الدروس
course cover
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
26 Oct 2008
26 Oct 2008

6508

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الرابع

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

6508

0

0


0

0

0

0

0

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله


قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مِنَ الشِّرْكِ الاِسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللهِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًا} [الْجِن:6].

وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الْجِنِّ.

الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مِنَ الشِّرْكِ.

الثَّالِثَةُ: الاِسْتِدْلاَلُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ؛ لأَِنَّ الْعُلَمَاءَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، قَالُوا: لأَِنَّ الاِسْتِعَاذَةَ بِالْمَخْلُوقِ شِرْكٌ.

الرَّابِعَةُ: فَضِيلَةُ هَذَا الدُّعَاءِ مَعَ اخْتِصَارِهِ.

الْخَامِسَةُ: أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ تَحْصُلُ بِهِ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِنْ كَفِّ شَرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ لاَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشِّرْكِ.

هيئة الإشراف

#2

26 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (4) الاسْتِعَاذَةُ: الالْتِجَاءُ والاعْتِصَامُ والتَّحَرُّزُ.

وحقيقَتُهَا: الهَرَبُ مِنْ شيءٍ تَخَافُهُ إلى مَنْ يَعْصِمُكَ مِنه، ولهذا يُسَمَّى المُسْتَعَاذُ بِهِ مُعَاذًا، ومَلْجَأً وَوَزَرًا؛ فالعائِذُ باللهِ قدْ هَرَبَ ممَّا يُؤْذِيهِ أوْ يَهْلِكُهُ إلى رَبِّهِ ومالِكِهِ، وَفَرَّ إليهِ، وأَلْقَى نَفْسَهُ بينَ يَدَيْهِ، واعْتَصَمَ بهِ، واسْتَجَارَ بهِ، والتَجَأَ إليهِ، وهذا تَمْثِيلٌ وتَفْهِيمٌ، وإلاَّ فَمَا يَقُومُ بالقَلْبِ من الالْتِجَاءِ إلى اللهِ، والاعْتِصَامِ بهِ، والاطِّرَاحِ بينَ يدي الرَّبِّ، والافْتِقَارِ إليهِ، والتَّذَلُّلِ بينَ يدَيهِ، أمرٌ لا تُحِيطُ بهِ العِبَارَةُ. هذا معنَى كلامِ ابنِ القَيِّمِ.

-وقالَ ابنُ كثيرٍ: (الاسْتِعَاذَةُ هيَ الالْتِجَاءُ إلى اللهِ والالْتِصَاقُ بِجَنَابِهِ منْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، والعِيَاذُ يكونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، واللِّياذُ لطَلَبِ الخَيْرِ) وهذا معنَى كلامِ غيرِهِمَا من العُلماءِ.

فتبيَّنَ بهِذا أنَّ الاستعاذةَ باللهِ عِبَادةٌ للهِ، ولهذا أَمَرَ اللهُ بالاسْتِعَاذَةِ بهِ في غيرِ آيَةٍ، وتواترتِ السُّنَنُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلكَ، قالَ اللهُ تعالَى: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فُصِّلَتْ:36].

وقَالَ: { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (98) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنونَ:98 ،99].

وقالَ: { فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [غَافِر:55].

وقَالَ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [الفَلَق:1].

وقالَ تعالَى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ } [النَّاس:1-3]،

فإِذا كانَ تعالَى هوَ رَبُّنَا ومَلِكُنَا وإِلَهُنَا، فلا مَفْزَعَ لنا في الشَّدَائِدِ سِوَاهُ، ولا مَلْجَأَ لنا منهُ إلاَّ إليهِ، ولا مَعْبُودَ لنا غيرُهُ، فلا يَنْبَغِي أن يُدْعَى ولا يُخَافَ ولا يُرْجَى ولا يُحَبَّ غيرُهُ، ولا يُذَلَّ ولا يُخْضَعَ لغيرِهِ، ولا يُتَوَكَّلَ إلاَّ عليهِ؛ لأنَّ مَنْ تَخَافُهُ وتَرْجُوهُ وتَدْعُوهُ وتَتَوَكَّلُ عليهِ:

- إمَّا أن يكونَ مُرَبِّيكَ والقَيِّمَ بأُمُورِكَ، ومُتَوَلِّي شَأْنِكَ، فهو ربُّكَ، ولا رَبَّ لكَ سِوَاهُ، وتكونَ مَمْلُوكَهُ وعَبْدَهُ الحَقَّ، فهو مَلِكُ النَّاسِ حَقًّا، وكلُّهم عَبِيدُهُ ومَمَالِيكُهُ.

- أوْ يكونَ معبودَكَ وإِلَهَكَ الَّذي لا تَسْتَغْنِي عنه طَرْفَةَ عَيْنٍ، بلْ حاجَتُكَ إليهِ أعْظَمُ مِنْ حاجَتِكَ إلى حياتِكَ ورُوحِكَ، فهو الإلهُ الحَقُّ إلهُ النَّاسِ.

فمَنْ كانَ ربَّهُم ومَلِكَهُم وإِلَهَهُم فهم جَدِيرونَ أن لا يَسْتَعِيذُوا بغيرِهِ، ولا يَسْتَنْصِروا بسوَاهُ، ولا يَلْجَؤُوا إلى غَيْرِ حِمَاهُ، فهو كافِيهِمْ وحَسْبُهُم وناصِرُهُم ووَلِيُّهُم، ومُتَوَلِّي أُمُورِهِم جميعًا، برُبُوبِيَّتِهِ ومُلْكِهِ وإِلَهِيَّتِهِ لهم.

فكيفَ لا يَلْتَجِئُ العبدُ عندَ النَّوَازِلِ ونُزُولِ عَدُوِّهِ بهِ إلى رَبِّهِ ومَلِكِهِ وإِلَهِهِ؟!

وهذه طَريقَةُ القُرْآنِ يُحْتَجُّ عليهِم بإِقْرَارِهِم بهِذا التَّوحيدِ عَلَى توحيدِ الإلَهِيَّةِ، هذا معنَى كلامِ ابنِ القَيِّمِ.

فإِذا تحقَّقَ العَبْدُ بهِذه الصِّفَاتِ: الرَّبِّ، والمَلِكِ، والإلَهِ، وامْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ واسْتَعَاذَ بهِ، فلا رَيْبَ أنَّ هذه عِبَادةٌ مِنْ أَجَلِّ العِبَادَاتِ، بلْ هوَ مِنْ حَقَائِقِ تَوْحِيدِ الإلَهِيَّةِ، فإن اسْتَعَاذَ بغيرِهِ فهو عابِدٌ لذلكَ الغَيْرِ، كمَا أنَّ مَنْ صلَّى للهِ وصلَّى لغيرِهِ يكونُ عابِدًا لغيرِ اللهِ، كذلِكَ في الاسْتِعَاذَةِ، ولا فَرْقَ إلاَّ أنَّ المخلوقَ يَطْلُبُ منهُ ما يَقْدِرُ عليهِ ويُسْتَعَاذُ بهِ فيهِ، بخلافِ ما لا يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ اللهُ، فلا يُسْتَعَاذُ فيهِ إلاَّ باللهِ، كالدُّعاءِ؛ فإنَّ الاسْتِعَاذةَ مِنْ أنواعِهِ.

(5) المعنَى -واللهُ أعلمُ- عَلَى قولِ أنَّ الإنسَ زادوا الجِنَّ باسْتِعاذَتِهِم بِهِم رَهَقًا؛ أيْ: إِثْمًا وطُغْيَانًا وشَرًّا، فَضَمِيرُ الفاعِلِ عَلَى هذا للعائِذِينَ من الإِنْسِ، وضميرُ المفعولِ للمُسْتَعَاذِ بِهِم من الجِنِّ، وعلى القولِ الثَّاني بالعَكْسِ، وزيادتُهُم للإنسِ رَهَقًا بإغوائِهِم وإِضْلاَلِهِم؛ وذلكَ أنَّ الرَّجُلَ من العَرَبِ كانَ إذا أَمْسَى في وادٍ قَفْرٍ في بعضِ سيرِهِ وخَافَ عَلَى نفسِهِ قالَ: (أعوذُ بسيِّدِ هذا الوادِي منْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ) يُرِيدُ الجِنَّ وكبيرَهُم.

- قالَ مُجَاهِدٌ: (كانُوا يقولونَ إذا هبَطُوا وادِيًا: نَعوذُ بعظيمِ هذا الوادِي، { فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } قالَ: زادُوا الكُفَّارَ طُغْيَانًا) رواهُ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، وابنُ المُنْذِرِ، والآثارُ بذلكَ عن السَّلَفِ مَشْهُورةٌ.

ووجهُ الاسْتِدْلالِ بالآيَةِ عَلَى التَّرْجَمَةِ:

أنَّ اللهَ حَكَى عنْ مُؤْمِنِي الجِنِّ أنَّهَم لَمَّا تَبَيَّنَ لهم دِينُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمَنُوا بِهِ، ذكروا أشياءَ مِن الشِّرْكِ كانُوا يَعْتَقِدُونَهَا في الجاهِلِيَّةِ، منْ جُمْلَتِهَا الاسْتِعاذةُ بغيرِ اللهِ.

وقدْ أجْمَعَ العلماءُ عَلَى أنَّهُ لا تَجُوزُ الاسْتِعَاذةُ بغيرِ اللهِ، ولهذا نَهَوْا عن الرُّقَى التي لا يُعْرَفُ معنَاهَا؛ خَشْيَةَ أنْ يكونَ فيها شيءٌ منْ ذلكَ.

قالَ مُلاَّ عَلِيٌّ القَارِيُّ الحَنَفِيُّ:(ولا تَجُوزُ الاسْتِعَاذَةُ بالجِنِّ، فقدْ ذَمَّ اللهُ الكافِرينَ عَلَى ذلكَ فقالَ:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [الجِنّ:6])

إلى أن قالَ: (وقالَ تعالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] ).

فاسْتِمْتَاعُ الإِنْسِيِّ بالجِنِيِّ في قضَاءِ حوائِجِهِ وامْتِثَالِ أوامِرِهِ، أوْ إخبارِهِ بشيءٍ من المُغَيَّبَاتِ.

- واسْتِمْتَاعُ الجِنِيِّ بالإنسيِّ تَعْظِيمُهُ إيَّاهُ، واسْتِعَاذَتُهُ بهِ، واسْتِغَاثَتُهُ وخُضُوعُهُ لهُ.

وفيهِ: (أنَّ كَوْنَ الشَّيءِ يَحْصُلُ بهِ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، منْ كَفِّ شَرٍّ أوْ جَلْبِ نَفْعٍ، لا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ ليسَ من الشِّركِ) ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.

(6) قولُهُ: (عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ) أي: ابنِ أُمَيَّةَ السُّلَمِيَّةِ، يُقالُ لَهَا: أُمُّ شَرِيكٍ، ويُقالُ لها: خُوَيْلَةُ بالتَّصْغِيرِ، ويُقالُ: إنَّهَا هيَ الواهِبَةُ، وكانَتْ قبلُ تَحْتَ عُثمانَ بنِ مُظْعُونٍ، قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: وكانَت صالِحةً فاضِلَةً.

قولُهُ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ)) هذا ما شَرَعَهُ اللهُ لأهلِ الإسلامِ أن يَسْتَعيذُوا بهِ بَدلاً عمَّا يَفْعَلُهُ أهلُ الجاهِلِيَّةِ من الاسْتِعاذةِ بالجِنِّ، فشَرَعَ اللهُ للمُسْلِمِينَ أن يَسْتَعِيذُوا بِهِ أوْ بِصِفَاتِهِ.

قالَ القُرْطُبِيُّ في (المُفْهِمِ): (قيلَ: معناهُ الكامِلاتُ التي لا يَلْحَقُهَا نَقْصٌ ولا عَيْبٌ، كمَا يَلْحَقُ كلامَ البَشَرِ.

وقِيلَ: معناهُ الشَّافِيَةُ الكافِيَةُ.

وقيلَ: الكلماتُ هنا هيَ القُرآنُ؛ فإنَّ اللهَ أخْبَرَ عنه بأنَّهُ {هُدًى وَشِفَاءٌ} [فُصِّلَتْ:44].

وهذا الأمْرُ عَلَى جِهَةِ الإرْشَادِ إلى ما يُدْفَعُ بهِ الأَذَى، ولَمَّا كانَ ذلكَ اسْتِعَاذةً بصفاتِ اللهِ تعالَى والالْتِجَاءَ إليهِ، كانَ ذلكَ منْ بابِ المَنْدُوبِ إليهِ، المَرْغُوبِ فيهِ، وعلى هذا فحَقُّ المُتَعَوِّذِ باللهِ تعالَى وبأسمائِهِ وصفاتِهِ أن يَصْدُقَ اللهَ في الْتِجَائِهِ إليهِ، ويَتَوَكَّلَ في ذلكَ عليهِ، ويُحْضِرَ ذلكَ في قَلْبِهِ، فمتَى فَعَلَ ذلكَ وَصَلَ إلى مُنْتَهَى طَلَبِهِ، ومَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ).

وقالَ غيرُهُ: (وقد اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الاسْتِعَاذَةَ بالمَخْلُوقِ لا تَجُوزُ) واسْتَدَلُّوا بحديثِ خَوْلَةَ، وقالُوا: فيهِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ كَلِمَاتِ اللهِ غيرُ مَخْلُوقَةٍ، ورَدُّوا بهِ عَلَى الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ في قولِهِم بِخَلْقِ القُرْآنِ، قالُوا: (فلوْ كانَتْ كَلِمَاتُ اللهِ مَخْلُوقَةً لم يَأْمُر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاسْتِعَاذَةِ بِهَا؛ لأنَّ الاسْتِعَاذَةَ بالمَخْلُوقِ شِرْكٌ).

وقالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: (وقدْ نَصَّ الأئِمَّةُ - كأحمدَ وغيرهِ - عَلَى أنَّهُ لا تَجُوزُ الاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقٍ، وهذا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بهِ عَلَى أنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مَخلُوقٍ، قالُوا: لأنَّهُ ثَبَتَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ اسْتَعَاذَ بكلماتِ اللهِ وأَمَرَ بذلكَ، ولهذا نَهَى العُلَمَاءُ عن التَّعازيمِ والتَّعَاوِيذِ التي لا يُعْرَفُ معناها؛ خَشْيَةَ أن يَكونَ فيها شِرْكٌ).

وقالَ ابنُ القَيِّمِ: (ومَنْ ذَبَحَ للشَّيطانِ ودعاهُ واسْتَغَاثَ بهِ، وتَقَرَّبَ إليهِ بما يُحِبُّ، فقدْ عَبَدَهُ وإن لم يُسَمِّ ذلكَ عِبَادَةً، ويُسَمِّيهِ اسْتِخْدَامًا، وصَدَقَ، هوَ اسْتِخْدَامُ الشَّيطانِ لَهُ، فيَصِيرُ مِنْ خَدَمِ الشَّيطانِ وعابِديهِ، وبذلكَ يَخْدُمُهُ الشَّيطانُ، لكنَّ خِدْمَةَ الشَّيطانِ لَهُ ليسَتْ خِدْمَةَ عِبَادَةٍ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَخْضَعُ لهُ ويَعْبُدُهُ كمَا يَفْعَلُ هوَ بِهِ).

قولُهُ: ((مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) أيْ: مِنْ كُلِّ شَرٍّ في أيِّ مَخْلُوقٍ قَامَ بهِ الشَّرُّ منْ حيوانٍ أوْ غيرِهِ، إنْسِيًّا كانَ أوْ جِنِّيًّا، أوْ هامَّةً أوْ دَابَّةً، أوْ رِيحًا أوْ صاعِقَةً، أوْ أيَّ نوعٍ كانَ منْ أنواعِ البلاءِ في الدُّنيا والآخِرَةِ، و(ما) هَا هُنا مَوْصُولَةٌ ليسَ إلاَّ، وليسَ المُرَادُ بِهَا العُمُومُ الإطلاقِيُّ، بل المُرادُ التَّقْييدِيُّ الوَصْفِيُّ، والمعنَى: مِنْ شَرِّ كُلِّ مَخْلُوقٍ فيهِ شَرٌّ، لا مِنْ شَرِّ كُلِّ ما خَلَقَهُ اللهُ تعالَى؛ فإنَّ الجِنَّةَ والملائِكَةَ والأنبياءَ ليسَ فيهم شرٌّ، هذا معنَى كلامِ ابنِ القَيِّمِ.

قالَ: والشَّرُّ يُقالُ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الألَمِ، وعلى ما يُفْضِي إليهِ.

قولُهُ: ((لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) قالَ القُرْطُبِيُّ: (هذا خَبَرٌ صَحِيحٌ وقَوْلٌ صادِقٌ، عَلِمْنَا صِدْقَهُ دَلِيلاً وتَجْرِبَةً؛ فإنِّي مُنْذُ سَمِعْتُ هذا الخَبَرَ عَمِلْتُ عليهِ فلَم يَضُرَّنِي شيءٌ إلى أن تَرَكْتُهُ فلَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ بالمَهْدِيَّةِ لَيْلاً، فَتَفَكَّرْتُ في نَفِسي فإِذا بِي قَد نَسِيتُ أنْ أَتَعَوَّذَ بتلكَ الكلِمَاتِ).

قالَ المُصَنِّفُ: (فيهِ فَضِيلَةُ هذا الدُّعاءِ معَ اخْتِصَارِهِ).

هيئة الإشراف

#3

26 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((5) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ مِنَ الشِّرْكِ الاسْتِعاذَةُ بِغَيرِ اللهِ).

الاسْتِعَاذةُ: الالْتِجَاءُ والاعْتِصَامُ، ولِهَذا يُسَمَّى المُسْتَعَاذُ بِهِ: مَعاذًا ومَلْجَأً، فَالعَائِذُ بِاللهِ قدْ هَرَبَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أوْ يُهْلِكُهُ، إلَى رَبِّه ومَالِكِهِ؛ واعْتَصَمَ بِهِ واسْتَجَارَ والْتَجَأَ إليْه؛ وهَذا تَمْثِيلٌ، وإلاَّ فيما يَقُومُ بِالقَلْبِ مِنَ الالْتِجَاءِ إلَى اللهِ؛ والاعتِصامِ بِهِ، والاطِّرَاحِ بَيْنَ يَدَي الرَّبِّ، والافتِقَارِ إليْهِ؛ والتَّذَلُّلِ لهُ، أَمْرٌ لا تُحِيطُ بِهِ العِبارةُ، قالَه ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ.

وقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (الاسْتِعَاذةُ هِيَ الالتِجَاءُ إلَى اللهِ والالْتِصاقُ بِجَنابِهِ مِن شَرِّ كُلِّ ذِي شرٍّ. والعِياذُ يَكونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، واللِّياذُ لِطَلَبِ الخَيْرِ) انْتَهَى.

قُلْتُ: وهِيَ مِنَ العِباداتِ التِي أَمَرَ اللهُ تعالى عبادَه بها؛ كما قال تعالى: {وَإِماَّ يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ} [فُصِّلَتْ:36] وأمثالُ ذلك في القرآنِ كثيرٌ كقولِه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَما كانَ عِبادةً للهِ فَصَرْفُهُ لِغيرِ اللهِ شِرْكٌ، فَمَن صَرَفَ شَيْئًا مِن هَذه العِباداتِ لِغيرِ اللهِ فقَدْ جَعَلَه للهِ شَرِيكًا فِي عِبادَتِه ونَازَعَ الربَّ فِي إِلَهِيَتِه كَما أنَّ مَن صَلَّى للهِ صلَّى لِغيرِه يَكُونُ عَابِدًا لِغَيرِ اللهِ، ولا فَرْقَ، كَما سَيَأْتِي تَقْرِيرُه قَرِيبًا إنْ شاءَ اللهُ.

(6) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولِ اللهِ تَعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] ).

- قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (أيْ: كنا نَرَى أَنَّ لَنَا فَضْلاً عَلَى الإِنْسِ؛ لأَنَّهُمْ كانُوا يَعُوذونَ بِنا، أيْ: إذا نَزَلُوا وادِيًا أوْ مَكانًا مُوحِشًا، كَما كَانَتْ عادةُ العَرَبِ فِي جاهِلِيَّتِها يَعُوذونَ بِعَظِيمِ ذَلكَ المَكَانِ مِنَ الجَانِّ أنْ يُصِيبَهمْ شَيْءٌ بسُوءٍ، وذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِن العَرَبِ كَانَ إِذَا أَمْسَى بِوَادٍ قَفْرٍ وخَافَ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: أَعُوذُ مِن سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، يُرِيدُ كَبِيرَ الجِنِّ).

قَالَ مُجَاهِدٌ: (كَانُوا إِذَا هَبَطُوا وَادِيًا يَقُولُونَ: نَعُوذُ بعَظِيمِ هَذَا الوَادِي {فَزَادوهُمْ رَهَقًا}. قَالَ: زَادُوا الكُفَّارَ طُغْيَانًا) رَوَاهُ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ).

- وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (لَمَّا رَأَتِ الجِنُّ أنَّ الإنْسَ يَعوذونَ بِهمْ مِن خَوْفِهِم مِنهمْ زَادُوهمْ رَهَقًا، أيْ: خَوْفًا وإرْهابًا وذُعْرًا، حتَّى يَبْقَوْا أَشَدَّ مِنهمْ مَخَافَةً وأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهمْ ،كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ بأَهْلِهِ فيَأْتِي الأَرْضَ فيَنْزِلُهَا، فيَقُولُ: أَعُوذُ بسَيِّدِ هَذَا الوَادِي مِن الجِنِّ أَنْ أُضَرَّ أَو مَالِي أو وَلَدِي أو مَاشِيَتِي.

قَالَ: فَإِذَا عَاذَ بِهِم مِن دُونِ اللهِ رَهَقَتْهُم الجِنُّ الأَذَى عِنْدَ ذَلِكَ.

وذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بسَنَدٍ إِلَى عِكْرِمَةَ نَحْوَ ذَلِكَ) انْتَهَى.

وقدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ علَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ الاسْتِعَاذةُ بِغيرِ اللهِ.

وقالَ مُلاّ عَلِيّ قَارِيّ الحَنَفِيُّ: (لا يَجوزُ الاسْتِعَاذةُ بِالجِنّ، فقدْ ذَمَّ اللهُ الكافِرِينَ علَى ذَلِكَ وذَكَرَ الآيةَ وقالَ تَعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} [الأنْعَام:128] فاسْتِمْتَاعُ الإِنْسِيِّ بِالجِنِّيِّ فِي قَضَاءِ حَوائِجِهِ وامْتِثَالِ أَوامِرِه وإِخْبَارِهِ بِشَيْءٍ مِنَ المُغَيَّبَاتِ، واسْتِمْتَاعُ الجِنِّيِّ بالإِنْسِيِّ تَعْظِيمُهُ إيَّاهُ، واسْتِعَاذَتُهُ بِهِ وخُضُوعُهُ لَهُ) انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَالَ المُصَنِّفُ: (وفِيهِ أنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ يَحْصُلُ بِه مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لا يَدُلُّ علَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشرْكِ).

(7) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قَالَتْ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بَكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ السُّلَمِيَّةُ، يُقَالُ لَهَا: أُمُّ شَرِيكٍ، ويُقالُ: إنَّها هِيَ الوَاهِبَةُ.

وكَانتْ قَبْلُ تَحْتَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.

- قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: (وكَانتْ صالِحةً فاضِلةً).

قولُه: ((أَعُوذُ بَكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ)) شَرَعَ اللهُ لأَهْلِ الإِسْلامِ أنْ يَسْتَعِيذُوا بِهِ بَدَلاً عَمَّا يَفْعَلُه أَهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ الاسْتِعَاذةِ بِالجِنِّ فَشَرَعَ اللهُ لِلمُسْلِمينَ أنْ يَتَعَوَّذُوا بأَسْمَائِه وصِفَاتِهِ.

قالَ القُرْطُبِيُّ: (قِيلَ: مَعْنَاهُ الكامِلاتُ التِي لا يَلْحَقُها نَقْصٌ ولا عَيْبٌ، كَما يَلْحَقُ كَلامَ البَشَرِ.

وقِيلَ: مَعْنَاهُ الشافِيةُ الكافِيةُ.

وقِيلَ: الكَلِمَاتُ هُنَا هِيَ القُرْآنُ.

فَإنَّ اللهَ أَخْبَرَ عنْهُ بِأَنَّهُ {هُدًى وَشِفَاءٌ} [فُصِّلَتْ:44] وهَذَا الأَمْرُ علَى جِهَةِ الإِرْشَادِ إلَى ما يُدْفَعُ بِهِ الأَذَى).

ولَمَّا كَانَ ذَلكَ اسْتِعَاذةً بِصِفَاتِ اللهِ تَعالَى كَانَ مِن بَابِ المَنْدُوبِ إِلَيهِ المُرَغَّبِ فِيهِ، وعَلَى هَذَا فَحَقُّ المُسْتَعِيذِ بِاللهِ تعالى أوْ بِأسْمَائِهِ وصِفَاتِه أنْ يَصْدُقَ اللهَ فِي الْتِجَائِهِ إِلَيهِ، ويَتَوَكَّلَ فِي ذلكَ عليهِ؛ ويُحْضِرَ ذلكَ فِي قَلْبِهِ؛ فمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ وَصَلَ إِلَى مُنْتَهَى طَلَبِه ومَغْفَرَةِ ذَنْبِهِ.

- قالَ شيخُ الإسْلامِ: (وقدْ نَصَّ الأَئِمَّةُ كَأحمدَ وغَيرِه علَى أَنَّهُ لا تَجُوزُ الاسْتِعَاذةُ بِمَخْلوقٍ، وهَذا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ علَى أنَّ كَلامَ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ، قَالُوا: لأَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِكَلِمَاتِ اللهِ وأَمَرَ بِذَلكَ، ولِهَذا نَهَى العُلَمَاءُ عَنِ التَّعَازِيمِ والتَّعاوِيذِ التِي لا يُعْرَفُ مَعْناها خَشْيَةَ أنْ يَكونَ فِيها شِرْكٌ).

وقالَ ابْنُ القَيِّمِ: (ومَنْ ذَبَحَ لِلشَّيْطَانِ ودَعَاهُ، واسْتَعَاذَ بِهِ وتَقَرَّبَ إليهِ بِما يُحِبُّ فَقَدْ عبَدَهُ، وإِنْ لمْ يُسَمِّ ذلكَ عِبادةً، ويُسَمِّيه اسْتِخْدَامًا، وصَدَقَ، هو اسْتِخْدامٌ مِنَ الشيْطَانِ لَهُ، فَيَصِيرُ مِن خَدَمِ الشَّيْطَانِ وعابِدِيهِ، وبِذلكَ يَخْدُمُهُ الشيطانُ؛ لَكِنَّ خِدْمَةَ الشَّيطانِ لَهُ لَيْسَتْ خَدْمَةَ عِبادةٍ، فَإنَّ الشيْطانَ لا يَخْضَعُ لَهُ ولا يَعْبُدُهُ كَمَا يَفْعَلُ هُوَ بِهِ).

قولُه: ((مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) قالَ ابْنُ القَيِّمِ: (أيْ: مِن كُلِّ شرٍّ فِي أيِّ مَخْلوقٍ قَامَ بِهِ الشرُّ مِن حَيَوانٍ أوْ غَيرِه، إِنْسِيًّا كَانَ أوْ جِنِّيًّا، أوْ هَامَةً أوْ دَابَّةً، أو رِيحًا أوْ صَاعِقَةً، أوْ أيَّ نَوْعٍ كانَ مِن أَنْواعِ البَلاءِ فِي الدُّنْيَا والآَخِرَةِ).

و (مَا) هَهُنَا مَوْصُولَةٌ لَيْسَ إِلاَّ، ولَيْسَ المُرَادُ بِها العَمُومَ الإِطْلاقِيَّ، بَلِ المُرَادُ التَّقْيِيدِيَّ الوَصْفِيَّ، والمَعْنَى: مِن شرِّ كُلِّ مَخْلوقٍ فِيهِ شَرٌّ، لا مِن شرِّ كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللهُ، فإنَّ الجَنَّةَ والمَلائِكَةَ والأَنْبِيَاءَ لَيْسَ فِيهِم شرٌّ، والشرُّ يُقالُ علَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الأَلَمِ، وعلَى ما يُفْضِي إِلَيْه.

قولُه: ((لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) قَالَ القُرْطُبِيُّ: (هَذا خَبَرٌ صحِيحٌ وقَولٌ صَادِقٌ عَلِمْنا صِدْقَهُ دَلِيلاً وتَجْرِبَةً، فَإنِّي مُنْذُ سَمِعْتُ هَذا الخَبَرَ عَمِلْتُ عَلَيه فَلمْ يَضُرَّنِي شَيْءٌ إِلَى أنْ تَرَكْتُهُ، فَلَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ بِالْمَهْدِيَّةِ لَيْلاً، فَتَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَإِذَا بِي قَدْ نَسِيتُ أنْ أَتَعَوَّذَ بِتَلْكَ الْكَلِمَاتِ).

هيئة الإشراف

#4

26 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

(8)

قولُهُ: (مِن الشِّركِ) (مِن)للتَّبْعِيضِ.

وهذِهِ الترجمةُ لَيْسَتْ عَلَى إِطْلاَقِها؛ لأنَّهُ إذا استعاذَ بشَخْصٍ مِمَّا يَقْدِرُ عليهِ؛ فإنَّهُ جائزٌ كالاسْتعانَةِ.


(9)

قولُهُ تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ} الواوُ: حرْفُ عطفٍ، و(أنَّ) فُتِحَتْ هَمْزتُها بسَبَبِ عَطْفِها على قولِهِ: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} فَيُؤَوَّلُ بِمَصْدَرٍ؛ أيْ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ اسْتماعُ نفرٍ وكونُ رِجالٍ مِن الإنسِ يَعُوذونَ برجالٍ مِن الجنِّ.

قولُهُ: {مِنَ الإِنْسِ} صفةٌ لِـ{رجالٌ} لأنَّ {رجالٌ} نَكِرَةٌ، وما بعدَ النَّكِرةِ صفةٌ لَهَا.

قولُهُ: {يَعُوذُونَ} الجملةُ خبرُ كانَ، ويُقَالُ: عاذَ بهِ ولاذَ بهِ، فالعياذُ مِمَّا يُخَافُ، واللِّياذُ فيما يُؤَمَّلُ.

قولُهُ: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} أيْ: يَلْتَجِئونَ إليهم مِمَّا يُحاذِرُونَهُ يَظُنُّونَ أنَّهم يُعِيذُونَهم، ولكنْ زَادُوهم رَهَقًا؛ أيْ: خوفًا وذُعْرًا.

وكانت العربُ في الجاهليَّةِ إذا نَزَلُوا في وادٍ نَادَوْا بأعْلَى أصْواتِهم: أَعُوذُ بسيِّدِ هذا الوادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ.


قولُهُ: {رَهَقًا}أشدُّ مِنْ مُجَرَّدِ الذُّعْرِ والخَوْفِ، فكأنَّهم معَ ذُعْرِهم وخَوْفِهم أرْهَقَهم وأضْعَفَهم شَيْءٌ؛ فالذعرُ والخوفُ في القلوبِ، والرَّهَقُ في الأبْدَانِ.


وهذهِ الآيَةُ

تَدُلُّ عَلَى أنَّ الاسْتعاذةَ بالجنِّ حرامٌ؛ لأنَّها لا تُفِيدُ المُسْتعِيذَ بلْ تَزِيدُهُ رَهَقًا، فَعُوقِبَ بنَقِيضِ قَصْدِهِ، وهذا ظاهرٌ. فتكونُ الواوُ ضميرَ الجنِّ والهاءُ ضَمِيرَ الإنْسِ.


وقيلَ:

إنَّ الإنسَ زادُوا الجنَّ رَهَقًا؛ أي: اسْتِكْبارًا وعُتُوًّا.

ولكنَّ الصحيحَ أنَّ الفاعلَ الجنُّ كما سبقَ.


ووجهُ الاستشهادِ بالآيَةِ:

ذمُّ المُسْتَعِيذِينَ بغيرِ اللهِ.

والمُسْتَعِيذُ بالشَّيْءِ لاَ شَكَّ أنَّهُ قَدْ علَّقَ رجاءَهُ بهِ، واعْتَمدَ عليهِ. وهذا نوعٌ مِن الشرْكِ.


(10)

وقولُهُ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً)) يَشْمَلُ مَنْ نَزَلَهُ عَلَى سَبِيلِ الإقامَةِ الدَّائمةِ أو الطارِئةِ؛ بدَلِيلِ أنَّهُ نَكِرَةٌ في سِياقِ الشرْطِ، والنَّكِرَةُ في سياقِ الشرْطِ تُفِيدُ العُمُومَ.

وقولُهُ: ((أَعُوذُ)) بِمعْنَى: أَلْتَجِئُ وأَعْتَصِمُ.

قولُهُ: ((كَلِمَاتِ))المرادُ بالكلماتِ هنا: الكلماتُ الكونيَّةُ والشرعيَّةُ.

قولُهُ: ((التَّامَّاتِ)) تمامُ الكلامِ بأمرَيْنِ:


أحدهما: الصدقُ في الأخبارِ.

والآخر: العدلُ في الأحكامِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}.

قولُهُ: ((مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) أيْ: مِنْ شرِّ الذي خَلَقَ؛ لأنَّ اللهَ خَلَقَ كلَّ شَيْءٍ؛ الخيرَ والشرَّ، ولكنَّ الشرَّ لا يُنْسَبُ إليهِ؛ لأنَّهُ خَلَقَ الشرَّ لحِكْمَةٍ، فعَادَ بهذِهِ الحِكْمَةِ خَيْرًا، فكانَ خيرًا.

وعلى هذا نَقُولُ: الشرُّ ليسَ في فِعْلِ اللهِ، بلْ في مَفْعُولاَتِهِ؛ أيْ: مَخْلُوقاتِهِ.

وعَلَى هذا تكونُ ((مَا)) مَوْصولَةً لاَ غيرُ، أيْ مِنْ شرِّ الذي خلَقَ، لأنَّكَ لوْ أوَّلْتَها إلى المَصْدَريَّةِ وقُلْتَ: مِنْ شرِّ خَلْقِكَ، لكانَ الخلْقُ هنا مصدرًا يَجوزُ أنْ يُرادَ بهِ الفعلُ، ويجوزُ أيضًا المفعولُ، لكنْ لوْ جَعَلْتَها اسْمًا مَوْصولاً تعيَّنَ أنْ يكونَ المرادُ بها المفعولُ وهوَ المخلوقُ.


وليسَ كُلُّ ما خلَقَ اللهُ فيهِ شرٌّ،

لكنْ تَسْتَعِيذُ مِنْ شرِّهِ إنْ كانَ فيهِ شرٌّ؛ لأنَّ مخلوقاتِ اللهِ تَنْقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:


الأول: شرٌّ محضٌ، كالنَّارِ وإبليسَ باعتبارِ ذَاتَيْهِما.

أمَّا باعتبارِ الحكمةِ

التي خَلَقَهُما اللهُ مِنْ أجْلِها فهِي خيرٌ.

الثانيخيرٌ محضٌ، كالجنَّةِ، والرُّسلِ، والملائكةِ. 

الثالث: فيهِ شرٌّ وخيرٌ، كالإنْسِ والجنِّ والحيوانِ.

وأنْتَ إنَّما تَسْتَعِيذُ مِنْ شرِّ ما فيهِ شرٌّ.

قولُهُ: ((لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ)) نكِرةٌ في سياقِ النفْيِ فَتُفِيدُ العمومَ؛ مِنْ شرِّ كلِّ ذِي شَرٍّ مِن الجنِّ وإنسٍ وغيرِهم، والظَّاهرِ والخَفِيِّ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ؛ لأنَّ هذا خبرٌ لا يُمكِنُ أنْ يَتَخَلَّفَ مَخْبَرُهُ؛ لأنَّهُ حقٌّ وصِدْقٌ، لكنْ إنْ تَخلَّفَ هذا المَخْبَرُ فهوَ لوُجُودِ مانعٍ يَمْنَعُ مِنْ حُصولِ أَثَرِ ذلكَ الخَيْرِ.

- قالَ القُرْطُبِيُّ(وقدْ جَرَّبْتُ ذلكَ حتَّى إنِّي نَسِيتُ ذاتَ يومٍ، فَدَخَلْتُ مَنْزِلي ولم أقُلْ ذلكَ، فلدَغَتْنِي عَقْرَبٌ).


والشاهدُ مِن الحدِيثِ:

قولُهُ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ)).

والمُؤَلِّفُ يقولُ في التَّرْجَمَةِ: (الاسْتعاذَةُ بغيرِ اللهِ) وهنا اسْتعاذَةٌ بالكلماتِ، ولمْ يَسْتَعِذْ باللهِ، فلماذا؟


أُجِيبُ:

إنَّ كلماتِ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفاتِهِ؛ ولهذا استدلَّ العلماءُ بهذا الحديثِ على أنَّ كلامَ اللهِ مِنْ صِفَاتِهِ غَيرُ مَخْلوقٍ؛ لأنَّ الاستعاذةَ بالمَخْلوقِ لا تَجُوزُ في مثلِ هذا الأمرِ، ولوْ كانَت الكلماتُ مخلوقةً ما أرشدَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إلى الاسْتِعاذةِ بها.

ولهذا كانَ المرادُ منْ كلامِ المُؤَلِّفِ: الاستعاذةُ بغيرِ اللهِ؛ أيْ: أوْ صِفَةٍ مِنْ صِفاتِهِ.

وفي الحَدِيثِ: ((أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحاذِرُ)) وهنا اسْتَعاذَ بعزَّةِ اللهِ ولمْ يَسْتَعِذْ باللهِ.


والعزَّةُ والقُدْرَةُ مِنْ صفاتِ اللهِ،

وهيَ لَيْسَتْ مَخْلوقةً، ولهذا يَجُوزُ القَسَمُ باللهِ وبصفاتِهِ؛ لأنَّها غَيْرُ مَخْلوقةٍ.


أمَّا القَسَمُ بالآياتِ:

فإنْ أرادَ الآياتِ الشرْعِيَّةَ فجائزٌ.

وإنْ أرادَ الآياتِ الكونيَّةَ فغيرُ جائزٍ.

بقيَ بيانُ حُكمِ الاستعاذةِ بالمخلوقِ؛ ففيها تفصيلٌ:

فإنْ كانَ المَخْلوقُ لاَ يَقْدِرُ عليهِ فهيَ مِن الشرْكِ، كما نَقَلَ ذلكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ:(لاَ يجوزُ الاستعاذةُ بالمَخْلوقِ عندَ أحدٍ مِن الأئِمَّةِ، وهذا ليسَ عَلَى إِطْلاقهِ، بلْ مُرَادُهم مِمَّا لاَ يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ اللهُ؛ لأنَّهُ لاَ يَعْصِمُكَ مِن الشرِّ الذي لاَ يَقْدِرُ على دفعهِ إلا الله).

- ومِنْ ذلكَ أيضًا الاسْتِعاذَةُ بأصْحابِ القُبُورِ؛ فإنَّهم لاَ يَنْفَعونَ ولا يضرُّونَ.

أمَّا الاسْتِعاذَةُ بمَخْلوقٍ فيما يَقْدِرُ عليهِ فهيَ جائزةٌ، وقدْ أشارَ إلى ذلكَ الشارحُ الشيخُ سُلَيْمانُ في (تَيْسِيرِ العَزِيزِ الحَميدِ).

وهوَ مُقْتَضَى الأحَادِيثِ الوارِدَةِ في (صَحِيحِ مُسْلِمٍ)، لَمَّا ذَكَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الفِتَنَ قالَ: ((فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ)).

وكذلكَ قِصَّةُ المرأةِ التي عَاذَتْ بِـأُمِّ سَلَمَةَ، والغلامِ الذي عاذَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وكذلكَ في قِصَّةِ الذينَ يَسْتَعِيذُونَ بالحَرَمِ والكَعْبَةِ، ومَا أَشْبَهَ ذلكَ.

وهذا هُو مُقْتَضَى النظرِ، فإذا اعْتَرَضَنِي قُطَّاعُ طريقٍ، فعُذْتُ بإنْسانٍ يَسْتَطِيعُ أنْ يُخَلِّصَنِي مِنهم، فلاَ شَيْءَ فيهِ.

لكنَّ تعليقَ القلبِ بالمخلوقِ لاَ شَكَّ أنَّهُ مِن الشِّرْكِ، فإذا عَلَّقْتَ قَلْبكَ ورَجَاءكَ وخَوْفَكَ وجَمِيعَ أُمُورِكَ بشَخْصٍ مُعَيَّنٍ وجَعَلْتَهُ مَلْجَأً فهذا شركٌ؛ لأنَّ هذا لاَ يَكُونُ إلاَّ للهِ.

وعَلَى هذَا؛ فكَلاَمُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ في قَوْلِهِ: إنَّ الأئمَّةَ لا يُجَوِّزونَ الاسْتعاذةَ بمخلوقٍ، مُقَيَّدٌ بِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاَّ اللهُ، ولَوْلاَ أنَّ النصوصَ وردَتْ بهِ لأخَذْنا الكَلاَمَ على إطْلاَقِهِ وقُلْنا: لاَ يَجُوزُ الاستعاذةُ بغيرِ اللهِ مُطْلَقًا.


(11)

فيهِ مسائلُ:


الأُولَى:

(تَفْسيرُ آيَةِ الجنِّ) وقدْ سَبَقَ ذلكَ في أوَّلِ البابِ.


(12)

الثانيَةُ: (كونُهُ من الشِّرْكِ)

أي: الاسْتعاذَةُ بَغْيْرِ اللهِ. وقَدْ سَبَقَ التَّفْصِيلُ في ذلكَ.


(13)

الثالثةُ: (الاسْتِدلاَلُ على ذلكَ بالحَدِيثِ؛ لأنَّ العلماءَ يَسْتَدِلُّونَ بهِ عَلَى أنَّ كَلِماتِ اللهِ غَيرُ مَخْلُوقةٍ؛ لأنَّ الاسْتِعَاذَةَ بالمَخْلُوقِ شِرْكٌ)

ووجْهُ الاسْتِشْهادِ: أنَّ الاسْتِعاذَةَ بكلماتِ اللهِ لا تَخْرُجُ عنْ كَوْنِها اسْتِعاذةً باللهِ؛ لأنَّها صِفَةٌ مِنْ صِفاتِهِ.


(14)

الرابعةُ: (فَضِيلةُ هذا الدُّعاءِ معَ اختصارِهِ)

أيْ: فَائِدَتُهُ، وهيَ أنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ شَيْءٌ ما دُمْتَ في هذا المنزلِ.


(15)

الخامسةُ: (أنَّ كوْنَ الشَّيْءِ يَحْصُلُ بِهِ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِنْ كَفِّ شرٍّ أوْ جَلْبِ نَفْعٍ، لا يدلُّ على أنَّهُ لَيْسَ مِن الشِّركِ)

ومَعْنَى كَلاَمِهِ: أنَّهُ قدْ يكونُ الشيءُ مِن الشرْكِ ولوْ حَصَلَ لكَ فيهِ مَنْفعةٌ، فَلاَ يَلْزَمُ مِنْ حُصولِ النفعِ أنْ يَنْتَفِيَ الشرْكُ، فالإنسانُ قدْ يَنْتَفِعُ بِمَا هوَ شرْكٌ.


مثالُ ذلكَ:

الجِنُّ، فقدْ يُعِيذُونَكَ، وهذا شرْكٌ معَ أنَّ فيهِ مَنْفَعةً.


مثالٌ آخَرُ:

قدْ يَسْجُدُ إنْسانٌ لِمَلِكٍ، فيَهَبُهُ أموالاً وقُصُورًا، وهذا شركٌ معَ أنَّ فيهِ مَنْفعةً.

ومِنْ ذلكَ ما يَحْصُلُ لِغُلاَةِ المدَّاحِينَ لِمُلُوكِهِم لأَجْلِ العَطَاءِ، فلاَ يُخْرِجُهم ذلكَ عنْ كَوْنِهم مُشْرِكِينَ.

هيئة الإشراف

#5

26 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (وعطف على ذلك (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله) والاستعاذة بغير الله تكون

بالقول الذي معه اعتقاد، فهي مناسبة لأن تكون بعد (باب من الشرك النذر لغير الله).

وقوله - رحمه الله -: (من الشرك) (من) ههنا تبعيضية؛كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب.

وهذا الشرك هو الشرك الأكبر،

(من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله) لأن الألف واللام، أو اللام وحدها الداخلة على الشرك، هذه تعود إلى المعهود، وهو: أن الاستعاذة بغير الله شرك أكبر بالله جل جلاله.


(الاستعاذة):

طلب العياذ،

يقال: استعاذ، إذا طلب العياذ، والعياذ: طلب ما يؤمِّن من الشر، الفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمن منه، أو إلى من يؤمن منه.

ويقابلها اللياذ،

وهو: الفرار إلى طلب الخير، أو التوجه والاعتصام والإقبال لطلب الخير.

ومادة استفعل، مثل ما ههنا (استعاذ) وكما سيأتي (استغاث) (استعان) ونحو هذه المادة، هي موضوعة في الغالب للطلب، فغالب مجيء السين والتاء للطلب، استسقى إذا طلب السقيا، واستغاث: إذا طلب الغوث، واستعاذ: إذا طلب العياذ.

قلنا: في الغالب؛ لأنها تأتي أحياناً للدلالة على كثرة الوصف في الفعل، كما في قوله جل وعلا: {واستغنى الله} استغنى: ليس معناها طلب الغنى، وإنما جاء بالسين والتاء هنا للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل، وهو الغنى.

فهذه المادة، استعاذ، استغاث، استعان، وأشباه ذلك: فيها طلب.

والطلب من أنواع التوجه والدعاء، إذا طلب فإن هناك مطلوباً منه، والمطلوب منه لمّا كان أرفع درجة من الطالب، كان الفعل المتوجه إليه يسمَّى دعاءً، ولهذا في حقيقة اللغة وفي دلالة الشرع: الاستعاذة: طلب العوذ، أو طلب العياذ، وهو الدعاء المشتمل على ذلك.

الاستغاثة:

طلب الغوث، دعاء مشتمل على ذلك، وهكذا في كل ما فيه طلب، نقول: إنه دعاء، وإذا كان دعاءً فإنه عبادة، والعبادة لله -جل وعلا- بالإجماع وبما دلت عليه النصوص {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}، {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً}.


إذاً:

فكل فعلٍ من الأفعال، أو قولٍ من الأقوال، فيه طلب عبادة، لِمَ؟ لأنه دعاء؛ لأن كل طلبٍ دعاء.

فالذي يطلب شيئاً: إذا طلبه من مقارنٍ،

فيقال: هذا التماس؛ وإذا طلبه ممن هو دونه، يقال: هذا أمر؛ وإذا طلبه ممن هو أعلى منه، فهذا دعاء، والمستعيذ والمستغيث لا شك أنه طالبٌ ممن هو أعلى منه لحاجته إليه، فلهذا كل دليل فيه ذكر إفراد الله -جل وعلا- بالدعاء أو بالعبادة دليل على خصوص هذه المسألة، وهي: أن الاستعاذة عبادة من العبادات العظيمة، وإذ كانت كذلك فإن إفراد الله بها واجب.

قال هنا: (من الشرك الاستعاذة بغير الله) وقوله: (الاستعاذة بغير الله) هذا الغير يشمل كل ما يتوجه الناس إليه بالشرك، ويدخل في ذلك بالأوَّلية ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليه بذلك؛ من الجن، ومن الملائكة، ومن الصالحين، ومن الأشجار، والأحجار، ومن الأنبياء والرسل، إلى غير ذلك.

هل قوله هنا: (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله)، (الاستعاذة بغير الله) هل هذا المقصود منه: أن الاستعاذة جميعاً لا تصلح إلا لله؟ وأنه لو استعاذ بمخلوق فيما يقدر عليه أنه يدخل في الشرك؟

الجواب:

هذا فيه تفصيل:

ومن أهل العلم من قال: الاستعاذة لا تصلح إلا لله، وليس ثمَّ استعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن الاستعاذة: توجه القلب، واعتصامه، والتجاؤه، ورغبه، ورهبه، فيها هذه المعاني جميعاً، فهي توجه للقلب، وهذه المعاني جميعاً لا تصلح إلا لله جل وعلا.


وقال آخرون:

قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يَقْدِر عليه؛

لأن حقيقة الاستعاذة طلب انكفاف الشر، طلب العياذ، وهو أن يعيذ من شرٍّ أحدقَ به، وإذا كان كذلك، فإنه قد يكون المخلوق يملك شيئاً من ذلك، قالوا: فإذاً: تكون الاستعاذة بغير الله شركاً أكبر، إذا كان ذلك المخلوق لا يَقْدِر على أن يعيذ، أو لا يقدر على الإعاذة مما طلب إلا الله جل وعلا.

والذي يظهر من ذاك: أن المقام -كما ذكرت لك- فيه تفصيل، وذاك أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر، وفيها عمل باطن.


فالعمل الظاهر:

أن يطلب العوذ، أن يطلب العياذ، وهو أن يعصم من هذا الشر، أو أن ينجو من هذا الشر.


وفيها عمل باطن:

وهو توجه القلب، وسكينته، واضطراره، وحاجته إلى هذا المستعاذ به، واعتصامه بهذا المستعاذ به، وتفويض أمر نجاته إليه، إذا كان هذان في الاستعاذة، فإذا قيل: الاستعاذة لا تصلح إلا لله، يعني: لا تصلح إلا بالله، لا يستعاذ بمخلوق مطلقاً، يُعنى به: أنه لا يستعاذ به من جهة النوعين جميعاً؛ لأن منه القلب، يعني: النوعين معاً؛ لأن منه عمل القلب، وعمل القلب الذي وصفت: بالإجماع لا يصلح إلا لله جل وعلا.


وإذا قيل:

الاستعاذة تصلح بالمخلوق فيما يقدر عليه؛ فهذا لما جاء في بعض الأدلة من الدلالة على ذلك، وهذا إنما يُراد منه الاستعاذة بالقول ورغب القلب في أن يخلص مما هو فيه من البلاء، وهذا يجوز أن يتوجه به إلى المخلوق.

فإذاً: حقيقة الاستعاذة تجمع الطلب الظاهر وتجمع المعنى الباطن، ولهذا اختلف أهل العلم فيها، فالذي ينبغي أن يكون منك دائماً على ذكر: أن توجه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء، أو الجن، أو الصالحين، أو الطالحين، أو غير ذلك، أنهم جمعوا بين القول باللسان، وبين أعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله جل وعلا، وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون: (من أن الاستعاذة بهم، إنما هي فيما يقدرون عليه، وأن الله أقدرهم على ذلك) فيكون إبطال مقالهم راجعاً إلى جهتين:


فالجهة الأولى:

أن يبطل قولهم في الاستعاذة، وفي أشباهها: أن هذا الميت أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر، وإذا لم يقتنع بذلك أو حصل هناك إيراد اشتباه فيه، فالأعظم أن يتوجه المورد للأدلة السنية، أن يتوجه إلى أعمال القلب، وأن هذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي، قد قام بقلبه من العبوديات ما لا يصلح إلا لله جل جلاله.

إذاً: فنقول: الاستعاذة بغير الله شرك أكبر؛ لأنها صرف للعبادة لغير الله، صرف العبادة لغير الله جل جلاله، فإن كان ذلك في الظاهر مع طمأنينة القلب بالله، وتوجه القلب إلى الله، وحسن ظنه بالله، وأن هذا العبد إنما هو سبب، وأن القلب مطمئن فيما عند الله؛ فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر، وأما القلب فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة، وإذا كان كذلك كان هذا جائزاً.


قال رحمه الله: (وقول الله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً})

{وأنه}: هذه معطوفة على أول السورة، وهو ما أوحى الله -جل وعلا- إلى نبيه: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} ثم بعد آيات {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً}.

ومعنى {رهقاً} هنا: يعني: خوفاً واضطراباً في القلب، أوجب لهم الإرهاق، والرهق في الأبدان وفي الأرواح، فلما كان كذلك تعاظمت الجنَّ وزاد شرها، قال: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن}.

وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنِّيّاً، أو سيداً من الجن يخدم ذلك المكان، هوله ويسيطر عليه؛ فكانوا إذا نزلوا وادياً، أو مكاناً قالوا: (نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه) يعنون الجنَّ؛ فعاذوا بالجن، لأجل أن يُكفَّ عنهم الشر مدة مقامهم، لهذا قال جل وعلا: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً}{فزادوهم} يعني: زادوا الجنُّ الإنس خوفاً واضطراباً وتعباً في الأنفس، وفي الأرواح، وإذا كان كذلك كان هذا مما هو من العقوبة عليهم، والعقوبة إنما تكون على ذنب.

فدلت الآية على ذم أولئك،

وإنما ذُمُّوا لأنهم صرفوا تلك العبادة لغير الله جل وعلا، والله -سبحانه- أمر أن يستعاذ به دون ما سواه، فقال سبحانه: {قل أعوذ برب الفلق}.

وقال: {قل أعوذ برب الناس}.

وقال: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون}.

والآيات في ذلك كثيرة؛ كقوله: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} فعُلم من التنصيص على المستعاذ به -وهو الله جل وعلا- أن الاستعاذة حصلت بالله وبغيره، وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه، وذكرت لكم أصل الدليل في ذلك، وأن الاستعاذة عبادة، وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه الآيات من إفراد العبادة بالله وحده.

في قوله: {فزادوهم رهقاً} ثمّ قول آخر، وهو قول قتادة وبعض السلف: أن {رهقاً} معناها: (إثماً) فزادوهم إثماً، وهذا أيضاً ظاهر من جهة الاستدلال إذا كانت الاستعاذة موجبة للإثم، فهي إذاً: عبادة إذا صُرفت لغير الله.

وعبادة مطلوبة إذا صرفت لله جل جلاله،

وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك.

قال: (وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك)) رواه مسلم)


وجه الدلالة من هذا الحديث:

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن فضل الاستعاذة بكلمات الله، فقال: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) وجعل المستعاذ منه: المخلوقات الشريرة، والمستعاذ به: هو كلمات الله.

وقد استدل أهل العلم حين ناظروا المعتزلة وردوا عليهم، استدلوا بهذا الحديث على أن كلمات الله ليست بمخلوقة، قالوا: لأن المخلوق لا يستعاذ به، والاستعاذة به شرك؛ كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة.


فوجه الدلالة من الحديث:

إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأنه لما أمر بالاستعاذة بكلمات الله، فإن كلمات الله -جل وعلا- ليست بمخلوقة.

قال: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) المقصود بـ(كلمات الله التامات) هنا: الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، وهي المقصودة بقوله جل وعلا: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} وبقوله: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}{وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً}.


وفي القراءة الأخرى:

{وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} هذه الآية في الكلمات الشرعية، وكذلك في الكلمات الكونية.

إذاً: فقوله: ((أعوذ بكلمات الله التامات)) يعني: الكلمات الكونية.

((من شر ما خلق))

يعني: من شر الذي خلقه الله جل وعلا، وهذا العموم المقصود منه: من شر المخلوقات التي فيها شر، وليست كل المخلوقات فيها شر؛ بل ثمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر، كالجنة، والملائكة، والرسل، والأنبياء، والأولياء.

وهناك مخلوقات خُلقت وفيها شر، فاستعيذ بكلمات الله -جل وعلا- من شر الأنفس الشريرة، والمخلوقات التي فيها شر.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

26 Oct 2008

العناصر


شرح قول المصنف (من الشرك الاستعاذة بغير الله)

- بيان معنى الاستعاذة

- بيان أنواع الاستعاذة وأحكامها

- مناسبة قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس..) الآية، للباب


تفسير قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون…) الآية


- معنى قوله: (يعوذون برجال من الجن)
- الفرق بين العياذ واللياذ
- القول الأول في معنى قوله تعالى: (فزادوهم رهقا)
- القول الثاني في معنى قوله تعالى: (فزادوهم رهقا)
- حكم الاستعاذة بالجن

بيان أنواع الطلب (الدعاء والأمر والالتماس)
شرح حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها


- ترجمة خولة بنت حكيم رضي الله عنها
- معنى قوله: (من نزل منزلا)
- معنى قوله: (أعوذ)
- المراد بكلمات الله في قوله: (أعوذ بكلمات الله)
- معنى قوله: (التامات..)
- معنى (ما) في قوله: (ما خلق)
- مشروعية الاستعاذة بكلمات الله، وبيان معناها
- التفصيل في حكم القسم بآيات الله
- التفصيل في حكم الاستعاذة بالمخلوق
- الاستدلال بحديث خولة بنت حكيم على أن كلمات الله غير مخلوقة
- أقسام المخلوقات من حيث دخول الشر فيها
- مسألة: أثر العمل لا يتحقق إلا بعد حصول السبب، وانتفاء الموانع
- قصة حصلت للقرطبي عندما نسي هذا الدعاء
- الشاهد من حديث خولة

شرح مسائل باب (من الشرك الاستعاذة بغير الله)