26 Oct 2008
باب ما جاء في الذبح لغير الله
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (9- بَابُ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنَا أولُ المُسْلِمِينَ} [الأَنْعَام:162،163].
وَقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الْكَوْثَر:2].
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((دَخَلَ الْجَـنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ)).
قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((مَرَّ رَجُلاَنِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لاَ يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا.
فَقَالُوا لأَِحَدِهِمَا: قَرِّبْ.
قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ أُقَرِّبُهُ.
قَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ.
وَقَالُوا لِلآخَرِ: قَرِّبْ.
فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُِقَرِّبَ لأَِحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللهِ عَزَّ وَجَلََّ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ{ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي}.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
الثَّالِثَةُ: الْبَدَاءةُ بِلَعْنَةِ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ.
الرَّابِعَةُ: لَعْنُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَمِنْهُ: أَنْ تَلْعَنَ وَالِدَيِ الرَّجُلِ فَيَلْعَنَ وَالِدَيْكَ.
الْخَامِسَةُ: لَعْنُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا: وَهُوَ الرَّجُلُ يُحْدِثُ شَيْئًا يَجِبُ فِيهِ حَقُّ اللهِ، فَيَلْتَجِئُ إِلَى مَنْ يُجِيرُهُ مِنْ ذَلِكَ.
السَّادِسَةُ: لَعْنُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ: وَهِيَ الْمَرَاسِيمُ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ حَقِّكَ وَحَقِّ جَارِكَ مِنَ الأَرْضِ؛ فَتُغَيِّرُهَا بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ.
السَّابِعَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ وَلَعْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ.
الثَّامِنَةُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ الْعَظِيمَةُ وَهِيَ قِصَّةُ الذُّبَابِ.
التَّاسِعَةُ: كَوْنُهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ.
الْعَاشِرَةُ: مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ صَبَرَ ذَلِكَ عَلَى الْقَتْلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طِلْبَتِهِم مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إِلاَّ الْعَمَلَ الْظَّاهِرَ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الَّذِي دَخَلَ النَّارَ مُسْلِمٌ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَقُلْ: ((دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ)).
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِيهِ شَاهِدٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ)).
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ أَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ هُوَ الْمَقْصُودُ الأَعْظَمُ حَتَّى عِنْدَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1) أي: مِن الوَعِيدِ، وَهَلْ يَكُونُ شِرْكًا أم لا؟
(2) قَالَ ابنُ كَثِيرٍ: (يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ المُشْرِكينَ الَّذِينَ يَعْبدُونَ غيرَ اللهِ، ويَذْبَحونَ لغيرِ اسمِهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وهذا كقولِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2] أي: أَخْلِصْ له صَلاَتَكَ وَذَبِيحتَكَ، فإنَّ المُشْرِكينَ يَعْبدُونَ الأَصْنامَ، ويَذْبحُونَ لها، فَأَمَرَ اللهُ بمُخالَفَتِهِم، والانْحِرافِ عمَّا هم فيه، والإِقْبَالِ بالقَصْدِ والنِّيَّةِ، والعَزْمِ عَلَى الإِخْلاَصِ للهِ تَعَالَى.
- قَالَ مُجَاهِدٌ في قولِهِ: {صَلاَتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] قالَ: (النُّسُكُ الذَّبْحُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ).
- وقَالَ الثوري عن السُّدِّيِّ، عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ: (ونُسُكِي: ذَبْحِي) وَكَذَا قالَ السديوالضَّحَّاكُ).
- وَقَالَ غيرُهُ: (ومَحْيَايَ ومَمَاتِي، أي: وَمَا آتِيهِ في حَيَاتِي، وأَمُوتُ عَلَيْهِ مِن الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالحِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ خالِصًا لوجْهِهِ، لا شَرِيكَ لَهُ، وبذلك مِن الإِخْلاَصِ أُمْرِتُ، {وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}لأَِنَّ إِسْلاَمَ كُلِّ نَبِيٍّ مُتَقَدِّمٌ لِإِسْلاَمِ أُمَّتِهِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: {وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}(أي: مِن هذهِ الأُمَّةِ).
- قَالَ ابنُ كَثِيرٍ: وهو كَمَا قالَ، (فإنَّ جَمِيعَ الأَنْبِياءِ قبلَهُ، كُلُّهُم كانَت دَعْوَتُهُم إلى الإِسْلاَمِ، وهو عِبَادَةُ اللهِ وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأَنْبِياء:25]وأَخْبَرَ تَعَالَى عن نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ:{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يُونُس:72] وذَكَرَ آيَاتٍ في هَذَا المَعْنَى).
قلْتُ: وفي الآيةِ دَلاَئلُ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى أنَّ الذَّبحَ لغيرِ اللهِ شِرْكٌ، كمَا هو بيِّنٌ عندَ التَّأمُّلِ، وفيها بَيَانُ العِبَادَةِ، وأنَّ التَّوحيدَ مُنَافٍ للشِّرْكِ مُضَادٌّ لَهُ.
(3) قالَ: (وقولُهُ:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}):قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ العِبَادَتَيْنِ، وَهُمَا الصَّلاَةُ والنُّسُكُ الدَّالَّتانِ عَلَى القُرْبِ والتَّوَاضُعِ والافْتِقَارِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ، وقوَّةِ اليَقِينِ، وطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ إلى اللهِ، وإلى عِدَتِهِ، عَكْسُ حالِ أَهْلِ الكِبْرِ والنَّفْرَةِ، وَأَهْلِ الغِنَى عنِ اللهِ الَّذينَ لاَ حَاجَةَ لَهُم في صَلاَتِهِم إلى رَبِّهِم يَسْأَلُونَهُ إيَّاها، والَّذِينَ لاَ يَنْحَرُونَ له خَوْفًا مِن الفَقْرِ.
ولِهَذَا جَمَعَ بينَهُمَا في قولِهِ: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} الآيةَ، والنُّسُكُ: الذَّبِيحَةُ للهِ تَعَالَى ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ، فإنَّهَا أَجَلُّ ما يُتَقَرَّبُ بهِ إلى اللهِ، فإنَّهُ أتَى فيهِمَا بالفاءِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّبِبِ، لأنَّ فِعْلَ ذلك سَبَبٌ للقِيَامِ بِشُكْرِ ما أَعْطَاهُ اللهُ مِن الكَوْثَرِ.
- وأَجَلُّ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ الصَّلاَةُ.
- وَأَجَلُّ العِبَادَاتِ المَالِيَّةِ النَّحْرُ، وَمَا يَجْتَمِعُ للعَبْدِ في الصَّلاَةِ لا يَجْتَمِعُ له في غَيْرِهَا، كَمَا عَرَفَهُ أَرْبَابُ القُلُوبِ الحَيَّةِ.
وَمَا يَجْتَمِعُ لهُ في النَّحْرِ إِذَا قَارَنَهُ الإِيمَانُ والإِخْلاَصُ مِن قُوَّةِ اليَقِينِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ أَمْرٌ عَجِيبٌ.وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَ الصَّلاَةِ، كَثِيرَ النَّحْرٍ).
- وقالَ غَيْرُهُ: (أي: فاعْبُدْ رَبَّكَ الَّذي أَعَزَّكَ بإِعْطَائِهِ، وشَرَّفَكَ وصَانَكَ مِن مِنَنِ الخَلْقِ مُرَاغِمًا لقومِكَ الَّذينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ، وانْحَرْ لوَجْهِهِ وباسْمِهِ إِذَا نَحَرْتَ مُخَالِفًا لَهُم في النَّحْرِ للأَوْثَانِ) انْتَهَى.
وهَذَا هو الصَّحِيحُ في تَفْسِيرِهَا.
وأمَّا ما رَواهُ الحَاكمُ عَن عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ هذهِ السُّورةُ عَلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1،2] قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجِبْرِيلَ: ((مَا هِذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بهِا رَبِّي؟
قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ، وَلَكِنْ يَأْمُرُكَ إِذَا أَحْرَمْتَ للصَّلاَةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ، وَإِذَا رَكَعْتَ وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ)) الحَدِيثَ.
فهو حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جدًّا، في إِسْنادِهِ إِسْرَائِيلُ بنُ حَاتِمٍ، قَالَ ابنُ حِبَّانَ: يَرْوِي عن مُقَاتِلٍ المَوْضُوعاتِ، مِن ذَلِكَ خَبَرٌ يَرْوِيهِ عُمَرُ بنُ صَبِيحٍ، عَنْ مُقَاتَلٍ، وَظَفَرَ بِهِ إِسْرَائِيلُ فَرَواهُ وَرَوَى عن مُقَاتِلٍ عن الأَصبغِ ابنِ نباتَةَ، عن عَلِيٍّ: لَمَّا نَزَلَتْ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الحديثَ…
(4) الحديثُ رَوَاهُ مسلمٌ مِن طُرُقٍ بمَعْنَى ما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وفيه قِصَّةٌ، ورَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ كذلِكَ.
وعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ هو الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الهَاشِمِيُّ ابنُ عمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزَوْجُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ - واسمُ أَبِي طَالِبٍ عَبْدُ مَنَافِ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمٍ القُرَشِيُّ - كَانَ مِن السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ إِلَى الإِسْلاَمِ، ومِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَأَحَدَ العَشَرَةِ المَشْهُودِ لَهُم بالجَنَّةِ، ورَابِعَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ومَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قَتَلَهُ ابنُ مُلْجِمٍ الخَارِجِيُّ في رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ.
قَوْلُهُ: ((لَعَنَ اللهُ)) قَالُوا: اللَّعْنَةُ:البُعْدُ عن مَظَانِّ الرَّحْمَةِ ومَوَاطِنِها.
قيلَ: واللَّعِينُ والمَلْعُونُ: مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ، أو دُعِيَ عَلَيْهِ بِهَا.
- قَالَ أبو السَّعَادَاتِ:(أَصْلُ اللَّعْنَةِ، الطَّرْدُ والإِبْعَادُ مِن اللهِ، ومِن الخَلْقِ: السَّبُّ والدُّعاءُ).
قولُهُ:((مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ)) قالَ النَّوَوِيُّ: (المُرَادُ بهِ أن يَذْبحَ باسمٍ غيرِ اسمِ اللهِ تعالى، كَمَن يَذْبَحُ للصَّنَمِ أو للصَّلِيبِ أو لمُوسَى أو لعِيسَىصلَّى اللهُ عليهما وسَلَّمَ، أو للْكَعْبَةِ ونحوِ ذلك، وكُلُّ هذا حَرَامٌ، ولا تَحِلُّ هذه الذَّبِيحَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا أو نَصْرَانيًّا أو يَهُودِيًّا، نَصَّ عليهِ الشَّافِعِيُّ واتَّفَقُ عليه أصْحَابُنَا، فَإِنْ قُصِدَ مَعَ ذَلِكَ تَعْظِيمُ المَذْبُوحِ له غيرِ اللهِ والعِبَادَةُ لهُ، كَانَ ذلك كُفْرًا، فَإِنْ كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ صَارَ بالذَّبْحِ مُرْتَدًّا).
ذَكَرَهُ في (شَرْحِ مُسْلِمٍ) ونَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِم.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ:(قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بهِ لِغَيْرِ اللهِ}[البقرة:173] ظَاهِرُهُ أنَّهُ ما ذُبِحَ لغَيْرِ اللهِ مِثْلَ أنْ يُقالَ: هَذِه الذَّبِيحَةُ لكذا، وإِذَا كَانَ هَذَا هو المَقْصُودَ، فسواءٌ لَفَظَ بهِ أو لم يَلْفِظْ.
وتَحْرِيمُ هَذَا أَظْهَرُ مِن تَحْرِيمِ مَا ذَبَحَهُ للَّحْمِ، وَقَالَ فيه: باسْمِ المَسِيحِ ونحوِهِ، كمَا أنَّ مَا ذَبَحْنَاهُ مُتَقَرِّبِينَ بهِ إلى اللهِ كانَ أَزْكَى وأَعْظَمَ مِمَّا ذَبَحْنا للَّحْمِ، وقُلْنَا عليهِ: بسمِ اللهِ، فإنَّ عِبَادَةَ اللهِ بالصَّلاَةِ له والنُّسُكِ له أَعْظَمُ مِن الاسْتِعَانَةِ باسْمِهِ في فَوَاتحِ الأُمُورِ، فكذلِكَ الشِّرْكُ بالصَّلاَةِ لغَيْرِهِ، والنُّسُكُ لغيرِهِ أَعْظَمُ مِن الاسْتِعَانَةِ باسمِ غيرِهِ في فَوَاتحِ الأُمُورِ، فَإِذَا حَرُمَ ما قيلَ فيه باسمِ المَسِيحِ أو الزُّهَرَةِ، فَلأَنْ يَحْرُمَ ما قيلَ فيه لأَجْلِ المَسِيحِ أو الزُّهَرَةِ أو قَصَدَ بهِ ذلك أَوْلَى، فإنَّ العِبَادَةَ لغيرِ اللهِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِن الاسْتِعَانَةِ بغيرِ اللهِ، كمَا قدْ يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِن مُنَافِقِي هذه الأُمَّةِ، الَّذِينَ قدْ يَتَقَرَّبونَ إلى الكَواكبِ بالذَّبحِ، والنُّجومِ ونحوِ ذلك، وإنْ كانَ هَؤُلاَءِ مُرْتَدِّينَ لا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُم بِحَالٍ، لكنْ يَجْتَمِعُ في الذَّبِيحَةِ مَانِعَانِ.
وِمِن هذا البابِ ما يَفْعَلُهُ الجَاهِلُونَ بِمَكَّةَ مِن الذَّبْحِ للجِنِّ، ولِهَذَا رُوِيَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ نَهَى عن ذَبَائِحِ الجِنِّ).
قُلْتُ: هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ عن الزُّهْرِيِّ مُرْسَلاً، وفي إِسْنَادِهِ عُمَرُ بنُ هَارُونَ، وهو ضَعِيفٌ عندَ الجُمْهورِ، إِلاَّ أَنَّ أَحْمَدَ ابنَ سيَّارٍ رَوَى عن قُتَيْبَةَ أنَّهُ كَانَ يُوَثِّقُه، ورَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ في (الضُّعفاءِ) مِن وَجْهٍ آخَرَ عن عبدِ اللهِ بنِ أُذَيْنةَ، عن ثَوْرِ بنِ يَزِيدَ، عنِ الزُّهْرِيِّ، عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عن أَبِي هُرَيْرةَ مَرْفُوعًا.
قالَ ابنُ حبَّانَ: وعبدُ اللهِ يَرْوِي عن ثَوْرٍ ما ليسَ مِن حَدِيثِه.
- قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (كانُوا إِذَا اشْتَرَوا دَارًا أو بَنَوْهَا أو اسْتَخْرَجُوا عينًا ذَبَحُوا ذَبِيحَةً خَوْفًا أَنْ تُصِيبَهُم الجِنُّ، فَأُضِيفَتِ الذَّبائِحُ إليهم).
- لذلك قالَ النَّووِيُّ: (وذَكَرَ الشَّيخُ إبراهيمُ المَرْوَزِيُّمِن أَصْحَابِنَا أنَّ مَا ذُبِحَ عندَ اسْتِقْبالِ السُّلْطانِ تَقَرُّبًا إليه أَفْتَى أَهْلُ بُخَارَى بتَحْرِيمِه؛ لأَِنَّهُ ممَّا أُهِلَّ بهِ لغيرِ اللهِ).
- قَالَ الرَّافِعِيُّ: (هذا إنَّما يَذْبَحُونَهُ اسْتِبْشَارًا بِقُدُومِهِ، فهو كَذَبْحِ العَقِيقَةِ لولادةِ المولودِ).
قلْتُ:إن كانُوا يَذْبَحونَ اسْتِبْشَارًا كمَا ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فَلاَ يَدْخُلُ في ذلك، وإِنْ كانُوا يَذْبَحونَهُ تَقَرُّبًا إليه فهو دَاخِلٌ في الحَديثِ.
قولُهُ:((لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ)) قَالَ بَعْضُهُم: يَعْنِي أَبَاهُ وأُمَّهُ وَإِنْ عَلَوْا.
وفي (الصَّحِيحِ) أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ مِنَ الكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ.
قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟
قالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)).
فَإِذَا كانَ هَذَا حالَ المُتَسَبِّبِ فما ظنُّكَ بالمباشرِ؟!
قولُهُ:((وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا)) أمَّا: ((آوَى)) بفتحِ الهمزةِ ممدودةً، أي: ضمَّ إليه وحَمَى، وقالَ أبو السَّعَادَاتِ: (يُقالُ: أويْتُ إلى المنزلِ وآويتُ غيري وأويْتُهُ، وأَنْكَرَ بعضُهُم المَقْصَورَ المُتَعَدِّي).
- وقالَ الأَزْهَرِيُّ: (هي لُغَةٌ فَصِيحَةٌ).
وأمَّا ((مُحْدِثًا)) فَقَالَ أبو السَّعَادَاتِ: (يُرْوَى بكسرِ الدَّالِ وفتحِهَا عَلَى الفاعلِ والمفعولِ، فمَعْنَى الكَسْرِ: مَنْ نَصَرَ جانيًا وآوَاهُ وأَجَارَهُ مِن خَصْمِهِ، وحالَ بينَهُ وبينَ أنْ يُقْتَصَّ منه، والفَتْحِ: هو الأَمْرُ المُبْتَدَعُ نفسُهُ، ويكونُ مَعْنَى الإِيواءِ فيه الرِّضَى بهِ والصَّبرَ عَلَيْهِ، فإنَّهُ إِذَا رَضِيَ بالبِدْعَةِ وأَقَرَّ عَلَيْهَا فاعلَهَا، ولم يُنْكِرْ عليه، فَقَدْ آواهُ).
قلتُ: الظَّاهِرُ أنَّهُ عَلَى الرِّوايةِ الأُولَى يَعُمُّ المَعْنَيَيْنِ؛ لأَِنَّ المُحْدِثَ أعَمُّ مِن أن يكونَ بجِنَايةٍ أو بِبِدْعَةٍ في الدِّينِ، بل المُحْدِثُ بالبدعةِ في الدِّينِ شَرٌّ مِن المُحْدِثِ بالجِنَايَةِ، فإيواؤُهُ أَعْظَمُ إِثْمًا، ولهذا عدَّهُ ابنُ القيِّمِ في كِتَابِ (الكَبَائرِ) وقالَ: (هذه الكبيرةُ تَخْتَلِفُ مراتِبُهَا باخْتِلاَفِ مَرَاتِبِ الحَدَثِ في نفسِهِ، فكلَّمَا كانَ الحدثُ في نفسِهِ أكبرَ، كانَت الكبيرةُ أعظمَ).
قولُهُ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ)) قالَ المُصَنِّفُ: (هي المَرَاسِيمُ التي تَفْرِقُ بينَكَ وبينَ جارِكِ).
- وقالَ النَّوويُّ: (مَنَارُ الأَرْضِ - بفتحِ الميمِ - عَلاَماتُ حُدُودِهَا، والمَعْنَى واحِدٌ).
قيلَ: وتَغْييرُهَا أنْ يُقَدِّمَهَا أو يُؤَخِّرَهَا، فيكونُ هذا مِن ظلمِ الأَرْضِ الَّذي قَالَ فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِن الأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)) رواهُ البُخَارِيُّ ومسلمٌ.
وفي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ أَنْواعِ الفُسَّاقِ، كقولِهِ: ((لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا ومُوكِلَهُ وكَاتِبَهِ وشَاهِدَيْهِ)) ونحوِ ذلك.
- فأمَّا لَعْنُ الفاسقِ المُعَيَّنِ ففيه قولان، ذَكَرَهُمَا شيخُ الإسلامِ :
أحدُهُمَا: أنَّهُ جائزٌ، اختارَهُ ابنُ الجَوْزِيِّ وغيرُهُ.
والثَّاني: لاَ يَجُوزُ، اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عبدُ العَزِيزِ وشيخُ الإِسْلاَمِ.
قالَ: والمَعْرُوفُ عن أَحْمَدَ كَرَاهَةُ لَعْنِ المُعَيَّنِ كالحَجَّاجِ وأَمْثَالِهِ، وأَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود:18].
(5) هَذَا الحَدِيثُ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ مَعْزُوًّا لأَِحْمَدَ، وأَظُنُّهُ تَبِعَ ابنَ القيِّمِ في عزوِهِ لأَِحْمَدَ.
- قالَ ابنُ القيِّمِ:(قالَ الإمامُأحمدُ: حَدَّثَنا أبو مُعَاوِيَةَ،حدَّثَناالأَعْمَشُ، عن سُلَيْمَانَ بنِ مَيْسَرَةَ،عنطَارِقِ بنِ شِهَابٍ يَرْفَعُهُ، قَالَ:((دَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ…))الحَدِيثَ).
وَقَدْ طَالَعْتُ (المُسْنَدَ) فَمَا رَأَيْتُهُ فيهِ، فَلَعَلَّ الإِمَامَ رَوَاهُ في كِتَابِ (الزُّهْدِ) أو غيرِهِ.
قولُهُ: (عَنْ طَارِقِ بنِ شِهَابٍ) أي: البَجَلِيُّ الأحمسيُّ أَبُو عبدِ اللهِ، رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو رَجُلٌ، ويُقَالُ: إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ منه شَيْئًا.
قَالَ البَغَوِيُّ: (ونَزَلَ الكُوفَةَ).
قالَ أبو حَاتِمٍ:( لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ) والحَدِيثُ الَّذي رواهُ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاودَ:(رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْمَعْ منه شَيْئًا).
قَالَ الحَافِظُ: (إِذَا ثَبَتَ أنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو صَحَابِيٌّ عَلَى الرَّاجِحِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَرِوَايَتُهُ عن مُرْسَلِ صحابيٍّ، وهو مَقْبولٌ عَلَى الرَّاجحِ).
وقد أَخْرَجَ له النَّسَائِيُّ عِدَّةَ أَحَاديثَ، وذَلِكَ مَصِيرٌ منه إلى إِثْبَاتِ صُحْبَتِهِ.
وكانَتْ وفاتُهُ عَلَى ما جَزَمَ بهِ ابنُ حِبَّانَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وثَمَانِينَ.
قولُهُ: ((دَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ)) أي: مِن أَجْلِ ذبابٍ.
قولُهُ: ((قالُوا: وكيفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ)) سَأَلُوا عن هذا الأمرِ العَجِيبِ؛ لأَِنَّهُم قَدْ عَلِمُوا أنَّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلاَّ بالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كمَا قالَ تَعَالَى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32] وأَنَّ النَّارَ لاَ يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلاَّ بالأَعْمَالِ السَّيِّئةِ، فَكَأنَّهُم قالُوا ذلك وتَعَجَّبُوه واحْتَقَرُوهُ، فَبَيَّنَ لَهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صَيَّرَ هذا الأمرَ الحَقِيرَ عندَهُم عظيمًا يَسْتَحِقُّ هذا عليه الجنَّةَ، ويَسْتَحِقُّ الآخَرُ عليهِ النَّارَ، ولَعَلَّ هذين الرَّجُلَيْنِ من بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُهُم عَن بَنِي إِسْرَائِيلَكَثِيرًا.
قولُهُ: (فَقَالَ: ((مَرَّ رَجُلاَنِ عَلَى قَوْمٍ لهمْ صَنَمٌ))الصَّنَمُ: مَا كَانَ مَنْحُوتًا عَلَى صُورةٍ.
قولُهُ: ((لا يُجَاوِزُهُ))أي: لاَ يَمُرُّ بهِ ولا يَتَعَدَّاهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ له شَيْئًا وَإِنْ قلَّ.
قولُهُ: ((قالُوا: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا؛ فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ فَدَخَلَ النَّارَ)) في هذا بيانُ عظمةِ الشِّرِكِ ولو في شيءٍ قليلٍ، وأنَّهُ يُوجِبُ النَّارَ، أَلاَ تَرَى إلى هذا لَمَّا قَرَّبَ لهذا الصَّنمِ أَرْذَلَ الحَيَوانِ وأَخَسَّهُ وهو الذُّبابُ كانَ جَزَاؤُهُ النَّارَ؛ لِإِشْرَاكِهِ في عِبَادَةِ اللهِ، إذ الذَّبْحُ عَلَى سَبِيلِ القُرْبَةِ والتَّعْظِيمِ عِبَادَةٌ، وهذا مُطَابِقٌ لقولِهِ -تعالى-:{إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}[المَائِدَة:72]
وفيه:الحَذَرُ مِن الذُّنُوبِ وإِنْ كَانَتْ صَغِيرةً في الحُسْبَانِ، كمَا قالَ أَنَسٌ: ( إِنَّكُم لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُم مِنَ الشَّعْرِ كُنَّا نَعُدُّها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ المُوبِقَاتِ) رواهُ البخاريُّ.
قالَ المُصَنِّفُ ما مَعْنَاهُ:
وَفِيهِ:أنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبٍ لم يَقْصِدْهُ،بل فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِن شَرِّهِم.
وفيه:أنَّ الَّذي دَخَلَ النَّارَ مسلمٌ، لأَِنَّهُ لو كانَ كافرًا لم يَقُلْ: دَخَلَ النَّارَ في ذُبَابٍ.
وفيه:أَنَّ عَمَلَ القَلْبِ هو المَقْصُودُ الأَعْظَمُ حَتَّى عندَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ.
قولُهُ: ((وَقَالُوا للآخرِ: قَرِّبْ.
قالَ: ما كنْتُ لأُِقَرِّبَ لأَِحَدٍ شَيْئًا دونَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) إلى آخرِهِ.
في هذا:
بيانُ فَضِيلَةِ التَّوحيدِ والإِخْلاَصِ.
قَالَ المُصَنِّفُ: وفيه:مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ في قُلُوبِ المُؤمنينَ، كيفَ صَبَرَ عَلَى القَتْلِ وَلَمْ يُوَافقْهُم عَلَى طَلِبَتِهِم مَعَ كونِهِم لم يَطْلُبُوا إِلاَّ العَمَلَ الظَّاهِرَ.
وفيه: شَاهِدٌ للحديثِ الصَّحِيحِ:((الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ))
قُلْتُ:
وفيه:التَّنْبيهُ عَلَى سَعَةِ مَغْفِرَةِ اللهِ وشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ، وأَنَّ الأَعْمَالَ بالخَوَاتِيمِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ) مِنَ الوَعِيدِ، وأَنَّهُ شِرْكٌ بِاللهِ.
(2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقَولِ اللهِ تَعالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}) [الأَنْعَام:162،163]
- قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (يَأْمُرُهُ تَعالَى أَنْ يُخْبِرَ المُشْرِكِينَ الذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ ويَذْبَحُونَ لغَيْرِ اسْمِهِ: بِأَنَّهُ أَخْلَصَ للهِ صَلاتَهُ وذَبِيحَتَه؛ لأَِنَّ المُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ ويَذْبَحُونَ لَها، فَـأَمَرَه اللهُ تَعالى بِمُخَالَفَتِهِمْ والانْحِرَافِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، والإِقْبَالِ بِالقَصْدِ والنِّيَّةِ والعَزْمِ عَلَى الإِخْلاصِ للهِ تَعالى. - قَالَ مُجَاهِدٌ: (النُّسُكُ الذَّبْحُ فِي الحَجِّ والعُمْرَةِ). - وقالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ: (ونُسُكِي ذَبْحِي) وكَذا قالَ الضَّحَاكُ). وقَالَ غَيْرُه: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أَيْ: وَما آَتِيهِ فِي حَيَاتِي، ومِتُّ عَلَيْهِ مِنَ الإِيْمَانِ والْعَمَلِ الصَّالِحِ، {للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خالِصًا لِوَجْهِهِ، {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ} الإِخْلاصِ (أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أيْ: مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ لأَِنَّ إِسْلامَ كُلِّ نَبِيٍّ مُتَقَدِّمٌ إِسْلاَمَ أُمَّتِهِ. - وقالَ قَتَادَةُ: ({وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}أي: مِن هَذِهِ الأُمَّةِ).
- قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (وَهُوَ كَما قالَ) فَإنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كَانْتْ دَعْوَتُهُم إِلى الإِسْلامِ، وهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، كَمَا قالَ تَعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأَنْبِيَاء:25] وَذَكَرَ آيَاتٍ في هَذا المَعْنَى.
ووَجْهُ مُطَابَقَةِ الآيَةِ للتَّرْجَمَةِ:
أَنَّ اللهَ تَعالى تَعَبَّدَ عِبَادَه بِأَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْه بِالنُّسُكِ، كَما تَعَبَّدَهُم بِالصَّلاةِ وغَيْرِها مِنْ أَنْواعِ العبَاداتِ، فَإنَّ اللهَ تَعالى أَمَرَهُم أَنْ يُخْلِصُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ لَهُ دُونَ كُلِّ ما سِوَاهُ، فَإذَا تَقَرَّبُوا إِلى غَيْرِ اللهِ بِالذَّبْحِ أوْ غَيْرِه مِنْ أَنْواعِ العِبادَةِ فَقَدْ جَعَلُوا للهِ شَرِيكًا في عِبَادَتِه، وهُوَ ظاهِرٌ في قَوْلِهِ: {لاَ شَرِيكَ لَهُ} نَفَى أَنْ يَكُونَ للهِ تَعالى شَرِيكٌ في هَذِهِ العِبَادَاتِ، وَهُوَ بِحَمْدِ اللهِ وَاضِحٌ.
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقَوْلُهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ}) [الكوثر:2]
قالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحِمَه اللهُ تَعالى: (أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هاتَيْنِ العِبادَتَيْنِ، وهُما الصَّلاةُ والنُّسُكُ، الدَّالَّتَانِ عَلى القُرْبِ والتَّوَاضُعِ والافْتِقَارِ وحُسْنِ الظَّنِّ، وقُوَّةِ اليَقِينِ، وطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إِلى اللهِ وإِلى عِدَتِهِ، عَكْسَ حَالِ أَهْلِ الكِبْرِ والنَّفْرَةِ، وأَهْلِ الغِنَى عَنِ اللهِ الذِينَ لا حاجَةَ لَهُم في صَلاتِهِم إِلى رَبِّهِم، والذِينَ لا يَنْحَرُونَ له خَوْفًا مِنَ الفَقْرِ، ولِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ:{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي}الآيَةَ، والنُّسُكُ الذَّبِيحَةُ للهِ تَعالى ابْتَغَاءَ وَجْهِهِ.
فَإنَّهُما أجَلُّ ما يُتَقَرَّبُ بِه إِلى اللهِ، فَإنَّهُ أَتَى فِيهِما بِالفاءِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّبَبِ؛ لأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلقِيَامِ بِشُكْرِ ما أَعْطَاهُ اللهُ تَعالى مِنَ الكَوْثَرِ.
- وأَجَلُّ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ الصَّلاةُ.
- وأَجَلُّ العِبَاداتِ المَالِيَّةِ النَّحْرُ، وما يَجْتَمِعُ للعَبْدِ فِي الصَّلاةِ لا يَجْتَمِعُ لَه فِي غَيْرِهَا، كَما عَرَفَهُ أَرْبَابُ القُلُوبِ الحَيَّةِ؛ وما يَجْتَمِعُ لَهُ في النَّحْرِ إِذَا قَارَنَه الإِيمَانُ والإِخْلاصُ، مِنْ قُوَّةِ اليَقِينِ وحُسْنِ الظَّنِّ: أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَ الصَّلاةِ، كَثِيرَ النَّحْرِ) انتهى.
قُلْتُ:وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الصَّلاةُ مِن أَنْوَاعِ العِبادَةِ كَثِيرًا، فَمِن ذَلِكَ الدُّعَاءُ والتكْبِيرُ، والتسْبِيحُ والقِرَاءةُ، والتسْمِيعُ والثَّنَاءُ، والقِيَامُ والرُّكُوعُ، والسُّجُودُ والاعْتِدَالُ، وإقامَةُ الوَجْهِ للهِ تَعالى، والإقْبَالُ عَلَيْه بِالقَلْبِ؛ وغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَشْرُوعٌ في الصَّلاةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الأُمُورِ مِن أَنْواعِ العِبادَةِ التِي لا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنْهَا شَيْءٌ لِغَيْرِ اللهِ، وكَذَلِكَ النُّسُكُ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا مِنَ العِبادةِ كَما تَقَدَّمَ في كَلامِشَيْخِ الإِسْلامِ.
(4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ قالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ:((لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ والِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ): مِن طُرُقٍ وفِيهِ قِصَّةٌ.
ورَوَاه الإِمَامُ أَحْمَدُ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قالَ: (قُلْنَا لِعَلِيٍّ: أَخْبِرْنا بِشَيْءٍ أَسَرَّهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَسَرَّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ؛ وَلَكِن سَمِعْتُهُ يَقُولُ:((لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ والِِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الأَرْضِِ، يَعْنِِي الْمَنارَ)).
وعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُوَ الإِمَامُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَبُو الْحَسَنِ الهاشِمِيُّ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزَوْجُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، وكانَ مِن أَسْبَقِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، وَمِن أَهْلِ بَدْرٍ وبَيْعَةِ الرُّضْوَانِ، وأَحَدَ العَشَرَةِ المَشْهُودِ لَهُم بِالجَنَّةِ، ورابِعَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ومَنَاقِبُه مَشْهُورَةٌ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قَتَلَه ابْنُ مُلْجِمٍ الْخَارِجِيُّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ.
قَوْلُهُ: ((لَعَنَ اللهُ)) اللَّعْنَةُ: البُعْدُ عَنْ مَظانِّ الرَّحْمَةِ ومَوَاطِنِهَا.
قِيلَ: واللعِينُ والمَلْعُونُ مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ اللَعْنَةُ، أوْ دُعِيَ عَلَيْهِ بِهَا.
- قالَ أَبُو السَّعَاداتِ: (أَصْلُ اللعْنِ: الطَّرْدُ والإِبْعَادُ مِنَ اللهِ، ومِنَ الْخَلْقِ السَّبُّ والدُّعَاءُ).
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ما مَعْنَاهُ:(إنَّ اللهُ تَعالى يَلْعَنُ مَنِ اسْتَحَقَّ اللعْنَةَ بِالْقَوْلِ كَما يُصَلِّي سُبْحانَه عَلَى مَنِ اسْتَحَقَّ الصَّلاةَ مِن عِبادِه).
قالَ تَعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ}[الأَحْزَاب:43،44].
وقالَ: {إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}[الأحزاب:64].
وقالَ: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً}[الأحزاب:61] والقُرْآنُ كَلامُه تَعالى أَوْحَاه إِلى جَبْرَائيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وبَلَّغَهُ رَسُولَه محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجَبْرَائيلُ سَمِعَه مِنه كَما سَيأْتِي فِي الصَّلاةِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى، فالصَّلاةُ ثَنَاءُ اللهِ تَعالى كَما تَقَدَّمَ.
فاللهُ تَعالى هُوَ المُصَلِّي وهُوَ المُثِيبُ، كُما دَلَّ عَلى ذلِكَ الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ وعَلَيْه سَلَفُ الأُمَّةِ. قَالَ الإِمامُ أحمدُ رَحِمَه اللهُ تعالى: لَمْ يَزَلِ اللهُ مُتكلِّمًا إذا شاءَ.
قَوْلُهُ:((مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ)) قالَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَه اللهُ تَعالى: في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ}[البَقَرَة:173] ظاهِرُه:(أَنَّهُ ما ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذا ذَبِيحَةٌ لِكَذا).
وإِذَا كَانَ هَذا هُوَ المَقْصُودَ فسَوَاءٌ لَفَظَ بِه أوْ لمْ يَلْفِظْ، وتَحْرِيمُ هَذا أَظْهَرُ مِن تَحْرِيمِ ما ذَبَحَه للحْمِ وقالَ فِيه: بِاسْمِ المَسِيحِ ونَحْوِه.
كَمَا أنَّ ما ذَبَحْنَاه مُتَقَرِّبِينَ بِه إِلى اللهِ كانَ أَزْكَى وأَعْظَمَ مِمَّا ذَبَحْنَاه للَّحْمِ، وقُلْنَا عَلَيْه: بِسْمِ اللهِ.
فَإذا حَرُمَ ما قِيلَ فِيهِ باسْمِ المَسِيحِ أَوِ الزُّهَرَةِ، فلأََنْ يَحْرُمَ ما قِيلَ فيهِ لأَِجْلِ المسيحِ أوِ الزُّهَرَةِ أوْ قُصِدَ بِه ذَلِكَ أَوْلَى، فَإنَّ العِبادةَ لِغَيْرِ اللهِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنَ الاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللهِ.
وعَلَى هَذا فَلوْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ مُتَقَرِّبًا إليهِ لَحَرُمَ؛ وإنْ قالَ فيهِ باسْمِ اللهِ؛ كَما قَدْ يَفْعَلُه طائِفةٌ مِن مُنافِقِي هَذه الأُمَّةِ الذِينَ قد يَتَقَرَّبُونَ إلى الكواكِبِ بالذبْحِ والبَخُورِ ونَحْوِ ذلكَ، وإنْ كانَ هَؤلاءِ مُرْتَدِّينَ لا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُم بِحالٍ، لكنْ يَجْتَمِعُ في الذبِيحةِ مانِعانِ:
الأوَّلُ: أَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ به لِغيرِ اللهِ.
والثانِي: أنَّها ذَبِيحةُ مُرْتَدٍّ.
قُلْتُ: هَذَا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ العُلَمَاءِ، وَأَمَّا الذَّبْحُ للَّحْمِ وذِكْرٌ عَلَى الذَّبِيحَةِ اسْمَ المَسْيحِ أو الزُّهَرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا الذي فيه خِلاَفُ العُلَمَاءِ، وَكَلاَمُ شَيْخِ الإِسْلاَمِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه يَقُولُ بتَحْرِيمِهِ ووَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ العُلَمَاءِ وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}[الأنعام:121]، ثُمَّ اسْتَثْنَى قَوْلَهُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}[المائدة:5].
يَعْنِي: ذَبِيحَةَ اليَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ، وإِنْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ يَقُولُ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِسْمِ المَسِيحِ. واليَهُودِيُّ يَقُولُ: بِسْمِ عُزَيْرٍ.
وذَكَرَ قَوْلَ عَطَاءٍ: (كُلْ مِن ذَبِيحَةِ النَّصْرَانِيِّ وإِنْ قَالَ: بِسْمِ المَسِيحِ؛ لأَِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ ذَبَائِحَهُم وَقَدْ عَلِمَ ما يَقُولُونَ.
وَذَكَرَ مِثْلَهُ عنالقَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، ورَبِيعَةَ، والشَّعْبِيِّ، ومَكْحُولٍ، ورُوِيَ عنعُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِمِن الصَّحَابَةِ) انْتَهَى مُلَخَّصًا.
ثم قال: ومِن هذا البابِ: ما يَفْعَلُه الجاهِلونَ بِمَكَّةَ مِنَ الذَّبْحِ للجِنِّ.
ولِهذا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبائِحِ الْجِِنِّ)) انتهى.
- قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (كانُوا إذا اشْتَرَوا دارًا أوْ بَنَوْها أوِ اسْتَخْرَجُوا عَيْنًا، ذَبَحُوا ذَبيحةً خَوْفًا أنْ تُصِيبَهمُ الجِنُّ؛ فَأُضِيفَتْ إلَيْهم الذَّبائِحُ لِذَلكَ).
وذَكَرَ إبْرَاهِيمُ المَرْوَزِيُّ: (أنَّ ما ذُبِحَ عِندَ اسْتِقَبالِ السُّلْطَانِ تَقَرُّبًا إلَيْه، أَفْتَى أهْلُ بُخَارَى بتَحْرِيمِه؛ لأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لغيرِ اللهِ).
قَولُه: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ والِدَيْهِ)) يَعْنِي: أَباه وأُمَّه وإنْ عَلَيا، وفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مِنَ الكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟
قَالَ ((نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَباهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)).
قولُه: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا))وهو بفَتْحِ الهَمزةِ مَمْدُودةً، أيْ: ضَمَّه إليه وحَماه أنْ يُؤْخَذَ مِنه الحَقُّ الذِي وَجَبَ علَيْه.
و((آَوَى)) قالَ أَبُو السَّعاداتِ: (أَوَيْتُ إلَى المَنْـزِلِ، وأَوَيْتُ غَيرِي؛ وآوَيْتُه).
وأَنْكَرَ بَعضُهم المَقْصُورَ المُتَعَدِّيَ، وقَالَ الأَزْهَرِيُّ: هي لُغَةٌ صَحِيحَةٌ.
وأمَّا ((مُحْدِثًا)) فقالَ أبُو السَّعاداتِ: (يُرْوَى بكَسْرِ الدَّالِ وفَتْحِها علَى الفاعِلِ والمَفْعُولِ، فمَعْنَى الْكَسْرِ: مَن نَصَرَ جانِيًا وآوَاه وأَجارَه مِن خَصْمِه، وحالَ بَيْنَه وبيْنَ أنْ يُقْتَصَّ مِنه، والفَتْحِ: هوَ الأَمْرُ المُبْتَدَعُ نفْسُه، ويَكونُ مَعْنى الإِيوَاءِ فيهِ الرِّضَى بهِ والصَّبْرَ علَيْه، فإنَّه إذا رَضِيَ بِالبِدْعةِ وأقَرَّ فَاعِلَها ولمْ يُنْكِرْ علَيْه فَقَدْ آوَاه).
- قالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تَعالى: (هذه الكَبِيرةُ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُها باخْتَلافِ مَراتِبِ الحَدَثِ فِي نَفْسِه، فكُلَّما كانَ الحَدَثُ في نفْسِه أَكْبَرَ كانَتِ الكبيرةُ أَعْظَمَ).
قولُه: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ)) بفَتْحِ المِيمِ: عَلاماتِ حُدُودِها.
- قالَ فِي (النِّهَايةِ): (أيْ: مَعالِمَها وحُدُودَها، واحِدُها تُخُمٌ.
قِيلَ: أَرادَ حُدودَ الحَرَمِ خَاصَّةً.
وقيلَ: هو عامٌّ في جَميعِ الأرْضِ، وَأَرادَ المَعالِمَ التِي يُهْتَدَى بِها في الطَّرِيقِ.
وقيلَ: هو أنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ في مِلْكِ غيرِه فَيَقْتَطِعَه ظُلْمًا، قالَ: ورُوِيَ (تَخُومٌ) بفتحِ التاءِ علَى الإفْرادِ، وجَمْعُه تُخُمٌ بضَمِّ التاءِ والخاءِ) انتهى.
وتَغْيِيرُها:أنْ يُقَدِّمَها أوْ يُؤَخِّرَها، فَيَكُونُ هَذا مِن ظُلْمِ الأرْضِ الذِي قالِ فيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)).
فَفيهِ:جَوازُ لَعْنِ أهْلِ الظُّلْمِ مِن غيرِ تَعْيِينٍ.
وأمَّا لَعْنُ الفاسِقِ المُعَيَّنِ، فَفِيه قَوْلانِ:
أحَدُهما: أَنَّهُ جائِزٌ، اخْتَارَه ابْنُ الجَوْزِيِّ وغيرُه.
والثانِي: لا يَجوزُ، اخْتارَه أبُو بَكْرٍ عَبْدُ العَزِيزِ وشَيخُ الإسْلامِ.
- وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (واتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعْنِ؛ فَإِنَّهُ في اللُّغَةِ: الإِبْعَادُ والطَّرْدُ.
وفي الشَّرْعِ: الإِبْعَادُ مِن رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْعَدَ مِن رَحْمَةِ اللهِ، مَن لاَ يُعْرَفُ حَالُهُ وخَاتِمَةُ أَمْرِهِ مَعْرِفَةً قَطْعِيَّةً فَلِهَذَا قَالُوا: (لاَ يَجُوزُ لَعْنُ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا أو دَابَّةً إِلاَّ مَن عَلِمْنَا بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الكُفْرِ أَوْ يَمُوتُ عَلَيْهِ كَأَبِي جَهْلٍ وإِبْلِيسَ).
وأَمَّا اللَّعْنُ بالوَصْفِ فَلَيْسَ حَرَامًا كلَعْنِ الوَاصِلَةِ، والمُسْتَوْصِلَةِ، والوَاشِمَةِ، والمُسْتَوْشِمَةِ، وآكِلِ الرِّبَا، ومُوكِلِه، والمُصَوِّرِينَ، والظَّالِمِينَ، والفَاسِقِينَ، والكَافِرِينَ، وَلَعْنِ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ، وَمَن تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، ومَن انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، ومَن أَحْدَثَ في الإِسْلاَمِ حَدَثًا أو آوَى مُحْدِثًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَت النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بإِطْلاَقِهِ عَلَى الأَوْصَافِ، لاَ عَلَى الأَعْيَانِ)واللهُ أَعْلَمُ.
(5) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ في ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ في ذُبَابٍ)).
قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((مَرَّ رَجُلاَنِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لا يُجَاوِزُه أَحَدٌ حَتَّى يُقرِّبَ لَهُ شَيْئًا.
قَالُوا لأَحَدِهِما: قَرِّبْ.
قَالَ لَيْسَ عِنْدِي شَيءٌ أُقَرِّبُهُ.
قالُوا لهُ: قرِّبْ وَلَوْ ذُبابًا، فَقَرَّبَ ذُبابًا فَخَلَّوا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ.
وَقَالُوا لِلآخَرِ: قَرِّبْ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَدَخَلَ الجَنَّةَ)) رَواه أحمدُ).
- قالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى: (قالَ الإمامُ أحمَدُ: حَدَّثَنَا أبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَاالأَعْمَشُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طارِقِ بْنِ شِهَابٍيَرْفَعُه قالَ:((دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبابٍ))الحديثَ).
وطارِقُ بْنُ شِهَابٍ: هو البَجَلِيُّ الأَحْمَسِيُّ، أبُو عبدِ اللهِ. رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو رَجُلٌ.
- قَالَ البَغَوِيُّ: (نَزَلَ الكُوفَةَ)
- وقالَ أبُو دَاودَ: (رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولمْ يَسْمَعْ مِنْه شَيْئًا).
- قالَ الحافِظُ: (إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ رَأَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهوَ صَحَابِيٌّ).
وإِذا ثَبَتَ أَنَّهُ لمْ يَسْمَعْ مِنْه فرِوَايَتُه عنْه مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ، وهوَ مَقْبُولٌ علَى الرَّاجِحِ، وكانَتْ وَفَاتُه -علَى ما جَزَمَ به ابْنُ حِبَّانَ- سَنَةَ ثلاثٍ وثَمانِينَ.
قَولُه: ((دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ في ذُبَابٍ)) أيْ: مِن أَجْلِه؛ لأن (ي) تَأْتِي للتَّعْلِيلِ
قَولُه: (قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) كأَنَّهُم تَقَالُّوا ذلكَ، وتَعَجَّبُوا مِنه.
فَبَيَّنَ لَهُم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صَيَّرَ لهم هَذا الأَمْرَ الحَقِيرَ عِندَهم عَظِيمًا يَسْتَحِقُّ هذَا عَلَيه الجَنَّةَ، ويَسْتَوْجِبُ الآخَرُ عَليه النَّارَ.
قَولُه: ((فقَالَ: مَرَّ رَجُلانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ))الصَّنَمُ: ما كانَ مَنْحُوتًا عَلَى صُورةٍ.
قولُه: ((لا يُجَاوِزُهُ)) أيْ: لا يَمُرُّ بِهِ ولا يَتَعَدَّاه أَحَدٌ حتَّى يُقرِّبَ إلَيه شَيْئًا، وإنْ قَلَّ.
قولُه: ((قالُوا لهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبابًا، فَقَرَّبَ ذُبابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ فَدَخَلَ النَّارَ)) وفي هذا بَيانُ عَظَمَةِ الشِّرْكِ، ولوْ في شَيْءٍ قَلِيلٍ، وأَنَّهُ يُوجِبُ النارَ، كما قالَ تَعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المَائِدَة:72].
وفي هذا الحَدِيثِ:الْحَذَرُ مِنَ الوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ؛وأنَّ الإنْسَانَ قدْ يَقَعُ فِيه، وهُو لا يَدْرِي أَنَّهُ مِنَ الشِّرْكِ الذِي يُوجِبُ النارَ.
وفيه:أَنَّهُ دَخَلَ النارَ بِسَبَبٍ لمْ يَقْصِدْه ابْتَدَاءً، وإنَّما فَعَلَه تَخَلُّصًا مِن شرِّ أهْلِ الصَّنَمِ.
وفِيه:أنَّ ذلكَ الرَّجُلَ كَانَ مُسْلِمًا قبْلَ ذلكَ، وإلاَّ فلوْ لمْ يَكُنْ مُسْلِمًا لمْ يَقُلْ دَخَلَ النارَ في ذُبَابٍ.
وفيه:أَنَّ عَمَلَ القَلْبِ هُو المَقْصُودُ الأَعْظَمُ حتَّى عِندَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، ذَكَرَه المُصَنِّفُ بمَعَناه.
قولُه: ((وَقَالُوا لِلآخَرِ: قَرِّبْ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأِقرِّبَ لأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))فَفِيه:بَيَانُ فَضِيلةِ التَّوْحِيدِ والإِخْلاصِ، والصَّلاَبَةِ في الدِّينِ.
وفيه: مَعْنَى قَوْلِهِ في الحَدِيثِ: ((وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ)).
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ: (وفِيهِ مَعْرِفةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، كَيْفَ صَبَرَ عَلَى القَتْلِ ولمْ يُوَافِقْهم عَلى طَلِبَتِهم مَعَ كَوْنِهِم لمْ يَطْلُبُوا مِنه إلاَّ الْعَمَلَ الظاهِرَ).
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) أي:أَنَّه شرْكٌ، فإنَّ نصوصَ الكتابِ والسنةِ صريحةٌ في الأمرِ بالذَّبْحِ للهِ، وإخْلاَصِ ذلك لوجهِهِ، كما هي صريحةٌ بذلك في الصَّلاَةِ، فَقَدْ قَرَنَ اللهُ الذَّبْحَ بالصَّلاَةِ في عِدَّةِ مَوَاضِعَ من كتابِهِ.
وإذا ثَبَتَ أنَّ الذَّبْحَ للهِ مِن أَجَلِّ العِبادَاتِ وأَكْبَرِ الطاعاتِ؛ فالذَّبْحُ لغَيْرِ اللهِ شرْكٌ أكْبَرُ مُخْرِجٌ عن دَائِرَةِ الإِسلاَمِ.
فإنَّ حدَّ الشرْكِ الأَكْبَرِ وتَفْسِيرَه الذِي يَجْمَعُ أنواعَه وأفرادَه: أَنْ يَصْرِفَ العبدُ نَوْعًا أَوْ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ العِبَادَةِ لِغَيْرِ الله. فكُلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عَمَلٍ ثَبَتَ أنَّه مَأْمُورٌ بِه مِن الشارعِ، فَصَرْفُهُ للهِ وحدَه تَوْحِيدٌ وإيمانٌ وإِخْلاَصٌ، وصَرْفُهُ لغَيْرِه شِرْكٌ وكُفْرٌ؛ فعَلَيْكَ بهذَا الضابطِ للشرْكِ الأكبرِ الذِي لاَ يَشُذُّ عنه شيءٌ. كما أنَّ حدَّ الشرْكِ الأصْغَرِ هو:كُلُّ وَسِيلَةٍ وذَرِيعَةٍ يُتَطَرَّقُ منها إلى الشِّرْكِ الأكْبَرِ مِن الإِراداتِ والأقْوالِ والأفعالِ التي لَمْ تبْلُغْ رُتْبَةَ العِبادَةِ. فعَلَيْكَ بهذَيْنِ الضابِطَيْنِ للشرْكِ الأكْبَرِ والأَصْغَرِ، فإنَّه مِمَّا يُعِينُكَ عَلَى فَهْمِ الأبْوابِ السابِقَةِ واللاَّحِقَةِ من هذا الكتابِ، وبِه يَحْصُلُ لك الفُرْقانُ بَيْنَ الأمُورِ التي يَكْثُرُ اشْتِباهُها، واللهُ المُسْتعانُ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) قولُهُ: (في الذَّبْحِ) أيْ: ذَبْحِ البهائمِ.
قولُهُ: (لغيرِ اللهِ) اللامُ للتعليلِ والقصدِ، أيْ: قاصدًا بذَبْحِهِ غيرَ اللهِ.
والذبحُ لغيرِ اللهِ ينقسمُ إلى قسميْنِ:
الأول:أنْ يذبَحَ لغيرِ اللهِ تقرُّبًا وتعظيمًا، فهذا شِرْكٌ أكبرُ مُخرِجٌ عن المِلَّةِ.
الثاني:أنْ يذْبحَ لغيرِ اللهِ فرَحًا وإكرامًا، فهذا لا يُخْرِجُ منَ الملَّةِ، بلْ هوَ مِن الأمورِ العاديَّةِ التي قدْ تكونُ مطلُوبةً أحيانًا وغيرَ مطلوبةٍ أحيانًا، فالأصْلُ أنَّها مُبَاحَةٌ.
ومرادُ المؤَلِّفِ هنا القسْمُ الأوَّلُ.
قولُهُ: (لغيرِ اللهِ) يشملُ الأنبياءَ، والملائكةَ، والأولياءَ وغيْرَهُم، فكلُّ مَنْ ذبحَ لغيرِ اللهِ تقرُّبًا وتعظيمًا فإنَّهُ داخلٌ في هذه الكلمةِ بأيِّ شيءٍ كانَ.
وقولُهُ في الترجمةِ: (بابُ ما جاءَ في الذَّبحِ لغيرِ اللهِ) مثلُ هذهِ الترجمةِ يُتَرْجِمُ بها العلماءُ للأمورِ التي لا يَجْزِمُونَ بحُكْمِها، أو التي فيها تفصيلٌ، وأمَّا الأمورُ التي يَجْزِمُونَ بها فإنَّهُم يقولونَ: (بابُ تحريمِ الذبحِ لغيرِ اللهِ) وهكذا.
والمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ لا شكَّ أنَّهُ يَرى تحريمَ الذَّبْحِ لغيرِ اللهِ على سبيلِ التقرُّبِ والتعظيمِ،وأنَّهُ شِرْكٌ أكبرُ، لكنَّهُ أرادَ أنْ يُمَرِّنَ الطالبَ على أخْذِ الْحُكْمِ من الدليلِ، وهذا نوعٌ من التربيةِ العلميَّةِ، أنَّ المعلِّمَ أو المؤَلِّفَ يدعُ ذكر الْحُكمَ ثمَّ يأتي بالأدِلَّةِ لأجْلِ أنْ يَكِلَ الحُكْمَ إلى الطالبِ فيَحْكُمَ بهِ على حَسَبِ ما سيقَ لهُ منْ هذهِ الأدلَّةِ.
(2) قولُهُ: { قُلْ }الخطابُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، أيْ: قُلْ لهؤلاءِ المشركينَ مُعْلِنًا لهُمْ قيامَكَ بالتوحيدِ الخالصِ؛ إذْ هذهِ السورةُ مكِّيَّةٌ.
قولُهُ: { إِنَّ صَلاَتِي } الصلاةُ في اللغةِ: الدُّعاءُ.
وفي الشَّرْعِ:عبادةٌ للهِ ذاتُ أقوالٍ وأفعالٍ معلومةٍ، مُفْتَتَحَةٌ بالتكبيرِ، مُخْتَتَمَةٌ بالتسليمِ.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (قرة عيون الموحدين) ص 69: (وقوله: {صلاتي} يشمل الفرائض والنوافل.
والصلوات كلها عبادة، وقد اشتملت على نوعي الدعاء:
- دعاء المسألة.
- ودعاء الطلب.
فما كان فيها من السؤال، والطلب فهو دعاء مسألة، وما كان فيها من الحمد، والثناء، والتسبيح، والركوع والسجود وغير ذلك من الأركان والواجبات فهو دعاء عبادة، وهذا هو التحقيق في تسميتها صلاة؛ لأنها اشتملت على نوعي الدعاء، الذي هو صلاة لغة وشرعاً) .
قولُهُ: { وَنُسُكِي }: النُّسُكُ لغةً:العبادةُ.
وفي الشَّرْعِ:ذبْحُ القُرْبانِ.
فهلْ تُحْمَلُ هذهِ الآيةُ على المعنى اللغويِّ أوْ على المعنى الشرعيِّ؟
ما جاءَ في لسانِ الشرعِ يُحْمَلُ على الحقيقةِ الشَّرعيَّةِ، كما أنَّ ما جاءَ في لسانِ العُرفِ فهوَ محمولٌ على الحقيقةِ العُرفيَّةِ.
وعلى هذا فَيُحْمَلُ النُّسُكُ في الآيةِ على المعنى الشرعيِّ.
وقيلَ:تُحْمَلُ على المعنى اللغويِّ؛ لأنَّهُ أعمُّ، فالنُّسُكُ العبادةُ، كأنَّهُ يقولُ: أنا لا أدْعُو إلاَّ اللهَ، ولا أعْبُدُ إلاَّ اللهَ، وهذا عامٌّ للدعاءِ والتعبُّدِ.
وإذا حُمِلَتْ على المعنى الشَّرعيِّ صارتْ خاصَّةً في نوعٍ من العباداتِ، وهيَ الصَّلاةُ والنُّسُكُ، ويكونُ هذا كمثالٍ؛ فإنَّ الصلاةَ أعلى العباداتِ البدنيَّةِ، والذَّبحَ أعلى العباداتِ الماليَّةِ؛ لأنَّهُ على سبيلِ التعظيمِ فلا يقَعُ إلاَّ قُرْبَةً، هكذا قرَّرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ في هذهِ المسألةِ.
ويُحْتَاجُ إلى مناقشةٍ في مسألةِ أنَّ القُرْبانَ أعلى أنواعِ العباداتِ الماليَّةِ؛ فإنَّ الزكاةَ لا شكَّ أنَّها أعظمُ، وهيَ عبادةٌ ماليَّةٌ.
وهناكَ قولٌ ثالثٌ: أنَّ الصَّلاةَ هيَ الصلاةُ المعروفةُ شرعًا، والنُّسُكَ العبادةُ مُطْلَقًا، ويكونُ ذِكرُ الصلاةِ بخُصُوصِها مَع دُخُولِها في مُطلقِ العبادةِ مِنْ عَطْفِ العامِّ على الخاصِّ.
قولُهُ: { مَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أيْ: حياتِي وموْتِي، أي: التصرُّفَ فِيَّ وتدبيرَ أُمُوري حيًّا وميِّتًا للهِ.
وفي قولِهِ: { صَلاَتِي وَنُسُكِي } إثباتُ توحيدِ العبادةِ.
وفي قوْلِهِ: { مَحْيَايَ وَمَمَاتِي } إثباتُ توحيدِ الربُوبيَّةِ.
قولُهُ: { للهِ } اللهُ: عَلَمٌ على الذاتِ الإلهيَّةِ.
قولُهُ: { رَبِّ الْعَالَمِينَ }المرادُ بالعالمينَ:ما سِوى اللهِ، وسُمِّيَ بذلكَ؛ لأنَّهُ علَمٌ على خالِقِهِ.
والرَّبُّ هنا: المالكُ المُتَصَرِّفُ،وهذهِ ربوبيَّةٌ مُطْلَقَةٌ.
قولُهُ: { لاَ شَرِيكَ لَهُ } الجملةُ حاليَّةٌ منْ قوْلِهِ: {للهِ} أيْ: حالَ كوْنِهِ لا شريكَ لهُ، واللهُ سبحانَهُ لا شريكَ لهُ في عبادَتِهِ، ولا في رُبُوبيَّتِهِ، ولا أسمائِهِ وصفاتِهِ؛ ولهذا قالَ تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }.
قولُهُ: { بذَلِكَ } الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بأُمِرْتُ، فيكونُ دالًّا على الحَصْرِ والتخصيصِ، وإنَّما خُصَّ بذلكَ؛ لأنَّهُ أعظمُ المأموراتِ وهو الإخلاصُ للهِ تعالى ونفيُ الشِّركِ فكأنَّهُ ما أمرَ إلاَّ بهذا.
ومعلومٌ أنَّ مَنْ أخلصَ للهِ تعالى فسيقومُ بعبادةِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى في جميعِ الأمورِ.
قولُهُ: { أُمِرْتُ } إبهامُ الفاعلِ هنا مِنْ بابِ التعظيمِ والتفخيمِ، وإلاَّ فمِن المعلومِ أنَّ الآمِرَ هوَ اللهُ تعالى.
قوْلُهُ: يحتملُ: أنَّ المُرَادَ الأوَّلِيَّةُ الزمنيَّةُ، فيتعَيَّنُ أنْ يكونَ المرادُ: أنا أوَّلُ المسلمينَ مِنْ هذهِ الأُمَّةِ؛ لأنَّهُ سبَقَهُ في الزمنِ مَنْ أسْلَمُوا.
ويَحْتَمِلُ:أنَّ المرادَ الأوَّليَّةُ المعنوِيَّةُ؛ فإنَّ أعْظَمَ الناسِ إسلامًا وأتمَّهُم انقيادًا هوَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فتكونُ الأوَّليَّةُ أوَّليَّةً مُطْلَقَةً.
قولُهُ: { الْمُسْلِمِينَ }الإسلامُ عندَ الإطلاقِ يشملُ الإيمانَ؛ لأنَّ المرادَ بهِ الاستسلامُ للهِ ظاهرًا وباطنًا، ويدلُّ لذلكَ قولُهُ تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }، وهذا إسلامُ الباطنِ.
وقوْلُهُ: { وَهُوَ مُحْسِنٌ } هذا إسلامٌ للظاهرِ، وكذا قولُهُ تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } يشملُ الإسلامَ الباطنَ والظاهرَ، وإذا ذُكِرَ الإيمانُ دخلَ فيهِ الإسلامُ، قالَ تعالى: { وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }.
ومتى وُجِدَ الإيمانُ حقًّا لَزِمَ منْ وجودِهِ الإسلامُ.
وأمَّا إذا قُرِنَا جميعًا صارَ الإسلامُ في الظاهرِ، والإيمانُ في الباطنِ،مثلَ حديثِ جبريلَ، وفيهِ: ((أَخْبِرْنِي عَن الإسْلامِ)) فأخْبَرَهُ عنْ أعمالٍ ظاهرةٍ، و((أخْبِرْنِي عن الإيمانِ)) فأخْبَرَهُ عنْ أعمالٍ باطنةٍ.
وكذا: قولُهُ تعالى:{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَـكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }.
والشاهدُ منْ هذهِ الآيةِ التي ذكرَ{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }ها المؤلِّفُ:
أنَّ الذَّبْحَ لا بُدَّ أنْ يكونَ خالصًا للهِ.
(3) قولُهُ: { فَصَلِّ } الفاءُ للسببيَّةِ عاطفةٌ على قولِهِ:{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أيْ: بسببِ إعطائِنَا لكَ ذلكَ صَلِّ لربِّكَ وانْحَرْ شُكْرًا للهِ تعالى على هذه النعمةِ.
والمرادُ بالصلاةِ هنا الصلاةُ المعروفةُ شرْعًا.
وقولُهُ:{ وَانْحَرْ } المرادُ بالنَّحْرِ الذَّبْحُ، أي: اجْعَلْ نحْرَكَ للهِ كما أنَّ صلاتَكَ لهُ، فأفادتْ هذهِ الآيةُ الكريمةُ أنَّ النَّحْرَ من العبادةِ؛ ولهذا أمرَ اللهُ بهِ وقرَنَهُ بالصلاةِ.
قال ابن تيمية: (أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السورة ـ يعني الكوثر ـ بأجلّ القرب إلى الله؛ إذ الصلاة أجل العبادات البدنية، والنحر أجل العبادات المالية) ا.هـ.
كذا قال أبو العباس -رحمه الله- (وفي كون النحر أجل العبادات المالية نظر؛ لمقام الزكاة في الشرع فهي أجل).
وقولُهُ: {وَانْحَرْ}مُطْلَقٌ، فيدخلُ فيهِ كلُّ ما ثبَتَ في الشَّرعِ مشروعيَّتُهُ للنحرِ، وهيَ ثلاثةُ أشياءَ: الأضاحيُّ، والهدايا، والعقائقُ. فهذهِ الثلاثةُ يُطْلَبُ من الإنسانِ أنْ يفعلَهَا.
أمَّا الهدايا:فمنها واجبٌ، ومنها مُسْتَحَبٌّ.
- فاالواجبُ كما في التمَتُّعِ:{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }.
- وكما في المُحْصَرِ:{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }.
- وكما في حَلْقِ الرأسِ:{ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }.
هذا إنْ صحَّ أنْ نقُولَ: إنَّها هدْيٌ، ولكن الأَوْلَى أنْ نُسَمِّيَها كما سمَّاها اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّها بمنزلةِ الكَفَّارَةِ.
وأمَّا الأضاحيُّ:
فاختلفَ العلماءُ فيها:
- فمِنْهُمْ مَنْ قالَ: إنَّها واجبةٌ.
- ومنهمْ مَنْ قالَ: إنَّها مُستحبَّةٌ.
وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنَّها مستحَبَّةٌ، وأنَّهُ يُكْرَهُ للقادرِ ترْكُها.
ومذهبُ أبي حنيفةَ رَحِمَهُ اللهُ أنَّها واجبةٌ على القادرِ، واختارهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ.
والأُضْحِيَّةُ ليْسَتْ عن الأمواتِ كما يفْهَمُهُ العوامُّ،بلْ هيَ للأحياءِ، وأمَّا الأمواتُ فليسَ مِن المشروعِ أنْ يُضَحَّى لَهُم استقلالاً، إلاَّ إنْ أَوْصَوْا بهِ فعلَى ما أَوْصَوْا بهِ؛ لأنَّ ذلكَ لم يَرِدْ عن الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وأمَّا العقيقةُ: وهيَ التي تُذْبَحُ عن المولودِ في يومِ سابعِهِ، إنْ كانَ ذكرًا فاثنتانِ، وإنْ كانَت أُنْثى فواحدةٌ،وتُجزِئُ الواحدةُ معَ الإعسارِ في الذُّكورِ، وهيَ سُنَّةٌ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ.
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ:
إنَّها واجبةٌ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كُلُّ غُلاَمٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ)).
(4) قوْلُهُ: (كلماتٍ) جمعُ كلمةٍ، والكلمةُ في اصطلاحِ النحوِيِّينَ: القولُ المُفْرَدُ.
أمَّا باعتبارِ اللغةِ: فهيَ لكلِّ ما أفادَ، قالَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ: أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ ما خَلاَ اللهَ بَاطِلُ)).
وقالَ تعالى: { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } وهيَ قوْلُهُ: { رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ }.
قالَ شيخُ الإسلامِ:(لا تُطْلَقُ الكلمةُ في اللغةِ العربيَّةِ إلاَّ على الجملةِ المفيدةِ).
(5) قولُهُ: ((لَعَنَ اللهُ)) اللعنُ مِن اللهِ: الطَّرْدُ والإبعادُ عنْ رحمةِ اللهِ.
فإذا قيلَ:لعَنَهُ اللهُ، فالمعنى: طرَدَهُ وأبْعَدَهُ عنْ رحْمَتِهِ.
وإذا قيلَ:اللهُمَّ الْعَنْ فلانًا،فالمعنى: أبْعِدْهُ عنْ رحْمَتِكَ، واطْرُدْهُ عنها.
وقولُهُ: ((لَعَنَ)) يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ الجملةُ خبريَّةً، وأنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أنَّ اللهَ لَعَنَ مَنْ ذَبَحَ لغيرِ اللهِ.
- ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ إنشائِيَّةً بلفظِ الخبرِ، أي: اللهُمَّ الْعَنْ مَنْ ذَبَحَ لغيرِ اللهِ، والخبرُ أبْلَغُ؛ لأنَّ الدعاءَ قدْ يُسْتَجَابُ، وقدْ لا يُسْتَجَابُ.
قولُهُ: ((مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ))عامٌّ يشملُ مَنْ ذبح بعيرًا، أوْ بقرةً، أوْ دَجَاجةً، أوْ غيْرَهَا.
قولُهُ: ((لِغَيْرِ اللهِ))يشملُ كلَّ مَنْ سِوى اللهِ، حتَّى لوْ ذَبَحَ لنبيٍّ، أوْ مَلَكٍ، أوْ جِنِّيٍّ، أوْ غيْرِهِم.
(6) قولُهُ:((والِدَيْهِ))يشملُ الأبَ والأُمَّ، ومَنْ فوْقَهُما؛ لأنَّ الجدَّ أَبٌ، كما أَنَّ أولادَ الابنِ والبنتِ أبناءٌ.
والمسألةُ هنا ليسَتْ ماليَّةً، بلْ هيَ من الحقوقِ، ولَعْنُ الأدْنَى أشدُّ منْ لعْنِ الأعلى؛ لأنَّهُ أوْلَى بالبِرِّ.
قولُهُ: ((مَنْ لَعَنَ والِدَيْهِ)) أيْ: سبَّهُما وشتَمَهُمَا، فاللَّعْنُ مِن الإنسانِ السبُّ والشتْمُ، فإذا سَبَبْتَ إنسانًا أوْ شتَمْتَهُ فهذا لَعْنُهُ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قيلَ لهُ: كيفَ يَلْعَنُ الرجلُ والديْهِ؟
قالَ: ((يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)).
وأخذَ الفقهاءُ منْ هذا الحديثِ قاعدةً وهيَ: (أنَّ السبَبَ بمنزلةِ المباشرةِ في الإثمِ، وإنْ كانَ يُخالِفُهُ في الضمانِ على تفصيلٍ في ذلكَ عندَ أهلِ العلمِ).
(7) قولُهُ:((مَنْ آوَى مُحْدِثًا)) أيْ: ضَمَّهُ إليهِ وحمَاهُ، والإِحْدَاثُ: يشملُ الإحداثَ في الدِّينِ كالبِدَعِ التي أحْدَثَها الجَهْمِيَّةُ والمعتزِلَةُ، وغيْرُهُم.
والإحداثُ في الأمرِ:أيْ: في شُئُونِ الأُمَّةِ، كالحدودِ وشَبَهِها، فمَنْ آوَى مُحْدِثًا فهوَ ملعونٌ، وكذا مَنْ ناصَرَهُمْ؛ لأنَّ الإيواءَ هوَ كفُّ الأذى عنْهُ، فمَنْ ناصَرَهُ فهوَ أشدُّ وأعظمُ.
والمُحْدِثُ أشدُّ منهُ؛ لأنَّهُ إذا كانَ إيوَاؤُهُ سببًا للَّعْنَةِ فإنَّ نفْسَ فعْلِهِ جُرمٌ أعظمُ.
ففيهِ التحذيرُ من البدعِ والإحداثِ في الدِّينِ،قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) وظاهرُ الحديثِ: ولَوْ كانَ أمْرًا يسيرًا.
(8) قولُهُ:((مَنَارَ الأَرْضِ)) أيْ: علامَاتِها ومَرَاسِيمَها التي تُحَدِّدُ بينَ الجيرانِ، فمَنْ غيَّرَها ظُلْمًا فهوَ ملعونٌ، وما أكثرَ الذينَ يُغَيِّرونَ منارَ الأرضِ، لا سيَّمَا إذا زادَتْ قيمَتُها، وما عَلِمُوا أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)) فالأمرُ عظيمٌ معَ أنَّ هذا الذي يقْتَطِعُ مِن الأرضِ ويُغَيِّرُ المنارَ ويأخذُ ما لا يستحقُّ، لا يدْرِي، قدْ يستفيدُ منها في دُنْيَاهُ، وقدْ يَمُوتُ قبْلَ ذلكَ، وقدْ يُسَلَّطُ عليهِ آفَةٌ تَأْخُذُ ما أَخَذَ.
فالحاصلُ:أنَّ هذا دليلٌ على أنَّ تغييرَ منارِ الأرضِ مِنْ كبائرِ الذنوبِ، ولهذا قَرَنَهُ اللهُ تعالى بالشِّركِ وبالعقوقِ وبالإحداثِ، ممَّا يدلُّ على أنَّ أمْرَهُ عظيمٌ، وأنَّهُ يجِبُ على المرْءِ أنْ يَحْذَرَ منهُ، وأنْ يخافَ اللهَ سبحانَهُ وتعالى حتَّى لا يَقَعَ فيهِ.
(9) قولُهُ:((فِي ذُبَابٍ))في للسببيَّةِ، وليسَتْ للظرْفِيَّةِ، أيْ: بسببِ ذُبابٍ. ونظيرُهُ قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا...)) الحديثَ، أيْ: بسببِ هِرَّةٍ.
(10) قولُهُ:((فَدَخَلَ النَّارَ)) معَ أنَّهُ ذبحَ شيئًا حقيرًا لا يُؤْكَلُ، لكنْ لمَّا نوى التقَرُّبَ بهِ إلى هذا الصنَمِ صارَ مُشرِكًا فدخلَ النارَ.
(11) فيهِ مسائلُ:
الأولى:(تفسيرُ { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي })وقدْ سبَقَ ذلكَ في أوَّلِ البابِ.
(12) الثانيةُ:(تفسيرُ { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }) وقدْ سبقَ ذلكَ في أوَّلِ البابِ.
(13) الثالثةُ: (البدَاءةُ بلَعْنَةِ مَنْ ذبَحَ لغيرِ اللهِ)
بدأَ بهِ؛ لأنَّهُ مِن الشركِ، واللهُ إذا ذَكَرَ الحقوقَ يَبْدَأُ أوَّلاً بالتوحيدِ؛ لأنَّ حقَّ اللهِ أعظمُ الحقوقِ، قالَ تعالى:{ وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } وقالَ تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } وينْبَغِي أنْ يبْدَأَ في المناهي والعقوباتِ بالشركِ وعقوبَتِهِ.
(14) الرابعةُ:(لعْنُ مَنْ لَعَنَ والدَيْهِ) ولعنُ الرجُلِ للرجلِ لهُ معنيانِ:
الأوَّلُ:الدعاءُ عليهِ باللعنِ.
الثاني:سبُّهُ وشتْمُهُ؛لأنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فسَّرَهُ بقوْلِهِ:((يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ)).
(15) الخامسةُ: (لعْنُ مَنْ آوَى مُحدِثًا)
وقدْ سبقَ أنَّهُ يشملُ الإحداثَ في الدِّينِ والحدود، فمَنْ آوى مُحْدِثًا ببدعةٍ فهو داخلٌ في ذلكَ، ومَنْ آوى محدِثًا بجريمةٍ فهو داخلٌ في ذلكَ.
(16) السادسةُ: (لعْنُ مَنْ غيَّرَ منارَ الأرضِ)
وسواءٌ كانتْ بيْنَكَ وبينَ جارِكَ، أوْ بيْنَكَ وبينَ السُّوقِ مثلاً؛ لأنَّ الحديثَ عامٌّ.
(17) السابعةُ:(الفرقُ بينَ لعْنِ المُعَيَّنِ ولعْنِ أهلِ المعاصي على سبيلِ العُمومِ) فالأَوَّلُ ممنوعٌ، والثاني جائزٌ، فإذا رأَيْتَ مَنْ آوى محْدِثًا فلا تقُلْ: لعَنَكَ اللهُ، بلْ قُلْ: لعنَ اللهُ مَنْ آوى مُحدِثًا على سبيلِ العمومِ، والدليلُ على ذلكَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لمَّا صارَ يَلْعَنُ أُنَاسًا مِن المشركينَ مِنْ أهلِ الجاهليَّةِ بقوْلِهِ:((اللهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا)) نُهِيَ عَن ذلكَ بقوْلِهِ تعالى:{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }.
فالمُعَيَّنُ ليسَ لكَ أنْ تَلْعَنَهُ،وكَمْ منْ إنسانٍ صارَ على وصْفٍ يستحقُّ بهِ اللعنةَ ثمَّ تابَ فتابَ اللهُ عليهِ، إذَنْ يُؤْخَذَ هذا مِنْ دليلٍ مُنْفَصِلٍ، وكأنَّ المُؤَلِّفَ رحِمَهُ اللهُ قالَ: الأصلُ عدمُ جوازِ إطلاقِ اللعنِ، فجاءَ هذا الحديثُ لاعنًا للعمومِ، فيبقى الخصوصُ على أصْلِهِ؛ لأنَّ المسلمَ ليسَ بالطَّعَّانِ ولا باللَّعَّانِ، والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ليسَ طَعَّانًا ولا لعَّانًا، ولعلَّ هذا وجهُ أخْذِ الحُكْمِ مِن الحديثِ، وإلاَّ فالحديثُ لا تَفْرِيقَ فيهِ.
(18) الثامنةُ: (هذهِ القصَّةُ العظيمةُ وهيَ قصَّةُ الذُّبابِ)
كأنَّ المؤلِّفَ رحِمَهُ اللهُ يُصَحِّحُ الحديثَ، ولهذا بَنى عليهِ حُكْمًا، والحكْمُ المأخوذُ مِنْ دليلٍ فرعٌ عنْ صِحَّتِهِ، والقصَّةُ معروفةٌ.
(19) التاسعةُ: (كوْنُهُ دخلَ النارَ بسببِ ذلكَ الذُّبابِ الذي لمْ يَقْصِدْهُ، بلْ فَعَلَهُ تخلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ)
هذهِ المسألةُ ليسَتْ مُسَلَّمَةً؛ فإنَّ قولَهم: قَرِّبْ ولوْ ذبابًا، يقتضي أنَّهُ فعَلَهُ قاصدًا التقرُّبَ، أمَّا لوْ فعَلَهُ تخلُّصًا مِنْ شرِّهم فإنَّهُ لا يَكْفُرُ لعدمِ قصْدِ التقَرُّبِ؛ ولهذا قالَ الفقهاءُ: لوْ أُكْرِهَ على طلاقِ امرَأَتِهِ فطَلَّقَ تبَعًا لقولِ المُكْرِهِ لمْ يَقَع الطلاقُ، فإنْ قصدَ الطلاقَ فإنَّ الطلاقَ يقعُ، وإنْ طلَّقَ دَفْعًا للإكراهِ لم يَقَعْ، وهذا حقٌّ لقوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وظاهرُ القصَّةِ أنَّ الرجلَ ذَبَحَ بنيَّةِ التقرُّبِ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ فِعْلاً بُنِيَ عَلى طَلَبٍ يكونُ مُوافِقًا لهذا الطلبِ.
ونحنُ نرى خلافَ ما يرى المؤلِّفُ رحِمَهُ اللهُ، أيْ: أنَّهُ لوْ فعَلَهُ بقَصْدِ التخلُّصِ ، ولمْ يَنْوِ التقَرُّبَ لهذا الصنمِ لا يَكْفُرُ؛ لعمومِ قولِهِ تعالى:{ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا }.
وهذا الذي فعَلَ ما يُوْجِبُ الكُفْرَ تخلُّصًا مُطْمَئِنٌّ قلْبُهُ بالإيمانِ.
والصوابُ أيضًا: أنَّهُ لا فرْقَ بينَ القولِ المُكْرَهِ عليهِ والفِعْلِ،وإنْ كانَ بعضُ العلماءِ يُفَرِّقُ ويقولُ: إذا أُكْرِهَ على القولِ لمْ يَكْفُرْ، وإذا أُكرِهَ على الفعلِ كَفَرَ، ويستدلُّ بقصَّةِ الذبابِ. وقصةُ الذبابِ فيها نظَرٌ منْ حيثُ حُجِّيَّتُهَا، وفيها نظرٌ مِنْ حيثُ الدلالَةُ لما سبقَ أنَّ الفعلَ المبنيَّ على طلبٍ يكونُ موافقًا لهذا الطلبِ.
ولوْ فُرِضَ أنَّ الرجلَ تقرَّبَ بالذبابِ تخلُّصًا مِنْ شرِّهِم فإنَّ لديْنَا نصًّا مُحْكَمًا في المسألةِ، وهو قولُهُ تعالى:{ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ } الآيةَ، ولم يقُلْ بالقولِ، فما دامَ عنْدَنا نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ فإنَّهُ لوْ وَرَدَت السُّنَّةُ صحيحةً على وجهٍ مُشْتَبِهٍ فإنَّها تُحْمَلُ على النصِّ الْمُحْكَمِ.
والخُلاصَةُ: أنَّ مَنْ أُكْرِهَ على الكفرِلمْ يكُنْ كافرًا ما دامَ قلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بالإيمانِ ولمْ يَشْرَحْ بالكُفْرِ صدرًا.
(20) العاشرةُ:(معرفةُ قَدْرِ الشِّركِ في قلوبِ المؤمنينَ.. ) إلخ وقدْ بيَّنَها المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ.
مسألةٌ:
هلَ الأَوْلَى للإنسانِ أنْ يَصْبِرَ إذا أُكْرِهَ على الكُفْرِ ويُقْتَلَ؟
أوْ يُوافِقَ ظاهرًا ويتَأَوَّلَ؟
هذه المسألةُ فيها تفصيلٌ:
أوَّلاً:أنْ يُوَافِقَ ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّهُ رِدَّةٌ.
ثانيًا:أنْ يُوَافقَ ظاهرًا لا باطنًا، ولكنْ يقْصِدُ التخَلُّصَ مِن الإكراهِ، فهذا جائزٌ.
ثالثًا:أنْ لا يُوَافِقَ لا ظاهرًا ولا باطنًا ويُقْتَلُ، وهذا جائزٌ وهوَ مِن الصَّبْرِ.
لكنْ أيُّهُمَا أَوْلَى؛ أنْ يصْبِرَ ولوْ قُتِلَ، أوْ أنْ يُوَافِقَ ظاهرًا؟
فيهِ تفصيلٌ: إذا كانَ الإكراهُ لا يتَرَتَّبُ عليهِ ضررٌ في الدِّينِ للعامَّةِ فإنَّ الأَوْلَى أنْ يُوَافِقَ ظاهِرًا لا باطنًا، لا سيَّمَا إذا كانَ بقَاؤُهُ فيهِ مصلحةٌ للناسِ، مثلَ: صاحبِ المالِ الباذلِ فيما يَنْفَعُ، أو العلْمِ وما أشْبَهَ ذلكَ، حتَّى وإنْ لَمْ يكُنْ فيهِ مصلحةٌ، ففي بقائِهِ على الإسلامِ زيادةُ عَمَلٍ، وهو خَيْرٌ، هُوَ قدْ رُخِّصَ لهُ أنْ يكفُرَ ظاهرًا عندَ الإكراهِ، فالأَوْلَى أنْ يتأَوَّلَ ويُوَافِقَ ظاهِرًا لا باطنًا.
أمَّا إذا كانَ في مُوَافقَتِهِ وعدمِ صبْرِهِ ضررٌ على الإسلامِ فإنَّهُ يَصْبِرُ،وقدْ يجبُ الصبرُ؛ لأنَّهُ مِنْ بابِ الصبرِ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وليسَ مِنْ بابِ إبقاءِ النفْسِ؛ ولهذا لمَّا شَكَى الصحابةُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ما يجِدُونَهُ مِنْ مضايقةِ المشركينَ قَصَّ عليهِم قصَّةَ الرجلِ فيمَنْ كانَ قبْلَنَا بأنَّ الإنسانَ كانَ يُمْشَطُ ما بينَ لَحْمِهِ وجلْدِهِ بأمشاطِ الحديدِ ويصْبِرُ، فكأنَّهُ يقولُ لهم: اصْبِرُوا عَلى الأذى.
ولوْ حصَلَ مِن الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهُم في ذلكَ الوقتِ موافقةٌ للمشركينَ وهمْ قِلَّةٌ لحَصَلَ بذلكَ ضرَرٌ عظيمٌ على الإسلامِ.
والإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ في المِحْنةِ المشهورةِ لوْ وافقَهُم ظاهرًا لحصلَ في ذلكَ مَضَرَّةٌ على الإسلامِ.
(21) الحاديةَ عشْرةَ:(أنَّ الذي دخلَ النارَ مُسْلِمٌ؛ لأنَّهُ لوْ كانَ كافرًا لم يقُلْ: ((دخلَ النارَ في ذُبَابٍ))) وهذا صحيحٌ، أيْ: أنَّهُ كانَ مسلمًا ثُم كفَرَ بتقريبِهِ للصنمِ، فكانَ تقرِيبُهُ هُوَ السببَ في دخولِهِ للنَّارِ.
ولوْ كانَ كافِرًا قبلَ أنْ يُقرِّبَ الذبابَ لكانَ دخولُهُ النارَ لكُفْرِهِ الأوَّلِ، لا بتقريبِهِ الذبابَ.
(22) الثانيةَ عشرةَ:(فيهِ شاهدٌ للحديثِ الصحيحِ:((الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ))) والغرضُ منْ هذا الترغيبُ والترهيبُ. فإذا عَلِمَ أنَّ الجنَّةَ أقربُ إليهِ مِنْ شِراكِ النعلِ، فإنَّهُ يَنْشَطُ على السَّعْيِ فيقولُ ليْسَتْ بعيدةً.
والنارُ إذا قيلَ لهُ: إنَّها أقربُ مِنْ شراكِ النعلِ يَخَافُ ويتوَقَّى في مشْيِهِ؛ لِئَلاَّ يَزِلَّ فيَهْلِكَ، ورُبَّ كلمةٍ تُوصِلُ الإنسانَ إلى أعلَى علِّيِّينَ، وكلمةٍ أُخْرَى تُوصِلُهُ إلى أسفلَ سافلِينَ.
(23) الثالثةَ عشرةَ:(معرفةُ أنَّ عملَ القلبِ هوَ المقصودُ الأعظمُ حتَّى عِندَ عَبَدَةِ الأوثانِ) والحقيقةُ أنَّ هذهِ المسألةَ مَع التاسعةِ فيهما شِبْهُ تناقُضٍ؛ لأنَّهُ في هذهِ المسألةِ أحالَ الحُكْمَ على عمَلِ القلبِ، وفي التاسعةِ أحَالَهُ على الظاهرِ، فقالَ: بسببِ ذلكَ الذبابِ الذي لمْ يقْصِدْهُ بلْ فعَلَهُ تخَلُّصًا مِنْ شَرِّهم.
ومُقتضى ذلكَ أنَّ باطِنَهُ سليمٌ، وهنا يقولُ: إنَّ العملَ بعملِ القلبِ، ولا شكَّ أنَّ ما قالهُ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ حقٌّ بالنسبةِ إلى أنَّ المَدَارَ على القلبِ.
والحقيقةُ أنَّ العملَ مُرَكَّبٌ على القلبِ، والناسُ يختلفونَ في أعمالِ القلوبِ أكثرَ مِن اختلافِهم في أعمالِ الأبدانِ، والفرقُ بيْنَهُم قَصْدًا وذُلًّا أعظمُ من الفرقِ بينَ أعمالِهم البدنيَّةِ؛ لأنَّ مِن الناسِ مَنْ يعبدُ اللهَ لكنْ عنْدَهُ مِن الاستكبارِ ما لا يَذِلُّ مَعَهُ ولا يُذْعِنُ لكلِّ حقٍّ.
وبعضُهم يكونُ عنْدَهُ ذلٌّ للحقِّ، لكِنْ عندَهُ نقصٌ في القَصْدِ، فتجدُ عنْدَهُ نوعًا مِن الرياءِ مثلاً. فأعمالُ القلبِ وأقوالُهُ لها أهمِّيَّةٌ عظيمةٌ، فعلَى الإنسانِ أنْ يُخْلِصَها للهِ.
وأقوالُ القلبِ هيَ:اعتقادَاتُهُ، كالإيمانِ باللهِ، وملائكتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسلِهِ، واليومِ الآخرِ، والقدَرِ خيرِه وشرِّهِ.
وأعمالُهُ هيَ:تحرُّكَاتُهُ، كالحُبِّ، والخوفِ، والرجاءِ، والتوكُّلِ، والاستعانةِ، وما أشْبَهَ ذلكَ.
والدواءُ لذلكَ:القرآنُ والسُّنَّةُ، والرجوعُ إلى سيرةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بمعرفةِ أحوَالِهِ وأقوالِهِ، وجهادِهِ ودعوتِهِ، هذا ممَّا يُعِينُ على جهادِ القلبِ.
ومِنْ أسبابِ صلاحِ القلبِ أنْ لا تُشْغِلَ قلْبَكَ بالدُّنْيَا.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الشيخ رحمه الله: (باب ما جاء في الذبح لغير الله) الذبح: معروف، وهو إراقة الدم.
و(لغير الله) (اللام) هذه، يعني: متقرباً به إلى غير الله، ذبح لأجل غير الله.
والذبح فيه شيئان مهمان، وهما نكتة هذا الباب وعقدته:
الأول: الذبح باسم الله، أو الذبح بالإهلال باسمٍ ما.
والثاني: أن يذبح متقرباً لما يريد أن يتقرب إليه.
فإذاً: ثَمَّ تسمية، وثَمَّ القصد، وهما شيئان.
أما التسمية: فظاهر أن ما ذكر عليه اسم الله فإنه جائز {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} وأن ما لم يذكر اسم الله عليه؛ فهذا الذي أهل لغير الله، يعني: ذكر غير اسم الله عليه، فهذا أُهِلَّ لغير الله به {وما أهل به لغير الله}{وما أهل لغير الله به}.
التسمية على الذبيحة من جهة المعنى: استعانة،فإذا سمّى الله فإنه استعان في هذا الذبح بالله جل وعلا؛ لأن الباء في قولك: (بسم الله) يعني: أذبح متبركاً ومستعيناً بكل اسمٍ لله جلّ وعلا، أو بالله -جل وعلا- الذي له الأسماء الحسنى، فإذاً: جهة التسمية جهة استعانة، وأما القصد: فهذه جهة عبودية ومقاصد، فذبَحَ باسم الله لله، كانت الاستعانة بالله، والقصد من الذبح: أنه لوجه الله، تقرباً لله جل وعلا، فصارت الأحوال عندنا أربع:
الأولى: أن يذبح باسم الله لله، وهذا هو التوحيد.
والثانية: أن يذبح باسم الله لغير الله، وهذا شرك في العبادة.
والثالث: أن يذبح باسم غير الله لغير لله،وهذا شرك في الاستعانة، وشرك في العبادة أيضا.
والرابع: أن يذبح بغير اسم الله ويجعل الذبيحة لله، وهذا شرك في الربوبية.
فإذاً: الأحوال عندنا أربعة: إما أن يكون تسمية مع القصد لله -جل وعلا- وحده، وهذا هو التوحيد، وهو العبادة، فالواجب أن يذبح لله قصداً تقرباً، وأن يسمي الله -جل وعلا- على الذبيحة.
فإن لم يسم الله -جل وعلا- وترك التسمية عمداً فإن الذبيحة لا تحل.
وإن لم يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله -جل وعلا- ولا التقرب لغيره، وإنما ذبحها لأجل أضياف عنده، أو لأجل أن يأكلها، يعني: ذبحها لقصد اللحم، لم يقصد بها التقرب؛ فهذا جائز، وهو من المأذون فيه؛ لأن الذبح لا يشترط فيه أن ينوي الذابح التقرب بالذبيحة إلى الله جل وعلا.
فإذاً: صار عندك المسألة الأولى، أو الحال الأولى،مهمة: أن تعلم أن ذكر اسم الله على الذبيحة واجب، وأن يكون قصدك بالتقرب بهذه الذبيحة إن نويت بها تقرباً، أن يكون لله لا لغيره، وهذا مثل ما يذبح من الأضاحي، أو يذبح من الهدي، أو نحو ذلك مما يذبحه المرء تعظيماً لله جل وعلا، عقيقة ونحو ذلك مما أُمر به شرعاً؛ فهذا تذبحه لله، يعني: تقصد التقرب لله بهذه الذبيحة، فهذا من العبادات العظيمة التي يحبها الله جل وعلا، وهي عبادة النحر والذبح، قد يذبح باسم الله ولكن يقول أريدها للأضياف، أريدها للحم، آكل لحماً، ولم أتقرب بها لغير الله، أيضاً لم أتقرب بها لله، فنقول: هذه الحالة جائزة؛ لأنه سمى باسم الله ولم يذبح لغير الله، فليس داخلاً في الوعيد ولا في النهي، بل ذلك من المأذون فيه.
الحال الثانية:أن يذبح باسم الله ويقصد بالتقرب أن هذه الذبيحة لغير الله، فيقول مثلاً: باسم الله، وينحر الدم وهو ينوي بإزهاق النفس وبإراقة الدم: ينوي التقرب لهذا العظيم المدفون، لهذا النبي أو لهذا الصالح، فهذا ولو ذبح باسم الله فإن الشرك حاصل من جهة أنه أراق الدم تعظيماً للمدفون، تعظيماً لغير الله.
كذلك:يدخل فيه أن يذكر اسم الله على الذبيحة أو على المنحور، ويكون قصده بالذبح أن يتقرب به للسلطان، أو للملوك، أو لأمير ما، وهذا يحدث عند بعض البادية، وكذلك بعض الحضر إذا أرادوا أن يعظموا ملكاً قادماً، أو أميراً قادماً، أو أن يعظموا سلطاناً، أو شيخ قبيلة، فإنهم يستقبلونه بالجمال، يستقبلونه بالبقر، يستقبلونه بالشياة، يعني: بالضأن، الخرفان، ويذبحونها في وجهه، فيسيل الدم عند إقباله، هذا ذبح ولو سمى الله عليه، لكن تكون الذبيحة قُصِد بها غير الله جل وعلا، وهذه أفتى العلماء بتحريمها؛ لأن فيها إراقة دم لغير الله جل وعلا، فلا يجوز أكلها، ومن باب أولى -قبل ذلك- لا يجوز تعظيم أولئك بمثل هذا التعظيم؛ لأن إراقة الدم إنما يعظم به الله -جل وعلا- وحده؛ لأنه هو الذي سبحانه يستحق العبادة والتعظيم بهذه الأشياء، وهو الذي أجرى الدماء في العروق سبحانه وتعالى.
الحال الثالثة:أن يذكر غير اسم الله، وأن يقصد بالذبيحة غير الله جل وعلا، فيقول مثلاً: (باسم المسيح) ويحرك يده، ويقصد بها التقرب للمسيح؛ فهذا الشرك جمع شركاً في الاستعانة، وشركاً في العبادة؛ أو أن يذبح باسم البدوي، أو باسم الحسين، أو باسم السيدة زينب، أو باسم العيدروس، أو باسم المرغيناني، أو نحو ذلك من الناس الذين توجه إليهم بعض الخلق بالعبادة، فيذبح باسمها، ويقصد بها هذا المخلوق، يعني: ينوي حين ذبح أن يريق الدم تقرباً لهذا المخلوق، فهذا الشرك جاء من جهتين:
الجهة الأولى: جهة الاستعانة.
والجهة الثانية: جهة العبودية، والتعظيم، وإراقة الدم لغير الله جل وعلا.
والرابع:أن يذبح باسم غير الله ويجعل ذلك لله جل وعلا، وهذا نادر، وربما حصل، من أنه يذبح للمعظَّم، يذبح للبدوي، أو يذبح للعيدروس، أو يذبح للشيخ عبد القادر، أو نحو ذلك، ثم ينوي بهذا أن يتقرب إلى الله جل وعلا، وهذا في الحقيقة راجع إلى الشرك في الاستعانة، والشرك في العبادة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معرض كلام له في هذه المسائل، قال: (ومعلوم أن الشرك في العبودية أعظم من الاستعانة بغير الله) فهذه المراتب كلها شرك بالله جل وعلا.
والحال الثانية: الصورة منها أنه يذبح لسلطان ونحوه، بعض العلماء ما أطلق عليها أنها شرك؛ وإنما قال: تحرم لأجل أنه لا يقصد بذلك تعظيم الله جل وعلا.
المقصود:أن الشرك بقصد الذبح لغير الله شرك في العبودية، والشرك بذكر غير اسم الله على الذبيحة شرك في الاستعانة؛ ولهذا قال جل وعلا: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإنَّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} يعني: إن أطعتموهم في الشرك فإنكم مشركون كما أنهم مشركون.
أُنبِّه على مسألة، ألا وهي: أن الكلام في مسائل التوحيد تقريراً واستدلالاً، وبيان وجه الاستدلال من الأمور الدقيقة، والتعبير عنها يحتاج إلى دِقَّة من جهة المعبِّر، وأيضاً من جهة المتلقي؛ أقول هذا لأن بعض الإخوة استشكلوا بعض العبارات، ومدار الاستشكال أنهم ما دققوا فيما قيل:
- إما أن يحذفوا قيداً.
- أو يحذفوا كلمة.
- أو يأخذ المعنى الذي دل عليه الكلام ويعبر عنه بطريقته، وهذا غير مناسب، لهذا ينبغي أن يكون المتلقي لهذا العلم دقيقاً فيما يسمع؛ لأن كل مسألةٍ لها ضوابطها ولها قيودها، وأيضاً بعض المسائل يكون الكلام عليها تارةً مجملاً، وفي بعض ما سَمِعَه المتلقي يكون سمع أحد الأحوال وهي فيها تفصيل، ويكون الكلام عليها من حيث الإجمال غير الكلام عليها من حيث التفصيل.
سؤال: يقول: فضيلة الشيخ: مما يقع فيه كثير من الناس أنه إذا حصل له أمر ونجا منه فإنه يجب عليه أن يتصدق.
جواب:الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب، والشكر لله -جل وعلا- على نعمه إذا نُجِّيَ العبد من بلاء، أو حصلت له مسرة: يكون تارة بالسجود، وتارة بالصلاة، أو بالصدقة، شكراً لله -جل وعلا- على نعمه، وهذا كله من المستحب وليس من الواجب، إلا إذا كان ثَمَّ نذر، نذر أنه إن نُجي من كذا وكذا فإنه سيتصدق، فهنا يكون ألزم نفسه بعبادة ألا وهي الصدقة إذا حصل له كذا وكذا، فتكون واجبة بالنذر، أما أصل الصدقة فهو مستحب، وإذا كانت في مقابلة نعمة، أو اندفاع نقمة، فهي أيضاً مستحبة وليست بواجبة، لا تجب إلا إذا نذر وتحقق المشروط.
سؤال: وهذا يقول: عندنا عادة وهي أن من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء بتعدٍّ من أحدهما على الآخر، فيطلبون من أحدهما أن يذبح، ويسمون ذلك (ذبح صلح)، فيذبح ويحضرون من حصلت معه العداوة، فما حكم ذلك؟
جواب:ذبح الصلح الذي تعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة: لا يجوز؛ لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه، و يريقون الدم تعظيماً له، أو إجلالاً لإرضائه، وهذا يكون محرماً؛ لأنه لم يرق الدم لله جل وعلا، وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان، وهذا الذبح محرم، والذبيحة أيضاً لا يجوز أكلها؛ لأنها لم تُهَلَّ أولم تذبح لله جل وعلا، وإنما ذبحت لغيره، فإن كان الذبح الذي هذا صفته من جهة التقرب والتعظيم، صار شركاً أكبر؛ وإن لم يكن من جهة التقرب والتعظيم، صار محرماً؛ لأنه لم يَخْلُص من أن يكون لغير الله.
فصار عندنا في مثل هذه الحالة، وكذلك في الذبح للسلطان ونحوه: المسألة التي مرت علينا بالأمس، أن يكون الذبح في مَقْدَمِه، وأن يراق الدم لقدومه وبحضرته، هذا قد يكون على جهة التقرب والتعظيم؛ فيكون الذبح حينئذ شركاً أكبر بالله جل وعلا؛ لأنه ذبح وأراق الدم تعظيماً للمخلوق وتقرباً إليه، وإن لم يذبح تقرباً، أو تعظيماً؛ وإنما ذبح لغاية أخرى، مثل: (الإرضاء) ولكنه شابه أهل الشرك فيما يذبحونه تقرباً وتعظيماً؛ فنقول: (الذبيحة لا تجوز ولا تحل، والأكل منها حرام).
ويمكن الإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم أو في قبائلهم مثل هذا المسمّى (ذبح الصلح) ونحوه، أن يبدلوه بخير منه، وهو أن تكون وليمة للصلح فيذبحون للضيافة، يعني: يذبحون لا بحضرة من يريدون إرضاءه، ويدعونهم ويكرمونهم، وهذا من الأمر المرغَّب فيه، فيكون الذبح كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه ونحو ذلك.
سؤال: وهذا يقول: هناك رجل في منطقتنا يأتي إليه الناس عند فقد أموالهم فيعطيهم خيطاً معقداً ويقرأ عليه ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فقده، فما حكم ذلك؟ وما حكم الصلاة خلفه؟
جواب:هذا من الكهانة؛ لأن هذا الذي يعمل هذه الأشياء عرّاف أو كاهن، وقد يكون ساحراً أيضاً؛ فلا يجوز عمل مثل هذا العمل، ولا يحل لأحد أن يعين أحداً يدَّعي معرفة شيء من علم الغيب.
والصلاة خلفه لا تجوز؛لأن هذا إما أن يكون عرافاً، أو كاهناً، أو ساحراً، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم.
سؤال: وهذا يقول: فضيلة الشيخ: ما معنى قولهم: (الشرك الأصغر أكبر من الكبائر) وكيف يكون كذلك والشرك الأكبر يعتبر من الكبائر إذ هو أكبر الكبائر؟
فنرجوا إزالة الإشكال.
جواب: هذا أيضاً أوضحته بالأمس، وهو أن الكبائر قسمان:
- قسم منها
راجع إلى جهة الاعتقاد، والعمل الذي يصحبه اعتقاد.
- وقسم منها
راجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد.
مثال الأول الذي يصحبه الإعتقاد:
أنواع الشرك بالله:
- من الاستغاثة بغيره.
- ومن الذبح لغير الله.
- ومن النذر لغير الله، ونحو ذلك؛ فهذه أعمال ظاهرة، ولكن هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركاً أكبر، فهي في ظاهرها صرف عبادة لغير الله جل وعلا، وقام بقلب صاحبها الشرك بالله بتعظيم هذا المخلوق وجعله يستحق هذا النوع من العبادة: إما على جهة الاستقلال، أو لأجل أن يتوسط.
والقسم الثاني: الكبائر العملية التي تعمل لا على وجه اعتقاد، مثل: (الزنا) و(شرب الخمر) و(السرقة) و(أكل الربا) و(أكل مال اليتيم) و(التولي يوم الزحف) ونحو ذلك من الكبائر والموبقات، فهذه تعمل دون اعتقاد، وبهذا صارت الكبائر على قسمين.
نقول: الشرك الأصغر - ومن باب أولى الشرك الأكبر - هذا جنسه أكبر من الكبائر -يعني: العملية- فأنواع الشرك الأصغر ولو كان لفظياً، مثل:
- قول: ما شاء الله وشئت.
- ومثل: الحلف بغير الله.
- أو نسبة النعم إلى غير الله.
- أو نسبة اندفاع النقم لغير الله جل وعلا.
- أو تعليق التمائم ونحو ذلك، هذه من حيث الجنس أعظم، من كبائر العمل الذي لا يصاحبه اعتقاد، وذاك لأن الأعمال تلك: (كالزنا) و(السرقة) ونحوها من الكبائر العملية، هذه ليس فيها سوء ظنٍّ بالله جل وعلا، وليس فيها صرف عبادة لغير الله، أو نسبة شيء لغير الله جل وعلا؛ وإنما هي من جهة الشهوات، والأخرى هي من جهة الاعتقاد بغير الله، وجَعْل غير الله -جل وعلا- نداًّ لله سبحانه وتعالى، وأعظم الذنب: أن يجعل المرء لله ندّاً وهو خلقه جل وعلا.
سؤال: وهذا يقول: فضيلة الشيخ يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء؟
وجزاكم الله خيراً.
جواب: العلماء يقولون: ويكره دخوله الخلاء بشيء فيه ذكر الله، في آداب دخول الخلاء في الفقه، فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله إلى الخلاء مكروه.
وقول الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} هذه الآية فيها أن عبادة الصلاة، وعبادة النسك، وهو الذبح: لله جل وعلا، وقال هنا (قل إن) و (إن) من المؤكِّدات، ومجيء التأكيد في الجمل الخبرية معناه: أن من خُوطب بذلك منكر لهذا الأمر، أو مُنَزَّلٌ منزلة المنكِر له؛ ولهذا يكون الاستدلال بهذه الآية على أنه خوطب بها من ينكر أن الصلاة لله وحده استحقاقاً، وأن الذبح لله وحده استحقاقاً، وهم المشركون، فدلّ على أن هذه الآية في التوحيد، يعني: في توحيد الذبح لأجل الله جل وعلا، وأن الذبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب جل وعلا.
قال هنا: {قل إن صلاتي ونسكي}والنسك: هو الذبح، أو النحر، يعني: التقرب بالدم، والتقرب بالدم لله -جل وعلا- عبادة عظيمة؛ لأن الذبائح أو المنحورات: (الإبل، البقر، الغنم من الضأن، والمعز) هذه مما تعظم في نفوس أهلها، ونحرها تقرباً إلى الله جل وعلا، والصدقة بها عبادة عظيمة:
- فيها إراقة الدم لله.
- وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله جل وعلا.
- وفيها حسن الظن بالله تبارك وتعالى.
- وفيها التخلص من الشح، والرغب فيما عند الله سبحانه بإزهاق نفس ما هو عزيزٌ عند أهله؛ ولهذا كان النحر والذبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله جل وعلا، وهذه الآية دلت على أن النحر والصلاة عبادتان، لأنه جعل النسيكة لله، والله -جل وعلا- له من أعمال خلقه العبادات؛ فهذا صار وجه الدلالة، أن قوله: {ونسكي} فيه دلالة على أن النسك عبادة من العبادات، وأنه مُسْتَحق لله جل وعلا.
قوله: {لله رب العالمين} (اللام) هنا المتعلقة بقوله: {قل إن صلاتي ونسكي} لام الاستحقاق؛ لأن اللام في اللغة وفيما جاء من الاستعمال في القرآن تأتي:- لام الملك:{أما السفينة فكانت لمساكين} يعني: يملكونها.
- أو تكون لام الاختصاص، وهو شبه الملك.
- أو تكون لام الاستحقاق، مثل:{الحمد لله}يعني: جميع أنواع المحامد مستحقة لله.
كذلك اللام هنا:{قل إن صلاتي ونسكي لله} يعني: مستحقة لله جل وعلا.
قال سبحانه:{ومحياي ومماتي لله} وهنا:{ومحياي ومماتي لله} تكون (اللام) هذه - مع أنها واحدة - لكن يكون معناها على الأول -رجوعها للأول- غير معناها برجوعها للمحيا والممات، فإن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام:{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله}والمحيا والممات: يعني الإحياء والإماتة، وهذه بيد الله جل وعلا، ولله مِلكاً، فهو الذي يملكها سبحانه؛ لأنها من أفراد ربوبيته -جل وعلا- على خلقه، فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية، وعلى توحيد الربوبية:{قل إن صلاتي ونسكي} هذا توحيد العبادة.
{ومحياي ومماتي} هذا توحيد الربوبية.
{لله} اللام إذا أرجعتها للأوليين: الصلاة والنسك، صار معناها الاستحقاق؛ وإذا أرجعتها للأخير، صار معناها المِلك؛ ولهذا يقول أهل التفسير هنا: {قل إن صلاتي ونسكي} لله استحقاقاً{ومحياي ومماتي} لله ملكاً، وتدبيراً، وتصرفاً.
قال:{لله رب العالمين لا شريك له} هذا وجه استدلال ثالث، حيث قال:{لا شريك له}يعني: فيما مرّ، لا شريك له في الصلاة والنسك؛ فلا يُتوجه بالصلاة والنسك إلى أحدٍ مع الله -جل وعلا- أو من دونه.
وكذلك:لا شريك له في ملكه في المحيا والممات، بل هو المتفرد سبحانه بأنواع الجلال وأنواع الكمال، وهو المستحق للعبادة، وهو ذو الملكوت الأعظم.
قال: (وقوله: {فصل لربك وانحر }) قال جل وعلا:{إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر} قال:{فصل لربك وانحر} فأمر بالصلاة وأمر بالنحر، وإذا أمر به فهو داخل في حد العبادة؛ لأن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والصلاة: أمر بها الله -جل وعلا- وهي محبوبة لديه، والنحر: أمر الله -جل وعلا- به، وهو محبوب ومرضيٌّ له؛ فيكون إذاً النحر عبادة لله جل وعلا.- وفي التعريف الآخر أن العبادة: هي كل ما يتقرب به العبد إلى الله جل وعلا، ممتثلاً به الأمر والنهي، صادق على هذا؛ لأن النحر يُعمل تقرباً إلى الله -جل وعلا- بامتثال الأمر والنهي.
قال سبحانه: {إنا أعطيناك الكوثر} والكوثر: هو الخير العظيم الذي منه النهر الذي في الجنة{فصل لربك وانحر} (الفاء) هذه سببية، يعني: بسبب ذلك اشكر الله -جل وعلا-بتوحيده؛ بأن صل لربك الذي أعطاك ذلك الخير الكثير، وتقرب إليه بالنحر وبنسك النسائك له سبحانه؛ لأن الخير إنما أسداه -جل وعلا- وحده.
إذاً: وجه الدلالة من هذه الآية على الباب: أن النحر عبادة، وقد قال جل وعلا:{فصل لربك وانحر} يعني وانحر لربك، فصار النحر لغير الله، والذبح لغير الله: خارج عما أمر الله به، فهو إذاً: صَرْفٌ للعبادة لغير الله جل وعلا.
- قال رحمه الله : (وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى مُحدِثاً، لعن الله من غيَّر منار الأرض)) رواه مسلم) الشاهد من هذا: قوله: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) وهذا وعيد يدل على أن الذابح لغير الله ملعون.
واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وعلا، فإذا كان الله هو الذي لعن؛ فيكون قد طرد وأبعد هذا الملعون من رحمته -جل وعلا- الخاصة،أما الرحمة العامة فهي تشمل المسلم والكافر وجميع أصناف الخلق.
- وإن كان دعاءٌ باللعن عليه((لعن الله من ذبح لغير الله)) كأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال داعياً على من ذبح لغير الله -جل وعلا- باللعن: وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وعلا، هذا يدل على أن الذبح لغير الله من الكبائر، ومن المعلوم أن اقتران ذنب من الذنوب باللعن يدل على أنه من الكبائر، كبائر الذنوب، وهذا ظاهر من جهة أن الذبح لغير الله شرك بالله جل وعلا، يستحق صاحبه اللعن، والطرد، والإبعاد من رحمة الله جل وعلا.
وقوله: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) (اللام) هذه، يعني: من أجل غير الله تقرباً إليه وتعظيماً، فذبح لغير الله تقرباً إلى ذلك الغير وتعظيماً لذلك الغير، وهذا وجه مناسبة هذا الحديث لباب ما جاء في الذبح لغير الله، يعني من الوعيد، وأنه شرك، ومن الوعيد: أن صاحبه ملعون.
- قال: (وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((دخل الجنة رجلٌ في ذباب ودخل النار رجلٌ في ذباب)).
قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟
قال: ((مرّ رجلان على قومٍ لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً.
فقالوا لأحدهما: قرِّب.
قال: ليس عندي شيء أقرِّب.
قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار.
وقالوا للآخر: قرب.
فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة)) رواه أحمد).
وجه الدلالة من هذا الحديث:
أن التقريب للصنم بالذبح كان سبباً لدخول النار، وذلك من حيث ظاهر المعنى أن من فعله كان مسلماً فدخل النار بسبب ما فعل، وهذا يدل على أن الذبح لغير الله شرك بالله جل وعلا، شرك أكبر؛ لأن ظاهر قوله:((دخل النار)) يعني: استوجبها مع من يخلد فيها.
ووجه الدلالة أيضاً:
أن تقريب هذا الذي لا قيمة له وهو الذباب، يدل على أن من قرب ما هو أبلغ وأعظم منفعة، وأعظم عند أهله وأغلى، أنه سبب أعظم لدخول النار.
وقوله هنا:((قرِّب)) يعني: اذبح تقرباً، والْحَظْ هنا أنهم لم يكرهوهم بالفعل؛ فالحديث لم يدل على أنهم أُكرهوا؛ لأنه قال: ((مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً)) فظاهر قوله: ((لا يجوزه أحد)) يعني: أنهم لا يأذنون لأحد بمجاوزته عن ذلك الطريق حتى يقرب، وهذا ليس إكراهاً، إذ يمكن أن يقول: (سأرجع من حيث أتيت) ولا يجوز ذلك الموضع، ويتخلص من ذلك، وهذا يدل على أن الإكراه بالفعل لم يحصل من أولئك، فلا يدخل هذا في قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً} لأنه ليس في الحديث دلالة -كما هو ظاهر- على حصول الإكراه؛ وإنما قال: ((مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً)).((لا يجوزه أحد))ما صفة عدم السماح بعدم المجاوزه؟
هل هو أنه لا يجوزه حتى يُقتل، أو يقرب؟
أو لا يجوزه حتى يقرب، أو يرجع؟
بعض العلماء استظهر من قتلهم لأحد الرجلين: أنه لا يجوزه حتى يُقتل، وأن هذا عُلِم بالسياق، فصار ذلك نوع إكراه، لهذا استشكلوا كون هذا الحديث دالاً على أن من فعل هذا الفعل يدخل النار مع أنه مُكْرَه؟
والجواب عن هذا الإشكال: أن هذا الحديث على هذا القول، وهو: (أنه حصل منهم الإكراه بالقتل) فيمن كان قبلنا، ورفع الإكراه، أو جواز قول كلمة الكفر، أو عمل الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان: هذا خاص بهذه الأمة، هذا أجاب به بعض أهل العلم.
والثاني،وهو ما قدمت: أن السياق ليس بمتعين على أنهم هدَّدُوه بالقتل، وإذا كان غير متعين بأنهم هددوه بالقتل؛ فإنه لا يُحمل على شيء مجمل لم يعين.
ودلالة قوله هنا: ((فضربوا عنقه)) يعني: فيمن لم يقرب ((فدخل الجنة)) ربما لأنه أهان صنمهم بقوله: ((ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل)) لهذا استشكل هذا الحديث طائفة من أهل العلم، وهو بحمد الله ليس فيه إشكال:
- لأنه إما أن يحمل على أنه كان فيمن كان قبلنا؛ فلا وجه إذاً لدخول الإكراه.
- أو يحمل على أنهم لم يكرهوه حين أراد المجاوزة، ولكن قتلوه لأجل قوله: ((لم أكن لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل)).
إذاً: هذا الباب، وهو قوله: (باب ما جاء في الذبح لغير الله) ظاهر في الدلالة على أن التقرب لغير الله -جل وعلا- بالذبح، أنه شرك بالله -جل وعلا- في العبادة، فمن ذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً؛ فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ ما جاءَ في الذَّبحِ لغيرِ اللهِ
وعن طارقِ بنِ شهابٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:(( دَخَلَ الجنَّةَ رجلٌ في ذبُاَبٍ، ودخَلَ النَّارَ رجلٌ في ذُبَابٍ، قالُوا: وكيفَ ذلك يا رَسُولَ اللهِ؟! قالَ: مرَّ رجلانِ علَى قومٍ لَهُمْ صَنَمٌ …))
الحديثُ.أخرجَهُ أحمدُ، وأبو نعيمٍ، وابنُ أبي شيبةَ، قالَ أحمدُ: (أخبرَنَا أبو معاويةَ حدَّثَنَا الأعمشُ عن سليمانَ بنِ ميسرةَ عن طارقِ بنِ شهابٍ عن سليمانَ قالَ: ((دخلَ رجلٌ … الخ))موقوفاً.
وقالَ أبو نعيمٍ: حدَّثَنَا أبو أحمدَ محمَّدُ بنُ أحمدَ الجرجانيُّ ثنَا عبدُ اللهِ بنُ محمَّدٍ بنِ شيرويهِ ثنا إسحاقُ بنُ راهويهِ أخبرَنَا جريرٌ وأبو معاويةَ عن الأعمشِ عن سليمانَ بنِ ميسرةَ عن طارقِ بنِ شهابٍ عن سلمانَ - رضيَ اللهُ تعالى عنْهُ - قالَ:
(( دخلَ رجلٌ الجنَّةَ في ذبابٍ …)) الحديثُ. موقوفاً.
وقالَ ابنُ أبي شيبةَ: حدَّثَنَا وكيعٌ قالَ: ثنَا سفيانُ عن مخارقِ بنِ خليفةَ عن طارقِ بنِ شهابٍ عن سلمانَ قالَ: ((دخلَ رجلٌ الجنَّةَ في ذبابٍ …))الخ. موقوفـاً.
إسنادُهُ صحيحٌ، وهو موقوفٌ - كما تَرَى - على سلمانَ وهو الفارسيُّ - رَضِي اللهُ عَنْهُ -. وأمَّا سليمانُ عندَ أحمدَ فتحريفٌ لأمرينِ:
أحدِهِمَا:اتِّفاقُ أبي شيبةَ على سلمانَ.
والثَّاني:أنَّ طارقَ بنَ شهابٍ مذكورٌ فيمَنْ يروي عن سلمانَ كما في ترجمتِهِ، وترجمةِ سلمانَ في (تهذيبِ الكمالِ)للمزِّي ولم يذكرْ سليمانَ.
والمؤلِّفُ -رحمَهُ اللهُ- لم يذكرْ سلمانَ ولا سليمانَ، وجعلـَهُ مرفوعاً، حيثُ قالَ: (وعن طارقِ بنِ شهابٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ) ثمَّ عزاهُ لأحمدَ.
وقد بحثْتُ عنه فلمْ أجدْهُ عندَهُ إلا في (الزُّهْدِ) كما تقدَّمَ آنفاً موقوفاً، إلا أنَّ شارحي (كتابِ التَّوحيدِ)، سليمانَ بنَ عبدِ اللهِ، وعبدَ الرَّحمنِ بنَ حسنٍ قالا في هذا الأثرِ:
قالَ ابنُ القيِّمِ: قالَ الإِمامُ أحمدُ: (حدَّثَنَا أبو معاويةَ حدَّثَنَا الأعمشُ عن سليمانَ بنِ ميسرةَ عن طارقِ بنِ شهابٍ يرفعُهُ قالَ:((دخلَ رجلٌ … الأثرَ)).
قلْتُ:
وقد ذكرَهُ ابنُ القيِّمِ في (الجوابِ الكافي) باللفظِ الآتِي:
(وقالَ الإِمامُ أحمدُ: حدَّثَنَا معاويةُ حدَّثنا الأعمشُ عن سليمانَ بنِ ميسرةَ عن طارقِ بن شهابٍ يرفعُهُ قالَ:
(( دخلَ رجلٌ الجنَّةَ في ذبابٍ، ودخلَ رجلٌ النَّارَ في ذبابٍ)) قالُوا: كيفَ ذلك يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ((مرَّ رجلانِ على قومٍ لهم صنمٌ لا يجوزُهُ أحدٌ حتَّى يُقَرِّبَ له شيئاً، فقالُوا لأحدِهِمَا: قرِّبْ، فقالَ: ليسَ عندي شيءٌ، قالُوا: قرِّبْ ولو ذباباً، فقرَّبَ ذباباً فخلَّوا سبيلَهُ فدخلَ النَّارَ، وقالُوا للآخرِ: قرِّبْ، فقالَ: ما كنْتُ لأقرِّبَ شيئاً من دونِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فضربُوا عنقَهُ فدخلَ الجنَّةَ)) اهـ.
فالسَّندُ الَّذِي ذكرَهُ الشَّارحانِ عن ابنِ القيِّمِ عن الإمامِ أحمدَ مطابقٌ لما في (الجوابِ الكافي) كما تَرَى، واللفظُ موافِقٌ للَّفظِ الَّذِي ساقَهُ المصنِّفُتقريباً، وهو صريحٌ في الرَّفعِ من وجهينِ:
الأوَّلِ: أنَّهُ قالَ: (رفعَهُ).
والثَّانِي: في قولِهِ: (قالُوا: كيفَ ذلكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: ((مرّ…)) إلخ.
فهذا المرفوعُ لم أقفْ عليهِ إلى الآن، لا عندَ أحمدَ ولا عندَ غيرِهِ.
وقدْ ذكرَ أبو نعيمٍ بعدَ إخراجِهِ هذا الخبرَ بالسَّندِ المذكورِ طريقينِ آخرينِ له، فقالَ: ورواهُ شعبةُ عن قيسِ عن مسلمٍ عن طارقٍ مثلَهُ.
ورواهُ جريرٌ عن منصورٍ عن المنهالِ بنِ عمرو عن حيّانَ بنِ مرثدٍ عن سلمانَ نحوَهُ).
العناصر
شرح ترجمة الباب (ما جاء في الذبح لغير الله)
- أقسام الذبح لغير الله
- بيان أنواع الذبح وأحكامها
- النوع الأول: أن يذبح باسم الله ولا يتقرب بالذبح إلى غير الله تعالى
- النوع الثاني: أن يذبح باسم الله ويتقرب بالذبح إلى غير الله تعالى
- النوع الثالث: أن يذبح بغير اسم الله تعالى متقرباً إلى غير الله تعالى
- النوع الرابع: أن يذبح بغير اسم الله تعالى متقرباً إلى الله تعالى
تفسير قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي..} الآية
- مناسبة قوله: {قل إن صلاتي ونسكي..} الآية للباب
- تعريف الصلاة لغة وشرعاً
- تعريف النسك لغة وشرعا
- تتمة تفسير قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي } الآية
- الشاهد من قوله: {قل إن صلاتي ونسكي..}
تفسير قوله تعالى: {لا شريك له وبذلك أمرت...}الآية
- حد الشرك الأكبر، والشرك الأصغر
- المراد بالأولية في قوله: {وأنا أول المسلمين}
- الفرق بين الإسلام والإيمان
تفسير شيخ الإسلام لقوله -تعالى-: {وما أهل لغير الله به}
تفسير قوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر}
- بيان وجه الشاهد من هذه السورة للترجمة
- حكم الهدي
- اختلاف العلماء في حكم الأضاحي
- الخلاف في حكم العقيقة
- تعريف الكلمة
- فائدة لغوية حول معاني حرف اللام
- بيان حد العبادة
شرح حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
- تخريج حديث علي (حدثني رسول الله..) الحديث
- ترجمة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
- قوله: {لعن الله من ذبح لغير الله}يحتمل أن يكون دعاء وأن يكون خبراً
- معنى {اللعن} إذا كان من الله ومعناه إذا كان من الخلق
- المراد بقوله: {من ذبح لغير الله}
- معنى قوله: {لعن الله من لعن والديه} ونظيره من السنة
- معنى {آوى} في قوله: {لعن الله من آوى محدثا}
- معنى {محدثاً} في قوله: {آوى محدثا}
- معنى {منار} في قوله: {غيَّر منار الأرض}، وكيف يكون تغييره، ونظيره من السنة
- حكم لعن الفساق
- حكم لعن الفاسق المعين
ما جاء في الشرع من الألفاظ هل يحمل على المعنى اللغوي أو الشرعي؟
حديث في النهي عن ذبائح الجن، والحكم على صحته، والسبب في تقرب الكفار للجن بالذبح
شرح حديث طارق بن شهاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- تخريج حديث طارق بن شهاب
- ترجمة طارق بن شهاب وبيان درجة الحديث
- معنى {في} في قوله: {في ذباب}
- لماذا سأل الصحابة النبي عن كيفية دخول الرجل الجنة في ذباب؟
- معنى الصنم
- معنى قوله: {لا يجاوزه}
- إشكال وجوابه حول كفر من قرب الذبابة مع كونه مكرهاً
شرح مسائل الباب
- حكم من ذبح غير قاصد للتقرب
- خطر الشرك ولو في شيء قليل
- فضل التوحيد، وعظم الشرك في قلوب الموحدين
- الشرك في العبودية أعظم من الاستعانة بغير الله تعالى
- حكم ما ذبح عند استقبال السلطان
- عمل القلب هو المقصود الأعظم
- هل الأولى للإنسان أن يصبر إذا أكره على الكفر ويقتل؟ أو يوافق ظاهراً ويتأول؟
فائدة مهمة لطالب العلم عند سماعه للعلم ونقله
سؤال: عن ما يعرف بذبح الصلح.