَ دُعاءَ مَنْ يَدْعُوهُمْ، فلا يُمْكِنُ أنْ نقولَ إنَّهم يَسْمَعُونَ دعاءَ مَنْ يَدعوهُمْ؛ لأنَّ هذا كُفرٌ بالقرآنِ.
فتَبَيَّنَ بهذا أنَّهُ لا تَعَارُضَ بَيْنَ قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: 
((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)) وبينَ هذهِ الآيَةِ.
وأمَّا قولُهُ: 
{وَلَوْ سَمِعُوا} فمعناهُ لوْ سَمِعُوا فَرْضًا ما اسْتَجَابُوا لَكُم؛ لأِنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ.


القولُ الثاني:

أنَّ الأمواتَ يَسْمَعُونَ.


واسْتَدَلُّوا على ذلكَ: بالخِطَابِ الواقعِ في سلامِ الزائرِ لهمْ بالمقبرةِ.
وبما ثَبَتَ في

(الصَّحِيحِ) منْ أنَّ المُشَيِّعِينَ إذا انصَرَفُوا سَمِعَ المُشَيَّعُ قَرْعَ نعالِهِمْ.


والجوابُ عنْ هذَيْنِ الدليلَيْنِ:

أمَّا الأوَّلُ:

فإنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن السَّلاَمِ عَلَيْهِمْ أنْ يَسْمَعُوا؛

ولهذا كانَ المسلمونَ يُسَلِّمُونَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حياتِهِ في التَّشهُدِ وهوَ لا يَسْمَعُهُمْ قَطعًا.


وأمَّا الثاني:

فهوَ واردٌ في وَقْتٍ خاصٍّ،

وهوَ انْصِرَافُ المشيِّعينَ بعدَ الدَّفنِ.
وعَلَى كُلٍّ فالقَوْلاَنِ مُتَكَافِئَانِ، واللهُ أعْلَمُ.
قولُهُ: (شُجَّ) الشَّجَّةُ الجُرحُ في الرَّأْسِ والوجهِ خاصَّةً.
قولُهُ: (وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ) السِّنَّانِ المُتَوَسِّطَانِ يُسَمَّيَانِ ثَنَايَا، ومَا وراءَهُما يُسَمَّيَانِ رَبَاعِيَتَيْنِ.
قال 
النووي في (شرح مسلم) (7/125): قوله: (وكسرت رباعيته) هي بتخفيف الياء، وهي السن التي تلي الثنّية من كل جانب، وللإنسان أربع رباعيات.
وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم، ويتأسوا بهم).


قولُهُ:

فقالَ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!)) الاستفهامُ يُرادُ بهِ الاستبعادُ؛ أيْ: بعيدٌ أنْ يُفْلِحَ قومٌ شجَّوا نَبيَّهُم صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: 
((يُفْلِحُ)) من الفلاحِ، وهوَ الفوزُ بالمطلوبِ، والنجاةُ من المَرْهُوبِ.


(3)

قولُهُ: (فنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) أيْ: نَزَلَتْ هذهِ الآيَةُ.

والخطابُ فيها للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ.
و
{شَيْءٌ} نَكِرَةٌ في سياقِ النَّفيِ فتَعُمُّ.
قولُهُ: 
{الأَمْرِ} أي: الشَّأْنِ، والمرادُ: شأنُ الخلقِ. فَشَأْنُ الخلقِ إلى خالقِهِمْ، حتَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ فيهمْ شيءٌ.
ففي الآيَةِ خطابٌ للرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقدْ شُجَّ وجْهُهُ، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، ومعَ ذلكَ ما عَذَرَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ في كلمةٍ واحدةٍ: 
((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!)).
فإذا كانَ الأمرُ كذلكَ فما بالُكَ بِمَنْ سِوَاهُ؟
فليسَ لهم مِن الأمْرِ شَيْءٌ؛ كالأصْنامِ والأوْثانِ والأنْبياءِ. فالأمرُ كلُّهُ للهِ سبحانَهُ وتَعَالَى، كَمَا أنَّهُ الخالقُ وحدَهُ. والحمدُ للهِ الذي لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَنَا إلى أحدٍ سِوَاهُ؛ لأنَّ المخلوقَ لا يَمْلِكُ لنَفْسِهِ نَفْعًا ولا ضرًّا، فكيفَ يملكُ لغيرِهِ؟!
قولُهُ: 
(فَنَزَلَتْ) الفاءُ للسَّبَبِيَّةِ، وعليهِ فيكونُ سببَ نزولِ هذهِ الآيَةِ هذا الكلامُ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ؟!)).


(4)

قولُهُ:

(إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ في الرَّكْعَةِ الأخيرةِ مِن الفَجْرِ) قيَّدَ مَكَانَ الدعاءِ مِن الصلواتِ بالفَجْرِ، ومكانَهُ مِن الرَّكْعَاتِ بالأخيرةِ، ومكانَهُ من الركْعَةِ ما بعدَ الرَّفْعِ مِن الرُّكُوعِ.


(5)

قولُهُ:

((اللهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا)) اللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبعادُ عنْ رحمةِ اللهِ؛ أيْ: أبْعِدْهُم عنْ رَحْمَتِكَ، واطْرُدْهم منها.
و
َ(فُلاَنًا وَفُلاَنًا) بيَّنَهُ في الروايَةِ الثانيَةِ أنَّهم صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلُ بنُ عمرٍو، والحارثُ بنُ هشامٍ.


(6)

قولُهُ:

(بعْدَما يقولُ:((سمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))) أيْ: يقولُ ذلكَ إذا رَفَعَ رأسَهُ وقالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.


(7)

قولُهُ:

(فَأنْزَلَ اللهُ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) هُنَا قالَ: (فَأَنْزَلَ) وفي الحديثِ السابقِ قالَ: (فَنَزَلَتْ) وكلُّها بالْفَاءِ.
وعَلَى هذا يكونُ سببَ نزولِ الآيَةِ دعوةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على هؤلاءِ، وقولُهُ: 
((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!)) ولا مانِعَ أنْ يَكُونَ للآيَةِ سَبَبَا نُزُولٍ.


وقدْ أسلمَ هؤلاءِ الثلاثةُ،

وحَسُنَ إسلامُهُم رَضِيَ اللهُ عنهم. فتأمَّل كيف تنقلب العداوةَ ولايَةً؛ لأنَّ القلوبَ بِيَدِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى، ولوْ أنَّ الأمرَ كانَ عَلَى ظَنِّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لبَقِيَ هؤلاءِ على الكفرِ حتَّى الموتِ، إذ لوْ قُبِلَت الدَّعْوةُ عليهم وطُرِدُوا عن الرَّحمةِ لَمْ يَبْقَ إلاَّ العذابُ.


ولكنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ مِن الأمرِ شيءٌ،

فالأمرُ كُلُّهُ للهِ. ولهذا هدَى اللهُ هؤلاءِ القومَ وصَارُوا مِنْ أولياءِ اللهِ الذَّابِّينَ عنْ دينِهِ، بعْدَ أنْ كانُوا أعداءَ اللهِ القائمينَ ضِدَّهُ. واللهُ سبحانَهُ يَمُنُّ على مَنْ يَشَاءُ مِنْ عبادِهِ.


(8)

قولُهُ:

(قامَ) أيْ: خطيبًا.
قولُهُ: 
(أُنْزِلَ عليْهِ) أيْ: أُنْزِلَ عليهِ بواسطةِ جبريلَ{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ}.
قولُهُ: 
{وَأَنْذِرْ} أيْ: حَذِّرْ وَخَوِّفْ.


والإنذارُ:

الإعلامُ المقرونُ بتخويفٍ.


قولُهُ:

{عَشِيرَتَكَ} العشيرةُ قبيلةُ الرجُلِ مِن الجَدِّ الرابعِ فما دُونَ.
قولُهُ: 
{الأَقْرَبِينَ} أي: الأقربُ فالأقربُ، فأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ في عشيرةِ الرجلِ أولادُهُ، ثمَّ آباؤُهُ، ثمَّ إخوانُهُ، ثمَّ أعمامُهُ، وهكذا.


ويُؤْخَذُ مِنْ هذا أنَّ الأقْرَبَ فالأقربَ أَوْلَى بالإنْذَارِ؛

لأنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ عَلَى وصْفٍ يَقْوَى بقُوَّةِ هذا الوصفِ، وذلكَ أنَّ الوَصْفَ المُوجِبَ للحُكْمِ كُلَّما كانَ أظْهَرَ وأبْيَنَ كانَ الحُكْمُ فيهِ أظْهَرَ وأَبْيَنَ.
وقولُهُ: 
(حينَ أُنْزِلَ عليْهِ) يُفِيدُ أنَّهُ لمْ يتَأَخَّرْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بلْ قامَ فقالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ)) أيْ: يا جماعةَ قريشٍ.


(9)

قولُهُ:

((اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ)) أيْ: أَنْقِذُوها؛ لأنَّ المُشْتَرِيَ نَفَسَهُ كأنَّهُ أَنْقَذَها مِنْ هَلاَكٍ، والمُشْتَرِيَ رَاغِبٌ.
ولهذا عَبَّرَ بالاشتراءِ كأنَّهُ يقولُ: اشْتَرُوا أنْفُسَكُم رَاغِبِينَ.
وفي قولِهِ: 
((اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ)) مِن الحضِّ على هذا الأمرِ ما هوَ ظاهرٌ؛ لأنَّ المشتريَ يكونُ راغبًا.
قولُهُ: 
((لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) هذا هوَ الشاهدُ؛ أيْ: لا أَدْفَعُ، أوْ لا أَنْفَعُ؛ أيْ: لا أَنْفَعُكُم بِدَفْعِ شيءٍ عنكم دونَ اللهِ، ولا أمْنَعُكُم مِنْ شيءٍ أرادَهُ اللهُ لكم؛ لأنَّ الأمرَ بِيَدِ اللهِ.
ولهذا أمرَ اللهُ نبيَّهُ بذلكَ فقالَ: 
{قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}.
قولُهُ: 
((شَيْئًا)) نَكِرَةٌ في سياقِ النَّفْيِ، فَتَعُمُّ أيَّ شيءٍ.


(10)

قولُهُ:

((يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ)) هوَ عمُّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وعبدُ المُطَّلِبِ جَدُّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.


فإنْ قيلَ: كيفَ يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:

عَبْدَ المُطَّلِبِ مَعَ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُضَافَ عَبْدٌ إلاَّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؟


فالجوابُ:

أنَّ هذا ليسَ إنْشَاءً، بلْ هوَ خَبَرٌ، فاسْمُهُ عبدُ المُطَّلِبِ ولمْ يُسَمِّهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لكن اشْتُهِرَ بعبدِ المُطَّلِبِ.


(11)

قولُهُ:

((لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) أيْ: لا أنْفَعُكَ بشيءٍ دونَ اللهِ، ولا أمْنَعُكَ مِنْ شيءٍ أرادَهُ اللهُ لكَ، فالنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يُغْنِي عَنْ أحدٍ شيئًا، حتَّى عَن أبيهِ وأُمِّهِ.


(12)

قولُهُ:

((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ)) أي: اطْلُبِينِي مِنْ مالِي ما شِئْتِ فَلَنْ أمْنَعَكِ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَالِكٌ لمالِهِ، ولكنْ بالنِّسْبَةِ لحقِّ اللهِ قالَ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).
فهذا كلامُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأقَارِبِهِ الأقربينَ؛ عمِّهِ وعمَّتِهِ وابنتِهِ. فما بالُكَ بِمَنْ هم أبعدُ؟
فعدمُ إغنائِهِ عنهم شيئًا مِنْ بابِ أَوْلَى، فهؤلاءِ الذينَ يَتَعَلَّقُونَ بالرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ويَلُوذُونَ ويَسْتَجِيرُونَ بهِ، قدْ غرَّهُم الشَّيْطانُ واجْتَالَهُم عنْ طريقِ الحقِّ؛ لأنَّهم تَعَلَّقوا بما ليسَ بمُتَعَلَّقٍ، فالذي يَنْفَعُ بالنِّسْبةِ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هوَ الإيمانُ بهِ واتِّبَاعُهُ.


أمَّا دُعاؤُهُ والتَّعَلُّقُ بهِ ورجاؤُهُ فيما يُؤَمَّلُ،

وخَشْيَتُهُ في ما يُخَافُ منهُ، فهذا شركٌ باللهِ، وهوَ ممَّا يُبْعِدُ عن الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعن النَّجاةِ منْ عذابِ اللهِ.


ففِي الحديثِ امتثالُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأمرِ ربِّهِ في قولِهِ تَعَالَى:

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}

فإنَّهُ قامَ بهذا الأمرِ أتمَّ القيامِ، فدَعَا وعَمَّ وخَصَّصَ وبيَّنَ أنَّهُ لا يُنْجِي أحَدًا مِنْ عَذَابِ اللهِ بأيِّ وسيلةٍ، بَل الذي يُنْجِي هوَ الإيمانُ بهِ واتِّباعُ ما جاءَ بهِ.
وإذا كانَ القُرْبُ من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يُغْنِي عن القريبِ شيئًا، دلَّ ذلكَ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّ جاهَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يَنْتَفِعُ بهِ إلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. ولهذا كانَ أصَحَّ قَوْلَيْ أهلِ العلْمِ تَحْرِيمُ التوسُّلِ بجاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.


(13)

فيهِ مسائلُ:

الأولى:

(تفسيرُ الآيتَيْنِ)

وهما آيَتَا الأعرافِ. وسَبَقَ ذلكَ في أوَّلِ البابِ. والاسْتِفْهامُ فيهما للتَّوْبِيخِ والإنْكَارِ، وكذلكَ سَبَقَ تَفْسِيرُ الآيَةِ الثالثةِ؛ وهي آيَةُ فاطرٍ.


(14)

الثانيَةُ: (قِصَّةُ أُحُدٍ)

حيثُ شُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ... الحديثَ.


(15)

الثالثةُ: (قُنُوتُ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ... إلخ)

أرادَ المُؤَلِّفُ بهذهِ المسألةِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَيِّدَ المُرْسَلِينَ، وأَصْحَابَهُ سَادَاتِ الأولياءِ، ما أَنْقَذُوا أَنْفُسَهم، فكيفَ يُنْقِذُونَ غَيْرَهُم؟!
وليسَ مُرَادُهُ رَحِمَهُ اللهُ مُجَرَّدَ إثباتِ القُنُوتِ والتأمينِ عليهِ، ولهذا جاءت العباراتُ بسيِّدٍ وساداتٍ، فلا أحدَ أَقْرَبُ إلى اللهِ من الرسولِ وأصحابِهِ، ومعَ ذلكَ يَلْجَأُونَ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ في كَشْفِ الكُرُباتِ، ومَنْ كانت هذهِ حالُهُ فكيفَ يُمْكِنُ أن يُلْجَأَ إليهِ في كَشْفِ الكُرُباتِ؟!
فليسَ مُرَادُ 
المُؤَلِّفِ إثباتَ مسألةٍ فقهيَّةٍ.


(16)

الرابعةُ: (أنَّ المَدْعُوَّ علَيْهِمْ كُفَّارٌ)

تُؤْخَذُ مِنْ قوْلِهِ تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، فهذا دليلٌ على أنَّهم الآنَ لَيْسُوا عَلَى حالٍ مَرْضِيَّةٍ، ثمَّ إنَّهُ مَعْرُوفٌ أنَّ صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ وسُهَيْلَ بنَ عمرٍو والحارثَ بنَ هشامٍ وقتَ الدعاءِ عليهم كانوا كُفَّارًا.


وهذهِ المسألةُ؛

أيْ: أنَّ المَدْعُوَّ عليهم كُفَّارٌ، تَرْمِي إلى أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وإنْ كانَ يَرَى أنَّهُ دعا عليهم بحقٍّ، فقدْ قَطَعَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى أنْ يَكُونَ لهُ من الأمرِ شيءٌ؛ لأنَّهُ قدْ يَقُولُ قائلٌ: إذا كانوا كُفَّارًا أَلَيْسَ يَمْلِكُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يَدْعُوَ عَلَيْهم؟


نقولُ:

حتَّى في هذهِ الحالِ لاَ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهم شيئًا، هذا وَجْهُ قولِ المُؤَلِّفِ أنَّ المَدْعُوَّ عليهم كُفَّارٌ.
وليسَ مُرَادُهُ الإعلامَ بِكُفْرِهم؛ لأنَّ هذا مَعْلُومٌ لاَ يَسْتَحِقُّ أنْ يُعَنْوَنَ لهُ.
بل المرادُ في هذهِ الحالِ الذي كانَ هؤلاءِ كُفَّارًا لمْ يَمْلِك النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ شيئًا بالنسبةِ إليهم.


(17)

الخامسةُ: (أنَّهم فَعَلُوا أشياءَ ما فَعَلَها غَالِبُ الكُفَّارِ) أيْ: أنَّهم مَعَ كُفْرِهم كانُوا مُعْتَدِينَ، ومَعَ ذلكَ قِيلَ لهُ في حَقِّهِم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.
وإلاَّ فَهُم شَجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَمَثَّلُوا بالقَتْلَى؛ مِثلِ 
حَمْزَةَ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ. وكذلكَ أيضًا حَرَصُوا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مَعَ أنَّ كُلَّ هؤلاءِ فيهم مِنْ بَنِي عَمِّهم، وفيهم مِن الأنصارِ.


(18)

السادسةُ:

(أَنْزَلَ اللهُ عليهِ في ذلكَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}) أيْ: معَ ما تَقَدَّمَ مِن الأمورِ التي تَقْتَضِي أنْ يكونَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حقٌّ بأنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِم، أَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، فالأمرُ للهِ وحدَهُ، فإذا كانَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ قُطِعَ عنهُ هذا الشيءُ، فغَيْرُهُ مِنْ بابِ أَوْلَى.


(19)

السابعةُ: (قولُهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، فتابَ عَلَيْهِم فآمَنُوا) وهذا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ سُلْطانِ اللهِ وقُدْرَتِهِ؛ فهؤلاءِ الذينَ جَرَى مِنْهم ما جَرَى تابَ اللهُ عَلَيْهِم وآمَنُوا؛ لأنَّ الأمرَ كُلَّهُ بيَدِهِ سبحانَهُ، وهوَ الذي يُذِلُّ مَنْ يشاءُ ويُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ؛ فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ومَنْ دُونَهُ لا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يُغيِّرُوا شيئًا مِنْ أمْرِ اللهِ.


(20)

الثامنةُ: (القنوتُ في النوازِلِ)

وهذهِ هيَ المسألةُ الفقهِيَّةُ، فإذا نَزَلَ بالمسلمينَ نازلةٌ فإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُدْعَى لَهُم حَتَّى تَنْكَشِفَ.
وهذا القُنُوتُ مشروعٌ في كلِّ الصلواتِ، كما في حديثِ 
ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما الذي رَوَاهُ أحْمَدُ وغيرُهُ، إلاَّ أنَّ الفقهاءَ رحِمَهُم اللهُ اسْتَثْنَوا الطَّاعُونَ وقَالُوا: لا يُقْنَتُ لهُ؛ لعدمِ وُرودِ ذلكَ، وقَدْ وَقَعَ في عهدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ ولَمْ يَقْنُتْ. ولأنَّهُ شهادةٌ؛ فلا يَنْبَغِي الدُّعاءُ برَفْعِ سَبَبِ الشَّهَادَةِ.


وظاهرُ السُّنَّةِ: أنَّ القُنُوتَ إنَّما يُشْرَعُ في النَّوازلِ التي تكونُ مِنْ غيرِ اللهِ،

مِثلِ: إيذاءِ المسلمينَ والتَّضْيِيقِ عَلَيْهِم.


أمَّا ما كانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ؛

فإنَّهُ يُشْرَعُ لهُ ما جَاءتْ بهِ السُّنَّةُ، مثلُ: الكُسُوفِ، فيُشْرَعُ لهُ صلاةُ الكسوفِ، والزلازلُ شُرِعَ لها صلاةُ الكُسُوفِ، كما فَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما وقالَ: (هذهِ صلاةُ الآياتِ)وَالْجَدْبُ يُشْرَعُ لهُ الاسْتِسْقَاءُ، وهكذا.
وما عَلِمْتُ لِسَاعَتِي هذهِ أنَّ القُنُوتَ شُرِعَ لأمرٍ نَزَلَ مِن اللهِ، بَلْ يُدْعَى لهُ بالأَدْعِيَةِ الوَارِدةِ الخَاصَّةِ، لكنْ إذا ضُيِّقَ عَلَى المُسْلِمينَ وأُوذُوا وما أَشْبَهَ ذلكَ؛ فإنَّهُ يُقْنَتُ اتِّباعًا للسُّنَّةِ في هذا الأمرِ.


ثُمَّ مَن الذي يَقْنُتُ، الإمامُ الأعظمُ، أوْ إمامُ كُلِّ مسجدٍ، أوْ كُلُّ مُصَلٍّ؟

المَذْهَبُ:

أنَّ الذِي يَقْنُتُ هوَ الإمامُ الأعْظَمُ فقطْ؛ الذي هوَ الرئيسُ الأعْلَى للدَّوْلَةِ.
وقيلَ:
 يَقْنُتُ كُلُّ إمامِ مَسْجِدٍ.


وقيلَ:

يَقْنُتُ كلُّ مُصَلٍّ،

وهوَ الصَّحيحُ؛ لِعُمُومِ قولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) وهذا يَتَنَاولُ قُنُوتَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عِنْدَ النَّوازِلِ.


(21)

التاسعةُ: (تَسْمِيَةُ المدعوِّ عليهم في الصلاةِ بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم)

وهمْ صفوانُ بنُ أُمَيَّةَ، وسُهَيْلُ بنُ عمرٍو، والحَارِثُ بنُ هشامٍ، فسَمَّاهُم بأسمائِهِم وأسماءِ آبائِهِم، لكنْ هلْ هذا مَشْرُوعٌ أوْ جَائزٌ؟


الجوابُ:

هذا جائزٌ، وعليهِ؛ فإذا كانَ في تَسْمِيَةِ المَدْعُوِّ عليهم مَصْلَحةٌ كانَت التَّسْمِيَةُ أَوْلَى، لوْ دَعَا إنْسانٌ لأُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ في الصَّلاَةِ جازَ؛ لأنَّهُ لا يُعَدُّ مِنْ كلامِ الناسِ، بلْ هوَ دُعاءٌ، والدُّعاءُ مُخَاطَبَةُ اللهِ تَعَالَى، ولاَ يَدْخُلُ في عُمُومِ قولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ)).


مَسْأَلةٌ: هَل الذي نُهِيَ عنهُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ الدُّعاءُ أوْ لَعْنُ المُعَيَّنِينَ؟

الجوابُ:

المنهيُّ عنهُ هوَ لَعْنُ الكُفَّارِ في الدُّعاءِ عَلَى وجهِ التَّعْيِينِ، أمَّا لَعْنُهُم عمومًا فلا بَأْسَ بهِ، وقَدْ ثَبَتَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ كانَ يَقْنُتُ ويَلْعَنُ الْكَفَرةَ عُمُومًا، ولاَ بَأْسَ بِدُعائِنا عَلَى الكَافِرِ بقَوْلِنا: اللهُمَّ أَرِح المسلمينَ منهُ، واكْفِهِم شَرَّهُ، واجْعَلْ شَرَّهُ في نَحْرِهِ، ونحوِ ذلكَ.


أمَّا الدعاءُ بالهلاكِ لعمومِ الكُفَّارِ فإنَّهُ مَحَلُّ نظرٍ؛

ولهذا لم يَدْعُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ بالهلاكِ، بَلْ قالَ: ((اللهُمَّ عَلَيْكَ بِهِمْ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)) وهذا دعاءٌ عليهم بالتَّضْيِيقِ، والتَّضْييقُ قَدْ يَكُونُ مِنْ مَصْلَحةِ الظَّالمِ بحيثُ يَرْجِعُ إلى اللهِ عنْ ظُلْمِهِ.
فالمُهِمُّ أنَّ الدُّعاءَ بالهلاكِ لجِمِيعِ الكُفَّارِ عِنْدِي تَرَدُّدٌ فيهِ.
وقدْ يُسْتَدَلُّ بدعاءِ 
خُبَيْبٍ حَيْثُ قالَ: ((اللهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، ولا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا)) على جوازِ ذلكَ؛ لأنَّهُ وَقَعَ في عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولأنَّ الأمرَ وَقَعَ كما دَعَا؛ فإنَّهُ ما بَقِيَ مِنْهُم أحَدٌ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ، ولَمْ يُنْكِر اللهُ تَعَالَى ذلكَ، ولا أنْكَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، بلْ إنَّ إجابةَ اللهِ دُعَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وإِقْرَارِهِ عليهِ.
فهذا
 قَدْ يُسْتَدَلُّ بهِ عَلَى جَوَازِ الدُّعاءِ عَلَى الكُفَّارِ بالْهَلاكِ، لَكِنْ يُحْتَاجُ أنْ يُنْظَرَ في القِصَّةِ فقدْ يكونُ لها أسبابٌ خاصَّةٌ لا تَأْتِي في كلِّ شيءٍ.
ثمَّ إنَّ 
خُبَيْبًا دَعَا بالهلاكِ لِفِئَةٍ مَحْصُورَةٍ مِن الكُفَّارِ لاَ لِجَمِيعِ الكفَّارِ.


وفيهِ:

أيضًا، إنْ صحَّ الحديثُ،

دُعَاؤُهُ عَلَى عُتْبَةَ بنِ أبي لَهَبٍ: ((اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلاَبِكَ)).


فيهِ:

دليلٌ عَلَى الدُّعاءِ بالْهَلاَكِ،

لكنْ هذا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لاَ عَلَى جَمِيعِ الكُفَّارِ.


(22)

العاشرةُ: (لَعْنُ المُعَيَّنِ في القُنُوتِ)

هذا غريبٌ، فإنْ أرادَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ هذا أَمْرٌ وَقَعَ، ثُمَّ نُهِيَ عنهُ فَلاَ إِشْكَالَ، وإنْ أرادَ أنَّهُ يُسْتَفادُ مِنْ هذا جَوَازُ لَعْنِ المُعَيَّنِ في القُنُوتِ أبدًا، فهذا فيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نُهِيَ عنْ ذلكَ.


(23)

الحاديَةَ عشرةَ: (قِصَّتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لمَّا أُنْزِلَ عليهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}) وهيَ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ نادَى قُرَيْشًا، فَعَمَّ ثمَّ خصَّ، فامْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ في هذهِ الآيَةِ.


(24)

الثانيَةَ عشرةَ: (جِدُّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في هذا الأمرِ بحَيْثُ فعلَ ما نُسِبَ بسَبَبِهِ إلى الجُنُونِ)

أي: اجْتِهَادُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ في هذا الأمرِ بحيثُ قالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا جُنَّ، كيفَ يَجْمَعُنا ويُنَادِينَا هذا النِّدَاءَ.
وقولُهُ: (وَكَذَا لوْ فعَلَهُ مُسْلِمٌ الآنَ) أيْ: لوْ أنَّ إنْسَانًا جَمَعَ النَّاسَ ثمَّ قامَ يُحَذِّرُهُم لِتَحْذِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لقالُوا: مَجْنُونٌ؛ إلاَّ إذا كانَ مُعْتادًا عندَ الناسِ، قالَ تَعَالَى: 
{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وقالَ تَعَالَى: {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}.
فهذا يَخْتَلِفُ باخْتِلاَفِ البلادِ والزَّمَانِ.
ثمَّ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإنْسَانِ أنْ يَبْذُلَ جُهْدَهُ واجْتهادَهُ في الدَّعْوةِ إلَى اللهِ بالحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قامَ بهذا الأمرِ ولَمْ يُبَالِ بِمَا رُمِيَ بهِ مِن الجُنُونِ.


(25)

الثالثةَ عشرةَ: (قولُهُ للأبعدِ والأقربِ: ((لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) )

صدقَ رَحِمَهُ اللهُ فيما قالَ؛ فإنَّهُ إذَا كانَ هذا القائلُ سيِّدَ المُرْسَلِينَ، وقالَهُ لِسَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ، ثمَّ نحنُ نُؤْمِنُ أنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ لاَ يَقُولُ إلاَّ الحَقَّ، وأنَّهُ لا يُغْنِي عن ابْنَتِهِ شيئًا.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا الباب: إيراده بعد الأبواب المتقدمة من أحسن الإيراد؛

ومن أعظمه فقهاً ورسوخاً في العلم، ذلك أن برهان وجوب توحيد الله -جل وعلا- في إلاهيته هو ما رُكِز في الفِطر، من أنه جل وعلا: واحد في ربوبيته.


والربوبية؛ وأن الله واحدٌ في ربوبيته هذه:

يقر بها المشركون.

ويقر بها كل أحد، فهي البرهان على أنَّ المستحق للعبادة هو مَنْ توحد في الربوبية.

فهذا الباب؛ والباب الذي بعده أيضا، برهان لاستحقاق الله العبادة وحده دون ما سواه:

بدليلٍ فطريٍّ.

ودليلٍ واقعيٍّ.

ودليلٍ عقليٍّ، ومن المعلوم أن الأدلة العقلية عندنا: أهل السنة والجماعة، نأخذها من الكتاب والسنة؛لأن في الكتاب والسنة من الأدلة العقلية ما يغني عن تكلف أدلة عقلية أخرى لمن تأمل ذلك في نصوص الوحيين.


فهذا الباب فيه بيان:

أن الذي يخلق هو الله وحده.

والذي يرزق هو الله وحده.

والذي يملك هو الله وحده؛ وأن غير الله جل وعلا:

- ليس له نصيب من الخلق.

وليس له نصيب من الرزق.

وليس له نصيب من الإحياء.

وليس له نصيب من الإماتة.

وليس له نصيب من الأمر.

وليس له مِلْك حقيقي في أمر من الأمور {ليس لك من الأمر شيء} حتى أعلى الخلق مقاماً، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له الله جل وعلا: {ليس لك من الأمر شيء} يعني: لست مالكاً لشيء من الأمر، ليس من الأمر شيءٌ تملكه، (اللام) هنا لام المِلك، فمن الذي يملك إذاً؟


هو الله جل وعلا،

فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يُنفى عنه ذلك، فإن نفيه عمن هو دونه من باب أولى.

والذين توجهوا إلى أصحاب القبور، أو إلى الصالحين، والأولياء، والأنبياء: في داخلهم زعمٌ بأنهم يملكون أشياء، إما أن يملكوا شيئاً من الرزق؛ أو أن يملكوا شيئاً من التوسط، والشفاعة بدون إذن الله -جل وعلا- ومشيئته، فإذاً: هذا الباب أحد الأبواب التي فيها البرهان على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه.


والقرآن فيه كثير من البراهين على أن المستحق للعبادة هو الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، فمن تلك الأدلة والبراهين:

-ما في القرآن من أدلةٍ فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، كل ذلك النوع من الأدلة فيه دليلٌ على أن المستحق للعبادة: هو من أقررتم له بالربوبية.

ومن الأدلة والبراهين على ذلك: ما في القرآن، من أن الله -جل جلاله- نصر رسله وأولياءه على أعدائهم؛ وأن كل طائفة من طوائف الشرك ذلت، وخضعت، وغُلبت أمام طوائف أهل الإيمان؛ أمام جند الله -جل وعلا- من الرسل، ومن أتباع الرسل والأنبياء.

- وهذا نوع آخر من الأدلة، أنه ما من طائفةٍ موحدةٍ بعث الله -جل وعلا- إمامها ورسولها بقتال المشركين، إلا وظهرت عليهم، إلا وغلبتهم، حتى صارت العاقبة لهم؛ وهذا أمرٌ في القرآن كثير، وأدلته كثيرة: قصص الأنبياء، وقصص القرى، وكل قرية خالفت رسولها عُوقبت، وهكذا كل القرى؛ هذا دليل على أن التوحيد هو الحق، وأن الشرك باطل.

- من الأدلة نوع آخر في القرآن، من البراهين نوع آخر في القرآن، من أنَّ المخلوق ضعيف: أن العابد الذي يسمع هذا القرآن، كل مخلوق كل مكلف يعلم من نفسه الضعف، وأنه جاء إلى الحياة بغير اختياره، بل الله -جل وعلا- الذي أتى به إلى هذه الحياة، وأنه سيخرج من هذه الحياة بغير اختياره أيضاً، فهو إذاً: مقهور، ويعلم قطعاً أن الذي قهره وأذله وجعله على هذه الحالة ليس هو تلك الآلهة، وإنما هو الله -جل وعلا -وحده، هو الذي يحيي ويميت؛ وهذا إقرار عام يعلمه كل أحد من فطرته.

- من الأدلة والبراهين أيضاً: أن الله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى، وله الصفات العُلى؛ وأنه ذو النعوت الكاملة، وذو النعوت الجليلة:

نعوت الجلال.

ونعوت الجمال.

ونعوت الكمال.

وهو سبحانه له الكمال المطلق في كل اسم له، وفي كل نعت ووصف له؛ له الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، هذا الباب ذكر فيه الشيخ -رحمه الله- أحدَ أنواع أدلة الربوبية، أو براهين التوحيد؛ وأنه -جل وعلا- هو الواحد في ربوبيته.

هذا الباب مع الباب الذي يليه، مناسبته لكتاب التوحيد: أن هذين البابيْن هما برهان للتوحيد، برهان لاستحقاق الله -جل وعلا- العبادة وحده، وعلى بُطلان عبادة ما سواه؛ وهذا البرهان هو بتقرير أن الله جل وعلا واحدٌ في ربوبيته:

ودليل ذلك الفطرة.

ودليل ذلك العقل.

ودليل ذلك أيضاً النص من الكتاب والسُّنة.

فلا أحد ينكر أن الله -جل وعلا- هو مالك الملك؛ وهو الذي بيده تصريف الأمر كيف يشاء، إلا شرذمة قليلة من الناس كما قال الشهرستاني وغيره: (لا يصحّ أن تُنسب لهم مقالة).

فالناس مفطورون على الإقرار بالرّب؛ وعلى الإقرار بأنهم مخلوقون، وإذا كان كذلك، فإن الحُجَّة عليهم في وجوب توحيد الألوهية، أن الله جعل في فِطَرِهم الإقرار بأن الله واحد في ربوبيته؛ ولهذا المشركون لا ينكرون:

أن الله -جل جلاله- واحد في خلقه.

واحد في رزقه، يعني أنه هو الخَلاّق وحده؛ وأنه هو الرزاق وحده، وأنه -جل وعلا- هو الذي يحي ويميت؛ وهو الذي يُجير ولا يُجار عليه، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض؛ وهو الذي يُنبت النبات؛ وهو الذي ينزل الماء؛ إلى آخر أفراد تدبيره -جل وعلا- للأمر، وأفراد توحيد الربوبية.


فالبرهان على أن الله هو المستحق للعبادة

وحده، أنه -جل وعلا- هو مالك الملك وحده، وهو الذي يُدبّر هذا الملكوت وحده، وهو الذي خلق العباد، والعباد صائرون إليه؛ أما الآلهة التي توجّه إليها العباد بالعبادة من الأنبياء، والأولياء، أو الملائكة، فإنما هم مخلوقون مربوبون، لا يَخلقون شيئاً وهم يُخلقون، وأيضاً لا يستطيعون نصراً لمن سألهم، وإنما ذلك لله جل وعلا.

فإذا كان أولئك ليس لهم من الأمر شيء، وليس لهم من الملك شيء، وليس لهم من الخلق شيء، وليس لهم من تدبير الأمر شيء، وإنما تدبير أمر السماوات، وتدبير أمر الأرض بيد الله وحده دونما سواه؛ فإن الذي يستحق العبادة وحده هو الذي يفعل تلك الأفعال، وهو الذي يتصف بتلك الصفات، هو الذي وَحَّده العبادُ في ربوبيّته؛ فإذا كان كذلك فيجب أن يكون إذاً واحداً في أفعالهم، بألاّ يتوجهوا بالعبادة إلاّ إليه وحده.


وهذا كثير في القرآن جدّاً، فإنك تجد في القرآن أن أعظم الأدلة والبراهين على المشركين في إبطال عبادتهم لغير الله، وفي إحقاق عبادة الله وحده دون ما سواه، أنهم يُقرون بتوحيد الربوبية؛ فالإقرار بتوحيد الربوبية: برهان توحيد الإلهية؛ فالله -جل وعلا- احتجّ في القرآن على المشركين بما أقرّوا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية.

- ولهذا قال جل وعلا: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمَّن يملك السمع والأبصار ومن يُخرج الحيَّ من الميت ويُخرج الميت من الحيّ ومن يُدبر الأمر، فسيقولون الله قل أفلا تتقون} يعني: أتقرّون بذلك فلا تتقون الشرك؛ لأني ذكرت لكم أن (الفاء) أتت بعد الهمزة، فهي تعطف ما بعدها على جملة محذوفة دلّ عليها السياق {أفلا تتقون} يعني: أتقرّون بأن الله واحد في ربوبيته فلا تتقون الشرك به {فذلكم الله ربكم الحق} باعترافكم وبإيقانكم {فماذا بعد الحق إلاّ الضلال} وهذا نوع احتجاج بما أقرّوا به: وهو توحيد الربوبية، على ما أنكروه: وهو توحيد الإلهية.

كذلك:

الآيات العظيمة

في سورة النمل، قال جل وعلا: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خيرٌ أم ما يُشركون أمّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها، أَإِله مع الله بل هم قوم يعدلون}، {أَإِله مع الله} هنا إنكار عليهم، أنكر لماذا؟

لأن ما سبق يُقرون به {أمّن خلق السموات والأرض} يُقرون بأن الذي خلقها هو الله، فإذاً: كيف يتخذون إلهاً مع الله؟!

كان هذا إنكار، مَن الذي أنزل لهم من السماء ماءً؛ فأنبت لهم به حدائق ذات بهجة؟

هو الله، فإذاً: كيف يتخذون إلهاً معه؟

ولهذا قال جل وعلا: {أَإِله مع الله} هذا إنكار عليهم {بل هم قوم يعدلون} يعني: يعدلون بالله غيره.

أو يعدلون غير الله -جل وعلا- به، يعني يُساوون هذا بهذا.

أو يعدلون، يعني: يُصرفون عن الحق؛ وينصرفون عنه إلى غيره.

فكيف يعدلون عن الحق إلى غيره؟

أو كيف يعدلون بالله غيره من الآلهة؟

وهكذا الآية التي بعدها: {أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً} جواب المشركين على هذا السؤال (أمَّن) جوابهم: هو الله.

قال جل وعلا: {أَإِله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون}.

- ثم قال جل وعلا: {أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه} رجع من الآيات التي في الآفاق وفي ما حولهم إلى الشيء الذي يعلمونه علم اليقين {أمَّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السُّوء ويجعلكم خلفاء الأرض، أَإِله مع الله قليلاً مّا تذكَّرون}.

ثم قال جل وعلا: {أَمَّن يهديكم في ظلمات البرِّ والبحر ومن يُرسل الرياح بُشراً بين يَديْ رحمته أَإِله مع الله تعالى الله عمّا يُشركون، أمّن يبدؤ الخلق ثم يُعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين}.

وفي الحقيقة أنه لا بُرهان لهم.

ولهذا قال -جل وعلا- في سورة المؤمنون{ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا بُرهان له به فإنما حسابه عند ربِّه}{لا برهان له به} فكل إله لا برهان له: لا برهان له، يعني: لا حُجة قائمة على أنه إله؛ وإنما اتخذه البشر بالطغيان وبالظلم {ومن يدع مع الله إلها آخر لا بُرهان له به فإنما حسابه عند ربّه إنه لا يفلح الكافرون}.


فهذا الباب قائم على هذه الحُجَّة؛ ولهذا من أعظم الحُجّة على المشركين، وعلى الذين توجهوا إلى الأموات، توجهوا إلى المقبورين بطلب تفريج الكربات، وطلب إغاثة اللهفات، وطلب إِنجاح الحاجات، وسؤال ما يحتاجه الناس، أعظم الحجة عليهم: أن تحتجَّ عليهم بتوحيد الربوبية.

وهؤلاء المشركون في هذه الأزمنة زادوا، كما قال الشيخ -رحمه الله- في القواعد الأربع: زادوا على مُشركي الجاهلية بأنهم اعتقدوا أن لتلك الآلهة، لتلك الأموات، أن لهم تصرفاً فِي الكون أيضاً؛ فنسبوا إليهم شيئاً من الربوبية، ولم يجعلوا توحيد الربوبية أيضاً خالصاً.

وهذا البرهان برهان عظيم، ينبغي لك أن تتوسَّع في دلائله؛

وأن تعلم الحجة في القرآن منه؛ لأن القرآن كثيراً ما يحتجُّ بهذا البرهان: وهو توحيد الربوبية، على ما ينكره المشركون: وهو توحيد الإلهية.

من ذلك ما ساقه الشيخ -رحمه الله- في هذا الباب، قال: (باب قول الله تعالى: {أيُشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون}) هذا إِنكار وتوبيخ لهم، كيف يشركون الذي لا يَخلق شيئاً وهم يُخلقون؟

ومن الذي خلقهم؟

هو الله جل وعلا،

هو الذي خلق من عُبِد، وهو الذي خلق العابد أيضاً؛ فالذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه إنّما هو الله ذو الجلال والإكرام.

قال: (ولا يستطيعون لهم نصراً)؛ لأن النصر في الحقيقة إنما هو من عند الله جل وعلا، لو أراد الله أن يمنع نصر الناصر لمنعه.

قال: (وقوله: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم...} الآيات).

قال: {ما يملكون من قطمير} وهذا موطن الشّاهد قوله: (ما يملكون من قطمير)حتى هذا القطمير: وهو غلاف النواة؛ أو الحبل الواصل من أعلى النواة إلى ظاهر الثمرة، هذا لا يملكونه، فغيره مما هو أعلى منه من باب أولى وأولى، فَحتَّى هذا الشيء الحقير لا يملكونه مما لا يحتاجه الناس ولا يطلبونه، فكيف إذاً: يطلبون منهم أشياء لا يملكونها؟

قال -جل وعلاهنا: {والذين تدعون من دونه}، {الذين}: هذا اسم موصول يعمّ كل ما دُعِيَ من دون الله:

الملائكة.

أو الأنبياء.

والرسل.

أو الصالحين من الأموات.

أو الطالحين.

أو الجن.

أو الأصنام.

والأشجار والأحجار.

كُل مَنْ دُعِيَ وما دُعِيَ فإِنه لا يملك ولو قطميراً، لا يملك هذا، فإذاً: لِمَ يُسأل؟

فالواجب أن يُتوجَّه بالسؤال لمن يملك ذلك.

ذكر الشيخ -رحمه الله- بعد ذلك عدة أحاديث في هذا الباب؛ وهذه الأحاديث مدارها على بيان قول الله جل وعلا: {ليس لك من الأمر شيء} ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث، وإيراد هذه الآية: أنّ هذا النفي توجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو -عليه الصلاة والسلام- سيِّد وَلَدِ آدم؛ ليس لك يا محمد من الأمر شيء، و(اللام) في قوله {لك}لام الاستحقاق أو لام المِلْك، يعني: لا تستحق شيئاً؛ أو لا تملك شيئاً، يعني: لا تستحقه بذاتك وإنما بما أمر الله جل وعلا، وبما أَذِن به، فتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبة النبي -عليه الصلاة والسلام- هي فرعٌ عن محبة الله، وعن تعظيم الله جل وعلا، فما هو أبعد، أو أعظم مِمَّا أَذِن الله بِهِ فليس له ذلك؛ كذلك المِلْك -مِلْكْ الأشياء أو مُلك شيء من الأمر- فإنه ليس له -عليه الصلاة والسلام- ذلك.

قال الله جل وعلا: {ليس لك من الأمر شيء} ولو كان له -عليه الصلاة والسلام- من الأمر شيء، لنصر نفسه وأصحابه يوم أُحُد؛ ولكن في يوم أُحُد حصل ما حصل، فأنزل الله -جل وعلا- قوله: {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.

كذلك:

الحديث الآخر، لمّا لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قنوت الفجر فُلاناً وفُلاناً من الناس الذين آذوا المؤمنين، نزل قول الله جل وعلا: {ليس لك من الأمر شيء} يعني: لست تملك شيئاً من الأمر؛ وهكذا الحديث الذي بعده.

وهذه الأحاديث دالة على أن -النبي صلى الله عليه وسلم- نُفي عنه أن يملك شيئاً من ملكوت الله؛ وإذا كان كذلك فإنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلَّغ ذلك وبيَّنه، ومن هو دونه عليه الصلاة والسلام من باب أولى، فالملائكة أولى أن يُنفى عنهم ذلك، والأنبياء أولى أن يُنفى عنهم ذلك، وكذلك الصالحون من أتباع الرسل وأتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- كذلك أولى أن يُنفى عنهم ذلك؛ فإذا كان كذلك، بطلت كل التوجهات إلى غير الله جل وعلا، ووجب أن يُتوجّه بالعبادة وبأنواع العبادة من:

الدعاء.

والاستغاثة.

والاستعاذة.

والذبح والنذر.

- وأنواع التوجهات إلى الحق -جل وعلا- وحده دون ما سواه.

الحديث الأخير، لمّا نزلت: {وأنذِر عشيرتك الأقربين}.

[قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم لا أُغني عنكم من الله شيئاً؛ يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنكَ من الله شيئا؛ يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أُغني عنكِ من الله شيئاً؛ يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً ))].

وهذا ظاهر في أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يستطيع أن يفعل شيئاً بما ينفع به الأقربين، إلاّ ما جعل الله له من الرسالة، وبلاغ وأداء الأمانة، وأما أنه يُغني عنهم من الله شيئاً:

يُغني عنهم العذاب.

يُغني عنهم النَّكال.

يُغني عنهم العقوبة، فالله -جل وعلا- لم يجعل لأحد من خلقه من ملكوته شيئاً؛ وإنما هو سبحانه المتفرِّد بالملكوت والجبروت؛ والمتفرد بالكمال، والجمال، والجلال.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

27 Oct 2008

العناصر


مناسبة باب قول الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئا...) لما قبله


معنى قوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق..) الآية، ونظائرها


- أسباب عدم صلاحية الأصنام لأن تعبد

- فائدة مهمة في الفرق بين المشركين السابقين ومشركي هذه الأزمان

تفسير قوله تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) الآية


- المراد بالدعاء في قوله تعالى: (والذين تدعون من دونه)

- بيان معنى (القطمير)

تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) الآية


تفسير آيات سورة النمل (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) الآيات


- مقدمة في بيان استحقاق الرب جل وعلا للألوهية دون ما سواه

- بيان الأدلة والبراهين على توحيد العبادة

شرح حديث أنس رضي الله عنه (شج النبي يوم أحد...) الحديث


- الكلام على روايات حديث أنس (شج النبي..) الحديث

- معنى الشج والرباعية في اللغة

- ذكر أسماء الذين جرحوا رسول الله ومن مص دمه الزكيّ في أحد

- موقع جبل أحد، وفضيلته

- قصة غزوة أحد

- نوع الاستفهام في قوله: (كيف يفلح قوم..) الحديث

- معنى قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء)، وسبب نزولها

- الحكمة من وقوع الأسقام والابتلاءات بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام

مسألة: في سماع الموتى لتسليم المسلِّم عليهم وردهم عليه


شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما في القنوت على بعض المشركين


- ترجمة ابن عمر رضي الله عنه

- الخلاف في جمع الإمام بين التحميد والتسميع

- المراد بقوله: (اللهم العن فلاناً وفلاناً) وما يستفاد منه

- معنى اللعن من الله، ومن الخلق

- حكم تسمية المدعو عليهم في الصلاة

- السبب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على صفوان، وسهيل، والحارث، وهل استجاب الله لنبيه؟

-

هل الذي نُهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم لعن المعينين أو الدعاء عليهم؟


- حكم الدعاء بالهلاك العام على جميع الكفار
- حكم لعن المعين في القنوت
- معنى قوله: (سمع الله لمن حمده)، ولم عُدي باللام؟
- معنى (الحمد)، والروايات في قوله: (ربنا ولك الحمد)
- الفرق بين (الحمد) و(المدح)
- مشروعية القنوت في النوازل
- هل يشترط إذن الإمام في القنوت
- يستفاد من حديث ابن عمر أن العداوة قد تنقلب إلى ولاية، وذكر قصة أصيرم في ذلك

شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه (لما نزلت: (وأنذر عشيرتك الأقربين))


- ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه
- ما يستفاد من قول الراوي: (قام فينا رسول الله حين أُنزل عليه)
- بيان معنى (العشيرة)
- الحكمة من أمر الله نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، وهل تعارض أمره بإنذار الناس أجمعين؟
- بيان معنى (المعشر) في قوله: (يا معشر قريش)
- معنى قوله: (اشتروا أنفسكم)
- الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب)، وحرمة التعبيد لغير الله
- جملة من فوائد حديث أبي هريرة
- من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه

شرح مسائل الباب.