26 Oct 2008
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مِنَ الشِّرْكِ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِ اللهِ أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يُونُس:106،107]. وَقَوْلِهِ: {فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِليهِ تُرْجَعُونَ}[الْعَنْكَبُوت:17]. وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأَحْقَاف:5،6]. وَقَوْلِهِ: {أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ}[النَّمْل:62]. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّهُ لاَ يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللهِ )). فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: أَنَّ عَطْفَ الدُّعَاءِ عَلَى الاِسْتِغَاثَةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ قَوْلِهِ:{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}. الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَصْلَحَ النَّاسِ لَوْ فَعَلَهُ إِرْضَاءً لِغَيْرِهِ صَارَ مِنَ الظَّالِمِينَ. الْخَامِسَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. السَّادِسَةُ: كَوْنُ ذَلِكَ لاَ يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِ كُفْرًا. السَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ لاَ يَنْبَغِي إِلاَّ مِنَ اللهِ كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ لاَ تُطْلَبُ إِلاَّ مِنْهُ. التَّاسِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ. الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُ لاَ أَضَلَّ مِمَّنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي لاَ يَدْرِي عَنْهُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ سَبَبٌ لِبُغْضِ الْمَدْعُو لِلدَّاعِي وَعَدَاوَتِهِ لَهُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تَسْمِيَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ عِبَادَةً لِلْمَدْعُو. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ سَبَبُ كَوْنِهِ أَضَلَّ النَّاسِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الأَمْرُ الْعَجِيبُ، وَهُوَ إِقْرَارُ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ أَنَّهُ لاَ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِلاَّ اللهُ، وَلأَِجْلِ هَذَا يَدْعُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: حِمَايَةُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم حِمَى التَّوْحِيدِ وَالتَّأَدُّبُ مَعَ اللهِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:كُفْرُ الْمَدْعُو بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
قالَ شيخُ الإسلامِ: (الاستغاثةُ هيَ: طَلَبُ الغَوْثِ وهو إِزالةُ الشِّدَّةِ، كالاسْتِنْصارِ: طَلَبُ النَّصرِ، والاسْتِعَانةِ: طَلَبُ العَوْنِ).
وقالَ غيرُهُ: (الفَرْقُ بينَ الاستغاثةِ والدُّعاءِ: أنَّ الاستغاثةَ لا تَكونُ إلاَّ مِن المَكْرُوبِ، كمَا قالَ تعالَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص:15]، وقالَ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنفال:9])
والدُّعاءُ أَعَمُّ مِن الاستغاثةِ؛ لأنَّهُ يَكونُ مِن المَكْرُوبِ وغيرِهِ، فعَلَى هذا عَطْفُ الدُّعاءِ عَلَى الاستغاثةِ مِنْ عَطْفِ العامِّ عَلَى الخاصِّ.
- وقالَ أَبُو السَّعاداتِ:(الإغاثةُ: الإِعَانةُ، فَعَلَى هذا تَكُونُ الاستغاثةُ هيَ الاستعانةَ.
ولا رَيْبَ أنَّ مَن اسْتَغاثَكَ فأَغَثْتَهُ فقدْ أَعَنْتَهُ، إلاَّ أنَّ لفظَ الاستغاثةِ مَخْصوصٌ بطَلَبِ العَوْنِ في حالةِ الشِّدَّةِ، بخِلافِ الاستعانةِ).
وقولُهُ: (أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ) المرادُ بالدُّعاءِ هنا هوَ دُعاءُ المَسْألةِ فيمَا لا يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ اللهُ تعالَى، فإنَّ ذلكَ شِرْكٌ لِمَا سيَذْكُرُهُ المُصَنِّفُ من الآياتِ. واعْلَمْ أنَّ الدُّعاءَ نَوْعانِ: - دُعاءُ عِبادةٍ. - ودُعاءُ مَسألةٍ؛ عَلَى ما حَقَّقَهُ غيرُ واحدٍ، منهم: شيخُ الإسلامِ، وابنُ القَيِّمِ، وغيرُهُمَا، ويُرادُ بهِ في القرآنِ هذا تارَةً، وهذا تارَةً، ويُرَادُ بهِ مَجْمُوعُهُما، وهما مُتَلازِمانِ. فدُعاءُ المسألةِ: هوَ طَلَبُ ما يَنْفَعُ الدَّاعِيَ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ، أوْ كَشْفِ ضَرٍّ. فالمَعْبودُ لا بُدَّ أن يَكونَ مالِكًا للنَّفعِ والضَّرِّ، ولهذا أَنْكَرَ اللهُ تعالَى عَلَى مَنْ عبَدَ مِنْ دونِهِ ما لا يَمْلِكُ ضَرًّا ولا نَفْعًا، كقولِهِ: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاََ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الَمَّائدة:79]. وقولِهِ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاََ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [يُونُس:18]. وذلكَ كثيرٌ في القرآنِ، يُبَيِّنُ أنَّ المَعْبُودَ لا بدَّ وأن يَكونَ مالِكًا للنَّفْعِ والضَّرِّ، فهو يُدْعَى للنَّفعِ والضَّرِّ دُعاءَ المسألةِ، ويُدْعَى خوفًا ورَجاءً دُعاءَ العبادةِ، فعُلِمَ أنَّ النَّوعينِ مُتَلازمانِ، فكلُّ دُعاءِ عبادةٍ مُسْتَلْزِمٌ لدُعاءِ المسألةِ، وكلُّ دعاءِ مسألةٍ مُتَضَمِّنٌ لِدُعاءِ العِبادةِ. وبِهَذَا التَّحقيقِ يَنْدَفِعُ عنكَ ما يَقُولُهُ عُبَّادُ القُبورِ إذ احْتُجَّ عليهم بما ذَكَرَ اللهُ في القرآنِ من الأَمْرِ بإخلاصِ الدُّعاءِ لهُ. قالُوا: المرادُ بِهِ العِبادَةُ، فَيَقولُونَ في مثلِ قولِهِ تعالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}[الجِن:18] أيْ: لا تَعْبُدُوا معَ اللهِ أحدًا، فيُقَالُ لهم: وإنْ أُرِيدَ بهِ دُعاءُ العِبادةِ فلا يَنْفِي أن يَدْخُلَ دُعاءُ المسألةِ في العِبادةِ؛ لأنَّ دُعاءَ العبادةِ مُسْتَلْزِمٌ لدعاءِ المسألةِ، كمَا أنَّ دُعاءَ المسألةِ مُتَضَمِّنٌ لدعاءِ العِبادةِ، هذا لوْ لم يَرِدْ في دُعاءِ المسألةِ بخُصوصِهِ مِن القرآنِ إلاَّ الآَياتُ الَّتي ذُكِرَ فيها دُعَاءُ العبادةِ. فكيفَ وقدْ ذَكَرَ اللهُ في القرآنِ في غيرِ مَوْضِعٍ، قالَ اللهُ تعالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأَعْراف:54]. وقالَ تعالَى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}[الأعراف:55]. وقالَ تعالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ}[آل عِمْران:135]. وقالَ تعالَى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ}[النِّساء:32]. وقالَ تعالَى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (.4) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:40،41]. وقالَ تَعالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}[الرَّعْد:14]. وقالَ تعالَى عنْ إِبْراهِيمَ عليهِ السَّلامُ: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}[إبراهيم:39]. وقالَ عنهُ أيضًا: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ}[مَرْيَم:48،49]. وقالَ تَعالَى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:53،54]. وقالَ تَعالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}[الإسراء:56]. وقالَ تَعالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا}[الإسراء:67]. وَقَالَ تَعَالَى: {قَلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء:110]. وقالَ تعالَى عنْ زَكَرِيَّا عليهِ السَّلامُ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مَرْيَم:4]. وقالَ تعالَى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}[القَصَص:64]. وقالَ تعالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العَنْكَبُوت:65]. فكَفَى بِهذهِ الآياتِ نَجاةً وحُجَّةً وبُرْهانًا في الفَرْقِ بينَ التَّوحيدِ والشِّركِ عُمومًا، وفي هذه المسألةِ خُصوصًا، وقالَ تعالَى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ}[العنكبوت:17]. وقالَ تَعالَى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزُّمَر:8]. وقالَ تعالَى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ}[فاطر:13،14]. وقالَ تعالَى: {وَقالَ رَبُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60]. وغيرُ ذلكَ من الآياتِ. وفي الأحاديثِ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا يُحْصَى، منها قولُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمَا رَوَاهُ عنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ: ((يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)) رَوَاهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ. وقولُهُ: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِن الدُّعَاءِ)) رَوَاهُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ ماجه، وابنُ حِبَّانَ، والحاكمُ وصَحَّحَهُ. وقولُهُ: ((مَنْ لَمْ يَدْعُ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)) رَواهُ أحمدُ، وابنُ أَبِي شَيْبَةَ، والحاكمُ. وقولُهُ: ((سَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلهُ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ))رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وقولُهُ: ((الدُّعَاءُ سِلاَحُ المُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ)) رَواهُ الحاكمُ وصحَّحَهُ. وقولُهُ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) رواهُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ. وفي حديثٍ آخَرَ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) رَواهُ التِّرْمِذِيُّ. وقولُهُ لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ العِبَادَةِ أَفْضَلُ؟ قالَ: ((دُعَاءُ المَرْءِ لِنَفْسِهِ)) رَوَاهُ البُخارِيُّ في (الأَدَبِ)، وقولُهُ: ((لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ يَا عِبَادَ اللهِ)) رَوَاهُ أحمدُ. وقولُهُ: ((سَلُوا اللهَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الشِّسْعَ إِذَا انْقَطَعَ، فَإنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ))رَواهُ أَبُو يَعْلَى بإسنادٍ صحيحٍ. وقولُهُ: ((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ المِلْحَ))رَواهُ البَزَّارُ بإسنادٍ صحيحٍ. وقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ( إِنِّي لا أَحْمِلُ هَمَّ الإِجَابَةِ، ولَكِنْ هَمَّ الدُّعَاءِ، فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ عَلِمْتُ أنَّ الإِجَابَةَ مَعَهُ ). وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ( أَفْضَلُ العِبادةِ الدُّعاءُ ) وقَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]، رَواهُ ابنُ المُنْذِرِ، والحاكمُ وصحَّحَهُ. وقالَ مُطَرِّفٌ: ( تَذَكَّرْتُ ما جِماعُ الخيرِ، فإذا الخيرُ كَثِيرٌ: الصَّلاةُ، والصِّيامُ، وإذا هوَ في يدِ اللهِ تعالَى، وإذا أنتَ لا تَقْدِرُ عَلَى ما في يدِ اللهِ إلاَّ أن تَسْأَلَهُ فيُعْطِيَكَ ) رَواهُ أحمدُ. والأحاديثُ والآثارُ في ذلكَ لا يُحِيطُ بِهَا إلاَّ اللهُ تعالَى. فثَبَتَ بهِذا أنَّ الدُّعاءَ عِبادةٌ منْ أَجَلِّ العباداتِ، بلْ هوَ أَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ كمَا تَقَدَّمَ، فإنْ لمْ يَكُن الإشراكُ فيهِ شِرْكًا، فليسَ في الأَرْضِ شِرْكٌ، وإن كَانَ في الأَرْضِ شِرْكٌ فالشِّركُ في الدُّعاءِ أَوْلَى أن يَكونَ شِرْكًا مِن الإشراكِ في غيرِهِ مِنْ أنواعِ العبادةِ، بل الإشراكُ في الدُّعاءِ هوَ أَكْبَرُ شِرْكِ المشْرِكِينَ الَّذينَ بُعِثَ إليهمْ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنَّهُم يَدْعُونَ الأنبياءَ والصَّالحينَ والملائكةَ، ويَتَقَرَّبُونَ إليهم لِيَشْفَعُوا لهم عِندَ اللهِ. ولهذا يُخْلِصُونَ في الشَّدائدِ للهِ ويَنْسَونَ ما يُشْرِكُونَ، حتَّى جاءَ أنَّهُم إذا جاءَتْهُم الشَّدائِدُ في البَحْرِ يُلْقُونَ أَصْنامَهُمْ في البَحْرِ ويَقُولُونَ: يا اللهُ يا اللهُ، لِعِلْمِهِم أنَّ آلِهَتَهُم لا تَكْشِفُ الضُّرَّ، ولا تُجِيبُ المُضْطَرَّ. وقالَ تعالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، فهم كانُوا يَعْلَمُونَ أنَّ ذلكَ للهِ وحدَهُ، وأنَّ آلهتَهَمُ ليسَ عندَهَا شَيْءٌ مِنْ ذلكَ، ولهذا احْتَجَّ سبحانَهُ وتعالَى عليهم بذلكَ أنَّهُ هوَ الإلَهُ الحَقُّ، وعلى بُطْلانِ إلهيَّةِ ما سِوَاه. وقالَ تعالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:65]، فهذه حالُ المشركينَ الأوَّلِينَ. وأمَّا عُبَّادُ القُبورِ اليومَ فلا إلهَ إلاَّ اللهُ، كمْ ذا بينَهُم وبينَ المشركينَ الأوَّلِينَ مِن التَّفاوُتِ العظيمِ في الشِّركِ، فإنَّهُم إذا أَصَابَتْهُم الشَّدائدُ بَرًّا وبَحْرًا أَخْلَصُوا لآلهتِهِم وأَوْثَانِهِم الَّتي يَدْعُونَهَا مِنْ دونِ اللهِ، وأَكْثَرُهُم قد اتَّخَذَ ذِكْرَ إِلَهِهِ وشَيْخِهِ دَيْدَنَهُ وهِجِّيرَاهُ، إنْ قامَ، وإنْ قَعَدَ، وإنْ عَثَرَ. - هذا يَقولُ: (يا عَلِيُّ)!. -وهذا يَقولُ: (يا عبدَ القادِرِ)!. - وهذا يَقولُ: (يا ابنَ عُلْوَانَ)!. - وهذا يَدْعُو البَدَوِيَّ!. - وهذا يَدْعُو العَيْدَرُوسَ!. وبالجُمْلةِ فَفِي كُلِّ بَلَدٍ في الغالبِ أُناسٌ يَدْعُونَهُم ويَسْأَلُونَهُم قَضاءَ الحاجاتِ، وتَفْريجَ الكُرُباتِ، بلْ بَلَغَ الأَمْرُ إلى أن سَأَلُوهُم مَغْفِرَةَ الذُّنوبِ، وتَرْجِيحَ المِيزانِ، ودُخولَ الجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِن النَّارِ، والتَّثْبِيتَ عندَ الموتِ والسَّؤالِ، وغيرَ ذلكَ مِنْ أنواعِ المَطالِبِ الَّتي لا تُطْلَبُ إلاَّ مِن اللهِ. وقدْ يَسْأَلُونَ ذلكَ مِنْ أُناسٍ يَدَّعُونَ الوِلايةَ، ويُنَصِّبونَ أَنْفَسَهُم لِهذه الأُمورِ وغيرِهَا مِنْ أنواعِ النَّفعِ والضُّرِّ الَّتي هيَ خَواصُّ الإلهيَّةِ، ويُلَفِّقُونَ لهم مِن الأكاذيبِ في ذلكَ عَجائبَ، منها أنَّهُم يَدَّعُونَ أنَّهُم يُخَلِّصُونَ مَن الْتَجَأَ إليهم ولاذَ بِحِماهُمْ مِن النَّارِ والعذابِ، فَيَقولُ أحدُهُم: إنَّهُ يَقِفُ عندَ النَّارِ فلا يَدَعُ أَحَدًا مِمَّنْ يَرْتَجِيهِ ويَدْعُوهُ يَدْخُلُهَا، أوْ نحوَ هذا، وقدْ قالَ تَعالَى لِسيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}[الزُّمَر: 19]، فإذا كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِ أَحَدٍ مِن النَّارِ، فكيفَ بِغَيْرِهِ؟! بلْ كيفَ بمَنْ يَدَّعِي نفسَهُ أنَّهُ هوَ يَفْعَلُ ذلِكَ؟! ومنها: أنَّ أَكْثَرَهُم يُلَفِّقُ حِكاياتٍ في أنَّ بعضَ النَّاسِ اسْتَغاثَ بفلانٍ فأَغَاثَهُ، أوْ دَعَا الوَلِيَّ الفُلانيَّ فأَجَابَهُ، أوْ في كُرْبةٍ فَفَرَّجَ عنه، وعندَ عُبَّادِ القُبورِ منْ ذلكَ شيءٌ كثيرٌ مِنْ جِنْسِ ما عندَ عُبَّادِ الأصنامِ الَّذِينَ اسْتَوْلَتْ عليهِم الشَّياطِينُ، ولَعِبُوا بِهِم لَعِبَ الصِّبْيانِ بالكُرَةِ. ويَوْجَدُ شيءٌ مِنْ ذلكَ في أَشْعارِ المادِحينَ لسيِّدِ المُرْسَلينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذينَ جاوَزُوا الحَدَّ في مَدْحِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَصَوْهُ في نَهْيِهِ عن الغُلُوِّ فيهِ وإِطْرائِهِ كمَا أَطْرَت النَّصارَى ابنَ مَرْيَمَ، وصارَ حَظُّهمُ منهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هوَ مَدْحَهُ بالأشعارِ والقصائدِ، والغُلُوَّ الزَّائدَ، معَ عِصيانِهِم لهُ في أَمْرِهِ ونَهْيِهِ، فتَجِدُ هذا النَّوعَ مِنْ أَعْصَى الخَلْقِ لَهُ صَلواتُ اللهِ عليهِ وسَلامُهُ، ويَقَعُ مِنْ ذلكَ كثيرٌ ممَّنْ مَدَحَ غيرَهُ، فإنَّ عُبَّادَ القُبورِ لا يَقْتَصِرُونَ عَلَى بعضِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ فيهِ الضَّرَّ والنَّفْعَ، بلْ كلُّ مَنْ ظَنُّوا فيهِ ذلكَ بالَغُوا في مَدْحِهِ وأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الرُّبوبيَّةِ، وصَرَفُوا لهُ خالِصَ العُبوديَّةِ، حتَّى إنَّهُم إذا جاءهُم رَجُلٌ وادَّعَى أنَّهُ رَأَى رُؤْيَا مَضْمُونُهَا أنَّهُ دُفِنَ في المَحَلِّ الفُلانِيِّ رَجُلٌ صالحٌ، بادَرُوا إلى المَحَلِّ وبَنَوْا عليهِ قُبَّةً وزَخْرَفُوهَا بأنواعِ الزَّخارِفِ، وعَبَدُوهَا بأنواعٍ مِن العباداتِ. وأمَّا القُبورُ المعروفةُ أو المُتَوَهَّمَةُ، فأَفْعَالُهُم مَعَها وعندَهَا لا يُمْكِنُ حَصْرُهُ، فكثيرٌ مِنهم إذا رَأَوا القِبابَ الَّتي يَقْصِدُونَهَا كَشَفُوا الرُّؤُوسَ فَنَزَلُوا عن الأَكْوَارِ، فإذا أَتَوْهَا طَافُوا بِها، واسْتَلَمُوا أركانَهَا، وتَمَسَّحُوا بِها، وصَلَّوْا عندَهَا رَكْعَتَيْنِ، وحَلَقُوا عندَها الرُّؤوسَ، ووَقَفُوا باكِينَ مُتَذَلِّلِينَ مُتَضَرِّعِينَ سائِلينَ مَطالِبَهُمْ، وهذا هوَ الحَجُّ، وكثيرٌ منهم يَسْجُدُونَ لها إذا رَأَوْهَا، ويُعَفِّرُونَ وُجُوهَهُم في التُّرابِ تَعْظِيمًا لها، وخُضوعًا لِمَنْ فيها، فإن كانَ للإنسانِ مِنهم حاجةٌ مِنْ شِفاءِ مَريضٍ أوْ غيرِ ذلكَ، نادَى صاحبَ القَبْرِ: يا سَيِّدِي فُلانُ، جِئْتُكَ قاصِدًا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، لا تُخَيِّبْنِي، وكذلِكَ إذا قَحَطَ المَطَرُ، أوْ عَقَرَت المرأةُ عن الوَلَدِ، أوْ دَهَمَهُم عُدُوٌّ أوْ جَرادٌ، فَزِعُوا إلى صاحِبِ القَبْرِ وبَكَوْا عندَهُ، فإنْ جَرَى المَقْدُورُ بحُصولِ شيءٍ ممَّا يُرِيدُونَ، اسْتَبْشَرُوا وفَرِحُوا ونَسَبُوا ذلكَ إلى صاحِبِ القبرِ، فإنْ لمْ يَتَيَسَّرْ شيءٌ مِنْ ذلكَ اعْتَذَرُوا عنْ صاحِبِ القبرِ بأنَّهُ إمَّا غائِبٌ في مكانٍ آخَرَ، أوْ ساخِطٌ لبعضِ أعمالِهِم، أوْ أنَّ اعتقادَهُم في الوَلِيِّ ضَعِيفٌ، أوْ أنَّهُم لم يُعْطُوهُ نَذْرَهُ، ونحوَ هذه الخُرَافاتِ. ومن بعضِ أشعارِ المادِحِين لِسيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولُ البُوصِيرِيِّ: يا أَكـْرَمَ الـخـَلــْقِ مـَا لـــِي مــَنْ أَلـــُوذُ بِهِ سِوَاكَ عِنـْدَحـُلـُولِ الــحـَادِثِ الـعـَمَمِ ولَنْ يَضِيقَ - رَسُولَ اللهِ - جَاهُكَ بِي إِذَا الــكــَرِيـمُتـَجـَلـــَّى بـاسـْمِ مــُنْتـَقِمِ فــَإنَّ لــِي ذِمَّةً مــــنــــهُ بــِتــَسـْمــــِيَتـِي مُحَمَّدًاوَهـُوَ أَوْفـَى الـخـَلـْقِ بالـذِّمــَمِ إنْلمْ يـَكـُنْ فـي مـَعـادِي آَخـِذًا بِيـَدِي فـــَضــْلاً وإِلاَّ فــــَقــُلْ يــَا زَلــَّةَ الــــقــَدَمِ فَتَأَمَّلْ ما في هذه الأَبْياتِ مِن الشِّرْكِ. منها: أنَّهُ نَفَى أن يَكونَ لهُ مَلاذٌ إذا حَلَّتْ بِهِ الحوادثُ إلاَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسَ ذلكَ إِلاَّ للهِ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، فهو الَّذي ليسَ للعِبادِ مَلاذٌ إلاَّ هُوَ. الثَّاني: أنَّهُ دَعَاهُ وناداهُ بالتَّضَرُّعِ وإظهارِ الفاقةِ والاضْطِرارِ إليه، وسَأَلَ منهُ هذه المَطالِبَ الَّتِي لا تُطْلَبُ إلاَّ مِن اللهِ، وذلكَ هوَ الشِّرْكُ في الإلهيَّةِ. الثَّالثُ: سُؤَالُهُ منهُ أن يَشْفَعَ لهُ في قولِهِ: ولن يَضِيقَ رَسُولَ اللهِ …. البيتَ. وهذا هوَ الَّذِي أَرَادَهُ المُشْرِكُونَ مِمَّن عَبَدُوه، وهو الجاهُ والشَّفاعةُ عندَ اللهِ، وذلكَ هوَ الشِّركُ، وأيضًا فإنَّ الشَّفاعةَ لا تَكُونُ إلاَّ بعدَ إذنِ اللهِ؛ فلا مَعْنَى لِطَلَبِهَا مِنْ غيرِهِ، فإنَّ اللهَ تعالَى هوَ الَّذِي يَأْذَنُ للشَّافعِ أن يَشْفَعَ؛ لأنَّ الشَّافعَ لا يَشْفَعُ ابْتِدَاءً. الرَّابعُ:
قولُهُ: (فإنَّ لي ذِمَّةً…) إلى آخِرِهِ.
كَذَبَ عَلَى اللهِ وعلى رَسولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فليسَ بينَهُ وبينَ مَن اسمُهُ مُحَمَّدٌ ذِمَّةٌ إِلاَّ بالطَّاعةِ، لا بمجَرَّدِ الإشراكِ في الاسمِ معَ الشِّركِ.
الخامسُ:
قولُهُ: (إنْ لمْ يَكُنْ في مَعادِي …) البيتَ، تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ، وشِرْكٌ ظاهرٌ، فإنَّهُ طَلَبَ أوَّلاً أن لا يَضِيقَ بهِ جاهُهُ، ثُمَّ طَلَبَ هنا أن يَأْخُذَ بِيَدِهِ فَضْلاً وإحسانًا، وإلاَّ فَيَا هَلاكَهُ.
فيُقالُ:
كيفَ طَلَبْتَ مِنْه أوَّلاً الشَّفاعةَ ثُمَّ طَلَبْتَ منهُ هنا أنْ يَتَفَضَّلَ عليكَ؟
فإنْ كُنْتَ تَقولُ: إنَّ الشَّفاعةَ لا تَكونُ إلاَّ بعدَ إِذْنِ اللهِ، فكيفَ تَدْعُو النِّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَرْجُوه وتَسْأَلُهُ الشَّفاعةَ؟!
فهلاَّ سَأَلْتَهَا مَنْ لهُ الشَّفاعةُ جَمِيعًا الَّذي لهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأرضِ، الَّذِي لا تَكونُ الشَّفاعةُ إلاَّ مِنْ بعدِ إذنِهِ؟!! فهذا يُبْطِلُ عليكَ طَلَبَ الشَّفاعةِ مِنْ غيرِ اللهِ.
وإن قُلْتَ:
ما أُرِيدُ إلاَّ جاهَهُ، وشَفاعتُهُ بإذنِ اللهِ.
قِيلَ:
فكيفَ سَأَلْتَهُ أن يَتَفَضَّلَ عليكَ ويَأْخُذَ بِيَدِكِ في يومِ الدِّينِ؟!
فهذا مُضادٌّ لِقولِهِ تعالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}[الانْفِطار: 17 - 18 - 19]، فكيفَ يَجْتَمِعُ في قلبِ عَبْدٍ الإيمانُ بِهَذا وهذا؟!!.
وإن قُلْتَ:
سَأَلْتُهُ أن يَأْخُذَ بيدِي، ويَتَفَضَّلَ عَلَيَّ بِجَاهِهِ وشَفاعتِهِ.
قِيلَ:
عادَ الأَمْرُ إلى طَلَبِ الشَّفاعةِ مِنْ غيرِ اللهِ، وذلكَ هوَ مَحْضُ الشِّرْكِ.
السَّادسُ:
في هذه الأبياتِ مِن التَّبَرِّي من الخَالِقِ - تَعالَى وتَقَدَّسَ - والاعتمادِ عَلَى المخلوقِ في حوادثِ الدُّنيا والآخرةِ ما لا يَخْفَى عَلَى مُؤْمِنٍ، فأينَ هذا مِنْ قولِهِ تعالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4].
وقولِهِ تعالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة:138].
وقولِهِ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}[الفرْقَان:58]. وقولِهِ تعالَى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلاَّ بَلاَغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ}[الجِنّ:21،22]؟!!.
فإنْ قِيلَ:
هوَ لم يَسْأَلْهُ أنْ يَتَفَضَّلَ عليهِ، وإنَّما أَخْبَرَ أنَّهُ إنْ لمْ يَدْخُلْ في عُمومِ شَفاعتِهِ فيا هلاكَهُ.
قِيلَ:
المُرادُ بذلكَ سُؤالُهُ وطَلَبُ الفَضْلِ منهُ،
كمَا دَعَاهُ أوَّلَ مَرَّةٍ وأَخْبَرَ أنَّهُ لا مَلاذَ لهُ سِوَاه، ثُمَّ صَرَّحَ بسؤالِ الفَضْلِ والإحسانِ بصِيغةِ الشَّرطِ والدُّعاءِ، والسُّؤالُ كمَا يَكونُ بصِيغةِ الطَّلَبِ يَكُونُ بِصِيغةِ الشَّرطِ كمَا قالَ نُوحٌ عليهِ السَّلامُ: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هُود:46].
ومِنْ شِعْرِ البُرَعِيِّ قولُهُ:
مـَاذَا تـُعـَامــِلُ يَا شَمــْسَ الـنُّبوَّةِ مــَنْ أَضْحَى إِلَيْكَ مِن الأَشْوَاقِ في كَبِدِي
فـامـْنـَعْجـَنــَابَ صـَرِيـعٍ لا صـَرِيخَ لهُ نَائِي الـمـَزَارِغـَرِيـبِ الــدَّارِ مــُبـْتَعِدِ
حــَلــِيــفِ وِدِّكَ واهِ الـــصَّبـْرِ مـُنـْتَظِرٍ لـِغـَارَةٍمـِنـْكَ يـَا رُكـْنـِي ويـا عَضُدِي أَســِيـــرُذَنـــْبــِي وزَلاَّتــِي ولا عــَمَلٍ أَرْجُو النَّجــاةَ بـِهِ إن أنــتَ لـم تـَجــِدِ
وجَرَى في شِرْكِهِ إلى أنْ قالَ:
وحـُلـَّ عـُقـْدَةَ كـَرْبـِي يَا مُحـَمَّدُ مِنْ هـَمٍّ عـَلـَىخـَطَرَاتِ الـقَلـْبِ مـُطَّرَدِ
أَرْجُوكَ في سَكَرَاتِ المَوْتِ تَشْهَدُنِي كـَيـمـَايــَهـُونَ إذ الأَنـْفـاسُ في صُعُدِ
وإنْنـَزَلــْتُ ضـَرِيـحـًا لا أَنــــِيـسَ بهِ فـكـُنْ أَنـِيـسَ وَحـِيـدٍ فـيـهِ مُنــْفـَرِدِ وارْحـَمْ مـُؤَلـِّفَها عَبْدَ الرَّحـِيمِ ومــَنْ يـَلـِيــهِمـِنْ أَجـْلــِهِ وانـْعـِشـْهُ وافْتَقِدِ وإنْدَعــَا فـَأَجـِبـْهُ واحـْمِ جــَانــِبـَهُ مـِنْ حـاسِدٍشامـِتٍ أوْ ظالِمٍ نـَكِدِ
وقولُهُ مِنْ أُخْرى:
يــا رَســُولَ الــلــــهِ يـــا ذَا الـــــفَضْلِ يـا بـَهـْجـَةً في الحَشْرِ جاهـًَا ومَقامًا
عـُدْعــَلـَى عــَبْدِ الـرَّحِيمِ المُلْتَجِي بــِحــِمـَىعـِزِّكَ يـا غـَوْثَ الـيــَتَامـَىَ
وأَقـــِلـــْنــِيعــَثــْرَتــِي يــَا ســَيِّدِي في اكْتِسابِ الذَّنْبِ في خمسينَ عامًا
وقولُهُ:
يـا سـَيِّدي يـــا رَســُولَ الـلـهِ يـــا أَمَلِي يــَا مـَوْئِلـِييـــا مــَلاذِي يـــَومَ يـــَلـْقانِي
هـِبـْنـِيبــِجاهـِكَ ما قَدَّمْتُ مِنْ زَلَلٍ جـُودًا ورَجِّحْ بـِفـَضـْلٍ مـِنـكَ مـِيزانِي
واسْمَعْ دُعائِي واكْشِفْ ما يُساوِرُنِي مــِن الـخـُطـُوبِ ونـَفـِّسْ كـُلــَّ أَحْزانـِي فــأنــتَ أَقـْرَبُ مـَنْ تـُرْجـَى عـَواطِفــُهُ عـنـدي وإن بـَعـُدَتْ دارِي وأَوْطانـِي إنِّيدَعَوْتـُكَ مـِنْ ((نــِيـابـَتـِي بـُرَعـٍ)) وأنــت أَســْمــَعُ مــَنْ يـَدْعـُوهُ ذو شَانِ فـامـْنَعْجَنابِي وأَكْرِمْنِي وصِلْ نَسَبِي بـــِرَحـــْمـــةٍ وكـــَرامــــــاتٍ وغـــُفْرانِ
لَقدْ أَنْسَانا هذا ما قبلَهُ، وهذا بعينِهِ هوَ الَّذي ادَّعَتْهُ النَّصَارَى في عِيسَى -عليهِ السَّلامُ- إلاَّ أنَّ أولئكَ أَطْلَقُوا عليهِ اسَمَ الإلَهِ، وهذا لم يُطْلِقْهُ ولكنْ أَتَى بلُبَابِ دَعْوَاهم وخُلاصَتِهَا، وتَرَكَ الاسمَ؛ إذ في الاسمِ نوعُ تَمْيِيزٍ، فرَأَى الشَّيطانُ أنَّ الإِتْيانَ بالمعنى دونَ الاسمِ أَقْرَبُ إلى تَرْوِيجِ الباطلِ، وقَبولِهِ عندَ ذَوِي العقولِ السَّخِيفةِ؛ إذ كانَ مِن المُتَقَرَّرِ عندَ الأمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ أنَّ دَعْوَى النَّصَارَى في عِيسَى عليهِ السَّلامُ كُفْرٌ، فلوْ أَتَاهُمْ بِدَعْوَى النَّصارَى اسمًا ومعنًى لَرَدُّوهُ وأَنْكَرُوهُ، فأَخَذَ المعنَى وأَعْطَاهُ البُرَعِيَّ وأَضْرَابَهُ، وتَرَكَ الاسمَ للنَّصارَى، وإلاَّ فما نَدْرِي ماذا أَبْقَى هذا المُتَكَلِّمُ الخَبِيثُ للخالِقِ تَعالَى وتَقَدَّسَ مِنْ سُؤالِ مَطْلَبٍ، أوْ تَحْصِيلِ مَأْرَبٍ؟!! فاللهُ المُسْتَعانُ.
وهذا كثيرٌ جِدًّا في أَشْعارِ المادِحِينَ لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو حُجَّةُ أَعْداءِ دِينِه الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الشِّركَ باللهِ، ويَحْتَجُّونَ بأشعارِ هؤلاءِ، ولم يَقْتَصِرُوا -أيضًا- عَلَى طَلَبِ ذلكَ مِن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بلْ يَطْلُبُونَ مثلَ ذلكَ منْ غيرِهِ، كمَا حَدَّثَ بعضُ الثِقِّاتِ أنَّهُ رَأَى في رابِيةِ صاحِبِ مَشْهَدٍ مِن المَشاهِدِ: (هذه رايةُ البَحْرِ التَّيَّارِ، بهِ أَسْتَغِيثُ وأَسْتَجِيرُ، وبِهِ أَعُوذُ مِن النَّارِ) .
وقالَ بعضُهُم في قَصِيدةٍ في بعضِ آلَهَتِهِم:
يا سَيِّدِي يا صَفَيَّ الدَّينِ يا سَنَدِي يا عُمْدَتِي بلْ ويا ذُخْرِي ومُفْتَخَرِي
أنت الـمـَلاذُ لــِمـَا أَخْشَى ضُرورَتَهُ وأنـت لـِيمَلـْجَأٌ مِنْ حادِثِ الدَّهْرِ
إلى أنْ قالَ:
وامـْنـُنْ عـَلـَيَّ بـِتـَوْفـِيـقٍ وعـَافِيـةٍ وخيرِ خاتِمةٍ مَهْمَا انْقَضَى عُمُرِي
وكـُفـَّ عـنَّا أَكــُفــَّ الظَّالِمِينَ إذا امـْتـَدَّتْبـِسـُوءٍ لأَمــْرٍ مـُؤْلـِمٍ نُكُرِ
فـإنَّنــِيعـَبـْدُكَ الرَّاجِي بِوِدِّكَ ما أَمَّلــْتـُهُ يـا صـَفـَيَّ الــسَّادَةِ الــغُرَرِ
قالَ بعضُ العلماءِ:
(فلا نَدْرِي: أيَّ مَعْنًى اخْتَصَّ بهِ الخالقُ تعالَى بعدَ هذهِ المَنْزِلَةِ؟
وماذا أَبْقَى هذا المُتَكَلِّمُ الخَبِيثُ لخالِقِه مِن الأَمْرِ؟
فإنَّ المشركينَ أَهْلَ الأَوْثانِ ما يُؤَلِّهُون مَنْ عَبَدُوهُ لِشيءٍ مِنْ هذا) انْتَهَى. وكثيرٌ مِنْ عُبَّادِ القُبورِ يُنَادُونَ المَيِّتَ مِنْ مَسافةِ شَهْرٍ وأَكْثَرَ يَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُم، ويَعْتَقِدُونَ أنَّهُ يَسْمَعُ دُعاءَهُم ويَسْتَجِيبُ لَهُم، وتَسْمَعُ عندَهُم حالَ رُكوبِهُم البَحْرَ واضْطِرابهِ مِنْ دُعاءِ الأَمْواتِ والاسْتِغاثةِ بِهِم ما لا يَخْطُرُ عَلَى بالٍ، وكذلِكَ إذا أَصَابَتْهُم الشَّدائدُ، مِنْ مَرَضٍ، أوْ كُسُوفٍ، أوْ رِيحٍ شَدِيدةٍ، أوْ غيرِ ذلكَ، فالوَلِيُّ في ذلكَ نُصْبُ أَعْيُنِهِم، والاستغاثةُ بِهِ هيَ مَلاذُهُم، ولوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ ما يُشْبِهُ هذا لَطَالَ الكلامُ. وإذا عَرَفْتَ هذا، فقدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ دُعاءِ المسألةِ.
وأمَّا دُعاءُ العِبادةِ:
فهو عِبادةُ اللهِ تَعالَى بأنواعِ العِباداتِ، مِن الصَّلاةِ، والذَّبْحِ، والنَّذْرِ، والصِّيامِ، والحَجِّ، وغيرِهَا، خوفًا وطَمَعًا، يَرْجُو رَحْمَتُه، ويَخافُ عَذابَهُ، وإن لم يَكُنْ في ذلكَ صِيغةُ سُؤالٍ وطَلَبٍ، فالعابدُ الَّذي يُرِيدُ الجنَّةَ ويَهْرُبُ مِن النَّارِ، وهو سائلٌ راغبٌ راهبٌ، يَرْغَبُ في حُصولِ مُرادِهِ، ويَرْهَبُ مِنْ فَوَاتِهِ، وهو سائلٌ لِمَا يَطْلُبُهُ بامْتِثالِ الأَمْرِ في فِعْلِ العِبادةِ، وقدْ فُسِّرَ قولُهُ تعالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60] بِهَذا وهذا.
قِيلَ:
اعْبُدُونِي وامْتَثِلُوا أَمْرِي أَسْتَجِبْ لكم.
وقِيلَ:
سَلُونِي أُعْطِكُمْ،
وعلى هذا القولِ تَدُلُّ الأحاديثُ والآثارُ.
إذا تَبَيَّنَ ذلكَ،
فاعْلَمْ أنَّ العلماءَ أَجْمَعُوا عَلَى أنَّ مَنْ صَرَفَ شيئًا مِنْ نَوْعَيِ الدُّعاءِ لغيرِ اللهِ فهو مُشْرِكٌ، ولوْ قالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وصَلَّى وصَامَ؛ إذْ شَرْطُ الإسلامِ معَ التَّلَفُّظِ بالشَّهادتينِ أن لا يُعْبَدَ إلاَّ اللهُ، فمَنْ أَتَى بالشَّهادَتَيْنِ وعبدَ غَيْرَ اللهِ فما أَتَى بِهِما حَقِيقةً وإنْ تَلَفَّظَ بِهِما، كاليهودِ الَّذينَ يَقولُونَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وهم مُشْرِكونَ، ومجرَّدُ التَّلفُّظِ بِهِما لا يَكْفِي في الإسلامِ بِدونِ العملِ بمعناهما واعتقادِهِ إِجْماعًا.
ذِكْرُ شيءٌ مِنْ كَلامِ العُلماءِ في ذلكَ:
وإنْ كُنَّا غَنِيِّينَ بِكِتابِ رَبِّنَا، وسُنَّةِ نبيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عنْ كلِّ كلامٍ، إلاَّ أنَّهُ قَدْ صَارَ بَعْضُ الناسِ مُنْتَسِبًا إلى طائفةٍ مُعَيَّنةٍ، فلوْ أَتَيْتَهُ بكُلِّ آَيَةٍ مِنْ كِتابِ اللهِ، وكلِّ سُنَّةٍ عنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يَقْبَلْ حتَّى تَأْتِيَهُ بشيءٍ مِنْ كلامِ العلماءِ، أوْ بشيءٍ منْ كلامِ طائفتِهِ الَّتي يَنْتَسِبُ إليها.
قالَ الإمامُ أبو الوفاءِ عَلِيُّ بنُ عَقِيلٍ الحَنْبَلِيُّ صاحبُ كِتابِ (الفُنُونِ) الَّذي ألَّفَهُ في نحوِ أربعِمائةِ مُجَلَّدٍ، وغيرِهِ من التَّصانيفِ، قالَ في الكتابِ المَذْكُورِ: (لَمَّا صَعُبَت التَّكاليفُ عَلَى الجُهَّالِ والطَّغامِ، عَدَلُوا عنْ أَوْضاعِ الشَّرْعِ إلى تَعْظِيمِ أَوْضاعٍ وَضَعُوهَا لأنفسِهِم، فسَهُلَتْ عليهم إذ لم يَدْخُلُوا بِهَا تَحْتَ أَمْرِ غيرِهِم، وهم عندي كُفَّارٌ لهذه الأَوْضَاعِ، مثلُ تَعْظِيمِ القُبورِ، وخِطابِ المَوْتَى بالحَوَائِجِ، وكَتْبِ الرِّقاعِ فيها: يا مَوْلاي افْعَلْ بي كَذا وكَذا، أوْ إِلْقاءِ الخِرَقِ عَلَى الشَّجرِ اقْتِدَاءً بمَنْ عبدَ اللاَّتَ والعُزَّى).
نَقَلَهُ غيرُ واحدٍ، مُقَرِّينَ لهُ، رَاضِينَ بهِ، منهُم الإمامُ أَبُو الفَرَجِ بنُ الجَوْزِيِّ، والإمامُ ابنُ مُفْلِحٍ صاحِبُ كتابِ (الفُروعِ) وغيرِهِما.
- وقالَ شيخُ الإسلامِ في (الرِّسالةِ السَّنيَّةِ): (فإذا كانَ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن انْتَسَبَ إلى الإسلامِ مَنْ مَرَقَ مِنه معَ عبادتِهِ العَظيمةِ، فَلْيَعْلَمْ أنَّ المُنْتَسِبَ إلى الإسلامِ والسُّنَّةِ في هذه الأزمانِ أيضًا قدْ يَمْرُقُ أيضًا مِن الإسلامِ وذلكَ بأسبابٍ، منها: الغُلُوُّ الَّذي ذَمَّهُ اللهُ في كِتابهِ حيثُ قالَ:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}[النِّساء:170].
وكذلِكَ: الغُلُوُّ في بعضِ المَشايِخِ، بل الغُلُوُّ في عَلِيِّ بنِ أَبي طالِبٍ، بل الغُلُوُّ في المَسِيحِ عليهِ السَّلامُ، فكلُّ مَنْ غَلا في نَبيٍّ أوْ رجلٍ صالحٍ وجَعَلَ فيهِ نَوْعًا مِن الإلهيَّةِ، مثلُ أن يَقولَ: يا سَيِّدي فُلانُ انْصُرْنِي، أوْ أَغِثْنِي، أو ارْزُقْنِي، أو اجْبُرْنِي، أوْ أَنَا في حَسْبِكَ، ونحوِ هذه الأقوالِ، فكلُّ هذا شِركٌ وضَلالٌ، يُسْتَتابُ صاحبُهُ، فإن تابَ وإلاَّ قُتِلَ، فإنَّ اللهَ إنَّما أَرْسَلَ الرُّسلَ وأَنْزَلَ الكُتُبَ لِيُعْبَدَ وحدَهُ، ولا يُدْعَى مَعَه إلهٌ آخَرُ، والَّذينَ يَدْعُونَ معَ اللهِ آلهةً أُخْرى مثلَ المَسِيحِ، والملائكةِ، والأصنامِ، لم يَكونُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّهَا تَخْلُقُ الخلائقَ، أوْ تُنْزِلُ المَطَرَ، أوْ تُنْبِتُ النَّباتَ، وإنَّما كانُوا يَعْبُدُونَهُم أوْ يَعْبُدُونَ قُبُورَهُم، أوْ يَعْبُدُونَ صُورَهُم، يَقولونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}
[الزُّمَر:3].
ويَقولونَ: {هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يُونُس:18]فبَعَثَ اللهُ رُسلَهُ تَنْهَى أن يُدْعَى أحدٌ مِنْ دونِهِ، لا دُعاءَ عبادةٍ، ولا دُعاءَ استغاثةٍ) انْتَهَى.
وقدْ نَصَّ الحافِظُ أبو بَكْرٍ أحمدُ بنُ عَلِيٍّ المَقْرِيزِيُّ صاحبُ كتابِ (الخِطَطِ) في كِتابٍ لهُ في التَّوحيدِ عَلَى أنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ شركٌ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ:
(مَنْ جَعَلَ بينَهُ وبينَ اللهِ وَسَائطَ يَتَوَكَّلُ عليهم يَدْعُوهم ويَسْأَلُهم، كَفَرَ إِجْماعًا، نَقَلَهُ عنه غيرُ واحدٍ مُقَرِّرِينَ لهُ، مِنهُم ابنُ مُفْلِحٍ في (الفُروعِ) وصاحبُ (الإِنْصافِ) وصاحبُ (الغايةِ) وصاحبُ (الإِقْناعِ) وشارحُهُ، وغيرُهُم، ونَقَلَهُ صاحبُ (القَوَاطعِ)في كِتابهِ عنْ صاحبِ (الفُروعِ)).
قُلْتُ:
وهو إِجْماعٌ صحيحٌ معلومٌ بالضَّرورةِ مِن الدِّينَ، وقدْ نَصَّ العُلماءُ منْ أهلِ المذاهبِ الأربعةِ، وغيرُهُم في بابِ حُكْمِ المُرْتَدِّ عَلَى أنَّ مَنْ أَشْرَكَ باللهِ فهو كافرٌ، أيْ: عَبَدَ معَ اللهِ غِيرَهُ بنوعٍ مِنْ أنواعِ العِباداتِ.
وقدْ ثبَتَ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ أنَّ دُعاءَ اللهِ عِبادةٌ لهُ، فيكونُ صَرْفُهُ لغيرِ اللهِ شركًا.
وقالَ الإمامُ ابنُ النَّحاسِ الشَّافعيُّ في كتابِ (الكَبائرِ): (ومنها إِيقادُهُم السُّرُجَ عندَ الأحجارِ والأشجارِ والعيونِ والآبارِ، ويَقُولون: إنَّهَا تَقْبَلُ النَّذْرَ، وهذه كُلُّها بِدَعٌ شَنِيعةٌ، ومُنْكَرَاتٌ قَبِيحةٌ، تَجِبُ إزالتُهَا ومَحْوُ أَثَرِهَا، فإنَّ أَكْثَرَ الجُهَّالِ يَعْتَقِدُونَ إنَّهَا تَنْفَعُ وتَضُرُّ، وتَجْلِبُ وتَدْفَعُ، وتَشْفِي المَرَضَ، وتَرُدُّ الغائبَ، إذا نَذَرَ لها، وهذا شِرْكٌ ومُحَادَّةٌ للهِ تعالَى ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قُلْتُ:
فصَرَّحَ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ الاعتقادَ في هذه الأمورِ أنَّهَا تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وتَجْلِبُ وتَدْفَعُ، وتَشْفِي المريضَ، وتَرُدُّ الغائبَ، إذا نَذَرَ لها، أنَّ ذلكَ شركٌ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ شركٌ، فلا فَرْقَ في ذلكَ بينَ اعْتِقادِهِ في الملائكةِ والنَّبيِّينَ، ولا بينَ اعتقادِهِ في الأصنامِ والأوثانِ؛ إذ لا يَجوزُ الإشراكُ بينَ اللهِ تعالَى وبينَ مَخْلوقٍ فيمَا يَخْتَصُّ بالخالقِ سبحانَهُ، كمَا قالَ تعالَى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عِمْرَانَ:80] وهذا بعينِهِ هوَ الَّذي يَعْتَقِدُهُ مَنْ دَعَا الأَنْبياءَ والصَّالِحِينَ، ولهذا يَسْأَلُونَهُم قَضاءَ الحاجاتِ، وتَفْرِيجَ الكُرُباتِ، وشِفاءَ ذَوَي الأمراضِ والعاهاتِ، فثَبَتَ أنَّ ذلكَ شركٌ.
وقالَ الإمامُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في (شَرْحِ المَنازِلِ): (ومِنْ أنواعِهِ - أي: الشِّركِ - طَلَبُ الحَوَائجِ مِن المَوْتَى، والاستغاثةُ بِهِم، والتَّوجُّهُ إليهم، وهذا أصلُ شركِ العالَمِ، فإنَّ المَيِّتَ قد انْقَطَعَ عَمَلُهُ وهو لا يَمْلِكُ لِنفسِهِ ضَّرًا ولا نَفْعًا، فَضْلاً لِمَن اسْتَغَاثَ بهِ أوْ سَأَلَهُ أن يَشْفَعَ إلى اللهِ، وهذا مِنْ جَهْلِهِ بالشَّافعِ والمَشْفُوع عِنَدهُ، فإنَّ اللهَ سبحانَهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إلاَّ بإِذْنِهِ، واللهُ سبحانَهُ لم يَجْعَلْ سُؤالَ غيرِهِ سَبَبًا لإذنِهِ، وإنَّما السَّببُ لإذنِهِ كمَالُ التَّوحيدِ، فجاءَ هذا المشركُ بسببٍ يَمْنَعُ الإذنَ، والمَيِّتُ مُحْتاجٌ إلى مَنْ يَدْعُو لهُ، كمَا أمَرَنَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زُرْنَا قُبورَ المسلمينَ أن نَتَرَحَّمَ عليهم، ونَدْعُوَ لهم، ونَسْأَلَ لهم العافيةَ والمَغْفِرةَ، فعَكَسَ المشْرِكُونَ هذا وزَارُوهُم زِيارةَ العِبادةِ، وجَعَلُوا قُبورَهُم أَوْثانًا تُعْبَدُ، فجَمَعُوا بينَ الشِّركِ بالمَعْبودِ وتَغْيِيرِ دِينهِ، ومُعاداةِ أهلِ التَّوحيدِ ونِسْبَتِهِم إلى التَّنَقُّصِ بالأمواتِ، وهم قدْ تَنَقَّصُوا الخالقَ سبحانَهُ بالشِّركِ، وأولياءَهُ الموحِّدينَ بذَمِّهِم ومُعاداتِهِم، وتَنَقَّصُوا مَنْ أَشْرَكُوا بهِ غايةَ التَّنَقُّصِ، إذ ظَنُّوا أنَّهُم راضُونَ منهم بهذا، وأنَّهُم أَمَرُوهُم بهِ، وهؤلاءِ هم أعداءُ الرُّسلِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وما أكثرَ المُسْتَجِيبِينَ لهم! وللَّهِ دَرُّ خَليلِهِ إبراهيمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ قالَ:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}[إبراهيم:35،36] وما نَجَا مَنْ أَشْرَكَ بهذا الشِّركِ الأَكْبَرِ، إلاَّ مَنْ جَرَّدَ توحيدَهُ للهِ، وعادَى المشرِكِينَ في اللهِ، وتَقَرَّبَ بمَقْتِهِم إلى اللهِ.)
وقالَ الإمامُ الحافظُ ابنُ عبدِ الهادِي في رَدِّهِ عَلَى السُّبْكِيِّ وقولِهِ - أيْ قولِ السُّبْكيِّ -: إنَّ المُبالَغةَ في تعظيمِهِ -أيْ: تعظيمِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجِبةٌ، إن أُرِيدَ بهِ المُبالغةُ بِحَسَبِ ما يَرَاهُ كلُّ أحدٍ تَعْظِيمًا، حتَّى الحَجُّ إلى قَبْرِهِ، والسُّجودُ لهُ، والطَّوافُ بهِ، واعتقادُ أنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ، وأنَّهُ يُعْطِي ويَمْنَعُ، ويَمْلِكُ لِمَن اسْتَغاثَ بهِ مِنْ دونِ اللهِ الضرَّ والنَّفْعَ، وأنَّهُ يَقْضِي حَوائجَ السَّائلينَ، ويُفَرِّجُ كُرُباتِ المَكْرُوبِينَ، وأنَّهُ يَشْفَعُ فيمَنْ يَشاءُ، ويُدْخِلُ الجنَّةَ مَنْ يَشاءُ، فدَعْوَى المبالغةِ في هذا التَّعظيمِ مُبالغةٌ في الشِّركِ، وانْسِلاخٌ منْ جُمْلةِ الدِّينَ.
قُلْتُ: هذا هوَ اعتقادُ عُبَّادِ القبورِ فيمَنْ هوَ دونَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَضْلاً عن الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمَا تَقَدَّمَ بعضُ ذلكَ، والأمرُ أَعْظَمُ وأَطَمُّ مِنْ ذلكَ.
وفي (الفَتاوَى البَزَّازيَّةِ) مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ: قالَ عُلماؤُنَا: مَنْ قَالَ:(أَرْوَاحُ المَشايخِ حاضِرةٌ تَعْلَمُ، يَكْفُرْ).
فإنْ أَرَادَ:
بالعُلماءِ عُلماءَ الشَّريعةِ فهو حِكايةٌ للإجماعِ عَلَى كُفْرِ مُعْتَقِدِ ذلكَ.
وإن أَرَادَ:
عُلماءَ الحنفِيَّةِ خَاصَّةً، فهو حِكايةٌ لاتِّفاقِهم عَلَى كُفْرِ مُعْتَقِدِ ذلكَ، وعلى التَّقديرَيْنِ تَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ صَرِيحًا في كُفْرِ مَنْ دَعَا أهلَ القبورِ؛ لأنَّهُ ما دَعاهم حتَّى اعْتَقَدَ أنَّهُم يَعْلَمُونَ ذلكَ، ويَقْدِرُونَ عَلَى إِجابةِ سؤالِهِ، وقَضاءِ مَأْمولِهِ.
وقالَ الشَّيخُ صُنْعُ اللهِ الحَلَبِيُّ الحَنَفِيُّ في كِتابهِ الَّذي ألَّفَهُ في الرَّدِّ عَلَى مَن ادَّعَى أنَّ لِلأَوْلِياءِ تَصَرُّفًا في الحياةِ وبعدَ المماتِ في سبيلِ الكَرامةِ: (هذا وإنَّهُ قدْ ظَهَرَ الآنَ فيما بينَ المسلِمِينَ جَماعاتٌ يَدَّعُونَ أنَّ للأولياءِ تَصَرُّفاتٍ في حَياتِهِم وبعدَ المماتِ، ويُسْتَغاثُ بِهِم في الشَّدائدِ والبَلِيَّاتِ، وبِهِمَمِهِم تُكْشَفُ المُهِمَّاتُ، فيَأْتُون قُبورَهُم، ويُنادُونَهُم في قَضاءِ الحاجاتِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى أنَّ ذلكَ منهم كَراماتٌ، وقالُوا: منهم أَبْدالٌ ونُقباءُ، وأَوْتادٌ ونُجَباءُ، وسبعونَ وسبعةٌ، وأربعونَ وأربعةٌ، والقُطْبُ هوَ الغَوْثُ للنَّاسِ، وعليهِ المَدارُ بلا الْتِباسٍ، وجَوَّزوا لهم الذَّبائحَ والنُّذورَ، وأَثْبَتُوا لهم فيهَا الأُجورَ).
قالَ: (وهذا الكلامُ فيهِ تَفْرِيطٌ وإِفْراطٌ، بلْ فيهِ الهَلاكُ الأَبَدِيُّ، والعذابُ السَّرْمَدِيُّ، لِمَا فيهِ مِنْ رَوائحِ الشِّركِ المُحَقَّقِ، ومُصادمةِ الكتابِ العزيزِ المُصَدَّقِ، ومُخالِفٌ لِعَقائدِ الأئِمَّةِ، وما اجْتَمَعَتْ عليهِ الأُمَّةُ).
وفي التَّنْزِيلِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النِّساء:114]
إلى أنْ قالَ: (الفَصْلُ الأوَّلُ: فيما انْتَحَلُوهُ من الإِفْكِ الوَخِيمِ والشِّركِ العَظِيمِ …).
إلى أن قالَ:( فأمَّا قَولُهُم: إنَّ للأولياءِ تَصَرُّفاتٍ في حَياتِهِم وبعدَ المماتِ. فيَرُدُّهُ قولُهُ تعالَى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ}[النمل:60] .
{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] .
{للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الَمَّائدة: 120] ونحوُهُ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ عَلَى أنَّهُ المُنْفَرِدُ بالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ، والتَّصَرُّفِ والتَّقديرِ، ولا شَيءَ لِغيرِهِ في شيءٍ ما بوجهٍ مِن الوجوهِ، فالكلُّ تحتَ مُلْكِهِ وقَهْرِهِ تَصَرُّفًا ومِلْكًا، وإِحْياءً وإماتةً وخَلْقًا، وتَمَدَّحَ الرَّبُّ سبحانَهُ بانْفِرَادِهِ في مُلْكِهِ بآياتٍ مِنْ كتابِهِ كقولِهِ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}[فاطر: 3]{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}.[فاطر: 13] .
وذَكَرَ آياتٍ في هذا المعنَى، ثُمَّ قالَ: (فقولُهُ في الآياتِ كُلِّها {مِنْ دُونِهِ}أيْ: مِنْ غيرِهِ، فإنَّهُ عامٌّ، يَدْخُلُ فيهِ مَن اعْتَقَدْتَهُ، مِنْ وَلِيٍّ وشيطانٍ تَسْتَمِدُّهُ، فإنَّ مَنْ لم يَقْدِرْ عَلَى نَصْرِ نفسِهِ كيفَ يَمُدُّ غيرَهُ).
إلى أن قالَ: (فكيفَ يُتَصَوَّرُ لِغيرِهِ مِنْ مُمْكِنٍ أن يَتَصَرَّفَ، إنَّ هذا مِن السَّفاهةِ لَقَوْلٌ وَخِيمٌ، وشرْكٌ عظيمٌ).
إلى أن قالَ: (وأمَّا القولُ بالتَّصَرُّفِ بعدَ المماتِ، فهو أَشْنَعُ وأَبْدَعُ مِن القولِ بالتَّصرُّفِ في الحياةِ، قالَ جلَّ ذِكْرُهُ:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزُّمَر: 30]، {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}[الزُّمَر: 42]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عِمْرانَ: 185]. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المُدَّثِّر: 38] وفي الحديثِ: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آَدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ))الحديثَ، فجميعُ ذلكَ وما هوَ نحوُهُ دَالٌّ عَلَى انْقِطاعِ الحِسِّ والحركةِ مِن المَيِّتِ، وأنَّ أَرْوَاحَهُمْ مُمْسَكَةٌ، وأنَّ أَعْمالَهُم مُنْقَطِعةٌ عنْ زِيادةٍ ونُقْصانٍ، فدَلَّ ذلكَ أنْ ليسَ للمَيِّتِ تَصَرُّفٌ في ذاتِهِ؛ فَضْلاً عنْ غيرِهِ بحركةٍ، وأنَّ رُوحَهُ مَحْبوسَةٌ مَرْهُونةٌ بعملِهَا مِنْ خيرٍ وشرٍّ، فإذا عَجَزَ عنْ حركةِ نفسِهِ، فكيفَ يَتَصَرَّفُ في غيرِهِ؟! فاللهُ سبحانَهُ يُخْبِرُ أنَّ الأَرْواحَ عندَهُ، وهؤلاء المُلْحِدُونَ يَقولونَ: إنَّ الأرواحَ مُطْلَقةٌ مُتَصَرِّفَةٌ، قُلْ أَأَنْتُم أَعْلَمُ أم اللهُ؟.
قالَ:
(وأمَّا اعْتِقادُهُم أنَّ هذه التَّصرُّفاتِ لهم مِن الكَراماتِ، فهو مِن المُغالَطةِ؛ لأنَّ الكرامةَ شيءٌ مِنْ عندِ اللهِ يُكَرِّمُ بِها أَوْلِياءَهُ، لا قَصْدَ لهم فيهِ ولا تَحَدِّيَ، ولا قُدْرةَ، ولا عِلْمَ، كمَا في قِصَّةِ مَرْيَمَ بنتِ عِمْرانَ، وأُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ، وأَبِي مُسْلِمٍ الخُولانِيِّ).
قالَ: (وأمَّا قولُهُم: فيُسْتَغَاثُ بِهم في الشَّدائدِ، فهذا أَقْبَحُ ممَّا قَبْلَهُ وأَبْدَعُ، لمُصادَمتِهِ قولَهُ جلَّ ذِكْرُهُ:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ}[النمل:62]، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلَمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الأنعام:63])
وذَكَرَ آياتٍ في هذا المعنَى، ثُمَّ قالَ: (فإنَّهُ جلَّ ذِكْرُهُ قَرَّرَ أنَّهُ الكاشِفُ للضُّرِّ لا غيرُهُ، وأنَّهُ المُتَعَيِّنُ لِكَشْفِ الشَّدائدِ والكُرَبِ، وأنَّهُ المُتَفَرِّدُ بإِجابةِ المُضْطَرِينَ، وأنَّهُ المُسْتَغاثُ لذلكَ كلِّهِ، وأنَّهُ القادرُ عَلَى دَفْعِ الضُّرِّ، والقادرُ عَلَى إِيصالِ الخيرِ، فهو المُنْفَرِدُ بذلكَ، فإذا تَعَيَّنَ هوَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - خَرَجَ غيرُهُ مِنْ مَلَكٍ، ونَبِيٍّ، ووَلِيٍّ).
قالَ:
(والاستغاثةُ تَجوزُ في الأسبابِ الظَّاهرةِ العاديَّةِ مِن الأمورِ الحِسِّيَّةِ في قِتالٍ، أوْ إِدْراكِ عَدُوٍّ أوْ سَبُعٍ، ونحوِهِ، كقولِهِم: يا لَزَيْدٍ، يا لَقَوْمٍ، يا لَلْمُسْلِمِينَ، كمَا ذَكَرُوا ذلكَ في كُتُبِ النَّحْوِ بحَسَبِ الأسبابِ الظَّاهرةِ بالفعلِ، وأمَّا الاستغاثةُ بالقوَّةِ والتَّأثيرِ، أوْ في الأمورِ المعنويَّةِ مِن الشَّدائدِ، كالمرضِ، وخوفِ الغَرَقِ، والضِّيقِ، والفَقْرِ، وطَلَبِ الرِّزْقِ، ونحوِهِ، فمِنْ خَصائِصِ اللهِ؛ فلا يُطْلَبُ فيها غيرُهُ).
قالَ: (وأمَّا كَوْنُهُم مُعْتَقِدِينَ: التَّأثيرَ مِنهم في قَضاءِ حاجاتِهِم كمَا تَفْعَلُهُ جاهِلِيَّةُ العربِ، والصُّوفيَّةُ، والجُهَّالُ، ويُنادُونَهُم ويَسْتَنْجِدُونَ بِهِم، فهذا مِن المُنْكَراتِ).
إلى أن قالَ: (فمَن اعْتَقَدَ أنَّ لِغيرِ اللهِ - مِنْ نَبِيٍّ، أوْ وَلِيٍّ، أوْ رُوحٍ، أوْ غيرِ ذلكَ - في كَشْفِ كُرَبهِ، أوْ قَضاءِ حاجتِهِ، تَأْثيرًا، فقدْ وَقَعَ في وادِي جَهْلٍ خَطِيرٍ، فهو عَلَى شَفا حُفْرَةٍ مِن السَّعيرِ).
وأمَّا كَوْنُهُم مُسْتَدِلِّينَ: عَلَى أنَّ ذلكَ مِنهم كَرَاماتٌ، فحاشا للهِ أن تَكونَ أولياءُ اللهِ بِهذه المَثابةِ، فهذا ظَنُّ أهلِ الأوثانِ، كذا أَخْبَرَ الرَّحمنُ: {هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يُونُس:18]، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر: 3]، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ} [يس:23] فإنَّ ذِكْرَ ما ليسَ مِنْ شأَنِهِ النَّفْعُ ولا دَفْعُ الضُّرِّ منْ نَبِيٍّ ووَلِيٍّ وغيرِهِ عَلَى وجهِ الإمدادِ منهُ إِشْراكٌ معَ اللهِ، إذ لا قادِرَ عَلَى الدَّفْعِ غيرُهُ، ولا خَيْرَ إلاَّ خيرُهُ.
قالَ: (وأمَّا ما قالُوهُ: منْ أنَّ منهم أَبْدالاً ونُقَباءَ، وأوْتادًا ونُجَباءَ، وسبعينَ وسبعةً، وأربعينَ وأربعةً، والقُطْبُ هوَ الغَوْثُ لِلنَّاسِ، فهذا مِنْ مُوضوعاتِ إِفْكِهِم، كمَا ذَكَرَهُ القاضِي المُحَدِّثُ ابنُ العَرِبِيِّ في (سِراجِ المُرِيدِينَ)وابنُ الجَوْزِيِّ، وابنُ تَيْمِيَّةَ) انْتَهَى باختصارٍ.
ومثلُ هذا يُوجَدُ في كلامِ غيرِهِم من العُلماءِ، والمقصودُ أنَّ أهلَ العِلْمِ ما زَالُوا يُنْكِرُونَ هذه الأمورَ ويُبَيِّنُونَ أنَّهَا شِرْكٌ، وإنْ كانَ بعضُ المُتَأَخِّرِينَ مِمَّن يَنْتَسِبُ إلى العِلْمِ والدِّينِ مِمَّنْ أُصِيبَ في عقلِهِ ودِينِهِ قدْ يُرَخِّصُ في بعضِ هذه الأمورِ، وهو مُخْطِئٌ في ذلكَ، ضالٌّ مُخالِفٌ لِكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماعِ المسلِمِينَ، فكلُّ أحدٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قولِهِ ومَتْرُوكٌ إلاَّ قَوْلَ رَبِّنَا وقَوْلَ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ ذَلِكَ لا يَتَطَرَّقُ إليه الخَطَأُ بِحالٍ، بلْ واجِبٌ عَلَى الخَلْقِ اتَّباعُهُ في كلِّ زمانٍ، عَلَى أنَّهُ لوْ أَجْمَعَ المتأخِّرونَ عَلَى جَوَازِ هذا لم يُعْتَدَّ بإجماعِهِم المُخالِفِ لِكَلامِ اللهِ وكلامِ رَسولِهِ في مَحَلِّ النِّزاعِ؛ لأنَّهُ إِجْماعٌ غيرُ مَعْصُومٍ، بلْ هوَ مِنْ زَلَّةِ العالِمِ الَّتي حُذِّرْنَا مِن اتِّباعِهَا، وأمَّا الإِجْماعُ المَعْصُومُ: فهو إجماعُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وما وافَقَهُ، وهو السَّوادُ الأَعْظَمُ الَّذي وَرَدَ الحَثُّ عَلَى اتِّباعِهِ، وإن لم يَكُنْ عليهِ إلاَّ الغُرَباءُ الَّذينَ أَخْبَرَ بِهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولِهِ: ((بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، لا ما كانَ عليهِ العَوامُّ والطَّغامُ، والخَلَفُ المُتَأَخِّرونَ الَّذينَ يَقُولونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ويَفْعَلُونَ ما لا يُؤْمَرُونَ.
(2)
قالَ ابنُ عَطِيَّةَ:(مَعْناهُ قِيلَ لي:{ولا تَدْعُ} فهو عَطْفٌ عَلَى {أَقِمْ} وهذا الأَمْرُ والمُخاطَبةُ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كانَتْ هَكَذا، فأَحْرَى أن يَحْذَرَ مِنْ ذلكَ غَيْرُهُ).
وقالَ غيرُهُ:( {فَإِنْ فَعَلْتَ}معناه: فإنْ دَعَوْتَ مِنْ دونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ، فَكَنَّى عنه بالفعلِ إِيجازًا: {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}إذًا: جزاءٌ للشَّرطِ، وجَوَابٌ لسؤالٍ مُقَدَّرٍ، كأنَّ سائلاً سَأَلَ عنْ تَبِعَةِ عِبادةِ الأوثانِ، وجُعِلَ مِن الظَّالمينَ؛ لأنَّهُ لا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِن الشِّركِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}) [لقمان:13].
حاصِلُ كلامِ المُفَسِّرِينَ أنَّ اللهَ تعالَى نَهَى رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَدْعُوَ مِنْ دونِهِ ما لا يَنْفَعُهُ ولا يَضُرُّهُ، والمرادُ بهِ كلُّ ما سِوَى اللهِ؛ فإنَّهم لا يَنْفَعُونَ ولا يَضُرُّونَ، وسواءٌ في ذلكَ الأنبياءُ والصَّالحونَ وغيرُهُم، كمَا قالَ تعالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}[الجنّ:18]، وقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنِ عَبَّاسٍ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وقالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وفي الآيةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أنَّ المَدْعُوَّ لا بدَّ أن يَكونَ مالِكًا للنَّفْعِ والضُّرِّ حتَّى يُعْطِيَ مَنْ دَعَاهُ، أوْ يَبْطِشَ بِمَنْ عَصَاهُ، وليسَ ذلكَ إلاَّ للهِ وحدَهُ، فتَعَيَّنَ أن يَكونَ هوَ المَدْعُوَّ دونَ ما سِواهُ، والآيةُ شاملةٌ لِنَوْعَي الدُّعاءِ، وقولُهُ: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}[يونس:106] أي: المشرِكِينَ، وهذا كقولِهِ: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213].
وقولِهِ: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65].
وقولِهِ في الأنبياءِ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانَوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:88].
فإذا كانَ هذا الأَمْرُ لا يَصْدُرُ مِن الأنبياءِ -وحاشاهُم مِنْ ذلكَ- لم يَفُكُّوا أنفسَهُم مِنْ عَذابِ اللهِ، فما ظَنُّكَ بغيرهِم؟!
فلم يَبْقَ شيءٌ يُقَرِّبُ إلى اللهِ ويُباعِدُ مِنْ سَخَطِهِ إلاَّ توحيدُهُ، والعملُ بما يَرْضَاهُ، لا الاعتمادُ عَلَى شخصٍ، أوْ قبرٍ، أوْ صَنَمٍ، أوْ وَثَنٍ، أوْ غيرِ ذلكَ من الأسبابِ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المؤمنونَ:117].
والآيةُ نَصٌّ في أنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ والاستغاثةَ بهِ شِرْكٌ أَكْبَرُ،
ولهذا قالَ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}[الأنعام:17]؛ لأنَّهُ المُتَفَرِّدُ بالمُلْكِ والقَهْرِ، والعَطاءِ والمَنْعِ، ولازِمُ ذلكَ إفرادُهُ بتوحيدِ الإلهيَّةِ؛ لأنَّهُمَا مُتَلازِمانِ، وإِفْرادُهُ بسؤالِ كَشْفِ الضُّرِّ وجَلْبِ الخيرِ؛ لأنَّهُ لا يَكْشِفُ الضُّرَّ إلاَّ هُوَ، ولا يَجْلِبُ الخيرَ إلاَّ هوَ: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر:2].
فتَعَيَّنَ أنْ لا يُدْعَى لِذلكَ إلاَّ هُوَ، وبَطَلَ دُعاءُ مَنْ سِواهُ مِمَّنْ لا يَمْلِكُ لنفسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا، فَضْلاً عنْ غيرِهِ، وهذا ضِدُّ ما عليهِ عُبَّادُ القبورِ، فإنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أنَّ الأولياءَ والطَّواغيتَ الَّذينَ يُسَمُّونَهُم المَجاذِيبَ يَنْفَعُونَ ويَضُرُّونَ ويَمَسُّونَ بالضُّرِّ ويَكْشِفُونَهُ، وأنَّ لهم التَّصَرُّفَ المُطْلَقَ في المُلْكِ؛ أيْ: عَلَى سبيلِ الكَرامةِ، وهذا فوقَ شِرْكِ كُفَّارِ العربِ، وإمَّا عَلَى سبيلِ الوَسَاطةِ بينَهُم وبينَ اللهِ بالشَّفاعةِ، وهذا شِرْكُ الَّذينَ قالَوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر:3].
وقولُهُ: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}[يونس: 107] فلا يَرُدُّهُ عنه رادٌّ؛ لأنَّهُ العزيزُ الَّذي لا يُغالَبُ ولا يُمانَعُ، ولا رَادَّ لقَضائِهِ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فأيُّ فائدةٍ في دُعاءِ غيرِهِ لِشَفاعةٍ أوْ غيرِهَا؟ فإنَّهُ تعالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، لا يُغْنِيهِ عنه شَفِيعٌ ولا غيرُهُ، بلْ لا يَتَكَلَّمُ أحدٌ عندَهُ إلاَّ بإذنِهِ، ولا يَشْفَعُ أحدٌ إلاَّ بإِذْنِهِ: {مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}[السجدة: 4].
وقَولُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يونس: 107] أيْ: لِمَنْ تابَ إليهِ، وأَقْبَلَ عليهِ حتَّى ولوْ كانَ مِن الشِّركِ.
(1)
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ عِنْدَهُ لاَ عِنْدَ غَيْرِهِ
مِمَّنْ لاَ يَمْلِكُ رِزْقًا مِن الأَوْثَانِ والأَصْنامِ وغيرِهَا، كمَا قالَ في أَوَّلِ الآيَةِ: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}[العنكبوت:17].
قالَ ابنُ كثيرٍ: (وهَذَا أَبْلَغُ في الحَصْرِ، كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5]، {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}[التحريمُ:11].
قُلْتُ:
في الآيَةِ الرَّدُّ عَلَى المُشْرِكينَ الَّذينَ يَدْعُونَ غيرَ اللهِ؛ ليَشْفَعُوا لَهُم عندَهُ في جَلْبِ الرِّزقِ، فما ظَنُّكَ بمَنْ دَعَاهُم أَنْفُسَهُم، واسْتَغَاثَ بِهِم ليَرْزُقُوهُ ويَنْصُرُوهُ كمَا هوَ الواقِعُ مِنْ عُبَّادِ القُبُورِ؟
وقالَ المُصَنِّفُ: (وفيهِ أنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ لاَ يَنْبَغِي إِلاَّ مِن اللهِ، كَمَا أَنَّ الجَنَّةَ لاَ تُطْلَبُ إِلاَّ منهُ).
حَاصِلُ كَلاَمِ المُفَسِّرِينَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى
حَكَمَ بأنَّهُ لاَ أَضَلَّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ، لاَ دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَلاَ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ واسْتِغَاثَةٍ، مَنْ هذهِ حالُهُ.
ومَعْنَى الاسْتِفْهَامِ
فيهِ: إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ في الضُّلاَّلِ كُلِّهِم أَبْلَغُ ضَلاَلاً مِمَّنْ عَبَدَ غيرَ اللهِ ودَعَاهُ؛ حَيْثُ يَتْرُكُونَ دُعَاءَ السَّمِيعِ المُجِيبِ القَادِرِ عَلَى تَحْصِيلِ كُلِّ بُغْيَةٍ ومَرَامٍ، ويَدْعُونَ مِنْ دونِهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُم، وَلاَ قُدْرَةَ بهِ عَلَى اسْتِجَابَةِ أَحَدٍ مِنْهُم مَا دَامَ في الدُّنيا وإلى أَنْ تَقُومَ القِيَامَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}[الرعد:15] وقولِهِ: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5] أيْ: لاَ يَشْعُرُونَ بِدُعَاءِ مَنْ دَعَاهُم؛ لأَِنَّهُم إِمَّا عِبَادٌ مُسَخَّرُونَ مُشْتَغِلُونَ بأَحْوَالِهِم كَالْمَلاَئِكَةِ، وإِمَّا أَمواتٌ كالأنبياءِ والصَّالحينَ، وإمَّا أصنامٌ وأوثانٌ.
وقولُهُ: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}[الأحقاف:6] أيْ: إذا قامت القيامةُ وحُشِرَ النَّاسُ للحسابِ عادَوْهُم وكَانُوا بعِبَادَتِهِم مِن الدُّعاءِ وغيرِهِ مِنْ أَنْواعِ العِبَادَةِ كافرينَ، كمَا قالَ تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلَهِةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (82) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}[مَرْيَم:82،83].
فليسُوا في الدَّاريْنِ إلاَّ عَلَى نَكَدٍ ومَضَرَّةٍ، لا تَتَوَلاَّهُمْ بالاسْتِجَابَةِ في الدُّنيَا، وتَجْحَدُ عِبَادَتَهُم في الآخِرَةِ وهمْ أَحْوَجُ ما كانُوا إليهَا.
السَّادسةُ: أنَّ هذهِ الأُمُورَ هيَ سَبَبُ كَوْنِهِ أَضَلَّ النَّاسِ.
(3)يُقَرِّرُ تعالى أنَّهُ الإِلَهُ الوَاحِدُ الَّذي لاَ شَرِيكَ لهُ،ولا مَعْبُودَ سِوَاهُ مِمَّا يَشْتَرِكُ في مَعْرِفَتِهِ المُؤْمِنُ والكَافِرُ؛ لأَِنَّ القُلُوبَ مَفْطُورةٌ عَلَى ذلكَ، فمتى جاءَ الاضْطِرَارُ رَجَعَت القُلُوبُ إلى الفِطْرةِ، وزالَ ما يُنَازِعُهَا، فالْتَجَأَتْ إليهِ وأَنَابَتْ إليهِ وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، كمَا قالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون (53)ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:53،54].
يُبَيِّنُ تعالى أنَّهُ المَدْعُوُّ عندَ الشَّدَائدِ، الكاشفُ للسُّوءِ وحْدَهُ، فيكونُ هوَ المَعْبُودَ وحْدَهُ، وكذا قَالَ في هذهِ الآيَةِ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أيْ: مَنْ هُوَ الَّذي لاَ يَلْجَأُ المُضْطَرُّ إِلاَّ إليهِ، والَّذي لاَ يَكْشِفُ ضُرَّ المُضْطَرِّينَ سِوَاهُ؟
ومِن المَعْلُومِ أَنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الأُمُورِ إِلاَّ اللهُ وحْدَهُ، وإِذَا جَاءتْهُم الشَّدائدُ أَخْلَصُوا الدُّعاءَ للهِ، كمَا قالَ تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت: 65].
الطَّبَرَانِيُّ) هوَ: الإمامُ الحافظُ الثِّقَةُ سُلَيْمَانُ بنُ أحمدَ بنِ أيُّوبَ بنِ مُطَيْرٍ اللَّخْمِيُّ الطَّبرانيُّ؛ صاحبُ المَعَاجِمِ الثَّلاَثَةِ وغيرِهَا، رَوَى عن النَّسَائِيِّ وإِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهيمَ الدَّبَرِيِّ وخَلْقٍ كَثِيرٍ، ومَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ وثَلاَثِمِائَةٍ.
وقدْ بَيَّضَ المُصَنِّفُ لاسمِ الرَّاوِي، وكأنَّهُ واللهُ أعلمُ نقلَهُ عنْ غيرِهِ أوْ كَتَبَهُ مِنْ حِفْظِهِ.
والحديثُ عنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: (أَنَّهُ كَانَ في زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي المُؤْمِنِينَ) هَذَا المُنَافِقُ لمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هوَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ؛ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ بالأَذَى للمُؤْمِنِينَ بالكَلاَمِ في أَعْرَاضِهِم ونحوِ ذلكَ، أمَّا أَذَاهُم بنحوِ ضَرْبٍ أوْ زَجْرٍ، فَلاَ نَعْلَمُ مُنَافِقًا بهذهِ الصِّفَةِ.
قولُهُ: (فَقَالَ بَعْضُهُم) أيْ: بَعْضُ المؤمنينَ، وهذا البَعْضُ القَائِلُ لذلكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ واحِدًا، وَأَنْ يَكُونَ جَمَاعَةً.
والظَّاهرُ أنَّهُ واحدٌ، وأظُنُّ في بَعْضِ الرِّوَاياتِ أنَّهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: (قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُرادُهُم الاسْتِغَاثَةُ بهِ فيما يَقْدِرُ عَلَيهِ بكَفِّ المُنَافقِ عنْ أَذَاهُم، بنحوِ ضَرْبِهِ أوْ زَجْرِهِ، لا الاسْتِغَاثَةُ بهِ فيما لاَ يَقْدِرُ عليهِ إِلاَّ اللهُ.
قولُهُ: (إِنَّهُ لاَ يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللهِ) قَالَ بعضُهُم: (فيهِ التَّصْرِيحُ بأنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأُمُورِ، وإنَّما يُسْتَغَاثُ باللهِ).
أنَّ مُرَادَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِرْشَادُهُم إلى التَّأَدُّبِ معَ اللهِ في الألفاظِ؛ لأنَّ اسْتِغاثَتَهُم بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن المُنَافِقِ مِن الأُمُورِ التي يَقْدِرُ عليها، إِمَّا بزَجْرِهِ أوْ تَعْزِيرِهِ ونحوِ ذلكَ.
فَظَهَرَ أنَّ المُرَادَ بذلكَ الإرشادُ إلى حُسْنِ اللَّفْظِ، والحِمَايَةُ منهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَنَابِ التَّوحيدِ، وتَعْظِيمُ اللهِ تبارَكَ وتعالى، فإذا كانَ هذا كَلاَمُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاسْتِغَاثَةِ بهِ فيما يَقْدِرُ عَلَيهِ، فَكَيْفَ بالاسْتِغَاثَةِ بهِ أوْ بِغَيْرِهِ في الأُمُورِ المُهِمَّةِ التي لاَ يَقْدِرُ عليها أَحَدٌ إِلاَّ اللهُ، كَمَا هوَ جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِن الشُّعَرَاءِ وغيرِهِم؟!
وقلَّ مَنْ يَعْرِفُ أنَّ ذلكَ مُنْكَرٌ، فَضْلاً عنْ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ شِرْكًا.
والحديثُ عَلَى الأدَبِ، وهوَ الأَوْلَى واللهُ أعلمُ.
وقدْ تَبَيَّنَ بما ذُكِرَ في هذا البابِ وشَرْحِهِ من الآياتِ والأحاديثِ وأقوالِ العُلَمَاءِ أنَّ دعاءَ المَيِّتِ والغَائِبِ والحَاضِرِ فيما لا يَقْدِرُ عليهِ إِلاَّ اللهُ، والاسْتِغَاثَةَ بغيرِ اللهِ في كشفِ الضُّرِّ أوْ تحويلِهِ، هوَ الشِّرْكُ الأكبرُ، بلْ هوَ أكبرُ أنواعِ الشِّركِ؛ لأنَّ الدُّعاءَ مُخُّ العبادةِ، ولأنَّ مِنْ خَصَائِصِ الإلهيَّةِ إِفْرَادَ اللهِ بسُؤَالِ ذلكَ؛ إذْ مَعْنَى الإِلَهِ هوَ الَّذي يُعْبَدُ لأَجلِ هذهِ الأُمورِ، ولأَنَّ الدَّاعِيَ إنَّما يَدْعُو إلهَهُ عندَ انْقِطَاعِ أَمَلِهِ ممَّا سِوَاهُ، وذلكَ هوَ خُلاَصَةُ التَّوحيدِ، وهوَ انْقِطَاعُ الأَمَلِ ممَّا سِوَى اللهِ، فَمَنْ صَرَفَ شَيْئًا مِنْ ذلكَ لغَيرِ اللهِ فقدْ سَاوَى بينَهُ وبينَ اللهِ، وذلكَ هوَ الشِّرْكُ؛ ولهذا يَقُولُ المُشْرِكُونَ لآلِهَتِهِمْ وهمْ في الجَحِيمِ: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:97،98]. ولكنْ لِعُبَّادِ القُبُورِ عَلَى هذا شُبُهاتٌ، ذَكَرَ المُصَنِّفُ كَثِيرًا مِنْها في (كَشْفِ الشُّبُهاتِ) ونحنُ نَذْكُرُ هُنَا ما لَمْ يَذْكُرْهُ.
((اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِهِ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى، اللهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ)).
قالَ: (هذا حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، وهوَ غَيْرُ الْخَطَمِيِّ) هكذا رواهُ التِّرْمِذِيُّ، ورواهُ النَّسَائِيُّ وابنُ شَاهِينَ والبَيْهَقِيُّ كذلِكَ، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ: ((يَامُحَمَّدُ، إِنِّي أَتَوَجَّهُ...)) إلى آخرِهِ.
وهذهِ اللَّفْظَةُ هيَ التي تَعَلَّقَ بها المُشْرِكُونَ، ولَيْسَتْ عندَ هؤلاءِ الأئمَّةِ.
قالُوا: فلوْ كانَ دُعَاءُ غيرِ اللهِ شِرْكًا لمْ يُعَلِّم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَعْمَى هَذَا الدُّعاءَ الَّذي فيهِ نِدَاءُ غيرِ اللهِ.
وإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَإِنَّ في ثُبُوتِهِ نَظَرًا؛ لأَنَّ التِّرْمِذِيَّ يَتَسَاهَلُ في التَّصْحِيحِ كالحَاكِمِ.
لكنَّ التِّرْمِذِيَّ أحسنُ نَقْدًا، كمَا نصَّ عَلَى ذلكَ الأَئِمَّةُ.
أنَّهُ قَدْ نَصَّ أنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الَّذي عَلَيْهِ مَدَارُ هذا الحديثِ هوَ غيرُ الْخَطَمِيِّ، وإِذَا كانَ غيرَهُ فهوَ لا يُعْرَفُ.
ولَعَلَّ عُمْدَةَ التِّرْمِذِيِّ في تَصْحِيحِهِ أَنَّ شُعْبَةَ لاَ يَرْوِي إِلاَّ عنْ ثِقَةٍ، وَهَذَا فيهِ نَظَرٌ؛ فَقَدْ قَالَ عَاصِمُ بنُ عَلِيٍّ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: (لوْ لمْ أُحَدِّثْكُم إِلاَّ عنْ ثِقَةٍ لمْ أُحَدِّثْكُم إِلاَّ عنْ ثَلاَثَةٍ، وفي نُسْخَةٍ: عنْ ثَلاَثِينَ، ذَكَرَهُ الحَافِظُالعِرَاقِيُّ).
وهذا اعْتِرَافٌ منهُ بأنَّهُ يَرْوِي عن الثِّقَةِ وغيرِهِ، فيُنْظَرُ في حَالِهِ، ويَتَوقَّفُ الاحْتِجَاجُ بهِ عَلَى ثُبُوتِ صِحَّتِهِ.
فحديثُ الأَعْمَى شَيْءٌ، ودُعَاءُ غيرِ اللهِ تعالى والاسْتِغَاثَةُ بهِ شَيْءٌ آخَرُ، فَلَيْسَ في حديثِ الأَعْمَى شَيْءٌ غيرَ أنَّهُ طَلَبَ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لهُ، ويَشْفَعَ لهُ، فهوَ تَوَسُّلٌ بدُعَائِهِ وشَفَاعَتِهِ؛ ولهذا قالَ في آخِرِهِ: ((اللهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ)) فعُلِمَ أنَّهُ شَفَعَ لهُ.
وفي رِوَايَةٍ: ((أنَّهُ طَلَبَ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لهُ)) فَدَلَّ الحديثُ عَلَى أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَعَ لهُ بدُعَائِهِ، وأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ هوَ أنْ يَدْعُوَ اللهَ ويَسأَلَهُ قَبُولَ شَفَاعَتِهِ.
لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أنْ يَسْأَلَ قَبُولَ شَفَاعَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُدْعَى، ولأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شِفَائِهِ إِلاَّ بِدُعَاءِ اللهِ لهُ.
فأينَ هذا مِنْ تلكَ الطَّوَامِّ؟.
وسَوَاءٌ ثَبَتَ قولُهُ فيهِ: (يَا مُحَمَّدُ) أَو لاَ:
- لا يَدُلُّ عَلَى سُؤَالِ الغَائِبِ.
- وَلاَ عَلَى سُؤالِ المَخْلُوقِ فيما لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلاَلاَتِ.
ومَن ادَّعَى ذلكَ فهوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ وعلَى رسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ إنْ كانَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ، فهوَ لمْ يَسْأَلْ منهُ إِلاَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وهوَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، وهَذَا لاَ إِنْكَارَ فيهِ.
وإِنْ كَانَ تَوَجَّهَ بهِ مِنْ غيرِ سُؤالٍ منهُ نَفْسِهِ، فهوَ لمْ يَسْأَلْ منهُ، وإنَّمَا سَأَلَ مِن اللهِ بهِ، سواءٌ كانَ مُتَوَجِّهًا بدُعَائِهِ كمَا هوَ نَصُّ أوَّلِ الحديثِ وهوَ الصَّحيحُ، أوْ كانَ مُتَوَجِّهًا بذاتِهِ عَلَى قولٍ ضَعِيفٍ؛ فإنَّ التَّوجُّهَ بذَوَاتِ المَخْلُوقِينَ والإِقْسَامَ بهِم عَلَى اللهِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ لَمْ تَأْتِ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ عنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ والتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَانٍ، وَلاَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ ونَحْوِهِم مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ.
- قالَ أَبُو حَنِيفَة: (لا يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلاَّ بهِ).
واخْتَارَهُ العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ، إِلاَّ في حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً إِنْ ثَبَتَ الحديثُ، يُشِيرُ إلى حديثِ الأَعْمَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ ليسَ فيهِ إِلاَّ أنَّهُ تَوَسَّلَ بدُعَائِهِ لاَ بِذَاتِهِ.
وَقَد وَرَدَ في ذلكَ حديثٌ رواهُ الحاكِمُ في (مُسْتَدْرَكِهِ) فأَبْعَدَ النُّجْعَةَ، مِنْ طَرِيقِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ زيدِ بنِ أَسْلَمَ: ((لَمَّا أَذْنَبَ آدَمُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى الْعَرْشِ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلاَّ غَفَرْتَ لِي …)) الحديثَ، وهوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، بلْ مَوْضُوعٌ؛ لأَِنَّهُ مُخَالِفٌ للقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:22] فَهَذَا هوَ الَّذي قالَهُ آدَمُ.
قالَ الذَّهَبِيُّ في هذا الحديثِ: (أَظُنُّهُ مَوْضُوعًا، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زيدٍ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، قال ابنُ مَعِينٍ: (ليسَ حديثُهُ بشيءٍ) ).
أبو يَعْلَى وابنُ السُّنِّيِّ في (عَمَلِ اليَوْمِ واللَّيْلَةِ)، فَقَالَ ابنُ السُّنِّيِّ: حَدَّثَنَا أبو يَعْلَى، ثَنَا الحَسَنُ بنُ عمرِو بنِ شَقِيقٍ، ثَنَا مَعْرُوفُ بنُ حسَّانَ، ثَنَا أبو مُعَاذٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، عنْ سَعِيدٍ، عنْ قَتَادَةَ، عنْ أَبِي بُرْدَةَ، عنْ أبيهِ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللهِ، احْبِسُوا)) هكذا في كِتَابِ ابنِ السُّنِّيِّ.
وفي (الجامِعِ الصَّغيرِ): ((فَإِنَّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُمْ)).
أنَّ هذا الحَدِيثَ مَدَارُهُ عَلَى مَعْرُوفِ بنِ حسَّانَ، وهوَ أَبُو مُعَاذٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ.
فقولُهُ في الأَصْلِ: (ثَنَا أبو مُعاذٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ) خَطَأٌ أَظنُّهُ مِن النَّاسِخ.
قالَ ابنُ عَدِيٍّ: (مُنْكَرُ الحَدِيثِ).
وقالَ الذَّهَبِيُّ في (المِيزَانِ): (قالَابنُ عَدِيٍّ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ، قَدْ رَوَى عنْ عَمْرِو بنِ ذَرٍّ نُسْخَةً طويلةً كُلُّهَا غيرُ مَحْفُوظةٍ).
سعيدٍ عنْ قَتَادةَ، ثُمَّ يَغِيبُ عنْ أَصْحابِ سعيدٍ الحُفَّاظِ الأثباتِ مثلِ يَحْيَى القَطَّانِ، وإسماعيلَ ابنِ عُلَيَّةَ، وأَبِي أُسَامَةَ، وخَالِدِ بنِ الحَارثِ، وأَبِي خَالِدٍ الأحمرِ، وسُفْيانَ، وشُعْبَةَ، وعبدِ الوَارِثِ، وابنِ المُبَارَكِ، والأَنْصَارِيِّ، وغُنْدَرٍ، وابنِ أبي عَدِيٍّ ونحوِهِم، حتَّى يَأْتِيَ بهِ هذا الشَّيْخُ المَجْهُولُ المُنْكَرُ الحديثِ.
فهذا منْ أَقْوَى الأَدِلَّةِ عَلَى وضْعِهِ، وبتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لا دَلِيلَ فيهِ؛ لأِنَّ هذا مِنْ دُعاءِ الحَاضِرِ فيما يَقْدِرُ عليهِ، كمَا قالَ: ((فَإِنَّ للهِ فِي الأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُمْ)).
وغَايَةُ ما فيهِ أنَّهُ تُوُجِّهَ بهِ في دُعَائِهِ، فأينَ هذا مِنْ دُعَاءِ المَيِّتِ؟
فَإِنَّ التَّوجُّهَ بالمَخْلُوقِ سُؤالٌ بهِ لا سُؤالٌ منهُ، والكلامُ إنَّما هوَ في سُؤالِ المَخْلُوقِ نَفْسِهِ ودُعَائِهِ والاسْتِغَاثَةِ بهِ فيما لا يَقْدِرُ عليهِ إِلاَّ اللهُ، وكلُّ أحدٍ يُفَرِّقُ بينَ سُؤالِ الشَّخْصِ وبَيْنَ السُّؤالِ بهِ؛ فإنَّهُ في السُّؤالِ بهِ قَدْ أَخْلَصَ الدُّعَاءَ للهِ، ولكنْ تَوَجَّهَ عَلَى اللهِ بذاتِهِ أوْ بدُعائِهِ.
وأمَّا في سُؤالِهِ ما لا يَقْدِرُ عليهِ إِلاَّ اللهُ، فقدْ جَعَلَهُ شَرِيكًا للهِ في عِبَادَةِ الدُّعاءِ. فليسَ في حديثِ الأَعْمَى وحديثِ ابنِ حُنَيْفٍ هذا إلاَّ إخلاصُ الدُّعاءِ للهِ كمَا هوَ صَرِيحٌ فيهِ، إِلاَّ قولَهُ: (يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ) وهذا ليسَ فيهِ المُخَاطَبَةُ لِمَيِّتٍ فيما لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، إنَّما فيهِ مُخَاطَبَتُهُ مُسْتَحْضِرًا لهُ في ذِهْنِهِ، كمَا يَقُولُ المُصَلِّي: السَّلامُ عليكَ أيُّهَا النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ.
كلِّ غائبٍ ومَيِّتٍ مِن الصَّالِحِينَ، فَخَرَجُوا عَمَّا فَهِمُوهُ مِن الحديثِ بفَهْمِهِم الفَاسِدِ إلى أنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى دُعَاءِ كلِّ غَائِبٍ ومَيِّتٍ صَالِحٍ. وَلاَ دَلِيلَ فيهِ أَصْلاً عَلَى دُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ موتِهِ، ولا في حَيَاتِهِ فيما لا يَقْدِرُ عليهِ، ثُمَّ لوْ كانَ فيهِ دليلٌ عَلَى ذلكَ لمْ يكُنْ فيهِ دليلٌ عَلَى دُعاءِ الغائبِ والمَيِّتِ مُطْلقًا؛ لأَِنَّ هذا قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الفَارِقِ، وهوَ بَاطِلٌ بالإِجْمَاعِ؛ إذْ ما ثَبَتَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الفَضَائِلِ والكَرَامَاتِ لاَ يُسَاوِيهِ فيهِ أَحَدٌ، فَلاَ يَجُوزُ قِيَاسُ غيرِهِ عليهِ.
وأيضًا فالقِيَاسُ إنَّما يَجُوزُ للحَاجَةِ، وَلاَ حَاجَةَ إلى قِيَاسِ غيرِهِ عليهِ، فبَطَلَ قِيَاسُهُم بِنَفْسِ مَذْهَبِهِم.
هذا غَايَةُ ما احْتَجُّوا بهِ مِمَّا هوَ مَوْجُودٌ في بَعْضِ الكُتُبِ المَعْرُوفَةِ.
وما سِوَى هذهِ الأحاديثِ الثَّلاَثَةِ فهوَ مِمَّا وَضَعُوهُ بأَنْفُسِهِم:
- وقولِهِم: (لوْ حَسَّنَ أحدُكُم ظَنَّهُ بحجرٍ لنَفَعَهُ).
قالَ ابنُ القيِّمِ: (وهوَ مِنْ وَضْعِ المُشْرِكِينَ عُبَّادِ الأَوْثَانِ).
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1)
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابٌ مِن الشِّركِ أنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِ اللهِ أَو يَدْعُوَ غَيْرَه):
قال شيخُ الإسلامِ: (الاسْتِغاثَةُ هي طَلَبُ الغَوْثِ، وهو إِزالَةُ الشِّدَّةِ، كالاسْتَنْصارِ طَلَبُ النَّصْرِ. والاسْتِعانَةِ طَلَبُ العَوْنِ). وقال غيرُه: (الفَرْقُ بينَ الاسْتِغاثَةِ والدُّعاءِ: أنَّ الاستغاثةَ لا تَكونُ إلاَّ مِن المَكْروبِ، والدُّعاءُ أَعَمُّ مِن الاستغاثةِ؛ لأَنَّهُ يَكُونُ مِن المَكْروبِ وغيرِه). فعَطْفُ الدُّعاءِ على الاستغاثةِ مِن عَطْفِ العَامِّ على الخاصِّ، فبينَهما عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعانِ في مادَّةٍ، ويَنْفَرِدُ الدُّعاءُ عنها في مادَّةٍ؛ فكُلُّ استغاثةٍ دُعاءٌ، ولَيْسَ كُلُّ دُعاءٍ استغاثةً. وقولُه: (أَو يَدْعُوَ غَيْرَه) اعْلَمْ أنَّ الدُّعاءَ نَوْعان: - دُعاءُ عِبادةٍ. - ودُعاءُ مَسْألةٍ، ويُرادُ به في القرآنِ هذا تَارَةً، وهذا تارَةً، ويُرادُ به مَجْموعُهما. فدُعاءُ المَسْألةِ: هو طَلَبُ ما يَنْفَعُ الدَّاعِيَ مِن جَلْبِ نَفْعٍ أو كَشْفِ ضُرٍّ، ولهذا أَنْكَرَ اللهُ على مَن يَدْعُو أَحَدًا مِن دُونِه ممَّن لا يَمْلِكُ ضَرًّا ولا نَفْعًا، كقولِه تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[المائدة:76] . وقولِه: {قُلْ أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:71]. وقال: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ، فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}[يونس:106]. قال شيخُ الإسلامِ: (فكُلُّ دُعاءِ عِبادةٍ مُسْتَلْزِمٌ لِدُعاءِ المَسْألةِ، وكُلُّ دُعاءِ مَسْألةٍ مُتَضَمِّنٌ لِدُعاءِ العِبادةِ، قال اللهُ تعالى:{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف:55]، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (.4) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}[الأنعام:40-41]. وقال {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}[الجِنّ:18]. وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}[الرَّعْد:14]. وأمثالُ هذا في القرآنِ في دُعاءِ المَسْألةِ أَكْثَرُ مِن أنْ يُحْصَرَ، وهو يَتَضَمَّنُ دُعاءَ العِبادةِ؛ لأنَّ السَّائِلَ أَخْلَصَ سُؤالَه للهِ، وذلك مِن أَفْضَلِ العِباداتِ، وكذلك الذَّاكِرُ للهِ، والتَّالي لِكِتابِه ونحوِه، طَالِبٌ مِن اللهِ في المعنى، فَيَكُونُ دَاعِيًا عابِدًا). فتَبَيَّنَ بهذا قولُ شيخِ الإسلامِ:(إنَّ دُعاءَ العِبادةِ مُسْتَلْزِمٌ لدُعاءِ المَسْألةِ، كما أنَّ دُعاءَ المَسْألةِ مُتَضَمِّنٌ لدُعاءِ العِبادةِ، وقد قال تعالى عن خَلِيلِه:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}[مَرْيَم:48-49]. فصار الدُّعاءُ مِن أَنواعِ العِبادةِ؛ فإنَّ قولَه: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}كقولِ زَكَرِيَّا:{إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مَرْيَم:4]. وقد أَمَرَ اللهُ تَعالَى به في مَواضِعَ مِن كِتابِه كَقَوْلِه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف:55،56]. وهذا هو دُعاءُ المَسْأَلةِ المُتَضَمِّنُ للعِبادةِ، فإنَّ الدَّاعِيَ يَرْغَبُ إلى المَدْعُوِّ ويَخْضَعُ له ويَتَذَلَّلُ. وضابِطُ هذا: أنَّ كُلَّ أَمْرٍ شَرَعَه اللهُ لِعِبادِه وأَمَرَهم به فَفِعْلُه للهِ عِبادةٌ، فإذا صَرَفَ مِن تلك العِبادةِ شَيْئًا لَغيرِ اللهِ فهو مُشْرِكٌ مُصادِمٌ لِمَا بَعَثَ اللهُ به رَسُولَه مِن قولِه: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي}[الزمر:14]) وسيَأْتِي لهذا مَزِيدُ بَيانٍ- إنْ شاء اللهُ تعالى. قال شيخُ الإسلامِ في (الرَّسالةِ السَّنِيَّةِ): (فإذا كان على عَهْدِ النَّبيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممَّن انْتَسَبَ إلى الإسلامِ مَن مَرَقَ مِنه مع عِبادتِه العَظِيمةِ، فَلْيُعْلَمْ أنَّ المُنْتَسِبَ إلى الإسلامِ والسُّنَّةِ في هذه الأَزْمَانِ قد يَمْرُقُ أيضًا مِن الإسلامِ لأسبابٍ، منها: الغُلُوُّ في بعضِ المَشايِخِ، بل الغُلُوُّ فيعَلِيِّ بنِ أَبِي طالِبٍ،بل الغُلُوُّ في المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فكُلُّ مَن غَلا في نَبِيٍّ أو رَجُلٍ صالِحٍ، وجَعَل فيه نَوْعًا مِن الإلهيَّةِ مثلَ أن يَقولَ: يا سَيِّدِي فُلانُ ، انْصُرْنِي أو أَغِثْنِي؛ أو ارْزُقْنِي، وأَنَا في حَسْبِك، ونحوُ هذه الأقْوَالِ، فكُلُّ هذا شِرْكٌ وضَلالٌ يُسْتَتَابُ صاحِبُه، فإنْ تاب وإلاَّ قُتِلَ. فإنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى إنَّما أَرْسَلَ الرُّسُلَ وأَنْزَلَ الكُتُبَ ليُعْبَدَ وحْدَه لا شَرِيكَ له، ولا يُدْعَى مَعَه إلهٌ آخَرُ. والَّذِين يَدْعُون مع اللهِ آلهةً أُخْرَى، مثلَ المَسِيحِ والملائكةِ والأَصْنامِ، لم يَكُونُوا يَعْتَقِدُون أنَّها تَخْلُقُ الخَلائِقَ، أو تُنْزِلُ المَطَرَ، أو تُنْبِتُ النَّباتَ، وإنَّما كانُوا يَعْبُدُونَهم، أو يَعْبُدُون قُبورَهم، أو يَعْبُدُون صُورَهم. يَقولونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزُّمَر:3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يُونُس:18]. فَبَعَثَ اللهُ سبحانَه رُسُلَه تَنْهَى أن يُدْعَى أَحَدٌ مِن دُونِه، لا دُعاءَ عِبادةٍ، ولا دُعاءَ اسْتغاثَةٍ) انتهى. - وقال أيضًا: (مَن جَعَلَ بينَه وبينَ اللهِ وَسائِطَ يَتَوَّكَلُ عليهم ويَدْعُوهم ويَسْأَلُهم كَفَرَ إِجْماعًا). نَقَلَه عنه صاحبُ (الفُروعِ) وصاحِبُ (الإِنْصافِ) وصاحِبُ (الإِقْناعِ) وغيرُهم. وذَكَرَه في مَسْألةِ الوَسَائِطِ، ونَقَلْتُه عنه في الرَّدِّ على ابنِ جُرْجِيسَ. - وقال ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ: (ومِن أَنْواعِهِ -أيِ: الشِّرْكِ- طَلَبُ الحَوَائِجِ مِن المَوْتَى، والاسْتِغَاثةُ بهم والتَّوَجُّهُ إليهم، وهذا أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِ، فإنَّ المَيِّتَ قد انْقَطَعَ عَمَلُه، وهو لا يَمْلِكُ لنفْسِه نَفْعًا ولا ضَرًّا، فَضْلاً عمَّن اسْتَغاثَ به، أو سَأَلَه أن يَشْفَعَ له إلى اللهِ، وهذا مِن جَهْلِه بالشَّافِعِ والمَشْفُوعِ عندَه) وسَيَأْتِي تَتِمَّةُ كَلامِه في بابِ الشَّفاعةِ، إن شَاءَ اللهُ تَعالَى. - وقال الحافِظُ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الهادِي، في رَدِّه على السُّبْكِيِّ في قولِه: (إنَّ المُبالَغةَ في تَعْظِيمِه -أي: الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجبةٌ: إنْ أُرِيدَ به المُبالَغةُ بِحَسَبِ ما يَرَاه كُلُّ أَحَدٍ تَعْظِيمًا، حتَّى الحَجِّ إلى قبرِه والسُّجودِ له، والطَّوافِ به، واعْتِقَادِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ، وأَنَّهُ يُعْطِي ويَمْنَعُ، ويَمْلِكُ لمَن اسْتَغاثَ به مِن دونِ اللهِ الضُّرَّ والنَّفْعَ؛ وأَنَّهُ يَقْضِي حَوَائِجَ السَّائِلِين، ويُفَرِّجُ كُرُباتِ المَكْرُوبِين، وأَنَّهُ يَشْفَعُ فيمَن يَشَاءُ، ويُدْخِلُ الجَنَّةَ مَن يَشَاءُ، فدَعْوَى وُجُوبِ المُبالَغةِ في هذا التَّعْظِيمِ مُبالَغةٌ في الشِّرْكِ، وانْسِلاخٌ مِن جُمْلةِ الدِّينِ). وفي (الفَتاوَى البزَّازِيَّةِ) مِن كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ: قال عُلماؤُنا: (مَن قال: أَرْوَاحُ المَشايخِ حاضِرةٌ تَعْلَمُ يَكْفُرُ). وقال الشَّيْخُ صُنْعُ اللهِ الحَلَبِيُّ الحَنَفِيُّ في كِتابِه في الرَّدِّ على مَن ادّعَى أنَّ للأَوْلِياءِ تَصَرُّفاتٍ في الحَياةِ وبعدَ المَماتِ على سَبِيلِ الكَرَامةِ: (هذا وإنَّه قد ظَهَر الآن فيما بينَ المُسْلِمِين جَمَاعاتٌ يَدَّعُون أنَّ للأَوْلِياءِ تَصَرُّفاتٍ بحَياتِهم وبعدَ مَماتِهم، ويُسْتَغاثُ بهم في الشَّدائِدِ والبَلِيَّاتِ وَبِهِمَمِهِمْ تُكْشَفُ الْمَهَمَّاتُ، فيَأْتُونَ قُبُورَهم، ويُنَادُونَهم في قَضاءِ الحاجاتِ، مُسْتَدَلِّين أنَّ ذلك مِنهم كَرَاماتٌ. وقالوا: مِنهم أَبْدالٌ ونُقَباءُ، وأَوْتادٌ ونُجَباءُ، وسَبْعونَ وسَبْعةٌ، وأَرْبَعونَ وأربعةٌ، والقُطْبُ هو الغَوْثُ للنَّاسِ، وعليه المَدَارُ بلا الْتِباسٍ، وجَوَّزُوا لهم الذَّبائِحَ والنُّذُورَ، وأَثْبَتُوا لهم فيهما الأُجورَ). قال: (وهذا كَلامٌ فيه تَفْرِيطٌ وإِفْراطٌ، بل فيه الهَلاكُ الأَبَدِيُّ والعَذابُ السَّرْمَدِيُّ، لِمَا فيه مِن رَوَائِحِ الشِّرْكِ المُحَقَّقِ، ومُصادَمةِ الكِتابِ العَزِيزِ المُصَدَّقِ، ومُخالَفةٍ لِعَقائِدِ الأَئِمَّةِ، وما اجْتَمَعَتْ عليه الأُمَّةُ). وفي التَّنْزِيلِ: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النِّساء:115]. ثم قال: (فأمَّا قولُهم: إنَّ للأَوْلِياءِ تَصَرُّفاتٍ في حَياتِهم وبعدَ المَماتِ. فيَرُدُّه قولُه تعالى:{أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ}[النَّحْل:64،61]{أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأَعْراف:54]{للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الشُّورَى:49] ونحوَه مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على أَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ والتَّصَرُّفِ والتَّقْدِيرِ، ولا شَيْءَ لِغيرِه في شَيءٍ مَا بوَجْهٍ مِن الوُجُوه، فالكُلُّ تحتَ مُلْكِه وقَهْرِه تَصَرُّفًا ومُلْكًا، وإِماتَةً وإحياءً وخَلْقًا، وتَمَدَّحَ الرَّبُّ تَبَارَك وتعالى بانْفَرادِه بمُلْكِه في آياتٍ مِن كِتابِه كقولِه تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}[فاطِر:3]، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطِر:13-14])وذَكَرَ آياتٍ في هذا المعنى. ثُمَّ قال: (فقولُه في الآياتِ كُلِّها:{مِن دُونِهِ}أي: مِن غيرِه. فإنَّه عامٌّ يَدْخُلُ فيه مَن اعْتَقَدْتَه، مِن وَلِيٍّ وشيطانٍ تَسْتَمِدُّه، فإنَّ مَن لم يَقْدِرْ على نَصْرِ نفْسِه كيف يَمُدُّ غيرَه؟) إلى أن قال: (إنَّ هذا القولَ وَخِيمٌ، وشِرْكٌ عَظِيمٌ، إلى أن قال: وأمَّا القولُ بالتَّصَرُّفِ بعدَ المَماتِ: فهو أَشْنَعُ وأَبْدَعُ مِن القولِ بالتَّصَرُّفِ في الحياةِ. قال جَلَّ ذِكْرُه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون}[الزُّمَر:30]{اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}[الزُّمَر:42]{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقةَُ المَوْتِ}[آل عِمْرانَ:185]{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المُدَّثِّر:38]. وفي الحديثِ: ((إذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ..)) الحديثَ. فجَمِيعُ ذلك وما هو نحوُه دَالٌّ على انْقِطاعِ الحِسِّ والحَرَكةِ مِن المَيِّتِ، وأنَّ أرواحَهم مُمْسَكَةٌ، وأنَّ أعمالَهم مُنْقَطِعةٌ عن زِيادةٍ أو نُقْصانٍ، فدَلَّ ذلك على أَنْ ليس لِلميِّتِ تَصَرُّفٌ في ذَاتِه فَضْلاً عن غيرِه. فإذا عَجَزَ عن حَرَكةِ نَفْسِه، فكيف يَتَصَرَّفُ في غيرِه؟ فاللهُ سبحانَه يُخْبِرُ أنَّ الأَرْواحَ عندَه، وهؤلاء المُلْحِدُون يَقُولونَ: إنَّ الأَرْواحَ مُطْلَقَةٌ مُتَصَرِّفةٌ {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ}؟ [البَقَرَة:140]. قال: (وأمَّا اعْتِقادُهم: أنَّ هذه التَّصَرُّفاتِ لهم مِن الكَرَاماتِ، فهو مِن المُغالَطةِ؛ لأنَّ الكَرامةَ شيءٌ مِن عندِ اللهِ يُكْرِمُ به أَوْلِياءَه، لا قَصْدَ لهم فيه ولا تَحَدِّيَ، ولا قُدْرَةَ ولا عِلْمَ، كَمَا في قِصَّةِ مَرْيَمَ ابنةِ عِمْرانَ، وأُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ، وأَبِي مُسْلِمٍ الخَوْلانِيِّ). قال: (وأمَّا قولُهم: فيُسْتَغاثُ بهم في الشَّدائِدِ، فهذا أَقْبَحُ ممَّا قبلَه وأَبْدَعُ؛ لمُصادَمتِه قولَه جلَّ ذِكْرُه:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ}[النَّمل:62]{قُلْ مَن يُنجِيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنجِيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}[الأنعام:63-64] وذَكَر آياتٍ في هذا المعنى، ثُمَّ قال: فإنَّه جَلَّ ذِكْرُه قَرَّرَ أَنَّهُ الكاشِفُ لِلضُّرِّ لا غيرُه، وأَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بإِجابةِ المُضْطَرِّين، وأَنَّهُ المُسْتَغاثُ لِذلك كُلِّه، وأَنَّهُ القادِرُ على دَفْعِ الضُّرِّ، القادِرُ على إِيصالِ الخَيْرِ. فهو المُنْفَرِدُ بذلك، فإذا تَعَيَّنَ هو جَلَّ ذِكْرُهُ خَرَجَ غيرُه مِن مَلَكٍ ونَبِيٍّ ووَلِيٍّ). قال: (والاسْتِغاثَةُ تَجوزُ في الأَسْبابِ الظَّاهَرةِ العادِيَّةِ مِن الأُمُورِ الِحسِّيَّةِ في قِتالٍ، أو إِدْراكِ عَدُوٍّ أو سَبُعٍ أو نحوِه، كَقولِهم: يا لَزَيْدٍ، يا لَلْمُسْلِمِين، بِحَسَبِ الأَسبابِ الظَّاهرةِ بالفِعْلِ. وأمَّا الاسْتِغاثةُ بالقُوَّةِ والتَّأْثِيرِ، أو في الأُمورِ المَعْنَوِيَّةِ مِن الشَّدائِدِ؛ كالمَرَضِ، وخَوْفِ الغَرَقِ، والضِّيقِ،والفَقْرِ، وطَلَبِ الرِّزْقِ، ونحوِه فمِن خَصَائِصِ اللهِ، لا يُطْلَبُ فيها غيرُه). قال: (وأمَّا كَوْنُهم مُعْتَقِدِين: التَّأْثِيرَ مِنهم في قَضاءِ حاجاتِهم، كَمَا تَفْعَلُه جاهِلِيَّةُ العَرَبِ، والصُّوفيَّةُ الجُهَّالُ، ويُنادُونَهم ويَسْتَنْجِدُون بهم؛ فهذا مِن المُنْكَراتِ، فمَن اعْتَقَدَ أنَّ لِغيرِ اللهِ؛ مِن نَبِيٍّ أو وَلِيٍّ أو رُوحٍ، أو غيرِ ذلك في كَشْفِ كُرْبَةٍ، أو قَضَاءِ حَاجَةٍ تَأْثِيرًا، فَقَدْ وَقَعَ في وَادِي جَهْلٍ خَطِيرٍ، فهو عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِن السَّعِيرِ. وأَمَّا كَوْنُهُم مُسْتَدِلِّينَ: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُم كَرَامَاتٌ فَحَاشَا للهِ أَنْ تَكُونَ أَوْلِيَاءُ اللهِ بِهَذِهِ المَثَابَةِ، فَهَذَا ظَنُّ أَهْلِ الأَوْثَانِ كَذَا أَخْبَرَ الرَّحْمَنُ:{هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18]{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر:3]{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُم شَيْئًا وَلاَ يُنْقِذُونِ}[يس:23]. فإِنَّ ذِكْرَ مَا لَيْسَ مِن شَأْنِهِ النَّفْعُ ولاَ دَفْعُ الضُّرِّ - مِن نَبِيٍّ ووَلِيٍّ وغَيْرِه- عَلَى وَجْهِ الإِمْدَادِ مِن إِشْرَاكٍ مَعَ اللهِ؛ إِذْ لاَ قَادِرَ عَلَى الدَّفْعِ غَيْرُه، وَلاَ خَيْرَ إلاَّ خيرُه). قال: (وأمَّا ما قالوا إنَّ مِنهم أَبْدالاً ونُقَباءَ، وأَوْتَادًا نُجَباءَ، وسَبْعِين وسَبْعةً، وأَرْبعِين وأربعةً، والقُطْبُ: هو الغَوْثُ لِلنَّاسِ، فهذا مِن مَوْضُوعاتِ إِفْكِهم. كَمَا ذَكَرَه القاضِي المُحَدِّثُ في (سِراجِ المُرِيدِين)؛ وابنُ الجَوْزِيِّ وابنُ تَيْمِيَّةَ) انْتَهَى باخْتِصَارٍ. والمَقْصُودُ: أنَّ أَهْلَ العِلْمِ ما زَالُوا يُنْكِرُون هذه الأُمورَ الشِّرْكيَّةَ الَّتي عَمَّت بها البَلْوَى. واعْتَقَدَها أَهْلُ الأَهْوَاءِ، فلو تَتَبَّعْنَا كَلامَ العُلماءِ المُنْكِرِين لهذه الأُمورِ الشِّرْكيَّةِ لَطالَ الكِتابُ، والبَصِيرُ النَّبِيلُ يُدْرِكُ الحَقَّ مِن أَوَّلِ دَليلٍ، ومَن قال قولاً بلا بُرْهانٍ فقولُه ظاهرُ البُطْلانِ؛ مُخالِفٌ ما عليه أَهْلُ الحَقِّ والإِيمانِ المُتَمَسِّكُون بمُحْكَمِ القرآنِ؛ المُسْتَجِيبُون لداعِي الحَقِّ والإِيمانِ، واللهُ المُسْتَعانُ وعليه التُّكْلانُ. (2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولِه تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ }[يُونُس:106]). - قال ابنُ عَطِيَّةَ:(مَعْناه قِيلَ لي:{وَلاَ تَدْعُ}فهو مَعْطُوفٌ على{أَقِمْ}وهذا الأمْرُ والمُخاطَبةُ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كانَتْ هَكَذا فَأَحْرَى أنْ يَتَحَرَّزَ مِن ذلك غيرُه، والخِطابُ خَرَجَ مَخْرَجَ الخُصوصِ وهو عامٌّ للأُمَّةِ). - قال أَبُو جَعْفَرِ بنُ جَرِيرٍ في هذه الآيةِ: (يَقولُ تعالى ذِكْرُه: ولا تَدْعُ يا مُحَمَّدُ مِن دونِ مَعْبُودِك وخالِقِك شَيْئًا لا يَنْفَعُك في الدُّنْيا ولا في الآخِرةِ، ولا يَضُرُّك في دِينٍ ولا دُنْيا، يَعْنِي بِذلك الآلِهةَ والأَصْنامَ، يَقولُ: لا تَعْبُدْها راجِيًا نَفْعَها أو خائفًا ضَرَّها؛ فإنَّها لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، فإن فَعَلْتَ ذلك فَدَعَوْتَها مِن دونِ اللهِ {فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}يَقولُ: مِن المُشْرِكِين باللهِ). قُلْتُ: وهذه الآيةُ لها نَظائِرُ كقولِه: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشُّعَراء:123]. وقولِه:( {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[القَصَص:88] ففِي هذه الآياتِ بَيانُ أنَّ كُلَّ مَدْعُوٍّ يَكونُ إلهًا، والإلهيَّةُ حَقٌّ للهِ لا يَصْلُحُ مِنها شَيْءٌ لِغيرِه). ولِهذا قال:({لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}كَمَا قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هو الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[الحَجّ:62]. وهذا هو التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ به رُسُلَه، وأَنْزَلَ به كُتُبَه، كما قال تَعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البَيِّنَة:5]. والدِّينُ: كُلُّ ما يُدانُ اللهُ به مِن العِباداتِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ). وفَسَّرَه ابنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِه بالدُّعاءِ، وهو فَرْدٌ مِن أَفْرادِ العِبادةِ، على عادَةِ السَّلَفِ في التَّفسِيرِ. يُفَسِّرُون الآيةَ ببعضِ أَفْرادِ مَعْناها، فمَن صَرَفَ مِنها شَيْئًا لِقبرٍ أو صَنَمٍ أو وَثَنٍ أو غيرِ ذلك، فقد اتَّخَذَه مَعْبُودًا، وجَعَلَه شَرِيكًا للهِ في الإلهيَّةِ الَّتي لا يَسْتَحِقُّها إلاَّ هو، كما قال تَعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المُؤْمِنون:117] فتَبَيَّنَ بهذه الآيةِ ونحوِها أنَّ دَعْوَةَ غَيْرِ اللهِ شِرْكٌ وكُفْرٌ وضَلالٌ. وقولُه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ }فإنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِالمُلْكِ والقَهْرِ، والعَطَاءِ والمَنْعِ، والضَّرِّ والنَّفْعِ، دونَ كُلِّ ما سِوَاه. فيَلْزَمُ مِن ذلك أن يَكونَ هو المَدْعُوَّ وحْدَه، المَعْبودَ وحْدَه، فإنَّ العِبادةَ لا تَصْلُحُ إلاَّ لمالِكِ النَّفْعِ، ولا يَمْلِكُ ذلك ولا شَيْئًا مِنه غيرُه؛ فهو المُسْتَحِقُّ لِلعِبادةِ وَحْدَه، دونَ مَن لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ. وقولُه تَعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[الزُّمَر:38]. وقال: {مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطِر:2]) فهذا ما أَخْبَرَ به في كِتابِه؛ مِن تَفَرُّدِه بالإلهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ، ونَصَبَ الأَدِلَّةَ على ذلك. فاعْتَقَدَ عُبَّادُ القُبورِ والمَشاهِدِ نَقِيضَ ما أَخْبَرَ به اللهُ، واتَّخَذُوهم شُرَكاءَ للهِ في اسْتَجْلابِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَكارِهِ بسُؤَالِهم، والالْتِجاءِ إِلَيْهِم بالرَّغْبةِ والرَّهْبةِ والتَّضَرُّعِ، وغيرِ ذلك مِن أَنْوَاعِ العِبَادَةِ الَّتي لا يَسْتَحِقُّها إلاَّ اللهُ تَعالى، واتَّخَذُوهم شُرَكاءَ للهِ في رُبوبيَّتِه وإلهيَّتِه. وهذا فَوْقَ شِرْكِ كُفَّارِ العَرَبِ القائِلِين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}، {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} فإنَّ أُولئك يَدْعُونَهم لِيَشْفَعُوا لهم ويُقَرِّبُوهم إلى اللهِ، وكانوا يَقُولونَ في تَلْبِيَتِهم: (لَبَّيَكَ لا شَرِيكَ لك إلاَّ شَرِيكًا هو لَكَ، تَمْلِكُه وما مَلَكَ). وأمَّا هؤلاء المُشْرِكُونَ فاعْتَقَدُوا في أَهْلِ القُبورِ والمَشاهِدِ ما هو أَعْظَمُ مِن ذلك، فَجَعَلُوا لهم نَصِيبًا مِن التَّصَرُّفِ والتَّدْبِيرِ، وجَعَلُوهم مَعاذًا لهم ومَلاذًا في الرَّغَباتِ والرَّهَباتِ {سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وقولُه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: لمَن تَابَ إِلَيْهِ. (1)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُه: {فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت:17]) يَأْمُرُ تعالى عِبَادَه بابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنه وحدَه دُونَ ما سِوَاه مِمَّن لا يَمْلِكُ لهم رِزْقًا مِن السماواتِ والأرضِ شيئًا.
فتَقْدِيمُ الظرْفِ يُفِيدُ الاخْتِصَاص،
وقولُه: {واعْبُدُوهُ} مِن عَطْفِ العامِّ على الخاصِّ؛ فإنَّ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ عندَه مِن العِبادَةِ التي أَمَرَ بها.
- قالَ العِمَادُ ابنُ كثيرٍ: ({فَابْتَغُوا}أي: فاطْلُبُوا {عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ}أي: لا عندَ غيرِه؛ لأَنَّهُ المالِكُ له، وغيرُه لا يَمْلِكُ شيئًا مِن ذلك {واعبُدُوهُ}أي: أخْلِصُوا له العِبَادَةَ وَحْدَه لا شريكَ لَه{وَاشْكُروا لَهُ} أي: على ما أَنْعَمَ عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: يومَ القِيامَةِ، فيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بعَمَلِهِ).
(2)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحْقَاف:5،6]) فنَفَى سُبْحَانَه أن يكونَ أَحَدٌ أَضَلَّ مِمَّن يَدْعُو غيرَه، وأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يَسْتَجِيبُ لَه ما طَلَبَ مِنه إلى يومِ القِيامَةِ.
والآيةُ تَعُمُّ كلَّ مَن يُدْعَى مِن دُونِ اللهِ،
كما قالَ تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}[الإسراء:56] وفي هذه الآيَةِ أَخْبَرَ أَنَّهُ لا يَسْتَجِيبُ وأَنَّهُ غافِلٌ عن دَاعِيهِ {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}فتَنَاوَلَت الآيةُ كلَّ دَاعٍ وكلَّ مَدْعُوٍّ مِن دونِ اللهِ.
(3)
قالَ أبو جَعْفَرِ بنُ جَرِيرٍ في قولِهِ: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً}: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وإذا جُمِعَ الناسُ ليومِ القِيامَةِ في مَوْقِفِ الحِسَابِ كانَتْ هذه الآلِهَةُ التي يَدْعُونها في الدنيا لهم أعداءً؛ لأَنَّهُم يَتَبَرَّؤُون منهم {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} يقولُ تعالى ذِكْرُه: وكَانَت آلِهَتُهم التي يَعْبُدُونها في الدنيا بعبادَتِهِم جاحِدِين؛ لأَنَّهُم يقولون يومَ القِيامَةِ: ما أَمَرْنَا بعِبَادَتِنَا ولا شَعَرْنا بعبادَتِهِم إيَّانا، تَبَرَّأْنَا إليك مِنهم يا رَبَّنَا، كما قالَ تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَـكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْمًا بُورًا}[الفُرْقَان:17،18]).
- قالَ ابنُ جَرِيرٍ: ({وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ}مِن الملائِكَةِ والإِنْسِ والجِنِّ، وساقَ بسَنَدِهِ عنمُجَاهِدٍ قالَ: عيسى، وعُزَيْرٌ والمَلاَئِكَةُ).
ثم قالَ:(يقولُ تعالى ذِكْرُهُ: قالَت الملائِكةُ الذين كانَ هؤلاء المُشْرِكُون يَعْبُدُونهم مِن دُونِ اللهِ وعيسى: تنـزيهًا لك يا رَبَّنَا وتَبْرِئَةً مما أضَافَ إليك هؤلاء المُشْرِكُون {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} نُوالِيهم {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ}) انْتَهَى.
قُلْتُ:
وأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الدُّعاءُ في الكِتابِ والسنَّةِ واللُّغَةِ ولسانِ الصَّحَابَةِ ومَن بعدَهم من العُلَمَاءِ: في السُّؤالِ والطَّلَبِ، كما قالَ العُلَمَاءُ مِن أهلِ اللغةِ وغيرِهم: (الصلاةُ لغةً: الدُّعاءُ)
- وقد قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطِر:13،14].
- وقالَ: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}[الأنعامُ:63].
- وقالَ: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}[يُونُسُ:12].
- وقالَ: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}[فُصِّلَتْ:51].
- وقالَ: {لاَّ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ}[فُصِّلَتْ:49].
- وقالَ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنْفَال:9].
- وفي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((الدُّعاءُ مُخُّ العِبادَةِ)).
- وفي الحديثِ الصحيحِ: ((ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجابَةِ)).
- وفي آخَرَ: ((مَنْ لَمْ يَسْأَل اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)).
- وحديثِ: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعاءِ)) روَاه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَةَ وابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ وصَحَّحَه.
وقولِهِ: (الدُّعاءُ سِلاحُ الْمُؤمِنِ وَعِمَادُ الدِّينِ وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) روَاه الحاكِمُ وصحَّحَه.
وقولِه: (سَلُوا اللهَ كُلَّ شَيْءٍ حَتى الشِّسْعَ إذا انقَطَعَ) الحديثَ، وقالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (أَفضلُ العِبادَةِ الدُّعاءُ) وقَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافِر:60]، روَاه ابنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَه. وحديثِ: ((اللهمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ)) الحديثَ. وحديثِ: ((اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأحَدُ الصَّمَدُ الَّذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) وأمثالُ هذا في الكِتابِ والسنَّةِ أكْثَرُ مِن أن يُحْصَرَ، في الدعاءِ الذي هو السؤالُ والطَّلَبُ، فمَن جَحَدَ كَوْنَ السؤالِ والطَّلَبِ عِبَادَةً فقد صَادَمَ النصُوصَ وخالَفَ اللُّغَةَ واسْتِعْمَالَ الأمَّةِ سَلَفًا وخَلَفًا. وأمَّا ما تَقَدَّمَ من كلامِ شيخِ الإسلامِ، وتَبِعَه العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ من أنَّ الدعاءَ نوعان:
1- دعاءُ مَسْأَلَةٍ.
2-ودُعَاءُ عِبَادَةٍ.
وما ذُكِرَ بينَهما من التلازُمِ وتَضَمُّنِ أحدِهما للآخَرِ، فذلك باعْتِبَارِ كَوْنِ الذاكِرِ والتالي والمُصَلِّي والمُتَقَرِّبِ بالنُّسُكِ وغيرِه طَالِبًا في المعنى، فيَدْخُلُ في مُسَمَّى الدُّعاءِ بهذا الاعْتِبَارِ.
وقد شَرَعَ اللهُ تعالى في الصَّلاةِ الشرعِيَّةِ من دُعَاءِ المسأَلَةِ ما لا تَصِحُّ الصلاةُ إلا بِهِ، كما في الفاتِحَةِ ويينَ السجْدَتَيْنِ وفي التشَهُّدِ، وذلك عبادةٌ كالرُّكُوعِ والسُّجُودِ. فتَدَبَّرْ هذا المقامَ يَتَبَيَّنْ لك جَهْلُ الجاهِلِين بالتوحِيدِ. وممَّا يُبَيِّنُ هذا المقامَ ويَزِيدُه إِيضَاحًا قولُ العَلاَّمَةِ
ابنِ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى في مَعْنَى قولِهِ تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء:110] : (وهذا الدُّعاءُ المشهورُ أَنَّهُ دُعاءُ المَسْأَلَةِ.
- قالوا:
كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو ربَّه مَرَّةً يَقُولُ: (يا اللهُ) ومَرَّةً: (يا رَحْمَنُ) فَظَنَّ المُشْرِكُون أَنَّهُ يَدْعُو إلهين فأَنْزَلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ذُكِرَ هذا عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
- وقِيلَ:
إنَّ الدعاءَ هنا بمعنى التسْمِيَةِ، والمعنى: أيَّ اسْمٍ سَمَّيْتُمُوه به من أسماءِ اللهِ تعالى، إمَّا (الله) وإمَّا (الرحمن) فلَه الأسماءُ الحُسْنَى، وهذا مِن لوازِمِ المعنى في الآيَةِ.
وليسَ هو عَيْنَ المُرَادِ، بل المُرَادُ بالدُّعاءِ معناه المَعْهُودُ المُطَّرِدُ في القُرْآنِ، وهو دعاءُ السؤالِ، ودعاءُ الثَّنَاءِ).
ثم قالَ:
(إذا عُرِفَ هذا فقولُه تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}[الأعراف:55] يَتَنَاولُ نَوْعَي الدعاءِ، لكنه ظاهِرٌ في دعاءِ المسأَلَةِ مُتَضَمِّنٌ لدعاءِ العِبَادَةِ، ولهذا أَمَرَ بإِخْفَائِهِ.
- قالَ الحَسَنُ: (بَيْنَ دُعَاءِ السِّرِّ ودُعاءِ العَلاَنِيَةِ سَبْعون ضِعْفًا، ولقد كانَ المُسلِمون يَجْتَهِدُون في الدعاءِ ولم يُسْمَعْ لهم صوتٌ إن كانَ إلا هَمْسًا بينَهم وبينَ ربِّهِم).
وقولُه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة:186] يَتَنَاولُ نَوْعَي الدعاءِ، وبِكُلٍّ منهما فُسِّرت الآيَةُ.
قِيلَ:
أُعْطِيهِ إذا سَأَلَني.
وقيلَ:
أُثِيبُهُ إذا عَبَدَنِي، وليسَ هذا من اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ ومجازِهِ، بل هذا اسْتِعْمَالُه في حقيقَتِهِ الواحِدَةِ المُتَضَمِّنَةِ للأَمْرَين جَمِيعًا.
وهذا يأتي في مَسْأَلَةِ الصلاةِ وأنها هل نُقِلَت عن مُسَمَّاها في اللغةِ وصارَتْ حَقِيقةً شرعيَّةًً، أو اسْتُعْمِلَت في هذه العِبَادَةِ مَجَازًا للعَلاقَةِ بينَها وبينَ المُسَمَّى اللُّغَوِيِّ أو هي باقِيةٌ على الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَضُمَّ إليها أركانٌ وشرائِطُ، وعَلى ما قَرَّرْنَاه لا حَاجَةَ إلى شَيْءٍ من ذلك، فإنَّ المُصَلِّيَ مِن أوَّلِ صلاتِهِ إلى آخِرِهَا لا يَنْفَكُّ عن دعاءٍ: إمَّا دعاءِ عِبَادَةٍ وثَنَاءٍ؛ أو دُعاءِ طَلَبٍ ومَسْأَلَةٍ، وهو في الحالَين داعٍ)
انتهى من (البَدَائِعِ).
(4)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قولُه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ}[النَّمْل:62]) يُبَيِّنُ تعالى أن المُشْرِكِين من العَرَبِ ونحوِهم قد عَلِمُوا أَنَّهُ لا يُجِيبُ المُضْطَرَّ ويَكْشِفُ السُّوءَ إِلاَّ اللهُ وحدَه، فذَكَرَ ذلك سُبْحَانَه مُحْتَجًّا عليهم في اتِّخَاذِهِم الشُّفَعَاءَ مِن دُونِهِ، ولهذا قالَ: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ} يعني: يَفْعَلُ ذلك.
فإذا كانَت آلِهَتُهُم لا تُجِيبُهُم في حالِ الاضْطِرارِ فلا يَصْلُحُ أن يَجْعَلُوها شُركاءَ للهِ الذي يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعَاه ويَكْشِفُ السُّوءَ وَحْدَه.
وهذا أَصَحُّ ما فُسِّرَت به الآيَةُ كسابِقَتِهَا مِن قولِه:
{أمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (.6) أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[النمل:60،61]
ولاحِقَتِهَا إلى قولِه: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[النمل:63،64].
فتَأَمَّلْ هذه الآياتِ يَتَبَيَّنْ لك أنَّ اللهَ تعالى احْتَجَّ على المُشْرِكِين بما أَقَرُّوا به على ما جَحَدُوه: مِن قَصْرِ العِبَادَةِ جَمِيعِها عليه، كما في فاتِحَةِ الكِتابِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتِحَة:5]. قالَ أبو جَعْفَرِ بنُ جَرِيرٍ:( قولُه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} يقولُ تعالى ذِكْرُه: أم ما تُشْرِكون باللهِ خيرٌ، أم الذي يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دعاه ويَكْشِفُ السُّوءَ النازِلَ به عنه؟) وقولُه: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} يقولُ: يَسْتَخْلِفُ بعدَ أمواتِكم في الأرضِ منكم خُلَفاءَ أحياءً يَخْلُفُونَهم. وقولُه: {أَإِلَـهٌ مَّعَ اللهِ} يَقُولُ: أَإِلَهٌ سِوَاه يَفْعَلُ هذه الأشياءَ بِكم وَيُنْعِمُ عليكم هذه النِّعَمَ. وقولُه: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} يقولُ: تَذَكُّرًا قليلاً مِن عَظَمَةِ اللهِ وأَيَادِيه عندَكم، تَذَكَّرُون وتَعْتَبِرُون حُجَجَ اللهِ عليكم يَسِيرًا، فلذلك أَشْرَكْتُم باللهِ غيرَه في عِبَادَتِهِ) انتهى.
(5)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ورَوَى الطَّبَرَانِيُّ بإِسْنَادِهِ أَنَّهُ كَانَ في زَمَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ. فقالَ بَعْضُهُمْ: قُوموا بِنا نَسْتَغِيثُ بِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ لا يُسْتَغاثُ بي، وَإِنَّما يُسْتَغَاثُ بِاللهِ)) ).
الطبرانيُّ: هو الإِمامُ الحافِظُ سُلَيْمَانُ بنُ أحمدَ بنِ أَيُّوبَ اللَّخْمِيُّ الطبرانِيُّ، صاحِبُ المعاجِمِ الثلاثَةِ وغيرِها.
روَى عن النَّسَائِيِّ وإِسْحَاقَ بنِ إبراهيمَ الدَّبْرِيِّ وخَلْقٍ كثيرٍ. ماتَ سَنَةَ سِتِّين وثلاثِمِائَةٍ.
روَى هذا الحديثَ عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قولُه: (أَنَّهُ كَانَ في زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنينَ) لم أقِفْ على اسْمِ هذا المُنَافِقِ. [قُلْتُ: هو عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ؛ كما صرح به ابن أبي حَاتِمٍ في رِوَايَتِهِ]. قولُه: (فَقَالَ بَعْضُهُم) أي: الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؛ هو أَبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قولُه: (قُومُوا بِنا نَسْتَغِيثُ بِرَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هَذَا الْمُنافِقِ) لأَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْدِرُ على كَفِّ أَذَاه. قولُه: ((إِنَّهُ لا يُسْتَغاثُ بي، وَإِنَّما يُسْتَغَاثُ بِاللهِ)) فيه النصُّ على أَنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مَن دُونَه. كَرِهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسْتَعْمَلَ هذا اللفظُ في حَقِّهِ، وإن كان فيما يَقْدِرُ عليه في حياتِهِ؛ حِمَايَةً لجَنَابِ التوحيدِ، وسَدًّا لذَرَائِعِ الشِّرْكِ، وَأَدَبًا وتَوَاضُعًا لربِّهِ، وتَحْذِيرًا للأُمَّةِ من وسَائِلِ الشِّرْكِ في الأقْوَالِ والأَفْعَالِ. فإذا كانَ هذا فيما يَقْدِرُ عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياتِهِ، فكيف يَجُوزُ أن يُسْتَغَاثَ به بعدَ وَفَاتِهِ ويُطلَبَ منه أمورٌ لا يَقْدِرُ عليها إلا اللهُ؟ كما جَرَى على أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ من الشُّعَراءِ كالبُوصِيرِيِّوالبُرَعِيِّ وغَيرِهم، من الاسْتِغَاثَةِ بمَن لا يَمْلِكُ لنفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا مَوْتًا ولا حياةً ولا نُشُورًا، ويُعْرِضُون عن الاسْتِغَاثَةِ بالربِّ العظيمِ القادِرِ على كلِّ شيءٍ، الذي له الخَلْقُ والأَمْرُ وحدَه، وله المُلْكُ وحدَه، لا إِلَهَ غيرُه ولا رَبَّ سِواه. قالَ تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ}[الأعْرَاف:188] في مَواضِعَ من القُرْآنِ {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}[الجِنّ:21] فأَعْرَضَ هؤلاء عن القرآنِ واعْتَقَدُوا نَقِيضَ مَا دَلَّتْ عليه هذه الآياتُ المُحْكَمَاتُ، وتَبِعَهُم على ذلك الضَّلالِ الخَلْقُ الكَثيرُ والجَمُّ الغَفِيرُ. فاعْتَقَدُوا الشِّرْكَ باللهِ دِينًا، والهُدَى ضَلالاً، فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعُون. فمَا أعْظَمَها من مُصِيبَةٍ عَمَّت بها البَلْوَى، فعَانَدُوا أهْلَ التوحيدِ وبَدَّعوا أهْلَ التَّجْريدِ، فاللهُ المُسْتَعَانُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1)
متى فَهِمْتَ الضابطَ السابقَ في حَدِّ الشرْكِ الأكْبَرِ،
وهو أنَّ: (مَن صَرَفَ شيئًا مِن العبادَةِ لغَيْرِ اللهِ فهو مُشْرِكٌ) ، فَهِمْتَ هذه الأبوابَ الثلاَثَةَ التي والَى المُصَنِّفُ بَيانَها.
فإنَّ النَّذْرَ عِبادةٌ، مَدَحَ اللهُ المُوفِينَ به، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوفاءِ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ، وكُلُّ أَمْرٍ مَدَحَهُ الشارِعُ أو أَثْنَى عَلَى مَن قَامَ بِهِ أو أَمَرَ بِهِ فهو عِبادَةٌ.
فإنَّ العِبادَةَ:(اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ) ، والنذرُ مِن ذلك.
وكَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ بالاسْتِعاذَةِ بِهِ
وحْدَه مِن الشرُورِ كلِّها، وبالاسْتِغاثَةِ به في كلِّ شِدَّةٍ ومَشَقَّةٍ، فهذه إِخْلاَصُها للهِ إيمانٌ وتوحيدٌ، وصرفُها لغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ وتَنْدِيدٌ.
والفَرْقُ بَيْنَ الدُّعَاءِ والاسْتِغَاثَةِ:
- أنَّ الدُّعاءَ عامٌّ في كلِّ الأحوالِ.
- والاسْتغاثَةَ هي الدعاءُ للهِ في حالَةِ الشدَائِدِ، فكلُّ ذلك يَتَعَيَّنُ إِخلاَصُه للهِ وحْدَه، وهو المُجِيبُ لدُعاءِ الدَّاعِينَ المُفَرِّجُ لكُرُباتِ المَكْرُوبِينَ، ومَن دَعَا غَيْرَه؛ مِن نَبِيٍّ، أو مَلَكٍ ، أو وَلِيٍّ أو غَيْرِهم ، أو اسْتَغَاثَ بغَيْرِ اللهِ فيما لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاَّ اللهُ ، فهو مُشْرِكٌ كافرٌ، وكَمَا أنَّه خَرَجَ مِن الدِّينِ فَقَدْ تَجَرَّدَ أيضًا مِن العَقْلِ، فإنَّ أحدًا مِن الخَلْقِ لَيْسَ عِنْدَه مِن النَّفْعِ والدَّفْعِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ؛ لا عَن نَفْسِه ولاَ عَن غَيْرِه ، بَل الكُلُّ فقراءُ إلى اللهِ في كُلِّ شؤونِهم.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)
قولُهُ: (مِن الشِّركِ) (مِن) للتَّبْعِيضِ، فيَدُلُّ على أنَّ الشِّركَ ليسَ مُخْتَصًّا بهذا الأمرِ. والاسْتغاثةُ: طَلَبُ الغَوْثِ، وهوَ إزالةُ الشِّدَّةِ، قال ابن فارس: (الغوث: كلمة واحدة، من الإغاثة، وهي: طلب النصرة والإعانة عند الشدة) . وكَلاَمُ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ لَيْسَ على إِطْلاَقِهِ، بلْ يُقَيَّدُ بِمَا لا يَقْدِرُ عليهِ المُسْتَغَاثُ بهِ، إِمَّا لكَوْنِهِ مَيِّتًا أوْ غائبًا، أوْ يكونُ الشيءُ مِمَّا لا يَقْدِرُ على إزالَتِهِ إلاَّ اللهُ تعالَى. فَلَو اسْتَغَاثَ بِمَيِّتٍ ليُدَافِعَ عنهُ، أوْ بغائِبٍ أوْ بِحَيٍّ حَاضِرٍ ليُنْزِلَ المَطَرَ، فهذا كُلُّهُ مِن الشرْكِ. ولو اسْتَغَاثَ بِحَيٍّ حَاضِرٍ فيما يَقْدِرُ عليهِ كانَ جائزًا؛ قالَ اللهُ تعالَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}. وإذا طَلَبْتَ مِنْ أحَدٍ الغَوْثَ، وهوَ قادِرٌ عليهِ، يَجِبُ عليكَ تَصْحِيحًا لتَوْحيدِكَ أنْ تَعْتَقِدَ أنَّهُ مُجَرَّدُ سببٍ، وأنَّهُ لا تَأْثيرَ لهُ بذَاتِهِ في إِزَالَةِ الشدَّةِ؛ لأنَّكَ رُبَّما تَعْتَمِدُ عليهِ وتَنْسَى خَالِقَ السبَبِ، وهذا قادِحٌ في كَمالِ التوْحيدِ. قولُهُ: (أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قولِهِ: (أَنْ يَسْتَغِيثَ) فيكونُ المَعْنَى: مِن الشِّرْكِ أنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللهِ؛ وذلكَ لأنَّ الدُّعاءَ مِن العبادَةِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَقَالَ رَبُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} عبادَتِي أيْ: دُعَائِي؛ فَسَمَّى اللهُ الدعاءَ عبادَةً، وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ)). ومُرَادُ المُؤَلِّفِ بقَوْلِهِ: (أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ) دُعَاءُ العبادةِ، أوْ دُعَاءُ المسألةِ فيما لا يُمْكِنُ للمَسْئُولِ إجَابَتُهُ. قولُهُ: (أنْ يَسْتَغِيثَ) (أنْ) ومَا دَخَلَتْ عَلَيهِ في تأويلِ مَصْدرٍ مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، وخَبَرُها مُقَدَّمٌ، وهوَ قولُهُ: (مِن الشِّرْكِ) والتقدِيرُ: مِن الشرْكِ الاسْتغاثَةُ بغيرِ اللهِ. وقولُهُ: (أوْ يَدْعُوَ) هذا مِنْ بابِ عَطْفِ العامِّ عَلَى الخاصِّ؛ لأنَّ الاسْتِغاثَةَ دُعَاءٌ بإزالةِ الشِّدَّةِ فقطْ، والدُّعَاءُ عامٌّ لكونِهِ لِجَلْبِ مَنْفعةٍ أوْ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ.
(2)
قولُهُ:
{وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ} ظاهرُ سياقِ الآيَةِ أنَّ الخِطَابَ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، سَواءٌ كانَ خاصًّا بهِ، أوْ عامًّا لهُ ولغيرِهِ.
فإنَّ بعضَ العلماءِ قالَ: (لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ للرسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ أنْ يَقَعَ منهُ ذلكَ، والآيَةُ على تقديرِ قُلْ، وهذا ضعيفٌ جدًّا، وإخراجٌ للآياتِ عنْ سياقِها).
والصوابُ:
أنَّهُ إمَّا خاصٌّ بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، والحُكْمُ لَهُ ولغَيْرِهِ، وإمَّا عامٌّ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ، ويَدْخُلُ فيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وكونُهُ يُوَجَّهُ إليهِ مثلُ هذا الخطابِ لا يَقْتَضِي أنْ يكونَ مُمْكِنًا منهُ، قالَ تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
فَالْخِطَابُ لهُ ولجَمِيعِ الرُّسُلِ،
ولا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ منهُ باعتبارِ حَالِهِ لاَ باعْتبارِ كونِهِ إنسانًا وبَشَرًا.
والحِكْمَةُ مِن النهْيِ أنْ يكونَ غيرُهُ مُتَأَسِّيًا بِهِ.
فإذا كانَ النهيُ مُوَجَّهًا إلى مَنْ لاَ يُمْكِنُ منهُ باعتبارِ حَالِهِ، فهُو إلى مَنْ يُمْكِنُ منهُ مِنْ بابِ أَوْلَى.
وقولُهُ: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ}الدعاءُ طَلَبُ ما يَنْفَعُ، أوْ طَلَبُ دَفعِ ما يَضُرُّ، وهوَ نوعانِ كما قالَ أهلُ العلْمِ:
الأَوَّلُ:
دُعَاءُ عبادةٍ.
وهوَ أنْ يكونَ قائمًا بأَمْرِ اللهِ؛
(كالمُصَلِّي، والصَّائمِ، والمُزَكِّي) يُرِيدُ بذلكَ الثَّوابَ والنَّجاةَ مِن العِقَاب، ففِعْلُهُ مُتَضَمِّنٌ للدُّعَاءِ بلسانِ الحالِ، وقدْ يَصْحَبُ فعلَهُ هذا دُعَاءٌ بلسانِ المقالِ.
الثاني:
دُعَاءُ مسألةٍ، وهوَ طلبُ ما يَنْفَعُ، أوْ طَلَبُ دَفْعِ ما يَضُرُّهُ.
فالأوَّلُ:
لا يَجُوزُ صَرْفُهُ لغَيْرِ اللهِ.
والثاني:
فيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ.
قال شيخ الإسلام (15/11/12) (الدعاء: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ويدفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود، لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر. وهذا كثير في ا لقرآن، يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، فهو يدعو للنفع والضر دعاءَ المسألة، ويدعوا خوفاً ورجاءً دعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة) .
(3)
قولُهُ: {مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}، {ما لا يَنْفَعُكَ} أيْ: ما لا يَجْلِبُ لكَ النَّفْعَ لوْ عبَدْتَهُ.
{ولاَ يَضُرُّكَ}
قيلَ: لا يَدْفَعُ عَنْكَ الضُّرَّ.
وقيلَ:
لوْ تَرَكْتَ عبادَتَهُ لاَ يَضُرُّكَ؛
لأنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ الانْتقامَ. وهوَ الظاهِرُ مِن اللفظِ.
وقولُهُ: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}أيْ: لأنَّهُ لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ.
وهذا القيدُ ليسَ شرطًا بِحَيْثُ يكونُ لهُ مفهومٌ، فيكونُ لكَ أنْ تَدْعُوَ مَنْ يَنْفَعُكَ ويَضُرُّكَ.
بلْ هوَ لبيانِ الواقعِ؛ لأنَّ المَدْعُوَّ مِنْ دونِ اللهِ لاَ يَحْصُلُ منهُ نَفْعٌ ولاَ ضَرَرٌ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
فَعَلَى هذَا لا يَكُونُ هذا القيدُ شَرْطًا، وهذِهِ يُسَمِّيها بعضُ الناسِ صفةً كاشفةً.
قولُهُ: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أيْ: إنْ دَعَوْتَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ، والخطابُ للرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وَ{إِذًا} أيْ:حالَ فِعْلِكَ مِن الظالمينَ، وهوَ قيدٌ؛ لأنَّ {إِذًا} للظَّرْفِ الحاضرِ؛ أيْ: فَإِنَّكَ حالَ فِعْلِهِ مِن الظالمينَ، لكنْ قدْ تَتُوبُ منهُ فيَزُولُ عنكَ وصْفُ الظُّلْمِ؛ فالإنسانُ قبلَ الفعْلِ ليسَ بظالِمٍ، وبعدَ التوبَةِ ليسَ بظالِمٍ، لكنْ حينَ فِعْلِ المعصيَةِ يكونُ ظالمًا، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) فنَفَى الإيمانَ عنهُ حالَ الفعْلِ.
ونَوْعُ الظلمِ هنا ظُلْمُ شِرْكٍ، قالَ اللهُ تعالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وعبَّرَ اللهُ بقولِهِ مِن الظالمينَ، ولَمْ يَقُلْ مِن المُشْرِكِينَ؛ ليُبَيِّنَ أنَّ الشركَ ظلمٌ؛ فكَوْنَ الداعِي لغيرِ اللهِ مشرِكًا أمْرٌ بيِّنٌ، لكنْ كونُهُ ظالِمًا قدْ لا يكونُ بيِّنًا مِن الآيَةِ.
(4)
قولُهُ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ}أيْ: يُصِبْكَ بِضُرٍّ؛ كالمَرَضِ والفَقْرِ ونَحْوِهِ.
قولُهُ: {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} أيْ: لا أحَدٌ يَكْشِفُهُ أبدًا إذا مَسَّكَ اللهُ بضُرٍّ إلاَّ اللهُ، وهذا كقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ)). قولُهُ: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} هُنَا قالَ: {يُرِدْكَ} وفي الضُّرِّ قالَ: {يَمْسَسْكَ}فهَلْ هذا مِنْ بابِ تَنْوِيعِ العبارةِ، أوْ هناكَ فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ؟
الجوابُ:
هناكَ فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ،
وهوَ أنَّ الأشياءَ المكروهةَ لا تُنْسَبُ إلى إرادةِ اللهِ، بَلْ تُنْسَبُ إلى فِعْلِهِ؛ أيْ: مفعولِهِ.
فالمَسُّ مِنْ فعْلِ اللهِ، والضُّرُّ مِنْ مَفْعُولاَتِهِ، فاللهُ لاَ يُرِيدُ الضُّرَّ لذاتِهِ، بلْ يُرِيدُهُ لغيرِهِ لِمَا يَتَرتَّبُ عَلَيهِ مِن الخيرِ، ولِمَا وراءَ ذلكَ مِن الحِكَمِ البالغةِ.
أمَّا الخيرُ فهوَ مُرَادٌ للهِ لذاتِهِ، ومفعولٌ لهُ.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما في سورةِ الجنِّ: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدَاً}.
فإذا أُصِيبَ الإنسانُ بمرضٍ فاللهُ لم يُرِدْ بهِ الضَّرَرَ، بلْ أرادَ المرضَ وهوَ يَضُرُّهُ، لكنْ لَمْ يُرِد ضَرَرَهُ بلْ أرادَ خيرًا مِنْ وراءِ ذلكَ.
وقدْ تَكُونُ الحِكْمَةُ ظاهرةً في نفسِ المُصابِ، وقدْ تَكُونُ ظاهرةً في غَيْرِهِ، كَمَا قالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}فالمهم
وليسَ لنا أنْ نَتَحَجَّرَ حِكْمةَ اللهِ؛ لأنَّها أوْسَعُ مِنْ عُقُولِنا، لكنَّنَا نَعلَمُ عِلْمَ اليقينِ أنَّ اللهَ لا يُرِيدُ الضَّرَرَ لأنَّهُ ضَرَرٌ، فالضَّرَرُ عندَ اللهِ ليسَ مُرَادًا لذاتِهِ، بلْ لغَيْرِهِ، ولا يَتَرَتَّبُ عليهِ إلاَّ خيرٌ.
أمَّا الخيرُ فهوَ مُرَادٌ لذاتِهِ، ومفعولٌ لهُ، واللهُ أعلَمُ بما أرادَ بكَلاَمِهِ، لكنْ هذا الذي يَتَبَيَّنُ لي.
قولُهُ: {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} أيْ: لا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ أنْ يَرُدَّ فَضْلَ اللهِ أبدًا، ولو اجْتَمَعَت الأُمَّةُ على ذلكَ، وفي الحديثِ: ((اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ)) فنَعْتَمِدُ عَلَى اللهِ في جَلْبِ المَنافِعِ، ودَفْعِ المضارِّ، وبقاءِ ما أنعمَ علينا بهِ.
ونَعْلَمُ أنَّ الأمَّةَ مهما بَلَغَتْ مِن المكرِ والكَيْدِ والحِيَلِ لِتَمْنَعَ فَضْلَ اللهِ فإنَّها لا تَسْتَطِيعُ.
قولُهُ: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} الضميرُ إمَّا أنْ يَعودَ إلى الفَضْلِ؛ لأنَّهُ أقربُ، أوْ إلى الخَيْرِ؛ لأنَّهُ هوَ الذِي يُتَحَدَّثُ عنهُ، ولا يَخْتَلِفُ المَعْنَى بذلكَ.
قولُهُ: {مَنْ يَشَاءُ} كُلُّ فِعْلٍ مُقَيَّدٍ بالمَشِيئةِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بالحِكْمَةِ؛ لأنَّ مَشِيئةَ اللهِ ليستْ مُجَرَّدَةً، يَفْعَلُ ما يَشاءُ لِمُجَرَّدِ أنَّهُ يَفْعَلُهُ فقطْ؛ فمِنْ صفاتِ اللهِ الحِكْمَةَ، ومِنْ أسْمائِهِ الحَكِيمَ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
قولُهُ: {مِنْ عِبَادِهِ} العُبُودِيَّةُ هنا عامَّةٌ؛ لأنَّ قولَهُ: {بِخَيْرٍ} يَشْمَلُ خَيْرَ الدُّنيا والآخِرَةِ. وخَيْرُ الدُّنيا يُصِيبُ الكُفَّارَ.
قولُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أيْ: ذُو المَغْفِرةِ.
والمَغْفِرةُ
سَتْرُ الذَّنْبِ والتَّجاوُزُ عنهُ، مَأْخُوذَةٌ مِن الْمِغْفَرِ، وهوَ ما يُتَّقَى بهِ السِّهامُ، والْمِغْفَرُ فيهِ سَتْرٌ ووِقايَةٌ.
والرَّحيمُ: أَيْ: ذُو الرحمةِ، وهيَ صِفَةٌ تليقُ باللهِ عزَّ وجَلَّ، تَقْتَضِي الإحسانَ والإنعامَ.
والشاهدُ هو قولُهُ: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} في الآيَةِ الأُولَى. فقدْ نبَّهَ اللهُ نَبِيَّهُ أنَّ مَنْ يَدْعُو أحَدًا مِنْ دونِ اللهِ؛ أيْ: مِنْ سِوَاهُ، لا يَنْفَعُهُ ولا يَضُرُّهُ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
قوله: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غيره) (من الشرك) كما ذكرنا فيما سبق، يعني:
الشرك الأكبر.
(أن يستغيث)
يعني: الاستغاثة؛ لأن (أن) مع الفعل تؤول بمصدر:
بابٌ من الشرك الاستغاثة بغير الله، أو استغاثةٌ بغير الله، أو دعوة غيره، أو دعاء غيره.
وهذا ظاهر في أن الاستغاثة كما ذكرنا طلب، والطلب نوع من أنواع الدعاء.
ولهذا قال العلماء: إن في قوله:
( (أو يدعو غيره) بعد (أن يستغيث بغير الله) فيه عطف للعام على الخاص، ومن المعلوم أن الخاص قد يُعطف على العام، وأن العام قد يُعطف على الخاص).
وقوله: (أن يستغيث بغير الله) هذا أحد أفراد الدعاء، كما ذكرنا بأن الاستغاثة طلب والطلب دعاء، (أو يدعو غيره) هذا عام:
- الذي يشمل الاستغاثة.
- ويشمل الاستعاذة، ويشمل أصنافاً كثيرة من أنواع الدعاء.
- الاستغاثة: هي طلب الغوث، والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرة الشديدة أو الهلاك، فيقال أغاثه: إذا فزع إليه، وأعانه على ما به، وخلَّصه منه.
كما قال -جل وعلا- في قصة موسى: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه}، {استغاثه الذي من شيعته} يعني: من كان من شيعة موسى، طلب الغوث من موسى على من كان عدواً لهما جميعاً، فأغاثه موسى عليه السلام.
فإذاً: الاستغاثة: طلب الغوث، وطلب الغوث لا يصلح إلا من الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله؛ لأن الاستغاثة يمكن أن تطلب من المخلوق؛ لأنه يقدر عليها.
بعض العلماء يقول:
(نضبط ذلك بقولنا: (الاستغاثة شرك أكبر: إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق).
- وقال آخرون: (الاستغاثة شرك أكبر: إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله) وهاتان مختلفتان، والأصح منهما: الأخيرة؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله -والمخلوق يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله- فإنه شرك أكبر بالله جل وعلا، أو في حقيقة الأمر أنه لا يقدر عليه إلا الله.
أما قول من قال من أهل العلم:
(إن الاستغاثة شرك أكبر، إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه) فإن هذا يَرِدُ عليه أن ثمة أشياء قد يكون في الظاهر يقدر عليها المخلوق ولكن في الحقيقة لا يقدر عليها، فإذاً: يكون هذا الضابط غير منضبط.
لأن من وقع في شدة وهو في غرق مثلاً، وتوجه لرجل يراه بأنه يغيثه، فقال:
(أستغيث بك، أستغيث بك، أستغيث بك) وذاك لا يحسن السباحة، ولا يحسن الإنجاء من الغرق، فهذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق؛ فهل يكون شركاً أكبر؟ لا، لِمَ؟
لأن الإغاثة عادةً -من الغرق ونحوه- يصلح أن يكون المخلوق قادراً عليها، فيكون الضابط الثاني هو الصحيح، وهو أن يقال: (الاستغاثة بغير الله شرك أكبر: إذا كان استغاث فيما لا يقدر عليه إلا الله).
أما إذا استغاث فيما يقدر عليه غير الله من المخلوقين،
لكن هذا المخلوق المعيَّن لم يقدر على هذا الشيء؛ فإنه لا يكون شركاً؛ لأنه ما اعتقد في المخلوق شيئاً لا يصلح إلا لله جل جلاله.
فإذاً: نقول: (الاستغاثة بغير الله: إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فهي شرك أكبر؛
وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق، فهي جائزة؛ كما حصل من صاحب موسى إذ استغاث بموسى عليه السلام).
قال (أو يدعو غيره) الدعاء
-كما ذكرت لك- هو العبادة، والدعاء نوعان:
1- دعاء مسألة.
2- ودعاء عبادة.
نعني بدعاء المسألة: ما كان فيه طلب، وفيه سؤال، يرفع يديه لله -جل وعلا- ويدعو، هذا يسمى دعاء مسألة، وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء، إذا قيل: دعا فلان، يعني: سأل ربه جل وعلا.
والنوع الثاني:
دعاء العبادة؛
كما قال جل وعلا: {وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} يعني: لا تعبدوا مع الله أحداً، أو لا تسألوا مع الله أحداً، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)).
دعاء المسألة غير دعاء العبادة،
دعاء العبادة: (كحال من صلى) (كحال من زكى) كل صنف من أصناف العبادة يقال له: دعاء، لكنه دعاء عبادة.
قال العلماء:
(دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستَلزِم لدعاء المسألة) يعني: أنَّ من سأل الله -جل وعلا- شيئاً، فهو داعٍ دعاء مسألة، وهذا متضمن أنه يعبد الله؛ لأن دعاء المسألة أحد أنواع العبادة، فدعاء المسألة متضمن للعبادة؛ لأن الله -جل وعلا- يحب من عباده أن يسألوه.
- دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، يعني: أن من صلى؛ فيلزم من أنه أنشأ الصلاة أنه يسأل الله القبول، يسأل الله الثواب؛ فيكون دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، إذا تقرر ذلك فهذا التفصيل، أوهذا التقسيم مهم جدّاً في:
- الحجة في القرآن.
- وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم؛ لأنه قد حصل من الخرافيين، والداعين إلى الشرك، أنهم يؤولون الآية التي في الدعاء بالمسألة، أو الآية التي في المسألة بالدعاء، وإذا تبين لك ذلك - يعني: ما ذكرنا - فإنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة، ودعاء العبادة؛ فهذا هو ذاك: إما بالتضمن، أو باللزوم، ومعلوم أن الدلالات، دلالات التضمن واللزوم: دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن، وجاءت في السنة.
{ولا تدع}: هذا نهي، والنهي توجه إلى الفعل (تدعو) وإذا كان كذلك فإنه يعم أنواع الدعاء، وقد ذكرت لك أن الدعاء:
- منه دعاء مسألة.
- ومنه دعاء عبادة؛ لأن النكرة إذا جاءت في سياق النهي، أو في سياق النفي، أو في سياق الشرط؛ فإنها تعم.
و{تدع}: نكرة؛ لأنها فعل مشتمل على مصدر، والمصدر حدث نكرة، فإذاً: هذا يعم نوعي الدعاء، وهذا مراد الشيخ، أو أحد مراداته من الاستدلال بهذه الآية: {ولا تدع من دون الله} يعني: نهى الله -جل وعلا- أن يُتوجه لغير الله بدعاء المسألة، أو بدعاء العبادة، يعني: بالطلب، أو بأي نوع من أنواع العبادات؛ فلا طلب يصلح فيما لا يقدر عليه إلا الله، إلا منه جل وعلا:
- يدخل في ذلك الاستعاذة.
- يدخل في ذلك الاستغاثة، التي هي طلب الغوث.
كذلك: دعاء العبادة بأنواعه من:
- الصلاة.
- والزكاة.
- والتسبيح.
- والتهليل.
- والسجود
- وتلاوة القرآن: لا تصلح إلا لله
كذلك:
الذبح.
- النذر.
أنواع أعمال القلوب:
- التوكل.
- محبة العبادة.
- رجاء العبادة.
- خوف السر.
هذه كلها أنواع العبادات، هي من أنواع دعاء العبادة.
فهذه الآية دلت على النهي: أن يتوجه أحدٌ إلى من هو دون الله -جل وعلا- بدعاء مسالة، أو بدعاء عبادة، وكان أعظم هذا النهي أنه وجِّه إلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي هو إمام المتقين، وإمام الموحدين، قال: {ولا تدع من دون الله}.
وذكرت لك فيما قبل أن قوله: {من دون الله} تشمل مع الله، أو من دون الله استقلالاً.
قال: {ما لا ينفعك ولا يضرك} يعني: الذي لا ينفعك ولا يضرك، و(ما): تشمل العقلاء، وغير العقلاء، يعني: تشمل:
- أن يُعنى بها الملائكة.
- الأنبياء.
- الرسل.
- يُعنى بها الصالحون.
- أو يعنى بها ما لا يعقل: (كالأصنام، والأحجار، والأشجار؛ هذا من جهة دلالة اللغة: قال الله -جل وعلا- لنبيه: {فإن فعلت} يعني: إن دعوت من دون الله أحداً، وذلك الأحد موصوف بأنه لا ينفعك ولا يضرك {فإنك إذاً من الظالمين} وهذا إذا كان في حق النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي كمَّل الله له التوحيد -إذا حصل منه الشرك فإنه يصبح ظالماً، ويصبح مشركاً، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك- فهذا تخويف لمن هو دونه ممن لم يُعصم، ولم يعط العصمة من ذلك.
قال: {فإن فعلت} يعني: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، {فإنك إذاً} يعني: بسبب تلك الدعوة {من الظالمين}.
والظالمون:
جمع تصحيح للظالم، والظالم اسم فاعل الظلم، والظلم المراد به هنا: الشرك؛ كما قال جل وعلا: {إن الشرك لظلم عظيم}.
ثم قال: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو}الغرض من أن يسأل أحدٌ غير الله في إنجاء ما به: طلب كشف الضر.
- الغرض من أن يستغيث بغير الله: طلب كشف الضر.
- الغرض من أن يستعيذ بغير الله: طلب كشف الضر. ولهذا ذكر الله -جل وعلا- القاعدة العامة في ذلك، التي تقطع عروق الشرك من القلب، حيث قال: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} إذا مسك الله بضر، فمن يكشف الضر؟
يكشفه من قدَّره ومن قضاه عليك،
فهذا يقطع التوجه لغير الله جل وعلا، ولكن ما دام أنه أذن فيما يقدر عليه البشر، فيما يقدر عليه المخلوق، أن يتوجه إليه: بطلب
- الغوث.
- أو بطلب الاستسقاء.
- أو طلب السقيا،
أو نحو ذلك، فإنه يكون مما رُخِّصَ فيه والحمد لله.
قال: {وإن يمسسك الله بضر} بضر هنا أيضاً: نكرة جاءت في سياق الشرط؛ فيعم جميع أنواع الضر، سواء كان ضرّاً في الدين، أو كان ضرّاً في الدنيا، سواء كان ضرًّا في الدنيا: من جهة
- الأبدان.
- أو من جهة الأموال. - أو من جهة الأولاد. - أو من جهة الأعراض. - أو من أي شيء،
فإن يمسسك الله بضر، بأي نوع من أنواع الضر؛ فلا كاشف له إلا هو.
في الحقيقة الذي يكشف الضر هو الله جل وعلا،
لا يكشف البلوى إلا الله سبحانه وتعالى، وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف فإنما هو من جهة أنه سبب،جعله الله سبباً يَقْدِر على أن يكشف بإذن الله جل وعلا، وإلا فالكاشف حقيقة هو الله جل وعلا، والمخلوق ولو كان يقدر، فإنما قَدَرَ بإقدار الله له إذ هو سبب من الأسباب.
فإذاً: لا يكشف على الحقيقة إلا الله جل وعلا،
وإذا تبين ذلك، ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية، ومناسبة الآية للترجمة من عدة جهات كما ذكرنا.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ من الشِّركِ أنْ يستغيثَ بغيرِ اللهِ أو يدعوَ غيرَهُ
ورَوَى الطَّبرانِيُّ بإسنَادِهِ: أنَّهُ كانَ في زَمَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤذِي المؤمنينَ فقالَ بعضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغيثُ برسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هذا المُنَافِقِ. فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((إنـَّهُ لا يُسْتَغاثُ بي، وإنَّمَا يُستغاثُ باللهِ)). هذا الحديثُ أُعِلَّ بتفرُّدِ ابنِ لهيعةَ فيه وهو ضعيفٌ. قلْتُ: قالَ الهيثميُّ:(رواهُ الطَّبرانيُّ ورجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ غيرَ ابنِ لهيعةَ وهو حسنُ الحديثِ.
وقد رواه أحمدُ بغيرِ هذا السِّياقِ، وهو في الأدبِ في بابِ القيامِ) اهـ. وقالَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّةَ:(عبدُ اللهِ بنُ لهيعةَ من أكابرِ علماءِ المسلمينَ، وكانَ قاضياً بمصرَ كثيرَ الحديثِ، لكنْ احترَقَتْ كتبَهُ فصارَ يحدِّثُ من حفظِهِ فوَقَعَ في حديثِهِ غلطٌ كثيرٌ، مع أنَّ الغالبَ على حديثِهِ الصّحَّةُ) اهـ. وعلى هذا الضَّابطِ عندَ شيخِ الإِسلامِ في ابنِ لهيعةَ فإنَّنَا نراهُ احتجَّ بحديثِهِ هذا في مواضعَ من فتاواهُ، وما ذلك إلا أنَّهُ يرَى صحَّتَهُ أو حسنَهُ، والعلمُ عندَ اللهِ.
العناصر
مناسبة باب (من الشرك أن يستغيث بغير الله) لما قبله
شرح قول المصنف: (من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره)
- بيان معنى الاستغاثة
- الفرق بين الاستغاثة والدعاء
- الضابط الصحيح في الاستغاثة الشركية
- شرط كونها شركاً
تفسير قوله تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) الآية
- قوله تعالى: (ما لا ينفعك ولا يضرك) صفة كاشفة لا مقيدة
- الحكمة من نهي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ لا تقع منه
مسائل في الدعاء والشرك فيه
- الأدلة على فضيلة الدعاء
- أنواع الدعاء (دعاء مسألة ودعاء عبادة)
- بيان تضمن كل منهما الآخر
- من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك بالإجماع
- إيراد بعض النقول عن العلماء في هذه المسألة
- بيان أن شرك الدعاء أكبر أنواع الشرك
- ذكر بعض شركيات القبوريين
- نماذج من الغلو في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به من دون الله عز وجل
- أبيات للبوصيري في مدح رسول الله، وبيان ما فيها من الشرك
معنى قوله تعالى: (فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين)
- معنى (الظلم) في هذه الآية
- ما يفيده توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : (فإن فعلت)
تفسير قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر...) الآية
- معنى قوله: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو)
- هل هناك فرق بين قول الله في الخير (وإن يردك)، وفي الضر (وإن يمسسك) أو هو من باب التنويع
- معنى قوله تعالى: (فلا راد لفضله)
- مرجع الضمير في قوله: (يصيب به من يشاء)
- كل فعل مقيد بالمشيئة فإنه مقيد بالحكمة
- معنى العبودية في قوله: (من عباده)
- معنى قوله: (وهو الغفور الرحيم)
- فوائد من قوله -تعالى-: (ولا تدع من دون الله..) الآية