الدروس
course cover
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
26 Oct 2008
26 Oct 2008

6745

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الثالث

باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

6745

0

0


0

0

0

0

0

باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (8- بَاب مَنْ تَبَرَّكَ بِشَجَرَةٍ أَوْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِمَا

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى (21) تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى (22) إنْ هِيَ إلاَّ أسمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أنتُمْ وءابآؤكُمْ مَا أنزَلَ اللهُ بها مِن سُلْطَانٍ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْـوَى الأَنْفُسُ ولقَدْ جَآءهُم مِّن رَّبِّهِـمُ الهُدَى}[النَّجْم:19-23].

عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ، وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى:{اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأَعْرَاف:138]لَتَرْكَبُنَّ سنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ))رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.


فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ النَّجْمِ.

الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ صُورَةِ الأَمْرِ الَّذِي طَلَبُوا.

الثَّالِثَةُ:كَوْنُهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا.

الرَّابِعَةُ:كَوْنُهُمْ قَصَدُوا التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ بِذَلِكَ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُحِبُّهُ.

الْخَامِسَةُ:أَنَّهُمْ إِذَا جَهِلُوا هَذَا فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى بِالْجَهْلِ.

السَّادِسَةُ:أَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالْوَعْدِ بِالْمَغْفِرَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ.

السَّابِعَةُ:أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وَسَلَّم لَمْ يَعْذُرْهُمْ بَلْ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ((اللهُ أَكْبَرُ إِنَّهَا السنَنُ لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) فَغَلَّظَ الأَمْرَ بِهَذِهِ الثَّلاَثِ.

الثَّامِنَةُ:الأَمْرُ الْكَبِيرُ - وَهُوَ الْمَقْصُودُ-: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ طِلْبَتَهُمْ كَطِلْبَةِِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَالُوا لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً.

التَّاسِعَةُ:أَنَّ نَفْيَ هَذَا مِنْ مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) مَعَ دِقَّتِهِ وَخَفَائِهِ عَلَى أُولَئِكَ.

الْعَاشِرَةُ:أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الْفُتْيَا، وَهُوَ لاَ يَحْلِفُ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:أَنَّ الشِّرْكَ فِيهِ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَرْتَدُّوا بِهَذَا.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُمْ:(وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ)فِيهِ أَنَّ غَيْرَهُمْ لاَ يَجْهَلُ ذَلِكَ.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:التَّكْبِيرُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ خِلاَفًا لِمَنْ كَرِهَهُ.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:سَدُّ الذَّرَائِعِ.

الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:النَّهْيُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:الْغَضَبُ عِنْدَ التَّعْلِيمِ.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ لِقَوْلِهِ:((إِنَّهَا السُّنَنُ)).

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:أَنَّ هَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبُوَّةِ لِكَوْنِهِ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ.

التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:أَنَّ كُلَّ مَا ذَمَّ اللهُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَنَا.

الْعِشْرُونَ:أَنَّهُ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى الأَمْرِ، فَصَارَ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَسَائِلِ الْقَبْرِ، أَمَّا((مَنْ رَبُّكَ؟))فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا((مَنْ نَبِيُّكَ؟)) فَمِنْ إِخْبَارِهِ بِأَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَأَمَّا((مَا دِينُكَ؟)) فَمِنْ قَوْلِهِمْ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}إِلَى آخِرِهِ.

الْحَادِيةُ وَالْعِشْرُونَ:أَنَّ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَذْمُومَةٌ كَسُنَّةِ الْمُشْرِكِينَ.

الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ:أَنَّ الْمُنْتَقِلَ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي اعْتَادَهُ قَلْبُهُ لاَ يُؤْمَنُ أنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْعَادَةِ؛ لِقَوْلِهِمْ: وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ.

هيئة الإشراف

#2

26 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1) كبُقْعَةٍ، وغَارٍ، وعَيْنٍ، وقَبْرٍ، ونحوِ ذلك، مِمَّا يَعْتَقِدُ كثيرٌ مِن عُبَّادِ القُبُورِ وأشباهِهِم فيه البَرَكَةَ فيَقْصِدُونَهُ رَجَاءَ البَرَكَةِ.

ويَعْنِي بقولِهِ: (تَبَرَّكَ) أي: طَلَبَ البَرَكَةَ ورَجَاهَا واعْتَقَدَهَا، أي: ما حُكْمُهُ هل هو شِرْكٌ أم لا؟

(2) هكذا ثَبَتَ في خَطِّ المُصَنِّفِ (الآياتُ) يَعْنِي: إلى قولِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَبِّهِمُ الهُدَى}

قالَ القُرْطُبِيُّ: (لَمَّا ذَكَرَ الوَحْيَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذَكَرَ من آثَارِ قُدْرَتِهِ ما ذَكَرَ، حَاجَّ المُشْرِكِينَ؛ إذ عَبَدُوا مَا لا يُعْقَلُ).

وقيلَ:أفرأيتُمْ هذهِ الآلِهَةَ الَّتي تَعْبُدُونهَاأَوحَيْنَ إليكُمْ شيئًا كمَا أُوحِيَ إلى محمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وكانَتِ اللاَّتُلثَقِيفٍ، والعُزَّى لقُرَيْشٍ وبَنِي كِنَانَةَ، ومَنَاةُ لِبَنِي هِلالٍ.

- وقالَ ابنُ هِشَامٍ: (كانَت مَنَاةُ لِهُذَيْلٍ وخُزَاعَةَ).

ذِكْرُصِفَةِ هذه الأوثانِ:

ليَعْرِفَ المُؤْمِنُ كيفِيَّةَ الأوثانِ،وكيفيَّةَ عبادتِهَا، وما هو شِرْكُ العَرَبِ الَّذينَ كانُوا يفعلونَهُ، حتى يُفَرِّقَ بينَ التَّوحيدِ والإخلاصِ، وبينَ الشِّركِ والكُفْرِ.

فأمَّا اللاَّتُ: فقَرَأَ الجمهورُ بتخفيفِ التَّاءِ، وقرأَ ابنُ عبَّاسٍ وابنُ الزُّبَيْرِ ومُجَاهِدٌ وحُمَيْدٌ وأبو صالحٍ ورُوَيْسٌ عن يَعْقُوبَ: {اللاَّتُّ} بتشديدِ التَّاءِ.

فعلى الأُولى:قالَ الأَعْمَشُ: (سَمَّوا اللاَّتَ من الإِلَهِ، والعُزَّى مِن العزيزِ).

قالَ ابنُ جَرِيرٍ: (وكانُوا قد اشْتَقُّوا اسْمَهَا من اللهِ تعالى، فقالُوا: اللاَّتُ مُؤَنَّثَةٌ منه، تعالى اللهُ عن قولِهِم عُلُوًّا كبيراً).

- قالَ: (وكذا العُزَّى من العزيزِ).

قالَ ابنُ كثيرٍ: (وكانَتْ صَخْرَةً بيضاءَ مَنْقُوشَةً، عليها بَيْتٌ بالطَّائِفِ، له أَسْتَارٌ وسَدَنَةٌ، وحولَهُ فِنَاءٌ مُعَظَّمٌ عندَ أهلِ الطَّائِفِ، وهم ثَقِيفٌ ومَن تابعَهَا، يَفْتَخِرونَ بهِ عَلَى مَن عَدَاهُمْمن أحياءِ العَرَبِ بعدَ قريشٍ).

قالَ ابنُ هِشَامٍ: (وكانَت في موضِعِ مَسْجِدِ الطَّائِفِ اليُسْرَى، فلم يَزَلْ كذلِكَ إلى أن أسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، فبعَثَ رسولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُغِيرَةَ بنَ شُعْبَةَ فَهَدَمَهَا وحَرَّقَها بالنَّارِ).

وعلى الثَّانيةِ: قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (كانَ رَجُلاً يَلُتُّ السَّويقَ للحاجِّ، فلَمَّا ماتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ) ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ.

وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: (كانَ يَبِيعُ السَّويقَ والسَّمْنَ عندَ صَخْرَةٍ ويَلُتُّهُ عليهَا، فلَمَّا ماتَ ذلك الرَّجُلُ، عبَدَتْ ثَقِيفٌ تلك الصَّخْرَةَ إِعْظَامًا لصاحِبِ السَّويقِ).

وعن مُجَاهِدٍ نحوُهُ، وقالَ: (فلَمَّا ماتَ عَبَدُوهُ) رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ والفَاكِهِيُّ، وكذا رَوَى ابنُ أبي حاتِمٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّهُم عَبَدُوهُ.

وقالَ ابنُ جُرَيْجٍ: (كانَ رَجُلٌ من ثَقِيفٍ يَلِتُّ السَّويقَ بالزَّيتِ، فلَمَّا تُوفِّيَ جَعلُوا إلى قَبْرِهِ وَثَنًا).

وبنحوِ ذلك قالَ جَمَاعَةٌ مِن أَهْلِ العِلْمِ، ولا تَخَالُفَ بينَ القولينِ؛ فإنَّ مَنْ قالَ: إنَّهَا صَخْرَةٌ لم ينفِ أن تكونَ صخرةً عَلَى القبرِ أو حواليهِ فعُظِّمَتْ وعُبِدَتْ تَبَعًا لا قَصْداً، فالعِبَادةُ إنَّما أرادوا بهِا صاحِبَ القَبْرِ، فهو الَّذي عبدُوهُ بالأصالَةِ؛ يَدُلُّ عَلَى ذلك ما رَوَى الفاكِهِيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ اللاَّتَ لَمَّا ماتَ قالَ لهم عَمْرُو بنُ لُحَيٍّ: إنَّهُ لم يَمُتْ، ولكنَّهُ دَخَلَ الصَّخْرَةَ، فعَبَدُوهَا، وبَنوا عليهَا بَيْتًا، فتأمَّلْ فِعْلَ المُشْرِكِينَ مع هذا الوَثَنِ، ووازِنْ بينَهُ وبينَ بِنَاءِ القِبَابِ عَلَى القُبُورِ، والعُكُوفِ عندَهَا ودُعَائِهَا، وجَعْلِهَا مَلاذًا عندَ الشَّدَائِدِ.

وأمَّا العُزَّى: فقالَ ابنُ جريرٍ: (كانَتْ شَجَرَةً عليها بِنَاءٌ وأَسْتَارٌ بنَخْلَةَ بينَ مكَّةَ والطَّائفِ كانَتْ قُرَيْشٌ يُعَظِّمونَها) كمَا قالَ أبو سُفْيَانَ يومَ أُحُدٍ: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ.

فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُولُوا: اللهُ مَوْلانَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ)).

وَرَوَى النَّسائِيُّ وابنُ مَرْدُويَهْ عن أبي الطُّفَيْلِ قالَ: (لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، بَعَثَ خَالدَ بنَ الوليدِ إِلى نَخْلَةَ وَكانَتْ بِهَا العُزَّى، فَأَتَاهَا خَالِدٌ وَكانَتْ عَلَى ثَلاثِ سَمُرَاتٍ، فَقَطَعَ السَّمُرَاتَ، وَهَدَّمَ البَيْتَ الَّذِي كانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقالَ:((ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا)).

فَرَجَعَ خَالِدٌ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْهُ السَّدَنَةُ، وَهُمْ حَجَبَتُها، امْتَنَعُوا فِي الجَبَلِ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا عُزَّى يَا عُزَّى.

فَأَتَاهَا خَالِدٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَها، تَحْفِنُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِها، فَعَلاهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَها، ثُمَّ رَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقالَ:((تِلْكَ العُزَّى)).

قالَ ابنُ هِشَامٍ: (وكانُوا يَسْمَعُونَ منها الصَّوتَ).

وقالَ أبو صَالِحٍ: (العُزَّى نَخْلَةٌ كانُوا يُعَلِّقُونَ عليها السُّيورَ والعِهْنَ) رَوَاهُ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ وابنُ جَرِيرٍ.

فتَأَمَّلْ فِعْلَ المُشْرِكِينَ مع هذا الوَثَنِ، ووَازِنْ بينَهُ وبينَ ما يَفْعَلُهُ عُبَّادُ القُبُورِ مِن دُعَائِها، والذَّبْحِ عندَهَا، وتعليقِ الخُيُوطِ وإِلقَاءِ الخِرَقِ في ضَرَائِحِ الأَمْوَاتِ ونحوِ ذلك، فاللهُ المُسْتَعَانُ.

وأما مَنَاةُ: فكانَت بالمُشَلَّلِ عندَ قَدِيدٍ بينَ مَكَّةَ والمدينةِ،وكانَت خُزَاعَةُ والأَوْسُ والخَزْرَجُ يُعَظِّمُونَها، ويُهِلُّونَ منها للحَجِّ إلى الكَعْبَةِ.

وأصلُ اشْتِقَاقِهَا من:

- اسْمِ اللهِ المَنَّانِ.

وقيلَ: مِنْ مَنَّى اللهُ الشَّيءَ: إذا قَدَّرَهُ.

وقيلَ: سُمِّيَتْ مَنَاةَ؛ لِكَثْرَةِ ما يُمْنَى، أي: يُرَاقُ عندَهَا من الدِّماءِ للتَّبَرُّكِ بِها.

قالَ ابنُ هِشَامٍ: (فبعَثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فهَدَمَهَا عامَ الفَتْحِ).

قالَ ابنُ إسحاقَ في (السِّيرَةِ): (وقدْ كانَتِ العَرَبُ اتَّخَذَتْ معَ الكَعبةِ طَوَاغِيتَ؛ وهي بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كتَعْظِيمِ الكعبةِ، لها سَدَنَةٌ وحُجَّابٌ، وتُهْدِي لها كَمَا يُهْدَى للكَعْبَةِ، وتَطُوفُ بِها، وتَنْحَرُ عندَهَا، وهي تَعْرِفُ فَضْلَ الكَعْبَةِ عليها؛ لأنَّهَا كانَتْ قد عَرَفَتْ أنَّهَا بَيْتُ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ ومَسْجِدُهُ).

قُلْتُ: هذا الَّذي ذَكَرَهُ ابنُ إسحاقَ من شِرْكِ العَرَبِ هو بعَيْنِهِ الَّذي يَفْعَلُهُ عُبَّادُ القُبُورِ، بل زَادُوا عَلَى الأوَّلينَ.

إذا تَبَيَّنَ هذا فمَعْنَى الآيَةِ كمَا قالَ القُرْطُبِيُّ: (إنَّ فيها حَذْفاً تَقْدِيرُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ هذه الآلِهَةَ هل نَفَعَتْ أو ضَرَّتْ حتَّى تَكُونَ شُرَكَاءَ للهِ؟!)

وقالَ غَيْرُهُ:({ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ذَمٌّ، وهي المُتَأَخِّرَةُ الوَضِيعَةُ المِقْدَارِ، كقولِهِ:{وَقالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ}[الأَعْرَاف:38] أي: وُضَعَاؤُهُم لرُؤَسَائِهِم).

وقولُهُ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}[النَّجْم:20] قالَ ابنُ كَثِيرٍ: (أي: أَتَجْعَلُونَ له وَلَدًا وتَجْعَلُونَ وَلَدَهُ الأُنْثَى، وتَخْتَارُونَ لَكُم الذُّكُورَ؟!) وقالَ غيرُهُ: (يَجُوزُ أنْ يُرَادَ: اللاتُ والعُزَّى ومَنَاةُ إِنَاثٌ، وقد جَعَلْتُمُوهُنَّ للهِ شُرَكَاءَ، ومِن شَأْنِكُم أنْ تَحْتَقِرُوا الإِنَاثَ وتَسْتَنْكِفُوا من أن يُولَدْنَ لكم، أو يُنْسَبْنَ إليكُم، فكيفَ تَجْعَلُونَ هؤلاءِ الإِنَاثَ أنْدَادًا للهِ وتُسَمُّونَهُنَّ آلِهَةً؟!)

قُلْتُ:ما أَقْرَبَ هذا القولَ إلى سِياقِ الآيَةِ.

وقولُهُ: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي: جَوْرٌ وباطِلَةٌ، فكيف تُقَاسِمُونَ رَبَّكُم هذه القِسْمَةَ التي لو كانتْ بينَ مَخْلُوقينَ كانَتْ جَوْراً وسَفَهاً، فتُنَزِّهُونَ أنْفُسَكُم عن الإِنَاثِ، وتَجْعَلُونَهُنَّ للهِ، تعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبِيراً؟!

وقولُهُ: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم}[النَّجْم:23] قالَ ابنُ كَثِيرٍ: (ثُمَّ قالَ مُنْكِرًا عليهم فيما ابْتَدَعُوهُ، وأحْدَثُوهُ من الكَذِبِ والافْتِرَاءِ والكُفْرِ؛ من عِبَادَةِ الأصْنَامِ، وتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} أي: مِن تِلْقَاءِ أنْفُسِكُمْ {مَّا أَنزَلَ اللهُ بِها مِن سُلْطَانٍ}أي: مِن حُجَّةٍ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ}أي: ليْسَ لهم مُسْتَنَدٌ إلا حُسْنَ ظنِّهِم بآبائِهِم الَّذينَ سَلَكُوا هذا المَسْلَكَ الباطِلَ قَبْلَهُم، وإلا حَظَّ أنْفُسِهِم في رياسَتِهِم، وتَعْظِيمِ آبائِهِم الأقْدَمِينَ)

وقولُهُ:{وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن ربِّهِمُ الهُدَى} قالَ ابنُ كثيرٍ: (ولقد أَرْسَلَ إليهم الرُّسُلَ بالحَقِّ المُنِيرِ، والحُجَّةِ القاطِعَةِ، ومعَ هذا ما اتَّبَعُوا ما جَاءُوهم بهِ ولا انْقَادُوا لهُ).

قلتُ:في هذه الآياتِ مِن الدَّلائلِ القَطْعِيَّةِ عَلَى بُطْلاَنِ عِبَادَةِ هذه الطَّواغِيتِ، وأشباهِهَا بما لا مَزِيدَ عليهِ، فسُبْحَانَ مَن جَعَلَ كلامَهُ شِفَاءً وهُدًى ورَحْمَةً، وبُشْرَى للمُسْلِمِين:

منها:أنَّهَا أسماءٌ مُؤَنَّثَةٌ دَالَّةٌ عَلَى اللِّينِ والرَّخَاوَةِ، وما كانَ كذلِكَ فليسَ بإِلَهٍ.

ومنها:أنَّكُم قاسَمْتُم اللهَ بزَعْمِكُمْ فجَعَلتُمْ له هذه الأَسْمَاءَ المُؤَنَّثَةَ شُرَكَاءَ ودَعَوْتُمْ له الأَوْلاَدَ، ثُمَّ جَعَلْتُمُوهُمْ بَنَاتًا واخْتَصَصْتُمْ بالذُّكُورِ، فجَعَلْتُمْ له المَكْرُوهَ النَّاقِصَ، ولكم المَحْبُوبَ الكامِلَ {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[النَّحْل:60]

ومنها:أنَّهَا أسماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أنتم وآباؤُكُم، ابْتَدَعْتُمُوهَا.

ومنها:أنَّهَا ما أَنْزَلَ اللهُ بِها من سُلْطَانٍ، أي: حُجَّةٍ وبُرْهَانٍ.

ومنها:أنَّكُم لم تَسْتَنِدُوا في تَسْمِيَتِهَا إلى عِلْمٍ ويَقِينٍ، وإنَّمَا اسْتَنَدْتُمْ في ذلكَ إلى الظَّنِّ والهوَى اللَّذَيْنِ هُمَا أَصْلا الهَلاكِ دُنْيَا وأُخْرَى.

ومِنها:{وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن ربِّهِمُ الهُدَى}[النجم:23] أي: بإِبْطَالِ عِبَادَتِهَا، وما كانَ كذلِكَ، فهو عينُ المُحَالِ البَيِّنُ البُطْلانِ، وكلُّ واحِدٍ من هذه الأدِلَّةِ كافٍ شافٍ في بُطْلانِ عِبَادَتِهَا.

فإن قُلْتَ:فأين دليلُ التَّرْجَمَةِ من الآياتِ؟

قيلَ:هو بَيِّنٌ بِحَمْدِ اللهِ؛ لأنَّهُ إن كانَ التَّبَرُّكُ بالشَّجَرِ والقُبُورِ والأَحْجَارِ مِن الأكْبَرِ فَوَاضِحٌ، وإن كانَ مِن الأَصْغَرِ، فالسَّلَفُ يَسْتَدِلُّونَ بمَا نزَلَ في الأكبرِ عَلَى الأصغرِ.

(3) الحديثُ رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ كمَا قالَ المُصَنِّفُ ولَفْظُهُ: (حَدَّثنَا سَعِيدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ المَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سِنَانِ بنِ أبي سِنَانٍ، عن أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا خَرَجَ إِلى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرةٍ للمُشْرِكِينَ يُقالُ لها: ذَاتُ أَنْوَاطٍ. يُعَلِّقُون عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كمَا لهمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ.

فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((سُبْحَانَ اللهِ! هَذَا كمَا قالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كمَا لهمْ آلِهَةٌ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ))هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وأبو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ اسمُهُ الحارِثُ بنُ عَوْفٍ، وفي البابِ عن أبي سعيدٍ، وأبي هُرَيْرَةَ، هذا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ بحُرُوفِهِ.

وفيه: مُخَالَفَةٌ لِمَا في الكِتَابِ لَفْظًا ومَعْنًى، وقد اتَّفَقَ اللَّفْظَانِ عَلَى المَقْصُودِ هُنَا، وقدْ رَوَاهُ أَحْمَد، وأبو دَاودَ، وأبو يَعْلَى، وابنُ أبي شَيْبَةَ، والنَّسَائِيُّ، وابنُ جَرِيرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أبي حَاتِمٍ، والطَّبَرَانِيُّ بنحوِهِ.

ورَوَى ابنُ أبي حاتِمٍ، وابنُ مَرْدُويَهْ، والطَّبَرَانِيُّ من طَرِيقِ كَثِيرِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ نحوَهُ أيضًا.

قولُهُ: (عن أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ) اسْمُهُ الحارِثُ بنُ عَوْفٍ، كمَا قالَ التِّرْمِذِيّ.

وقيلَ:الحارِثُ بنُ مالِكٍ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، ماتَ سنَةَ ثَمَانٍ وستِّينَ وله خَمْسٌ وثَمَانونَ سَنَةً.

قولُهُ: (خَرَجْنَا معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حُنَينٍ) في حديثِ عمرِو بنِ عَوْفٍ، قالَ: (غَزَوْنَا معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الفَتْحِ ونحنُ ألفٌ ونَيِّفٌ حتَّى إذا كُنَّا بينَ حُنَيْنٍ والطَّائِفِ).

ولا مُخَالَفَةَ بينَهما في المَعْنَى؛ فإنَّ غَزْوَةَ الفَتْحِ وحُنَيْنًا كانَتَا في سَفَرٍ واحِدٍ.

قولُهُ: (ونَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بكُفْرٍ) أي: قَرِيبُو عَهْدٍ بكُفْر.

ففيه: دَلِيلٌ أنَّ غيرَهُم لا يَجْهَلُ هذا،وأنَّ المُنْتَقِلَ مِن الباطِلِ الَّذي اعْتَادَهُ قَلْبُهُ لا يَأْمَنُ أن يَكُونَ في قلبِهِ بَقِيَّةٌ مِن تلكَ العادَاتِ الباطِلَةِ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.

قولُهُ: (يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا) الاعْتِكَافُ: هو الإِقَامَةُ عَلَى الشَّيءِ بالمكانِ، ولُزُومُهَا، ومِنه قولُهُ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لها عَاكِفُونَ}[الأنْبِياء:52] وكانَوا يَعْكُفُونَ عندَ هذه السِّدْرَةِ تَبَرُّكًا بهِا.

وفي حديثِ عمرِو بنِ عوفٍ قالَ: (كانَ يُنَاطُ بهِا السِّلاحُ فسُمِّيَتْ ذاتَ أَنْوَاطٍ، وكانَتْ تُعْبَدُ مِن دُونِ اللهِ، فلَمَّا رَآهَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَرَفَ عنها في يومٍ صائِفٍ إلى ظِلٍّ هو أَدْنَى مِنها…) الحديثَ.

فيُجْمَعُ بينَهُما بأنَّ عِبَادَتَها هي العُكُوفُ عندَها رَجَاءً لِبَرَكَتِهَا.

قولُهُ: (ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُم) أي: يُعَلِّقُونَها عليها للْبَرَكَةِ.

قولُهُ: (يُقَالُ لها: ذاتُ أَنْوَاطٍ) قالَ أَبُو السَّعَادَاتِ: (سألُوهُ أن يَجْعَلَ لَهم مِثْلَهَا فنَهَاهُم عن ذلك). و(أَنْوَاطٌ) جَمْعُ نَوْطٍ، وهو مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ المَنُوطُ.

قولُهُ: (فقلْنَا: يا رسولَ اللهِ، اجْعَلْ لنَا ذَاتَ أنْوَاطٍ) أي: شَجَرَةً مِثْلَها نُعَلِّقُ عليها، ونَعْكُفُ حواليْهَا، ظنُّوا أنَّ هذا أَمْرٌ مَحْبُوبٌ عندَ اللهِ فقَصَدُوا التَّقَرُّبَ إلى اللهِ بذلك، وإِلاَّ فَهُمْ أَجَلُّ قَدْرًا، وإن كانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بكُفْرٍ، عن قَصْدِ مُخَالَفَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قولُهُ: (فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللهُ أكبرُ))) هكذا في بَعْضِ الرِّواياتِ.

وفي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ:((سبحانَ اللهِ)) والمقصودُ باللفْظَيْنِ واحِدٌ؛ لأنَّ المُرَادَ تَعْظِيمُ اللهِ، وتنزيهُهُ عن الشِّرْكِ، والتَّقَرُّبُ بهِ إليه.

وفيه:تَكْبِيرُ اللهِ وتَنْزِيهُهُ عندَ التَّعَجُّبِ،أو ذِكْرِ الشِّركِ، خِلافًا لمَنْ كَرِهَهُ.



قولُهُ: (إنَّهَا السُّنَنُ) بضَمِّ السِّينِ، أي: الطُّرُقُ.

قولُهُ: ((قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كمَا قالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوَسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلهًا…})) إلخ.

أخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ هذا الأَمْرَ الَّذي طلَبُوه منْهُ، وهو اتِّخَاذُ شَجَرَةٍ للعُكُوفِ عندَهَا، وتعليقِ الأَسْلِحَةِ بِها تَبَرُّكًا، كالأمرِ الَّذي طلبَهُبَنُو إسرائِيلَ مِن موسى عليهِ السَّلامُ حيثُ قالُوا: {اجْعَلْ لنَا إِلَهًا كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فإذا كانَ اتِّخَاذُ شَجَرَةٍ لتعليقِ الأَسْلِحَةِ والعُكُوفِ عندَهَا اتِّخَاذَ إلهٍ معَ اللهِ معَ أنَّهُمْ لا يَعْبُدُونَهَا، ولا يَسْأَلُونَهَا، فما الظَّنُّ بما حَدَثَ مِن عُبَّادِ القُبُورِ مِن دُعَاءِ الأَمْوَاتِ، والاسْتِغَاثَةِ بِهِم، والذَّبْحِ، والنَّذْرِ لهم، والطَّوافِ بقُبُورِهِم، وتَقْبِيلِهَا، وتَقْبِيلِ أَعْتَابِهَا وجُدْرَانِها، والتَّمَسُّحِ بِهَا، والعُكُوفِ عندَهَا، وجَعْلِ السَّدَنَةِ والحُجَّابِ لها؟! وأيُّ نِسْبَةٍ بينَ هذا وبينَ تَعليقِ الأسْلِحَةِ عَلَى شَجَرَةٍ تَبَرُّكًا؟!

قالَ الإمامُ أبو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ مِن أئِمَّةِ المَالِكِيَّةِ: (فانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أيْنَمَا وَجَدْتُمْ سِدْرَةً أو شَجَرَةً يَقْصِدُهَا النَّاسُ، ويُعَظِّمُونَهَا، ويَرْجُونَ البُرْءَ والشِّفاءَ من قِبَلِهَا، ويَضْرِبُونَ بهِا المَسَامِيرَ والخِرَقَ، فهي ذاتُ أَنْوَاطٍ فاقْطَعُوهَا).

وقالَ الحافِظُ أبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ إسماعيلَ الشَّافِعيُّ المعروفُ بأبي شَامَةَ في كتابِ (البِدَعِ والحَوَادِثِ) (ومِنْ هذا القِسْمِ أيضًا ما قَدْ عَمَّ الابْتِلاَءُ بِهِ مِن تَزْيينِ الشَّيْطَانِ للعَامَّةِ، تَخْلِيقَ الحِيطَانِ والعُمُدِ، وسَرْجَ مَواضِعَ مَخْصُوصَةٍ في كُلِّ بَلَدٍ يَحْكِي لهم حَاكٍ أنَّهُ رَأَى في مَنَامِهِ بِهَا أحدًا مِمَّنْ شُهِرَ بالصَّلاحِ والوِلايَةِ فيَفْعَلُون ذلك، ويُحَافِظُونَ عليه معَ تَضْيِيعِهِم فَرائِضَ اللهِ تعالَى وسُنَنَهُ، ويَظنُّونَ أنَّهُم مُتَقَرِّبونَ بذلكِ، ثُمَّ يَتَجَاوَزُونَ هذا إلى أن يَعْظُمَ وَقْعُ تلكَ الأماكِنِ في قُلوبِهِم فيُعَظِّمُونَهَا، ويَرْجُونَ الشِّفاءَ لمَرْضَاهُمْ وقضاءَ حوائِجِهم بالنَّذْرِ لهم، وهي من بينِ عُيُونٍ وشَجَرٍ وحائِطٍ وحَجَرٍ).

وفي مدينةِ دِمَشْقَ، صانَهَا اللهُ من ذلك، مَوَاضعُ مُتَعَدِّدَةٌ كعونيةِِ الحُمَا خارجَ بابِ تُوما، والعَمُودِ المُخَلَّقِ دَاخِلَ بابِ الصَّغيرِ، والشَّجَرَةِ المَلْعُونَةِ اليابِسَةِ خارِجَ بابِ النَّصْرِ في نَفْسِ قارِعَةِ الطَّريقِ، سَهَّلَ اللهُ قَطْعَهَا واجْتِثَاثَهَا مِن أصلِهَا، فما أشبَهَهَا بذاتِ أَنْوَاطٍ الوارِدَةِ في الحديثِ! ثُمَّ ذَكَرَ الحديثَ المُتَقَدِّمَ.

وكلامَ الطَّرْطُوشيِّ الَّذي ذَكَرْنَا، ثُمَّ قالَ: (ولقدْ أَعْجَبَنِي ما صنَعَهُ الشَّيخُأبو إِسْحَاقَ الجَبْنِيَانيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أحدُ الصَّالِحِينَ ببلادِ إِفْرِيقِيَّةَ في المِائَةِ الرَّابِعَةِ، حَكَى عنه صاحِبُهُ الصَّالِحُأبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ أبي العبَّاسِ المؤدِّبُ أنَّهُ كانَ إلى جانِبِهِ عينٌ تُسَمَّى عينَ العافِيَةِ، كانَ العَامَّةُ قد افْتَتَنُوا بِهَا يأتونَهَا من الآفاقِ، مَنْ تعذَّرَ عليها نِكَاحٌ أو وَلَدٌ قالَت: امضُوا بي إلى العافِيَةِ، فتُعْرَفُ بهِا الفِتْنَةُ، قالَأبو عبدِ اللهِ: فأنَا في السَّحَرِ ذاتَ ليلةٍ إذْ سَمِعْتُ أذانَ أبي إِسْحَاقَ نَحوَهَا، فخَرَجْتُ فوَجَدْتُهُ قد هَدَمَهَا وأذَّنَ الصُّبحَ عليَها ثُمَّ قالَ: اللهُمَّ إنيِّ هَدَمْتُهَا لكَ فلاتَرْفَعْ لها رأسًا.

قالَ: فما رُفِعَ لها رأسٌ إلى الآن).

قلْتُ:أبو إسحاقَالَّذي هَدَمَهَا إمامٌ مَشْهورٌ مِن أئمَّةِ المالِكِيَّةِ، زاهِدٌ اسْمُهُ إبراهيمُ بنُ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ أَسْلَمَ، وكانَ الإمامُ أبو محمَّدِ بنُ أبي زيدٍ يُعَظِّمُ شَأْنَهُ، ويقولُ: (طريقُ أبي إِسْحاقَ خالِيَةٌ لا يَسْلُكُهَا أحَدٌ في الوَقْتِ).


وكانَ القَابِسِيُّ يقولُ: (الجَبْنِيَانِيُّإمامٌ يُقْتَدَى بهِ، ماتَ سَنَةَ تِسعٍ وستِّينَ وثلاثِمائةٍ).

وذكرَ ابنُ القَيِّمِ نحوَ ما ذَكَرَهُ أبو شَامَةَ، ثُمَّ قالَ: (فما أسْرَعَ أهلَ الشِّرْكِ إلى اتِّخَاذِ الأوثانِ من دونِ اللهِ! ولو كانَتْ ما كانَتْ، ويقولون: إنَّ هذا الحَجَرَ، وهذه الشَّجَرَةَ، وهذه العينَ تَقْبَلُ النَّذْرَ، أي: تَقْبَلُ العِبَادَةَ من دونِ اللهِ؛ فإنَّ النَّذْرَ عبادةٌ وقُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُ بهِا النَّاذِرُ إلى المَنْذُورِ لَهُ).

وسيأتي شيءٌ يَتَعَلَّقُ بهِذا البابِ عندَ قولِهِ: ((اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ))

وفي هذه الجُمْلَةِ مِن الفوائِدِ: أنَّ ما يفعلُهُ من يَعْتَقِدُ في الأَشْجَارِ والقُبُورِ والأحْجَارِ من التَّبَرُّكِ بهِا، والعُكُوفِ عندَها، والذَّبحِ لها، هو الشِّرْكُ، ولا يُغْتَرُّ بالعَوَامِّ والطَّغامِ، ولا يُسْتَبْعَدُ كونُ هذا شِرْكًا، ويَقَعُ في هذه الأُمَّةِ.

فإذا كانَ بعضُ الصَّحَابَةِ ظنُّوا ذلك حَسَنًا، وطلبُوهُ من النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بيَّنَ لهم أنَّ ذلك كقولِبني إسرائيلَ: (اجْعَلْ لنا إِلَهاً) فكيفَ بغيرِهِم مَعَ غَلَبَةِ الجَهْلِ وبُعدِ العَهْدِ بآثارِ النُّبُوَّةِ؟

وفيها:أنَّ الاعْتِبَارَ في الأحكامِ بالمعاني لا بالأسماءِ، ولهذا جَعَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلِبَتَهُم كطَلِبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ولم يَلْتَفِتْ إلى كونِهِم سَمَّوْهَا ذاتَ أنْواطٍ.

فالمُشْرِكُ وإن سَمَّى شِرْكَهُ ما سَمَّاهُ، كمَنْ يُسَمِّي دعاءَ الأمواتِ، والذَّبحَ لهم والنَّذْرَ ونحوَ ذلك تَعْظِيمًا ومَحَبَّةً، فإنَّ ذلك هو الشِّرْكُ، وإن سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ، وقِسْ عَلَى ذلك.

وفيها: أنَّ من عُبِدَ فهو إِلَهٌ؛ لأنَّبَنِي إسرائيلَوالَّذينَ سألوُا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُرِيدُوا مِن الأصْنَامِ والشَّجَرَةِ الخَلْقَ والرِّزْقَ، وإنَّمَا أرادُوا البَرَكَةَ، والعُكُوفَ عندَهَا، فكانَ ذلك اتِّخَاذًا له معَ اللهِ تعالى.

وفيه: أنَّ معنَى الإلهِ هو المَعْبُودُ، وأنَّ مَن أَرَادَ أن يَفْعَلَ الشِّرْكَ جَهْلاً فنُهيَ عن ذلك فانتَهَى لا يَكْفُرُ.

وأنَّ لا إلهَ إلا اللهُ تَنْفِي هذا الفِعْلَ معَ دِقَّتِهِ وخَفَائِهِ عَلَى أولئك الصَّحَابَةِ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ فكيفَ بما هو أَعْظَمُ منه؟

ففيه: رَدٌّ عَلَى الجُهَّالِ الَّذين يَظُنُّونَ أنَّ معناهُ الإقرارُ بأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ وأنَّ ما سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، ونحوُ ذلك مِن العباراتِ، والإغلاظُ عَلَى من وَقَعَ منه ذلك جَهْلاً.


قولُهُ: (لتَرْكَبُنَّ) بضمِّ المُوَحَدَّةِ، أي: لَتَتَّبِعُنَّ أنتم أيُّهَا الأُمَّةُ سُنَنَ مَن كانَ قبلَكُم، بضمِّ السِّينِ، أي: طُرُقَهُم ومَنَاهِجَهُم وأفْعَالَهُم، ويَجُوزُ فتحُ السِّينِ، وهذا خَبَرٌ صَحِيحٌ وُجِدَ كمَا أخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففيهِ دليلٌ عَلَى شَهَادَةِ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ.

وفي الحديثِ من الفَوائِدِ غيرُ ما تَقَدَّمَ:


النَّهْيُ عن التَّشَبُّهِ بأهْلِ الجاهِلِيَّةِ مِن أهلِ الكِتابِ والمُشْرِكينَ.


وأنَّهُ مُتَقَرِّرٌ عندَهُم أنَّ العِبَاداتِ مَبْنَاها عَلَى الأَمْرِ، فصَارَ فيها التَّنْبِيهُ عَلَى مَسَائِلِ القَبْرِ؛ (أمَّا (مَن رَبُّكَ؟)

فواضِحٌ، وأمَّا (مَن نَبِيُّكَ؟)

فمِن إخبارِهِ بأنباءِ الغَيْبِ، وأمَّا (ما دِينُكَ؟) فمِن قولِهِم: (اجْعَلْ لنا إِلَهًا) إلى آخِرِهِ، قالهُ المصنِّفُ.

وفيه: أنَّ الشِّرْكَ لا بُدَّ أن يَقَعَ في هذه الأُمَّةِ كمَا وَقَعَ فيمَنْ قبلَهَا.

ففيه: رَدٌّ عَلَى مَنْ قالَ: إنَّ الشِّرْكَ لا يَقَعُ في هذه الأُمَّةِ.

وفيه: سَدُّ الذَّرائِعِ، والغَضَبُ عندَ التَّعْلِيمِ، وأنَّ مَا ذَمَّ اللهُ بهِ اليهودَ والنَّصَارى، فإنَّهُ لنا لِنَحْذَرَهُ، ذَكَرَ ذلك المُصَنِّفُ.


تنبيهٌ:

ذَكَرَ بعضُ المتأخِّرينَ أنَّ التَّبَرُّكَ بآثارِ الصَّالِحينَ مُسْتَحَبٌّ،

كشُرْبِ سُؤْرِهِم، والتَّمَسُّحِ بِهِم، أو بثِيابِهِم، وحَمْلِ المولودِ إلى أَحَدٍ منهُم ليُحَنِّكَه بتَمْرَةٍ حتى يكونَ أوَّلَ ما يَدْخُلُ جَوْفَهُ رِيقُ الصَّالِحينَ، والتَّبَرُّكِ بعَرَقِهِم ونحوِ ذلك، وقد أَكْثَرَ مِن ذلك أبو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ في (شَرْحِ مُسْلِمٍ) في الأحاديثِ التي فيها أنَّ الصَّحَابَةَ فعلُوا شيئًا من ذلك مَعَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وظنَّ أنَّ بَقِيَّةَ الصَّالِحينَ في ذلك كالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


وهذا خَطَأٌ صَرِيحٌ لوجوهٍ:

منها: عَدَمُ المُقَارَبَةِ فضلاً عن المُسَاوَاةِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفَضْلِ والبَرَكَةِ.

ومنها: عدمُ تَحْقُّقِ الصَّلاحِ؛فإنَّهُ لا يَتَحَقَّقُ إلا بصَلاحِ القَلْبِ، وهذا أمرٌ لا يُمْكِنُ الاطِّلاعُ عليه إلا بنَصٍّ، كالصَّحَابَةِ الَّذينَ أَثْنَى اللهُ عليهم ورسولُهُ، أو أئمَّةِ التَّابِعِينَ، ومَنْ شُهِرَ بصَلاحٍ ودِينٍ كالأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ ونحوِهِم مِن الَّذينَ تَشْهَدُ لهم الأُمَّةُ بالصَّلاحِ، وقد عُدِمَ أولئك، أمَّا غيرُهُم، فغايةُ الأمْرِ أن نَظُنَّ أنَّهُم صالِحونَ فنَرْجُو لهم.


ومنها:أنَّا لو ظَنَنَّا صلاحَ شَخْصٍ، فلا نَأْمَنُ أن يُخْتَمَ له بخَاتِمَةِ سُوءٍ، والأعمالُ بالخواتِيمِ، فلا يَكونُ أَهْلاً للتَّبَرُّكِ بآثارِهِ.

ومنها:أنَّ الصَّحَابَةَ لم يكونوا يَفْعَلُونَ ذلك مع غيرِهِ،لا في حياتِهِ، ولا بعدَ موتِهِ، ولو كانَ خيرًا لسبقُونَا إليه، فَهَلاَّ فعلُوهُ معَ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وعَلِيٍّ ونحوِهِم مِن الَّذينَ شَهِدَ لهمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنَّةِ، وكذلِكَ التَّابعونَ هلاَّ فعلُوهُ معَ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وعليِّ بنِ الحُسَيْنِ وأُوَيْسٍ القَرَنِيِّ، والحَسَنِ البَصْرِيِّ ونحوِهِم ممن يُقْطَعُ بصلاحِهِم، فدَلَّ أنَّ ذلك مخصوصٌ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ومنها:أنَّ فِعْلَ هذا معَ غيرِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُؤْمَنُ أن يَفْتِنَهُ،وتُعْجِبَهُ نفسُهُ، فيُورِثَهُ العُجْبَ والكِبْرَ والرِّياءَ، فيكونَ هذا كالمَدْحِ في الوَجْهِ، بل أعْظَمَ.

هيئة الإشراف

#3

26 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ مَن تَبَرَّكَ بشَجَرةٍ أو حَجَرٍ ونحوِهما) كبُقْعَةٍ أوقَبْرٍ ونحوِ ذلك، أي: فهو مُشْرِكٌ.

(2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولِ اللهِ تَعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النَّجْم:19-23] )

وكانَت اللاَّتُ لثَقِيفٍ، والعُزَّى لقُرَيْشٍ وبَنِي كِنانَةَ، ومَناةُ لِبَنِي هِلالٍ.

- وقال ابنُ هِشامٍ: (كانَتْ لهُذَيْلٍ وخُزاعَةَ).

فأمَّا (اللاَّتُ) فقَرَأَ الجُمْهورُ بتخفيفِ التَّاءِ، وقَرَأ ابنُ عَبَّاسٍ، وابنُ الزُّبَيْرِ، ومُجاهِدٌ، وحُمَيْدٌ، وأَبُو صالِحٍ، ورُوَيْسٌ ويَعْقُوبُ بتَشْديدِ التَّاءِ.

فعَلَى الأُولَى: قال الأَعْمَشُ: (سَمَّوا اللاَّتَ مِن الإلهِ، والعُزَّى مِن العَزِيزِ).

قال ابنُ جَرِيرٍ: (وكانوا قد شَقُّوا اسمَها مِن اسمِ اللهِ تعالى، فَقَالوا: اللاَّتُ مُؤنَّثةٌ مِنه، تعالى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كبيرًا).

قال: (وكَذا العُزَّى مِن العَزِيزِ).

وقال ابنُ كثيرٍ: (اللاَّتُ كانَت صَخْرةً بَيْضاءَ مَنْقوشةً، عليها بيتٌ بالطَّائفِ له أَسْتارٌ وسَدَنةٌ، وحولَه فِناءٌ مُعَظَّمٌ عندَ أهلِ الطَّائفِ -وهم ثَقِيفٌ ومَن تَبِعَها- يَفْتَخِرُون به على مَن عَداهُم مِن أحياءِ العربِ بعدَ قُرَيشٍ).

قال ابنُ هِشامٍ: (فبَعَث رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المُغِيرةَ بنَ شُعْبَةَ فهَدَمَها وحَرَّقَها بالنَّارِ).

وعلى الثَّانيةِ: قال ابنُ عَبَّاسٍ: (كان رَجُلاً يَلُتُّ السَّوِيقَ للحاجِّ، فلمَّا مات عَكَفُوا على قَبْرِه) ذَكَرَه البُخارِيُّ.

- قال ابنُ عَبَّاسٍ: (كان يَبِيعُ السَّوِيقَ والسَّمْنَ عندَ صخرةٍ ويَسْلَؤُه عليها، فلمَّا مات ذلك الرَّجلُ عَبَدَت ثَقِيفٌ تلك الصَّخرةَ إعْظامًا لِصاحِبِ السَّوِيقِ).

- وعن مُجاهِدٍ نحوَه، وقال: (فَلَمَّا ماتَ عَبَدُوهُ) رَوَاه سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ.

- وكَذا رَوَى ابنُ أَبِي حاتِمٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّهُمْ عَبَدُوه).

وبنحوِ هذا قال جماعةٌ مِن أهلِ العِلْمِ.

قُلْتُ: لا مُنافاةَ بينَ القولَين، فإنَّهم عَبَدُوا الصَّخْرةَ والقَبْرَ تَأَلُّهًا وتَعْظِيمًا، ولمثلِ هذا بُنِيَت المَشاهِدُ والقِبابُ على القبورِ واتُّخِذَت أَوْثانًا.

وفيه بَيانً أنَّ أهلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا يَعْبُدُون الصَّالحِين والأَصْنامَ والأَوْثَانَ.

وأمَّا (العُزَّى) فقال ابنُ جَرِيرٍ: (كانَتْ شَجَرةً عليها بِناءٌ وأَسْتارٌ بنَخْلَةَ -بينَ مَكَّةَ والطَّائفِ- كانَتْ قُرَيْشٌ يُعَظِّمُونَها).

كما قال أَبُو سُفْيانَ يومَ أُحُدٍ: (لَنا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُم).

فقال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُولُوا: اللهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ)).

ورَوَى النَّسائِيُّ، وابنُ مَرْدُويَه، عن أَبِي الطُّفَيْلِ قال: (لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ بَعَثَ خَالدَ بنَ الوَليدِ إِلى نَخْلَةَ وَكَانَتْ بِهَا العُزَّى، وَكَانَتْ عَلَى ثلاثِ سَمُراتٍ، فَقَطَعَ السَّمُراتِ، وَهَدَمَ البَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ((ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا)).

فَرَجَعَ خَالِدٌ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْهُ السَّدَنَةُ أَمْعَنُوا في الجَبَلِ وَهُمْ يَقُولونَ: (يَا عُزَّى يَا عُزَّى).

فَأَتَاهَا خَالِدٌ، فَإِذَا امْرَأةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، تَحْفِنُ التُّرابَ علَى رَأْسِها، فَعَمَّمَها بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهَا.

ثُمَّ رَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ؛ فَقَالَ: ((تِلْكَ العُزَّى)).

قَالَ أَبُو صَالِحٍ: (كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا السِّيُورَ والعِهْنَ) رَوَاهُ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.

قُلْتُ: وَكُلُّ هذا، وما هو أَعْظَمُ مِنْهُ، يَقَعُ في هذِهِ الأَزْمِنةِ عندَ ضَرائِحِ الأَمْوَاتِ وفي المَشاهِدِ.

وأما (مَنَاةُ): فكانَتْ بالمُشَلَّلِ عندَ قُدَيْدٍ، بينَ مَكَّةَ والمدينةِ، وكانت خُزاعَةُ والأَوْسُ والخَزْرَجُ يُعَظِّمُونها، ويُهِلُّون مِنها للحَجِّ.

وأصلُ اشْتِقاقِها:

-مِن اسمِ اللهِ المَنَّانِ.

وقِيلَ: لِكَثْرةِ ما يُمْنَى-أي: يُراقُ- عندَها مِن الدِّماءِ للتَّبَرُّكِ بها.

قال البُخارِيُّ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى في حديثِ عُرْوَةَ عنِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (إِنَّها صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ والمدينةِ).

قال ابنُ هِشامٍ: (فبَعَث رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلِيًّا فهَدَمَها عامَ الفَتْحِ).

وقَالَ العِمَادُ ابنُ كَثِيرٍ: (فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ في غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ فَكَسَرَها).

فمعنى الآيةِ كما قال القُرْطُبِيُّ: (إنَّ فيها حَذْفًا تَقْدِيرُه: أَفَرَأَيْتُم هذه الآَلِهةَ؛ أَنَفَعَتْ أو ضَرَّتْ، حتَّى تَكونَ شُرَكاءَ للهِ تعالى؟).

وقولُه: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} قال ابنُ كَثِيرٍ: (أتَجْعَلُون له وَلَدًا، وتَجْعَلُون وَلَدَه أُنْثَى، وتَخْتَارُون لكم الذُّكُورَ؟).

قولُه: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي: جَوْرٌ وباطِلةٌ.

فكيف تُقَاسِمُون ربَّكَم هذه القِسْمةَ الَّتي لو كانت بينَ مَخْلُوقِين كانت جَوْرًا وسَفَهًا؟ فتُنَزِّهُونَ أنفُسَكم عَن الإِناثِ، وتَجْعَلُونَهنَّ للهِ تعالى.

وقولُه: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} أي: مِن تِلْقاءِ أنفُسِكم.

{مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي: مِن حُجَّةٍ.

{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ} أي: ليس لهم مُسْتَنَدٌ إلاَّ حُسْنُ ظَنِّهم بآبائِهم الَّذِين سَلَكُوا هذا المَسْلَكَ الباطِلَ قبلَهم، وإلاَّ حَظُّ أنفُسِهم في رِياسَتِهم وتَعْظيمِ آبائِهم الأَقْدَمِين.

قولُه: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} قال ابنُ كثيرٍ: (ولقد أَرْسَلَ اللهُ تعالى إليهم الرُّسلَ بالحقِّ المُنِيرِ والحُجَّةِ القاطِعةِ، ومع هذا ما اتَّبَعُوا ما جاؤُوهم به ولا انْقادُوا له).اهـ.

ومُطابَقةُ الآياتِ للتَّرْجمةِ

مِن جِهةِ أنَّ عُبَّادَ هذه الأَوْثانِ إنَّما كانُوا يَعْتَقِدُون حُصولَ البَرَكةِ مِنها بتَعْظِيمِها ودُعائِها، والاسْتِعانةِ بها، والاعْتِمادِ عليها في حُصُولِ ما يَرْجُونه مِنها، ويُؤَمِّلُونه ببرَكَتِها وشَفاعتِها، وغيرِ ذلك.

فالتَّبَرُّكُ بقُبورِ الصَّالحِين؛كاللاَّتِ،وبالأَشْجارِ والأحْجارِ؛ كالعُزَّى ومَناةَ، مِن فِعْلِ جُمْلَةِ أولئك المُشرِكِين مع تلك الأَوْثانِ، فمَن فَعَلَ مِثلَ ذلك، أو اعْتَقَدَ في قَبْرٍ أو حَجَرٍ أو شَجَرٍ فقد ضَاهَى عُبَّادَ هذه الأَوْثانِ فيمَا يَفْعَلُونه مَعَها مِن هذا الشِّرْكِ، على أنَّ الوَاقِعَ مِن هؤلاء المُشْرِكِين مَع مَعْبُودِيهم أَعْظَمُ ممَّا وَقَع مِن أولئك، فاللهُ المُسْتَعانُ.

(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى حُنَيْنٍ، ونَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِلْمُشْرِكينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْواطٍ كَما لَهُمْ ذاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّها السُّنَنُ، قُلْتُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، كَما قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَلِمُوسَى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138] لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبلَكُم)) رَوَاه التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَه.

أَبُو وَاقِدٍ اسمُه الحارِثُ بنُ عَوْفٍ، وفي البابِ عن أَبِي سَعِيدٍ، وأَبِي هُرَيْرَةَ، قالَه التِّرْمِذِيُّ، وقد رَوَاه أَحْمَدُ، وأَبُو يَعْلَى، وابنُ أَبِي شَيْبَةَ، والنَّسائِيُّ، وابنُ جَرِيرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أَبِي حاتِمٍ، والطَّبَرَانِيُّ بنحوِه.

قولُه: (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ) تَقَدَّمَ اسْمُه في قولِ التِّرْمِذِيِّ، وهو صَحَابِيٌّ مَشْهورٌ، مات سَنَةَ ثَمانٍ وسِتِّينَ، وله خمسٌ وثَمانونَ سَنَةً.

قولُه: (خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حُنَيْنٍ) وفي حديثِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، وهو عندَ ابنِ أَبِي حاتِمٍ، وابنِ مَرْدُويَه، والطَّبَرَانِيِّ قال: (غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الفَتْحِ، وَنَحْنُ أَلْفٌ ونَيِّفٌ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بَيْنَ حُنَينٍ وَالطَّائِفِ الحديثَ).

قولُه: (وَنَحْنُ حُدَثاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ) أيْ: قريبٌ عَهْدُنا بالكُفْرِ، ففيه دَليلٌ على أنَّ غَيْرَهم مِمَّن تَقَدَّمَ إسْلامُه مِن الصَّحابةِ لا يَجْهَلُ هذا، وأنَّ المُنْتَقِلَ مِن الباطِلِ الَّذي اعْتَادَه قلبُه لا يَأْمَنُ أن يَكونَ في قلبِه بَقِيَّةٌ مِن تلك العَادةِ، ذَكَرَه المُصَنِّفُ.

قولُه: (وَلِلمُشرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا) العُكُوفُ: هو الإِقامةُ على الشَّيءِ في المكانِ، ومنه قولُ الخَلِيلِ عليه السَّلامُ: {مَا هَـذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء:52].

وكان عُكُوفُ المُشْرِكِين عندَ تلك السِّدْرَةِ تَبَرُّكًا بها وتَعْظِيمًا لها.

وفي حديثِ عَمْرٍو: ((كَانَ يُناطُ بِها السِّلاحُ)) فَسُمِّيَتْ ذَاتَ أَنْواطٍ، وَكانَتْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ.

قولُه: (وَيَنوطُونَ بِها أَسْلِحَتَهُم) أي: يُعَلِّقُونَها عليها للبَرَكةِ.

قُلْتُففي هذا بَيانُ أنَّ عِبادتهَم لها بالتَّعْظِيمِ والعُكُوفِ والتَّبَرُّكِ، وبهذه الأمورِ الثَّلاثةِ عُبِدَت الأَشْجارُ ونحوُها.

قولُه: (فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ) قال أَبُو السَّعاداتِ: (سَأَلُوه أن يَجْعَلَ لهم مِثلَها فنَهَاهُم عن ذلك).

وأَنْوَاطٌ جَمْعُ نُوطٍ، وهو مَصْدرٌ سُمِّيَ بها المَنُوطُ.

ظَنُّوا أنَّ هذا مَحْبوبٌ عندَ اللهِ، وقَصَدُوا التَّقَرُّبَ به، وإلاَّ فهم أَجَلُّ قَدْرًا مِن أن يَقْصِدُوا مُخالَفةَ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قولُه: (فقَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللهُ أَكْبَرُ!)) وفي رِوايةٍ ((سُبْحَانَ اللهِ!)))والمرادُ تَعْظِيمُ اللهِ تعالى، وتَنْـزِيهُهُ عن هذا الشِّركِ بأيِّ نَوْعٍ كان، ممَّا لا يَجوزُ أن يُطْلَبَ ويُقْصَدَ به غيرُ اللهِ، وكان النَّبيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتَعْمِلُ التَّكْبِيرَ والتَّسْبِيحَ في حالِ التَّعَجُّبِ تَعظِيمًا للهِ وتَنْـزِيهًا له إذا سَمِعَ مِن أَحَدٍ ما لا يَلِيقُ باللهِ، ممَّا فيه هَضْمٌ للرُّبوبيَّةِ والإلهيَّةِ.

قولُه: (إِنَّها السُّنَنُ) بضَمِّ السِّينِ، أي: الطُّرُقُ.

قولُه: (قُلْتُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، كَمَا قَالتْ بَنُو إِسْرَائِيل لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَّنَا إِلَـهًا}).

شَبَّهَ مَقالَتَهم هذه بمقالةِ بَنِي إِسْرائِيلَ، بِجَامِعِ أنَّ كُلاًّ طَلَب أن يُجْعَلَ له ما يُأَلِّهُه ويَعْبُدُه مِن دُونِ اللهِ، وإن اخْتَلَفَ اللَّفْظانِ فالمعنى واحِدٌ، فتَغْيِيرُ الاسمِ لا يُغَيِّرُ الحَقِيقةَ.

ففِيه الخَوْفُ مِن الشِّركِ،وأنَّ الإنسانَ قد يَسْتَحْسِنُ شَيئًا يَظُنُّه يُقَرِّبُه إلى اللهِ، وهو أَبْعَدُ ما يُبْعِدُه مِن رَحمتِه ويُقَرِّبُه مِن سَخَطِه، ولا يَعْرِفُ هذا على الحقِيقةِ إلاَّ مَن عَرَفَ ما وَقَعَ في هذه الأَزْمانِ مِن كَثِيرٍ مِن العُلماءِ والعُبَّادِ مع أَرْبابِ القُبورِ؛ مِن الغُلُوِّ فيها وصَرْفِ جُلِّ العِبادةِ لها، ويَحْسَبُون أنَّهم على شَيءٍ، وهو الذَّنْبُ الَّذِي لا يَغْفِرُه اللهُ.

قال الحافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عبدُ الرَّحمنِ بنُ إِسْماعِيلَ الشَّافِعِيُّ المَعْروفُ بأَبِي شَامَةَ في كِتابِ (البِدَعِ والحَوَادِثِ): (ومِن هذا القِسْمِ أيضًا ما قد عَمَّ الابْتِلاءُ به مِن تَزْيِينِ الشَّيطانِ للعامَّةِ تَخْلِيقَ الحِيطانِ والعُمُدِ، وسْرجَ مَواضِعَ مَخْصُوصةٍ في كُلِّ بَلَدٍ، يَحْكِي لهم حَاكٍ: أَنَّهُ رَأَى في مَنامِه بها أَحَدًا ممَّن شُهِرَ بالصَّلاحِ والوِلايةِ، فيَفْعَلُون ذلك، ويُحافِظُون عليه مع تَضْيِيعِهم فَرائِضَ اللهِ تَعالى وسُنَنَهُ، ويَظُنُّون أَنَّهُم مُتَقَرِّبُون بذلك، ثُمَّ يَتَجاوَزُون هذا إلى أن يَعْظُمَ وَقْعُ تلك الأَمَاكِنِ في قُلُوبِهم فيُعَظِّمُونَها، ويَرْجُون الشِّفاءَ لمَرْضاهُم، وقَضاءَ حَوائِجِهم بالنَّذْرِ لها، وهي مِن عُيونٍ وشَجَرٍ وحائِطٍ وحَجَرٍ، وفي مدينةِ دِمَشْقَ مِن ذلك مَواضِعُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ كعُوَيْنَةِ الحُمَّى خارِجَ بابِ تُومَا، والعَمُودِ المُخَلَّقِ داخِلَ بابِ الصَّغِيرِ، والشَّجَرَةِ المَلْعُونةِ خارِجَ بابِ النَّصْرِ في نَفْسِ قارِعةِ الطَّرِيقِ، سَهَّلَ اللهُ قَطْعَها واجْتِثاثَها مِن أَصْلِها، فما أَشْبَهَها بِذاتِ أَنْواطٍ الوَارِدةِ في الحديثِ) انْتَهَى.

وذَكَر ابنُ القَيِّمِ، رَحِمَه اللهُ تعالى، نحوُ ما ذَكَرَه أَبُو شَامَةَ، ثُمَّ قال: (فما أَسْرَعَ أهلَ الشِّركِ إلى اتِّخاذِ الأَوْثانِ مِن دُونِ اللهِ، ولو كانت ما كانت).

ويَقولون: (إنَّ هذا الحجَرَ وهذه الشَّجَرةَ وهذه العَيْنَ تَقْبَلُ النَّذْرَ) أي: تَقْبَلُ العِبادةَ مِن دُونِ اللِه؛ فإنَّ النَّذْرَ عِبادةٌ وقُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُ بها النَّاذِرُ إلى المَنْذُورِ له، وسَيَأْتِي ما يَتَعَلَّقُ بهذا البَابِ عندَ قولِه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعْبَدُ)).

وفي هذه الجُمْلةِ مِن الفَوَائِدِ:

أنَّ ما يَفْعَلُه مَنْ يَعْتَقِدُ في الأَشْجارِ والقُبورِ والأَحْجَارِ؛ مِن التَّبَرُّكِ بها، والعُكُوفِ عندَها، والذَّبْحِ لها، هو الشِّركُ.

ولا يُغْتَرُّ بالعَوَامِّ والطَّغامِ، ولا يُسْتَبْعَدُ كَوْنُ الشِّركِ باللهِ تعالى يَقَعُ في هذه الأُمَّةِ؛ فإذا كان بَعْضُ الصَّحابةِ ظَنُّوا ذلك حَسَنًا، وطَلَبُوه مِن النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتَّى بَيَّنَ لهم أنَّ ذلك كَقَوْلِ بَنِي إِسْرائِيلَ: {اجْعَلْ لَّنَا إِلَـهًا} [الأعراف:138] فكيف لا يَخْفَى على مَن هو دونهَم في العِلمِ والفَضْلِ بأَضْعافٍ مُضاعَفةٍ مع غَلَبَةِ الجَهْلِ وبُعْدِ العَهْدِ بآثارِ النُّبوَّةِ؟!

بل خَفِيَ عليهم عَظَائِمُ الشِّركِ في الإلهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ، فَأَكْبَرُوا فِعْلَهُ واتَّخَذُوه قُرْبَةً.

ومنها: أنَّ الاعْتِبارَ في الأَحْكامِ بالمَعانِي لا بالأَسْماءِ،ولهذا جَعَلَ النَّبيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَلَبَهُم كطَلَبِ بَنِي إِسْرائِيلَ، ولم يَلْتَفِتْ إلى كَوْنِهم سَمَّوها ذاتَ أَنْواطٍ.

فالمُشْرِكُ مُشْرِكٌ، وإنْ سَمَّى شِرْكَه ما سَمَّاه، كمَن يُسَمِّي دُعاءَ الأَمْواتِ والذَّبْحَ لهم والنَّذْرَ ونحوَ ذلك تَعْظِيمًا ومَحَبَّةً، فإنَّ ذلك هو الشِّرْكُ؛ وإنْ سَمَّاه ما سَمَّاه. وقِسْ على ذلك.

قولُه: ((لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) بضَمِّ المُوَحَّدةِ وضَمِّ السِّينِ، أي: طُرُقَهم ومَنَاهِجَهم، وقد يَجوزُ فَتْحُ السِّينِ على الإِفْرادِ، أي: طَرِيقَهم وهذا خَبَرٌ صَحِيحٌ.

والواقِعُ مِن كثيرٍ مِن هذه الأُمَّةِ يَشْهَدُ له.

وفيه عَلَمٌ مِن أَعْلامِ النُّبوَّةِ، مِن حيث إنَّه وَقَع كَمَا أَخْبَرَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وفي الحديثِ: النَّهْيُ عَن التَّشَبُّهِ بأَهْلِ الجاهِلِيَّةِوأَهْلِ الكِتابِ فيمَا كانُوا يَفْعَلُونه، إلاَّ ما دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّهُ مِن شَرِيعةِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ المُصَنِّفُ: (وفيه التَّنْبِيهُ على مَسائلِ القَبْرِ، أمَّا: مَن رَبُّك؟

فوَاضِحٌ.

وأمَّا: مَن نَبِيُّك؟

فَمِنْ إخبارِه بأنْباءِ الغَيْبِ.

وأمَّا: ما دِينُك؟

فمِن قولِهم: اجْعَلْ لنا إلهًا إلى آخرِه.

وفيه: أنَّ الشِّركَ لا بُدَّ أن يَقَعَ في هذه الأُمَّةِ خِلافًا لمَن ادَّعَى خِلافَ ذلك، وفيه الغَضَبُ عندَ التَّعْلِيمِ، وأنَّ ما ذَمَّ اللهُ به اليَهُودَ والنَّصارَى، فإنَّه قالَه لنا لِنَحْذَرَه) قالَه المُصَنِّفُ.

وأمَّا ما ادَّعَاه بَعْضُ المُتَأَخِّرِين مِن أَنَّهُ يَجوزُ التَّبَرُّكُ بآثارِ الصَّالحِين فمَمْنوعٌ مِن وُجوهٍ:

مِنها:أنَّ السَّابِقِين الأَوَّلِين مِن الصَّحابَةِ ومَن بعدَهم لم يَكُونوا يَفْعَلُون ذلك مع غَيرِ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا في حَياتِه، ولا بَعْدَ موتِه.

ولو كان خَيْرًا لَسَبَقُونا إليه، وأَفْضَلُ الصَّحابةِ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ وعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. وقد شَهِدَ لهم رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيمَن شَهِدَ له بالجَنَّةِ؛ وما فَعَلَه أَحَدٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعِين مع أَحَدٍ مِن هؤلاء السَّادَةِ، ولا فَعَلَه التَّابِعون مع ساداتِهم في العِلْمِ والدِّينِ وأَهْلِ الأُسْوَةِ.

فلا يَجوزُ أن يُقاسَ على رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَدٌ مِن الأُمَّةِ، وللنَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حالِ الحَياةِ خَصائِصُ كثيرةٌ لا يَصْلُحُ أن يُشارِكَه فيها غيرُه.

ومنها:أنَّ في المَنْعِ عن ذلك سَدًّا لذَرِيعةِ الشِّركِ،كما لا يَخْفَى.

هيئة الإشراف

#4

26 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) بابُ مَن تَبَرَّكَ بشَجَرٍ أو حَجَرٍ ونَحْوِهما

أي: فإنَّ ذلك من الشرْكِ، ومن أعمالِ المشرِكِينَ،فإنَّ العُلَماءَ اتَّفَقُوا عَلَى أنَّه لاَ يُشْرَعُ التبَرُّكُ بشيءٍ من الأَشْجَارِ والأحْجَارِ والبُقَعِ والمَشاهِدِ وغيرِها.

فإنَّ هذا التبَرُّكَ غُلُوٌّ فيها،وذلك يَتَدَرَّجُ به إلى دُعائِهَا وعبادَتِها، وهذا هو الشرْكُ الأكبرُ كما تَقَدَّمَ انْطِباقُ الحدِّ عَلَيْهِ، وهذا عامٌّ في كُلِّ شيءٍ حَتَّى مَقامِ إبْراهِيمَ، وحُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ وغَيرِها مِن البُقَعِ الفاضِلَةِ.

وأمَّا اسْتِلاَمُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ وتَقْبِيلُه واسْتِلاَمُ الرُّكْنِ اليَمَانِيِّ من الكعبةِ المُشَرَّفَةِ،فهذا عُبُودِيَّةٌ للهِ وتَعْظِيمٌ للهِ وخُضُوعٌ لعَظَمَتِه، فهو رُوحُ التَّعَبُّدِ.

فهذا تعظيمٌ للخَالِقِ وتَعَبُّدٌ له، وذلك تَعْظيمٌ للمَخْلُوقِ وَتَأَلُّهٌ له.

فالفَرْقُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ كالفَرْقِ بَيْنَ الدُّعاءِ للهِ الذِي هو إِخْلاَصٌ وتَوْحِيدٌ، والدُّعاءِ للمَخْلُوقِ الذِي هو شِرْكٌ وتَنْدِيدٌ.

هيئة الإشراف

#5

26 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) قوْلُهُ: (تبرَّكَ) تَفَعَّلَ مِن البَركَةِ، والبَرَكةُ:هيَ كثْرةُ الخيرِ وثبُوتُهُ، وهيَ مأخوذةٌ من الْبِرْكةِ بالكسرِ، والبِرْكةُ مَجْمَعُ الماءِ، ومجمعُ الماءِ يتمَيَّزُ عنْ مَجْرَى الماءِ بأمرَيْنِ:

الأول:الكثرةِ.

الثاني:الثبوتِ.

والتبرُّكُ: طلبُ البركةِ، وطلبُ البرَكةِ لا يخْلُو مِنْ أمرَيْنِ:

أحدهما:أنْ يكونَ التبرُّكُ بأمرٍ شرعيٍّ معلومٍ، مثلِ القُرْآنِ، قالَ تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ}.

فمِنْ بَركَتِهِ:أنَّ مَنْ أخَذَ بهِ حَصَلَ لهُ الفتحُ، فأنقذَ اللهُ بذلكَ أُمَمًا كثيرةً من الشركِ.

ومنْ بَرَكَتِهِ:أنَّ الحرفَ الواحدَ بعَشْرِ حسناتٍ، وهذا يوفِّرُ للإنسانِ الوقتَ والجهدَ، وغيرُ ذلِكَ مِنْ بركاتِهِ الكثيرةِ.

الآخر: أنْ يكونَ بأمرٍ حسِّيٍّ معلومٍ، مثلِ: العِلْمِ والدُّعاءِ ونحْوِهِ، فهذا الرَّجُلُ يُتَبَرَّكُ بعِلْمِهِ ودَعْوَتِهِ إلى الخيرِ، فيكونُ هذا برَكَةً؛ لأنَّنا نِلْنَا مِنهُ خيرًا كثيرًا.

قالَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ: (ما هَذِهِ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آلَ أَبي بِكْرٍ).

فإنَّ اللهَ يُجرِي على يدِ بعضِ الناسِ مِنْ أُمورِ الخيرِ ما لا يُجْرِيهِ على يدِ الآخَرِ.

وهناكَ بركاتٌ مَوْهُومَةٌ باطلةٌ، مثلُ ما يزْعَمُهُ الدَّجَّالونَ أَنَّ فُلانًا الميِّتَ الذي يزْعُمُونَ أنَّهُ وليٌّ أنْزَلَ عليكُم منْ برَكَتِهِ وما أشْبَهَ ذلكَ، فهذهِ بركةٌ باطلةٌ لا أثرَ لها، وقدْ يكونُ للشيطانِ أثرٌ في هذا الأمرِ، لكنَّها لا تَعْدُو أنْ تكونَ آثارًا حسِّيَّةً، بحيثُ إنَّ الشيطانَ يخْدِمُ هذا الشيخَ، فيكونُ في ذلكَ فتنةٌ.

أمَّا كيفيَّةُ معرفةِ هلْ هذهِ من البركاتِ الباطلةِ أو الصحيحةِ؟

فَيُعرفُ ذلكَ بحالِ الشخصِ،فإنْ كانَ منْ أولياءِ اللهِ المُتَّقِينَ المُتَّبِعِينَ للسُّنَّةِ المُبْتَعِدِينَ عن البدعةِ، فإنَّ اللهَ قدْ يجعلُ على يديهِ من الخيرِ والبركةِ ما لا يحْصُلُ لغيرِهِ.

قولُهُ: (شَجَرٍ) اسمُ جِنْسٍ، فيشملُ أيَّ شجرةٍ تكونُ.

قولُهُ: (أو حَجَرٍ) اسمُ جنسٍ يشملُ أيَّ حجرٍ كانَ، حَتَّى الصخرةِ التي في بيتِ المقدسِ فلا يُتَبَرَّكُ بها.

وكذا الحجرُ الأسودُ لا يُتبرَّكُ بهِ،وإنَّما يُتعَبَّدُ للهِ بمسْحِهِ وتقْبِيلِهِ؛ اتباعًا للرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وبذلكَ تحْصُلُ بركةُ الثوابِ.

ولهذا قالَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنهُ: (إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا أَنِّي رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ).

فتقبيلَهُ عبادةٌ مَحْضَةٌ خلافًا للعامَّةِ يظُنُّونَ أنَّ بهِ بركةً حسِّيَّةً؛ ولذلكَ إذا اسْتَلَمَهُ بعضُ هؤلاءِ مسحَ على جميعِ بدَنِهِ تبرُّكًا بذلكَ.

قولُهُ: (ونَحْوِهِما) أيْ: مِن البيوتِ والقِبابِ والْحُجَرِ، حتَّى حُجْرَةِ قبْرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فلا يُتَمَسَّحُ بها تبرُّكًا، لكنْ لوْ مُسِحَ الحديدُ ليُنْظَرَ هلْ هوَ أمْلَسُ أوْ لا، فلا بأْسَ، إلاَّ إنْ خُشِيَ أنْ يُقتدَى بهِ فلا يَمْسَحْهُ.

(2) قولُهُ:{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى}.

قولُهُ: {اللاَّتَ} تُقْرَأُ بتشديدِ التاءِ وتخفيفِهَا. والتشديدُ قراءةُ ابنِ عبَّاسٍ.

فعلى قراءةِ التشديدِ:

تكونُ اسمَ فاعلٍ من اللَّتِّ،وكانَ هذا الصنَمُ أصلُهُ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ للحُجَّاجِ، أيْ: يجْعَلُ، فيهِ السَّمْنَ، ويُطْعِمُهُ الحُجَّاجَ، فلمَّا ماتَ عكَفُوا على قبْرِهِ وجعَلُوهُ صنمًا.

وأمَّا على قراءةِ التخفيفِ:فإنَّ اللاتَ مُشْتَقَّةٌ من اللهِ، أوْ مِن الإلهِ، فهم اشتقُّوا مِنْ أسماءِ اللهِ اسمًا لهذا الصنمِ، وسمَّوْهُ باللاتِ، وهيَ لأهلِ الطائفِ ومَنْ حوْلَهُم من العربِ.

وقولُهُ: {والعُزَّى} مُؤَنَّثُ أعزَّ، وهو صنمٌ يعبُدُهُ قريشٌ وبنُو كِنَانَةَ، مشتَقٌّ من اسمِ اللهِ العزيزِ، كانَ بنخْلَةَ بينَ مكَّةَ والطائفِ.

قوْلُهُ: {وَمَنَاةَ} قيلَ: مشتَقَّةٌ مِن المَنَّانِ.

وقيلَ: مِنْ مِنًى، لكثرةِ ما يُمْنَى عندَهُ مِنَ الدماءِ،بمعنى يُراقُ، ومنهُ سُمِّيَتْ منًى لكثرةِ ما يُراقُ فيها من الدماءِ.

وكانَ هذا الصنمُ بينَ مكَّةَ والمدينةِ لِهُذَيْلٍ وخُزَاعَةَ، وكانَ الأوسُ والخزرجُ يُعَظِّمُونَها ويُهِلُّونَ منها للحجِّ.

قولُهُ: {الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}إشارةً إلى أنَّ التي تُعَظِّمُونَها وتذبحونَ عندَها وتكثرُ إراقةُ الدماءِ حولَها أنَّها أُخْرَى، بمعنى مُتأَخِّرةٍ، أيْ: ذميمةٌ حقيرةٌ، منْ: فلانٌ آخِرٌ، أيْ: ذميمٌ حقيرٌ، أي: متأَخِّرٌ.

فهذهِ الأصنامُ الثلاثةُ المعبودةُ عندَ العربِ ما حالُها بالنسبةِ لما رأى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، لا شيءَ، وإنما ذكرَ هذهِ الأصنامَ الثلاثةَ؛ لأنَّها أشهرُ الأصنامِ وأعظَمُها عندَ العربِ.

قولُهُ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} هذا أيضًا استفهامٌ إنكاريٌّ على المشركينَ الذي يجعلونَ للهِ البناتِ ولهم البنينَ، فإذا وُلِدَ لهم الولدُ الذَّكرُ فرِحُوا واستبشَروا بهِ، وإذا وُلدت الأُنْثَى ظلَّ وجهُ الإنسانِ منهم مُسْوَدًّا وهوَ كظِيمٌ، ومعَ ذلكَ يقولونَ: الملائكةُ بناتُ اللهِ، فيجعلونَ البناتِ للهِ، والعياذُ باللهِ، ولهُمْ مَا يشتهونَ.

قال العماد ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) (6/28) في قوله تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى} (أي: أتجعلون له ولدا، وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكر!).

قال في (تيسير العزيز الحميد) (ص 178) معلقاً على هذه الآية: (وقال غيره: يجوز أن يراد: اللاّت والعزى ومناة إناث؛ وقد جعلتموهن شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولد لكم، أو ينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله، وتسمونهن آلهة؟! ).

قال الشيخ سليمان: قلت:ما أقرب هذا القول إلى سياق الآية.

قولُهُ: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ضِيزَى: جائرةٌ؛ لأنَّهُ على الأقلِّ إذا أرَدْتُم القسمةَ فاجعلوا لكُم مِن البناتِ نصيبًا، واجعلوا للهِ مِن البنينَ نصيبًا، أمَّا أنْ تجْعَلُوا ما تخْتارُونَهُ لأنفُسِكُم وهم البنونَ، وتجعلوا ما تكرهونَ للهِ، فهذهِ قسمةٌ جائرةٌ.

قولُهُ: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}: الضميرُ في{هي} يعودُ إلى الأصنامِ، أيْ: هذهِ الأصنامُ التي سمَّيْتُمُوها اللاتَ والعُزَّى ومَنَاةَ اتَّخَذْتُمُوهَا آلهةً تعبدُونَها هيَ أسماءٌ سمَّيْتُمُوهَا، ولكنْ ما أنزلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، أي: مِنْ حُجَّةٍ ودليلٍ، بلْ أبْطَلَها اللهُ سبحانهُ، قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

و{سلطانٍ} هنا بمعنى حُجَّةٍ.

قولُهُ:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ}{إنْ} هنا بمعنى ما، وعلامةُ (إن) التي بمعنى (ما) أنْ تأتيَ بعْدَها (إلاَّ)، قالَ تعالى: {إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، يعني: ما هذا إلاَّ مَلَكٌ كريمٌ، وقالَ تعالى: { إِنْ هَـذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ}، أي: ما هذا إلاَّ قولُ البشرِ، وقالَ تعالى: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ }، أيْ: ما يتَّبعونَ إلاَّ الظنَّ.

والظنُّ الذي يتَّبِعُونَهُ هوَ أنَّها آلهةٌ، وأنَّ للهِ البناتِ، ولهُم البنونَ، والظنُّ لا يُغْنِي من الحقِّ شيئًا، كما قالَ تعالى في الآيةِ.

قولُهُ: {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ }كذلكَ أيضًا يتَّبِعُونَ ما تهوى الأنفسُ، وهذا أضرُّ شيءٍ على الإنسانِ أنْ يتَّبِعَ ما يَهْوَى، فالإنسانُ الذي يعبدُ اللهَ بالهوى فإنَّهُ لا يعبدُ اللهَ حقًّا، إنَّما يعبدُ عقْلَهُ وهواهُ، قالَ تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ }، لكنِ الذي يعبدُ اللهَ بالهُدَى لا بالهوَى هوَ الذي على الحقِّ.

قولُهُ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }: أيْ: على يدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فكانَ الأجدرُ بهِمْ أنْ يتَّبِعُوا الهدى دونَ الهوى.

ومناسبةُ الآيةِ للترجمةِ:

أنَّهُم يعتقدونَ أنَّ هذهِ الأصنامَ تنفعُهمْ وتضرُّهمْ؛ولهذا يأتونَ إليها يدْعُونَها ويذْبَحُونَ لها ويتقرَّبونَ إليها، وقدْ يبْتَلِي اللهُ المرءَ، فيحْصُلُ لهُ ما يريدُ من اندفاعِ ضُرٍّ، أوْ جلبِ نفعٍ بهذا الشِّركِ؛ ابتلاءً مِنَ الله وامتحانًا، وهذا قدْ تقدَّمَ لنا لهُ نظائرُ، أنَّ اللهَ يبتلي المرءَ بتيسيرِ أسبابِ المعصيةِ لهُ؛ حتَّى يعْلَمَ اللهُ منْ يخَافُهُ بالغيبِ.

(3) قولُهُ: (خَرَجْنا مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ) أيْ: بعدَ غزوةِ الفتحِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لمَّا فَتَحَ مكَّةَ تجمَّعتْ لهُ ثقيفٌ وهَوَازِنُ بجمعٍ عظيمٍ كثيرٍ جدًّا.

قولُهُ: (حُدَثَاءُ)جمعُ حديثٍ، أيْ: إنَّنَا قريبُو عهدٍ بكُفْرٍ، وإنَّما ذَكرَ ذلكَ رضيَ اللهُ عنهُ للاعتذارِ لطلَبِهِم وسُؤَالِهِم، ولوْ وقَرَ الإيمانُ في قلوبِهِمْ لمْ يسأَلُوا هذا السؤالَ.

قولُهُ: (يَعْكُفُونَ عِنْدَها) أيْ: يُقيمونَ عليها، والعُكوفُ:مُلازمةُ الشيءِ، ومنهُ قولُهُ تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }.

قولُهُ: (ينُوطُونَ) أيْ: يُعَلِّقونَ بها أسْلِحَتَهُمْ تبرُّكًا.

قولُهُ: (يُقالُ لَها: ذاتُ أَنْواطٍ) أيْ: إنَّها تُلَقَّبُ بهذا اللقبِ؛ لأنَّهُ تُنَاطُ فيها الأسلحةُ، وتُعَلَّقُ عليها رجاءَ بركَتِها، فالصحابةُ رضيَ اللهُ عنْهُم قالُوا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (اجْعَلْ لَنا ذاتَ أنْواطٍ كما لَهُم ذاتُ أنواطٍ) أيْ: سِدْرَةً نُعلِّقُ أسلِحَتَنَا عليها تبرُّكًا بها، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((اللهُ أَكْبَرُ)) كَبَّرَ تعظيمًا لهذا الطلبِ، أي: استعظامًا لهُ وتعَجُّبًا، لا فرحًا بهِ، كيفَ يقولونَ هذا القولَ وهُمْ آمنوا بأنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ؟

قولُهُ: ((إنَّها السُّنَنُ)) أي: الطرقُ التي يسلُكُها العِبَادُ، ((قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ })) أيْ: إنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قاسَ ما قالَهُ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنْهُم على ما قالَهُ بنو إسرائيلَ لموسى حينَ قالوا: (اجعلْ لنا إلهًا كما لهُمْ آلهةٌ) فأنْتُمْ طلَبْتُمْ ذاتَ أنواطٍ كما أنَّ لهؤلاءِ المشركينَ ذاتَ أنواطٍ.

وقولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ))المرادُ أنَّ نفْسَهُ بيدِ اللهِ لا منْ جِهَةِ إماتَتِهَا وإحيائِهَا فحسْبُ، بلْ مِنْ جهةِ تدْبِيرِهَا وتصريفِها أيضًا، ما مِنْ دابَّةٍ إلاَّ هوَ آخِذٌ بناصيَتِها سبحانَهُ وتعالى.

قولُهُ: ((لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) أيْ:لتَفْعَلُنَّ مثلَ فِعْلِهمْ، ولتقولُنَّ مثلَ قوْلِهِمْ، وهذهِ الجملةُ لا يُرادُ بها الإقرارُ، وإنَّما يُرادُ بها التحذيرُ؛ لأنَّهُ من المعلومِ أنَّ سُنَنَ مَنْ كانَ قبْلَنَا ممَّا جَرى تشبيهُهُ سُنَنٌ ضالَّةٌ، حيثُ طلبوا آلهةً معَ اللهِ، فأرادَ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنْ يُحَذِّرَ أُمَّتَهُ أنْ تَرْكَبَ سُنَنَ مَنْ كانَ قبلَها مِن الضَّلالِ والغَيِّ.

والشاهدُ مِنْ هذا الحديثِ:

قوْلُهُم: (اجْعَلْ لَنا ذاتَ أنْواطٍ كَما لَهُمْ ذَاتُ أنواطٍ)، فأنكرَ عليهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

(4) فيهِ مسائلُ:

الأولى:(تفسيرُ آيةِ النجمِ)أيْ: قولُهُ تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (.2) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }.

(5) الثانيةُ(معرفةُ صورةِ الأمرِ الذي طلَبُوا)وهوَ أنَّهُمْ طلبوا من النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنْ يجعلَ لهمْ ذاتَ أنواطٍ، كما أنَّ للمشركينَ ذاتَ أنواطٍ، وهم إنَّما أرادوا أنْ يتبرَّكوا بهذهِ الشجرةِ لا أنْ يعْبُدُوهَا، فدلَّ ذلكَ على أنَّ التبَرُّكَ بالأشجارِ ممنوعٌ، وأنَّ هذا منْ سُنَنِ الضالِّينَ السابقينَ من الأُمَمِ.

(6) الثالثةُ(كوْنُهُم لمْ يفعلوا)أيْ: لمْ يُعَلِّقوا أنْوَاطًا على الشجرةِ، ويَطْلُبوا مِن الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنْ يُقِرَّهُم على هذا العملِ، بلْ طَلَبُوا من الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ يجعلَ لهمْ ذلكَ.

(7) الرابعةُ(كوْنُهُم قَصدوا التقرُّبَ إلى اللهِ بذلكَ لظنِّهمْ أنَّهُ يُحِبُّهُ)أيْ: بتعليقِ الأسلحةِ ونحْوِها على الشجرةِ التي يُعَيِّنُهَا الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا طلبوا ذلكَ من الرسولِ لِتَكْتَسِبَ بهذا معنى العبادةِ.

(8)الخامسةُ(أنَّهُم إذا جَهِلُوا هذا فغيْرُهُم أوْلَى بالجهلِ)لأنَّ الصحابةَ لا شكَّ أعلمُ الناسِ بدينِ اللهِ، فإذا كانَ الصحابةُ يجهلونَ أنَّ التبرُّكَ بهذا نوعٌ من اتِّخاذِها إلهًا، فغَيْرُهُم منْ بابِ أوْلى، وقصدَ المؤلِّفُ رحِمَهُ اللهُ بهذا أنْ لا نغْتَرَّ بعملِ الناسِ؛ لأنَّ عملَ الناسِ قدْ يكونُ عنْ جهلٍ، فالعبرةُ بما دلَّ عليهِ الشَّرعُ لا بعملِ الناسِ.

(9)السادسةُ: (أنَّ لهُمْ من الحسناتِ والوعدِ بالمغفرةِ ما ليسَ لغيْرِهِم)وهذا معلومٌ من الآياتِ: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى } فالصحابةُ رضيَ اللهُ عنهمْ لهُمْ من الحسناتِ والوعدِ بالمغفرةِ وأسبابِ المغفرةِ ما ليسَ لغيْرِهمْ، ومعَ ذلكَ لمْ يَعْذِرْهُم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بهذا الطلبِ.

(10)السابعةُ(أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لمْ يعْذِرْهُم بلْ ردَّ عليهمْ بقوْلِهِ: ((اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ))فغَلَّظَ الأمرَ بهذهِ الثلاثِ): وهيَ:

- قولُهُ: ((اللهُ أكبرُ)).

وقوله: ((إنَّها السُّننُ)).

وقوله: ((لترْكَبُنَّ سننَ مَنْ كانَ قبلَكُم)).

فغلَّظَ الأمرَ بهذا؛ لأنَّ التكبيرَ استعظامٌ للأمرِ الذي طلَبُوهُ، وقوله: ((إنَّها السننُ)) تحذيرٌ أيضًا، وقوله: ((لترْكَبُنَّ سننَ مَنْ كانَ قبلَكُم)) تحذيرٌ ثانٍ.

(11) الثامنةُ(الأمرُ الكبيرُ -وهوَ المقصودُ- أنَّهُ أخبرَ أنَّ طلَبَهُم كطلبِ بني إسرائيلَ لمَّا قالوا لموسى:{ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }) فهؤلاءِ طلبوا سِدْرَةً يتبرَّكُونَ بها كما يتبرَّكُ المشركونَ بها، وأولئكَ طلبوا إلهًا كما لهُمْ آلهةٌ، فيكونُ في كِلاَ الطلبيْنِ منافاةٌ للتوحيدِ؛ لأنَّ التبرُّكَ بالشجرِ نوعٌ من الشِّركِ، واتخاذُ إلهٍ شركٌ واضحٌ.

(12)التاسعةُ(أنَّ نفيَ هذا منْ معنى (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) معَ دِقَّتِهِ وخفائِهِ على أولئكَ)أيْ: أنَّ نفيَ التبرُّكِ بالأشجارِ ونحْوِها منْ معنى لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فإنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ تنفي كلَّ إلهٍ سوى اللهِ، وتنفي الأُلوهيَّةَ عمَّا سِوَى اللهِ عزَّ وجلَّ، فكذلكَ البركةُ لا تكونُ منْ غيرِ اللهِ سبحانهُ وتعالى.

(13) العاشرةُ: (أنَّهُ حلَفَ على الْفُتْيَا، وهو لا يحْلِفُ إلاَّ لمصلحةٍ)أي: النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حلفَ على الفُتيا في قولِهِ: ((قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ)).

والنبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لا يحلِفُ إلاَّ لمصلحةٍ أوْ دَفْعِ مضَرَّةٍ ومفسدةٍ، فليسَ ممَّنْ يحْلِفُ على أيِّ سببٍ يكونُ، كما هيَ عادةُ بعضِ الناسِ.

(14)الحاديةَ عشْرةَ: (أنَّ الشِّرْكَ فيهِ أصغرُ وأكبرُ؛ لأنَّهُم لمْ يَرْتَدُّوا بِهذا)حيثُ لمْ يطلبوا جَعْلَ ذاتِ الأنواطِ لعِبَادَتِها بلْ للتبَرُّكِ بها، والشركُ فيهِ أصغرُ وأكبرُ، وفيهِ خفِيٌّ وجلِيٌّ.

فالشِّركُ الأكبرُ: ما يُخْرِجُ الإنسانَ من المِلَّةِ.

والشركُ الأصغرُ: ما دُونَ ذلكَ.

لكنَّ كلمةَ (ما دُونَ ذلكَ) ليسَتْ ميزانًا واضحًا؛ ولذلكَ اختلفَ العُلماءُ في ضابطِ الشركِ الأصغرِ على قوليْنِ:

القولُ الأوَّلُ:أنَّ الشِّركَ الأصغرَ:كلُّ شيءٍ أطْلقَ الشارعُ عليهِ أنَّهُ شِرْكٌ، ودَلَّت النصوصُ على أنَّهُ ليسَ من الأكبرِ، مثلَ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)).

نقولُ: الشِّركُ هنا أصغرُ؛ لأنَّهُ دلَّت النصوصُ على أنَّ مُجَرَّدَ الحلفِ بغيرِ اللهِ لا يُخْرِجُ مِن المِلَّةِ.

القولُ الثاني:أنَّ الشِّركَ الأصغرَ: ما كانَ وسيلةً للأكبرِ، وإنْ لمْ يُطْلِق الشرعُ عليهِ اسمَ الشركِ، مثلَ: أنْ يعتمدَ الإنسانُ على شيءٍ كاعتمادِهِ على اللهِ لكنَّهُ لمْ يتَّخِذْهُ إلهًا، فهذا شِرْكٌ أصغرُ؛ لأنَّ هذا الاعتمادَ الذي يكونُ كاعتمادِهِ على اللهِ يؤَدِّي بهِ في النهايةِ إلى الشِّركِ الأكبرِ. وهذا التعريفُ أوْسَعُ من الأوَّلِ؛ لأنَّ الأوَّلَ يمنعُ أنْ تُطْلِقَ على شيءٍ أنَّهُ شِرْكٌ إلاَّ إذا كانَ لديكَ دليلٌ، والثاني يجعلُ كلَّ ما كانَ وسيلةً للشركِ فهوَ شركٌ، ورُبَّما نقولُ على هذا التعريفِ: إنَّ المعاصيَ كُلَّها شركٌ أصغرُ؛ لأنَّ الحاملَ عليها الهَوَى، وقدْ قالَ تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ } ولهذا أطلقَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الشِّركَ على تاركِ الصلاةِ معَ أنَّهُ لم يُشْرِكْ، فقالَ: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ)).

فالحاصلُ:أنَّ المؤَلِّفَ رحِمَهُ اللهُ يقولُ: إنَّ هذا الشِّركَ فيهِ أكبرُ وأصغرُ؛ لأنَّهُم لم يرْتَدُّوا بهذا، وسبقَ وجهُ ذلكَ.


أما الشرك الجليُّ والخفيُّ:

فبعْضُهُمْ قالَ:إنَّ الجليَّ والخفيَّ هوَ الأكبرُ والأصغرُ.

وبعضُهُمْ قالَ:الجليُّ ما ظهَرَ للناسِ منْ أصغرَ أوْ أكبرَ،كالحلفِ بغيرِ اللهِ والسجودِ للصنمِ، والخفيُّ ما لا يعْلَمُهُ الناسُ منْ أصغرَ أوْ أكبرَ، كالرياءِ واعتقادِ أنَّ معَ اللهِ إلهًا آخرَ.

وهذا هوَ المطابقُ للَّفْظِ، أنَّ الجليَّ: ما انجلى أمْرُهُ، والخفيَّ: ما خَفِيَ أمْرُهُ.

فقدْ يكونُ الحلفُ بغيرِ اللهِ إذا أعْلَنَهُ الإنسانُ منْ بابِ الجليِّ؛ لأنَّهُ أظهرُ وأعْلَنُ.

والرياءُ منْ بابِ الخفيِّ؛ لأنَّهُ لا يَطَّلِعُ عليهِ أحدٌ.

(15) الثانيةَ عشْرةَ: (قولُهُ: (وَنَحْنُ حُدَثاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ))

معناهُ: أنَّهُ يعتذرُ عمَّا طَلَبوا حيثُ طَلَبُوا أنْ يجْعَلَ لهمْ ذاتَ أنواطٍ فهمْ يعتذرونَ لجهْلِهِم بكوْنِهم حُدَثَاءَ عهْدٍ بكُفْرٍ، وأمَّا غيْرُهم ممَّنْ سبقَ إسلامُهُ فلا يجْهَلُ ذلكَ.

وعلى هذا فنقولُ:إنَّهُ ينبغي للإنسانِ أنْ يُقَدِّمَ الْعُذْرَ عنْ قوْلِهِ أوْ فعْلِهِ، حتَّى لا يُعرِّضَ نفسَهُ إلى القولِ بما ليسَ فيهِ.

ومعلومٌ حديثُ صفِيَّةَحينَ شيَّعَها الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وهوَ مُعْتَكِفٌ فمرَّ رجُلانِ من الأنصارِ، فقالَ: ((إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ)).

(16)الثالثةَ عشرةَ: (التكبيرُ عندَ التعجُّبِ...)إلخ، تُؤْخَذُ منْ قوْلِهِ: ((اللهُ أَكْبَرُ إِنَّهَا السُّنَنُ)) أي: اللهُ أكبرُ وأعظمُ مِنْ أنْ يُشْرَكَ بهِ.

وفي روايةِ الترمذيِّ أنَّهُ قالَ: ((سُبْحَانَ اللهِ)) أيْ: تَنْـزِيهٌ للهِ عمَّا لا يليقُ بهِ.

(17)الرابعةَ عشرةَ: (سدُّ الذرائعِ)الذرائعُ هي: الطرقُ المُوصِلَةُ إلى الشَّيْءِ.


والذرائعُ نوعانِ:

الأول: ذرائعُ إلى أمورٍ مطلوبةٍ، فهذهِ لا تُسَدُّ، بلْ تُفْتَحُ وتُطْلَبُ.

الثاني: ذرائعُ إلى أمورٍ مذمومةٍ، فهذهِ تُسَدُّ، وهوَ مرادُ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

وذاتُ أنواطٍ وسيلةٌ إلى الشركِ الأكبرِ، فإذا وَضَعُوا عليها أسلِحَتَهُم وتبَرَّكُوا بها يتدَرَّجُ بِهم الشيطانُ إلى عبادَتِها وسُؤَالِهِم حوائِجَهُم منها مُبَاشرةً؛ فلهذا سدَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الذرائعَ.

(18)الخامسةَ عشرةَ: (النهيُ عن التشبُّهِ بأهلِ الجاهليَّةِ)تُؤْخَذُ منْ قولِهِ: ((قُلْتُمْ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ)) فَأَنْكَرَ عليهِمْ، وبهذا نعرفُ أنَّ الجاهليَّةَ لا تخْتَصُّ بمَنْ كانَ قَبْلَ زمنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، بلْ كُلُّ مَنْ جَهِلَ الحقَّ وعَمِلَ عَمَلَ الجاهلينَ فهوَ منْ أهلِ الجاهِليَّةِ.

(19)السادسةَ عشرةَ: (الغضبُ عندَ التعليمِ)والحديثُ ليسَ بصريحٍ في ذلكَ، ورُبَّمَا يُؤْخَذُ منْ قرائنِ قوْلِهِ: ((اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ...)) لأنَّ قوَّةَ هذا الكلامِ تُفِيدُ الغضبَ.

(20)السابعةَ عشرةَ: (القاعدةُ الكُلِّيَّةُ؛ لقولِهِ: ((إِنَّهَا السُّنَنُ)))أي: الطُّرُقُ، وأنَّ هذهِ الأُمَّةَ ستَّتَبِعُ طُرُقَ مَنْ كانَ قبْلَها، وهذا لا يعني الحِلَّ، ولكِنَّهُ للتحذيرِ، والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((سَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ إِلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً)).

ومثْلُهُ قولُهُ: ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ))الحديثَ، وقوْلُهُ: ((إِنَّ الظَّعِينةَ تَذْهَبُ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ تَخْشَى إِلاَّ اللهَ)) وما أشبهَ ذلكَ مِن الأمورِ التي أخبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ وُقُوعِها معَ تحْرِيمِها.

(21)الثامنةَ عشرةَ: (أنَّ هذا عَلَمٌ منْ أعلامِ النبوَّةِ؛ لكوْنِهِ وقعَ كما أخبَرَ)

فإنْ قالَ قائلٌ:إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قدْ خطَبَ الناسَ بِعَرَفةَ وقالَ:((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)).

الجوابُ: إِنَّ يَأْسَهُ لا يدُلُّ على عدمِ الوقوعِ،بلْ إنَّ الأمرَ يقعُ على خلافِ ما توَقَّعَهُ الشيطانُ؛ لأنَّ الشيطانَ لمَّا حَصَلَت الفتوحاتُ وقَوِيَ الإسلامُ ودخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجًا يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ سوى اللهِ في هذه الجزيرةِ، ولكنَّ حِكمةَ اللهِ تَأْبَى إلاَّ أنْ يكونَ ذلكَ، وهذا نقُولُهُ ولا بُدَّ لِئَلاَّ يُقالَ: إنَّ جميعَ الأفعالِ التي تقعُ في الجزيرةِ العربيَّةِ لا يُمْكِنُ أنْ تكونَ شِرْكًا.

ومعلومٌ أنَّ الشيخَ محَمَّدَ بنَ عبدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ جدَّدَ التوحيدَ في الجزيرةِ العربيَّةِ، وأنَّ الناسَ كانوا في ذلكَ الوقتِ فيهِم المشركُ وغيرُ المشركِ.

فالحديثُ أخبرَ عمَّا وقعَ في نفسِ الشيطانِ ذلكَ الوقتَ، ولكِنَّهُ لا يدُلُّ على عدَمِ الوقوعِ.

وهذا الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) وهوَ يُخَاطِبُ الصحابةَ وهمْ في جزيرةِ العربِ.

(22)التاسعةَ عشرةَ: (أنَّ كلَّ ما ذَمَّ اللهُ بهِ اليهودَ والنصارى في القرآنِ أنَّهُ لنا)هذا ليسَ على إطْلاقِهِ وظاهِرِهِ، بلْ يُحْمَلُ قولُهُ: (لَنَا) أيْ: لبعْضِنا، ويكونُ المرادُ بهِ المجموعَ لا الجميعَ كما قالَ العلماءُ في قوْلِهِ تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} والرسُلُ كانوا من الإنسِ فقطْ، فقوْلُهُ: (أنَّهُ لَنَا) أيْ: قدْ يكونُ مِنْ بعْضِنا.

فإذا وقعَ تشبُّهٌ باليهودِ والنصارى فإنَّ الذمَّ الذي يكونُ لهم يكونُ لنا، وما مِنْ أحدٍ مِن الناسِ إلاَّ وفيهِ شبَهٌ باليهودِ أو النصارى، فالَّذِي يعصي اللهَ على بصيرةٍ فيهِ شبَهٌ من اليهودِ، و الذي يَعْبُدُ اللهَ على ضلالةٍ فيهِ شبهٌ من النصارى، والذي يَحْسُدُ الناسَ على ما آتَاهُم اللهُ مِنْ فضْلِهِ فيهِ شبَهٌ من اليهودِ، وهَلُمَّ جَرًَّا.

وإنْ كانَ يَقْصِدُ رَحِمَهُ اللهُ: أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يكونَ في الأُمَّةِ خَصْلَةٌ،فهذا على إطلاقِهِ وظاهِرِهِ؛ لأنَّهُ قلَّ مَنْ يَسْلَمُ.

وإنْ أرادَ أنَّ كُلَّ ما ذُمَّ بهِ اليهودُ والنصارى فهوَ لهذهِ الأُمَّةِ على سبيلِ العمومِ، فلا.

(23)العِشْرُونَ(أنَّهُ مُتَقَرِّرٌ عنْدَهُم أنَّ العباداتِ مَبْنَاهَا على الأمرِ...)إلخ وهذا واضحٌ؛ فالعباداتُ مَبْنَاهَا على الأمرِ، فما لمْ يثبُتْ فيهِ أمرُ الشارعِ فهوَ بدعةٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).

وقالَ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)).

فمَنْ تعَبَّدَ بعبادةٍ طُولِبَ بالدليلِ؛لأنَّ الأصلَ في العباداتِ الحظرُ والمنعُ إلاَّ إذا قامَ الدليلُ على مشرُوعيَّتِهَا.

وأمَّا الأكلُ والمعاملاتُ والآدابُ واللباسُ وغيْرُها فالأصلُ فيها الإباحةُ، إلاَّ ما قامَ الدليلُ على تحرِيمِهِ.

وقولُهُ: (مسائلِ القبرِ) التي يُسْأَلُ فيها الإنسانُ في قبْرِهِ:

مَنْ ربُّكَ؟

مَنْ نبِيُّكَ؟

ما دينُك؟

ففي هذه القِصَّةِ دليلٌ على مسائلِ القبرِ الثلاثِ، وليسَ مُرَادُهُ أنَّ فيها دليلاً على أنَّ الإنسانَ يُسْأَلُ في قبْرِهِ، أيْ: دليلٌ على إثباتِ الرُّبُوبِيَّةِ والنبُوَّةِ والعبادةِ.

(أمَّا مَنْ رَبُّكَ؟

فواضحٌ.

وأمَّا مَنْ نبيُّكَ؟

فمِنْ إخْبَارِهِ بالغيبِ) قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ)) فوقعَ كما أخبرَ.

(أمَّا ما دينُكَ؟ فمِنْ قوْلِهِم:

{اجْعَلْ لَنَا إِلَـهًا}) أيْ: مَأْلُوهًا معبُودًا، والعبادةُ هيَ الدِّينُ.

والمؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ، فَهْمُهُ دقيقٌ جدًّا لمعاني النصوصِ، فأحيانًا يصعُبُ على الإنسانِ بيانُ وجْهِ استنباطِ المسألةِ من الدليلِ.

(24)الحاديةُ والعشرونَ(أنَّ سُنَّةَ أهلِ الكتابِ مذمومةٌ كسُنَّةِ المشركينَ)تُؤْخَذُ منْ قَوْلِهِ: ((كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَلِمُوسَى)).

(25)الثانيةُ والعشرونَ: (أنَّ المُنْتَقِلَ من الباطلِ الذي اعتادَهُ قَلْبُهُ لا يُؤْمَنُ أنْ يكونَ في قلْبِهِ بقِيَّةٌ مِنْ تلكَ العادةِ)وهذا صحيحٌ، فالإنسانُ المُنْتَقِلُ منْ شيءٍ سَوَاءً باطلاً أوْ لا، لا يُؤْمَنُ أنْ يكونَ في قلْبِهِ بقِيَّةٌ منْهُ، وهذهِ البقيَّةُ لا تَزُولُ إلاَّ بعدَ مُدَّةٍ؛ لقوْلِهِ: (وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ) فكأنَّهُ يقولُ ما سأَلْنَاهُ إلاَّ لأنَّ عنْدَنا بقِيَّةً منْ بقايا الجاهليَّةِ؛ ولهذا كانَ مِن الحكمةِ تغْرِيبُ الزَّانِي بعد جَلْدِهِ عنْ مكانِ الجريمةِ؛ لِئَلاَّ يعودَ إليها.

فالإنسانُ ينبغي لهُ أنْ يبتعدَ عنْ مواطنِ الكفرِ والشكِّ والفُسوقِ حتَّى لا يقعَ في قلْبِهِ شيءٌ منها.

هيئة الإشراف

#6

26 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

وقوله: (من تبرك) التبرك: تَفَعُّلٌ من البركة، وهو طلب البركة.

والبركة: مأخوذة من حيث الاشتقاق من مادة بُروك، أو من كلمة بِرْكة.

أما البروك: فبروك البعير يدل على ملازمته وثبوته في ذلك المكان.

والبركة:وهي مجتمع الماء- تدل على كثرة الماء في هذا الموضع، وعلى لزومه له، وعلى ثباته في هذا الموضع.

فيكون إذاً معنى البركة:كثرة الشيء الذي فيه الخير، وثباته، ولزومه.

فالتبرك:هو طلب الخير الكثير، وطلب ثباته، وطلب لزومه.

والنصوص في القرآن والسنة دلت على أن البركة من الله -جل وعلا-، وأن الله جل وعلا هو الذي يبارك، وأن الخلق لا أحد يبارك أحداً، وإنما هو -جل وعلا- الذي يُبارك، قال سبحانه: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} يعني: عَظُم خير من نزّل الفرقان على عبده، وكثر، ودام، وثبت، {تبارك الذي بيده الملك} وقال سبحانه: {وباركنا عليه وعلى إسحاق} وقال: {وجعلني مباركاً}.

فالذي يبارك هو الله جل وعلا؛ فلا يجوز للمخلوق أن يقول: (باركت على الشيء)، (أو أبارك فعلكم) لأن لفظ البركة، ومعنى البركة، إنما هي من الله؛ لأن الخير: كثرته، لزومه، ثباته؛ إنما هو من الذي بيده الأمر.

والنصوص في الكتاب والسنة دلّت على أن البركة التي أعطاها الله جل وعلا للأشياء:

إما أن تكون الأشياء هذه أمكنة أو أزمنة.

وإما أن تكون تلك الأشياء من بني آدم يعني: مخلوقات آدمية.

أما الأمكنة والأزمنة: فظاهر أن الله -جل وعلا- حين بارك بعض الأماكن، كبيت الله الحرام، وكما حول بيت المقدس{الذي باركنا حوله} والأرض المباركة، ونحو ذلك؛ أن معنى: أنها مباركة: أن يكون فيها الخير الكثير اللازم الدائم لها؛ ليكون ذلك أشجع في أن يلازمها أهلها الذين دُعُوا إليها.

وهذا لا يعني أن يُتمسّح بأرضها، أو أن يتمسح بحيطانها،فهذه بركة لازمة لا تنتقل بالذات، فبركة الأماكن، أو بركة الأرض ونحو ذلك، هي بركة لا تنتقل بالذات، يعني: إذا لامست الأرض، أو دفنت فيها، أو تبركت بها؛ فإن البركة لا تنتقل بالذات، وإنما الأرض مباركة من جهة المعنى.

كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته، يعني: أن يُتمسح به فتنتقل البركة، وإنما هو مبارك من جهة ذاته من جهة المعنى، يعني: اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية، من جهة تعلق القلوب بها؛ وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها، وأتاها، وطاف بها، وتعبّد عندها.

حتى الحجر الأسود هو حجر مبارك، ولكن بركته لأجل العبادة، يعني: أنه من استلمه تعبداً، مطيعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- في استلامه له وفي تقبيله، فإنه يناله به بركة الاتباع، وقد قال عمر -رضي الله عنه- لما قبّل الحجر: ( إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر).

وقوله: (لا تنفع ولا تضر) يعني: لا ينقل لأحد شيئاً من النفع، ولا يدفع عن أحدٍ شيئاً من الضر، (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) هذا من جهة الأمكنة.

وأما الأزمنة: فمعنى كون الزمان مباركاً مثل شهر رمضان، أو بعض أيام الله الفاضلة، يعني: أن من تعبّد فيها ورام الخير فيها؛ فإنه يناله من كثرة الثواب ما لا يناله في غير ذلك الزمان.

والقسم الثاني: البركة المنوطة ببني آدم، والبركة التي جعلها الله -جل وعلا- في الناس، إنما هي بركة فيمن آمن؛ لأن البركة من الله جل وعلا، وجعل بركته للمؤمنين به، وسادة المؤمنين هم الأنبياء والرسل، والأنبياء والرسل بركتهم بركة ذاتية، يعني: أن أجسامهم مباركة، فالله -جل وعلا- جعل جسد آدممباركاً، وجعل جسد إبراهيم

عليه السلام- مباركاً، وجعل جسد نوح مباركاً، وهكذا جسد عيسى وموسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، جعل أجسادهم مباركة، بمعنى أنه لو تبرك أحدٌ من أقوامهم بأجسادهم:

إما بالتمسح بها.

أو بأخذ عرقها.

أو بالتبرك ببعض الشعر، فهذا جائز؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة.

وهكذا النبي -صلى الله عليه وسلم- محمد بن عبد الله، جسده أيضاً جسدٌ مبارك؛ ولهذا جاء في الأدلة في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه، يتبركون بشعره، وإذا توضأ اقتتلوا على وَضوئه، وهكذا في أشياء شتى؛ ذلك لأن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية يمكن معها نقل أثر هذه البركة، أو نقل البركة والفضل والخير من أجسادهم إلى غيرهم، وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل.

أما غيرهم: فلم يرد دليل على أنَّ ثَمَّ مِن أصحاب الأنبياء مَن بركتهم بركة ذاتية، حتى أفضل هذه الأمة: أبو بكر وعمر، فقد جاء بالتواتر القطعي أن الصحابة، والتابعين، والمخضرمين: لم يكونوا يتبركون بأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، بجنس تبركهم بالنبي صلى الله عليه وسلم: بالتبرك بالشعر، أو بالوَضوء، أو بالنخامة،أو بالعرق، أو بالملابس ونحو ذلك؛ فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر، إنما هي بركة عمل، ليست بركة ذات تنتقل، كما هي بركة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في (صحيحه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم)) فدل هذا على أن في كل مسلم بركة.

وأيضاً فيه - يعني في (البخاري)- قال أحد الصحابة: (ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر) هذه البركة التي أضيفت لكل مسلم، وأضيفت لآل أبي بكر: بركة عمل، هذه البركة راجعة إلى الإيمان، وإلى العلم والدعوة والعمل، فنقول: (كل مسلم فيه بركة) هذه البركة ليست بركة ذات، وإنما هي بركة عمل، بركة ما معه من الإسلام والإيمان، وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله جل وعلا، والإجلال له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم.

هذه البركة: بركة العلم أو بركة العمل، بركة الصلاح، لا تنتقل، وبالتالي يكون التبرك بأهل الصلاح: هو الاقتداء بهم في صلاحهم.

التبرك بأهل العلم:هو الأخذ من علمهم، والاستفادة من علومهم، وهكذا.

ولا يجوز أن يُتبرك بهم بمعنى: يُتمسح بهم، أو يُتبرك بريقهم؛ لأن أفضل الخلق من هذه الأمة: لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وهذا أمر مقطوع به.


تبرك المشركين: أنهم كانوا يرجون كثرة الخير، ودوام الخير، ولزوم الخير، وثبات الخير؛ بالتوجه إلى الآلهة، وهذه الآلهة:

يكون منها الصنم الذي من الحجارة.

ويكون منها القبر من التراب.

ويكون منها الوثن.

ويكون منها الشجر.

- ويكون منها البقاع المختلفة: غار، أو عين ماء، أو نحو ذلك؛ هذه تبركات مختلفة جميعها تبركات شركية؛ ولهذا الشيخ -رحمه الله- قال: (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما).

(باب من تبرك بشجر أو حجر)

الشجر: جمع شجرة، والحجر معروف، والشجر معروف، ذلك أن المشركين كانوا يتبركون بالأشجار والأحجار، حتى في أوّل الدعوة في هذه البلاد؛ كانت الأشجار كثيرة التي يتبرك بها، والأحجار كثيرة.

قال: (ونحوهما) نحوهما: يعني: نحو الشجر والحجر، مثل البقاع المختلفة، أو غار معين، أو قبر، أو عين ماء، أو نحو ذلك من الأشياء التي يعتقد فيها أهل الجهالة. ما حكمه؟

الجواب: أنه مشرك، كما صرّح به الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه (فتح المجيد).

(باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) فهو مشرك.

الشُراح في هذا الموضع لم يفصحوا: هل شرك المتبرك بالشجر والحجر شرك أكبر أو شرك أصغر؟

وإنما أدار المعنى الشيخ سليمان -رحمه الله- في (التيسير) بعد أن ساق تفسير آية النجم {أفرأيتم اللات والعزى} قال في آخره: (مناسبة الآية للترجمة: أنه إن كان ذلك في الشرك الأكبر، إن كان التبرك شركاً أكبر فظاهر، وإن كان شركاً أصغر فالسلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر).


وتحقيق هذا المقام: أن التبرك بالشجر، أو بالحجر، أو بالقبر، أو ببقاع مختلفة:

قد يكون شركاً أكبر.

- وقد يكون شركاً أصغر.

يكون شركاً أكبر:إذا طلب بركتها معتقداً أن هذا الشجر، أو الحجر، أو القبر إذا تمسح به، أو تمرّغ عليه، أو التصق به يتوسط له عند الله،فإذا اعتقد فيه أنه وسيلة إلى الله، فهذا اتخاذ إله مع الله جل وعلا، وشرك أكبر، وهذا هو الذي كان يزعمه أهل الجاهلية بالأشجار والأحجار التي يعبدونها، وبالقبور التي يتبركون بها.

يعتقدون أنهم إذا عكفوا عندها، وتمسحوا بها، أو نثروا التراب عليها؛ فإن هذه البقعة، أو صاحب هذه البقعة، أو الروحانية -الروح- التي تخدم هذه البقعة، أنه يتوسط له عند الله جل وعلا، فهذا راجع إلى اتخاذ أنداد مع الله جل وعلا، قد قال سبحانه: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}.

ويكون التبرك شركاً أصغر:إذا كان هذا التبرك بنثر التراب عليه، أو إلصاق الجسم بذلك، أو التبرك بعين ونحوها،إذا كان من جهة أنه جعله سبباً لحصول البركة بدون اعتقاد أنه يوصل إلى الله، يعني: جعله سبباً، مثل:

ما يجعل لابس التميمة.

- أو لابس الحلقة.

- أو لابس الخيط، جعل تلك الأشياء سبباً، فإذا أخذ تراب القبر ونثره عليه؛ لاعتقاده أن هذا التراب مبارك، وإذا لابس جسمه؛ فإن جسمه يتبارك من جهة السببية؛ فهذا شرك أصغر؛ لأنه ما صرف عبادةً لغير الله جل وعلا، وإنما اعتقد ما ليس سبباً مأذوناً به شرعاً سبباً.

وأما إذا تمسح بها

-كما هي الحال الأولى: تمسح بها، وتمرغ، والتصق بها؛ لتوصله إلى الله جل وعلا- فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، ولهذا قال الشيخ سليمان -كما ذكرت لك-: (إن كان التبرك شركاً أكبر فظاهر في الاستدلال بالآية، وإن كان شركاً أصغر؛ فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على ما يريدون من الاستدلال في مسائل الشرك الأصغر).

قال: (وقول الله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى …} الآيات) {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} ذكرت لكم أن الهمزة - همزة الاستفهام - إذا أتى بعدها (فاء) فإنه يكون بينها وبين الفاء جملة دل عليها السياق، فمن أول سورة النجم إلى هذا الموضع، يدل على المحذوف، قال: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى}.

{اللات} هذه: صخرة بيضاء عند أهل الطائف، وما هُدمت إلا بعد أن أسلمت ثقيف، أرسل لها النبي -صلى الله عليه وسلم- المغيرة بن شعبة؛ فهدمها وكسرها، وكان عليها بيت، ولها سَدَنَة ولها خدم.

المقصود:أن اللات صخرة، وصفت بأنها بيضاء، وفي قراءة ابن عباس وغيره من السلف، قرؤوها: {اللاتّ}، {أفرأيتم اللاتَّ} و(اللاَّت) هذا: رجل كان يَلُتُّ السُّوَيْقَ، وكان يعطيهم السويق في رواية على صخرة، فعظموا تلك الصخرة، وفي رواية أخرى- يعني: عن السلف- أنه كان يلت لهم السويق؛ فلما مات عكفوا على قبره، فتحصل من هذا أن اللات صخرة، وإذا قرئت اللاتَّ: فيكون قبر، أو صخرة، كان يتعبد عندها، ويتصدق ذاك الذي كان يلتُّ السويق.

{والعزى} شجرة كانت بين مكة والطائف،وكانت في الأصل شجرة، ثم بُنِيَ بناء على ثلاث سَمُرات، وكان له سدنة، وكانت امرأة كاهنة هي التي تخدم ذلك الشرك، ولما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، أرسل إليها خالد بن الوليد، فقطع الأشجار الثلاث، السمرات الثلاث، وقتل من قتل، فلما رجع وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال له:((ارجع فإنك لم تصنع شيئاً)) فرجع، فرآه السدنة ففروا إلى الجبل، ثم رأى امرأة ناشرة شعرها، عريانة، هي الكاهنة التي كانت تخدم ذلك الشرك، وتحضر الجن لإضلال الناس في ذلك الموضع، فرآها فعلاها بالسيف حتى قتلها، فرجع للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((تلك العزى)).

المقصود:أن العزى اسم لشجرة كانت في ذلك الموضع، وفي الحقيقة تعلق الناس كان بتلك الشجرة وبالمرأة التي كانت تخدم ذلك الشرك، فلو قطعت الأشجار وبقيت المرأة؛ فإن المرأة ستغري الناس مرة أخرى بما تذكره لهم، أو ما تحكيه لهم، أو ما تجيب به مطالبهم عن طريق الجن، فيكون الشرك ما انقطع؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تلك العزى)).

يعني: في الحقيقة هي المرأة التي تغري الناس بذلك، وإلاّ فهي شجرة.

كذلك مناة، قال {ومناة الثالثة الأخرى} الأخرى، يعني: الوضيعة الحقيرة، مناة هذه أيضاً صخرة، سميت مناة لكثرة ما يمنى عليها من الدماء تعظيماً لها.

وجه مناسبة الآية للترجمة: أن اللات صخرة، ومناة صخرة، والعزى شجرة؛ وما كان يفعله المشركون عند هذه الثلاث هو عين ما يفعله المشركون في الأزمنة المتأخرة عند الأشجار، والأحجار، والغيران والقبور؛ ومن قرأ شيئاً مما يصنعه المشركون علم غربة الإسلام في هذه البلاد قبل هذه الدعوة، وأن الناس كانوا على شرك عظيم؛ وإذا تأملت أحوال ما حولك من البلاد التي ينتشر فيها الشرك وجدت من اتخاذ الأشجار والأحجار آلهة، ويتبرك بها، الشيء الكثير، أعظم من ذلك: اتخاذ القبور آلهة يتوجه إليها، ويتعبد عندها.

ثم ساق حديث أبي واقد الليثي، قال: (عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم))رواه الترمذي وصححه).

هذا الحديث حديث صحيح عظيم، والمشركون كانت لهم سدرة: شجرة، لهم فيها اعتقاد، واعتقادهم فيها يشمل ثلاثة أشياء:

الأول: أنهم كانوا يعظمونها.

الثاني: أنهم كانوا يعكفون عندها.

الثالث:أنهم كانوا ينوطون بها الأسلحة رجاء نقل البركة من الشجرة إلى السلاح حتى يكون أمضى، وحتى يكون خيره لحامله أكثر.

وفعلهم هذا شرك أكبر؛ لأنهم عظموها وعكفوا عندها، والعكوف عبادة، وهو ملازمة الشيء على وجه التعظيم والقربة، والثالث: أنهم طلبوا منها البركة، فصار شركهم الأكبر لأجل هذه الثلاث مجتمعة.

الصحابة -رضوان الله عليهم- قالوا -يعني من كانوا حديثي عهد بكفر- قالوا: (اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط) ظنوا أن هذا لا يدخل في الشرك، وأن كلمة التوحيد لا تهدم هذا الفعل؛ ولهذا قال العلماء: (قد يغيب عن بعض الفضلاء بعض مسائل الشرك؛ لأن الصحابة -وهم أعرف الناس باللغة، هؤلاء الذين كان إسلامهم بعد الفتح- خفيت عليهم بعض أفراد توحيد العبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذين نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى{ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة})) شبه عليه الصلاة والسلام ـ وانتبه لهذا ـ شبه المقالة بالمقالة، معلوم أن أولئك عبدوا غير الله، عبدوا ذات الأنواط، وأما أولئك فإنما طلبوا بالقول، والنبي -عليه الصلاة والسلام- شبه القول بقول قوم موسى:{ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}.

ولم يفعلوا ما طلبوا، ولمّا نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- انتهوا، ولو فعلوا ما طلبوا؛ لكان شركاً أكبر، لكن لما قالوا وطلبوا دون فعل صار قولهم شركاً أصغر؛ لأنه كان فيه نوع تعلق بغير الله جل وعلا، لهذا نقول: (إن أولئك الصحابة الذين طلبوا هذا الطلب، لما نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- انتهوا، وهم لا يعلمون أن هذا الذي طلبوه غير جائز؛ وإلاّ فلا يظن بهم أنهم يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويرغبون في معصيته، فإذاً: صار الشرك في مقالهم، وأما الفعل فلم يفعلوا شيئاً من الشرك).
وهذا الذي قالوه: قال العلماء: (هو شرك أصغر وليس بشرك أكبر، ولهذا لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامهم، دلَّ على ذلك قوله: ((قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى)) فشبه المقالة بالمقالة).
وقد قال الشيخ -رحمه الله- في (المسائل): (إنهم لم يكفروا، وأن الشرك منه أكبر ومنه أصغر؛ لأنه لم يأمرهم عليه الصلاة والسلام بتجديد الإسلام، ظاهر من هذا أن الشرك الأكبر الذي كان فيه المشركون لم يكن راجعاً إلى التبرك بذات الأنواط فقط، وإنما كان بالتعظيم والعكوف والتبرك بالتعليق).
وقد قلت لك: إن التبرك بالشجر، والحجر، ونحو ذلك: إذا كان فيه اعتقاد أن هذا الشيء يقرب إلى الله، وأنه يرفع الحاجة إلى الله، أو أن تكون حاجاتهم أرجى إجابة، وأمورهم أحسن إذا تبركوا بهذا الموضع؛ فهذا شرك أكبر، وهذا الذي كان يصنعه أهل الجاهلية؛ لهذا قلت لك إن فعلهم يشمل ثلاثة أشياء:
التعظيم:تعظيم العبادة، وهذا لا يجوز إلا لله،تعظيمٌ أنَّ هذا يتوسل ويتوسط لهم عند الله جل وعلا، وهذا لا يجوز وهو من أنواع العبادة، واعتقاد شركي.

والثاني:أنهم عكفوا عندها ولازموا،والعكوف والملازمة نوع عبادة، فإذا عكف ولازم تقرباً، ورجاءً، ورغبة، ورهبة، ومحبة؛ فهذا نوع من العبادة.
والثالث:التبرك.

فإذاً: يكون الشرك الأكبر ما ضم هذه الثلاث.
وإذا تأملت ما يصنعه عباد القبور، والخرافيون في الأزمنة المتأخرة؛ وفي زماننا هذا، وجدت أنهم يصنعون كما كان المشركون الأولون يصنعون عند اللات، وعند العزى، وعند مناة، وعند ذات أنواط؛ فإنهم يعتقدون في القبر، بل يعتقدون في الحديد الذي يسيَّجُ به القبر.

فالمشاهد المختلفة في البلاد التي يفشو فيها الشرك،أو يظهر فيها الشرك:

تجد أن الناس يعتقدون في الحائط الذي على القبر.

- أو في الشباك الحديدي الذي يحيط بالقبر، فإذا تمسحوا به كأنهم تمسحوا بالمقبور، واتَّصَلَتْ روحهم بأنه سيتوسط لهم؛ لأنهم عظموه، هذا شرك أكبر بالله جل وعلا؛ لأنه رجع إلى تعلق القلب في جلب النفع وفي دفع الضر بغير الله جل وعلا، وجعله وسيلة إلى الله جل وعلا؛ كفعل الأولين الذين قال الله فيهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}.
وأما الحالة الأخرى التي نبَّهتُك في أول المقام عليها، من أنه يجعل بعض التمسحات أسباباً؛ مثل ما ترى بعض الناس الجهلة، يأتي في الحرم ويتمسح بأبواب الحرم الخارجية، أو ببعض الجدران، أو ببعض الأعمدة؛

فهذا إن ظن أن ثَمَّ روحاً في هذا العمود.

- أو هناك أحد مدفون بالقرب منه.
أو ثم من يخدم هذا العمود من الأرواح الطيبة كما يقولون؛ فتمسح لأجل أن يصل إلى الله جل وعلا؛ فهذا شرك أكبر.
- وأما إذا تمسح باعتقاد أن هذا مكان مبارك، وأن هذا سبب قد يشفيه، إذاً: قلنا إذا كان يتمسح بجعله سبباً؛ فهذا يكون شركه شركاً أصغر، وإذا كان تعلق قلبه بهذا المتمسح به، أو المتبرك به، وعظمه، ولازمه، واعتقد أن ثمة روحاً هنا، أو أنه يتوسل به إلى الله؛ فإن هذا شرك أكبر.
سؤال:يقول أهلي: اذبح الذبيحة ووزعها على المساكين دفعة بلاء، فهل تجوز تلك النية ؟

جواب:هذا فيه تفصيل، ذلك أن ذبح الذبائح إذا كان من جهة الصدقة، ولم يكن لدفع شيء متوقع، أولرفع شيء حاصل، ولكن من جهة الصدقة وإطعام الفقراء، فهذا لا بأس به، داخل في عموم الأدلة التي فيها الحض على الإطعام، وفضيلة إطعام المساكين.

وأما إن كان الذبح لأن بالبيت مريضاً، فيذبح لأجل أن يرتفع ما بالمريض من أذى؛ فهذا لا يجوز، ويحرم.
- قال العلماء: (سدّاً للذريعة؛ ذلك لأن كثيرين يذبحون حين يكون بهم مرض، لظنهم أن المرض كان بسبب الجن، أو كان بسبب مؤذٍ من المؤذين إذا ذبح الذبيحة وأراق الدم فإنه يندفع شره، أو يرتفع ما أحدث، وهذا لاشك أنه اعتقاد محرم ولا يجوز).
والذبيحة لرفع المرض والصدقة بها عن المريض، قال العلماء: (هي حرام ولا تجوز سدّاً للذريعة) وللشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق (رسالة خاصة في الذبح للمريض).
كذلك:إذا كان الذبح لدفع أذىً متوقع،مثلاً كان بالبلد داء معين؛ فذبح لدفع هذا الداء، أو كان في الجهات التي حول البيت ثمَّ شيء يؤذي؛ فيذبح ليندفع ذلك المؤذي: إما لص مثلاً يتسلط على البيوت، أو أذى يأتي للبيوت، فيذبح ويتصدق بها؛ لأجل أن يندفع ذلك الأذى، هذا أيضاً غير جائز، ومنهي عنه سدّاً للذريعة؛ لأن من الناس من يذبح لدفع أذى الجنّ، وهو شرك بالله جل وعلا.

فإذاً تحصّل من ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:((داوو مرضاكم بالصدقة)) فيما رواه أبو داود وغيره، وقد حسّنه بعض أهل العلم، وضعفه آخرون، أن معنى ((داوو مرضاكم بالصدقة)) يعني: بغير إراقة الدم، فيكون إراقة الدم مخصوص من ذلك -من المداواة بالصدقة- لأجل ما فيه من وسيلة إلى الاعتقادات الباطلة، ومعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع جميعا، إلا الذرائع الموصلة إلى الشرك.

وجاءت أيضاً بفتح الذرائع الموصلة للخير، فما كان من ذريعة يوصل إلى الشرك والاعتقاد الباطل؛ فإنه يُنهى عنه.
سؤال:وهذا يقول: ما رأي فضيلتكم ببعض الأواني التي يُكتب عليها بعض الآيات والتي تباع في بعض المحلات التجارية؟

جواب:هذه الأواني يختلف حالها:إن كان يستخدمها لأجل أن يتبرك بما كتب فيها من الآيات؛ فيجعل فيها ماء ويشربه لأجل أن الماء يلابس هذه الآيات؛ فهذا من الرقية غير المشروعة؛ لأن الرقية المشروعة ما كانت الآيات في الماء، وهذه الآيات لم تنحلّ في الماء؛ لأنها من معدن، أو من نحاس، والتصاق الماء بتلك الكتابات -آيات أو أدعية- لا يجعل الماء بذلك مباركاً، أو مقروءاً فيه، فإذا اتخذت لذلك؛ فهذا من الرقية غير المشروعة.

- وأما إذا أخذها للزينة، أو لجعلها في البيت، أو لتعليقها: فهذا كرهه كثير من أهل العلم؛ لأن القرآن ما نزل لتزين به الأواني، أو تزين به الحيطان، وإنما نزل للهداية:{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
سؤال: وهذا يقول: بعض الناس يضع المصحف في درج السيارة، وذلك بقصد أن للمصحف أثر في ردِّ العين أو البلاء، نرجو منكم التوضيح .

إذا كان يقصد من وضع المصحف في درج السيارة، أو على طبلون السيارة الأمامي، أو خلف السيارة؛ أن يدفع عنه وجود المصحف العين: فهذا من اتخاذ المصحف تميمة، وقد مر حكم التمائم من القرآن؛ وأن الصحيح أنه

لا يجوز أن يجعل القرآن تميمة، ولا أن يجعل القرآن بوجوده دافعاً للعين.

لكن الذي يدفع العين:
قراءة القرآن.

- والأدعية المشروعة.
والاستعاذة بالله جل وعلا، ونحو ذلك مما جاء في الرقية؛ فتحصل أن وضع القرآن لهذه الغاية داخل في المنهي عنه، وهو من اتخاذ التمائم من القرآن.
لَمَّا كان القرآن غير مخلوق، وهو كلام الله جل وعلا، لم تصر هذه التميمة شركية، وإنما يُنهى عنها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل هذا، ولم يجعل في عنق أحد من الصحابة، لا الصغار ولا الكبار، ولا أذن، ولا وجَّه بأن يجعل القرآن في شيء من صدورهم، أو في عضد أحدهم، أو في بطنه، ومعلوم أن مثل هذا لو كان دواءً مشروعاً، أو رقية سائغة، أو تميمة مأذوناً بها؛ لرخص فيها، سيما مع شدة حاجة الصحابة إلى ذلك.

وتعليق القرآن أيسر من البحث عن راقٍ يرقي،ويُطلب منه، وربما يكافأ على رقيته، فلما كان هذا أيسر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرشدهم إلى الأيسر، وقد بُعث ميسراً؛ عُلِم -مع ضميمة الأدلة التي ذكرت لكم بالأمس- أن هذا من جنس غير المشروع، والله أعلم.


سؤال:وهذا يقول: قوله: ((وعامرهن غيري)) قد يستدل به أهل البدع على أن الله في كل مكان، نرجو التوضيح بارك الله فيكم.

جواب:في قوله -جل وعلا- في الحديث القدسي: ((يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري)) السماوات السبع معروفة طباق، بعضها فوق بعض، ((وعامرهن)) هي من العمارة المعنوية، يعني: من عمرها بالتسبيح والتهليل وذكر الله وعبادته، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أطّت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع)) ففيها عُمَّار كثيرون.

- عمروها بعبادة الله جل وعلا، وقد قال -جل وعلا- في أول سورة الأنعام:{وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون}، فالله
-جل وعلا- هو المعبود سبحانه في السماوات، وهو المعبود سبحانه في الأرض، فقوله هنا: ((لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري)) يعني من يعمر السماوات، والله -جل وعلا- في هذا الاستثناء في قوله ((غيري)) يعني: إلا أنا، هذا يحتمل أن يكون الاستثناء راجع إلى الذات، وراجع إلى الصفات.
ومعلوم أن الأدلة دلت على أن الله جل وعلا على عرشه مستوٍ عليه، بائن من خلقه جل وعلا؛ والسماوات من خلقه سبحانه وتعالى، فعُلم من ذلك أن قوله: (وعامرهن غيري) راجع إلى عمارة السماء بصفات الله جل وعلا، وبما يستحقه سبحانه من التأله والعبودية، وما فيها من علم الله، ورحمته، وقدرته، وتصريفه للأمر، وتدبيره، ونحو ذلك من المعاني.
سؤال: وهذا يقول: رجل عنده ولد مريض مرضاً لم يجد له علاجاً، فقال: اذهب إلى مكة وأضع ولدي عند البيت، أدعو له بالشفاء، ثم وقت الظهر سوف أعزم مائة شخص من فقراء الحرم على الغداء، وأقول: ادعوا الله أن يشفي ولدي، فما رأيكم في هذا العمل؟

جواب: هذا العمل فيه تصدق ودعوة الفقراء إلى الطعام.

وفيه طلب الدعاء منهم لولده، والتصدق بالطعام: هذا من جنس المشروع كما ذكرت لكم، فإن كان فيه من الذبائح فعلى التفصيل الذي مر من قبل، سواء كانت دجاجاً، أو كان ضأناً، أو غير ذلك مما يذبح، يعني: مما فيه إراقة دم.

وإن كان أطعمهم طعاماً لإشباعهم والتصدق عليهم، هذا هو القصد؛ وطلب منهم الدعاء وهي المسألة الثانية؛ فهذا راجع إلى هل يشرع طلب الدعاء من الغير بهذه الصفة؟ والظاهر أن هذا من جنس ما هو غير مشروع، وإذا قلنا غير مشروع، يعني: مما ليس بمستحب، ولا واجب، وهل يجوز ذلك أم لا ؟
طلب الدعاء من الآخرين: قال العلماء فيه:(الأصل فيه الكراهة).

والذي يتأمل ما رُوي عن الصحابة، وعن التابعين فيمن طلب منهم الدعاء، أنهم كهروه ونهوه، وقالوا: (أنحن أنبياء؟) كما قال حذيفة، وكما قال معاذٌ، وكما قال غيرهما.
ومالك بن أنس -رضي الله عنه، ورحمه، إمام دار الهجرة- كان ربما طلب منه الدعاء فنهى من طلب منه الدعاء، لِمَ ؟
لأنه إذا عُرِف عند الناس أن فلاناً يُطلَب منه الدعاء بخصوصه؛ فإن القلوب تتعلق بذلك، وإنما يُتعلق في طلب الدعاء بالأنبياء، أما من دونهم؛ فلا يتعلق بهم في هذا الأمر، لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن طلب الدعاء من المسلم الحي يكون مشروعاً إذا قُصِد به:
نفع الداعي.

ونفع المدعو له.

إذا قَصَد الطالب أن ينفع الجهتين -ينفع الداعي، وينفع المدعو له- فهذا محسن وطالب لنفسه؛ فهذا من المشروع.
وهذا هو الذي يحمل عليه ما جاء في السنة؛ فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: لما أراد أن يعتمر، قال له: ((لا تنسنا يا أخي من دعائك)) وهذا الحديث إسناده ضعيف، وقد احتج به بعض أهل العلم، وظاهر أن معناه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن ينفع عمر بهذه الدعوة؛ فالطالب للدعاء محتاج إلى غيره.
المقصود من هذا:أن فعل هذا السائل لأجل ولده، الأولى تركه؛ لأجل ألاّ يتعلق قلبه بأولئك في دعائهم.

ومن العلاج المناسب: أن يلتزم بين الركن والمقام، يعني: بين الحجر الأسود، وبين آخر حَدِّ باب الكعبة وهو الملتزم، يلتزم، ويُلْصِق بطنه، وصدره، وخده ببيت الله جل وعلا، ويقف بالباب مُخبتاً، مُنيباً، سائلاً الله جل وعلا، منقطعاً عن الخلق، عالماً أنه لا يشفي من الداء في الحقيقة؛ إلا الله جل جلاله، وأنه -جل وعلا- هو الذي يشفي، وهو الذي يعافي؛ كما قال: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده} فهذا أعظم أثراً، إن شاء الله مِنْ فعله الذي يريد أن يفعله من دعوة أولئك.
- فالتضرع لله في أوقات الإجابة.
وفي الأماكن الفاضلة.
وفي الأزمنة الفاضلة،: نرجو أن يكون معه إجابة الدعاء، وشفاء المرض.
سؤال:وهذا يقول: فضيلة الشيخ لماذا لم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه في حديث ذات أنواط؟

جواب:من المعلوم أن الشريعة جاءت بالإثبات المفصَّل، والنفي المجمل، والنفي إذا كان مجملاً ؛ فإنه يندرج تحته صوركثيرة، يُدخِلها مَن فهم النفي في الدلالة، فلا يُحتاج مع النفي أن يُنبه على كل فرد فرد، ولهذا نقول من فهم (لا إله إلا الله) لم يحتج إلى أن يُفصل له كل مسألة من المسائل.

فمثلاً:النذر لغير الله: ليس فيه حديث (النذر لغير الله شرك) والذبح لغير الله: ليس فيه حديث (الذبح لغير الله شرك) ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة.

وهكذا في العكوف عند القبور.

أو العكوف والتبرك عند الأشجار، والأحجار، لم يأت فيها شيء صريح، ولكن نفي إلاهية غير الله -جل وعلا- يدخل فيها -عند من فهم معنى العبادة- كل الصور الشركية.

ولهذا الصحابة رضي الله عنهم فهموا ما دخل تحت هذا النفي، ولم يطلب ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، إلا من كان حديث عهدٍ بكفر، يعني: لم يسلم إلا قريباً، وهم قلة ممن كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى حُنين.


والإثبات يكون مفصلاً، وتفصيل الإثبات:
تارة يكون بالتنصيص.

وتارة يكون بالدلالة العامة من وجوب إفراد الله جل وعلا بالعبادة مثلاً: {اعبدوا ربكم}{ما لكم من إله غيره} ونحو ذلك من الآيات.

- والأدلة الخاصة بالعبادة كقوله: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} وكقوله: {فصلِّ لربك وانحر} وكقوله: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} فهذه أدلة إثبات، تثبت أن تلك المسائل من العبادات، وإذا كانت من العبادات فقول (لا إله إلا الله) يقتضي بالمطابقة أنه لا تُصرف العبادة؛ إلا لله جل وعلا.
إذاً فيكون ما طلبه أولئك من القول الذي لم يعملوه، راجع إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نفي لهم مجملاً بقول: (لا إله إلا الله).
سؤال: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم التبرك بالصالحين وبماء زمزم والتعلق بأستار الكعبة؟

جواب: التبرك بالصالحين قسمان:

1- تبرك بذواتهم:

بعرقهم.

بسورهم يعني بقية الشراب.

- بلعابهم الذي اختلط بالنوى مثلاً، أو ببعض الطعام.
- أو التبرك بشعرهم، أو نحو ذلك.
فهذا لا يجوز، وهو من البدع المحدثة.
وقد ذكرت لكم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعملون مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي- وهم سادة أولياء هذه الأمة - شيئاً من ذلك، وإنما فعله الخلوف الذين يفعلون ما لا يؤمرون، ويتركون ما أُمروا به.
2- والقسم الثاني:

بركة عمل وهي: الإقتداء بالصالحين في صلاحهم.

والاستفادة من أهل العلم، والتأثر بأهل الصلاح، وهذا أمر مطلوب، والتبرك بالصالحين بهذا المعنى مطلوب شرعاً.
أما التبرك بالذات
-كما كان يُفعل مع النبي صلى الله عليه وسلم- فهذا ليس لأحد، إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.

- أما التبرك بماء زمزم: فإن شرب ماء زمزم بما جاء به الدليل، ولِمَا جاء به الدليل لا بأس به، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال في ماء زمزم: ((إنها طعام طعم وشفاء سُقم)) فمن شربها طعاماً أو شفاء سقم، شرب بما دلّ عليه الدليل.

كذلك:شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه؛ فهذا أيضاً جائز؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((ماء زمزم لما شُرب له)) فإذاً: أن يجعل ماء زمزم سببًا لأشياء يريدها؛ فهذا راجع إلى أنه سبب أُذن به شرعاً، ولو شرب ماءً آخر مثلاً، ماء صحة، وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن؛ فيكون هذا اعتقاداً خاطئاً؛ لأن ما جاء فيه الدليل هو الذي يجعل ذلك السبب مؤثراً، أو جائزاً أن يُعتقد أنه مؤثر.

- أما التعلق بأستار الكعبة رجاء البركة؛فهذا من وسائل الشرك، ومن الشرك الأصغر إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب.

- أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله، أو أنه إذا فعل ذلك عظُم قدره عند الله، وأن الكعبة يكون لها شفاعة عند الله، أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله جل وعلا، فهذا يكون التبرك على ذاك النحو شرك أكبر.
ولهذا يقول كثير من أهل العلم:(إن أنواع التبرك بحيطان المسجد الحرام، وبالكعبة، أو نحو ذلك، أو بمقام إبراهيم: التمسح بذلك رجاء البركة من وسائل الشرك، بل هو من الشرك) من وسائل الشرك: الأكبر.

بل هو من الشرك، يعني: الشرك الأصغر؛ كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

26 Oct 2008

العناصر


شرح قول المصنف: (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما)

معنى التبرك في قول المصنف: (باب من تبرك)، والمراد بقوله: (شجر أو حجر ونحوهما)

- بيان المعنى اللغوي للبركة

الأدلة على أن البركة من الله تعالى

- حكم التبرك بالشجر والحجر ونحوها وبيان متى يكون شركاً أكبر ومتى يكون شركاً أصغر

- بيان تبرك المشركين وأنواعه

- التبرك بأهل الصلاح يكون بالاقتداء بهم والانتفاع بعلمهم

أقسام البركة

- طرق معرفة البركات الصحيحة من المتوهمة

- السبب في كون التبرك بالأشجار ونحوها شركاً، وهل يعم ذلك الأماكن الفاضلة؟

- القسم الأول من الأشياء التي جعل الله فيها البركة: بعض الأمكنة والأزمنة

القسم الثاني من الأشياء التي جعل الله فيها البركة: بنو آدم

- هل يقاس غير الأنبياء من البشر على الأنبياء في التبرك بذواتهم؟

- كلام النووي في التبرك بالصالحين والجواب عنه

تفسير قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى...} الآية

مناسبة الآيات {أفرأيتم اللات والعزى..} للباب

- نبذة مختصرة عن العزى ومناة

- ذكر صفة اللات والعزى ومناة واشتقاقاتها، والقراءات في {اللات}

- بيان معنى {اللات} وسبب تسميته بذلك

- تفسير قوله -تعالى-: {الثالثة الأخرى}- معنى قوله -تعالى-: {ألكم الذكر وله الأنثى}- معنى قوله -تعالى-: {تلك إذا قسمة ضيزى}

معنى قوله -تعالى-: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم}

شرح حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه

- تتمة حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه

- رواية أخرى في حديث أبي واقد الليثي

- سياق لفظ الترمذي لحديث أبي واقد الليثي

- الجمع بين رواية عمرو بن عوف، ورواية أبي واقد

- ترجمة أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-

- بيان الغزوة التي خرجوا فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

- معنى قوله:((حدثاء عهد بكفر))- معنى العكوف في قوله: ((يعكفون عندها))- معنى قوله: ((ينوطون بها ..)) الحديث

- وجه الشبه بين طلب أولئك النفر، وطلب بني إسرائيل

- لماذا طلب أولئك النفر من رسول الله أن يجعل لهم ذات أنواط

- بيان تبرك المشركين وأنواعه

- كلام العلماء في بعض ما يشبه اتخاذ ذات الأنواط، وسرعة الناس إلى الشرك

- المقصود بقوله: ((الله أكبر إنها السنن.. والذي نفسي بيده))

- معنى قوله: ((لتركبن))، وما يستفاد منه

- الشاهد من الحديث

- بعض الدلائل على بطلان عبادة الطواغيت

- جملة من فوائد حديث أبي واقد

شرح مسائل الباب

في الحديث دلالة على أن العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها وإن اختلفت أسماؤها

- في الحديث دلالة على أن العبادات توقيفية

- أنواع الذرائع

- الخلاف في ضابط الشرك الأصغر

- الفرق بين الشرك الخفي والجلي

- جواز الحلف على الفتيا

- فائدة مهمة: الإنسان مهما بلغ منزلة في العلم فقد تخفى عليه بعض الأمور

سؤال: عن ذبح الشاة وتوزيعها دفعاً للبلاء

سؤال: عن بعض الأواني التي يكتب عليها بعض الآيات

سؤال: عن وضع المصحف في درج السيارة لدفع العين

سؤال: عن رجل له ولد مريض مرضاً مزمناً فأراد الذهاب إلى مكة لعمل وليمة للفقراء وطلب الدعاء منهم

سؤال: عن عدم بيان النبي عليه السلام الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه في حادثة ذات أنواط

سؤال: عن التبرك بالصالحين وماء زمزم والتعلق بأستار الكعبة

قوله صلى الله عليه وسلم ((إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب)) لا يدل على عدم وقوع الشرك بعد عهده عليه الصلاة والسلام