26 Oct 2008
باب ما جاء في الرقى والتمائم
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (7- بابُ مَا جَاءَ فِي الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفارِهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولاً: ((أَنْ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلاَدَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ)).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
التَّمَائِمُ: شَيْءٌ يُعَلَّقُ عَلَى الأَوْلاَدِ عَنِ الْعَيْنِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الْمُعَلَّقُ مِنَ الْقُرْآنِ فَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ السَّلَفِ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ، وَيَجْعَلُهُ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَالرُّقَى: هِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَزَائِمَ، وَخَصَّ مِنْهَا الدَّلِيلُ مَا خَلاَ مِنَ الشِّرْكِ، فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ.
وَالتِّوَلَةُ: هُوَ شَيْءٌ يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَالرَّجُلَ إِلَى امْرَأَتِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رُوَيْفِعٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَا رُوَيْفِعُ، لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أوْ عَظْمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ)).
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: (مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً مِنْ إِنْسَانٍ كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ) رَوَاهُ وَكِيعٌ.
وَلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: (كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَفْسِيرُ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ التِّوَلَةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذِهِ الثَّلاَثَةَ كُلَّهَا مِنَ الشِّرْكِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ الرُّقْيَةَ بِالْكَلاَمِ الْحَقِّ مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ التَّمِيمَةَ إِذَا كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هِيَ مِنْ ذَلِكَ أمْ لاَ؟
السَّادِسَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الأَوْتَارِ عَلَى الدَّوَابِّ عَنِ الْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ.
السَّابِعَةُ: الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ عَلَّقَ وَتَرًا.
الثَّامِنَةُ: فَضْلُ ثَوَابِ مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً مِنْ إِنْسَانٍ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ كَلاَمَ إِبْرَاهِيمَ لاَ يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الاِخْتِلاَفِ؛ لأَِنَّ مُرَادَهُ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1) أي: في حُكمِهَا.
ولَمَّا كانَت الرُّقى عَلَى ثلاثةِ أقسامٍ:
- قِسْمٌ يَجوزُ. - وقسمٌ لا يَجوزُ. - وقسمٌ في جَوازِهِ خِلافٌ، لم يَجْزِم المصنِّفُ بكونِهِمَا من الشِّركِ؛ لأنَّ في ذلك تَفْصِيلاً، بخِلافِ لُبْسِ الحَلْقةِ والخيطِ ونحوِهِمَا لِمَا ذُكِرَ، فإنَّ ذلك شِرْكٌ مُطْلَقًا. (2) قولُهُ: (في الصَّحيحِ) أي: في (الصَّحيحَيْنِ).
قولُهُ: (عن أبي بَشِيرٍ) -بفَتْحِ أوَّلهِ وكَسْرِ المعجمَةِ- الأَنْصارِيِّ، قِيلَ: (اسمُهُ قَيْسُ بنُ عُبَيْدٍ) قالَهُ ابنُ سَعْدٍ.
- وقالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: (لا يُوقَفُ له عَلَى اسمٍ صحيحٍ، وهو صَحابيٌّ شَهِدَ الخَنْدَقَ وماتَ بعدَ السِّتِّينَ، يُقالُ: جاوَزَ المِائةَ). قولُهُ: (في بعضِ أَسْفارِهِ) قالَ الحافظُ: (لم أَقِفْ عَلَى تَعْيينِهَا). قولُهُ: (فَأَرْسَلَ رَسُولاً) هو: زَيْدُ بنُ حارِثةَ. ورَوَى ذلك الحارِثُ بنُ أَبِي أُسامَةَ في (مُسْنَدِهِ) قالَهُ الحافِظُ. قولُهُ: (أنْ لا يَبْقَيَنَّ) هو بالمُثَنَّاةِ والقافِ المفتوحتَيْنِ؛ وفي رِوايةٍ: ((لا تَبْقَيَنَّ)) بحَذْفِ (أنْ) والمثنَّاةِ الفوقيَّةِ والقافِ المفتوحتَيْنِ أيضًا. و(قِلادَةٌ) مَرْفوعٌ عَلَى أنَّهُ فاعلٌ، و(الوَتَرُ) بفتحتين: واحدُ أَوْتارِ القَوْسِ. قولُهُ: (أو قِلادَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ) هو برفعِ (قِلادةٍ) أيضًا، عَطْفٌ عَلَى الأوَّلِ، ومعناه أنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ، هل قالَ شَيْخُهُ: قِلادةٌ مِن وَتَرٍ؟ فقيَّدَ القِلادةَ بأنَّهَا من وَتَرٍ، أو قالَ: قِلادةٌ، وأَطْلَقَ ولم يُقَيِّدْ. ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ عن مالكٍ أنَّهُ سُئِلَ عن القِلادةِ فقالَ:(ما سَمِعْتُ بكَرَاهَتِهَا إلاَّ في الوَتَرِ). وفي رِوايةِ أَبِي داودَ: ((ولا قِلادةٌ)) بغيرِ شَكٍّ، والأُولَى أَصَحُّ؛ لاتِّفاقِ الشَّيخَيْنِ عَلَيْهَا، وللرُّخْصَةِ في القَلائدِ إلاَّ الأَوْتارَ، وكمَا رَوَى أبو داودَ والنَّسائيُّ مِن حديثِأَبِي وَهْبٍ الجُشَمِيِّ مَرْفوعًا:((ارْبِطُوا الخَيْلَ وَقَلِّدُوهَا، وَلاَ تُقَلِّدُوهَا الأَوْتَارَ)). ولـأَِحْمَدَ عن جابِرٍ مرفوعًا مِثلُهُ، وإسنادُهُ جيِّدٌ. قالَ البَغَوِيُّ في (شَرْحِ السُّنَّةِ): (تَأَوَّلَ مالِكٌ أَمْرَهُ عليهِ السَّلامُ بقَطْعِ القَلائدِ عَلَى أنَّهُ مِن أجلِ العَيْنِ، وذلك أنَّهُم كانوا يَشُدُّونَ بتلكَ الأَوْتارِ والتَّمائمِ والقَلائدِ، ويُعَلِّقُونَ عليها العُوَذَ، يَظُنُّونَ أنَّهَا تَعْصِمُ من الآفاتِ، فنهاهُم النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها، وأَعْلَمَهُم أنَّهَا لا تَرُدُّ من أمرِ اللهِ شيئاً). وقالَ أبو عُبَيْدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (كانوا يُقَلِّدُونَ الإِبِلَ الأوتارَ لِئلاَّ تُصِيبَها العينُ، فأَمَرَهُم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإزالتِهَا؛ إِعْلاماً لهم بأنَّ الأوتارَ لا تَرُدُّ شيئاً) وكذلِكَ قالَ ابنُ الجَوْزِيِّ وغيرُهُ. قالَ الحافظُ: (ويُؤَيِّدُهُ حديثُ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ رَفَعَهُ: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلا أَتَمَّ اللهُ لَهُ)) رَوَاهُ أَبُو داودَ، وهي ما عُلِّقَ مِن القَلائِدِ خَشْيَةَ العينِ ونحوِ ذلك) انْتَهَى. فعلى هذا يَكونُ تَقْلِيدُ الإِبِلِ وغيرِهَا الأوتارَ وما في معناها لهذا المعنى حَرامًا، بل شِرْكًا؛ لأنَّهُ مِن تَعْلِيقِ التَّمائمِ المُحَرَّمَةِ، ومَن تَعلَّقَ تميمةً فقد أَشْرَكَ ولم يُصِبْ مَن قالَ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. (3) الحديثُ رَواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، كمَا قالَ المصنِّفُ، وفيه قِصَّةٌ كأنَّ المصنِّفَ اخْتَصَرَهَا. ولفظُ أَبِي داودَ: عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ (رَأَى في عُنُقِي خَيْطًا، فقالَ: ما هذا؟ قُلْتُ: خَيْطٌ رُقِيَ لِي فيه.
قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فقَطَعهُ ثُمَّ قَالَ: إنَّ آلَ عبدِ اللهِ لأََغْنِياءُ عَن الشِّرْكِ.
سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ:((إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ)). فقُلْتُ: لِمَ تَقولُ هكذا؟ لقد كانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، وكُنْتُ أَخْتَلِفُ إلى فُلانٍ اليهودِيِّ يَرْقِيها، فإذا رَقَاهَا سَكَنَتْ. فقالَ عبدُ اللهِ: إنَّما ذلك عَمَلُ الشَّيطانِ يَنْخُسُهَا بيدِهِ، فإذا رَقَيْتِهَا كَفَّ عنها. إنَّما كانَ يَكْفِيكِ أنْ تَقولِي كمَا كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: ((أَذْهِب البَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، شِفاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا)) ورَوَاهُ ابنُ ماجه وابنُ حِبَّانَ، والحاكمُ وقالَ: (صحيحٌ) وأَقَرَّهُ الذَّهَبيُّ. قولُهُ: (إنَّ الرُّقَى) قالَ المصنِّفُ: (الرُّقَى: هي الَّتي تُسَمَّى العَزائِمَ، وخَصَّ منه الدَّليلُ ما خَلا مِن الشِّركِ، فقد رَخَّصَ فيهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن العَيْنِ والحُمَةِ). يُشِيرُ إلى أنَّ الرُّقَى المَوْصُوفةَ بكَوْنِهَا شِرْكًا هي الرُّقَى الَّتي فيها شِرْكٌ؛ من دُعاءِ غيرِ اللهِ، والاسْتِغاثةِ والاسْتِعاذةِ بهِ؛ كالرُّقَى بأسماءِ الملائكةِ والأنبياءِ والجِنِّ ونحوِ ذلك، أَمَّا الرُّقَى بالقرآنِ وأسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ ودُعائِهِ والاستعاذةِ بهِ وحدَهُ لا شريكَ له، فليسَتْ شركًا، بل ولا مَمْنوعةً، بل مُسْتَحَبَّةً أو جائِزةً. قولُهُ: (فَقَدْ رَخَّصَ فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العَيْنِ والحُمَةِ): تَقَدَّمَ ذلك في بابِ مَن حَقَّقَ التَّوحيدَ، وكذلِكَ رَخَّصَ فيه مِن غيرِهَا، كمَا في (صحيحِ مُسْلِمٍ) عن عَوْفِ بنِ مالكٍ قالَ: (كنَّا نَرْقِي في الجاهِلِيَّةِ فقُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، كيفَ تَرَى في ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ((اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ)). - وفيهِ عن أَنَسٍ قَالَ: ((رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرُّقْيَةِ من العينِ والحُمَةِ والنَّمْلةِ)). وعن عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ مرفوعًا: ((لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ)) رَوَاهُ أَبُو داودَ، وفي البابِ أحاديثُ كثيرةٌ. - قالَ الخَطَّابيُّ: (وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ رَقَى ورُقِيَ، وأَمَرَ بِها وأَجازَهَا، فإذا كانَتْ بالقرآنِ أو بأسماءِ اللهِ تعالى، فهي مُباحَةٌ أو مَأْمورٌ بِها، وإنَّما جاءَت الكَرَاهِيَةُ والمَنْعُ فيما كانَ منها بغيرِ لسانِ العربِ، فإنَّهُ رُبَّما كانَ كُفْراً، أو قَوْلاً يَدْخُلُهُ الشِّركُ). قالَ: (ويَحْتَمِلُ أنْ يَكونَ الَّذي يُكْرَهُ مِن ذلك ما كانَ عَلَى مَذاهبِ الجاهِلِيَّةِ الَّتي يَتَعاطَونَهَا، وأنَّهَا تَدْفَعُ عنهم الآفاتِ، ويَعْتَقِدُونَ ذلك من قِبَلِ الجِنِّ ومَعُونَتِهِم). قُلْتُ: ويَدُلُّ عَلَى ذلك قَوْلُعَلِيِّ بنِ أَبِي طالبٍ: (إنَّ كثيرًا مِن هذه الرُّقَى والتَّمائمِ شِرْكٌ، فاجْتَنِبُوهُ). رَوَاهُ وَكِيعٌ، فهذا يُبَيِّنُ معنى حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ ونحوِهِ. وقالَ ابنُ التِّينِ: (الرُّقَى بالمُعَوِّذَاتِ وغيرِهَا من أسماءِ اللهِ تعالى هو الطِّبُّ الرَّبانيُّ، فإذا كانَ عَلَى لسانِ الأَبْرارِ مِن الخَلْقِ، حَصَلَ الشِّفاءُ بإذنِ اللهِ تعالى، فلَمَّا عُفِيَ عن هذا النَّوعِ، فَزِعَ النَّاسُ إلى الطِّبِّ الجُسْمانِيِّ وتلكَ الرُّقَى المَنْهِيِّ عنها الَّتي يَسْتَعْمِلُهَا المُعَزِّمُ وغيرُهُ مِمَّنْ يَدَّعِي تَسْخِيرَ الجِنِّ له فيَأْتِي بأمورٍ مُشْتَبِهةٍ مُرَكَّبَةٍ مِن حقٍّ وباطلٍ، يَجْمَعُ إلى ذِكْرِ اللهِ تعالى وأسمائِهِ ما يَشُوبُهُ مِن ذِكْرِ الشَّياطينِ والاسْتِعانةِ بِهِم والتَّعَوُّذِ بِمَرَدتِهِم). ويُقَالُ:إنَّ الحَيَّةَ لِعداوَتِهَا الإنسانَ بالطَّبْعِ تُصَادِقُ الشَّياطِينَ لكَوْنِهِم أَعْداءَ بَنِي آدَمَ، فإذا عَزَّمَ عَلَى الحيَّةِ بأسماءِ الشَّياطِينِ أَجَابَتْ وخَرَجَتْ من مَكانِهَا وكذا اللَّدِيغُ إذا رُقِيَ بتلك الأسماءِ سَالَتْ سُمومُهَا من بَدَنِ الإنسانِ، ولذلِكَ كَرِهَ الرُّقَى ما لم تَكُنْ بآياتِ اللهِ وأسمائِهِ خاصَّةً، وباللِّسانِ العربيِّ الَّذي يُعْرَفُ معنَاهُ، لِيَكونَ بَرِيئاً من شَوْبِ الشِّركِ، وعلى كَراهِيَة الرُّقَى بغيرِ كِتابِ اللهِ عُلماءُ الأُمَّةِ. - قالَ شيخُ الإسلامِ: (كلُّ اسمٍ مَجْهُولٍ فليسَ لأحدٍ أن يَرْقِيَ بهِ، فَضْلاً عن أن يَدْعُوَ بهِ ولو عَرَفَ معنَاهُ؛ لأنَّهُ يُكْرَهُ الدُّعاءُ بغيرِ العربيَّةِ، وإنَّمَا يُرَخَّصُ لِمَنْ لا يَعْرِفُ العربيَّةَ، فأمَّا جَعْلُ الألفاظِ العَجَمِيَّةِ شِعارًا، فليسَ مِن الإسلامِ). قُلْتُ: وسُئِلَ ابنُ عبدِ السَّلامِ عن الحُروفِ المُقَطَّعَةِ، فمَنَعَ مِنها ما لا يُعْرَفُ، لِئلاَّ يَكونَ فيه كُفْرٌ. -وقالَ السُّيوطيُّ: (قد أَجْمَعَ العُلماءُ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى عندَ اجْتِماعِ ثلاثةِ شروطٍ: - أن يَكونَ بكلامِ اللهِ تعالى أو بأسمائِهِ وصِفاتِهِ. - وباللسانِ العربيِّ وبما يُعْرَفُ معناهُ. - وأن يَعْتَقِدَ أنَّ الرُّقْيَةَ لا تُؤَثِّرُ بذاتِهَا، بل بتقديرِ اللهِ تعالى. فتَلَخَّصَ أنَّ الرُّقْيَةَ ثلاثةُ أقسامٍ). قولُهُ: (والتَّمائِمَ) تَقَدَّمَ كلامُالمُنْذِرِيِّوابنِ الأَثِيرِ في مَعْناهُ في البابِ قَبلَهُ وظاهرٌ تَخْصِيصُ التَّمائمِ بما ذَكَرَاه. وقالَ المصنِّفُ: (التَّمائمُ: شيءٌ يُعَلَّقُ عَلَى الأولادِ من العينِ). - وقالَ الخَلْخَالِيُّ: (التَّمائمُ: جمعُ تَمِيمةٍ، وهي ما يَتَعَلَّقُ بأَعْناقِ الصِّبْيانِ مِن خَرَزاتٍ وعِظامٍ لدَفْعِ العينِ، وهذا مَنْهِيٌّ عنه؛ لأنَّهُ لا دَافِعَ إلا اللهُ، ولا يُطْلَبُ دَفْعُ المُؤْذِياتِ إلاَّ باللهِ وأسمائِهِ وصِفاتِهِ، وظاهرُهُ أنَّ ما عُلِّقَ لدَفْعِ العينِ وغيرِهَا فهو تَمِيمةٌ، منْ أيِّ شيءٍ كانَ، وهذا هو الصَّحيحُ). وقدْ يُقَالُ: إنَّ كلامَ المُنْذِرِيِّ وابنِ الأَثِيرِ وغيرِهِما لا يُخالِفُهُ. قالَ المُصَنِّفُ: (لكنْ إذا كانَ المُعَلَّقُ مِن القرآنِ فرَخَّصَ فيه بعضُ السَّلَفِ، وبعضُهُم لم يُرَخِّصْ فيهِ ويَجْعَلُهُ من المَنْهِيِّ عنه، منهم ابنُ مَسْعودٍ). اعْلَمْ أنَّ العُلماءَ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ فمَنْ بعدَهُم اخْتَلَفُوا في جَوازِ تَعْلِيقِ التَّمائمِ الَّتي من القرآنِ وأسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ: فقالَتْ طائفةٌ: يَجوزُ ذلك. وهو قولُ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ وغيرِهِ، وهو ظاهرُ ما رُوِيَ عن عائشةَ، وبهِ قالَ أبو جَعْفَرٍ الباقرُ وأحمدُ في رِوايةٍ، وحَمَلُوا الحديثَ عَلَى التَّمائمِ الشِّركيَّةِ، أمَّا الَّتي فيها القرآنُ وأسماءُ اللهِ وصفاتُهُ، فكالرُّقْيَةِ بذلك. قُلْتُ: وهو ظاهرُ اخْتِيارِ ابنِ القَيِّمِ. وقالَتْ طائفةٌ: لا يَجوزُ ذلك. وبهِ قالَ ابنُ مَسْعودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ، وهو ظاهرُ قولِ حُذَيْفةَ، وعُقْبَةَ بنِ عامرٍ، وابنِ عُكَيْمٍ رَضِي الله عَنْهُم، وبهِ قالَ جماعةٌ من التَّابعينَ، منهم أَصْحابُ ابنِ مَسْعودٍ، وأحمدُ في روايةٍ اختارَهَا كثيرٌ مِن أَصْحابِهِ، وجَزَمَ بها المُتَأَخِّرُونَ، واحْتَجُّوا بهذا الحديثِ وما في معنَاهُ، فإنَّ ظاهرَهُ العمومُ، لم يُفَرِّقْ بينَ الَّتي في القرآنِ وغيرِهَا، بخِلافِ الرُّقَى فقد فَرَّقَ فيها، ويُؤَيِّدُ ذلك أنَّ الصَّحابةَ الَّذينَ رَوَوا الحديثَ فَهِمُوا العُمومَ كمَا تَقَدَّمَ عن ابنِ مَسْعودٍ. ورَوَىأبو داودَ عن عيسى بنِ حَمْزةَ قالَ: (دَخَلْتُ عَلَى عبدِ اللهِ بنِ عُكَيْمٍ وبهِ حُمْرَةٌ. فقُلْتُ: أَلاَ تُعَلِّقُ تَمِيمةً؟ فقالَ: نَعُوذُ باللهِ مِن ذلك. قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) ورَوَى وَكِيعٌ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (اتْفُلْ بالمُعَوِّذَتَيْنِ ولا تُعَلِّقْ). وأمَّا القِياسُ عَلَى الرُّقْيَةِ بذلك،فقدْ يُقَالُ بالفَرْقِ، فكيفَ يُقَاسُ التَّعْلِيقُ الَّذي لابدَّ فيه من وَرَقٍ أو جُلودٍ ونحوِهِمَا عَلَى ما لا يُوجَدُ ذلك فيهِ، فهذا إلى الرُّقى المُرَكَّبَةِ من حقٍّ وباطلٍ أَقْرَبُ. هذا اخْتِلافُ العلماءِ في تَعْلِيقِ القرآنِ وأسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ،فما ظَنُّكَ بما حَدَثَ بعدَهُم من الرُّقَى بأسماءِ الشَّياطينِ وغيرِهِم وتَعْلِيقِهَا؟! بل والتَّعلُّقِ عليهم، والاسْتِعاذةِ بِهِم، والذَّبْحِ لهُمْ، وسُؤالِهم كَشْفَ الضُّرِّ، وجَلْبَ الخيرِ ممَّا هو شِرْكٌ مَحْضٌ، وهو غالبٌ عَلَى كَثِيرٍ من النَّاسِ إلاَّ مَن سَلَّمَ اللهُ، فتأمَّلْ ما ذَكَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانَ عليهِ أصحابُهُ والتَّابعونَ، وما ذكرَهُ العلماءُ بعدَهُم في هذا البابِ وغيرِهِ من أبوابِ الكتابِ، ثُمَّ انْظُرْ إلى ما حَدَثَ في الخُلُوفِ المُتأخِّرةِ، يَتَبيَّنْ لكَ دِينُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغُرْبَتُهُ الآنَ في كُلِّ شيءٍ، فاللهُ المُسْتَعانُ. قولُهُ: (والتِّوَلَةَ شِرْكٌ) قالَ المصنِّفُ: (هو شيءٌ يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أنَّهُ يُحَبِّبُ المرأةَ إلى زَوْجِهَا، والزَّوجَ إلى امرأتِهِ) وكذا قالَ غيرُهُ أيضًا، وبهِذا فَسَّرَهُ ابنُ مَسْعودٍ راوِي الحديثِ كمَا في (صحيحِ ابنِ حِبَّانَ) و(الحاكمِ): (قالُوا: ياأَبا عبدِ الرَّحمنِ، هذه الرُّقَى والتَّمائمُ قد عَرَفْناهُمَا، فما التِّوَلَةُ؟ قالَ: (شيءٌ يَضَعُهُ النّساءُ يَتَحَبَّبْنَ بهِ إلى أزواجِهِنَّ). قالَ الحافظُ: (التِّوَلَةُ بكسرِ المُثَنَّاةِ وفتحِ الواوِ واللام مُخَفَّفًا: شيءٌ كانَت المرأةُ تَجْلِبُ بهِ مَحَبَّةَ زوجِهَا، وهو ضَرْبٌ من السِّحْرِ، وإنَّما كانَ ذلك مِن الشِّركِ؛ لأنَّهُم أَرَادُوا دَفْعَ المَضَارِّ وجَلْبَ المَنافِعِ من عندِ غيرِ اللهِ). (4) ورَوَاهُ أَيْضًا أبو داودَ والحاكمُ. قولُهُ: (عن عبدِ اللهِ بنِ عُكَيْمٍ) هو بِضَمِّ المهملةِ مُصَغَّرًا، ويُكَنَّى أَبَا مَعْبَدٍ الجُهَنِيَّ الكُوفِيَّ. - قالَ البُخارِيُّ: (أَدْرَكَ زمنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يُعْرَفُ له سَماعٌ صحيحٌ)وكذا قالَ أَبُو حاتمٍ، قالَ معناه أَبو زُرْعَةَ، وابنُ حِبَّانَ، وابنُ مَنْدَه، وأبو نُعَيْمٍ. - وقالَ البَغَوِيُّ: (يُشَكُّ في سَماعِهِ). - وقالَ الخَطِيبُ: (سَكَنَ الكُوفَةَ، وقَدِمَ المَدائِنَ في حَياةِ حُذَيْفَةَ،وكانَ ثِقةً). - وذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ عن غيرِهِ أنَّهُ ماتَ في وِلايةِالحَجَّاجِ. وظاهرُ كلامِ هؤلاء الأئمَّةِ أنَّ الحديثَ مُرْسَلٌ. قولُهُ: (مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ) التَّعَلُّقُ يَكونُ بالقلبِ، ويَكونُ بالفعلِ، ويَكونُ بِهِما جميعًا، أي: مَنْ تَعَلَّقَ شيئًا بقلبهِ، أو تَعَلَّقَهُ بقلبِهِ وفعلِهِ (وُكِلَ إليهِ) أي: وَكَلَهُ اللهُ إلى ذلك الشَّيءِ الَّذي تَعَلَّقَهُ، فمَن تَعَلَّقَتْ نفسُهُ باللهِ، وأَنْزَلَ حوائجَهُ باللهِ، والْتَجَأَ إِلَيْهِ، وفَوَّضَ أَمْرَهُ كُلَّهُ إليهِ، كَفَاهُ كُلَّ مُؤْنةٍ، وقَرَّبَ إليهِ كلَّ بعيدٍ، ويَسَّرَ له كلَّ عَسِيرٍ، ومَن تَعَلَّقَ بغيرِهِ أو سَكَنَ إلى علمِهِ وعقلِهِ ودَوَائِهِ وتَمائِمِهِ، واعْتَمَدَ عَلَى حولِهِ وقُوَّتِهِ، وكَلَهُ اللهُ إلى ذلك وخَذَلَهُ، وهذا معروفٌ بالنُّصوصِ والتَّجارِبِ. قالَ اللهُ تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلاق:3]. وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنا هاشِمُ بنُ القاسِمِ، ثنا أَبُو سَعِيدٍ المُؤَدِّبُ، ثنا مَن سَمِعَ عَطاءً الخُراسَانِيَّ، قالَ: لَقِيْتُ وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ وهو يَطُوفُ بالبيتِ، فقُلْتُ له: حَدِّثْنِي حديثًا أَحْفَظُهُ عنكَ في مَقامِي هذا وأَوْجِزْ. قالَ: نَعَمْ؛ أَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى داودَ: ((يا داودُ،أمَا وعِزَّتي وعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ بِي عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي دُونَ خَلْقِي، أَعْرِفُ ذَلِكَ مِن نِيَّتِهِ، فَتَكِيدُهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، إِلاَّ جَعَلْتُ لَهُ مِن بَيْنِهِنَّ مَخْرَجًا، أَمَا وَعِزَّتِي وَعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي بمَخْلُوقٍ دُونِي أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيَّتِهِ، إِلاَّ قَطَعْتُ أَسْبابَ السَّمَاءِ مِن يَدِهِ، وأسخْتُ الأرضَ من تحتِ قدميهِ، ثُمَّ لا أبالي بأيِّ وادٍ هلَكَ)). (5) الحديثُ رَواهُ الإمامُ أحمدُ عن يَحْيَى بنِ إِسْحاقَ، والحَسَنِ بنِ مُوسَى الأَشْيَبِ، كِلاهما عن ابنِ لَهِيعةَ، وفيه قِصَّةٌ، فاخْتَصَرَهَا المُصَنِّفُ، وهذا لفظُ الحَسَنِ، قالَ: حدَّثَنا ابنُ لَهِيعةَ: ثنا عَيَّاشُ بنُ عَبَّاسٍ، عن شُيَيْمِ بنِ بَيْتَانَ قالَ: ثَنَارُوَيفِعُ بنُ ثابتٍ قالَ: (كَانَ أَحَدُنَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ جَمَلَ أَخِيهِ عَلَى أَنْ يُعطِيَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ، وَله النِّصْفُ، حَتَّى إِن أَحَدَنا لَيَصِيرُ له النَّصْلُ وَالرِّيشُ، وَالآخَرِ القِدْحُ. ثُمَّ قالَ: قالَ لِي رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا رُوَيْفِعُ، لَعَلَّ الحَيَاةَ تَطُولُ بِكَ، فَأَخْبِر النَّاسَ أنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وترًا، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ)). ثُمَّ رَواهُ أحمدُ عن يَحْيَى بنِ غَيْلانَ، ثَنَا المُفَضَّلُ، حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بنُ عَبَّاسٍ أنَّ شُيَيْمَ بنَ بَيْتَانَ أَخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ شَيْبَانَ القِتْبانِيَّ يقولُ: اسْتَخْلَفَ مَسْلَمَةُ بنُ مَخْلَدٍ رُوَيْفِعَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ عَلَى أسفلِ الأرضِ، قالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ، فقالَ: قالَ لي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... الحديثَ. وفي الإسنادِ الأوَّلِ ابنُ لَهِيعةَ، وفيه مَقالٌ، وفي الثَّاني شَيْبانُ القِتْبانيُّ، قِيلَ فيه: مَجْهولٌ، وبقيَّةُ رجالِهِمَا ثِقاتٌ. ورَواهُ أبو داودَ من طريقِ المُفَضَّلِ بهِ مُطَوَّلاً وسَكَتَ عليهِ، ثُمَّ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بنُ خالدٍ، أَنَا مُفَضَّلٌ عن عَيَّاشٍ أنَّ شُيَيْمَ بنَ بَيْتَانَ أَخْبَرَهُ أيضًا بهذا الحديثِ عن أَبِي سالِمٍ الجَيَشَانِيِّ، عن عبدِ اللهِ بن عَمْرٍو يَذْكُرُ ذلكَ وهو مَعَهُ مُرابِطٌ بِحِصْنِ بابِ أَلْيُونَ. - قالَ أَبُو داودَ: (حِصْنُ أَلْيُونَ بالفُسْطاطِ عَلَى جَبَلٍ). قُلْتُ: وهذا إسنادٌ جيِّدٌ. رَواهُ النَّسائيُّ مِن رِوايةِ شُيَيْمٍ عن رُوَيْفِعٍ، وصَرَّحَ بسماعِهِ منه ولم يَذْكُرْشَيْبَانَ، فإن كانَ ذكَرَ شَيْبَانَ وَهْمًا فالإسنادُ صحيحٌ، وحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وصَحَّحَهُ بعضُهُم. - قالَ الحافظُ أبو زُرْعةَ في (شَرْحِ أبي داودَ): (ورَواهُ الطَّحاوِيُّمُخْتَصَرًا فذكَرَ منه الاستنجاءَ برَجِيعِ دابَّةٍ أو عَظْمٍ فَقَطْ). ورَواهُ محمَّدُ بنُ الرَّبِيعِ الجِيزِيُّ في كِتابِ (مَنْ دَخَلَ مصرَ مِن الصَّحابةِ أوَّلاً) وفيه: (أنَّ مَن عَقَدَ لِحْيتَهُ في الصَّلاة...). قولُهُ: (فَأَخْبِرِ النَّاسَ) دَليلٌ عَلَى وُجوبِ إخبارِ النَّاسِ بذلِكَ عَلَى رُوَيْفِعٍ، ولَيْسَ هذا مُخْتَصًّا بهِ، بل كلُّ مَن كانَ عندَهُ علمٌ ليسَ عندَ غيرهِ ممَّا يَحْتَاجُ إليه النَّاسُ وَجَبَ عليهِ تبليغُهُ للنَّاسِ، وإعلامُهُم بهِ فإن اشْتَرَكَ هو وغيرُهُ في عِلْمِ ذلك، فالتَّبليغُ فَرْضُ كِفايةٍ، هذا كلامُ أَبِي زُرْعةَ. قولُهُ: (لَعَلَّ الْحَياةَ تَطُولُ بِكَ) عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ؛ لأنَّهُ وَقَعَ كمَا أَخْبَرَ بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ رُوَيْفِعًا طالَتْ حياتُهُ إلى سنةِ سِتٍّ وخمسينَ، فماتَ فيها ببَرْقَةَ من أعمالِ مِصْرَ أَمِيرًا عليها، وهو مِن الأنصارِ. وقِيلَ: ماتَ سنةَ ثلاثٍ وخمسين، قالَهُ ابنُ يُونُسَ. قولُهُ: (إنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ) بكسرِ اللامِ لا غيرُ، قالَهُ في (المَشَارِقِ) والجمعُ لِحًى، بالكسرِ والضَّمِّ، قالَهُالجَوْهَرِيُّ. - قالَ الخَطَّابيُّ: (وأمَّا نَهْيُهُ عن عَقْدِ اللِّحْيةِ، فإنَّ ذلك يُفَسَّرُ عَلَى وجهينِ: أحدُهُمَا:ما كانُوا يَفْعَلُونَهُ من ذلك في الحُروبِ، كانوا في الجاهِلِيَّةِ يَعْقِدُونَ لِحاهُم، وذلك مِن زِيِّ بعضِ الأَعاجِمِ يَفْتِلُونَهَا ويَعْقِدُونَهَا). قُلْتُ: كأنَّهُم كانُوا يَفْعَلُونَهُ تَكَبُّرًا وعُجْبًا، كمَا ذَكَرَهُ أبو السَّعاداتِ. قالَ: (ثانيهِمَا: أنَّ مَعْناهُ مُعالجةُ الشَّعَرِ لِيَتَعَقَّدَ ويَتَجَعَّدَ، وذلك مِن فعلِ أهلِ التَّوْضِيعِ والتَّأْنِيثِ). - وقالَ أبو زُرْعةَ ابنُ العِراقِيِّ: (والأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى عَقْدِ اللِّحْيةِ في الصَّلاةِ كمَا دَلَّتْ عليهِ رِوايةُ محمَّدِ بنِ الرَّبِيعِ المُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا، فهو مُوافقٌ للحديثِ الصَّحيحِ في النَّهْيِ عن كَفِّ الشَّعَرِ والثَّوبِ، فإنَّ عَقْدَ اللِّحْيةِ فيه كَفُّها وزِيادةٌ). قولُهُ: (أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا) أي: جَعَلَهُ قِلادةً في عُنُقِهِ أو عُنُقِ دابَّتِهِ ونحوِ ذلك. وفي رِوايةِمحمَّدِ بنِ الرَّبِيعِ: (أو تَقَلَّدَ وَتَرًا)يُرِيدُ تَمِيمةً؛ فهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُم كانوا يَتَقَلَّدُونَ الأوتارَ من أَجْلِ العينِ؛ إذ فَسَّرَهُ بالتَّميمةِ وهي تُجْعَلُ لذلِكَ. قولُهُ: (أو اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أو عَظْمٍ، فإنَّ محمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ) قالَ النَّوَوِيُّ: (أي: بَرِيءٌ مِن فعلِهِ، وقالَ بهذهِ الصِّيغةِ لِيَكونَ أَبْلَغَ في الزَّجْرِ). قُلْتُ: فيه النَّهْيُ عن الاستنجاءِ برَجِيعِ الدَّوابِّ والعِظامِ. وقد وَرَدَ في ذلك أَحاديثُ، منها ما في (صحيحِ مُسْلِمٍ) عن ابنِ مَسْعُودٍ مرفوعًا: ((لاَ تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلاَ بِالعِظَامِ، فَإنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الجِنِّ)). وعلى هذا فلا يُجْزِئُ الاستنجاءُ بِهِما كمَا هو ظاهرُ مَذْهبِ أحمدَ، واختارَ شيخُ الإسلامِ وجماعةٌ الإِجْزاءَ وإن كانَ مُحَرَّمًا. قالُوا: لأنَّهُ لم يَنْهَ عنه لكَوْنِهِمَا لا يُنَقِّيَانِ، بل لإفسادِهِمَا. قُلْتُ: الأوَّلُ أَوْلَى؛ لِما رَواهُ ابنُ خُزَيْمةَ والدَّارَقُطْنِيُّ من طريقِ الحَسَنِ بنِ الفُراتِ عن أَبِيهِ، عن أَبِي حازمٍ الأَشْجَعِيِّ، عن أَبي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ وَقالَ: ((إنَّهُمَا لا يُطَهِّرانِ)) وهذا إسنادٌ جيِّدٌ. (6) هذا عندَ أهلِ العلمِ له حُكْمُ الرَّفعِ؛ لأنَّ مثلَ ذلك لا يُقَالُ بالرَّأْيِ فيكونُ عَلَى هذا مُرْسَلاً؛ لأنَّ سَعِيدًا تابِعيٌّ. وفيه: فَضْلُ قَطْعِ التَّمائمِ؛لأنَّهَا من الشِّركِ. ووَكِيعٌ هو ابنُ الجَرَّاحِ بنِ وَكِيعٍ الكُوفِيُّ، ثِقةٌ إمامٌ، صاحبُ تصانيفَ، منها (الجامعُ) وغيرُهُ. رَوَى عنه الإمامُ أحمدُ وطبقتُهُ، ماتَ سنةَ سبعٍ وتسعينَ ومائةٍ. (7) إبراهيمُ: هو إبراهيمُ بنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ الكوفيُّ، يُكَنىَّ أبا عِمْرانَ، ثِقةٌ إمامٌ، مِن كِبارِ فُقَهاءِ الكوفةِ. - قالَ المُزَنِيُّ: (دخلَ عَلَىعائشةَ،ولم يَثْبُتْ له سَماعٌ منها، ماتَ سنةَ ستٍّ وتسعينَ وله خمسونَ سنةً ونحوَهَا). قولُهُ: (كانُوا يَكْرَهُونَ التَّمائمَ) إلى آخرِهِ، مُرادُهُ بذلك أصحابُعبدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ كعَلْقَمَةَ والأَسْوَدِ، وأَبِي وَائِلٍ، والحَارِثِ بنِ سُوَيْدٍ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانيِّ، ومَسْرُوقٍ، والرَّبِيعِ بنِ خُثَيْمٍ، وسُوَيْدِ بنِ غَفَلةَ، وغيرِهِم من أصحابِ ابنِ مَسْعودٍ، وهُمْ من سَاداتِ التَّابعينَ، وهذه الصِّيغةُ يَسْتَعْمِلُهَاإبراهيمُ في حِكايةِ أقوالهِم، كمَا بيَّنَ ذلك الحُفَّاظُ كالعِراقيِّ وغيرِهِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى: (بابُ مَا جَاءَ في الرُّقَى والتَّمائِمِ) أي: مِن النهْيِ ومَا وَرَدَ عن السَّلَفِ في ذلك.
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (في (الصَّحِيحِ) عن أبي بَشِيرٍ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ كانَ مَعَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَرْسَلَ رَسُولاً: ((أَنْ لا يَبْقَيَنَّ في رَقَبَةِ بَعيرٍ قِلادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلادَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ)) ).
هذا الحديثُ في (الصَّحِيحَيْنِ).
قولُه: (عن أَبِي بَشِيرٍ) بفَتْحِ أوَّلِهِ وكَسْرِ المُعْجَمَةِ.
- قيلَ: اسْمُهُ قَيْسُ بنُ عُبَيْدٍ، قالَه ابنُ سَعْدٍ.
- وقالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (لا يُوقَفُ لَه على اسْمٍ صَحيحٍ، وهو صَحَابِيٌّ شَهِدَ الخَنْدَقَ ومَاتَ بعدَ السِّتِّين).
ويُقَالُ: إنَّه جَاوَزَ المِائَةَ.
قولُه: (في بَعْضِ أَسْفَارِهِ) قالَ الحَافِظُ: (لم أَقِفْ على تَعْيِينِهِ).
قولُه: (فَأَرْسَلَ رَسُولاً) هو زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ.
رَوَى ذلك الحارِثُ بنُ أبي أُسَامَةَ في (مُسْنَدِهِ)، قالَه الحَافِظُ.
قولُه: ( ((أنْ لا يَبْقَيَنَّ)) ) بالمُثَنَّاةِ التحْتِيَّةِ والقَافِ المَفْتُوحَتَيْنِ، و((قِلادَةٌ)) مَرْفُوعٌ على أَنَّهُ فَاعِلٌ، و(الوَتَر) بفَتْحَتَيْنِ، واحِدُ أَوْتَارِ القَوْسِ.
وكانَ أهلُ الجَاهِلِيَّةِ إِذا اخْلَوْلَقَ الوَتَرُ أَبْدَلُوه بِغَيْرِهِ وقَلَّدُوا بِهِ الدَّوَابَّ؛ اعْتِقَادًا مِنهم أَنَّهُ يَدْفَعُ عن الدَّابَّةِ العَيْنَ.
قولُه: ( ((أَوْ قِلادَةٌ إِلاَّ قُطِعَتْ)) ) معناه: أنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ هل قالَ شَيْخُهُ: ((قِلادَةٌ مِن وَتَرٍ)) أَو قالَ: ((قِلادَةٌ)) وأَطْلَقَ ولم يُقَيِّدْ؟
ويُؤَيِّدُ الأَوَّلَ مَا رُوي عن مَالِكٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عن القِلاَدَةِ؟ فقالَ: (ما سَمِعْتُ بكَرَاهَتِهَا إِلاَّ في الوَتَرِ).
ولأبي داودَ: ((وَلاَ قِلادَةٌ)) بغيرِ شَكٍّ.
- قالَ البَغَويُّ في (شَرْحِ السُّنَّةِ): (تَأَوَّلَ مَالِكٌ أَمْرَه عليه السلامُ بقَطْعِ القلائِدِ على أَنَّهُ مِن أَجْلِ العينِ).
وذلك أَنَّهُم كانوا يَشُدُّون تِلكَ الأَوْتَارَ والتَّمَائِمَ والقلائِدَ ويُعَلِّقُون عليها العُوَذُ، يَظُنُّون أنَّها تَعْصِمُهُم من الآفاتِ.
فنَهَاهُم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها وأَعْلَمَهم أنَّها لا تَرُدُّ مِن أَمْرِ اللهِ شَيْئاً.
- قالَ أبو عُبَيْدٍ: (كانوا يُقَلِّدُون الإِبِلَ الأَوْتَارَ؛ لِئلا تُصِيبَهَا العينُ، فأَمَرَهُم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإزالَتِها إِعْلاماً لهم بأنَّ الأوْتَارَ لا تَرُدُّ شيئاً).
وكذا قالَ ابنُ الجَوْزِيِّ وغيرُه.
- قالَ الحافِظُ: (ويُؤَيِّدُه حديثُ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، رَفَعَه: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلا أَتَمَّ اللهُ لَهُ)) رَوَاه أبو دَاودَ. وهي مَا عُلِّقَ من القَلائِدِ؛ خَشْيَةَ العَيْنِ ونحوَ ذلك) انْتَهَى.
(2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وعن ابنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ الرُّقَى والتَّمائِمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ)) رَوَاه أحمدُ وأبو داودَ).
وفيه قِصَّةٌ، ولَفْظُ أبي داودَ: عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ: إنَّ عَبْدَ اللهِ رَأَى في عُنُقِي خَيْطًا؛ فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قُلتُ: خَيْطٌ رُقِيَ لِي فيهِ.
قالَت: فَأَخَذَهُ ثُمَّ قَطَعَهُ، ثُمَّ قالَ: أَنْتُم آلُ عَبْدِ اللهِ لأََغْنِياءُ عَنِ الشِّرْكِ. سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ)).
فَقُلْتُ: لَقَدْ كانَتْ عَيْني تَقذِفُ، وكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلى فُلانٍ اليَهُودِيِّ، فإِذا رَقَى سَكَنَتْ.
فقالَ عبدُ اللهِ: إِنَّمَا ذَلِكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كانَ يَنْخَسُها بِيَدِهِ، فَإِذا رَقَى كَفَّ عَنها. إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((أَذْهِب الباسَ، رَبَّ النَّاسِ، واشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفاؤُكَ، شِفاءٌ لا يُغادِرُ سَقَمًا))، ورَوَاه ابنُ مَاجَةَ وابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ وقالَ: (صَحِيحٌ)، وأَقَرَّه الذَّهَبِيُّ.
قولُه: ( ((إنَّ الرُّقَى)) ) قَالَ المُصَنِّفُ: (هِيَ التي تُسَمَّى العَزَائِمَ، وخَصَّ منه الدليلُ ما خلا مِن الشِّرْكِ، فقد رَخَّصَ فيه رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ العَيْنِ والحُمَةِ)، يُشِيرُ إلى أنَّ الرُّقَى المَوْصُوفَةَ بكَوْنِها شِرْكًا هي التي يُسْتَعَانُ فيها بغيرِ اللهِ، وأمَّا إذا لم يُذْكَرُ فيها إلا أسماءُ اللهِ وصِفَاتُه وآياتُه، والمأْثُورُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا حَسَنٌ جَائِزٌ أو مُسْتَحَبٌّ.
قولُه: (فقد رَخَّصَ فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العَيْنِ والحُمَةِ) كما تَقَدَّمَ في (بَابِ مَن حَقَّقَ التَّوْحِيدَ).
وكذا رَخَّصَ في الرُّقَى مِن غيرِها،كما في (صحيحِ مُسْلِمٍ) عن عَوْفِ بن مالِكٍ: (كُنَّا نَرْقِي في الجَاهِلِيَّةِ، فَقُلنا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى في ذَلِكَ؟
فَقَالَ: ((اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا)) )، وفي البابِ أحاديثُ كثيرةٌ.
- قَالَ الخَطَّابِيُّ: (وكانَ عليه السلامُ قَد رَقَى وَرُقِيَ، وأَمَرَ بها وأَجَازَها، فإذا كَانَت بالقُرآنِ وبأَسماءِ اللهِ تعالى فهي مُبَاحَةٌ أو مَأْمُورٌ بها، وإنَّما جَاءَت الكَرَاهَةُ والمَنْعُ فيما كانَ مِنها بغيرِ لِسانِ العَرَبِ؛ فإنَّه رُبَّما كانَ كُفْراً أو قَوْلاً يَدْخُلُه الشِّرْكُ).
قُلْتُ: مِن ذلك مَا كانَ على مَذاهِبِ الجَاهِلِيَّةِ التي يَتَعَاطَوْنَها، وأنها تَدْفَعُ عنهم الآفاتِ ويَعْتَقِدُون أنَّ ذلك من قِبَلِ الجِنِّ ومَعُونَتِهِم، وبنحوِ هذا ذَكَرَ الخَطَّابِيُّ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ: (كلُّ اسْمٍ مَجْهُولٍ فلَيسَ لأحَدٍ أنْ يَرْقِيَ بِهِ فَضْلاً عن أنْ يَدْعُوَ به، ولو عَرَفَ مَعْنَاه؛ لأَنَّهُ يُكْرَهُ الدُّعاءُ بغيرِ العَرَبِيَّةِ، وإنَّما يُرَخَّصُ لمن لا يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ، فأمَّا جَعْلُ الألفَاظِ الأعْجَمِيَّةِ شِعَاراً فليسَ مِن دِينِ الإِسلامِ).
- وقالَ السُّيُوطِيُّ: (وأَجْمَعَ العُلَمَاءُ على جَوَازِ الرُّقَى عندَ اجْتِمَاعِ ثَلاثَةِ شُرُوطٍ:
1- أنْ يَكُونَ بكلامِ اللهِ أو بأسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ.
2- وباللِّسانِ العَرَبِيِّ وبمَا يُعْرَفُ مَعْنَاه.
3- وأنْ يُعْتَقَدَ أنَّ الرُّقْيَةَ لا تُؤَثِّرُ بذاتِهَا بل بِتَقْدِيرِ اللهِ تعالَى).
قولُه: ( ((والتَّمَائِمَ)) ) قَالَ المُصَنِّفُ: (شيءٌ يُعَلَّقُ عَلى الأولادِ عن العَيْنِ).
- وقالَ الخَلْخَالِيُّ: (التَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ، وهي مَا يُعَلَّقُ بأعْنَاقِ الصِّبْيَانِ مِن خَرَزَاتٍ وعِظَامٍ لِدَفْعِ العينِ، وهذا مَنْهِيٌّ عنه؛ لأَنَّهُ لا دَافِعَ إِلاَّ اللهُ، ولا يُطْلَبُ دَفْعُ المُؤْذِياتِ إلا باللهِ وبأسمائِهِ وصفاتِهِ).
قَالَ المُصَنِّفُ: (لكن إذا كانَ الْمُعلَّقُ مِن القرآنِ فَرَخَّصَ فيه بَعْضُ السَّلَفِ، وبعضُهُم لم يُرَخِّصْ فيه، ويَجْعَلُه مِن المنْهِيِّ عنه، مِنهم ابنُ مَسْعُودٍ).
اعْلَمْ أن العُلَمَاءَ مِن الصَّحَابَةِ والتابِعِين فَمَن بعدَهم اخْتَلَفُوا في جَوَازِ تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ التي مِن القرآنِ وأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ:
فقالَت طَائِفَةٌ: يَجُوزُ ذلك.
وهو قولُ عَبْدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، وهو ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عن عائِشَةَ، وبه قالَ أبو جَعْفَرٍ البَاقِرُ وأَحْمَدُ في رِوَايَةٍ.
وحَمَلُوا الحديثَ على التمَائِمِ التي فيها شِرْكٌ.
وقالَت طائِفَةٌ: لا يَجُوزُ ذلك.
وبه قالَ ابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وهو ظاهِرُ قَوْلِ حُذَيْفَةَ، وعُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، وابنِ عُكَيمٍ، وبِهِ قالَ جَمَاعَةٌ من التابِعِين، ومِنهم أصحابُ ابنِ مَسْعُودٍ، وأحمدُ في رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ من أصحابِهِ، وجَزَمَ بها المُتَأَخِّرُون، واحْتَجُّوا بهذا الحديثِ وما في مَعْنَاه.
قُلْتُ: وهذا هو الصَّحيحُ لوجوهٍ ثلاثَةٍ تَظْهَرُ للمُتَأَمِّلِ:
الأوَّلُ: عُمُومُ النهْيِ ولا مُخَصِّصَ للعُمُومِ.
والثاني: سَدُّ الذَّرِيعَةِ؛ فإنه يُفْضِي إلى تَعْلِيقِ ما لَيْسَ كذلك.
الثالثُ: أَنَّهُ إذا عُلِّقَ فلا بُدَّ أن يَمْتَهِنَه المُعَلِّقُ بِحَمْلِهِ معَه في حالِ قَضَاءِ الحَاجَةِ والاسْتِنْجَاءِ ونحوِ ذلك.
وتأَمَّلْ هذه الأحاديثَ ومَا كانَ عليه السَّلَفُ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم يَتَبَيَّنْ لَكَ بذلك غُرْبَةُ الإِسلامِ، خُصُوصًا إن عَرَفْتَ عَظيمَ ما وَقَعَ فيه الكثيرُ بعدَ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ مِن تَعْظِيمِ القُبُورِ واتِّخَاذِ المساجِدِ عليها، والإِقبالِ إليها بالقَلْبِ والوَجْهِ، وصَرْفِ جُلِّ الدَّعَوَاتِ والرَّغَبَاتِ والرَّهَبَاتِ وأَنْوَاعِ العِبَادَاتِ التي هي حَقُّ اللهِ تعالى إليها من دُونِهِ، كما قالَ تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الَّرحِيمُ} [يُونُس:106 ،107] ونظائِرُها في القرآنِ أَكْثرُ مِن أنْ تُحْصَرَ.
قولُه: ( ((والتِّوَلَةَ شِرْكٌ)) ) قَالَ المُصَنِّفُ: (هي شَيْءٌ يَصْنَعُونَه يَزْعُمُون أَنَّهُ يُحَبِّبُ المرأةَ إلى زَوْجِها والرَّجُلَ إلى امْرَأتِهِ) وبهذا فَسَّرَه ابنُ مَسْعُودٍ راوي الحديثِ، كما في (صحيحِ ابنِ حِبَّانَ والحاكِمِ): قالوا: يا أبا عبدِ الرَّحْمَنِ، هذه الرُّقى والتَّمَائِمُ قد عَرَفْنَاهَا، فما التِّوَلَةُ؟ قال: (شيءٌ يَصْنَعُهُ النساءُ يَتَحَبَّبْنَ به إلى أَزْوَاجِهِنَّ). قالَ الحافِظُ: (التِّوَلَةُ -بكَسْرِ المُثَنَّاةِ وفَتْحِ الواوِ واللامِ مُخَفَّفًا - شيءٌ كانَت المرأةُ تَجْلُبُ به مَحَبَّةَ زَوْجِهَا، وهو ضَرْبٌ مِن السِّحْرِ) واللهُ أعلَمُ.
وكانَ من الشِّرْكِ لما يُرادُ بِهِ مِن دَفْعِ المَضَارِّ وجَلْبِ المَنَافِعِ مِن غيرِ اللهِ تعالى.
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وعن عَبْدِ اللهِ بنِ عُكَيْمٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ تَعلَّق شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) رَوَاه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ) وَرَوَاه أبو داودَ والحاكِمُ.
وعبدُ اللهِ بنُ عُكَيْمٍ هو بِضَمِّ المُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا؛ ويُكَنَّى أبَا مَعْبَدٍ الجُهَنِيَّ الكُوفِيَّ.
- قالَ البُخَارِيُّ: (أَدْرَكَ زَمَنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يُعْرَفُ له سَمَاعٌ صَحِيحٌ) وكذا قالَ أبو حَاتِمٍ.
- قالَ الخَطِيبُ: (سَكَنَ الكُوفَةَ وقَدِمَ المَدَائِنَ في حَيَاةِحُذَيْفَةَ وكانَ ثِقَةً) وذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ عن غَيْرِهِ: (أَنَّهُ مَاتَ في وِلاَيَةِ الحَجَّاجِ).
قولُه: ( ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) ) التَّعَلُّقُ يكونُ بالقَلْبِ، ويكونُ بالفِعْلِ، ويكونُ بهما، أي: وَكَلَه اللهُ إلى ذلك الشَّيْءِ الذي تَعَلَّقَه، فمَن تَعَلَّقَ باللهِ وأنْزَلَ حَوائِجَه بِهِ والْتَجَأَ إليه، وفَوَّضَ أَمْرَه إليه، كفاه وقَرَّبَ إليه كُلَّ بعيدٍ ويَسَّرَ له كُلَّ عَسِيرٍ، ومَنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِه أو سَكَنَ إلى رَأْيِهِ وعَقْلِهِ ودَوَائِهِ وتَمَائِمِهِ ونحوِ ذلك، وَكَّلَه اللهُ إلى ذلك وخَذَلَه، وهذا مَعْرُوفٌ بالنصوصِ والتَّجَارِبِ.
قالَ اللهُ تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلاق:3].
قالَ الإِمامُ أحمدُ: حَدَّثَنا هِشَامُ بنُ القَاسِمِ، حَدَّثَنا أَبو سَعِيدٍ المُؤَدِّبُ، حَدَّثَنَا مَن سَمِعَ عَطَاءً الخُرَاسَانِيَّ قالَ: (لَقِيتُ وَهْبَ بنَ مُنَبِّهٍ وهو يَطُوفُ بالبيتِ فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي حَدِيثًا أَحْفَظُه عنك في مَقَامِي هذا، وَأَوْجِزْ.
قال: نَعَمْ، أَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلى دَاودَ: ((يَادَاودُ، أَمَا وَعِزَّتِي وَعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ بي عَبْدٌ مِن عِبادِي دُونَ خَلْقِي، أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيَّتِهِ، فَتَكِيدُه السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ ومَنْ فِيهِنَّ والأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ إِلاَّ جَعَلْتُ لَه مِن بَيْنِهِنَّ مَخْرَجًا، أَمَا وَعِزَّتِي وَعَظَمَتِي لاَ يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِن عِبَادِي بِمَخْلُوقٍ دُونِي، أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيَّتِهِ، إِلاَّ قَطَعْتُ أَسْبَابَ السَّمَاءِ مِنْ يَدِهِ وَأَسَخْتُ الأَرْضَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ ثُمَّ لاَ أُبَالِي بَأَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ)).
(4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وَرَوَى الإِمَامُ أحمدُ عن رُوَيْفِعٍ قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((يا رُوَيفِعُ، لَعَلَّ الحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا أَوِ اسْتَنْجَى بِرجِيعِ دَابَّةٍ أَو عَظْمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ)) ).
الحديثُ رَوَاه الإِمَامُ أحمدُ عن يَحْيَى بنِ إِسْحَاقَ والحَسَنِ بنِ مُوسَى الأَشْيَبِ، كِلاهما عن ابنِ لَهِيعَةَ، وفيه قِصَّةٌ اخْتَصَرَهَا المُصَنِّفُ، وهذا لَفْظُ الحَسَنِ: حَدَّثَنَا ابنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بنُ عَبَّاسٍ، عن شُيَيْمِ بنِ بَيْتَانَ، قالَ: حَدَّثَنا رُوَيْفِعُ بنُ ثَابِتٍ قالَ: (كَانَ أَحَدُنا في زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأْخُذُ جَمَلَ أَخِيهِ علَى أَنْ يُعْطِيَهِ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَهُ النِّصْفُ، حَتَّى إنَّ أحَدَنَا لَيَصِيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرِّيشُ وَلِلآخَرِ القَدَحُ، ثُمَّ قاَلَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الحديثَ.
ثُمَّ رَوَاه أحمدُ عَن يَحْيَى بنِ غَيْلاَنَ، حَدَّثَنِي المُفَضَّلُ، حَدَّثَنا عيَّاشُ بنُ عبَّاسٍ، أنَّ شُيَيْمَ بنَ بَيْتَانَ، أَخْبَرَه أَنَّهُ سَمِعَ شَيْبَانَ القِتْبانِيَّ، الحديثَ.
ابنُ لَهِيعَةَ فيه مَقَالٌ، وفي الإِسْنَادِ الثاني شَيْبَانُ القِتْبَانِيُّ، قيلَ فيه: مَجْهُولٌ.
وبَقِيَّةُ رِجَالِهِمَا ثِقَاتٌ.
قولُه: ( ((لَعَلَّ الحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ)) ) فيه عَلَمٌ مِن أَعْلامِ النُّبُوَّةِ؛ فإنَّ رُوَيْفِعًا طالَت حَياتُهُ إلى سَنَةِ سِتٍّ وخَمْسين فَمَاتَ بِبُرْقَةَ مِن أَعْمَالِ مِصْرَ أَمِيرًا عليها، وهو من الأنْصَارِ.
وقيلَ: ماتَ سَنَةَ ثَلاثٍ وخَمْسين.
قولُه: ( ((فَأخْبِر النَّاسَ)) ) دليلٌ على وُجُوبِ إِخْبَارِ الناسِ، وليسَ هذا مُخْتَصًّا برُوَيْفِعٍ، بل كلُّ مَن كانَ عِندَه عِلْمٌ لَيْسَ عندَ غيرِه ممَّا يَحْتَاجُ إليه الناسُ وَجَبَ إِعْلامُهُم بِهِ، فإن اشْتَرَكَ هو وغيرُه في عِلْمِ ذلك فالتبْلِيغُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، قالَه أَبُو زُرْعَةَ في (شَرْحِ سُنَنِ أبي داودَ).
قولُه: ( ((أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ)) ) بكسْرِ اللامِ لا غيرُ؛ والجَمْعُ لِحًى بالكسْرِ والضَّمِّ، قالَه الجَوْهَرِيُّ.
- قالَ الخَطَّابِيُّ: (أما نَهْيُه عن عَقْدِ اللِّحْيَةِ فيُفَسَّرُ على وجهيْن:
أَحَدِهما: ما كانوا يَفْعَلُونه في الحَرْبِ، كانوا يَعْقِدُون لِحَاهم؛ وذلك مِن زِيِّ بعضِ الأعاجِمِ يَفْتِلُونها ويَعْقِدُونها).
قال أبو السَّعَاداتِ: (تَكَبُّراً وعُجْباً).
ثانيهِمَا: أنَّ معناه مُعَالَجَةُ الشَّعْرِ لِيَتَعَقَّدَ ويَتَجَعَّدَ، وذلك مِن فِعْلِ أهلِ التأنيثِ).
- قالَ أبو زُرْعَةَ بنُ العِرَاقِيِّ: (والأَوْلَى حَمْلُه على عَقْدِ اللِّحْيَةِ في الصلاةِ، كما دلَّتْ عليه رِوَايَةُ محمَّدِ بنِ الربيعِ، وفيه: ((أنَّ مَن عَقَدَ لِحْيَتَه في الصلاةِ)) ).
قلتُ: وهذه الروايَةُ لا تَدُلُّ على تَخْصيصِهِ في الصلاةِ، بل تَدُلُّ على أنَّ فِعْلَه في الصلاةِ أشَدُّ مِن فِعْلِهِ خَارِجَهَا.
قولُه: ( ((أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا)) ) أي: جَعَلَه قِلادَةً في عُنُقِهِ أو عُنُقِ دَابَّتِهِ.
وفي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بنِ الرَّبِيعِ: ((أَوْ تَقَلّدَ وَتَراً -يُرِيدُ تَمِيمَةً-)).
فإِذا كانَ هذا فيمَن تَقَلَّدَ وَتَراً فكيف بِمَن تَعَلَّقَ بالأمواتِ، وسأَلَهم قَضَاءَ الحاجاتِ، وتَفْرِيجَ الكُرُبَاتِ، وما يَتَرَتَّبُ على ذلك مِن العبادَةِ التي لا يَسْتَحِقُّهَا إلا ربُّ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، الذي جاءَ النهيُ عنه وتَغْلِيظُهُ في الآياتِ المُحْكَمَاتِ؟
قولُه: ( ((أوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ فَإِنَّ مُحَمَّداً بَرِيءٌ مِنْهُ)) ) قالَ النَّوَوِيُّ: (أي: بَرِيءٌ مِن فِعْلِهِ، وهذا خِلافُ الظَّاهِرِ).
والنوويُّ كَثِيرًا ما يَتَأَوَّلُ الأحادِيثَ بِصَرْفِهَا عن ظاهِرِهَا فيَغْفِرُ اللهُ تعالى لَه، بل هو بَرِيءٌ مِن الفاعِلِ وفِعْلِهِ.
وفي (صحيحِ مُسْلِمٍ) عن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: ((لا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلاَ العِظَامِ؛ فَإِنَّهُ زادُ إِخوانِكُم مِنَ الجِنِّ)) وَعلَيْهِ لا يُجْزِئُ الاسْتِنْجَاءُ بهما كما هو ظاهِرُ مَذْهَبِ أحمدَ، لمَا رَوَى ابنُ خُزَيْمَةَ والدَّارَقُطْنِيُّ، عن أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ، وَقَالَ: ((إِنَّهُمَا لاَ يُطَهِّرَانِ)).
(5) قولُه: (وعن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قالَ: مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً مِن إِنْسَانٍ كانَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ، رواه وَكِيعٌ) هذا عندَ أهلِ العِلْمِ له حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لأنَّ مثلَ ذلك لا يُقالُ بالرأيِ، ويكونُ هذا مُرْسَلاً؛ لأنَّ سَعِيدًا تَابِعِيٌّ.
وفيه: فَضْلُ قَطْعِ التَّمَائِمِ؛ لأنها شِرْكٌ.
ووكِيعٌ هو ابنُ الجَرَّاحِ بنِ وَكِيعٍ الكُوفِيُّ، ثِقَةٌ إِمَامٌ، صاحِبُ تَصَانِيفَ مِنها (الجامِعُ) وغيرُه. رَوَى عنه الإمامُ أحمدُ وطَبَقَتُه. ماتَ سَنَةَ سَبْعٍ وتِسْعِين ومِائَةٍ.
(6) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (ولَه عن إبراهيمَ قالَ: كانوا يَكْرَهُون التَّمَائِمَ كُلَّها مِن القرآنِ وغيرِ القرآنِ).
إبراهيمُ هو الإِمَامُ إبراهيمُ بنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ الكُوفِيُّ، يُكَنَّى أبا عِمْرَانَ، ثِقَةٌ من كِبَارِ الفُقَهَاءِ.
- قال المِزِّيُّ: (دَخَلَ على عائِشَةَ، ولم يَثْبُتْ له سماعٌ منها).
ماتَ سَنَةَ سِتٍّ وتِسْعِين، وله خَمْسُون سَنَةً أو نحوَها.
قولُه: (كانوا يَكْرَهُون التَّمَائِمَ...) إلى آخِرِه، مُرَادُه بذلك أصْحَابُ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ، كعَلْقَمَةَ، والأسْوَدِ، وأبي وائِلٍ، والحارِثِ بنِ سُوَيْدٍ، وعَبِيدَةَ، السَّلْمَانِيِّ، ومَسْرُوقٍ، والرَّبِيعِ بن خُثَيْمٍ، وسُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ، وغيرِهِم، وهم مِن ساداتِ التابعين، وهذه الصِّيغَةُ يَسْتَعْمِلُها إبراهيمُ في حِكَايَةِ أقوالِهِم كما بيَّنَ ذلك الحُفَّاظُ كالعِرَاقِيِّ وغيرِه.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) أمَّا التمائِمُ فهي:
تعاليقُ تَتَعلَّقُ بِها قلوبُ مُتَعَلِّقِيها.
والقولُ فيها كالقَوْلِ في الحَلْقَةِ والخَيْطِ كما تَقَدَّمَ.
فمِنْها: ما هو شِرْكٌ أكْبَرُ، كالتي تَشْتَمِلُ على الاستغاثَةِ بالشياطينِ أو غَيْرِهم مِن المَخْلُوقينَ. فالاسْتِغاثَةُ بغَيْرِ اللهِ فيما لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاَّ اللهُ شِرْكٌ كما سيأْتِي إنْ شاءَ اللهُ.
ومِنْها: ما هو مُحَرَّمٌ، كالتي فيها أسماءٌ لا يُفْهَمُ مَعْناها؛ لأنَّها تَجُرُّ إلى الشرْكِ.
وأمَّا التعاليقُ التي فيها قرآنٌ أو أحاديثُ نبويةٌ أو أدْعِيةٌ طَيِّبَةٌ مُحْتَرَمَةٌ
فالأَوْلَى تَرْكُها؛ لِعَدَمِ ورُودِها عنِ الشارعِ، ولِكوْنِها يُتَوَسَّلُ بِها إلى غَيْرِها من المحرَّمِ، ولأَنَّ الغالبَ عَلَى متعلِّقِها أنَّه لاَ يَحْتَرِمُها ويَدْخلُ بِها المَواضِعَ القَذِرَةَ.
أمَّا الرُّقَى فَفِيها تَفْصِيلٌ:
فإنْ كانتْ مِن القرآنِ أو السنَّةِ أو الكلامِ الحَسَنِ:
فإنَّها مَنْدُوبَةٌ في حَقِّ الرَّاقِي؛لأَِنَّها مِن بابِ الإِحسانِ، ولِمَا فيها من النفعِ، وهي جائزةٌ في حقِّ المَرْقِيِّ، إِلاَّ أنَّه لاَ يَنْبغِي له أنْ يَبْتَدِئَ بطَلَبِها، فإنَّ مِن كَمَالِ تَوَكُّلِ العبدِ وقوةِ يقينِه أنْ لاَ يَسْأَلَ أحدًا مِن الخَلْقِ لا رقيةً ولا غيرَها، بَلْ يَنْبَغِي إذا سَأَلَ أحدًا أنْ يَدْعُوَ له أنْ يَلْحَظَ مَصْلَحَةَ الداعِي والإِحسانَ إليه بتَسَبُّبِهِ لهذِه العُبُودِيَّةِ له معَ مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وهذا من أسرارِ تحقيقِ التوحيدِ ومعانِيه البديعةِ التي لا يُوَفَّقُ للتَّفَقُّهِ فيها والعَمَلِ بِها إلاَّ الكُمَّلُ مِن العبادِ.
وإنْ كانت الرُّقْيةُ يُدعَى بِها غَيْرُ اللهِ ويُطْلَبُ الشِّفاءُ من غَيْرِه:
فهذا هو الشرْكُ الأكبرُ؛لأنَّه دُعاءٌ واسْتِغاثَةٌ بِغَيْرِ اللهِ.
فافْهَمْ هذَا التَّفْصِيلَ، وإيَّاكَ أنْ تَحْكُمَ عَلَى الرُّقَى بِحُكْمٍ واحدٍ معَ تَفَاوُتِها في أسبابِها وغاياتِها.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) قولُ المؤلِّفِ: (ما جاءَ في الرُّقَى والتمائمِ) لمْ يذكُر المؤلِّفُ أنَّ هذا البابَ مِن الشِّركِ؛ لأنَّ الحُكمَ فيهِ يختلفُ عَنْ حُكمِ لُبْسِ الحلَقةِ والخيطِ، ولهذا جَزمَ المؤلِّفُ في البابِ الأوَّلِ أنَّها من الشِّركِ بدونِ استثناءٍ.
أمَّا في هذا البابِ فلمْ يذكرْ أنَّها شرْكٌ؛ لأنَّ من الرُّقى ما ليسَ بِشِرْكٍ؛ ولهذا قالَ: (بابُ ما جاءَ في الرُّقى والتَّمائمِ).
قولُهُ: (الرُّقى) جمعُ رُقْيَةٍ، وهيَ القراءةُ. قولُهُ: (التمائمُ)
جَمْعُ تميمةٍ، وسُمِّيتْ تميمةً؛ لأنَّهُمْ يروْنَ أنَّهُ يتِمُّ بها دَفْعُ العينِ.
(2) قولُهُ: (أسفارُهُ)
السَّفَرُ: مفارقةُ محلِّ الإقامةِ.
قولُهُ: ((قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلاَدَةٌ)) شكٌّ مِن الراوي.
والأُولى أرْجَحُ؛ لأنَّ القلائدَ كانتْ تُتَّخَذُ مِن الأوتارِ، ويعتقدونَ أنَّ ذلكَ يدفعُ العينَ عنِ البعيرِ. وهذا اعتقادٌ فاسدٌ؛لأنَّهُ تعلَّقَ بما ليسَ بسببٍ، وقدْ سبقَ أنَّ مَنْ تعلَّقَ بما ليسَ بسببٍ شرعيٍّ أوْ حِسِّيٍّ فإنَّهُ شِرْكٌ؛ لأنَّهُ بتعَلُّقِهِ أثبتَ للأشياءِ سببًا لم يُثْبِتْهُ اللهُ لا بشرْعِهِ ولا بِقَدَرِهِ، ولهذا أمرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنْ تُقْطَعَ هذهِ القلائدُ.
أمَّا إذا كانت هذهِ القلادةُ منْ غيرِ وَتَرٍ،وإنَّما تُسْتَعْمَلُ للقيادةِ كالزِّمامِ، فهذا لا بأسَ بهِ؛ لعدمِ الاعتقادِ الفاسدِ.
وكانَ الناسُ يعملونَ ذلكَ كثيرًا من الصُّوفِ أوْ غيرِهِ.
قولُهُ: (فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ) ذُكِرَ البعيرُ؛ لأنَّ هذا هوَ الذي كانَ مُنْتَشِرًا حينَذاكَ، فهذا القيدُ بِناءً على الواقعِ عندَهُم، فيكونُ كالتمثيلِ.
(3) قولُهُ: (إنَّ الرُّقى) الرُّقى: جمْعُ رُقْيَةٍ، وهذهِ ليسَتْ على عمومِها، بلْ هيَ عامٌّ أُريدَ بهِ خاصٌّ، وهوَ الرُّقى بغيرِ ما وردَ بهِ الشرعُ. أمَّا ما ورَدَ بهِ الشرعُ فليسَتْ مِن الشِّركِ،
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في الفاتحةِ: ((وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ)).
وهل المرادُ بالرُّقى في الحديثِ ما لَم يَرِدْ بهِ الشرعُ ولوْ كانتْ مباحةً،أو المرادُ ما كانَ فيهِ شِرْكٌ؟
الجوابُ:
الثاني؛لأنَّ كلامَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لا يُنَاقِضُ بعْضُهُ بعضًا.
فالرُّقى المشروعةُ التي وردَ بها الشَّرعُ جائزةٌ، وكذلكَ الرُّقى المباحةُ التي يُرْقَى بها الإنسانُ المريضُ كدُعَاءٍ مِنْ عنْدهُ ليسَ فيهِ شِرْكٌ، جائزةٌ أيضًا.
قولُهُ: (التَّمائِمَ) فسَّرَهَا المؤلِّفُ بقولِهِ: (شَيءٌ يُعلَّقُ عَلَى الأوْلادِ يَتَّقُونَ بِهِ العَيْنَ) وهيَ من الشِّركِ؛ لأنَّ الشارعَ لم يجعَلْها سببًا تُتَّقَى بهِ العينُ. وإذا كانَ الإنسانُ يُلْبِسُ أبناءَهُ ملابسَ رثَّةً وباليةً خوفًا مِن العينِ، فهلْ هذا جائزٌ؟
الظاهرُ: أنَّهُ لا بأسَ بهِ؛ لأنَّهُ لمْ يفعلْ شيئًا، وإنَّما تركَ شيئًا، وهو التحسينُ والتجميلُ.
وقدْ ذَكَرَ ابنُ القيِّمِ في (زادِ المعادِ) أنَّ عُثمانَ رأى صبيًّا مليحًا فقالَ: (دسِّمُوا نُونَتَهُ) والنُّونةُ هيَ التي تَخْرُجُ في الوجْهِ عنْدَما يضحَكُ الصبيُّ كالنُّقْرَةِ، ومعنى دسِّمُوا: أيْ سَوِّدُوا.
وأمَّا الخطُّ،وهيَ أوراقٌ من القُرْآنِ تُجْمَعُ وتُوضَعُ في جلدٍ، ويُخَاطُ عليها ويَلْبَسُها الطفلُ على يدِهِ أوْ رقبَتِهِ، ففيها خلافٌ بينَ العلماءِ إذا كانتْ مِن القرآنِ.
وظاهِرُ الحديثِ أنَّها ممنوعةٌ ولا تجوزُ.
ومِنْ ذلكَ أنَّ بعضَهُم يكتُبُ القرآنَ كُلَّهُ بحروفٍ صغيرةٍ في أوراقٍ صغيرةٍ، ويضَعُها في صندوقٍ صغيرٍ، ويُعَلِّقُها عَلى الصبيِّ. وهذا معَ أنَّهُ مُحْدَثٌ فهوَ إهانةٌ للقرآنِ الكريمِ؛ لأنَّ هذا الصبيَّ سَوْفَ يَسِيلُ عليهِ لُعَابُهُ، ورُبَّمَا يَتَلَوَّثُ بالنجاسَةِ، ويدْخُلُ بهِ الحمَّامَ والأماكنَ القَذِرَةَ، وهذا كلُّهُ إهانةٌ للقرآنِ.
قولُهُ: (التِّوَلَةُ) شيءٌ يُعلِّقُونَهُ على الزوجِ يزْعُمُونَ أنَّهُ يُقَرِّبُ الزوجةَ إلى زوْجِهَا، والزوجَ إلى امرأَتِهِ، وهذا شِركٌ؛ لأنَّهُ ليسَ بسببٍ شرعيٍّ ولا قَدَريٍّ للمَحَبَّةِ.
ومثلُ ذلكَ: الدُّبْلَةُ، وهو: خاتَمٌ يُشْتَرَى عندَ الزواجِ يُوْضَعُ في يدِ الزوجِ، وإذا ألْقَاهُ الزوجُ قالت المرأةُ: إنَّهُ لا يُحِبُّهَا، فهُمْ يعتقدونَ فيهِ النفعَ والضررَ، ويقولونَ: إنَّهُ ما دامَ في يدِ الزوجِ فإنَّهُ يعني أنَّ العَلاقةَ بينَهما ثابتةٌ، والعكسُ بالعكسِ، فإذا وُجِدَتْ هذه النيَّةُ فإنَّهُ مِن الشِّركِ الأصغرِ.
وإنْ لمْ توجدْ هذه النيَّةُ، وهيَ بعيدةٌ ألاَّ تَصْحَبَها، ففيهِ تشَبُّهٌ بالنصارى؛ فإِنَّها مأخوذةٌ منهمْ.
وإن كانتْ مِن الذهبِ فهيَ بالنسبةِ للرجُلِ فيها محظورٌ ثالثٌ، وهو لُبْسُ الذهبِ.
قولُهُ: (شِرْكٌ) وهلْ هيَ شركٌ أصغرُ أوْ أكبرُ؟
نقولُ: بحَسَبِ ما يُريدُ الإنسانُ منها، إن اتَّخَذَها معتَقِدًا أنَّ المسبِّبَ هوَ اللهُ فهيَ شركٌ أصغرُ، وإن اعتقدَ أنَّها تفعلُ بنفْسِها فهِي شِرْكٌ أكبرُ. (4) قولُهُ: (مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا) أي: اعتمدَ عليهِ وجعَلَهُ أكْبَرَ همِّهِ ومبْلَغَ علمِهِ، وصارَ يُعلِّقُ رجاءهُ بهِ وزوَالَ خوفِهِ بهِ. و(شيئًا) نكرةٌ في سياقِ الشرطِ، فتَعُمُّ جميعَ الأشياءِ، فمَنْ تعلَّقَ باللهِ سبحانَهُ وتعالى وجعلَ رغبتَهُ ورجاءَهُ فيهِ وخوفَهُ منهُ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أيْ: كَافِيهِ؛ ولهذا كانَ منْ دعاءِ الرسلِ وأتْبَاعِهِمْ عندَ المصائبِ والشَّدائدِ ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) قالَها إبراهيمُ حينَ أُلْقِيَ في النارِ، وقالَها مُحَمَّدٌ وأصحابُهُ حينَ قيلَ لهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}. قولُهُ: (وُكِلَ إِلَيْهِ) أيْ: أُسْنِدَ إليهِ وفُوِّضَ.
والتعَلُّقِ بغيرِ اللهِ يقعُ على ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ:ما يُنَافِي التوحيدَ مِنْ أصْلِهِ، وهو أنْ يتعَلَّقَ بشيءٍ لا يُمْكِنُ أنْ يكونَ لهُ تأثيرٌ، ويعْتَمِدُ عليهِ اعتمادًا كاملاً مُعْرِضًا عن اللهِ، مثلَ: تعلُّقِ عُبَّادِ القبورِ بمَنْ فيها عندَ حُلُولِ المصائبِ؛ ولهذا إذا مسَّتْهُم الضرَّاءُ الشديدةُ يقولونَ: يا فُلانُ! أنْقِذْنَا. فَهذا لا شكَّ أنَّهُ شركٌ أكبرُ مخرجٌ عن المِلَّةِ.
الثاني: ما يُنَافِي كمالَ التوحيدِ، أنْ يعتمدَ على سببٍ شرعيٍّ صحيحٍ معَ الإِعْرَاضِ عن المُسَبِّبِ وهو اللهُ عزَّ وجلَّ، وعدَمِ صرفِ قلْبِهِ إليهِ.
فهذا نوعٌ من الشِّركِ، ولا نقولُ: شِرْكٌ أكبرُ؛ لأنَّ هذا السببَ جعلَهُ اللهُ سببًا.
الثالثُ: أنْ يتعلَّقَ بالسببِ تعَلُّقًا مجَرَّدًا لكوْنِهِ سببًا فقطْ، معَ اعتمادِه الأصليِّ على اللهِ، فيعتقدُ أنَّ هذا السببَ مِن اللهِ، وأنَّ اللهَ لوْ شاءَ لأبطلَ أثَرَهُ، ولوْ شاءَ لأبْقَاهُ، وأنَّهُ لا أثرَ لسببٍ في مشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فهذا لا يُنَافِي التوحيدَ لا كمالاً ولا أصْلاً، وعلى هذا لا إثمَ فيهِ.
ومَعَ وجودِ الأسبابِ الشرعيَّةِ الصحيحةِ ينبغي للإنسانِ أنْ لا يُعلِّقَ نفْسَهُ بالسببِ، بلْ يُعَلِّقُها باللهِ.
فالمُوَظَّفُ الذي يتعلَّقُ قلْبُهُ بمُرَتَّبِهِ تعَلُّقًا كاملاً معَ الإعراضِ عن الاعتقادِ في المسبِّبِ، وهوَ اللهُ، قدْ وقعَ في نوعٍ من الشركِ. أمَّا إذا اعتقدَ أنَّ المرَتَّبَ سببٌ،والمُسَبِّبُ هوَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى، وجعلَ الاعتمادَ على المسبِّبِ وهوَ يَشْعُرُ أنَّ المرتَّبَ سببٌ، فهذا لا يُنَافِي التوكُّلَ.
والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ يأْخُذُ بالأسبابِ معَ اعتمادِهِ على المسبِّبِ، وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
أمَّا إذا تعلَّقَ بسببٍ لا تأثيرَ لهُ،كالذي يتعَلَّقُ بميتٍ في حُصُولِ رزقٍ، أوْ تسهيلِ أمْرٍ، أوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فهذا شِرْكٌ أكبرُ.
وجاءَ في الحديثِ: ((مَنْ تَعَلَّقَ)) ولم يَقُلْ: منْ عَلَّقَ؛ لأنَّ المتعلِّقَ بالشيءِ يتعَلَّقُ بهِ بقَلْبِهِ وبنفْسِهِ، بحيثُ يُنْـزِلُ خوفَهُ ورجاؤَهُ وأملَهُ بهِ، وليسَ كذلكَ مَنْ عَلِقَ.
(5) قولُهُ: (إذا كانَ المُعلَّقُ مِنَ القرآنِ...) إلخ، إذا كانَ المعلَّقُ من القرآنِ، أو الأدْعِيَةِ المُبَاحَةِ، والأذكارِ الواردةِ، فهذهِ المسألةُ اختلفَ فيها السَّلفُ رَحِمَهُمُ اللهُ. فمِنْهُمْ مَنْ رخَّصَ في ذلكَ لِعُمُومِ قوْلِهِ تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ولَم يذكر الوسيلةَ التي نتَوَصَّلُ بها إلى الاستشفاءِ بهذا القرآنِ، فدلَّ على أنَّ كلَّ وسيلةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى ذلكَ فهيَ جائزةٌ، كما لوْ كانَ القرآنُ دواءً حِسِّيًّا.
وقالَ بعضُ العلماءِ:
لا يجوزُ تعليقُ القرآنِ للاستشفاءِ بهِ؛لأنَّ الاستشفاءَ بالقرآنِ وَرَدَ على صفةٍ معيَّنَةٍ، وهيَ القراءةُ بهِ، بمعنى أنَّكَ تَقْرَأُ على المريضِ بهِ، فلا نَتَجَاوزُها، فلوْ جَعَلْنَا الاستشفاءَ بالقرآنِ على صفةٍ لمْ تَرِدْ، فمعنى ذلكَ أنَّنَا فَعَلْنَا سببًا ليسَ مشروعًا.
ولولا الشعورُ النفسيُّ بأنَّ تعلِيقَ القرآنِ سببٌ للشفاءِ لكانَ انتفاءُ السببيَّةِ على هذهِ الصورةِ أمرًا ظاهرًا؛ فإنَّ التعليقَ ليسَ لهُ علاقةٌ بالمرضِ، بخلافِ النَّفْثِ على مكانِ الألمِ فإنَّهُ يتأَثَّرُ بذلكَ.ولهذا الأقربُ أنْ يُقَالَ:
إنَّهُ لا ينبغي أنْ تُعَلَّقَ هذهِ الآياتُ للاستشفاءِ بها، لا سيَّمَا وأنَّ هذا المعلِّقَ قدْ يفعلُ أشياءَ تُنَافِي قدسيَّةَ القرآنِ، كالغِيبَةِ مثلاً، ودخولِ بيتِ الخلاءِ. وأيضًا إذا عَلَّقَ وشعَرَ أنَّ بهِ شفاءً استغنى بهِ عن القراءةِ المشروعةِ، مثلاً: علَّقَ آيةَ الكرسيِّ على صدْرِهِ وقالَ: ما دامَ أنَّ آيةَ الكرسيِّ على صدْرِي فلَنْ أقرَأَهَا، فيستغني بغيرِ المشروعِ عن المشروعِ، وقدْ يشعرُ بالاستغناءِ عن القراءةِ المشروعةِ إذا كانَ القرآنُ على صدْرِهِ. وإنْ كانَ صبيًّا فرُبَّمَا بالَ ووصلَت الرطوبةُ إلى هذا المعلَّقِ. وأيضًا لم يَرِدْ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ والصحابةِ رضيَ اللهُ عنهمْ فيهِ شيءٌ.
فالأقربُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لا يُفْعَلُ، أمَّا أنْ يَصِلَ إلى درجةِ التحريمِ فأنا أتوَقَّفُ فيهِ، لكنْ إذا تضمَّنَ محظوراً فإنَّهُ يكونُ مُحَرَّماً بسببِ ذلكَ المحظورِ. وجماع حجج المانعين -كما ذكر المصنف رحمه الله- ثلاث:
الأولى: عدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، فالاستشفاء بالقرآن لم ينقل عنهم إلا بالرقية به.
الثانية: أنه يجر إلى الاستغناء بغير المشروع والعدول عن المشروع المأذون فيه.
الثالثة: أنه قد يقترن به ما ينافي تعظيم القرآن كالغيبة ودخول الخلاء.
(6) قولُهُ: (التي تُسَمَّى العزائِمَ) أيْ: في عُرفِ الناسِ. وعزَمَ عليهِ: أيْ قرأَ عليهِ، وهذهِ عزيمةٌ، أيْ: قراءةٌ.
(7) قولُهُ: (وَخَصَّ منها الدليلُ ما خلا مِن الشِّركِ) أي: الأشياءَ الخاليةَ من الشركِ، فهيَ جائزةٌ، سواءٌ كانَ ممَّا وردَ بلفْظِهِ، مثلَ: ((اللهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي...)) أوْ لمْ يَرِدْ بلفْظِهِ، مثلَ:(اللهُمَّ عافِهِ، اللهُمَّ اشْفِهِ).
وإنْ كانَ فيها شِركٌ فإنَّها غيرُ جائزةٍ، مثلَ: (يا جِنِّيُّ أنْقِذْهُ، ويا فُلانُ المَيِّتُ اشفِهِ) ونحوُ ذلكَ. (8) قولُهُ: (مِنَ العَيْنِ والحُمَةِ) العينُ معروفةٌ، وهيَ التي تُسَمَّى عندَ العامَّةِ (النَّحَاتَةَ). والحُمَةُ: اللَّدْغَةُ من العقربِ أو الحَيَّةِ وما أشْبَهَ ذلكَ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّ الدليلَ لم يُرخِّصْ بجوازِ القراءةِ إلاَّ في هذينِ الأمرينِ؛ العينِ، والْحُمَةِ. لكنْ وَرَدَ بغيْرِهِما؛ فقَدْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ينْفُخُ على يدَيْهِ عندَ منامِهِ بالمعوِّذاتِ ويمسحُ بِهما ما استطاعَ مِنْ جَسَدِهِ، وهذا من الرُّقْيةِ، وليسَ عيْناً ولا حُمةً.
ولهذا يرى بعضُ أهلِ العلمِ الترخيصَ في الرُّقْيةِ مِن القرآنِ للعينِ والحمةِ وغيرِهما عامَّةً، ويقولُ: إنَّ معنى قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ)) أيْ: لا يُطْلَبُ الاسترقاءُ إلاَّ مِن العينِ والحُمَةِ، فالمصيبُ بالعينِ (العَائِنُ) يُطْلَبُ منهُ أنْ يقرأَ على المَعْيُونِ.
وكذلكَ الحمةُ يَطْلُبُ الإنسانُ مِنْ غيْرِهِ أنْ يقرأَ عليهِ؛ لأنهُ مفيدٌ كما في حديثِ أبي سعيدٍ في قصَّةِ السرِيَّةِ.
وشروطُ جوازِ القراءةِ للرُّقى ثلاثةٌ:
الأوَّلُ:أنْ لا يعتقدَ أنَّها تنفعُ بذاتِها دونَ الله،فإن اعتقدَ أنَّها تنفعُ بذاتِها مِن دونِ اللهِ فهوَ مُحَرَّمٌ؛ لأنَّهُ شِرْكٌ، بلْ يَعْتَقِدُ أنَّها سببٌ لا تنفعُ إلاَّ بإذنِ اللهِ.
الثاني: أنْ لا تكونَ ممَّا يُخَالِفُ الشرعَ، كما إذا كانتْ متضمِّنَةً دعاءَ غيرِ اللهِ، أو استغاثةً بالجنِّ، وما أشبهَ ذلكَ؛ فإنَّها محرَّمَةٌ بلْ شِرْكٌ.
الثالثُ: أنْ تكونَ مفهومةً معلومةً، فإنْ كانتْ منْ جنْسِ الطلاسِمِ والشعوذةِ؛ فإنَّها لا تجُوزُ.
- أمَّا بالنسبةِ للتمائمِ فإنْ كانتْ مِنْ أمرٍ مُحَرَّمٍ، أو اعتقدَ أنَّها نافعةٌ بذاتِها، أوْ كانتْ بكتابةٍ لا تُفْهَمُ، فإنَّها لا تجوزُ بكلِّ حالٍ.
أمَّا إذا تمَّتْ فيها الشروطُ الثلاثةُ السابقةُ في الرُّقْيَةِ وهيَ التميمة القرآنية فإنَّ أَهْلَ العلمِ اختلفوا فيها كما سبقَ.
(9) قولُهُ: (مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ) اللحيةُ عندَ العربِ كانتْ لا تُقَصُّ ولا تُحْلَقُ، كما أنَّ ذلكَ هوَ السُّنَّةُ، لكنَّهمْ كانوا يعْقِدُونَ لأَمرينِ اثنينِ:
الأوَّلُ: افتخارًا وعظمةً، فتجدُ أحدَهُمْ يعْقِدُ أطْرَافَهَا، أوْ يعْقِدُها مِن الوسطِ عُقْدَةً واحدةً ليُعْلَمَ أنَّهُ رجلٌ عظيمٌ، وأنَّهُ سيِّدٌ في قومِهِ.
الثاني: خوفًا مِن العينِ؛لأنَّها إذا كانتْ حسنةً وجميلةً ثمَّ عُقِدَتْ أصبحتْ قبيحةً، فمَنْ فعَلَ ذلكَ فإنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بريءٌ منهُ. وبعضُ العامَّةِ إذا جاءهُم طعامٌ من السُّوقِ أخذوا شيئًا منهُ يرْمُونَهُ في الأرضِ؛ دفعًا للعينِ، وهذا اعتقادٌ فاسدٌ ومخالفٌ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ مَا بِهَا مِنَ الأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا)).
قولُهُ: (أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا)
الوَتَرُ: نوْعٌ من الخيوطِ العصبيَّةِ تُؤْخَذُ مِن الشاةِ، وتُتَّخَذُ للقوسِ وَترًا، ويستعملُونَها في أعناقِ إِبلِهِم أوْ خيلِهِم، أوْ في أعناقِهم، يزْعُمونَ أنَّهُ يمنعُ العينَ، وهذا مِن الشركِ.
قولُهُ: (أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ)
الاستنجاءُ: مأخوذٌ من النَّجْوِ، وهُو: إزالةُ أثرِ الخارجِ من السبيلينِ؛ لأنَّ الإنسانَ الذي يتمَسَّحُ بعدَ الخلاءِ يُزِيلُ أثَرَهُ. وَرجِيعُ الدَّابَّةِ هوَ رَوْثُها، فمَن استنجى بهِ فإنَّ محمَّدًا بريءٌ منهُ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ نهى عنْهُ؛ لكونِهِ عَلَفًا لبهائمِ الجنِّ.
قولُهُ: (أَوْ عَظْمٍ) فمَن استنجى بعَظْمٍ فإنَّ محمَّداً بريءٌ منهُ؛ لأنَّهُ طعامُ الجنِّ يجِدُونَهُ أوفرَ ما يكونُ لَحْما.
قولُهُ: (فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ) كلُّ ذَنْبٍ قُرِنَ بالبراءةِ مِنْ فاعِلِهِ فهوَ مِنْ كبائرِ الذنوبِ كما هوَ معروفٌ عندَ أهلِ العلمِ.
والشاهدُ منْ هذا الحديثِ قولُهُ: ((مَنْ تَقَلَّدَ وَتَرًا)).
(10) قولُهُ: (وعنْ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قالَ:(مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً...)) الحديثَ.
وجهُ المشابهةِ بينَ قطْعِ التميمةِ وعتْقِ الرَّقبةِ:أنَّهُ إذا قَطعَ التميمةَ مِنْ إنسانٍ فكأنَّهُ أعْتَقَهُ مِن الشركِ ففَكَّهُ من النارِ، ولكنْ يقْطَعُها بالتي هيَ أحسنُ؛ لأنَّ العنفَ يؤدِّي إلى المُشَاحَنَةِ والشِّقاقِ، إلاَّ إنْ كانَ ذا شأنٍ كالأميرِ والقاضي ونحوهِ مِمَّنْ لهُ سُلطةٌ، فلهُ أنْ يقطَعَها مباشرةً.
(11) قولُهُ: (كَانوا يَكْرَهُونَ التَّمائِمَ كُلَّها مِنَ القُرْآنِ وغَيْرِ القرآنِ) وقدْ سَبَقَ أنَّ هذا هوَ قول ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ، فأصحابُهُ يرونَ ما يراهُ.
فيه مسائِلُ:
(12) قولُهُ: الأولى: (تفسيرُ الرُّقى والتمائِمِ) وقدْ سبقَ ذلكَ.
(13) الثانيةُ: (تفسيرُ التِّوَلَةِ) وقدْ سبقَ ذلكَ، وعِندي أنَّ منها ما يُسَمَّى بالدُّبْلَةِ إن اعتقدوا أنَّها صِلَةٌ بينَ المرءِ وزوْجَتِهِ.
(14) الثالثةُ: (أنَّ هذهِ الثلاثةَ كلَّها مِنَ الشِّركِ مِنْ غيرِ استثناءٍ)
ظاهرُ كلامِهِ حتَّى الرُّقَى، وهذا فيهِ نظرٌ؛ لأنَّ الرُّقى ثَبَتَ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ يَرْقِي ويُرْقَى، ولكنَّهُ لا يَسْتَرْقِي، أيْ: لا يطْلُبُ الرُّقيةَ، فإطْلاقُها بالنسبةِ للرُّقَى فيهِ نظرٌ.
وقدْ سبقَ للمؤَلِّفِ رحِمَهُ اللهُ أنَّ الدليلَ خصَّ منها ما خلا من الشركِ.
وبالنسبةِ للتمائمِ فعلى رأْيِ الجمهورِ فيهِ نظرٌ أيضًا. وعلى رأيِ ابنِ مسعودٍ فصحيحٌ.
وبالنسبةِ للتِّوَلَةِ فهيَ شِركٌ بدونِ استثناءٍ.
(15) الرابعةُ: (أنَّ الرُّقيةَ بالكلامِ الحقِّ مِنَ العيْنِ والحُمةِ لَيْسَ مِنْ ذلِكَ) قولُهُ: (الكلامِ الحقِّ) ضدُّهُ الباطلُ، وكذا المجهولُ الذي لا يُعْلَمُ أنَّهُ حقٌّ أوْ باطلٌ.
والمؤلِّفُ رحمهُ اللهُ تعالى خصَّصَ العَينَ أو الْحُمَةَ فقط استناداً لقولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ)) ولكنَّ الصحيحَ أنَّهُ يشملُ غيْرَهُما كالسِّحرِ.
(16) الخامسةُ: (أنَّ التميمةَ إذا كانَتْ مِنَ القُرآنِ فَقَد اختَلَفَ العلماءُ هَلْ هِيَ مِنْ ذلِكَ أمْ لا؟) قولُهُ: (ذلِكَ) المشارُ إليهِ التمائمُ.
وقدْ سبَقَ بيانُ هذا الخلافِ، والأحوطُ مذهبُ ابنِ مسعودٍ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ المشروعيَّةِ حتَّى يتبيَّنَ ذلكَ مِنَ السُّنَّةِ.
(17) السادسةُ: (أنَّ تعليقَ الأوْتارِ عَلَى الدوابِّ مِنَ العَيْنِ مِنْ ذلكَ) أيْ: مِن الشِّركِ.
تنبيهٌ:
ظهرَ في الأسواقِ في الآونةِ الأخيرةِ حَلْقَةٌ مِن النُّحاسِ يقولونَ: إنَّها تنْفَعُ من الرُّومَاتِيزْمِ، يزْعُمونَ أنَّ الإنسانَ إذا وضعَها على عضُدِهِ وفيهِ رُومَاتِيزْمٌ نَفَعَتْهُ منْ هذا الرُّوماتيزمِ، ولا ندْرِي هَل هذا صحيحٌ أمْ لا؟
لكنَّ الأصلَ أنَّهُ ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّهُ ليسَ عندنا دليلٌ شرعيٌّ ولا دليلٌ حسِّيٌّ يدُلُّ على ذلكَ؛ وهيَ لا تُؤَثِّرُ على الجسمِ، فليسَ فيها مادَّةٌ دهنيَّةٌ حتَّى نقُولَ: إنَّ الجسمَ يشْرَبُ هذهِ المادَّةَ وينتفعُ بها، فالأصلُ أنَّها ممنوعةٌ حتَّى يَثْبُتَ لنا بدليلٍ صحيحٍ صريحٍ واضحٍ أنَّ لها اتصالاً مباشرًا بهذا الروماتيزمِ، حتَّى يُنْتَفَعَ بها.
(18) السابعةُ: (الوعيدُ الشديدُ على مَنْ تَعَلَّقَ وتَرًا) وذلكَ لبراءةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ممَّنْ تعلَّقَ وتَرًا، بلْ ظاهرُهُ أنَّهُ كُفْرٌ مُخرجٌ من المِلَّةِ، قالَ تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} لكنْ قالَ أهلُ العلمِ: إنَّ البراءةَ هنا براءةٌ منْ هذا الفعلِ، كقوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)).
(19) الثامنةُ: (فضْلُ ثوابِ مَنْ قَطَعَ تَميمةً مِنْ إنسانٍ) لقولِسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: (كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ)ولكنْ هلْ قوْلُهُ حُجَّةٌ أوْ لا؟ إنْ قيلَ: ليسَ بحُجَّةٍ، فكيفَ يقولُ المؤلِّفُ: فضلُ مَنْ قطعَ تميمةً منْ إنسانٍ؟ فيُقالُ: إنَّهُ إنَّما كانَ كذلِكَ؛لأنَّهُ إنقاذٌ لهُ مِنْ رِقِّ الشركِ، فهو كَمَنْ أعْتَقَهُ، بلْ أبْلَغُ.
ولا يُجْزَمُ بهذا، بَل هُوَ مِنْ بابِ القياسِ، فمَنْ أنْقَذَ نَفْسًا مِن الشِّركِ فهو كَمَنْ أنقذَها مِن الرقِّ؛ لأنَّهُ أنقذَهُ مِنْ رقِّ الشيطانِ والهوى.
(20) التاسعةُ: (أنَّ كلامَ إبراهيمَ لا يُخَالفُ ما تقدَّمَ مِن الاختلافِ؛ لأنَّ مُرادَهُ أصحابُ عبدِ الله بنِ مسعودٍ) وليسَ مرادُهُ الصحابةَ ولا التابعينَ عُمُوماً.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ ما جاءَ في الرُّقَى والتَّمائِمِ
وعن عبدِ اللهِ بنِ عكيمٍ مرفوعاً: ((مـَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إليهِ)).
أخرجَهُ أحمدُ، والتّرمذيُّ والحاكمُ من طريقِ محمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى عن أخيهِ عيسى بنِ عبدِ الرَّحمنِ عن عبدِ اللهِ بنِ عكيمٍ بهِ. ومحمَّدٌ صدوقٌ سيِّءُ الحفظِ جدّاً قالَهُ الحافظُ في (التَّقريبِ). وقالَ التّرمذيُّ: (وحديثُ عبدِ اللهِ بنِ عكيمٍ إنَّمَا نعرفُهُ من حديثِ محمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى، وعبدِ اللهِ بنِ عكيمٍلم يسمعْ من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانَ في زمنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((كتبَ إلينَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) اهـ. والحديثُ رَمَزَ لحسنِهِ السّيوطيُّ. وقالَ الألبانيُّ: (حسنٌ وذكرَ أنَّ له شاهداً عن الحسنِ البصريِّ مرسلاً. أخرجَهُ ابنُ وهبٍ في (الجامعِ) (ص 113): أخبرَني جريرُ بنُ حازمٍ أنَّهُ سمعَ الحسنَ يقولُ: فذكرَهُ مرفوعاً، وهذا إسنادٌ مرسَلٌ صحيحٌ). قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: (قالَ أبو زرعةَ: كلُّ شيءٍ يقولُ الحسنُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجدْتُ له أصلاً ثابتاً ما خلا أربعةَ أحاديثَ) اهـ. قلتُ: وله شاهدٌ آخرُ من حديثِ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، بلفظِ: ((مـَنْ عقَدَ عقدةً ثمَّ نفثَ فيها فقدْ سَحَرَ ومَنْ سحرَ فقدْ أشرَكَ، ومن تعلَّقَ شيئاً وُكِلَ إليهِ)). أخرجَهُ النَّسائيُّ، والطَّبرانيُّ، والمزّيُّ. وأخرجَهُ أيضاً ابنُ عديٍّ، لكنْ بدونِ ((ومنْ تعلَّقَ شيئاً وُكِل إليهِ)). كلُّهُمْ من طريقِ عبَّادِ بنِ ميسرةَ المنقريِّ عن الحسنِ عن أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ … الحديثُ. قالَ الذَّهبيُّ: (هذا حديثٌ لا يصحُّ لِلِينِ عبَّادٍ وانقطاعِهِ) اهـ. وتعقَّبَهُ ابنُ مفلحٍ فقالَ: (وقالَ في (الميزانِ): لايصحُّ لِلينِ عبَّادٍ وانقطاعِهِ، كذا قالَ! ويتوجَّهُأنَّهُ حديثٌ حسنٌ) اهـ. واحتجَّ به الحافظُ ابنُ كثيرٍ على قبحِ تعلُّمِ السِّحرِ شرعاً. قلْتُ: هذا الحديثُ رواهُ المزيُّ عن شيخِهِ أبي الحسنِ بنِ البخاريِّ، وهو عليُّ بنُ أحمدَ بنِ عبدِ الواحدِ المقدسيِّ. قالَ الذَّهبيُّ: (مسنِدُ الدُّنيَا). ونقلَ ابنُ العمادِ عنِ الذَّهبيِّ أنَّهُ قالَ: (قالَ شيخنُاَ ابنُ تيميَّةَ: ينشرِحُ صدرِي إذا أدخلْتُ ابنَ البخاريِّ بيني وبينَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثٍ) اهـ. وأمَّا لينُ عبَّادِ بنِ ميسرةَ المنقريِّ فهو ممَّنْ اختُلِفَ فيه. فنقلَ الحافظُ أنَّ الإِمامَ أحمدَ ضعَّفَهُ. ونقلَ ابنُ عديٍّ عن يحيى بنِ معيٍن أنَّهُ ضعَّفَهُ وأنَّهُ ليسَ بالقويِّ وهو ممَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ. ووثَّقَهُ آخرونَ: قالَ الحافظُ: قالَ ابنُ معينٍ: (ليسَ بهِ بأسٌ). ونقلَ العقيليُّ عن ابنِ مهديٍّ أنَّهُ روَى عنهُ. وذكرَهُ ابنُ حبَّانَ في (الثّقاتِ) وكذلِكَ ابنُ شاهينَ. وقالَ ابنُ عديٍّ: (هو ممَّنْ يُكْتَبُ حديثُهُ). ومثلُ هذا لا يُقالُ: لا يصحُّ حديثُهُ إلا بحجَّةٍ! بل الحجَّةُ مع من حسَّنَ حديثَهُ واحتجَّ بهِ، وهو أنَّهُ قد تابعَهُ عليه ثقةٌ حجَّةٌ هو أبانُ بنُ يزيدَ العطَّارُ وإليكَ البيانَ: قالَ عبدُ الرزَّاقِ في (مصنَّفِهِ): (عن أبان عن الحسنُ يرفعُ الحديثَ قالَ:((منْ عقـَدَ عقدةً فيها رقيَةٌ فقدْ سَحَرَ، ومنْ سَحَرَ فقدْ كفرَ، ومن علَّق علقةً وُكِلَ إليهَا)). وبهذا فلا تأثيرَ للينِ عبَّادٍ في هذا الحديثِ؛ لثبوتِ أنَّهُ قد حفظَهُ بتلكِ المتابعَةِ. وأمَّا علَّةُ الانقطاعِ فهي مبنيَّةٌ على أنَّ الحسنَ لم يسمعْ من أبي هريرةَ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - كما قالَ أحمدُ وبهزُ بنُ أسدٍ، ويونسُ بنُ عبيدٍ، وابنُ المدينيِّ، وأبو حاتمٍ الرَّازيُّ وأبو زرعةَ، وغيرُهُمْ، بل صرَّحَ بعضُهُمْ بأنَّهُ لم يرَهُ قطُّ. وأشارَ العلائيُّ إلى أنَّ بعضَ أهلِ العلمِ أثبتَ للحسنِ سماعاً من أبي هريرةَ. وقالَ الحاكمُ: (قد اختلفَ أئمَّتُنَا في سماعِ الحسنِ من أبي هريرةَ). قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: حدَّثَنَا عليُّ بنُ الحسنِ الهسنجَانِيُّ ثنَا إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ الهرويُّ ثنَا إسماعيلُ بنُ عليَّةَ عن شعبةَ عن قتادةَ قالَ: قالَ الحسنُ: (إنَّا واللهِ ما أدركْنَا حتَّى مضى صدرُ أصحابٍ محمَّدٍ الأُوَلِ). قالَ قتادةُ: (إنَّمَا أخذَ الحسنُ عن أبي هريرةَ، قلْتُ: زعمَ زيادٌ الأعلمُ: أنَّ الحسنَ لم يلقَ أبَا هريرةَ؟! قالَ: (لا أدرِي)) وقالَ الدَّارقطنيُّ: (حدَّثَنا دعلجُ قالَ: وسمعْتُ موسى بنَ هارونَ يقولُ: سمعَ الحسنُ من أبي هريرةَ) اهـ. إسنادُهُ صحيحٌ، دعلجُ هو ابنُ أحمدَ ثقةٌ ثبتٌ مأمونٌ، وموسى بنُ هارونَ هو الحمَّالُ، ثقةٌ حافظٌ. قلْتُ: قدْ أدرَكَ الحسنُ من حياةِ أبي هريرةَ سبعاً وثلاثينَ سنةً، فقدْ وُلِدَ الحسنُ سنةَ إحدى وعشرينَ للهجرةِ كمَا تقدََّم. وقدْ تُوفِّيَ أبو هريرةَ سنةَ ثمانٍ وخمسينَ أو تسعٍ وخمسينَ للهجرةِ. وقد خرجَ الحسنُ من المدينةِ النَّبويَّةِ سنةَ سبعٍ وثلاثينَ للهجرةِ عامَ صفِّينَ كمَا مرَّ. وعليه يكونُ قد ساكنَ الحسنُ أبا هريرةَ في المدينةِ النَّبويَّةِ ستَّةَ عشرَ عاماً. وذلك أنَّهُ إذا طرحْنَا إحدى وعشرينَ سنةً منْ سبعٍ وثلاثينَ صارَ الباقي ستَّةَ عشرَ عاماً. ثمَّ إذا طرحْنَا عشرَ سنواتٍ لصغرِ سنِّ الحسنِ بقي ستُّ سنواتٍ. ألا يجوز في هذه السنوات الست أن يلتقي به ويسمع منه ؟! ألا يشتاق إلى رؤية ولقي الصحابي الجليل والحافظ الكبير ؟! وقد صحح أهل العلم سماع الصغير إذا عقل مايسمع ولم يحدوا لذلك حدّاً. قال الخطيب البغدادي (قال قوم: الحد في السماع خمس عشرة سنه، وقال غيرهم ثلاث عشرة وقال جمهور العلماء: يصح السماع لمن سنه دون ذلك وهذا هو عندنا الصواب) اهـ ثم أورد أشياء مماحفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم.
قال الحافظ ابن حجر: (وهذا هو المعتمد).
وقول الذهبي عنه: (ولم يطلب الحديث في صباه) يَرِد عليه أن الحسن نقل أخباراً عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في حال خلافته شاهدها بنفسه وشهد معه جُمعاً كثيرة، كما نقل الذهبي وغيره.
وسماعه من أبي هريرة ممكن لا مانع منه! كيف ينفى سماعه منه وقد جاءت عنه أخبار صحيحة صريحة بالسماع والتحديث ومنها ما يأتي:
قال النسائي: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا المخزومي - وهو المغيرة بن سلمة- قال: حدثنا وهيب عن أيوب عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المنتزعات والمختلعات هن المنافقات)).
قال الحسن: (لم أسمعه من غير أبي هريرة قال أبو عبدالرحمن: (الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً).
وأخرجه في (الكبرى) بسنده وتمامه إلا أنه قال: قال الحسن: (لم أسمعه من أحد غير أبي هريرة).
1- قال الحافظ ابن حجر: (وهذا إسناد لا مطعن من أحد في رواته، وهو يؤيد أنه سمع من أبي هريرة في الجملة) اهـ
قلت: رجال سنده ثقات أثبات رجال الصحيح
2- وقال ابن سعد: (أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا أبو هلال محمد بن سليم قال: سمعت الحسن يقول: (كان موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم لايغتسل إلا مستتراً) قال: فقال له عبدالله بن بريدة: يا أبا سعيد، ممن سمعت هذا؟ قال سمعته من أبي هريرة).
قال أحمد شاكر:(وهذا إسناد صحيح).
قلت: إسناده حسن. مسلم بن إبراهيم ثقة مأمون، وأبو هلال محمد بن مسلم صدوق فيه لين.
قال الإمام البخاري:(كان يحيى بن سعيد لايروي عنه، وكان ابن مهدي يروي عنه).
3- وقال ابن سعد أيضاً: (أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا ربيعة بن كلثوم قال سمعت رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، يوم الجمعة يوم لثق وطين ومطر؟ فأبى عليه الحسن إلا الغسل، فلما أبى عليه قال الحسن: حدثنا أبو هريرة قال: (عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: الغسل يوم الجمعة، والوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر)).
يوم لثق: أي بلل، كما في (النهاية)لابن الأثير.
قال أحمد شاكر: (فهذا إسناد صحيح).
قلت:قال الذهبي بعد إيراده له: (ربيعة صدوق، خرج له مسلم).
وقال الحافظ في (التقريب): (صدوق يهم) ا.هـ.
وعلى هذا فالسند حسن.
4- وأخرج أحمد والطيالسي وأبو يعلى: من طريق عباد بن راشد البزار قال: ثنا الحسن ثنا أبو هريرة -إذ ذاك ونحن بالمدينة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة فتقول: يارب، أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير....))الحديث .
قال أحمد شاكر: (إسناده صحيح).
قلت: إسناده حسن.عباد بن راشد هو البزار.
قال البخاري: (روى عنه ابن مهدي، يهم شيئا، وتركه يحيى القطان) ا.هـ.
وقال الحافظ بن حجر: (قال الجوزجاني: عن أحمد، شيخ ثقة صدوق صالح) ا.هـ.
وخرج له البخاري في (الصحيح ).
5- وقال ابن سعد: (أخبرنا معن بن عيسى قال حدثنا محمد بن عمرو قال: سمعت الحسن يقول سمعت أبا هريرة يقول:((الوضوء مما غيرت النار))قال: فقال الحسن لا أدعه أبداً).
قال أحمد شاكر: (فهذا إسناد جيد يصلح للمتابعات والشواهد على الأقل) اهـ.
قلت: إسناده ضعيف.
محمد بن عمرو
وهو الواقفيأبو سهل، قال الحافظ في (التقريب): ضعيف.
وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال يخطيء.
6- وقال أبو يعلى: (حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا حجاج بن محمد عن هشام بن زياد عن الحسن قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم((من قرأ (يس) في ليلة أصبح مغفوراً له..))) الحديث.
قال الحافظ ابن كثير: (إسناده جيد).
وقال الزيلعي - في قول الترمذي: لم يسمع الحسن من أبي هريرة -: (مع أني وجدت هذا الحديث في (مسند أبي يعلى الموصلي) عن الحسن قال: سمعت أبا هريرة.والله أعلم) اهـ.
قلت: إسناده ضعيف جدّاً فيه هشام بن زياد وهو أبو المقدام، قال الحافظ في (التقريب): متروك اهـ.
ولولا تجويد ابن كثير لإسناده واحتجاج الزيلعي به على الترمذي بدون اعتراض منهما عليه -وهما من نقاد الحديث- ما أوردته هنا اللهم إلا أن يكون هشاماً غيره، فالله أعلم.
7- وتقدم قول قتادة: (إنما أخذ الحسن عن أبي هريرة).
قال أحمد شاكر بعد أن صحح إسناده: (فهذا قتادة يجزم بأن الحسن إنما أخذ عن أبي هريرة بكلمة عامة مطلقه يفهم سامعها أن الحسن أخذ عن أبي هريرة العلم، لا أنه أخذ منه حديثاً واحداً أو أحاديث متعددة، وقتادة من أعلم الناس بالحسن).
وكان أحمد شاكر يصحح سماع الحسن من أبي هريرة لعدد من الأدلة:
منها: ثبوت المعاصرة، وهي كافية في حكم الاتصال على الراجح عنده.
ومنها: ثبوت التصريح بالسماع والتحديث عنه.
ومنها:أن الأئمة النافين لسماعه منأبي هريرة أقوالهم مرسلة على عواهنها يقلد فيها بعضهم بعضاً دون نظر إلى سائر الروايات التي تثبت سماعه منه.
قلت: سماع الحسن البصري من أبي هريرة، هو الراجح إن شاء الله تعالى، وذلك للحقائق التالية:
1- أن النافي لسماعه منه لم يستند إلى دليل فيما علمت.
2- أن العلم بالوفيات والمواليد ومقدار الأعمار يسوغ سماعه منه، ولا يمنعه - كما تقدم تحقيقه.
3-أن العلم بالأوطان والبلدان يجيزه كذلك كما مر تحقيقه أيضاً، بل جاء عنه بسند حسن أو صحيح الإخبار عن نفسه أنه سمع منه في المدينة كما سلف بلفظ: (ثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة) وفي لفظ: (ثنا أبو هريرة ونحن إذ ذاك في المدينة).
4-أن المثبت لسماعه منه قد استند إلى أدلة كثيرة جاءت بأسانيد صحيحة وحسنة وضعيفة متفقة الدلالة على سماعه منه كما سلف.
5-أن المثبت مقدم على النافي، لأن معه زيادة علم. فهذا هو الحق، والحق أحق أن يتبع.
يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، والمنشط و المكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن حبان وغيرهم.
وبهذا البيان الجلي، لا انقطاع في الحديث؛ لأن الأصل سماع الحسن من أبي هريرة ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بديل.
والعلم عند الله.
العناصر
معنى قوله: (ماجاء في الرقى والتمائم)
لِمَ لَمْ يجزم المصنف بكون الرقى والتمائم من الشرك؟ بيان الفرق بين ترجمة هذا الباب (ما جاء في الرقى ...) والباب الذي قبله شرح حديث أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه وبيان مناسبته للباب - ترجمة أبي بشير الأنصاري - سبب تسمية السفر بذلك - من هو الرسول في قوله: (فأرسل رسولاً)؟ - السبب في تخصيص البعير في قوله: (في رقبة بعير) - لم كان العرب يقلدون الإبل الأوتار؟ - معنى (أو) في قوله: (قلادة من وتر أو قلادة)، وحكم كل منهما، وتأول مالك للحديث - حكم إلباس الطفل ملابس رثة خوف العين - حكم وضع حلقة من النحاس للاستشفاء من الروماتيزم - أقسام التعلق بغير الله شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ذكر قصة حديث ابن مسعود (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) الكلام على الرقى - تعريف الرقى - المراد بالرقى في حديث ابن مسعود - بيان ما يجوز منها وما لا يجوز - بيان معنى الرقية الشركية وحكمها - أقسام الرقى وحكم كل قسم - الرقية الشرعية جائزة للمرقي مستحبة للراقي - أحاديث في جواز الرقية - شروط جواز الرقية - معنى العين والحمة في قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، وهل جواز الرقية مقتصر عليهما؟ - سؤال: عمن أوصى بالبحث عن راق له دون أن يطلب ذلك بنفسه هل يدخل في عموم حديث (لا يسترقون) الكلام على التمائم - بيان معنى التمائم وذكر بعض صورها في الماضي والحاضر - تعريف التميمة، ولم نهي عنها؟ - أقسام التمائم، وحكم كل قسم - حكم تعليق التمائم للزينة - معنى التولة، وبيان من أي أنواع الشرك هي، ولم كانت من الشرك؟ شرح حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه وبيان مناسبته للباب - تخريج حديث (من تعلق شيئا وكل إليه) - ترجمة عبد الله بن عكيم -رضي الله عنه- - معنى قوله: (من تعلق شيئا وكل إليه)ونظيره من السنة - لم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من تعلق) ولم يقل (من علق)؟ شرح حديث رويفع رضي الله عنه - ذكر قصة حديث أبي رافع، ورواياته، والحكم عليه - قوله عليه الصلاة والسلام: (لعل الحياة تطول بك): علم من أعلام النبوة - نوع الأمر في قوله: (فأخبر الناس) ولمن؟ - معنى عقد اللحية، ولم كان العرب يعقدونها؟ - معنى قوله: (أو تقلد وتراً) - معنى الاستنجاء، ورجيع الدابة، وحكم الاستنجاء به وبالعظام - معنى قوله: (فإن محمداً برئ منه) شرح أثر سعيد بن جبير رحمه الله - نوع أثر سعيد بن جبير - الخلاف في حجية الحديث المرسل - المناسبة بين قطع التميمة وعتق الرقبة - ترجمة وكيع بن الجراح شرح أثر إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى
- ترجمة إبراهيم النخعي
- مرجع الضمير في قول إبراهيم النخعي: (كانوا يكرهون)
- إذا قال التابعي من السنة فهل يعتبر موقوفاً متصلاً أو مرفوعاً مرسلاً؟
- بيان الخلاف في تعليق التمائم من القرآن، والراجح في ذلك
- بيان المفاسد المترتبة على تعليق التمائم من القرآن
- حكم تعليق أسماء الله تعالى
- سؤال: عن حكم تعليق آية الكرسي أو بعض الأدعية في السيارة
معنى (الدبلة) وحكمها
لا يجوز تعليق التمائم وإن لم يعتقد فيها
حكم رمي بعض الطعام في الأرض دفعاً للعين
* مسائل الباب
- استدراك على قول المصنف (هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء)
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب ما جاء في الرُّقى والتمائم
تلحظ أن الباب الأول قال فيه الإمام رحمه الله: (باب من الشرك لُبس الحلقة والخيط) وهنا قال: (باب ما جاء في الرّقى والتمائم) ولم يقل:
(باب من الشرك الرقى والتمائم) ذلك لأن الرقى:
- منها: ما هو جائز مشروع.
- ومنها: ما هو شرك.
والتمائم:
- منها: ما هو متفق عليه أنه شرك.
- ومنها: ما قد اختلف الصحابة فيه، هل هو من الشرك أم لا؟
لهذا عبّر -رحمه الله- بقوله: (باب ما جاء في الرقى والتمائم) وهذا من أدب التصنيف العالي.
(الرّقى)جمع رُقية، والرُّقية معروفة قد كانت العرب تستعملها، وحقيقتها: أنها أدعية وألفاظ تُقال أو تُتلى ثم يُنْفث بها.
- ومنها: ما له أثر عضوي في البدن.
- ومنها: ما له أثر على الأرواح.
- ومنها: ما هو جائز مشروع.
- ومنها: ما هو شرك، والنبي -عليه الصلاة والسلام- رَقى ورُقِيَ، رَقى غيره ورُقِيَ، رَقى غيره ورقى نفسه عليه الصلاة والسلام، ورُقِيَ أيضاً، رَقاه جبريل، ورقته عائشة، ونحو ذلك، فهذا الباب معقود لبيان حكم الرقى.
قال: (باب ما جاء في الرّقى والتمائم) وقد رخّص الشرع من الرّقى بالتي ليس فيها شرك، بالرقى التي خلت من الشرك.
وقد قال بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام -يسأله عن الرقى، فقال: ((اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك)).
قال العلماء: (الرقية تجوز بثلاثة شروط أُجمع عليها:
الأول: أن تكون بالقرآن أو بأسماء الله أو بصفاته.
الثاني: أن تكون بالكلام العربي، بلسان عربي معلوم يُعْلَم معناه.
والثالث: ألاّ يعتقد أنها تنفع بنفسها، بل الله جل وعلا هو الذي ينفع بالرقى).
قال بعض العلماء: (يدخل في الأول السنة أيضاً، بما ثبت في السنة، يعني: يكون الشرط الأول: أن تكون من القرآن، أو السنة، وبأسماء الله وبصفاته.
هذه شروط ثلاثة لكون الرّقى جائزة بالإجماع.إذا لم تكن من الأول أو الثاني) يعني: إذا تخلف الأول، أو تخلف الثاني؛ ففيها خلاف بين أهل العلم، والثالث لابد منه، شرط متفق عليه، من أن الرّقى لابد لمن تعاطاها ألاّ يعتقد فيها. وأما من جهة كونها بأسماء الله وصفاته،
أو بالكتاب والسنة. أو أن تكون بلسان عربي مفهوم؛ فإن هذا مختلف فيه.وقال بعضهم:
(يسوغ أن تكون الرقية بما يُعلم معناه، ويصحّ المعنى بلغة أخرى، لا يُشترط أن تكون بالعربية، ولا يشترط أن تكون من القرآن أو السنة) وهذه مسائل فيها خلاف وبحث، ومن جهة تأثير -أيضاً- غير القرآن على المرقيّ.
وفي هذا مسائل، نُرجئ تفصيل ذلك إلى موضع آخر إن شاء الله.
المقصود: أن الرّقى الجائزة بالإجماع: هي ما اجتمعت فيه ثلاثة شروط.
وأما الرّقى الشركية:فهي التي فيها استعاذة أو استغاثة بغير الله، أو كان فيها شيء من أسماء الشياطين، أو اعتقد المرقي فيها بأنها تؤثر بنفسها ؛ فهذا تكون الرقية غير جائزة، ومن الرّقى الشركية، قد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) كما سيأتي.
إذاً: الحاصل من ذلك: أن الرقى:
- منها ما هو جائز مشروع.
- ومنها ما هو شركيّ.
علمتَ ضابط الجائز المشروع، وعلمتَ ضابط ما هو من جهة الشرك.
(والتمائم) التمائم: جمع تميمة، وقد ذُكرَ تفسيرها مختصراً من قبل، وهي تجمع أنواعاً كثيرةً، فالتمائم تجمع كلّ ما يُعلّق، أو يُتخذ مما يُراد منه تتميم أمر الخير للعبد، أو دفع الضّرر عنه، ويَعْتَقد فيه أنه سبب، ولم يجعل الله -جل وعلا- ذلك الشيء سبباً: لا شرعاً، ولا قدراً.
فالتميمة: شيءٌ يُعَلَّق.
- إما جلد مثلاً، يكون من جلد خاص يُعلق على الصدر.
- أو يكون فيه أذكار، وأدعية، وتعوذات، تجعل أيضاً معلقة على الصدر، أو في العضد.
- أو خرزات، وحبال، ونحو ذلك؛ تجعل على الصدر تعلق، أو شيء يجعل على باب البيت، أو يجعل في السيارة، أو يُجعل في مكان ما. يجمع التمائم أنها شيء يراد منه تتميم أمر الخير، وتتميم أمر دفع الضر، وذلك الشيء لم يؤذن به شرعاً، ولم يؤذن به أيضاً قَدَراً.
فإذاً: التميمة ليست خاصة بصورة معينة، بل تشمل أحوالاً كثيرة، تشمل أصنافاً عديدة:
منها، مما هو في زمننا الحاضر: ما تراه على كثيرين من شيء يعلقونه في صدورهم، يعلق جلدة صغيرة في الصدر، أو على العضد.
- أو يربط في البطن تميمة لدفع -مثلاً- أمراض البطن، أو الإسهال، أو التقيؤ، ونحو ذلك.
- أو شيء يُتَّخَذ في السيارة؛ كما ترى بعض السيارات، فيها رأس دُبٍّ مثلاً، أو أرنب، أو يضع بعض الأشكال كحذوة الفرس، أو يضع خرزاً على المرآة الأمامية، أو يضع مسبحة على شكل معين من خشب، ونحو ذلك: هذه وأصنافها، من أنواع التمائم، ولها أشكال كثيرة تختلف مع اختلاف الأزمان.
- ويُحْدِث الناس منها شيئاً كثيراً، أو يلبس سلسلة وعليها شكل عين صغيرة.
- أو يعلق على مدخل الباب رأس ذئب، أو رأس غزال.
- أو يضع على مطرق الباب حذوة فرس.
هذه من التمائم التي يُريد منها أصحابها أن تدفع عنهم العين، أو أن تجلب لهم نفعاً.
بعض الناس يقول: (أُعَلِّق ولا أستحضر هذه المعاني: أعلق هذا في السيارة للزينة، أعلقه في البيت للجمال، ونحو ذلك من قول طائفة قليلة من الناس).
ونقول: إن علقها، إن علقّ التمائم للدفع، أو الرفع؛ فإنه شرك أصغر إن اعتقد أنها سبب، وإن علقها للزينة فهو مُحَرَّم؛ لأجل مشابهته من يشرك الشرك الأصغر.
فإذاً: دار الأمر على أنَّ التمائم كلها منهيّ عنها، سواء اعتقد فيها أو لم يعتقد؛ لأن حاله إن اعتقد فهو في شرك أصغر، وإن لم يعتقد فإنه شابه أولئك المشركين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال رحمه الله تعالى: (في (الصحيح) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: ((أن لا يَبْقَيَنَّ في رقبةِ بعيرٍ قلادةٌ من وتر أو قلادة إلا قُطِعَتْ))) هذا الحديث:وجه الاستدلال منه: على أن تعليق القلادة من الوتر على البعير مأمورٌ بقطعه؛ والأمر بقطعه؛ لأجل أن العرب تعتقد أنها تدفع العين عن الأبعرة، تدفع العين عن النَّعَم، فيعلقون الأوتار على شكل قلائد، وربما ناطوا بالأوتار أشياء:
- إما خرز.
- وإما شَعَر، أو نحو ذلك ليدفعه، فهذا نوع من أنواع التمائم.
فمناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة؛ وهي أن قوله: ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)) ظاهر في النهي عن التمائم، وأن هذا النوع يجب قطعه، لِمَ يجب قطعه ؟
لأن في تعليقه اعتقاداً أنه يدفع، أو أنه يجلب النفع، وهذا الاعتقاد اعتقاد شركي.
قال: (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك))) هذا الحديث فيه التأكيد، قال: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك))ومعلوم أن دخول (إنَّ) على الجملة الخبرية يفيد تأكيد ما تضمنته، والرقى هنا لما دخلت عليها الألف واللام، عمّت؛ فهذا الحديث أفاد:
- أن كل الرقى من الشرك.
- وأن كل التمائم من الشرك.
- وأن كل التولة من الشرك.
- قال: (إن الرقى شرك) فكل الرقى شرك.
- وقال: (إن التمائم شرك) فإذاً: كل التمائم شرك.
- وقال: (إن التولة شرك) فإذاً: كل أنواع التولة شرك.
وهذا العموم خُصّ في الرقى بالنص وحدها، خص في الرقى بقوله: ((لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك)) وبأن النبي -عليه الصلاة والسلام-، رَقى ورُقي -عليه الصلاة والسلام-.
فإذاً: الرقى دل الدليل على أن العموم ها هنا مخصوص،وليس كل أنواع الرقية شرك، بل بعض أنواع الرقية، وهي التي اشتملت على شرك، فإذاً: العموم هنا مخصوص بأنه خرج من ذلك ما لم يكن فيه شرك ((لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)) وفي لفظ آخر قال: ((لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك)).
أما التمائم: فلم يأت دليل يخص نوعاً من نوع، بل يبقى هذا اللفظ على عمومه: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) فما جاء ما يخص نوعاً من التمائم دون نوع من الشرك، فتكون إذاً: التمائم بأنواعها شرك؛ لأن ما لم يرد فيه تخصيص من الشارع فإن العموم يجب أن يبقى؛ لأن التخصيص شرع، وهذا الشرع لابد أن يأتي من الشارع، فنُبْقِي العموم على عمومه.
قال: ((والتولة)) التولة: كما فسرها الشيخ -رحمه الله-: (شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى زوجه، نوع من السحر، وهو يسمى عند العامة: العطف، الصرف والعطف: نوع من السحر يصنع، فيجلب شيئاً ويدفع شيئاً في حسب اعتقادهم، وهي في الحقيقة نوع من أنواع التمائم؛ لأنها تُصنع ويكون الساحر هو الذي يرقي فيها الرقية الشركية، فيجعل المرأة تحب زوجها، أو يجعل الرجل يحب زوجته، وهذا نوع من أنواع السحر، والسحر شرك بالله -جل وعلا-، وكفر، وهذا أيضاً عموم، وكل أنواعه شرك.
قال: (وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: ((من تعلق شيئاً وُكل إليه)))
- يتعلق بالله وحده: في أعماله.
- في أقواله.
- في مستقبله.
فقال هنا: ((من تعلق شيئاً وُكل إليه))فإذا تعلق العبد تميمة وُكل إليها، وما ظنك بمن وكل إلى خرقة، أو إلى خرز، أو إلى حذوة حصان، أو إلى شكل حيوان، ونحو ذلك؛ لا شك أن خسارته أعظم الخسارة.
قال هنا: ((من تعلق شيئاً)) وجه الاستدلال -كما ذكرت لك- من أنه ذكر نتيجة التعلق، وهو أنه يوكل إلى ذلك الشيء، فمن تعلق شيئاً وكل إليه، وإذا وكل إليه فمعنى ذلك أنه خسر في ذلك.
الشيخ رحمه الله -كما ذكرت لك- ما صدّر الباب بِحُكْم، فيكون إذاً الاستدلال بهذه على ما دلت عليه الأحاديث.
قال: (التمائم شيء يُعلق على الأولاد يتقون به العين) (شيء) ليشمل أي: شيء يُعلق دون صفة معينة، بعض العلماء قال: (التمائم خرز).
- بعضهم قال: (جلدة ونحو ذلك) وهذا ليس بجيد، بل التمائم اسم يعم كل ما يعلق لدفع العين؛ لاتقاء الضرر، أو لجلب خير نفسي.
قال: (لكن إذا كان المعلَّق من القرآن فرخص فيه بعض السلف) إذا كان المعلق من القرآن، بمعنى أنه جعل في منزله مصحفاً ليدفع العين، أو علّق على صدره شيئاً، سورة الإخلاص، أو آية الكرسي؛ ليدفع العين، أو ليدفع الضرر عنه، هذا من حيث التعليق تميمة، فهل هذه التميمة جائزة أم غير جائزة؟
قال الشيخ رحمه الله: (إن التمائم إذا كانت من القرآن فقد اختلف فيها السلف، فقال بعضهم بجوازها، رخّص فيها بعض السلف، ويعني ببعض السلف بعض كبار الصحابة، ومال إليه بعض أهل العلم الكبار، وبعضهم لم يُرخّص فيها كابن مسعود رضي الله عنه، وكأصحاب ابن مسعود الكبار: إبراهيم، وعلقمة، وعبيدة، والربيع بن خثيم، والأسود وأصحاب ابن مسعود جميعاً، فالسلف اختلفوا في ذلك).
ومن المعلوم أن القاعدة أن السلف من الصحابة فمن بعدهم إذا اختلفوا في مسألة وجب الرجوع فيها إلى الدليل،والدليل دلّ على أن كل أنواع التمائم منهي عنها:((من تعلق شيئاً وُكل إليه))((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) فمن تعلق القرآن -من علّقه- كان داخلاً في المنهي عنه، لكن لما كان مُعلقاً للقرآن؛ فإنه لم يشرك؛ لأنه علق شيئاً من صفات الله جل وعلا، وهو كلام الله جل وعلا، فما أشرك مخلوقاً؛ لأن الشرك معناه: أن تشرك مخلوقاً مع الله جل وعلا، والقرآن ليس بمخلوق، بل هو كلام الباري جل وعلا، منه بدأ وإليه يعود.
فإذاً: صار تعليق التميمة من القرآن: خرجت -لأجل كون القرآن ليس بمخلوق- من العموم، وهو قوله: (إن التمائم شرك) فبقي هل هي منهيٌّ عنها، أم غير منهيٌّ عنها؟
قال عليه الصلاة والسلام: ((من تعلق شيئاً وُكل إليه)) ونُهي عن التمائم بأنواعها، فدل ذلك على أن تخصيص القرآن بالإذن من بين التمائم، ومن بين ما يعلق، يحتاج إلى دليل فيه؛ لأن إبقاء العموم على عمومه، هذا إبقاء لدلالة ما أراد الشارع، الدلالة عليه من الألفاظ اللغوية، والتخصيص نوع من أنواع التشريع؛ لابد فيه من دليل واضح، لهذا صارت الحجة مع من يجعل التمائم التي من القرآن مما لا يُرَخَّص فيه: كابن مسعود، وكغيره من الصحابة رضوان الله عليهم.
وكذلك: هو قول عامة أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها المحققون من أصحابه، وعليها المذهب عند المتأخرين.
بقي أن نقول: إن في إجازة اتخاذ التمائم من القرآن مفاسد، وفي تجويز اتخاذ التمائم من القرآن أنواع من المنكر:
الأول: أنه إذا اتُّخِذَتْ التميمة من القرآن، فإننا إذا رأينا من عليه التميمة فسيشتبه علينا الأمر، هل هذه تميمة شركية أو من القرآن؟
وإذا ورد الاحتمال فإن المُنْكِر على الشركيات يضعف، يقول: (احتمال أنها من القرآن) فإجازة تعليق التمائم من القرآن فيه إبقاء التمائم الشركية؛ لأن حقيقة التميمة التي تُعَلَّق: أنها تكون مخفية غالباً في جلد، أو في نوع من القماش ونحو ذلك، فإذا رأينا صورة التعليق وقلنا هذا يحتمل أن يكون كذا، ويحتمل أن يكون كذا، فإذا استفصلت منه وقلت له: هل هذه تميمة شركية، أو من القرآن؟
معلوم أن صاحب المُنْكَر دائماً سيختار أن تكون من القرآن، حتى ينجو من الإنكار؛ لأنه يعتقد في هذه، يريد أن يسلم له تعليقها، فهذا من المفاسد العظيمة، أن في إبقائها إبقاء للتمائم الشركية، وفي النهي عنها سَدٌّ لذريعة الإشراك بالتمائم الشركية، ولو لم يكن إلا هذا لكان كافياً.
الثاني: أن الجهلة من الناس إذا علّقوا التمائم من القرآن فإنهم يتعلقون بها، يتعلق قلبهم بها، ولا تكون عندهم مجرد أسباب، وإنما تكون عندهم فيها خاصية من الخصائص التي تكون بنفسها: يأتي بالشيء، أو تدفع الشيء، وهذا لاشك فتح لباب اعتقادات فاسدة على الناس يجب أيضاً وصده، ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع.
أيضاً من المفاسد المتحققة عامة في ذلك:
أنه إذا علق شيئاً من القرآن فإنه يمتهنه: ينام عليه، أو يدخل به مواضع قذرة، أو يكون معه في حالات لا يكون من الحسن أن يكون معه قرآن فيها أو آيات؛ وهذا مما ينبغي اجتنابه وتركه.
إذاً: فتحصّل أن تعليق التمائم جميعاً: بالدليل، وبالتعليل لا يجوز، فما كان منها من القرآن فنقول:يَحْرُم على الصحيح ولا يجوز، ويجب إنكاره. وما كان منها من غير القرآن وتعلّق تمائم عامة، فهذا نقول: (إنه من الشرك بالله) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك))والتخصيص نوع من العلم يجب أن يكون فيه دليل.
وقوله: ((تقلد وتراً)) تقييد التقليد بالوتر له مفهوم، وهو أن النهي ليس راجعاً إلى القلادة من حيث هي، بل إلى القلادة التي يُعَتَقَد فيها أنها تدفع العين، وخصّ الوتر منها هنا؛ لأنه كان أهل الجاهلية يقلدون الأوتار، وينوطون بها بعض الخرق، أو بعض الشعر، أو بعض العظام؛ لكي تدفع العين عن الأبعرة. وأما مجرد التقليد فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشعر هَدْيَه، وأيضاً فُتِلَتْ له القلائد، وعلّق القلائد؛ لبيان أن ما أرسله إلى مكة هدي، فالتقليد هنا خُصّ بالوتر، فيقال:( القلادة التي تجعل على الحيوان أو على غيره، إذا كانت مما يعتقد فيها أو يختص بها أهل الاعتقادات؛ فإنه يُنْهَى عنها، ولهذا قيّدها في حديث أبي بشير الأول، قال: ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر))و(من) ها هنا بيانية، وكذلك هنا قال: ((أو تقلد وتراً)) وهذا واضح المعنى من أنه جعل الوتر الذي قُلِّد تميمة.
وقوله في ذلك: ((فإن محمداًبريء منه)) هذا من الألفاظ التي تدل على أن الفعل من الكبائر؛ لأن من الأدلة على أن فعلاً ما من الكبائر، أو عملاً ما، أو قولاً ما من الكبائر، أن يقال فيه: (الله ورسوله منه بريئان) أو يتبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- منه؛ لأن ذلك يدل على عظم المعصية.
والشرك الأصغر من الكبائر، كما أن الشرك الأكبر من الكبائر.
-والكبائر العملية التي ليس معها اعتقاد -يعني:كبائر من جهة العمل، (كالزنا) و(السرقة) و(شرب الخمر) التي ليس معها اعتقاد- هذه من حيث الجنس أقل مرتبة -من حيث الجنس المحرم والكبيرة- أقل مرتبة من الشرك الأصغر، فضلاً عن الشرك الأكبر، ولهذا نقول: (الشرك الأصغر باتخاذ التمائم، أو نحو ذلك، هذا جنسه أعظم من حيث الذنب، والكبيرة من جنس الكبائر العملية التي لا يَصْحَب فاعلها حين فعلها اعتقاد، يعني: أن يعتقد في شيء ما، نريد بذلك تقييد ذلك بنحو (الزنا) و(السرقة) و(شرب الخمر) وما أشبه ذلك، و(أكل الربا) ونحوه).
قال: (وعن سعيد بن جبير قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة)) يعني: كان كتحرير رقبة، وهذا فيه فضيلة قطع التمائم، وذلك لأنها شرك بالله جل وعلا، والشرك الأصغر مُدخل للنار من حيث الوعيد، والتوعد عليه بالنار.
- جاء في نحو قوله جل وعلا: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}.
- ونحو قوله: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندّاً دخل النار)).
- وفي نحو قوله: ((من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار)) وإذا قطع التميمة من عنقه، فهو في مقام إعتاق رقبة ذاك الذي قطعت منه التميمة من النار؛ لأنه استوجب بذلك الفعل الوعيد بالنار، فإذا قطع التميمة فكان جزاؤه من جنس فعله، فكما أنه أعتق رقبة هذا المسلم من النار، فأثيب بأن له مثل إعتاق رقبة، وهذا القول من سعيد بن جبير، محمول على أنه مما سمعه من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن هذا مما لا يقال بالرأي، وإذا كان كذلك فله حكم المرسل، فيكون هذا مرسلاً؛ لأنه إذا كان مما لا يقال بالرأي؛ لأن فيه فضيلة خاصة جعلها سعيد بن جبير لمن قطع تميمة من رقبة إنسان، فيكون ذلك من قبيل المرسل، يعني: من قبيل المرفوع.
قال بعض أهل العلم: (قول التابعي في الأشياء التي لا تدرك بالاجتهاد، ولا يُناط بها الرأي، يكون محمولاً على أنه قول صحابي) يعني: أنه سمعه من الصحابي، فيكون اجتهاد صحابي، وهذا ليس بقوي؛ لأنه إذا كان محمولاً على أنه سمعه من الصحابي، فنقول أيضاً: (الصحابي لا يقوله من جهة الرأي، فلابد إذاً أن يكون سمعه؛ لأن مثل هذا لا يدخل فيه الاجتهاد، والأول هو المعروف، وأن هذه الصيغة من قبيل المرسل).
قال: (وله) يعني: لوكيع (عن إبراهيم) وهو النخعي -تلميذ ابن مسعود- قال: (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن))إبراهيم النخعي، عالم أهل الكوفة بعد ابن مسعود، وقال: (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن) (كانوا): هذا يرجع إلى أصحاب ابن مسعود، إبراهيم النخعي أظنه لم يأخذ عن ابن مسعود، وإنما أخذ عن تلامذة ابن مسعود، فيعني بقوله: (كانوا يكرهون) أصحاب ابن مسعود، كالأسود، وعلقمة، وكالربيع بن خُثيم، وكعبيدة السلماني ونحو هؤلاء.
أحضرني الأخ في بعض الشروح: أنه قال: من أصحاب ابن مسعود.
قال باب، قال بعد ذلك رحمه باب: (من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما)
وقول الله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} الآيات.
سؤال: هذا أيضاً يسأل، يقول: ما حكم من يضع آية الكرسي في السيارة، أو يضع مجسماً فيه أدعية، أدعية ركوب السيارة، وأدعية السفر، وغيرها من الأدعية؟
جواب: نقول: هذا فيه تفصيل:
- فإن كان وضع هذه الأشياء ليتحفظها ويتذكر قراءتها؛ فهذا جائز، كمن يضع المصحف أمام السيارة، أو يضعه معه؛ لأجل أنه إذا صارت عنده فرصة هو، أو من معه، أن يقرأ فيه؛ فهذا جائز لا بأس به.
- لكن إن وضعها تعلقاً؛ لأجل أن تدفع عنه، فهذا هو الكلام في مسألة تعليق التمائم من القرآن؛ فلا يجوز ذلك على الصحيح، ويحرم.
سؤال: السؤال الأول: فضيلة الشيخ -حفظه الله تعالى- من يوصي أحداً بالبحث عن راقٍ يرقي له دون أن يطلب الرقية من الراقي بنفسه، هل هذا يدخل من الذين يسترقون ؟
جواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، قال:
((هم الذين لا يسترقون)) يعني: لا يطلبون الرقية، وفهم جواب السؤال يتبع فهم التعليل؛ ذلك أن أولئك كانوا لا يسترقون، يعني: لا يطلبون الرقية؛ لأجل ما قام في قلوبهم من الاستغناء بالله، وعدم الحاجة إلى الخلق، ولم تتعلق قلوبهم بالخلق في هذا الأمر الذي سيرفع ما بهم.
وكما ذكرت لك، أن مدار العلة على تعلق القلب بالراقي، أو بالرقية في رفع ما بالمرقي من أذى، أو في دفع ما قد يُتَوقَّع من السوء، وعليه: فيكون الحالان سواءً، يعني: إن كان طلب بنفسه، أو طلب بغيره؛ فإنه طالبٌ، والقلب متعلق بمن طلب منه الرقية:
- أو بواسطة.