26 Oct 2008
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بابُ مِنَ الشِّرْكِ لُبْسُ الْحَلْقَةِ وَالْخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِرَفْعِ الْبَلاَءِ أَوْ دَفْعِهِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أوْ أرَادَنِي بِرَحمَةٍ هلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيهِ يَتوكَّلُ المُتَوكِّلُونَ} [الزُّمَر:38].
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ، فَقَالَ: ((مَا هَذِهِ؟)). قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ. فَقَالَ: ((انْزِعْهَا؛ فَإِنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، فَإِنَّكَ لَوْ مُتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ لاَ بَأْسَ بِهِ. وَلَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَنْ تَعَلَّق تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)). وَلاِبْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى، فَقَطَعَهُ وَتَلاَ قَوْلَهُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون} [يوسف:106]. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: التَّغْلِيظُ فِي لُبْسِ الْحَلْقَةِ وَالْخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِمِثْلِ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَوْ مَاتَ وَهِيَ عَلَيْهِ مَا أَفْلَحَ، فِيهِ شَاهِدٌ لِكَلاَمِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ مِنَ الْكَبَائِرِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُعْذَرْ بِالْجَهَالَةِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهَا لاَ تَنْفَعُ فِي الْعَاجِلَةِ، بَلْ تَضُرُّ لِقَوْلِهِ: ((لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا)). الْخَامِسَةُ: الإِنْكَارُ بِالتَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. السَّادِسَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ. السَّابِعَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ. الثَّامِنَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْخَيْطِ مِنَ الْحُمَّى مِنْ ذَلِكَ. التَّاسِعَةُ: تِلاَوَةُ حُذَيْفَةَالآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ يَسْتَدِلُّونَ بِالآيَاتِ الَّتِي فِي الأَكْبَرِ عَلَى الأَصْغَرِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. الْعَاشِرَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْوَدَعِ عَنِ الْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً أَنَّ اللهَ لاَ يُتِمُّ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ، أَيْ: لاَ تَرَكَ اللهُ لَهُ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)رفعُ البلاءِ: إزالتُهُ بعدَ حُصولِهِ.
ودَفْعُهُ: مَنْعُهُ قبلَهُ.ومن هنا ابْتَدَأَ المُصَنِّفُ في تفسيرِ التَّوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، بذِكْرِ شيءٍ مِمَّا يُضَادُّ ذلك من أنواعِ الشِّركِ الأكبرِ والأصغرِ، فإنَّ الضِّدَّ لا يُعْرَفُ إلاَّ بِضِدِّهِ.كمَا قيلَ:وبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشياءُ.فمَنْ لا يَعْرِفُ الشِّركَ لم يَعْرِف التَّوحيدَ، وبالعَكْسِ، فبَدَأَ بالأصغرِ الاعْتِقادِيِّ انْتِقالاً من الأَدْنَى إلى الأَعْلَى، فقالَ:
(2)(وَقَوْلُ اللهِ تَعَالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}) [الزمر:38].
قالَ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيرِهَا: (أي: لا تَسْتَطِيعُ شيئًا مِن الأَمْرِ). {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ}أيْ: اللهُ كافٍ مَن تَوَكَّلَ عليهِ، {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
كمَا قالَ هُودٌ عليهِ السَّلامُ حينَ قالَ له قومُهُ: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}[هُود:54-56].
قُلْتُ: حاصِلُهُ أنَّ اللهَ تَعالى أَمَرَ نبيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَقولَ للمشركينَ: أَرَأَيْتُمْ، أيْ: أَخْبِرُوني عَمَّا تَدْعُونَ من دونِ اللهِ، أي: تَعْبُدُونَهُم وتَسْأَلُونَهُم من الأَنْدادِ والأصنامِ والآلِهةِ المُسَمَّياتِ بأسماءِ الإناثِ الدَّالَّةِ أسماؤُهُنَّ عَلَى بُطْلانِهِنَّ وعَجْزِهِنَّ؛ لأنَّ الأُنوثةَ مِن بابِ اللِّينِ والرَّخاوةِ، كاللاَّتِ والعُزَّى. {إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ}أي: بِمَرَضٍ أو فَقْرٍ أو بَلاءٍ أو شِدَّةٍ.
{هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}أي: لا يَقْدِرُونَ عَلَى ذلك أصلاً. {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}أي: صِحَّةٍ، وعافيةٍ، وخيرٍ، وكَشْفِ بَلاءٍ. {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} قالَ مقاتلٌ: (فَسَألهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسَكَتُوا) أي: لأنَّهُم لا يَعْتَقِدُونَ ذلك فيها، وإنَّما كانُوا يَدْعُونَها عَلَى معنى أنَّهَا وَسائطُ وشُفَعاءُ عندَ اللهِ، لا لأنَّهُم يَكْشِفُونَ الضُّرَّ ويُجِيبُونَ دُعاءَ المُضْطَرِّ، فهم يَعْلَمُونَ أنَّ ذلك للهِ وحدَهُ، كمَا قالَ تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:53،54].وقد دَخَلَ في ذلك كلُّ مَن دُعِيَ من دونِ اللهِ؛ مِن الملائكةِ والأنبياءِ والصَّالِحِينَ، فَضْلاً عن غَيْرِهِم، فلا يَقْدِرُ أحدٌ عَلَى كَشْفِ ضُرٍّ، ولا إِمْساكِ رحمةٍ، كمَا قالَ تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر:2]. وإذا كانَ كذلِكَ بَطَلَتْ عِبادتُهُم مِن دونِ اللهِ، وإذا بَطَلَتْ عِبادتُهم فبُطْلانُ دَعْوَةِ الآلهةِ والأصنامِ أَبْطَلُ وأَبْطَلُ، ولُبْسُ الحَلْقَةِ والخَيْطِ لرَفْعِ البَلاءِ، أو دَفْعِهِ كذلِكَ.
فهذا وجهُ اسْتِدْلالِ المُصَنِّفِ بالآيةِ، وإن كانَت التَّرجمةُ في الشِّركِ الأصغرِ، فإنَّ السَّلَفَ يَسْتَدِلُّونَ بما نزَلَ في الأكبرِ عَلَى الأصغرِ، كمَا اسْتَدَلَّ حُذَيْفَةُ وابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهُمَا، وكذلِكَ مَنْ جَعلَ رُؤوسَ الحُمُرِ ونحوَهَا في البيتِ والزَّرعِ لِدَفْعِ العَيْنِ، كمَا يَفْعَلُهُ أَشْباهُ المشركينَ، فإنَّهُ يَدْخُلُ في ذلك، وقد يَحْتَجُّونَ عَلَى ذلك بما رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ في (المَرَاسِيلِ) عن عليِّ بنِ الحُسَيْنِ مَرْفوعًا: ((احْرُثُوا فَإِنَّ الحَرْثَ مُبَارَكٌ، وَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الجَمَاجِمِ)).
وعنه أَجْوِبةٌ:
أحدُهَا:أنَّهُ حديثٌ ساقِطٌ مُرْسَلٌ،وأبو داودَ لم يَشْتَرِطْ في مَراسِيلِهِ جَمْعَ المَرَاسِيلِ الصَّحيحةِ الإسنادِ، وقد ضَعَّفَهُ السُّيوطيُّ وغيرُهُ.
الثَّانِي: أنَّهُ اخْتُلِفَ في تفسيرِ الجَماجِمِ.
فقِيلَ: هي البِذْرُ. ذَكَرَهُ العَزِيزِيُّ في (شَرْحِ الجَامِعِ). وقِيلَ: الخَشَبةُ الَّتي يَكونُ في رَأْسِهَا سِكَّةُ الحَرْثِ. قالَه أَبُو السَّعاداتِ ابنُ الأَثِيرِ في (النِّهايةِ). وقيلَ: هي جَماجِمُ رُؤوسِ الحيوانِ. ذَكَرَهُ العَزِيزِيُّ وغيرُهُ. وعلى هذا فَقِيلَ: أَمَرَ بِجَعْلِهَا لدَفْعِ الطَّيرِ.ذَكَرَهُ العَزِيزِيُّ وغيرُهُ، وهذا هو الأَقْرَبُ لو ثَبَتَ الحديثُ مع أنَّهُ باطلٌ.وقيلَ: بل لدَفْعِ العينِ،وفيه حديثٌ ساقطٌ، أنَّهُ أَمَرَ بالجَماجمِ في الزَّرعِ مِن أجلِ العينِ، وهو مع ذلك مُنْقَطِعٌ، ذَكَرَهُ السُّيوطيُّ وغيرُهُ.وهذا المعنى هو الَّذي تَعَلَّقَ بهِ أَشْباهُ المشركينَ،ولا رَيْبَ أنَّهُ مَعْنًى باطلٌ، لم يُرِدْهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كانَ الحديثُ صَحِيحًا، وكيف يُرِيدُهُ وقد أَمَرَ بقَطْعِ الأوتارِ، كمَا في (الصَّحيحِ).
- وقالَ: ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)).
-وقالَ: ((مَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فَلا وَدَعَ اللهُ لَهُ)).
وكانُوا يَجْعَلُونَ ذلك مِن أجلِ العينِ، كمَا سيَأْتِي، فهَلاَّ أُرْخِصَ لهم فيه؟!
الثَّالثُ:أنَّ هذا مُضادٌّ لدينِ الإسلامِ الَّذي بَعَثَ اللهُ بهِ رُسلَهُ،فإنَّهُ تعالى إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسلَ وأَنْزَلَ الكتبَ لِيُعْبَدَ وحدَهُ، ولا يُشْرَكَ بهِ شيءٌ، لا في العِبادةِ، ولا في الاعتقادِ، وهذا مِن جِنْسِ فِعْلِ الجاهِلِيَّةِ الَّذينَ يَعْتَقِدُونَ البَرَكَةَ والنَّفْعَ والضُّرَّ فيما لم يَجْعَل اللهُ فيهِ شيئًا مِن ذلك، ويُعَلِّقُونَ التَّمائمَ والوَدْعَ ونحوَهُما عَلَى أنفسِهِم لِدَفْعِ الأمراضِ والعينِ فيما زَعَمُوا.فإنْ قِيلَ:الفاعلُ لِذلك لم يَعْتَقِد النَّفْعَ فيه اسْتِقْلالاً،فإنَّ ذلك للهِ وحدَهُ، فهو النَّافعُ الضَّارُّ، وإنَّما اعْتَقَدَ أنَّ اللهَ جَعَلَهُ سببًا كغيرِهِ مِن الأسبابِ.قِيلَ:هذا باطلٌ أيضًا، فإنَّ اللهَ لم يَجْعَلْ ذلكَ سببًا أصلاً،وكيفَ يَكونُ الشِّرْكُ سَبَبًا لجَلْبِ الخيرِ ولدفعِ الضُّرِّ، ولو قُدِّرَ أنَّ فيهِ بعضَ النَّفْعِ، فهو كالخَمْرِ والمَيْسِرِ فيهمَا إثمٌ كبيرٌ ومَنافعُ للنَّاسِ، وإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا.فإنْ قِيلَ: كيفَ يَكونُ شِرْكًا وقد رَوَى أَبُو داوُدَ ذلك في مَراسِيلِهِ، وغيرُهُ مِن العلماءِ يَرْوُونَ الحديثَ ولم يُنْكِروهُ.قِيلَ: أَهْلُ العلمِ يَرْوُونَ الأحاديثَ الضَّعيفةَ، والمَوْضُوعةَ؛لِبَيانِ حالِهَا وإسنادِهَا، لا للاعْتِمادِ عليها واعتقادِهَا، وكُتُبُ المُحَدِّثِينَ مَشْحُونةٌ بذلك، فبعضُهُم يَذْكُرُ عِلَّةَ الحديثِ، ويُبَيِّنُ حالَهُ وضَعْفَهُ إن كانَ ضعيفًا، ووَضْعَهُ إن كانَ موضوعًا.وبعضُهُم يَكْتَفِي بإيرادِ الحديثِ بإسنادِهِ، وَيرَى أنَّهُ قد بَرِئَ عن عُهْدَتِهِ إذا أَوْرَدَهُ بإسنادِهِ لظهورِ حالِ رُواتِهِ، كمَا يَفْعَلُ ذلك الحافِظُ أبو نُعَيمٍ، وأبو القَاسِمِ بنُ عَسَاكرَ وغيرُهُما، فليسَ في رِوايةِ مَنْ رَواهُ، وسُكوتُهُ عنه دليلٌ عَلَى أنَّهُ عندَهُ صحيحٌ أو حَسَنٌ أو ضَعِيفٌ، بلْ قد يَكونُ موضوعًا عندَهُ، فلا يَدُلُّ سُكوتُهُ عنه عَلَى جَوازِ العملِ بهِ عندَهُ، وسيَأْتِي في الكلامِ عَلَى حديثِ قَطْعِ الأَوْتارِ ما يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عن هذا مِن كلامِ العلماءِ.
(3)هذا الحديثُ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ بمعنَاهُ، أمَّا لفظُهُ فقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ الوَلِيدِ، ثَنَا المُبَارَكُ عن الحَسَنِ قالَ: أَخْبَرَني عِمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ: (أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً قَالَ: أُرَاهُ قَالَ: مِنْ صُفْرٍ. فَقَالَ: ((وَيْحَكَ مَا هَذِهِ؟)).قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ.قَالَ: ((أَمَا إنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، انْبِذْها عَنْكَ، فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)). ورَوَاهُ ابنُ ماجَه دونَ قولِهِ: ((انْبِذْهَا))إلى آخِرِهِ، وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ)، وقالَ: ((فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ وُكِلْتَ إِلَيْهَا)). والحاكمُ وقالَ: (صحيحُ الإسنادِ) وأَقَرَّهُ الذَّهَبيُّ. قالَ المُنْذِرِيُّ: (رَوَوْهُ كُلُّهُم عن مُبارَكِ بنِ فَضَالَةَعن الحَسَنِ عن عِمْرانَ). ورَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ أيضًا بنحوِهِ عن أَبِي عَامِرٍ الخَزَّازِ، عن الحَسَنِ، وهذه مُتابَعةٌ جيِّدَةٌ، إلاَّ أنَّ الحَسَنَ اخْتُلِفَ في سَماعِهِ من عِمرانَ.
-قالَ ابنُ المَدِينِيِّ وغيرُهُ: (لم يَسْمَعْ منه).
-وقالَ الحاكمُ: (وأَكْثَرُ مَشايِخِنَا عَلَى أنَّهُ سَمِعَ منهُ).
قُلْتُ: رِوايةُ الإمامِ أحمدَ ظاهرةٌ في سماعِهِ منه، وهو الصَّوابُ.قولُهُ: (عن عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ) أي: ابنِ عُبَيْدِ بنِ خَلَفٍ الخُزَاعِيِّ أَبُو نُجَيْدٍ -بنونٍ وجيمٍ، مُصغَّرًا- صَحابيٌّ ابنُ صَحابيٍّ. أَسْلَمَ عامَ خَيْبَرَ، وماتَ سنةَ اثنتينِ وخمسينَ بالبَصْرَةِ.
قولُهُ: (رَأَى رَجُلاً) في رِوايةِ الحاكمِ: ذ(دَخَلْتُ عَلَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عَضُدِي حَلْقَةُ صُفْرٍ.فَقالَ: ((مَا هَذِهِ؟)).قُلْتُ: مِنَ الوَاهِنَةِ.فَقَالَ: ((انْبِذْهَا))). فالمُبْهَمُ في رِوايةِ أحمدَ ومَنْ وافَقَهُ هو عِمْرانُ رَاوِي الحديثِ.قولُهُ: (فَقَالَ:((مَا هَذَا؟))) يَحْتَمِلُ أنَّ الاستفهامَ للاسْتِفْصالِ: هل لَبِسَهَا تَحَلِّيًا أم لا؟ ويَحْتَمِلُ أن يكونَ للإنكارِ، فظَنَّ اللاَّبِسُ أنَّهُ اسْتَفْصَلَ.قولُهُ: (من الواهنةِ) قالَ أبو السَّعاداتِ: (الوَاهِنَةُ: عِرْقٌ يَأْخُذُ في المَنْكِبِ وفي اليَدِ كُلِّها، فيُرْقَى منها).وقيلَ:هو مَرَضٌ يَأْخُذُ في العَضُدِ، وربَّما عُلِّقَ عليها جِنْسٌ من الخَرَزِ يُقالُ لَهُ: خَرَزُ الواهنةِ، وهي تَأْخُذُ الرِّجالَ دونَ النِّساءِ. قالَ: (وإنَّما نَهَاهُ عنها؛ لأنَّهُ اتَّخَذَهَا عَلَى مَعْنى أنَّهَا تَعْصِمُهُ من الأَلَمِ، فكانَ عندَهُ في مَعْنَى التَّمائِمِ المَنْهِيِّ عنه).قُلْتُ: وفيه اسْتِفْصالُ المُفْتِي واعْتِبارُ المَقاصِدِ.قولُهُ: (انْزِعْهَا فإنَّهَا لا تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا) لفظُ الحديثِ: ((انْبِذْهَا)) وهو أَبْلَغُ، أي: اطْرَحْهَا. والنَّزْعُ هو الجَذْبُ بِقُوَّةٍ، والنَّبْذُ يَتَضَمَّنُ ذلك وزِيادةً، وهو الطَّرْحُ والإبعادُ، أَمَرَهُ بِطَرْحِهَا عنه، وأَخْبَرَ أنَّهَا لا تَنْفَعُهُ بل تَضُرُّهُ، فلا تَزِيدُهُ إلاَّ وَهْنًا، أي: ضَعْفًا.
وكذلِكَ كلُّ أَمْرٍ نُهِيَ عنه فإنَّهُ لا يَنْفَعُ غالبًا أصلاً،وإن نَفَعَ بعضُهُ، فضَرُّهُ أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِ، وفيه النَّهْيُ عن تَعْلِيقِ الحِلَقِ والخَرَزِ ونحوهِمَا عَلَى المريضِ أو غيرِهِ، والتَّنْبيهُ عَلَى النَّهْيِ عن التَّداوِي بالحرامِ.ورَوَى أَبُو داودَ بإسنادٍ حَسَنٍ والبَيْهَقِيُّ عن أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفوعًا في حديثِ: ((تَدَاوَوْا، وَلا تَدَاوَوْا بِحَرامٍ)).فإنْ قِيلَ: كيف قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا)) وهي ليسَ لها تَأْثِيرٌ؟
قِيلَ: هذا -واللهُ أَعْلَمُ- يكونُ عُقوبةً له عَلَى شِرْكِهِ؛ لأنَّهُ وَضَعَهَا لدَفْعِ الواهنةِ، فعُوقِبَ بنَقِيضِ مَقْصُودِهِ.
قولُهُ: (فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا) أَي: لأنَّهُ مُشْرِكٌ والحالةُ هذه، والفلاحُ هو الفوزُ والظَّفَرُ والسَّعادةُ.
قالَ المُصَنِّفُ:فيه:شاهدٌ لكلامِ الصَّحابةِ أنَّ الشِّركَ الأصغرَ أكبرُ الكبائرِ، وأنَّهُ لم يُعْذَرْ بِالجَهالةِ، والإنكارُ بالتَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ فَعَلَ مثلَ ذلك.
قُلْتُ:وفيه: أنَّ الصَّحابيَّ لو ماتَ وهي عليهِ ما أَفْلَحَ أبدًا.ففيه: رَدٌّ عَلَى المَغْرُورِينَ الَّذينَ يَفْتَخِرُونَ بكَوْنِهم مِن ذُرِّيَّةِ الصَّالِحِينَ، أو مِن أَصْحابِهِم، ويَظُنُّونَ أنَّهُم يَشْفَعُونَ لَهُمْ عندَ اللهِ، وإن فَعَلُوا المَعاصِيَ. وفيه:أنَّ رُتَبَ الإنكارِ مُتَفاوِتةٌ،فإذا كَفَى الكلامُ في إِزالَةِ المُنْكَرِ لم يُحْتَجْ إلى ضَرْبٍ ونحوِهِ.
وفيهِ:أنَّ المُسْلِمَ إذا فَعَلَ ذَنْبًا وأُنْكِرَ عليه فَتَابَ منه فإنَّ ذلك لا يُنْقِصُهُ، وأنَّهُ ليسَ مِن شرطِ أولياءِ اللهِ عَدَمُ الذُّنوبِ.
قولُهُ: (رَوَاهُ أحمدُ بسَنَدٍ لا بَأْسَ بِهِ) هو الإمامُ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلِ بنِ هِلالِ بنِ أَسَدٍ الشَّيْبانِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللهِ المَرْوَزِيُّ، ثُمَّ البَغْدَادِيُّ؛ إمامُ أهلِ عَصْرِهِ، وأَعْلَمُهُم بالفِقْهِ والحديثِ، وأَشَدُّهُم وَرَعًا ومُتابَعةً للسُّنَّةِ.
رَوَى عن الشَّافِعيِّ، ويَزِيدَ بنِ هارُونَ، وابنِ مَهْدِيٍّ، ويَحْيَى القَطَّانِ، وابنِ عُيَيْنَةَ، وعَفَّانَ، وخَلَفٍ، ورَوَى عنه ابْنَاهُ عبدُ اللهِ، وصالِحٌ، والبُخَارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وأَبُو داودَ، وأَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ والمَرْوَزِيُّ، وخَلْقٌ لا يُحْصَوْنَ، ماتَ سنةَ إحدى وأربعينَ ومائتَيْنِ وله سبعٌ وسبعونَ سنةً.
(4)الحديثُ الأوَّلُ رَوَاهُ أحمدُ كما قالَ المُصَنِّفُ، ورَوَاهُ أَيْضًا أبو يَعْلَى، والحاكِمُ وقالَ: (صحيحُ الإسنادِ) وأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ.وقولُهُ: (وفي رِوايةٍ) هذا يُوْهِمُ أنَّ هذا في بعضِ الأحاديثِ المَذْكُورةِ، وليسَ كذلِكَ، بل المُرادُ أنَّهُ في حديثٍ آخَرَ رَوَاهُ أحمدُ أيضًا، فقالَ: حدَّثَنا عبدُ الصَّمدِ بنُ عبدِ الوَارِثِ، ثنا عبدُ العَزِيزِ بنُ مُسْلِمٍ، ثنا يَزِيدُ بنُ أَبِي مَنْصُورٍ، عن دُخَيْنٍ الحَجَرِيِّ، عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَايَعْتَ تِسْعَةً وَأَمْسَكْتَ عَنْ هَذَا؟
قَالَ: ((إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً)).فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا، فَبَايَعَهُ وَقالَ: ((مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)) ورَوَاهُ الحاكِمُ بنحوِهِ، ورُواتُهُ ثِقاتٌ.
وقولُهُ في هذا الحديثِ: (فَأَدْخَلَ يَدَهُ فقَطَعَها) أي: الرَّجلُ، بَيَّنهُ الحاكمُ في رِوايتِهِ.قولُهُ: (عن عُقْبَةَ بنِ عامرٍ) هو الجُهَنِيُّ، صَحابيٌّ مَشْهورٌ، وكانَ فَقِيهًا فاضلاً، وَلِيَ إمارةَ مِصرَ لمُعاوِيةَ ثلاثَ سنينَ وماتَ قريبًا مِن السِّتيِّنَ.قولُهُ: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً) أي: مُتَمَسِّكًا بِهَا عليهِ وعلى غيرِهِ من طِفْلٍ، أو دابَّةٍ، ونحوِ ذلك. قالَ المُنْذِرِيُّ: (يُقَالُ: إنَّهَا خَرَزةٌ كانوا يُعَلِّقُونَهَا يَرَوْنَ أنَّهَا تَدْفَعُ عنهمُ الآفاتِ).
واعتقادُ هذا الرَّأْيِ جَهْلٌ وضَلالةٌ؛ إذ لا مانِعَ ولا دافِعَ غيرُ اللهِ تعالى.
-وقالَ أبو السَّعاداتِ: (التَّمائِمُ جَمْعُ تَمِيمةٍ، وهي خَرَزاتٌ كانَت العربُ تُعَلِّقُهَا عَلَى أولادِهِم، يَتَّقُونَ بها العَيْنَ في زَعْمِهِم، فأَبْطَلَهُ الإسلامُ).
- قالَ: (كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّهَا تمائمُ الدَّواءِ والشِّفاءِ).قولُهُ: (فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ) دُعاءٌ عليه بأنَّ اللهَ لا يُتِمُّ له أمورَهُ.قولُهُ: (وَمَنْ تَعَلَّق وَدْعَةً) بفتحِ الواوِ وسكونِ المهملةِ.قالَ في (مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ): (شيءٌ يَخْرُجُ مِن البحرِ يُشْبِهُ الصَّدَفَ، يتَّقونَ بِهِ العَيْنَ).قولُهُ: (فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ) بتَخْفِيفِ الدَّالِ، أي: لا جَعَلهُ في دَعَةٍ وسُكونٍ، وقِيلَ: هو لفظٌ بُنِيَ من الوَدْعَةِ، أي: لا خَفَّفَ اللهُ عنه ما يَخَافُهُ، قالَهُ أبو السَّعاداتِ.وهذا دُعاءٌ عليه، فيه وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذلك، فإنَّهُ مع كَوْنِهِ شِرْكًا، فقدْ دعَا عليهِ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنَقِيضِ مَقْصُودِهِ.قولُهُ: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ) قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: (إذا اعْتَقَدَ الَّذي عَلَّقَها أنَّهَا تَرُدُّ العينَ، فقد ظَنَّ أنَّهَا تَرُدُّ القَدَرَ، واعْتِقادُ ذلك شِرْكٌ).
-وقالَ أَبُو السَّعاداتِ: (إنَّمَا جَعَلَهَا شِرْكًا؛ لأنَّهُم أَرَادُوا دَفْعَ المَقادِيرِ المَكْتوبةِ عليهم، وطَلَبُوا دَفْعَ الأَذَى مِن غيرِ اللهِ الَّذي هو دافِعُهُ).
(5)هذا الأَثَرُ رَوَاهُ ابنُ أَبِي حاتمٍ كمَا قالَ المصنِّفُ.ولفظُهُ: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ إِبْراهِيمَ بنِ إِشْكابَ، ثنا يُونُسُ بنُ محمَّدٍ، ثنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عن عاصِمِ بنِ أَبِي النَّجُودِ، عن عُرْوَةَ قالَ: دَخَلَ حُذَيْفَةُ عَلَى مَرِيضٍ، فرَأَى في عَضُدِهِ سَيْرًا فقَطَعَهُ أو انْتَزَعَه ثُمَّ قالَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}.وابنُ أَبِي حاتمٍ: هو الإِمامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحمنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدِ بنِ إِدْرِيسَ، الرَّازِيُّ التَّمِيمِيُّ الحَنْظَلِيُّ، الحافِظُ ابنُ الحافِظِ، صاحِبُ (الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ) و(التَّفْسِيرِ) وغيرِهِما. ماتَ سنةَ سبعٍ وعشرينَ وثلاثِمائةٍ.وحُذَيْفةُ: هو ابنُ اليَمَانِ، واسمُ اليَمَانِ حُسَيلٌ بمهملتينِ مُصَغَّرًا، ويُقَالُ: حِسْلٌ.بكسرٍ ثُمَّ سُكونٍ، العَبْسِيُّ بالمُوَحَّدةِ، حَلِيفُ الأَنْصارِ، صَحابِيٌّ جَلِيلٌ مِن السَّابِقِينَ، ويُقَالُ: صاحِبُ السِّرِّ. وأَبُوه أيضًا صَحابيٌّ، ماتَ حُذَيْفةُ في أوَّلِ خِلافةِ عليٍّ سنةَ ستٍّ وثلاثينَ.قولُهُ: (رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ خَيْطٌ مِن الحُمَّى) أي: من أَجْلِ الحُمَّى لدَفْعِهَا، وكانَ الجُهَّالُ يُعَلِّقُونَ لذلك التَّمائمَ والخيوطَ ونحوَهَا. ورَوَى وَكِيعٌ عن حُذَيْفةَ: أنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ، فلَمَسَ عَضُدَهُ فإذا فيه خَيْطٌ، فَقالَ: (ما هَذَا؟) فَقَالَ: شَيْءٌ رُقِيَ لِي فِيهِ، فقَطَعَهُ، فَقَالَ: (لو مِتَّ وهو عَلَيْكَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْكَ).قولُهُ: (فقَطَعَهُ) فيه: إِنْكارُ هذا، وإنْ كانَ يُعْتَقَدُ أنَّهُ سببٌ، فإنَّ الأسبابَ لا يَجُوزُ منها إلاَّ ما أَباحَهُ اللهُ ورَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع عَدَمِ الاعتمادِ عليهِ، فكيفَ بما هو شِرْكٌ كالتَّمائمِ والخيوطِ والخَرَزِ والطَّلاسِمِ، ونحوِ ذلك ممَّا يُعَلِّقُهُ الجُهَّالُ؟
وفيه: إِزَالةُ المُنْكَرِ باليَدِ بغيرِ إِذْنِ الفاعِلِ،وإنْ كانَ يُظَنُّ أنَّ الفاعِلَ يُزِيلُهُ، وأنَّ إِتْلافَ آلاتِ المُنْكَرِ واللَّهْوِ جائزةٌ، وإن لم يَأْذَنْ صاحِبُهَا.قولُهُ: (وَتَلا قولَهُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}[يُوسُف:106]) اسْتَدَلَّ حُذَيْفةُ بهذهِ الآيةِ عَلَى أنَّ تَعْلِيقَ الخَيْطِ ونحوِهِ لِمَا ذُكِرَ شِرْكٌ، أي: أَصْغَرُ، كَمَا تَقَدَّمَ في الحديثِ.ففيه: صِحَّةُ الاسْتِدْلالِ بما نَزَلَ في الأكبرِ عَلَى الأصغرِ.ومعنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ أَخْبَرَ عن المُشْرِكِينَ أنَّهُم يَجْمَعُونَ بينَ الإيمانِ باللهِ، أي: بوجودِهِ، وأنَّهُ الخالقُ الرَّزَّاقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، ثُمَّ مع ذلكَ يُشْرِكُونَ في عِبادتِهِ، فَسَّرَهَا بذلك ابنُ عَبَّاسٍ وعَطَاءٌ ومُجَاهِدٌ والضَّحَّاكُ وابنُ زيدٍ وغيرُهُم.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (بابٌ مِنَ الشِّركِ لُبْسُ الحلْقَةِ والخيْطِ ونَحْوِهِما لِرَفْعِ البلاءِ أو دَفْعِهِ) رَفْعُهُ: إِزَالَتُه بعدَ نُزُولِهِ، ودَفْعُهُ: مَنْعُهُ قَبْلَ نُزُولِهِ.قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وقولِ اللهِ تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ})[الزُّمَر:38].
- قالَ ابنُ كَثِيرٍ: (أي لا تَسْتَطِيعُ شَيْئًا من الأَمْرِ){قُلْ حَسْبِيَ اللهُ}أي: اللهُ كَافٍ مَن تَوَكَّلَ عليه. {عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}كَمَا قَالَ هُودٌ عليه السلامُ حينَ قالَ له قَوْمُهُ: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[هُود:54-56]قالَ مُقَاتِلٌ في مَعْنَى الآيَةِ: (فَسَأَلَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسَكَتوا)أي: لأَنَّهُم لا يَعْتَقِدُون ذلك فيها.وإنَّما كَانُوا يَدْعُونَها على مَعْنَى أَنَّها وَسَائِطُ وشُفَعَاءُ عندَ اللهِ، لا أَنَّهُم يَكْشِفُون الضُّرَّ، ويُجِيبُون دَعَاءَ المُضْطَرِّ، فهم يَعْلَمُون أنَّ ذلك للهِ وحدَه، كما قالَ تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:53،54]).قُلْتُ: فهذه الآيةُ وأَمْثَالُها تُبْطِلُ تَعَلُّقَ القَلْبِ بغيرِ اللهِ في جَلْبِ نَفْعٍ أو دَفْعِ ضُرٍّ، وأنَّ ذلك شِرْكٌ باللهِ.وفي الآيَةِ بيانُ أنَّ اللهَ تعالى وَسَمَ أَهْلَ الشِّرْكِ بِدَعْوَةِ غيرِ اللهِ والرَّغْبَةِ إليه مِن دُونِ اللهِ. والتَّوْحِيدُ ضِدُّ ذلك، وهو أن لا يَدْعُوَ إِلا اللهَ، ولا يَرْغَبَ إلا إِلَيه، ولا يَتَوَكَّلَ إلا عليه، وكذا جميعُ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ لا يَصْلُحُ مِنها شَيءٌ لِغَيْرِ اللهِ، كَمَا دَلَّ على ذلك الكِتَابُ والسُّنَّةُ وإِجْمَاعُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأَئِمَّتِهَا كمَا تَقَدَّمَ.
(2)قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ، فَقَالَ: ((مَا هَذِهِ؟)) قَالَ: مِنَ الوَاهِنَةِ. فَقَالَ: ((انْزِعْهَا فَإِنَّها لا تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ ما أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) رَواه أَحْمَدُ بِسَنَدٍ لا بَأْسَ بِهِ).قالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا المُبَارَكُ عن الحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً -قَالَ: أُرَاهُ مِنْ صُفْرٍ- فَقَالَ: ((وَيْحَكَ ما هَذِهِ؟)).قالَ: مِنَ الواهِنَةِ. قالَ: ((أَما إِنَّها لا تَزيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا.انْبُذْها عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ ما أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) رَوَاه ابنُ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ) فقالَ: ((فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ وُكِلْتَ إِليْها))والحَاكِمُ، وقالَ: (صَحِيحُ الإِسْنَادِ).وَأَقَرَّه الذَّهَبِيُّ، وقالَ الحَاكِمُ: (أَكْثَرُ مَشَايخِنَا على أنَّالحَسَنَ سَمِعَ مِن عِمْرَانَ). وقولُه في الإِسْنَادِ: (أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ) يَدُلُّ على ذلك.قولُه: (عَن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ) أي: ابنِ عُبَيْدِ بنِ خَلَفٍ الخُزَاعِيِّ؛ أبو نُجَيْدٍ -بنُونٍ وجِيمٍ- مُصَغَّرٌ، صَحَابِيٌّ ابنُ صَحَابِيٍّ، أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، ومَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وخَمْسِينَ بالبَصْرَةِ.قولُه: (رَأَى رَجُلاً) في رِوَايَةِ الحَاكِمِ: (دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عَضُدِي حَلْقَةُ صُفْرٍ، فَقَالَ: ((مَا هَذِهِ؟...)) الحديثَ. فالمُبْهَمُ في رِوَايَةِ أَحْمَدَ هو عِمْرَانُ رَاوِي الحَدِيثِ.قولُه: (مَا هَذِهِ) يَحْتَمِلُ أنَّ الاسْتِفْهَامَ للاسْتِفْسَارِ عن سَبَبِ لُبْسِها، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ للإِنْكَارِ، وهو أَظْهَرُ.قولُه: (مِنَ الوَاهِنَةِ) قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (الوَاهِنَةُ عِرْقٌ يَأْخُذُ من المَنْكِبِ وفي اليَدِ كُلِّهَا، فيُرْقَى مِنْهَا).وقيلَ: هو مَرَضٌ يَأْخُذُ في العَضُدِ، وهي تَأْخُذُ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ، وإنَّما نُهِي عنها؛ لأَنَّهُ إِنَّما اتَّخَذَهَا على أنَّها تَعْصِمُه من الأَلَم.وفيه: اعْتِبَارُ المَقَاصِدِ.قولُه: (انْزِعْها فَإِنَّها لا تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا) النَّزْعُ هُو الجَذْبُ بِقُوَّةٍ، أَخْبَرَ أَنَّها لا تَنْفَعُهُ بل تَضُرُّه وتَزِيدُه ضَعْفًا. وكذلك كُلُّ أَمْرٍ نُهِي عنه فإِنَّه لا يَنْفَعُ غَالِبًا، وإن نَفَعَ بَعْضُه فَضُرُّه أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِ.قولُه:(فإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ ما أَفْلَحْتَ أبَدًا)لأَنَّهُ شِرْكٌ. والفَلاَحُ:هُو الفَوْزُ والظَّفَرُ والسَّعَادَةُ.قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (فيه شَاهِدٌ لكلامِ الصَّحَابَةِ: أنَّ الشِّرْكَ الأَصْغَرَ أَكْبَرُ من الكَبَائِرِ، وأَنَّهُ لم يُعْذَرْ بالجَهَالَةِ. وفيه الإِنْكَارُ بالتَّغْلِيظِ على مَن فَعَلَ مِثْلَ ذلك).قولُه: (رَوَاه أحمدُ بِسَنَدٍ لا بَأْسَ بِهِ) هو الإِمَامُ أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلِ بنِ هِلالِ بنِ أَسَدِ بنِ إِدْرِيسَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ حَيَّانَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَنَسِ بنِ عَوْفِ بنِ قَاسِطِ بنِ مَازِنِ بنِ شَيْبَانَ بنِ ذُهْلِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ عُكَابَةَ بنِ صَعْبِ بنِ عَلِيِّ بنِ بَكْرِ بنِ وَائِلِ بنِ قَاسِطِ بنِ هِنْبِ بنِ أَفْصَى بنِ دُعْمِيِّ بنِ جَدِيلَةَ بنِ أَسَدِ بنِ رَبِيعَةَ بنِ نَزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ، الإِمَامُ العالِمُ أبو عَبْدِ اللهِ الذُّهْلِيُّ ثم الشَّيْبَانِيُّ المَرْوَزِيُّ، ثم البَغْدَادِيُّ، إمامُ أهْلِ عَصْرِهِ وأَعْلَمُهُم بالفِقْهِ والحدِيثِ، وأَشْدُّهُم وَرَعًا ومُتَابَعَةً للسُّنَّةِ، وهو الذي يَقُولُ فيه بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ: (عن الدنيا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ، وبِالمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ، أَتَتْهُ الدُّنيا فَأَبَاهَا، والشُّبَهُ فَنَفَاهَا) خُرِجَ به مِن مَرْوَ وهو حَمْلٌ، فَوُلِدَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وستِّينَ ومِائَةٍ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ. وَطَلَبَ أَحْمَدُ العِلْمَ سَنَةَ وَفَاةِ مَالِكٍ، وهي سَنَةُ تِسْعٍ وسَبْعِين ومِائَةٍ، فسَمِعَ مِن هُشَيمٍ، وجَرِيرِ بنِ عَبْدِ الحَمِيدِ، وسُفْيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، ومُعْتَمِرِ بنِ سُلَيْمَانَ، ويَحْيَى بنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ، ومُحَمَّدِ بنِ إِدْريسَ الشَّافِعِيِّ، ويَزِيدَ بنِ هَارُونَ، وعَبْدِ الرزَّاقِ، وعبدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَهْدِيٍّ، وخلائِقَ بِمَكَّةَ والبَصْرَةِ والكُوفَةِ وبَغْدَادَ واليَمَنِ وغَيْرِها مِن البِلادِ. رَوَى عنه ابْنَاه صَالِحٌ وعَبْدُ اللهِ، والبُخَارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وأَبُو دَاودَ، وإبراهيمُ الحَرْبِيُّ، وأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وأَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، وعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي الدُّنيا، وأَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ،وعُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، وأَبُو القَاسِمِ البَغَوِيُّ، وهو آخِرُ مَن حَدَّثَ عنه، وخلائقُ، وَرَوَى عَنْه مِن شُيوخِهِ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ، والأَسْوَدُ بنُ عَامِرٍ، ومِن أَقْرَانِهِ عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ، ويَحْيَى بنُ مَعِينٍ.
- قالَ البُخَارِيُّ: (مَرِضَ أَحْمَدُ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِن رَبِيعٍ الأَوَّلِ ومَاتَ يَوْمَ الجُمُعَةِ لاثْنَتَي عَشْرَةَ خَلَت مِنْهُ). -وقالَ حَنْبَلٌ: (مَاتَ يَوْمَ الجُمُعَةِ في رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِين ومِائَتَيْنِ، ولَه سَبْعٌ وسَبْعُون سَنَةً). - وقالَ ابْنُه عَبْدُ اللهِ والفَضْلُ بنُ زِيادٍ: (مَاتَ في ثانيَ عَشْرَ رَبِيعٍ الآخِرِ رَحِمَه اللهُ تعالى). (3)قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالَى: (ولَه عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فلا أَتَمَّ اللهُ لَهُ؛ وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فلا وَدَعَ اللهُ لَهُ))وفي رِوَايَةٍ:((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)))الحديثُ الأَوَّلُ: رَوَاه الإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا قَالَ المُصَنِّفُ، ورَوَاه أَبُو يَعْلَى والحَاكِمُ، وقالَ: (صَحِيحُ الإِسْنَادِ) وأَقَرَّه الذَّهَبِيُّ.قولُه: (وفي رِوَايَةٍ) أي: مِن حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاه أَحْمَدُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بنُ عَبْدِ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بنُ أَبِي مَنْصُورٍ، عن دُخَيْنٍ الحَجَرِيِّ، عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ فَبَايَعَ تِسْعَةً، وَأَمْسَكَ عَنْ واحِدٍ، فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَايَعْتَ تِسْعَةً وَأَمْسَكْتَ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ:((إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً))فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا؛ فَبَايَعَهُ وَقَالَ:((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقْد أَشْرَكَ)).وَرَوَاه الحَاكِمُ بِنَحْوِهِ، وَرُوَاتُه ثِقَاتٌ. قولُه: (عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ) صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ فَقِيهٌ فَاضِلٌ، وَلِيَ إِمْرَةَ مِصْرَ لِمُعَاوِيَةَ ثَلاثَ سِنِينَ وَمَاتَ قَرِيبًا مِن السِّتِّينَ.قولُه: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً) أي: عَلَّقَها مُتَعَلِّقًا بها قَلْبُهُ في طَلَبِ خَيْرٍ أو دَفْعِ شَرٍّ، قَالَ المُنْذِرِيُّ: خَرَزَةٌ كانوا يُعَلِّقُونها يَرَوْنَ أَنَّها تَدْفَعُ عَنْهُم الآفاتِ، وهذا جَهْلٌ وضَلاَلَةٌ؛ إذ لا مَانِعَ ولا دَافِعَ غيرُ اللهِ تعالى.وقَال أَبو السَّعَادَاتِ: (التَّمَائِمُ جَمْعُ تَمِيمَةٍ وهي خَرَزَاتٌ كَانَت العَرَبُ تُعَلِّقُها عَلَى أَوْلادِهِم يَتَّقُون بِهَا الْعَيْنَ، في زَعْمِهِم، فَأَبْطَلَه الإِسْلاَمُ).قولُه: (فَلا أَتَمَّ اللهُ لَهُ) دُعَاءٌ عليه.قولُه: (ومَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً) بفَتْحِ الوَاوِ وسُكُونِ المُهْمَلَةِ. قَالَ في (مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ): (الوَدْعُ شَيْءٌ يُخْرَجُ مِن البَحْرِ يُشْبِهُ الصَّدَفَ يَتَّقُونَ بِه العَيْنَ).قولُه: (فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ) بتَخْفِيفِ الدَّالِ؛ أي: لا جَعَلَه في دَعَةٍ وسُكُونٍ.قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (وهذا دُعَاءٌ عَلَيْهِ). قولُه: (وفي رِوَايَةٍ: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أشْرَكَ))) قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (إِنَّمَا جَعَلَهَا شِرْكًا؛ لأَنَّهُم أَرَادُوا دَفْعَ المَقَادِيرِ المَكْتُوبَةِ عليهم، وطَلَبُوا دَفْعَ الأَذَى مِن غَيْرِ اللهِ الذي هو دَافِعُهُ). (4)قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ: (ولابنِ أَبِي حَاتِمٍ عن حُذَيْفَةَ: أنَّهُ رَأَى رَجُلاً في يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى، فَقَطعَهُ، وتَلا قولَه: {ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}[يُوسُف:106].قالَ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ إِبراهيمَ بنِ أَشْكَابٍ، حَدَّثَنا يُونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عن عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عن عُرْوَةَ، قَالَ: دَخَلَ حُذَيْفَةُ على مَرِيضٍ، فَرَأَى في عَضُدِهِ سَيْرًا فَقَطَعَه أو انْتَزَعَه، ثم قالَ: {ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}.وابنُ أبي حَاتِمٍ هو الإِمامُ أَبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرحمنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ، مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ التَّمِيمِيُّ الحَنْظَلِيُّ الحَافِظُ، صَاحِبُ (الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ)، و(التَّفْسِيرِ) وغَيْرِهِمَا، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وعِشرين وثَلاثِمِائَةٍ.وحُذَيْفَةُ هو ابنُ اليَمَانِ، واسْمُ اليَمَانِ: حُسَيْلٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا، ويُقَالُ: حِسْلٌ -بكَسْرٍ ثم سُكُونٍ- العَبْسِيُّ بالموَحَّدَةِ، حَلِيفُ الأَنْصَارِ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مِن السابقين، ويُقالُ له: صَاحِبُ السِّرِّ، وأبوه أَيْضًا صَحَابِيٌّ، مَاتَ حُذَيْفَةُ في أَوَّلِ خِلافَةِ عَلِيٍّ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاثين.قولُه: (رأَى رَجُلاً في يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى) أي: عن الحُمَّى، وكانَ الجُهَّالُ يُعَلِّقُون التَّمَائِمَ والخُيُوطَ ونحوَهما لِدَفْعِ الحُمَّى. ورَوَى وَكِيعٌ عَن حُذَيْفَةَ: (أَنَّهُ دَخَلَ علَى مَريضٍ يَعودُهُ فَلَمَسَ عَضُدَهُ، فإذا فيهِ خَيْطٌ، فقالَ ما هذا؟ قالَ: شَيْءٌ رُقِيَ لِي فيهِ، فقطَعَهُ وقالَ: لَوْ مِتَّ وَهُوَ عَلَيْكَ ما صَلَّيتُ عَلَيْكَ).وفيه: إنْكَارُ مِثْلِ هذا،وإن كانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَبَبٌ؛ فالأسْبَابُ لا يَجُوزُ مِنْها إِلاَّ ما أبَاحَه اللهُ تعالى ورسولُهُ مَعَ عَدَمِ الاعْتِمَادِ عَليْهَا، وأمَّا التَّمَائِمُ والخُيُوطُ والحُرُوزُ والطَّلاَسِمُ ونحوُ ذلك ممَّا يُعَلِّقُه الجُهَّالُ فهو شِرْكٌ يَجِبُ إِنْكَارُه وإِزَالَتُهُ بالْقَوْلِ والفِعْلِ، وإن لم يَأْذَنْ فيه صَاحِبُهُ.قولُه: (وَتَلا قَوْلَه: {ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ})اسْتَدَلَّ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالآيَةِ على أنَّ هذا شِرْكٌ. ففيه: صِحَّةُ الاسْتِدْلاَلِ على الشِّرْكِ الأَصْغَرِ بما أَنْزَلَه اللهُ في الشِّرْكِ الأَكْبَرِ،لِشُمُولِ الآيَةِ ودُخُولِه في مُسَمَّى الشِّرْكِ، وتَقَدَّمَ مَعْنَى هذه الآيَةِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وغيرِه. واللهُ أعْلَمُ. وفي هذه الآثارِ عن الصَّحَابَةِ ما يُبَيِّنُ كَمَالَ عِلْمِهم بالتوحِيدِ ومَا يُنَافِيه أو يُنَافِي كَمَالَه.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)وهذا البابُ يَتَوقَّفُ فَهْمُه على مَعْرفَةِ أحكامِ الأسبابِ.
وتفصيلُ القولِ فيها: أنه يَجِبُ على العبدِ أنْ يَعْرفَ في الأسْبابِ ثلاثةَ أمورٍ: أحدُها: أنْ لاَ يَجْعَلَ منها سببًا إلاَّ ما ثَبَتَ أنه سببٌ شرعًا أو قدَرًا.
ثانيها:أنْ لاَ يَعْتمِدَ العبدُ عليها بلْ يعتمِدُ على مسبِّبِها ومقدِّرِها معَ قِيامِه بالمشروعِ منها وحرْصِه على النافعِ منها. ثالثُها: أنْ يَعْلَمَ أنَّ الأسبابَ مهما عَظُمتْ وقوِيتْ فإنَّها مرتبطةٌ بقضاءِ اللهِ وقدَرِه لا خروجَ لَهَا عنهُ،واللهُ تعالَى يَتَصرَّفُ فيها كَيْفَ يشاءُ؛ إنْ شاءَ أبقَى سببيتَها جاريةً على مُقْتَضَى حِكْمَتِه ليقومَ بِها العبادُ ويعرفُوا بذلك تمامَ حكمتِه، حيثُ ربطَ المسبباتِ بأسبابِها والمعلولاتِ بِعِلَلِهَا، وإنْ شاء غيَّرَها كَيْفَ يشاءُ لِئلاَّ يعتمِدَ عليها العبادُ وليعلَمُوا كمالَ قدرتِه، وأنَّ التصرُّفَ المُطْلقَ والإِرادةَ المطلقةَ للهِ وحدَه، فهذا هو الواجبُ على العبدِ في نَظَرِه وعمَلِه بجميعِ الأسبابِ. إذا عُلِمَ ذَلكَ، فمن لَبِسَ الحَلْقةَ أو الخيطَ، أو نحوَهما قاصدًا بذلك رفعَ البلاءِ بعدَ نزولِه، أو دَفْعَه قبلَ نزولِه فقد أشْرَكَ؛ لأنه إن اعْتَقَدَ أنَّها هي الدَّافِعَةُ الرَّافعةُ فهذا الشرْكُ الأكبرُ، وهو شرْكٌ في الرُّبوبِيَّةِ حيثُ اعْتَقَدَ شَرِيكًا معَ اللهِ في الخَلْقِ والتَّدْبِيرِ، وشِركٌ في العبوديةِ حيثُ تَأَلَّهَ لذلك وعَلَّقَ به قلْبَه طمعًا ورجاءً لنَفْعِه، وإن اعْتَقدَ أنَّ اللهَ هو الدافعُ الرافعُ وحدَه ولكن اعتقدَها سببًا يُسْتَدْفَعُ بها البلاءُ فقدْ جَعَلَ ما لَيْسَ سببًا شرعيًّا ولا قدريًّا سببًا، وهذا مُحَرَّمٌ وكَذِبٌ على الشرْعِ وعَلَى القَدَرِ. أمَّا الشرْعُ:فإنَّه يَنْهَى عن ذلك أشدَّ النَّهْيِ، وما نُهِيَ عنه فَلَيْسَ من الأسبابِ النافِعةِ. وأمَّا القَدَرُ:فَلَيْسَ هذا من الأسبابِ المعْهُودَةِ ولاغَيْرِ المعهودةِ التي يَحْصُلُ بِهَا المَقْصُودُ، ولاَ من الأدْوِيةِ المباحةِ النافعةِ. وكذلك هو من جملةِ وسائلِ الشركِ،فإنه لا بدَّ أنْ يَتَعَلَّقَ قَلْبُ مُتَعَلِّقِها بِها، وذلك نوعُ شركٍ ووسيلةٌ إليه. فإذا كانتْ هذه الأمورُ ليستْ من الأسبابِ الشرعيةِ التي شَرَعَها على لسانِ نبيِّهِ التي يُتَوَسَّلُ بِها إلى رضاءِ اللهِ وثوابِهِ، ولا مِن الأسبابِ القَدَريَّةِ التي قد عُلِمَ أو جُرِّبَ نَفْعُها مثلَ الأدويةِ المباحةِ، كانَ المتعلِّقُ بِها متعلِّقاً قَلْبُه بِها راجياً لنَفْعِها، فيَتَعَيَّنُ عَلَى المؤمنِ تَرْكُها؛ ليَتِمَّ إِيمانُه وتوحيدُه، فإنه لو تَمَّ توحيدُه لم يَتَعلَّقْ قَلْبُه بِمَا ينافِيه، وذلك أيضًا نَقْصٌ في العَقْلِ حيثُ تَعلَّقَ بغَيْرِ مُتَعَلَّقٍ ولا نافعٍ بوجهٍ من الوجوهِ، بلْ هو ضَرَرٌ مَحْضٌ. -والشرْعُ مبناهُ عَلَى تَكْمِيلِ أدْيانِ الخَلْقِ بِنَبْذِ الوثَنِيَّاتِ والتَّعَلُّقِ بالمَخْلُوقِينَ. -وعَلَى تَكْمِيلِ عُقُولِهم بنَبْذِ الخُرَافَاتِ والخُزَعْبلاَتِ، والجِدِّ في الأمورِ النافِعَةِ المرقِّيةِ للعُقُولِ، المُزَكِّيةِ للنُّفُوسِ، المُصْلِحةِ للأحْوالِ كلِّها؛ دِينِيِّها ودُنْيَوِيِّها. واللهُ أعلمُ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)قولُهُ: (مِن الشِّركِ) (مِنْ) هنا للتَّبْعِيضِ، فهذا مِن الشِّركِ، وليسَ كلَّ الشِّركِ.و(الشِّركُ) اسمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الأصْغَرَ والأكبَرَ، ولُبْسُ هذهِ الأشياءِ قدْ يكونُ أصغرَ، وقدْ يكونُ أكبرَ، بِحَسَبِ اعْتِقَادِ لابِسِهَا.وكانَ لُبْسُ هذهِ الأشياءِ مِن الشركِ؛لأنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ سَبَبًا لَم يَجْعَلْهُ اللهُ سَبَبًا شَرْعِيًّا ولا قَدَرِيًّا فَقَدْ أَشْرَكَ باللهِ.فقراءةُ الفاتِحَةِ سَبَبٌ للشِّفَاءِ شَرْعِيٌّ.وأكْلُ المُسَهِّلِ سبَبٌ لانْطِلاقِ البَطْنِ، وهو قَدَرِيٌّ؛ لأنَّهُ يُعْلَمُ بالتَّجَارِبِ.والناسُ في الأسبابِ طرفانِ ووَسَطٌ:
الأوَّلُ: مَنْ يُنْكِرُ الأسبابَ، وهمْ كلُّ مَنْ قالَ بِنَفْيِ حِكْمَةِ اللهِ، كالجبْرِيَّةِ والأَشْعَرِيَّةِ.
الثاني: مَنْ يَغْلُو في إثْباتِ الأسبابِ حتَّى يَجْعَلُوا ما ليسَ بسَبَبٍ سببًا،
وهؤلاءِ هُمْ عامَّةُ الخُرافِيِّينَ مِن الصُّوفِيَّةِ ونحْوِهِمْ. الثالثُ: مَنْ يُؤْمِنُ بالأسبابِ وتأثيرَاتِها،ولكنَّهم لا يُثْبِتُونَ من الأسبابِ إلاَّ ما أَثْبَتَهُ اللهُ سبحانَهُ ورسُولُهُ، سواءٌ كانَ سَببًا شرعيًّا أوْ كونيًّا.ولا شكَّ أنَّ هؤلاءِ هم الذينَ آمَنُوا باللهِ إِيْمَانًا حقيقيًّا، وآمَنُوا بحِكْمَتِهِ، حيثُ رَبَطُوا الأسبابَ بمُسَبَّبَاتِها، والعِلَلَ بِمَعْلُولاتِها، وهذا مِنْ تَمَامِ الحِكْمَةِ.ولُبْسُ الحَلْقَةِ ونحْوِها إن اعْتَقَدَ لابِسُها أنَّها مُؤَثِّرَةٌ بنَفْسِها دونَ اللهِ فهوَ مشرِكٌ شِرْكًا أكبرَ في توحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لأنَّهُ اعْتَقَدَ أنَّ معَ اللهِ خَالِقًا غيرَهُ. وإن اعْتَقَدَ أنَّها سببٌ ولكنَّهُ ليسَ مُؤَثِّرًا بنفسِهِ، فهوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أصْغَرَ؛ لأنَّهُ اعْتَقَدَ أنَّ ما ليسَ بسببٍ سببًا، فقدْ شارَكَ اللهَ تعالى في الحُكْمِ لهذا الشيءِ بأنَّهُ سبَبٌ، واللهُ تعالى لَمْ يَجْعَلْهُ سبَبًا. قال ابن تيميه: (لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم) وطريقُ العلمِ بأنَّ الشيءَ سَبَبٌ: إمَّا عنْ طريقِ الشرعِ: وذلكَ كقراءة القرآن وشرب فيهما شِفاءٌ للناسِ. وإمَّا عنْ طريقِ القَدَرِ: كمَا إذا جَرَّبْنَا هذا الشيءَ فوجَدْنَاهُ نافِعًا في هذا الألمِ أو المرضِ، ولكنْ لا بُدَّ أنْ يكونَ أثرُهُ ظاهِرًا مباشِرًا، كما لو اكْتَوَى بالنارِ فبَرِئَ بذلكَ مثلاً، فَهَذا سَبَبٌ ظاهِرٌ بَيِّنٌ.وإنَّما قُلْنا هذا؛ لِئَلاَّ يقولَ قائِلٌ: (أنا جَرَّبْتُ هذا وانْتَفَعْتُ بِهِ) وهوَ لمْ يكُنْ مُبَاشِرًا كالْحَلْقَةِ، فقدْ يَلْبَسُها إنسانٌ وهوَ يَعْتَقِدُ أنَّها نافِعَةٌ فيَنْتَفِعُ؛ لأنَّ للانْفِعَالِ النَّفْسِيِّ أثرًا بَيِّنًا، فقدْ يَقْرَأُ إنْسَانٌ على مريضٍ فلا يَرْتَاحُ لهُ، ثُم يأْتِي آخَرُ يَعْتَقِدُ أنَّ قراءَتَهُ نافِعَةٌ، فَيَقْرَأُ عليهِ الآيةَ نفْسَها فيَرْتَاحُ لهُ، ويَشْعُرُ بِخِفَّةِ الأَلَمِ، كذلِكَ الذينَ يَلْبَسُونَ الْحِلَقَ ويَرْبِطُونَ الخُيوطَ قدْ يُحِسُّونَ بِخِفَّةِ الألمِ وانْدِفَاعِهِ وارتفاعِهِ، بِنَاءً على اعْتِقَادِهِم نَفْعَهَا.وخِفَّةُ الألمِ لِمَن اعْتَقَدَ نَفْعَ تلكَ الحَلْقَةِ مُجَرَّدُ شُعُورٍ نَفْسِيٍّ، والشعورُ النَّفْسِيُّ ليسَ طَرِيقًا شَرْعِيًّا لإثباتِ الأسبابِ، كمَا أنَّ الإلهامَ ليسَ طَرِيقًا للتشريعِ. (2)قولُهُ: (لُبْسُ الحَلْقَةِ والخيْطِ) الحَلْقةُ: مِنْ حديدٍ، أوْ ذَهَبٍ، أوْ فِضَّةٍ، أوْ ما أشبهَ ذلكَ، والخيطُ: معروفٌ. (3) قولُهُ: (ونَحْوِهِمَا) كالمُرَصَّعاتِ، وكمَنْ يَصْنَعُ شَكْلاً مُعَيَّنًا منْ نُحَاسٍ، أوْ غيرِهِ لدَفْعِ البلاءِ، أوْ يُعَلِّقُ على نفْسِهِ شيئًا مِنْ أجزاءِ الحيواناتِ، والناسُ كانوا يُعَلِّقونَ القِرَبَ الباليَةَ لِدَفْعِ العينِ، حتَّى إذا رآها الشخصُ نَفَرَتْ نفسُه فلا يَعِينُ. (4)قولُهُ: (لِرَفعِ البلاءِ أوْ دَفعِهِ) والفرقُ بيْنَهُما: أنَّ الرَّفعَ بعدَ نزولِ البلاءِ، والدفعَ قَبْلَ نزولِ البلاءِ. (5) قولُهُ: (أَفَرَأَيْتُمْ) أيْ: أخْبِرُوني، وهذا تفسيرٌ باللازمِ؛ لأنَّ مَنْ رأَى أَخْبَرَ، وإلاَّ فَهِيَ اسْتِفْهَامٌ عنْ رُؤْيَةٍ، قالَ تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أيْ: أَخْبِرْني ما حالُ مَنْ كذَّبَ بالدينِ؟ (6) قولُهُ: {تَدْعُونَ} المرادُ بالدعاءِ: دعاءُ العبادةِ، ودعاءُ المسألةِ، فهمْ يَدْعُونَ هذهِ الأصنامَ دعاءَ عِبادةٍ، فيَتَعَبَّدُونَ لها بالنَّذْرِ والذَّبْحِ والرُّكوعِ والسجودِ، ودعاءَ مسْأَلةٍ أيضًا.فاللهُ سبحانَهُ إذا أرادَ بعَبْدِهِ ضُرًّا لا تستطيعُ أنْ تَكْشِفَهُ، وإنْ أرَادَهُ برحمةٍ لا تستطيعُ أنْ تُمْسِكَ الرحمةَ عنهُ، فهِي لا تَكْشِفُ الضُّرَّ، ولا تَمْنَعُ النفْعَ، فَلِمَاذَا تُعْبَدُ؟! (7) قولُهُ: {كاشِفَاتُ} يشْمَلُ الدَّفْعَ والرَّفْعَ، فهيَ لا تَكْشِفُ الضُّرَّ بدَفْعِهِ وإبعادِهِ، ولا تَكْشِفُهُ برفعِهِ وإزالَتِهِ.قولُهُ: {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ} أيْ: كافِينِي، والحَسْبُ الكفايةُ، ومِنهُ قولُهُ تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}، مِن الحَسْبِ، وهُوَ الكفايةُ.قولُهُ: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} قدَّمَ الجارَّ والمجرورَ لإفادةِ الحصْرِ؛ لأنَّ تقديمَ ما حقُّهُ التأخيرُ يُفِيدُ الحصْرَ.
والمعنى:إنَّ المُتَوَكِّلَ حقيقةً هُوَ المُتَوَكِّلُ على اللهِ، أمَّا الذي يَتَوَكَّلُ على الأصنامِ والأولياءِ والأضْرِحَةِ فليسَ بِمُتَوَكِّلٍ.وهذا لا يُنَافي أنْ يُوَكِّلَ الإنسانُ إنسانًا في شيءٍ ويَعْتَمِدَ عليهِ؛لأنَّ هناكَ فَرْقًا بينَ التوكُّلِ على الإنسانِ الذي يفعلُ لكَ شيئًا بأمرِكَ، وبينَ تَوَكُّلِكَ على اللهِ؛ لأنَّ توَكُّلَكَ على اللهِ اعْتِقَادُكَ أنَّ بِيَدِهِ النفعَ والضُّرَّ، وأنَّكَ مُتَذَلِّلٌ مُعْتَمِدٌ عليهِ، مُفْتَقِرٌ إليهِ.والشاهِدُ مِنْ هذهِ الآيةِ: أنَّ هذهِ الأصنامَ لا تنْفَعُ أصحابَها،لا بِجَلْبِ نَفْعٍ ولا بِدَفْعِ ضُرٍّ، فليسَتْ أسبابًا لذلكَ، فيُقاسُ عليها كلُّ ما لَيْسَ بسَبَبٍ شَرْعِيٍّ أوْ قَدَرِيٍّ، فيُعْتَبَرُ اتِّخاذُهُ سببًا إشراكًا باللهِ.وهذا يدلُّ على حِذْقِ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ وقُوَّةِ اسْتِنْباطِهِ، وإلاَّ فالآيةُ بلا شكٍّ في الشِّركِ الأكبرِ، الذي تُعْبَدُ فيهِ الأصنامُ، ولكنَّ القياسَ واضِحٌ جدًّا؛ لأنَّ هذهِ الأصنامَ ليسَت أسْبَابًا تَنْفَعُ، فيُقاسُ عليها كلُّ ما ليسَ بسببٍ،فيُعْتَبَرُ إِشراكًا باللهِ.وهُناكَ شاهِدٌ آخَرُ في قولِهِ: {حَسْبِيَ اللهُ} فإنَّ فيهِ تفويضَ الكفايةِ إلى اللهِ دونَ الأسبابِ الوهمِيَّةِ، وأمَّا الأسبابُ الحقيقيَّةُ فلا يُنَافِي تَعَاطِيها تَوَكُّلَ العبدِ على اللهِ تعالى وتفويضَ الأمرِ إليهِ؛ لأنَّها مِنْ عندِهِ.
(8)قولُهُ في حديثِ عِمْرَانَ: (رَأَى رَجُلاً) لمْ يُبَيِّن اسْمَهُ؛ لأنَّ المُهِمَّ بيانُ القضيَّةِ وحُكْمِهَا، لكنْ وردَ ما يدُلُّ على أنَّهُ عِمْرَانُ نفْسُهُ، لكنَّهُ أبْهَمَ نفْسَهُ.والحلْقَةُ والصُّفْرُ معروفانِ.
-وأمَّا الواهِنَةُ:فَوَجَعٌ في الذِّرَاعِ أوْ في العَضُدِ. قوله: (ما أَفْلَحْتَ) الفلاحُ: هوَ النجاةُ من المَرْهُوبِ وحُصُولُ المطلوبِ. وهذا الحديثُ مُنَاسِبٌ للبابِ مُنَاسَبَةً تامَّةً؛ لأنَّ هذا الرجلَ لَبِسَ حَلْقَةً مِنْ صُفْرٍ إمَّا لدَفْعِ البلاءِ أوْ لرَفْعِهِ. والظاهِرُ أنَّهُ لرَفْعِهِ؛ لقولِهِ: ((لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا)) والزيادةُ تَكونُ مَبْنِيَّةً على أَصْلٍ.وهذا الذي لَبِسَ الحَلْقَةَ مِن الوَاهِنَةِ لن تزيدُهُ إلاَّ وَهْنًا؛ لأنَّهُ سوْفَ يَعْتَقِدُ أنَّها ما دامَتْ عليهِ فهوَ سالِمٌ، فإذا نزَعَها عادَ عَليه الوَهْنُ، وهذا بِلا شكٍّ ضَعْفٌ في النفسِ، لأنَّ الأسبابَ التي لا أثرَ لها بِمُقْتَضَى الشَّرعِ أو العادةِ أو التَّجْرِبَةِ لا ينْتَفِعُ بها الإنسانُ.ولبْسَ الحَلْقَةِ وشِبهِهَا لدفعِ البلاءِ أوْ رفعِهِ مِن الشِّركِ؛ لقولِهِ: ((لَوْ مُتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أفْلَحْتَ أبدًا)) وانتفاءُ الفلاحِ دليلٌ على الخَيْبَةِ والخُسْرانِ.ولكنْ هلْ هذا شِرْكٌ أكبرُ أوْ أصغرُ؟سبَقَ لنا عِندَ التَّرْجَمَةِ أنَّهُ يَخْتَلِفُ بحسَبِ اعْتِقَادِ صاحِبِهِ. (9)قولُهُ: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً) أيْ: عَلِقَ بها قلبُهُ واعْتَمَدَ عليها في جلْبِ النفعِ ودفْعِ الضَّرَرِ، والتَّمِيمَةُ شيءٌ يُعَلَّقُ على الأولادِ منْ خَرَزٍ أوْ غيرِهِ يَتَّقُونَ بهِ العينَ. والتمائم كما قال ابن الأثير: (هي خرزات، كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم) قولُهُ: (فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ) الجملةُ خبريَّةٌ بمعْنَى الدعاءِ، ويَحْتَمِلُ أنْ تكونَ خَبَرِيَّةً مَحْضَةً. وكِلا الاحتماليْنِ دالٌّ على أنَّ التميمةَ مُحَرَّمَةٌ، سواءٌ نفَى الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنْ يُتِمَّ اللهُ لهُ، أوْ دَعا بأنْ لا يُتِمَّ اللهُ لهُ، فإنْ كانَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أرادَ بهِ الخبرَ فإنَّنا نُخْبِرُ بما أَخْبَرَ بهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وإلاَّ فإنَّنا نَدْعُو بِمَا دَعا بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. (10)قولُهُ: (ودَعَةً) واحِدَةُ الوَدَعِ، وهيَ أحْجَارٌ تُؤْخَذُ من البَحْرِ يُعَلِّقونَها لدفعِ العينِ، ويزعُمُونَ أنَّ الإنسانَ إذا علَّقَ هذهِ الوَدَعَةَ لم تُصِبْهُ العينُ، أوْ لا يُصِيبُهُ الجِنُّ. قال ابن الأثير: (هو شيء أبيض، يجلب من البحر، يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم). وقال السهيلي: (أنها مشتقة من (ودعته) أي: تركته؛ لأن البحر ينضب عن تلك الخرزات ويدعها، فسميت ودعاً، من باب ما سمي بالمصدر) قولُهُ: (لاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ) أيْ: لا تَركَهُ اللهُ في دَعَةٍ وسُكونٍ، وضِدُّ الدَّعَةِ والسكونِ القَلَقُ والأَلَمُ.وقيلَ:لا تَركَ اللهُ لهُ خيرًا، فَعُومِلَ بنقيضِ قَصْدِهِ. (11)قولُهُ: (مِن الحُمَّى) مِنْ هنا للسبَبِيَّةِ، أيْ: في يدِهِ خيطٌ لَبِسَهُ مِنْ أجلِ الحُمَّى لِتَبْرُدَ عليهِ، أوْ يَشْفَى مِنها. (12) قولُهُ: (فَقَطَعَهُ) أيْ: قطَعَ الخيْطَ، وفِعْلُهُ هذا مِنْ تَغْيِيرِ المنكَرِ باليدِ، وهذا يدلُّ على غَيْرَةِ السلَفِ الصالحِ وقُوَّتِهِم في تغييرِ المنكَرِ باليدِ وغيرِها. قال في (تيسير العزيز الحميد) ص161: قوله: (فقطعه) (فيه إنكار هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فإن الأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع عدم الاعتماد عليه، فكيف مما هو شرك كالتمائم، والخيوط، والخرز، والطلاسم، ونحو ذلك مما يعلقه الجهال؟) وفيه:إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل، وإن كان يظن أن الفاعل يزيله (13)قولُهُ: (وَتَلاَ قولَهُ تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}) أيْ: وتلا حُذَيْفَةُ هذهِ الآيةَ، والمرادُ بها المشرِكونَ الذينَ يُؤْمِنُونَ بتوحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ويَكْفُرونَ بتوحيدِ الأُلُوهيَّةِ.وقولُهُ: {وَهُمْ يُشْرِكُونَ} في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ (أكثرُ) أيْ: وهمْ مُتَلَبِّسونَ بالشِّركِ، وكلامُ حُذَيْفَةَ في رَجُلٍ مسلِمٍ لَبِسَ خَيْطًا لتبريدِ الحُمَّى أو الشفاءِ منها.وفيهِ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ قدْ يَجْتَمِعُ فيهِ إيمانٌ وشِركٌ، ولكن ليْس شِركًا أكبرَ؛ لأنَّ الشِّركَ الأكبرَ لا يَجْتَمِعُ معَ الإيمانِ، ولكِنَّ المرادَ الشركُ الأصغرُ، وهذا أمرٌ معلومٌ. (14)قولُهُ: فيهِ مسائِلُ: الأولى: (التغليظُ في لُبْسِ الحلْقةِ والخيطِ ونحوِهِما لمثلِ ذلكَ) لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((انْزِعْهَا؛ فَإِنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، فَإِنَّكَ لَوْ مُتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) وهذا تغليظٌ عظيمٌ في لُبْسِ هذهِ الأشياءِ والتعلُّقِ بها. (15)الثانيةُ: (أنَّ الصحابيَّ لوْ ماتَ وهيَ عليهِ ما أفلَحَ) هذا وهوَ صحابيٌّ، فكيفَ بمَنْ دُونَ الصحابيِّ؟! فهوَ أبعدُ عن الفلاحِ. قالَ المُؤَلِّفُ: (فيهِ شاهِدٌ لكلامِ الصحابةِ: أنَّ الشِّركَ الأصغرَ أكبرُ مِن الكبائرِ). قولُهُ: (لكلامِ الصحابةِ) أيْ لقولِهِم، وهوَ كذلِكَ، فالشِّركُ الأصغرُ أكبرُ مِن الكبائِرِ، قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: (لأََنْ أَحْلِفَ باللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادقًا) وذلكَ لأنَّ سيِّئَةَ الشِّركِ أعظمُ مِنْ سيِّئَةِ الكبيرةِ؛ لأنَّ الشِّركَ لا يُغْفَرُ ولوْ كانَ أَصْغَرَ، بخلافِ الكبائرِ فإنَّها تحتَ المَشِيئَةِ. (16)الثالثةُ: (أنَّهُ لم يُعْذَرْ بالجَهَالَةِ) هذا فيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ مُتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) ليسَ بصريحٍ أنَّهُ لوْ ماتَ قبْلَ العِلْمِ. بلْ ظاهِرُهُ: ((لَوْ مُتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أفْلَحْتَ أَبَدًا))أيْ: بَعدَ أنْ عَلِمْتَ وأُمِرْتَ بنَزْعِها. وهذهِ المسألةُ فيها شيءٌ من النظرِ، فنقولُ: الجهلُ نوعانِ: - جهلٌ يُعْذَرُ فيهِ الإنسانُ. -وجَهْلٌ لا يُعْذَرُ فيهِ. فما كانَ ناشِئًا عَن تفريطٍ وإهمالٍ معَ قيامِ المُقْتَضِي للتعلُّمِ فإنَّهُ لا يُعْذَرُ فيهِ، سواءٌ في الكفرِ أوْ في المعاصي. وما كانَ ناشِئًا عنْ خلافِ ذلكَ، أيْ: أنَّهُ لم يُهْمِلْ ولم يُفَرِّطْ ولم يَقُم المُقْتَضِي للتعلُّمِ، بأنْ كانَ لم يَطْرَأْ على بالِهِ أنَّ هذا الشيءَ حرامٌ، فإنَّهُ يُعْذَرُ فيهِ، فإنْ كانَ مُنْتَسِبًا إلى الإسلامِ لم يَضُرَّهُ، وإن كانَ منْتَسِبًا إلى الكفرِ فهوَ كافِرٌ في الدُّنيا، لكنْ في الآخِرةِ أمْرُهُ إلى اللهِ، وعلى القولِ الراجِحِ يُمْتَحَنُ، فإنْ أطاعَ دخَلَ الجنَّةَ، وإنْ عَصَى دخَلَ النَّارَ.فمَنْ نشَأَ بباديةٍ بعيدةٍ ليسَ عندَهُ علماءُ، ولمْ يَخْطُرْ ببالِهِ أنَّ هذا الشيءَ حرامٌ، أوْ أنَّ هذا الشيءَ واجِبٌ، فهذا يُعْذَرُ، كمنْ بلَغَ وهوَ صغيرٌ، في باديةٍ ليسَ عندَهُ عَالِمٌ، ويظُنُّ أنَّ الإنسانَ لا تَجِبُ عليهِ العباداتُ إلاَّ إذا بلَغَ خَمْسَ عشْرةَ سنةً، فبقِيَ بعدَ بُلُوغِهِ حتَّى تَمَّ لهُ خمسَ عشرةَ سنةً وهوَ لا يصومُ ولا يُصَلِّي ولا يتَطَهَّرُ مِنْ جَنَابَةٍ، فهذا لا نأْمُرُهُ بالقضاءِ؛ لأنَّهُ معذورٌ بِجَهْلِهِ الذي لَم يُفَرِّطْ فيهِ بالتعلُّمِ، ولم يطْرَأْ لهُ على بالٍ. وأمَّا الساكِنِ في المدنِ ممَّنْ يستطيعُ أنْ يسألَ، لكنْ عِندَهُ تهاونٌ وغَفْلَةٌ، فهذا لا يُعْذَرُ؛لأنَّ الغالِبَ في المُدُنِ أنَّ هذهِ الأحكامَ لا تَخْفَى عليهِ، ويُوجَدُ فيها علماءُ يستطيعُ أنْ يَسْألَهُم بكلِّ سُهُولَةٍ، فهوَ مُفَرِّطٌ، فيلزمُهُ القضاءُ ولا يُعْذَرُ بالجَهْلِ. (17)الرابعةُ: (أنَّها لا تَنْفَعُ في العاجِلَةِ بلْ تَضُرُّ؛ لقولِهِ: ((لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا))) والمُؤَلِّفُ اسْتَنْبَطَ المسألةَ وأَتَى بِوَجْهِ اسْتِنْبَاطِها. (18)الخامسةُ: (الإنكارُ بالتغليظِ على مَنْ فَعَلَ مثلَ ذلكَ) أيْ: يَنْبَغِي أنْ يُنْكِرَ إنْكارًا مُغَلَّظًا على مَنْ فعلَ مِثْلَ هذا، ووجهُ ذلكَ: سياقُ الحديثِ الذي أشارَ إليهِ المُؤَلِّفُ، وأيضًا قولُهُ: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لهُ)). (19)السادسةُ: (التصريحُ بأنَّ مَنْ تَعَلَّقَ شيئًا وُكِلَ إِليهِ) تُؤخذُ مِنْ قولِهِ: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمةً فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ)) إذا جَعَلْنَا الجملةَ خَبَرِيَّةً، وأنَّ مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فإنَّ اللهَ لا يُتِمُّ لهُ، فيكونُ مَوْكولاً إلى هذهِ التميمةِ، ومَنْ وُكِلَ إلى مخلوقٍ فقدْ خُذِلَ، ولكنَّها في البابِ الذي بعدَهُ صَرِيحَةٌ: ((مَنْ تَعلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)). (20)السابعةُ: (التصريحُ بأنَّ مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فقدْ أشركَ) وهو إِحْدَى الروايتيْنِ في حديثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ. (21)الثامنةُ: (أنَّ تَعليقَ الخيطِ مِن الحُمَّى مِنْ ذلكَ) يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِ حُذَيْفَةَ أنَّهُ رأَى رجلاً في يدِهِ خَيْطٌ مِن الْحُمَّى فَقَطَعَهُ، وتَلا قولَهُ تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. (22)التاسعةُ: (تلاوةُ حُذَيْفَةَ الآيةَ دَليلٌ على أنَّ الصحابةَ يَسْتَدِلُّونَ بالآياتِ التي في الشِّركِ الأكبرِ على الأصغرِ، كما ذَكَرَ ابنُ عبَّاسٍ في آيةِ البَقَرَةِ) أيْ: أنَّ قولَهُ تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُشْرِكُونَ} في الشركِ الأكبرِ، لكنَّهمْ يستدلُّونَ بالآياتِ الواردةِ في الشِّركِ الأكبرِ على الأصغرِ؛ لأنَّ الأَصْغَرَ شِرْكٌ في الحقيقةِ وإنْ كانَ لا يُخْرِجُ مِن الملَّةِ، ولهذا نقولُ: الشركُ نوعانِ: أصغرُ وأكبرُ. وقولُهُ: (كمَا ذَكَرَ ابنُ عبَّاسٍ في آيةِ البقرَةِ) هيَ قولُهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ...} الآيةَ. فجَعَلَ المحبَّةَ التي تكونُ كمحبَّةِ اللهِ بمنزلة اتِّخاذِ النِّدِّ للهِ عزَّ وجلَّ. (23)العاشرةُ: (أنَّ تعليقَ الوَدَعِ من العيْنِ مِنْ ذلكَ) أيْ: مِنْ تعليقِ التَّمَائِمِ الشِّرْكِيَّةِ؛ لأنَّهُ لا أثرَ لها ثابِتٌ شرْعًا ولا قَدَرًا. (24)الحاديةَ عشرةَ: (الدعاءُ على مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً أنَّ اللهَ لا يُتِمُّ لهُ، ومَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فلا وَدَعَ اللهُ لهُ) تُؤْخَذُ منْ دعاءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ على هؤلاءِ الذينَ اتَّخَذُوا تَمائِمَ وَوَدَعًا.ولكنَّ الحديثَ إنَّما قالَهُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ على سبيلِ العُمُومِ، فلا نُخَاطِبُ هذا بالتصريحِ ونقولُ لشخصٍ رأَيْنا عليهِ تَمِيمَةً: لا أتَمَّ اللهُ لكَ؛ وذلكَ لأنَّ مُخَاطَبَتَنَا الفاعِلَ بالتصريحِ والتَّعْيِينِ سوفَ يكونُ سببًا لنُفُورِهِ، ولكنْ نقولُ: دع التمَائِمَ أو الوَدَعَ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ)).
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فموضوع كلمة هذا اليوم عن:
نفسية طالب العلم حين يتلقى الدرس.
والمستمعون للعلم يختلفون من جهة رغبتهم فيما يسمعون، ويختلفون أيضاً من جهة استعداداتهم، فليست الرغبات واحدة، وليست الاستعدادات واحدة، فالرغبات مختلفة:
- منهممن يستمع للعلم رغبة في تحصيله، هذا هو الغالب ولله الحمد.
-ومنهم من يستمع للعلم رغبة في تقييم المعلم، أو في معرفة مكانته من العلم وحُسْنِ تعليمه، أو حسن استعداداته للعلوم.
- ومنهممن يأتي مرة ويترك عشر مرات.
وهذه في رغبات أيضاً متنوعة، ويهمنا منها:
من يأتي للعلم رغبة في العلم، فحين يأتي طالب العلم للدرس راغباً في الاستفادة، ينبغي أن يكون:
-على نفسية وحالة قلبية خاصة.
-وحالة عقلية أيضاً خاصة.
أما الحالة القلبية والنفسية: فأن يكون قصده من هذا العلم أن يرفع الجهل عن نفسه،وهذا هو الإخلاص في العلم؛ لأن طلب العلم عبادة، والإخلاص فيه واجب، والإخلاص في العلم: بأن ينوي بتعلمه رفع الجهل عن نفسه، وقد سئل الإمام أحمد عن النية في العلم؛ كيف تكون؟
فقال: (أن ينوي رفع الجهل عن نفسه) فإذا كان في طلبه للعلم يروم أن يكون معلماً، أو أن يكون داعياً، أو أن يكون مؤلفاً ونحو ذلك، فالنية الصالحة فيه والإخلاص في ذلك يكون بشيئين:
الأول: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه.
الثاني: أن ينوي رفع الجهل عن غيره.
فإذا لم ينو أحد هذين أو لم ينوهما معاً؛ فإنه ليس بصاحب نية صحيحة.
فإذا رام أحدنا أن يطلب العلم؛ فلابد أن يكون ناوياً رفع الجهل عن نفسه، وإذا نوى هذه النية يكون مستحضراً بالطبع أن الله جل جلاله خلقه، وله عليه:
-أمر ونهي في أصل الأصول، ألا وهو حقه جل وعلا (التوحيد).
-وكذلك في الأمر والنهي (في الحلال، وفي الحرام)
وسبب الإقدام على المنهيات في العقائد، وكذلك في السلوك: الجهل، من أسباب ذلك: الجهل، ثَمَّ أسباب أُخر.
فإذا علم ورفع الجهل عن نفسه كان عالماً بمراد الله جل وعلا، ثم بعد ذلك يستعين الله -جل وعلا- في امتثال مراداته الشرعية، هذا أمر نفسي مهم.
والأمر النفسي الثاني المهم أيضاً: أنه حين يتلقى العلم، يتلقى وهو واثق من علم المعلم، يعني: أن يكون في نفسه أن الأصل في المعلم أنه يعلم على الصواب، فإذا دخل وفي نفسه أن المعلم يعلم غلطاً، أو أن معلوماته مشوشة، أو أنه كذا وكذا، مما يضعفه في العلم فإنه لن يستفيد؛ ذلك لأنه إذا استمع سيستمع بِنَفَسِ المعارض.يأتي إذا قال كلمة أخذ يفكر بعدها نصف دقيقة أو دقيقة في ما قال، وهل هذا صحيح؟وفي اطلاعاته، وقد اطلع كذا وكذا مما يعارض كلام المعلم، ثم في هذه الدقيقة يكون المعلم قد أتى بشيء آخر؛ فإذا انتهى هذا من تفكيره سمع جملة أخرى فتكون مشوَّشة أيضاً، فيدخل في اعتراضات، وهذا يَحْرِمُ المستمع العلم.وإذا كان عند طالب العلم فيما يسمع إشكالات، أو إيرادات، فيكون عنده ورقة، أو كراسة بين يديه يكتب الإشكال، ثم لا يفكر فيه وهو يستمع العلم، يكتب بحث هذه المسألة، المسألة كذا وكذا، ثم بعد ذلك إذا فرغ من هذا الدرس يذهب هو ذلك اليوم أو بعده، يذهب ويبحث هذه المسألة، أو يسأل عنها.ومن المعلوم أنه ليس من شرط المعلم أن يكون محققاً، وليس من شرط المعلم أن يكون مصيباً دائماً، فقد يكون له اختيارات أو آراء تخالف المشهور، أو يكون له توجيهات غَلِطَ فيها، لكن الشأن أن يكون المعلم مشهوداً له بالعلم، مؤصَّلاً في العلم، يعرف ما يتكلم به، فإذا عرف ما يتكلم به، وعرف أقوال الناس، وعَلَّمَ العلم؛ فإنه قد يكون عنده غفلة في مسألة، أو في حكم أو نحو ذلك، فيغلط مرة، أو يغلط في تصور ونحو ذلك، هذا ليس بعجيب؛ لأن المعلم بشر، والبشر خطاؤون.
إذاً: المهم أن تتلقى العلم ممن وثقت بعلمه، وأنت في نفسية غير معارضة،وهذا يَحْرِم كثيرين علماً واسعاً، حيث إنهم يتلقون العلم بنفسية السؤال، بنفسية من يستشكل، ولهذا من أكثر السؤال في حلقات العلم لا يكون مجيداً.وقد حضرت مرة عند الشيخ عبد الرزاق عفيفي، العلامة المعروف - رحمه الله تعالى- وكان عنده من يسأله عن المسائل في الحج، فإذا أتى مستفتٍ يستفتي فيأتي هذا السائل ويقول له: فإن كان كذا، يحاول أن يتعلم العلم بطرح مسائل أُخر غير المسألة التي استفتى فيها السائل، فقال له الشيخ رحمه الله: (العلم لا يؤتى هكذا، وإنما يؤتى العلم بدراسته).وهذا صحيح؛ لأن المتعلم حين يحضر عند أهل العلم فيسمع؛ فإنه إذا عرض لذهنه أنه في كل ما يأتي يسأل، أو في كل ما يسمع يعترض، كما مر معنا كثيراً من بعض الإخوان والشباب في حلقات العلم، يوردون أسئلة ويوردون استشكالات، طبعاً بحسب ما عندهم من العلم سألوا واستشكلوا، ولو صبروا لكان خيراً لهم، هذه النفسية تؤثر على الذهن وعلى صفائه، وعلى تصور العلوم في أثناء الدرس.لهذا ينبغي لنا أننا حين نتلقى العلم، أن نتلقاه بنفسية من ليس عنده علم البتة،يسمع، ويسمع، ويسمع، وإذا استشكل فيكون بعد ذلك في محله، يُقَيِّد، ثم يبحث، أو يسأل عن ذلك، طبعاً هذا في حق من وثقنا بعلمه؛ فأخذنا عنه العلم عن ثقةٍ بما يأتي به.
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
هذا باب شرع به الشيخ -رحمه الله- في تفصيل ما سبق، فقال: (باب من الشرك لبس الحلْقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه) هذا شروع في بيان التوحيد ببيان ضده، ومن المعلوم أن الشيء يعرف ويتميز بشيئين:
-بحقيقته.
- وبمعرفة ضده.
والتوحيد يتميز:
-بمعرفته في نفسه.
-بمعرفة معناه وأفراده.
-وبمعرفة ضده أيضاً.
وقد قال الشاعر:
وبضدها تتميز الأشياء
وهذا صحيح، فإن التوحيد إنما يعرف حسنه بمعرفة قبح الشرك.
والإمام -رحمه الله- بدأ في ذكر ما هو مضاد للتوحيد، وما يضاد التوحيد:
- منه ما يضاد أصله، وهو الشرك الأكبر الذي إذا أتى به المُكَلَّف فإنه ينقض توحيده، يعني يكون مشركاً شركاً أكبر مخرجاً من الملة، هذا يقال فيه ينافي التوحيد، أو ينافي أصل التوحيد.والثاني: ما ينافي كمال التوحيد الواجب،وهو ما كان من جهة الشرك الأصغر، ينافي كماله، فإذا أتى بشيء منه فقد نافى بذلك كمال التوحيد؛ لأن كمال التوحيد إنما يكون بالتخلص من أنواع الشرك جميعاً، وكذلك الرياء فإنه من أفراد الشرك الأصغر، - أعني: يسير الرياء- وهذا ينافي كمال التوحيد.ومنها:أشياء يقول العلماء فيها: (إنها نوع شرك) فيعبرون عن بعض المسائل من الشركيات؛ بأنها نوع شرك أو نوع تشريك، فصار عندنا في ألفاظهم في هذا الباب أربعة:
الأول: الشرك الأكبر.
الثاني: الشرك الأصغر.
الثالث: الشرك الخفي.
الرابع: قولهم: نوع شرك أو نوع تشريك.وذلك من مثل ما سيأتي في قوله جل وعلا: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} وفي نحو قوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} في قصة آدم وحواء حين عبّدا ابنهما للشيطان، فهذا في الطاعة؛ كما سيأتي بيانه مفصلاً إن شاء الله.
بدأ الشيخ -رحمه الله- في تفصيل الشرك، ببيان صور من الشرك الأصغر التي يكثر وقوعها، وقدّم الأصغر على الأكبر انتقالاً من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الشبهة في الأدنى ضعيفة بخلاف الشبهة في الأعلى، يعني: أن تعلق المتعلق بالخيط، تعلق المتعلق بالتميمة، هذا شبهته أضعف، فتعلق ذلك المتعلق بغير الله، إذا وعى أنه تعلق بغير الله، فإنه يكون مقدمة مهمة ومنتجة للمطلوب في إقناعه؛ بأن التعلق بغير الله في الشرك الأكبر؛ أنه قبيح.أما إذا أتى إلى ما هو من جهة الشرك الأكبر:
-كالتعلق بالأولياء.
-ودعائهم.
-وسؤالهم.
- أو الذبح للجن.
- أو الذبح للأولياء.
فإنه يكون هناك شبهة، وهي: أن أولئك لهم مقامات عند الله جل وعلا، والناس الذين يتوجهون إلى أولئك، ويشركون بهم الشرك الأكبر المخرج من الملة -والعياذ بالله- يقولون: (إنما أردنا الوسيلة، هؤلاء لهم مقامات عند الله، وإنما أردنا الوسيلة) كحال المشركين في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذين قال الله -جل وعلا- فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}فإذاً: الشيخ -رحمه الله- بدأ بما هو من الشرك الأصغر، انتقالاً من الأدنى إلى الأعلى، حتى يكون ذلك أقوى في الحجة، وأمكن في النفوس، من جهة ضرورة التعلق بالله، وإبطال التعلق بغيره.
قال رحمه الله: (باب من الشرك) (مِن) هذه تبعيضية، يعني: هذه الصورة التي في الباب هي بعض الشرك، هل هي بعض أفراده أو بعض أنواعه؟
هي هذه وهذه، فما ذُكِر وهو لبس الحلقة، أو الخيط: أحد نوعي الشرك وهو الشرك الأصغر، وهو أحد أفراد الشرك بعمومه؛ لأنها صورة من صور الإشراك.
قال: (باب من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما) نحو الحلقة، والخيط مثل:
-الخرز.
- والتمائم.
- والحديد، ونحو ذلك مما قد يلبس.
-كذلك مما يُعَلَّق أيضاً في البيوت.
-أو في السيارات.
- أو يعلق على الصغار، ونحو ذلك مما فيه لبس أو تعليق، كل ذلك يدخل في هذا الباب وأنه من الشرك.
قال: (باب من الشرك لبس الحلقة أو الخيط) الحلْقة: إما أن تكون من صُفر، يعني: من نحاس، وإما أن تكون من حديد، أو تكون من أي معدن.
والخيط: مجرد خيط يعقده في يده، والخيط معروف.
الحلقة والخيط كانا عند العرب فيها اعتقادات في أشباههما، مثل التمائم وغيرها، يعتقدون أن من تَعَلَّقَ شيئاً من ذلك أثّر فيه ونفعه: إما من جهة دفع البلاء قبل وقوعه، وإما من جهة رفع البلاء أو المرض بعد وقوعه؛ ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (لرفع البلاء أو دفعه) لأن الحالتين موجودتان؛ منهم من يعلق قبل أن يأتي البلاء ليدفعه، وهذا أعظم: أن يعلق خيطاً، أن يعلق حلقة، يلبس حلقة، أو يلبس خيطاً ليدفع الشيء قبل وقوعه، وهذا أعظم؛ لأنه يعتقد أن هذه الأشياء الخسيسة الوضيعة، أنها تدفع قدر الله جل وعلا.
وكذلك منها:أن يلبس ليرفع البلاء بعد حصوله، مَرِض فلبس خيطاً؛ ليرفع ذلك المرض.
أصابته عين؛ فلبس الخيط ليرفع تلك العين، وهكذا في أصناف شتى من أحوال الناس في ذلك، واعتقادات الناس كثيرة.
هذه لبس الحلقة، أو الخيط من الشرك، لِمَ كان شركاً؟قلنا: إنه شرك أصغر، لِمَ كان شركاً أصغر؟
لأنه تعلّق قلبه بها وجعلها سبباً لرفع البلاء، أو سبباً لدفعه.
والقاعدة في هذا الباب: أن إثبات الأسباب المؤثرة لا يجوز؛ إلا أن يكون من جهة الشرع،لا يجوز إثبات سبب إلا أن يكون سبباً شرعياً، أو أن يكون سبباً قد ثبت بالتجربة الواقعة أنه يؤثر ظاهراً لا خفيّاً، فهذا من لبس فإنه جعل سبباً ليس بمأذونٍ به في الشرع، وكذلك من جهة التجربة لا يحصل ذلك على وجه الظهور، وإنما هو مجرد اعتقاد ممن لبس في هذا الشيء، فقد يوافق القدر أنه يُشْفَى حين لبس أو بعد لبسه، أو يُدْفَع عنه أشياء يعتقد أنها ستأتيه، فيبقى معلقاً في ذلك، ويُثْبِت أن تلك سبب من الأسباب، وهذا باطل.إذاً: صار لبس الحلقة، والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه شركاً أصغر؛لأن من لبسها تعلق قلبه بها وجعلها تدفع أو تنفع، أو جعلها تؤثر في رفع الضرر عنه، أو في جلب المنافع له، وهذا إنما يستقل به الله -جل وعلا- وحده، إذ هو النافع الضار، هو -جل وعلا- الذي يفيض الرحمة، ويفيض الخير أو يمسك ذلك.وأما الأسباب التي تكون سبباً لمسَبَّبَاتها، فهذه لابد أن يكون مأذوناً بها في الشرع.
ولهذا بعض العلماء يُعَبِّر عما ذكرت بقوله: (من أثبت سبباً -يعني: المُسَبَب يُحْدِث النتيجة- لم يجعله الله سبباً لا شرعاً، ولا قدراً فقد أشرك) يعني: الشرك الأصغر، هذه القاعدة في الجملة صحيحة، بعض الأمثلة قد يُشْكِل: هل تدخل أو لا تدخل؟لكن المقصود من هذا الباب: أن إثبات الأسباب لابد أن يكون:
-إما من جهة الشرع.
-وإما من جهة التجربة الظاهرة، مثل: دواء الطبيب، ومثل: الانتفاع ببعض الأسباب التي فيها الانتفاع ظاهراً، تتدفى بالنار، أو تتبرد بالماء، أو نحو ذلك، هذه أسباب ظاهرة بيّن أثرها، لكن إذا كان السبب من جهة التعلق الذي لم يأذن به الشرع فإن التعلق بشيء. يعني التعلق القلبي بشيء لم يأذن به الشرع، يكون نوع شرك إذا كان لدفع البلاء أو لرفعه، وهذا مراد الشيخ بهذا الباب، فإن لبس الخيط والحلقة من الشرك الأصغر.كل أصناف الشرك الأصغر قد تكون شركاً أكبر بحسب حال من فعلها.
-اللبس.
- تعليق التمائم.
- الحلف بغير الله.
- قول: ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك من الأعمال، أو الاعتقادات، أو الأقوال، الأصل فيها أن نقول: (هي شرك أصغر) لكن قد تكون تلك شركاً أكبر بحسب الحال، يعني: إن اعتقد في الحلْقة والخيط مثلاً أنها تؤثر بنفسها، فهذا شرك أكبر، إذا اعتقد أنها ليست سبباً ولكن هي تؤثر بنفسها؛ لأن هذه تدفع بنفسها:
-تدفع المرض بنفسها.
-تدفع العين بنفسها.
- أو ترفع المرض بنفسها.
- أو ترفع العين بنفسها، وليست أسباباً، ولكن هي بنفسها مؤثرة؛ فهذا شرك بالله، شرك أكبر؛ لأنه جعل التصرف في هذا الكون لأشياء مع الله جل وعلا، ومعلوم أن هذا من أفراد الربوبية، فيكون ذلك شركاً في الربوبية.
إذاً: عماد هذا الباب من جهة تعلق القلب بهذه الأشياء، بالحلقة، أو الخيط؛ لدفع ما يسوؤه، أو لرفع ما حل به من مصائب.
الشيخ رحمه الله ساق بعد ذلك قول الله جل وعلا: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}.
قوله -جل وعلا- في هذه الآية من سورة الزمر:{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}.العلماء يقولون: إن الفاء إذا جاءت بعد همزة الاستفهام فإنها تكون عاطفة على جملة محذوفة يدل عليها السياق.
وهذه الآية أولها: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم} يعني: قل أتقرون بأن الذي خلق السموات والأرض هو الله وحده فتدعون غيره، فتتوجهون لغيره، أتقرون بذلك فتفعلون هذه الأشياء؟
قال جل وعلا: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أو يكون التقدير: أتقرون بأن الله هو الواحد في ربوبيته هو الذي خلق السموات والأرض وحده؟
إذا أقررتم فرأيتم هذه الأشياء التي تتوجهون لها من دون الله، هل تدفع عنكم المضار؟ أو هل تجلب لي ضرّاً، أو تجلب لكم رحمة من دون إذن الله؟
فإذاً: تكون الفاء هنا ترتيبية، رتبت ما بعدها على ما قبلها، وهذا هو المقصود أيضاً من الاحتجاج؛ لأن طريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية، وهم أقروا بالربوبية، فرتب على إقرارهم أنه يلزمهم أن يبطلوا عبادة غير الله جل وعلا.
قال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (تدعون) يعني: تعبدون، وقد تكون العبادة بدعاء المسألة، وقد تكون بأنواع العبادة الأخرى، أو نقول: (تدعون) هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة؛ لأنهما حالتان من أحوال أهل الإشراك بالله.و{ما تدعون من دون الله} (ما) هنا عامة؛ لأنها اسم موصول بمعنى (الذي) أفرأيتم الذي تدعونه من دون الله، والذي يدعونه من دون الله -الذي شملته هذه الآية- أنواع، وهو كل ما دُعي من دون الله مما جاء بيانه في القرآن.وجاء في القرآن بيان أن الأصناف التي أُشرك بها من دون الله -جل وعلا- وتُوجِّه لها بالعبادة أنواع:
الأول: الأنبياء، بعض الأنبياء، والرسل، والصالحون؛ كما قال -جل وعلا- في آخر سورة المائدة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآيات، فهذا في هذا النوع.
ونوع آخر: اتخذوا الملائكة،كما جاء في آخر سورة سبأ بيان ذلك: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ (.4) قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} هذا في الملائكة.
نوع آخر: أيضاً كانوا يتوجهون للكواكب: الشمس، القمر، يعني: طائفة من الناس يتوجهون لهذا الأشياء فيعبدونها.
أيضاً من الأنواع: أنهم كانوا يتوجهون للأشجار والأحجار.
ومن الأنواع: أنهم كانوا يتوجهون للأصنام والأوثان.
فإذاً: قوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} يدخل فيه توجه أولئك في كل ما أشركوا به من دون الله -جل وعلا-، في كل ما أشركوا به مع الله جل وعلا في نوع من أنواع العبادة، يفيدنا ذلك في معرفة وجه الاستدلال من هذه الآية كما سيأتي.
قال: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} أبطل أن يكون لتلك الآلهة بأنواعها إضرار أو نفع، إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره؟لايستطيعون.
إن أرادني الله -جل وعلا- برحمة، هل هذه تدفع رحمة الله؟
لا تستطيع أيضاً.
فإذاً: بطل أن يكون ثَمَّ تعلق بتلك الآلهة العظيمة التي يُظَن أن لها مقامات عند الله-جل وعلا- موجبة لشفاعتها.إذا تبين ذلك: فقد قال بعض أهل العلم:إن هذه الآية في الشرك الأكبر، فلم جعلها الشيخ -رحمه الله- في صدر بيان أصناف من الشرك الأصغر؟
والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن إيراد الآيات في الشرك الأكبر من جهة معناه، والتعلق بغيره، ووجوب التعلق بالله -جل وعلا- ونحو ذلك هذا يورده السلف فيما هو من الشرك الأصغر؛ فالآيات التي في الشرك الأكبر تورد في إبطال الشرك الأصغر بجامع أن في كلا الشركين تعلق بغير الله جل وعلا، فإذا بطل التعلق في الأعظم بطل التعلق فيما هو دونه من باب أولى.
الوجه الثاني: أن هذه الآية في الشرك الأكبر، ولكن المعنى الذي دارت عليه هو أنه في إبطال إضرار أحد من دون الله، أو أن الله إذا أصاب أحداً بضر، أن ثم من يستطيع أن يرفعه بدون إذن الله، أو إذا أراد الله رحمة، أن ثم من يصرف تلك الرحمة بدون إذنه جل وعلا، وهذا المعنى الذي هو التعلق بما يضر وبما ينفع هو المعنى الذي من أجله تعلق المشرك الشرك الأصغر بالحلقة وبالخيط؛ لأنه ما علق الخيط، ولا علق الحلقة، أو لبس الحلقة والخيط؛ إلا لأنه يعتقد أن في الحلقة تأثيراً من جهة رفع البلاء، أو دفع الضر، وأنها تجلب النفع، وتدفع الضر؛ وهذه أشياء مهينة، أشياء وضيعة، فإذا نفي عن الأشياء العظيمة كالأنبياء، والمرسلين، والملائكة، والصالحين، أو الأوثان التي لها روحانيات كما يقولون؛ فإنه، انتفاء النفع والضر عما سواها مما هو أدنى؛ لاشك أنه أظهر في البرهان وأبين.طبعاً في قوله: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} هنا {بِضُرٍّ} هذه نكرة في سياق الشرط، وهذا يعم جميع أنواع الضرر، يعني: فغير الله -جل وعلا- لا يستطيع أن يرفع ضرّاً أنزله الله -جل وعلا- إلا بإذنه سبحانه.
ثم ساق-رحمه الله- عدة أحاديث، قال: (عن عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال: ((ما هذه؟)) قال: من الواهنة. فقال: ((انْزِعْهَا فَإِنَّهَا لاَ تَزِيدَكَ إِلاَّ وَهَناً، فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَداً)))مناسبة الحديث للباب ظاهرة، وهي أنه -عليه الصلاة والسلام- رأى رجلاً في يده حلقة من صُفْر بحسب ما كان يعتقد أهل الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام: ((مَا هَذِهِ؟)) هذا السؤال: من أهل العلم من قال: إنه استفهام إنكار، ولكن الرجل ما فهم أنه إنكار، فهم أنه استفصال، فلذلك أجاب فقال: (من الواهنة).
وقال آخرون من أهل العلم: قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَا هَذِهِ؟)) يحتمل أن يكون استفهام استفصال، أو استفهام إنكار؛ ولهذا أجاب الرجل فقال: (من الواهنة) والاستفهام الأول -يعني: في القول الأول- للإنكار الشديد، وهو الأظهر من حيث دلالة السياق عليه؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- في السياق ما ذكر الحالة الأخرى، والحالة الأخرى التي يمكن أن يكون لبسها من أجله: أن تكون للتحلي، والتحلي بالصُّفْر غير أن يلبسه لدفع البلاء، أو رفعه.المقصود:أن الاستفصال هنا في قوله:((مَا هَذِهِ؟)) هذا السؤال لا يعني أنه يحتمل أن يكون اللبس شركاً، ويحتمل أن يكون اللبس غير شرك، ولكن هذا للإنكار، وإذا كان استفهام استفصال فإنه لأجل أنه قد يلبس لأجل التحلي لا لأجل التعلق -تعلق القلب- بذلك، فلما أجاب: (من الواهنة) تعين على كلا القولين أنه لبسها لأجل تعلقه بها لرفع المرض، أو لدفعه. و(الواهنة): نوع مرض من الأمراض، يهن الجسم ويطرحه، ويضعف قواه. فقال عليه الصلاة والسلام: ((انْزِعْهَا)) هذا أمر، وإنكار المنكر يكون باللسان، إذا كان المأمور به يطيع، إذا كان المأمور به يطيع الأمر فإنك تأمره باللسان ولا تنكر عليه باليد.والنبي -عليه الصلاة والسلام- له ولاية، وينـزع هذا المنكر بيده، لكن علم من حال ذاك أنه يمتثل الأمر، فقال له: ((انْزِعْهَا)) فلا تعارض بين هذا، وبين ما سيأتي من أنَّ حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قطع خيطاً من رجل، فإن ذلك مبني على حالٍ أخرى، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أمره فامتثل ذلك الأمر.
قال: ((فَإِنَّهَا لاَ تَزِيدَكَ إِلاَّ وَهْناً)).
((فإنها لا تزيدك إلا وهناً)) يعني: أن ضررها أقرب من نفعها، وهذا في جميع أنواع الشرك، فإن ما أشرك به ضرره أعظم من نفعه، لو فُرِض أن فيه نفعاً، وقد قال العلماء هنا:((انزعها فَإِنَّهَا لاَ تَزِيدَكَ إِلاَّ وَهْناً)) يعني: لو كان فيها أثر فإن أثرها الإضرار بدنيّاً، وإن أثرها أيضاً الإضرار روحياً ونفسيّاً، حيث تضعف الروح والنفس عن مقابلة الوهن والمرض؛ لأنه يكون المرء أضعف ويتعلق بهذه الحلقة أو بذلك الخيط، قال: ((فَإِنَّهَا لاَ تَزِيدَكَ إِلاَّ وَهْناً))وهذا حال كل من أشرك؛ فإنه من ضرر إلى ضرر أكثر منه، ولو ظن أنه في انتفاع. ثم قال: ((فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَداً)):هذا القول منه -عليه الصلاة والسلام- لأن حال المعلّق يختلف:
- قد يكون علقها اعتقاداً فيها استقلالاً.
- وقد يكون علقها من جهة التسبب، والاستقلال إذا كان الذي رؤي في يد الصحابي لاشك أنه منفي، ولكن العبرة هنا؛ لأجل العبرة هنا في هذا اللفظ بالفائدة منه لغيره، فإن من مات وهي عليه:
-قد يحتمل أنه علقها لأجل الاستقلال.
- أو علقها لأجل التسبب، وبالتالي: يكون الفلاح على قسمين:
القسم الأول:الفلاح المنفي: هو الفلاح المطلق، وهو دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا في حال من أشرك الشرك الأكبر؛ بأنْ اعتقد أن تلك الحلقة من الصفر أو ذلك الخيط الذي يعلق بأنه ينفع استقلالاً، أو يكون المنفي نوع من الفلاح، أو مطلق الفلاح، درجة من درجاته، بعض الفلاح ذلك، إذا كان فاعله جعله سبباً مما لم يجعله الله -جل وعلا- سبباً، لا شرعاً ولا قدراً، يعني: كان مشركاً الشرك الأصغر، فإنه يكون الفلاح هنا المراد به مطلق الفلاح، يعني: درجة من درجات الفلاح، وهذان لفظان يكثران في كتب أهل العلم، وفي التوحيد بخصوصه:
الأول:مطلق الشيء. والثاني: الشيء المطلق.
يقول مثلاً:
-التوحيد المطلق، ومطلق التوحيد.
-الإسلام المطلق، ومطلق الإسلام.
-الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان.
-الشرك المطلق، ومطلق الشرك.
- الفلاح المطلق، ومطلق الفلاح.
- الدخول المطلق، ومطلق الدخول.
- التحريم المطلق -يعني تحريم دخول الجنة أو تحريم دخول النار- التحريم المطلق، ومطلق التحريم.
ومن المهم أن تعلم أن الشيء المطلق هو الكامل، الإيمان المطلق هو الكامل، الإسلام المطلق هو الكامل، التوحيد المطلق هو الكامل، الفلاح المطلق هو الكامل.وأما مطلق الشيء: فهو أقل درجاته، أو درجة من درجاته، فمطلق الإيمان هذا أقل درجاته، فنقول مثلاً: (هذا ينافي الإيمان المطلق) يعني: ينافي كمال الإيمان، أو نقول:
-هذا ينافي كمال الإيمان.
- أو نقول: ينافي مطلق الإيمان.
- ينافي أقل درجات الإيمان، فهو ينافي الإيمان من أصله.
فإذاً: هنا نقول: الفلاح يحتمل أن يكون المنفي الفلاح المطلق، يعني: كل الفلاح، أو درجة من درجاته بحسب حال المُعَلِّق، فكل من لبس حلقة أو خيطاً ومات وهي عليه من غير توبة فإنه لن يفلح أبداً، لن يفلح: يعني: لن يكون مفلحاً، وهذا الفلاح بحسب اعتقاده؛ إن كان معتقداً فيها -كما ذكرت- أنها تنفع باستقلال فهو من أهل النار، أو كان اعتقد أنها سبب فهو من أهل النار كعصاة الموحدين.
قال رحمه الله: (وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ)) المقصود من هذا الحديث ذكر لفظ التعلق، و((تعلق)) يعني: أنه علّق، وتعلق قلبه بما علّق، لفظ تعلّق يشمل التعليق، وتعلق القلب بما علّق، فهو لبس وتعلق قلبه بما لبس، علق في صدره وتعلق قلبه بما علق، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ)) والتميمة لها باب يأتي إن شاء الله تعالى، لكن هي نوع خرزات وأشياء توضع على صدور الصغار، أو يضعها الكبار؛ لأجل دفع العين، أو دفع الضرر، أو الحسد، أو أثر الشياطين نحو ذلك.قال: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ)) هنا دعا عليه -عليه الصلاة والسلام- أن لا يتم الله له؛ لأن التميمة أخذت من تمام الأمر، سميت تميمة لأنه يعتقد فيها أنها تتم الأمر، فدعا عليه -عليه الصلاة والسلام- بأن لا يتم الله -جل وعلا- له المراد. قال: ((وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ))والوَدْعَة: نوع من الصدف أو الخرز يوضع على صدور الناس، أو يعلق على العضد ونحو ذلك، لأجل أيضاً دفع العين ونحوها من الآفات، أو رفع العين ونحوها من الآفات.قال: ((وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ)) يعني: فلا تركه وذلك، ولا جعله في دعة وسكون وراحة، ودعاؤه -عليه الصلاة والسلام- عليه ذلك؛ لأنه أشرك بالله -جل وعلا-.
قال: (وفي رواية: ((مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)) لأن تعليق التمائم، والتعلق بها؛ شرك أصغر بالله جل وعلا، وقد يكون أكبر بحسب الحال كما سيأتي.
قال: (ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ}) مناسبة هذا الحديث أو الأثر للباب ظاهرة، من أن حذيفة الصحابي -رَضِيَ اللهُ- عَنْهُ رأى رجلاً في يده خيط، هذا الخيط من الحمى.
(من): هنا تعليلية، يعني: علق الخيط لأجل رفع الحمى، أو لأجل دفع الحمى. و(مِن): لها استعمالات شتى، مر في أول الباب أنها تبعيضية، وهنا أيضاً أنها تعليلية، لها أحوال كثيرة جمعها ابن أم قاسم في نظمه لبعض حروف المعاني بقوله:
أتـتــنا"مِنْ" لتـبيين ٍوبعضٍ وتــعــلــيـل ٍوبـدءٍ وانتــهاء
وزائدة ٍ وإبـــدالٍ وفــصــلٍ ومعنى عن وعلى وفي وباء
فمنها: أن (مِنْ) تكون للتعليل، فقوله: (رأى رجلاً في يده خيط من الحمى) يعني: لأجل دفع الحمى، أو لأجل رفع الحمى، فـ(مِنْ) تعليل لوضع الخيط في اليد.
قال: (فقطعه) وهذا يدل على أن هذا منكر عظيم؛ يجب إنكاره ويجب قطعه.
قال: (وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ}) قال السلف في هذه الآية: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} يعني: بأن الله هو الرب، وهو الرزاق، وهو المحيي، وهو المميت، يعني: توحيد الربوبية، إلا وهم مشركون به -جل وعلا- في العبادة، فليس توحيد الربوبية بمنجٍ، بل لابد من أن يوحد الله في العبادة، وهذا الدليل في الشرك الأكبر، وقد قال المصنف -رحمه الله- :(أن فيه أن الصحابة يستدلون بما نزل في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر).
العناصر
مناسبة باب (من الشرك لبس الحلقة والخيط..) إلخ، لما قبله
بيان سبب ابتداء المؤلف رحمه الله في بيان أنواع الشرك الأصغر قبل الأكبر
شرح ترجمة الباب (من الشرك لبس الحلقة...)
- شرح قوله: (لبس الحلقة والخيط ونحوهما)
- لم كان لبس الحلقة والخيط شركاً؟
- اعتقادات الجاهليين في الحلقة والخيط ونحوهما
مسألة الأخذ بالأسباب
- الفرق بين رفع البلاء ودفعه
- الأسباب نوعان: أسباب شرعية وأسباب كونية
- الأسباب الكونية منها ما هو مباح ومنها ماهو محرم
- التعلق القلبي بالأسباب غير مأذون به مطلقاً
- مواقف الناس من الأخذ بالأسباب
- قواعد في الأخذ بالأسباب
بيان معرفة التوحيد بمعرفة ضده
تفسير قوله تعالى: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر..) الآية
- مناسبة الآية للباب
- إشكال وجوابه حول استدلال المؤلف بآية الزمر على مسائل الشرك الأصغر مع أنها في الشرك الأكبر
- صحة الاستدلال بما نزل في الشرك الأكبر على الأصغر
- فائدة نحوية في قوله تعالى: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله...)
- ذكر الأصناف التي أشرك بها من دون الله: الأنبياء والصالحون والملائكة والأشجار والأحجار ... إلخ
- شمول آية الزمر لجميع أنواع الضرر
شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه
- مناسبة حديث عمران للباب
- ذكر حديث عمران بتمامه، وبيان درجته
- ترجمة عمران بن حصين -رضي الله عنه-
- تسمية الرجل المبهم في قوله: (رأى رجلا)؟
- نوع الاستفهام في قوله: (ما هذه)
- فائدة لغوية في استعمالات (مِنْ)
- المراد بالواهنة
- معنى قوله: (انزعها) وما يستفاد منه
- بيان معنى قوله عليه الصلاة والسلام (فإنها لا تزيدك إلا وهناً)
- وجه كونها تزيد الوهن مع أنها ليس لها تأثير بذاتها
- أقسام الفلاح
- ترجمة الإمام أحمد بن حنبل
- قاعدة مهمة في الفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء
- بيان انتقال الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر بحسب حال صاحبها
- هل يعذر المشرك بالجهل، وبيان أقسام الجهل
- جملة من فوائد الحديث
شرح حديث عقبة بن عامر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- تخريج حديث (من تعلق تميمة فلا أتم الله له..) الحديث
- ذكر حديث (من تعلق تميمة فقد أشرك) بتمامه، وقصته
- ترجمة عقبة بن عامر
- معنى التميمة، ولم كانوا يضعونها
- متى تكون التميمة شركاً
- معنى قوله: (فلا أتم الله له)
- معنى الودعة
- معنى قوله: (فلا ودع الله له)
- حكم الدعاء على فاعل المعصية المعين
- دليل من أجاز وضع رؤوس الحمر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين، والإجابة عنه
شرح أثر حذيفة (أنه رأى رجلا ...)
- بيان مناسبة أثر حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ للباب
- تعليق التمائم منكر عظيم
- ترجمة ابن أبي حاتم
- ترجمة حذيفة -رضي الله عنه-
- أثر عن حذيفة في إنكار التمائم
- فائدتان من قوله: (فقطعه)
لا تعارض بين حديث عمران وأثر حذيفة رضي الله عنهما
مسائل الباب.
تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال
قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابٌ من الشِّرْكِ لبسُ الحلقةِ والخيطِ ونحوِهِمَا لرفعِ البلاءِ أو دفعِهِ
(عن عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما: (أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رَجُلاً في يَدِهِ حَلْقَةٌ من صُفْرٍ…) الحديثُ.
أخرجـَهُ أحمدُ وابنُ ماجةَ وابنُ حبَّانَ والطَّبرانيُّ من طريقِ مباركِ بنِ فضالةَ عن الحسنِ البصريِّ عن عمرانَ بنِ حصينٍ … بهِ.قالَ البُوصيريُّ: (هذا إسنادٌ حسنٌ، مباركُ هو ابنُ فضالةَ مختلَفٌ فيهِ) اهـ.
وقالَ الهيثميُّ: (وفيه مباركُ بنُ فضالةَ وهو ثقةٌ، وفيه ضعفٌ وبقيَّةُ رجالِهِ ثقاتٌ) اهـ.
وقالَ المصنِّفُ: (رواهُ أحمدُ بسندٍ لا بأسَ بهِ) اهـ.
وعزَاهُ المنذريُّ للحاكمِ وقالَ: قالَ الحاكمُ: (صحيحُ الإسنادِ).
هذا وقد أُعِلَّ بلينِ مباركِ بنِ فضالةَ وتدليسِهِ وقدْ عَنْعَنَ.
وأُجيبُ عن ذلكَ بأمرينِ:
أحدُهُمَا:أنَّ المروذيَّ قالَ عن أحمدَ: (ما روى مباركٌ عن الحسنِ يُحْتَجُّ بهِ) اهـ.
الثَّاني:أنَّهُ قدْ تابعَهُ أبو عامرٍ صالحُ بنُ رستمَ الخزَّازُ عن الحسنِ عن عمرانَ بنِ حصينٍ بهِ.
أخرجَهُ ابنُ حبَّانَ، والطَّبرانيُّ والخطيبُ البغداديُّ والحاكمُ وعنه البيهقيُّ.من طرقٍ عن عثمانَ بنِ عمرَ بنِ فارسٍ العبديِّ قالَ: حدَّثَنَا أبو عامرٍ الخزَّازُ…بهِ.
قالَ الحاكمُ هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ، ووافقَهُ الذَّهبيُّ فقالَ: صحيحٌ.
وقالَ الشَّيخُ سليمانُ صاحبُ (تيسيرِ العزيزِ الحميدِ): (وهذه متابـَعـَةٌ جيِّدَةٌ).
وقال المنذريُّ في طريقِ الخزَّازِ هذه: (وهذه جيـِّدَةٌ إلا أنَّ الحسنَ اختلفَ في سماعِهِ من عمرانَ، قالَ ابنُ المدينيِّ وغيرُهُ: لم يسمَعْ منهُ، وقالَ الحاكمُ: أكثرُ مشايِخِنَا على أنَّهُ سمعَ من عمرانَ، واللهُ أعلمُ) اهـ.
قلْتُ: جزَمَ غيرُ واحدٍ من الأئمَّةِ على أنَّهُ لم يسمَعْ من عمرانَ، منهُمْ يحيى بنُ سعيدٍ القطَّانُ وعليُّ بنُ المدينيِّ ويحيى بنُ معينٍ وأحمدُ بنُ حنبلَ وبهزُ بنُ أسدٍ وأبو حاتمٍ الرَّازيُّ إلا أنِّي لم أقفْ على دليلٍ لهم في نفي سماعِهِ منه.
وقد خالَفَهُم غيرُهُم كما نقلَ الحاكمُ عن أكثرِ مشايخِهِ.
ومنهم بهزُ بنُ أسدٍ فقدْ جاءَ عنه روايةٌ أخرى تثبتُ أنَّهُ سمعَ منه.
قالَ العلائيُّ: (وقالَ بهزُ بنُ أسدٍ: سمعَ الحسنُ من عمرانَ بنِ حصينٍ ومن أبي بكرةَ شيئاً) اهـ.
وقد صحَّحَ سماعَهُ منه الحاكمُ والبزَّارُ.
قلتُ: سماعُ الحسنِ من عمرانَ بنِ حصينٍ ممكنٌ لا مانعَ منه البتَّةَ؛ لأنَّهُمَا قد استوطنَا البصرةَ معاً في عصرٍ واحدٍ، وبيانُ ذلك أنَّ عمرانَ بنَ حصينٍ كانَ في البصرةِ منذُ زمنِ عمرَ بنِ الخطَّابِ- رَضِي اللهُ عَنْهُما- إلى أنْ ماتَ بها سنةَ اثنتينِ وخمسينَ أو ثلاثٍ وخمسينَ للهجرةِ كمَا نصَّ على ذلك الحافظُ ابنُ حجرٍ وابنُ عبدِ البرِّ. ومولدُ الحسنِ البصريِّ في سنةِ إحدى وعشرين للهجرةِ؛ لقولِهِ: ولِدْتُ لسنتينِ بقيَتَا من خلافةِ عمرَ بنِ الخطَّابِ، كما نصَّ على ذلك البخاريُّ وابنُ سعدٍ.
وعمرُ- رَضِي اللهُ عَنْهُ- قد تُوفِّيَ سنةَ ثلاثٍ وعشرينَ للهجرةِ كما في(التَّقريبِ)للحافظِ ابنِ حجرٍ.
فإذا كانَ مولدُ الحسنِ سنةَ إحدى وعشرينَ، ووفاةُ عمرانَ سنةَ اثنتينِ وخمسينَ أو ثلاثٍ وخمسينَ يكونُ قد أدركَ الحسنُ من حياةِ عمرانَ إحدى وثلاثين سنةً.
وبهذا ثبتَتِ المعاصرَةُ.
وأمَّا المُسَاكنَةُ:فقدْ خرَجَ الحسنُ من المدينةِ النَّبويَّةِ ليالي صفِّينَ، نصَّ على ذلك ابنُ حبَّانَ وابنُ سعدٍ. قالَ ابنُ سعدٍ: (أخبرَنَا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ قالَ: أخبرَنَا أبو رجاءَ عن الحسنِ، فقلْتُ لهُ: متى عهدُكَ بالمدينةِ يا أبا سعيدٍ؟ قالَ: ليالي صفّينَ).إسنادُهُ صحيحٌ، وإسماعيلُ هو ابنُ عليَّةَ ثقةٌ حافظٌ، وأبو رجاءَ هو محمَّدُ بنُ سيفٍ ثقةٌ.وصفِّينُ وقعَتْ سنةَ سبعٍ وثلاثينَ للهجرةِ قالَهُ الذَّهبيُّ.
فأينَ - يا تُرَى - استوطَنَ الحسنُ البصريُّ رحمَهُ اللهُ بعدَ خروجِهِ من المدينةِ وعهدِهِ بهَا؟ فإذَا نظرْنَا إلى مراجعِ ترجمتِهِ لم نجدْ أنَّهُ سكَنَ غيرَ البصرةِ.
وعلى هذا فقدْ ثبَتَ أنَّ الحسنَ قد ساكنَ عمرانَ في البصرةِ منذُ ليالي صفِّينَ سنةَ سبعٍ وثلاثين إلى وفاةِ عمرانَ بنِ حصينٍ سنةَ اثنتينِ وخمسينَ أو ثلاثٍ وخمسينَ، أي خمسةَ عشرَ عاماً، هذا من وجهٍ.
ومن وجهٍ آخرأنَّهُ صرَّحَ الحسنُ بلُقْيِهِ بعمرانَ، فقدْ أخرجَ أحمدُ: ثنـَا يزيدُ أنَا شريكُ بنُ عبدِ اللهِ عن منصورٍ عن خيثمةَ عن الحسنِ قالَ: (كنْتُ أمشي مع عمرانَ بنِ حصينٍ، أحدُنَا آخذٌ بيدِ صاحبِهِ فمررْنَا بسائلٍ يقرأُ القرآنَ، فاحتبسَنِي عمرانُ وقالَ: قِفْ نستمعِ القرآنَ، فلمَّا فرغَ سألَ. فقالَ عمرانُ: انطلقْ بنا إنِّي سمعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((اقرؤوا القرآنَ وسَلُوا اللهَ تباركَ وتعالى بهِ، فإنَّ من بعدِكُمْ قوماً يقرؤونَ القرآنَ يسألونَ النَّاسَ بهِ)).شريكُ بنُ عبدِ اللهِ: هو القاضي صدوقٌ تغيَّرَ حفظُهُ منذُ وليَ القضاءَ بالكوفةِ إلا أنَّهُ رواهُ عنه يزيدُ وهو ابنُ هارونَ الواسطيِّ ثقةٌ متقِنٌ، وروايَتُهُ عنه قبلَ التَّغيرِ، نصَّ عليها ابنُ حبَّانَ.وقدْ تابعَ شريكاً زيادُ بنُ عبدِ اللهِ البكائيِّ الكوفيِّ وعبيدةُ بنُ حميدٍ الكوفيِّ عندَ الطَّبرانيِّ قالَ:(حدَّثَنَا عبدُ الرَّحمنِ بنُ سلمٍ الرَّازيُّ ثنَا سهلُ بنُ عثمانَ ثنَا زيادُ بنُ عبدِ اللهِ وعبيدةُ بنُ حميدٍ عن منصورٍ بهِ).فالسَّندُ إلى منصورٍ وهو ابنُ المعتمرِ صحيحٌ.وأمَّا خيثمةُ فهو ابنُ أبي خيثمةَ قالَ ابنُ معينٍ: ليسَ بشيءٍ.وابنُ معينٍ يطلقُ هذا اللقبَ على الرَّاوي- أحياناً -ويريدُ منه قلَّةَ حديثِهِ. يقولُ الحافظُ ابنُ حجرٍ في ترجمةِ عبدِ العزيزِ بنِ المختارِ البصريِّ: (وثـَّقهُ ابنُ معينٍ في روايةِ ابن الجنيدِ وغيرُهُ. وقالَ في روايةِ ابنِ أبي خيثمةَ: ليسَ بشيءٍ… إلى أنْ قالَ: قلْتُ: احتجَّ به الجماعةُ، وذكرَ ابنُ القطَّانِ الفاسيُّ أنَّ مرادَ ابنِ معينٍ بقولِهِ في بعضِ الرّواياتِ: ليسَ بشيءٍ، يعني أنَّ أحاديثَهُ قليلةٌ جدّاً) اهـ باختصارٍ.
قلْتُ:الرَّجلُ وثَّقَهُ ابنُ حبَّانَ وحسَّنَ حديثَهُ التّرمذيُّ، وهذا الأثرُ رواهُ عنه منصورُ بنُ المعتمرِ وقد قالَ أبو داودَ: إنَّهُ لا يروي إلا عن ثقةٍ، قالَهُ الحافظُ ابنُ حجرٍ.قلْتُ:ويؤيِّدُ هذا تصريحُهُ بالتَّحديثِ عن عمرانَ في أحاديثَ كثيرةٍ، منها:أخرجَ الإِمامُ أحمدُ: ثنَا معاويةُ ثنا زائدةُ عن هشامٍ قالَ: (زعمَ الحسنُ أنَّ عمرانَ بنَ حصينٍ حدَّثَهُ قالَ: (أُسْرِينَا معَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلةَ… الحديثُ).إسنادُهُ صحيحٌ.
معاويةُ هو ابنُ عمرو الأزديُّ ثقةٌ، وزائدةُ هو ابنُ قدامةَ ثقةٌ ثبتٌ، وهشامٌ هو ابنُ حسَّانَ القردوسيُّ ثقةٌ.وأخرجَ أيضاً: ثنَا هاشمُ بنُ القاسمِ ثنَا المباركُ عن الحسنِ أخبرَنِي عمرانُ بنُ حصينٍ قالَ: ((أمرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصَّدقةِ ونهَى عن المَثُلَةِ)).هاشمٌ ثقةٌ ثبتٌ والمباركُ هو ابنُ فضالةَ صدوقٌ يدلِّسُ، وقد عَنْعَنَ إلا أنَّ أحمدَ قالَ: ما رُوِيَ عن الحسنِ يُحْتَجُّ بِهِ، وتقدَّمَ.وأخرجَ أحمدُ أيضاً: ثنَا هاشمٌ ثنَا المبارَكُ عن الحسنِ قالَ: ثنَا عمرانُ بنُ حصينٍ قالَ: (أُتِيَ برجلٍ أعتقَ ستةَ مملوكينَ… الحديثُ.
وحديثُ البابِ عندَ أحمدَ كذلك فقد قالَ في روايتِهِ لهُ: ثنَا خلفُ بنُ الوليدِ ثنَا المباركُ عن الحسنِ قالَ: أخبرَني عمرانُ بنُ حصينٍ: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبصرَ على عضدِ رجلٍ … الحديثُ.
قالَ الشَّيخُ سليمانُ في اختلافِ أهلِ العلمِ في سماعِ الحسنِ من عمرانَ:(قلـْتُ: روايةُ الإِمامِ أحمدَ ظاهرةٌ في سماعِهِ منهُ فهو الصَّوابُ).
ولهُ عن عقبةَ بنِ عامرٍ مرفوعاً: ((منْ تعلَّقَ تميمةً فلا أتمَّ اللهُ لَهُ، ومن تَعَلَّقَ ودعَةً لا ودَعَ اللهُ لَهُ)).أخرجَهُ أحمدُ، والطَّحاويُّ، وأبو يعلَى، وابنُ عديٍّ، والدولابيُّ، والحاكمُ، وابن حبَّانَ، والبيهقيُّ، والطَّبرانيُّ.كلُّهُمْ من طريقِ حيوةَ بنِ شُرَيحٍ نا خالدُ بنُ عبيدِ المعافريُّ سمعْتُ مشرحَ بنَ هاعانَ سمعْتُ عقبةَ بنَ عامرٍ سمعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ… الحديثَ.
وأُعِلَّ بعلَّتينِ:
-جهالةِخالدِ بنِ عبيدٍ المعافريِّ حيثُ لم يوثِّقْهُ إلا ابنُ حبَّانَ.
-ومشرحُ بنُ هاعانَ المعافريُّ ليِّنُ الحديثِ.
قلْتُ: خالدُ بنُ عبيدِ المعافريُّ وثَّقَهُ ابنُ حبَّانَ والهيثميُّ والحافظُ ابنُ حجرٍ، وصحَّحَ حديثَهُ ابنُ حبَّانَ والحاكمُ والذَّهبيُّ والمنذريُّ ولم يجرِّحْهُ أحدٌ.
وإليكَ البيانَ:أمَّا ابنُ حبَّانَ فقدْ ذكَرَهُ في الثِّقَاتِ. وقالَ الهيثميُّ: ورجالُهُ ثقاتٌ، وأوردَ الحافظُ ابنُ حجرٍ توثيقَ ابنِ حبَّانَ لَهُ وقالَ:(قلـْتُ: ورجالُ حديثِهِ موثَّقُونَ) اهـ.
وأمَّا تصحيحُ حديثِهِ:فقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإِسنادِ، ووافَقَهُ الذَّهبيُّ على تصحيحِهِ، وقدْ أخرَجَ ابنُ حبَّانَ حديثَهُ في صحيحِهِ.
وقالَ المنذريُّ: إسنادُهُ جيِّدٌ.ومنْ هنا يكونُ خالدٌ هذا معروفاً عندَ أهلِ العلمِ بالحديثِ غيرَ مجهولٍ؛ لأنَّ توثيقَهُ وتصحيحَ حديثِهِ فرعٌ عن معرفتِهِ. واللهُ أعلمُ.
وأمَّا مشرحُ بنُ هاعانَ فقالَ ابنُ حبَّانَ في (المجروحينَ): (يروي عن عقبةَ أحاديثَ مناكيرَ لا يُتابَعُ عليها، والصَّوابُ في أمرِهِ تركُ ما انفرَدَ من الرِّواياتِ، والاعتبارُ بما وافقَ الثِّقاتِ) ثمَّ ذكرَهُ في (الثِّقاتِ) وقالَ: (يُخْطِئُ ويخالِف)ُ.
وقالَ ابنُ عديٍّ: (قالَ ابنُ معينٍ: ثقةٌ، وقالَ عثمانُ بنُ سعيدٍ يعني: الدَّارميَّ: صدوقٌ ثمَّ قالَ ابنُ عديٍّ: أرجو أنَّهُ لا بأسَ بهِ).وقالَ العجليُّ: مصريٌّ تابعيٌّ ثقةٌ.وقالَ الذَّهبيُّ: صدوقٌ، وفي موضعٍ آخرَ قالَ: ثقةٌ.
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (قالَ محمَّدُ بنُ عبدِ الواحدِ المقدسيُّ: مشرحٌ قد وثَّقَهُ يحيى بنُ معينٍ في روايةِ عثمانَ بنِ سعيدٍ. وابنُ معينٍ أعلمُ بالرِّجالِ من ابنِ حبَّانَ. قلتُ: وهو صدوقٌ عندَ الحفَّاظِ لم يتَّهِمْهُ أحدٌ البتَّةَ، ولا أَطْلَقَ عليه أحدٌ من أهلِ الحديثِ قطُّ أنَّهُ ضعيفٌ، ولا ضعَّفَهُ ابنُ حبَّانَ، وإنَّمَا قالَ: يروي عن عقبةَ بنِ عامرٍ مناكيرَ لا يُتَابَعُ عليها فالصَّوابُ تركُ ما انفردَ بهِ. وانفردَ ابنُ حبَّانَ من بينِ أهلِ الحديثِ بهذا القولِ فيهِ) اهـ.
قلْتُ:الحديثُ صحيحٌ على هذه الأقوالِ كلِّهَا، أمَّا عندَ الموثِّقينَ فتصحيحُهُمْ واضحٌ. وأمَّا عندَ ابنِ حبَّانَ فقدْ أخرجَهُ في صحيحِهِ كما رأيْتَ، هذا من وجهٍ. ومن وجهٍ آخرٍ فتليينُهُ له في حالِ تفرُّدِهِ، أمَّا إذا تابعَهُ الثِّقاتُ فيعتبرُهُ.
وقد تابعَهُ عليه دخينُ بنُ عامرٍ الحجريُّ، وقد ذكرَهُ هو في كتابِهِ الثِّقاتِ، خرَّجَهُ أحمدُ، والحاكمُ.
من طريقِ يزيدَ بنِ أبي منصورٍ عن دخينٍ الحجريِّ عن عقبةَ بنِ عامرٍ الجهنيِّ (أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبلَ إليهِ رهطٌ فبايعَ تسعةً وأمسكَ عن واحدٍ، فقالُوا: يا رسولَ اللهِ، بايعْتَ تسعةً وتركْتَ هذا؟ قالَ: ((إنَّ عليهِ تميمَةً))، فأدخلَ يدَهُ فقطعَهَا فبايَعَهُ، وقالَ: ((مـَنْ عَلَّقَ تميمةً فقدْ أشرَكَ)).
قالَ المنذريُّ: (رواهُ أحمدُ والحاكمُ ورواةُ أحمدَ ثقاتٌ).وقالَ الهيثميُّ: (رواةُ أحمدَ ثقاتٌ).ورمزَ لصحَّتِهِ السّيوطيُّ.ولهُ شاهدٌ بسندٍ حسنٍ عندَ الطَّحاويِّ عن رجلٍ من صدا قالَ: (أتيْنَا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثنَا عشَرَ رجلاً فبايعْنَاهُ وتركَ رجلاً منَّا لم يبايِعْهُ فقلْنَا: بايِعْهُ يا نبيَّ اللهِ، فقالَ: ((لن أبايعـَهُ حتَّى ينْزِعَ الَّذِي عليهِ، إنَّهُ من كانَ منَّا مثلُ الَّذي عليهِ كانَ مشركاً ما كانَتْ عليهِ…)) الحديثُ.