26 Oct 2008
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بابُ تَفْسِيرِ التَّوْحِيدِ وَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أُولَـئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ وَيَرجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عذابَ رَبِّكَ
كَانَ مَحذُورًا}[الإِسْرَاء:57]. وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا
تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهدِيْنِ (27)
وَجعلَها كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزُّخْرُف:26-28]. وَقَوْلِهِ: {اتَّخَذُواْ
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ
ابنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لا إلهَ
إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التَّوْبَة:31].
وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ ءامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه}[الْبَقَرَة:165].
وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ
قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ
حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وَشَرْحُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا بَعْدَهَا مِنَ الأَبْوَابِ.
فِيهِ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ وَأَهَمُّهَا، وَهُوَ:
تَفْسِيرُ التَّوحِيدِ وَتَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ، وَبَيَّنَهَا بِأُمُورٍ وَاضِحَةٍ:
مِنْهَا: آيَةُ الإِسْرَاءِ،
بَيَّنَ فِيهَا الرَّدَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
الصَّالِحِينَ، فَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.
وَمِنْهَا: آيَةُ (بَرَاءةٌ)
بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ
يُؤْمَرُوا إِلاَّ بِأَنْ يَعْبُدُوا إِلَهًا، وَاحِدًا مَعَ أَنَّ
تَفْسِيرَهَا الَّذِي لاَ إِشْكَالَ فِيهِ طَاعَةُ الْعُلَمَاءِ
وَالْعُبَّادِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ، لاَ دُعَاؤُهُمْ إِيَّاهُمْ.
وَمِنْهَا: قَوْلُ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لِلْكُفَّارِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فَاسْتَثْنَى مِنَ الْمَعْبُودِينَ رَبَّهُ.
وَذَكَرَ
سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ وَهَذِهِ الْمُوَالاَةَ هِيَ
تَفْسِيرُ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فَقَالَ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
وَمِنْهَا: آيَةُ الْبَقَرَةِ
فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ حُبًّا عَظِيمًا، وَلَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَحَبَّ النِّدَّ أَكْبَرَ مِنْ حُبِّ اللهِ؟فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يُحِبَّ إِلاَّ النِّدَّ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحِبَّ اللهَ؟!
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)).
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)
فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا لِلدَّمِ
وَالْمَالِ، بَلْ وَلاَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا، بَلْ وَلاَ
الإِقْرَارَ بِذَلِكَ، بَلْ وَلاَ كَوْنَهُ لاَ يَدْعُو إِلاَّ اللهَ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، بَلْ لاَ يَحْرُمُ مَالُهُ وَدَمُهُ حَتَّى
يُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ الْكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، فَإِنْ
شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ، فَيَا لَهَا مِنْ
مَسْأَلَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَأَجَلَّهَا؟!
وَيَا لَهُ مِنْ بَيَانٍ! مَا أَوْضَحَهُ! وَحُجَّةٍ مَا أَقْطَعَهَا لِلْمُنَازِعِ؟!
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ((1) أيْ: تفسيرُ هاتيْنِ الكلمتَيْنِ، والعَطْفُ لِتَغايُرِ اللَّفظَيْنِ، وإلا فالمَعْنَى واحدٌ.
ولَمَّا ذَكَرَ المُصَنِّفُ في الأبوابِ السَّابقةِ:
-التَّوحيدَ وفضائلَهُ.
-والدَّعوةَ إليهِ.
-والخوفَ مِن ضدِّهِ الَّذي هو الشِّركُ، فكَأَنَّ النُّفوسَ اشْتَاقَتْ إلى معرفةِ هذا الأَمْرِ الَّذي خُلِقَتْ له الخَلِيقَةُ، والَّذي بَلَغَ مِن شَأْنِهِ عندَ اللهِ أنَّ مَن لَقِيَهُ بهِ غَفَرَ لَهُ، وإنْ لَقِيَهُ بمِلْءِ الأَرْضِ خَطايا.
بيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ في هذا البابِ أنَّهُ ليسَ اسمًا لا مَعْنَى له، أو قولاً لا حقيقةَ له، كمَا يَظُنُّهُ الجاهِلُونَ الَّذينَ يَظُنُّونَ أنَّ غايَةَ التَّحقيقِ فيه هو النُّطْقُ بكلمةِ الشَّهادةِ؛ مِن غيرِ اعْتِقادِ القلبِ بشَيْءٍ مِن المَعاني، والحاذِقُ منهُم يَظُنُّ أنَّ معنَى الإلَهِ هو الخالِقُ المُتَفَرِّدُ بالمُلْكِ، فَتَكونُ غايةُ معرفتِهِ هو الإقرارَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وهذا ليسَ هو المرادَ بالتَّوحيدِ، ولا هو أيضًا معنَى (لا إلهَ إلا اللهُ) وإنْ كانَ لا بدَّ منه في التَّوحيدِ، بل التَّوحيدُ اسمٌ لمعنًى عظيمٍ، وقولٌ له معنًى جليلٌ هو أجلُّ مِن جميعِ المَعاني.
وحاصلُهُ هو: البراءةُ مِن عبادِةِ كُلِّ ما سِوَى اللهِ.
-والإقبالُ بالقلبِ والعبادةِ على اللهِ، وذلك هو معنى الكُفْرِ بالطَّاغوتِ، والإيمانِ باللهِ، وهو معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ):
-كمَا قالَ تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163].
-وقالَ تعالى حِكايةً عن مُؤْمِنِ يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلهةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[يس:22-24].
- وقالَ تعالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّه الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لأَِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِي}[الزُّمَر:11-14].
- وقالَ تَعالَى حِكايةً عن مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُـمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَِكْـفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ له دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ}[غافر:41-43].
والآياتُ في هذا كثيرةٌ تُبَيِّنُ أنَّ معنَى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) هو البَراءةُ مِن عِبادةِ ما سِوى اللهِ مِن الشُّفعاءِ والأَنْدادِ، وإفرادُ اللهِ بالعبادةِ.
فهذا هو الهُدَى، ودِينُ الحَقِّ الَّذي أَرْسَلَ اللهُ بهِ رسلَهُ، وأَنْزَلَ بهِ كُتُبَهُ.
أمَّا قولُ الإنسانِ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) مِن غيرِ معرفةٍ لِمعناها، ولا عملٍ بِهِ، أو دَعْوَاه أنَّهُ مِن أَهْلِ التَّوحيدِ، وهو لا يَعْرِفُ التَّوحيدَ، بل رُبَّما يُخْلِصُ لغيرِ اللهِ مِن عباداتِهِ مِن الدُّعاءِ والخَوْفِ والذَّبحِ والنَّذْرِ والتَّوبةِ والإنابةِ وغيرِ ذلك مِن أنواعِ العباداتِ، فلا يَكْفِي في التَّوحيدِ، بل لا يَكونُ إلاَّ مُشْرِكاً والحالةُ هذهِ، كمَا هو شأنُ عُبَّادِ القبورِ.
(2)ثُمَّ ذَكَرَ المصنِّفُ آياتٍ تَدُلُّ عَلَى هذا، فَقَالَ: (وقولُ اللهِ تَعالَى:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء:57] الآيةَ.
قُلْتُ: يُبَيِّنُ معنى هذه الآيةِ الَّتي قبلَهَا، وهي قولُهُ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}[الإسراء:56] الآيةَ.
- قالَ ابنُ كثيرٍ: (يَقُولُ تعالى: قلْ للمُشْرِكِينَ: ادْعُوا الَّذِينَ زعمْتُمْ مِن دونِهِ مِن الأَنْدادِ، وارْغَبُوا إليهِمْ، فإنَّهُم لا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عنكُمْ، أي: بالكُلِّيَّةِ، ولا تَحْوِيلاً، أي: أن يُحَوِّلُوه إلى غيرِكُمْ، والمعنَى: إنَّ الَّذي يَقْدِرُ عَلَى ذلك هو اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ).
-قالَ العَوْفِيُّ عن ابنِ عَبَّاسٍ في الآيةِ: (كانَ أهلُ الشِّركِ يَقولُونَ: نَعْبُدُ الملائكةَ والمَسِيحَ وعُزَيْرًا. وهم الَّذينَ يَدْعُونَ؛ يَعْنِي: الملائكةَ وعُزَيْرًا).
وقولُهُ: {أُولَـئِكَ الَّذينَ يَدْعُونَ} الآيةَ.
-ورَوَى البُخارِيُّ عن ابنِ مَسْعُودٍ في الآيةِ قالَ: (نَاسٌ مِن الجِنِّ كانُوا يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا).
- وفي رِوايةٍ: (كانَ ناسٌ مِن الإِنْسِ يَعْبُدُونَ ناسًا مِن الجِنِّ، فَأَسْلَمَ الجِنُّ، وتَمَسَّكَ هؤلاءِ بدِينهِم).
-وقالَ السُّدِّيُّ عن أَبِي صالحٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ في الآيةِ: قالَ: (عِيسَى وأُمَّهُ وعُزَيْراً).
-وقَالَ مُغِيرةُ بنُ إِبْراهِيمَ: (كانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقولُ في هذه الآيةِ: هم عِيسَى وعُزَيْرٌ والشَّمْسُ والقَمَرُ).
-وقالَ مُجاهدٌ: (عِيسَى وعُزَيْرٌ والمَلائِكةُ).
وقولُهُ: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء:57] لا تَتِمُّ العبادةُ إلاَّ بالخوفِ والرَّجاءِ.
وفي التَّفسيرِ المَنْسوبِ إلى الطَّبَرِيِّ الحَنَفِيِّ: (قلْ للمُشْرِكينَ يَدْعُونَ أَصْنامَهُم دُعاءَ اسْتِغاثَةٍ فلا يَقْدِرُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عنهم، ولا تَحْوِيلاً إلى غيرِهِم أولئك الَّذينَ يَدْعُونَ، أي: المَلائِكةُ المَعْبُودةُ لهم يَتَبادَرُونَ إلى طَلَبِ القُرْبَةِ إلى اللهِ، فيَرْجُونَ رحمتَهُ، ويَخافُونَ عذابَهُ، إنَّ عذابَ ربِّكَ كانَ مَحْذورًا، أيْ: مِمَّا يَحْذَرُهُ كلُّ عاقلٍ).
وعن الضَّحَّاكِ وعَطاءٍ، أنَّهُم الملائكةُ.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ: (أولئك الَّذينَ يَدْعُونَ عِيسَى وأُمَّه وعُزَيْراً).
قالَ شيخُ الإسلامِ: (وهذه الأقوالُ كلُّهَا حقٌّ، فإنَّ الآيةَ تَعُمُّ مَن كانَ مَعْبودُهُ عابدًا للهِ؛ سَواءٌ كانَ مِن الملائكةِ أو مِن الجِنِّ أو مِن البشرِ، والسَّلَفُ في تفسيرِهِم يَذْكُرُونَ جِنْسَ المُرادِ بالآيةِ عَلَى نوعِ التَّمْثِيلِ، كمَا يقولُ التُّرْجُمانُ لِمَنْ سَألَهُ: (ما معنى لفظِ الخبزِ؟) فيُرِيه رَغِيفًا، فَيَقولُ: هذا. فالإشارةُ إلى نوعِهِ لا إلى عَيْنِهِ، وليسَ مرادُهم بذلك تَخْصِيصَ نوعٍ دونَ نَوْعٍ مَع شُمولِ الآيةِ للنَّوعَيْنِ، فالآيةُ خِطابٌ لِكلِّ مَن دَعَا دونَ اللهِ مَدْعُوًّا. وذلك المَدْعُوُّ يَبْتَغِي إلى اللهِ الوسيلةَ، ويَرْجُو رحمتَهُ ويَخافُ عَذابَهُ. فكلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أو غائبًا مِن الأنبياءِ [الصَّالحينَ] سَواءٌ كانَ بلفظِ الاستغاثةِ أو غيرِهَا، فقد تَنَاوَلَتْهُ هذه الآيةُ، كمَا تَتَناوَلُ مَن دَعَا الملائكةَ والجِنَّ، ومعلومٌ أنَّ هؤلاءِ كُلَّهُم يَكونونَ وَسَائِطَ فيما يُقَدِّرُهُ اللهُ بأفعالهِم، ومعَ هذا فقد نَهَى اللهُ عن دُعائِهِم، وبَيَّنَ أنَّهم لا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عن الدَّاعِينَ، ولا تَحْوِيلَهُ، لا يَرْفَعُونَهُ بالكلِّيَّةِ، ولا يُحَوِّلُونَهُ مِن مَوْضِعٍ إلى موضعٍ، كتَغْييرِ صِفتِهِ أو قَدْرِهِ، ولهذا قالَ: {ولا تَحْوِيلاً} فَذُكِرَ نَكِرةً تَعُمُّ أنواعَ التَّحْوِيلِ.
فكُلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أو غائبًا مِن الأنبياءِ والصَّالحينَ، أو دَعَا الملائكةَ أو دَعَا الجِنَّ، فقد دَعَا مَن لا يُغِيثُهُ، ولا يَمْلِكُ كَشْفَ الضُّرِّ عنه، ولا تَحْوِيلَهُ) انْتَهَى.
وبنحوِ ما تَقَدَّمَ مِن كلامِ هؤلاءِ قالَ جميعُ المُفَسِّرِينَ.
فتَبيَّنَ أنَّ مَعْنَى التَّوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ:هو تَرْكُ ما عليهِ المشركونَ مِن دعوةِ الصَّالحينَ، والاسْتِشْفاعِ بِهِم إلى اللهِ في كَشْفِ الضُّرِّ وتَحويلِهِ، فكيفَ مِمَّنْ أَخْلَصَ لَهُم الدَّعوةَ، وأنَّهُ لا يَكْفِي في التَّوحيدِ دَعْوَاه، والنُّطْقُ بكلمةِ الشَّهادةِ مِن غيرِ مُفارقةٍ لِدينِ المُشركينَ، وأنَّ دُعاءَ الصَّالحينَ لكشفِ الضُّرِّ أو تحويلِهِ هو الشِّركُ الأكبرُ، نَبَّهَ عليهِ المُصَنِّفُ.
(3)قالَ: (وقولُهُ:{وَإِذْ قالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}[الزُّخْرُف:26،27] الآيةَ).
قالَ ابنُ كَثِيرٍ: (يَقُولُ -تَعالَى- مُخْبِرًا عن عبدِهِ ورسولِهِ وخليلِهِ إمامِ الحُنفاءِ، ووالدِ مَن بُعِثَ بعدَهُ مِن الأنبياءِ، الَّذي تَنْتَسِبُ إليهِ قُرَيْشٌ في نَسَبِهَا ومَذْهبِهَا؛ أنَّهُ تَبَرَّأَ مِن أَبِيه وقومِهِ في عبادتِهِم الأوثانَ فقالَ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}[الزخرف:26-28] أي: هذه الكلمةَ، وهي عبادةُ اللهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وخَلْعُ ما سِواه مِن الأَوْثانِ، وهي (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) أي: جَعَلَهَا في ذُرِّيَّتِهِ يَقْتَدِي بهِ فيها مَن هَدَاهُ اللهُ مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ، (لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ) أي: إليها.
- قالَ عِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ والضَّحَّاكُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ وغيرُهُم في قولِهِ:{وَجَعَلَها كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يَعْنِي (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) لا يَزَالُ في ذُرِّيَّتِهِ، مَن يقولُهَا.
- وقالَ ابنُ زَيْدٍ: كلمةُ الإسلامِ، وهو يَرْجِعُ إلى ما قالَهُ الجماعةُ).
قُلْتُ: ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ عن قَتادَةَ في قولِهِ: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}[الزخرف:27] قالَ: (خَلَقَنِي).
وعنْهُ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}[الزخرف:26،27]قالَ: (إنَّهُمْ يَقولونَ: إنَّ اللهَ رَبُّنَا، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ}[الزخرف:87] فلم يَبْرَأْ مِن رَبِّهِ) رَوَاهُ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ.
قُلْتُ: يَعْنِي أنَّ قَوْمَ إبراهيمَ يَعْبُدُونَ اللهَ ويَعْبُدُونَ غيرَهُ، فَتَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللهَ، لا كمَا يَظُنُّ الجُهَّالُ أنَّ الكُفَّارَ لا يَعْرِفُونَ اللهَ، ولا يَعْبُدُونَهُ أَصْلاً.
ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، عن قَتادَةَ: {وَجَعَلهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}[الزخرفُ:28] قالَ: (الإخلاصُ والتَّوحيدُ، لا يَزَالُ في ذُرِّيَّتِهِ من يُوَحِّدُ اللهَ ويَعْبُدُهُ).
فَتَبَيَّنَ بهذا أنَّ معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) هو البَرَاءةُ مِمَّا يُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ، وإفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وذلك هو التَّوحيدُ لا مُجَرَّدُ الإقرارِ بوجودِ اللهِ ومُلْكِهِ وقُدْرَتِهِ وخَلْقِهِ لكُلِّ شيءٍ، فإنَّ هذا يُقِرُّ بِهِ الكُفَّارُ، وذلك هو معنَى قولِهِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فاسْتَثْنَى مِن المَعْبودِينَ رَبَّهُ، وذَكَرَ سبحانَهُ أنَّ هذه البَرَاءةَ وهذه المُوَالاةَ هي شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، قالَهُ المُصَنِّفُ.
(4)قال: (وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللهِ}) [التوبة:33].
الأَحْبَارُ: هم العُلماءُ.
والرُّهْبانُ: هم العُبَّادُ.
وهذه الآيةُ قد فَسَّرَهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ، وَذَلِكَ أنَّهُ لَمَّا جَاءَ مُسْلِمًا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ قالَ: (فَقُلْتُ: إنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ، فَقَالَ:((إنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ وَحَلَّلُوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَاكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ))رَوَاهُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، وابنُ سَعْدٍ، وابنُ أَبِي حاتمٍ، والطَّبَرَانِيُّ، وغيرُهُم مِن طُرُقٍ، وهكذا قالَ جميعُ المُفَسِّرِينَ.
- قالَ السُّدِّيُّ: (اسْتَنْصَحُوا الرِّجالَ، ونَبَذُوا كِتابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهورِهِم، ولِهذا قالَ تَعَالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[التوبة:31]أي: الَّذي إذا حَرَّمَ شيئًا فهو الحرامُ وما حَلَّلَهُ حَلَّ، وما شَرَعَهُ اتُّبِعَ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}أي: تعالَى وتَقَدَّسَ عن الشُّرَكاءِ والنُّظَراءِ والأَضْدَادِ والأندادِ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ، ولا رَبَّ سِواهُ).
ومُرادُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ بإيرادِ الآيةِ هنا أنَّ الطَّاعةَ في تحريمِ الحلالِ، وتحليلِ الحرامِ، مِن العبادةِ المَنْفِيَّةِ مِن غيرِ اللهِ تعالى، ولهذا فُسِّرَت العِبادةُ بالطَّاعةِ، وفُسِّرَ الإلهُ بالمَعْبودِ المُطاعِ، فمَن أَطَاعَ مَخْلوقاً في ذلك فَقَدْ عَبَدَهُ، إذ مَعْنَى التَّوحيدِ، وشَهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ يَقْتَضِي إفرادَ اللهِ بالطَّاعةِ، وإفرادَ الرَّسولِ بالمُتابَعةِ، فإنَّ مَن أَطَاعَ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدْ أَطَاعَ اللهَ، وهذا أَعْظَمُ ما يُبَيِّنُ التَّوحيدَ وشهادةَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، لأنَّها تَقْتَضِي نَفْيَ الشِّركِ في الطَّاعةِ، فما ظَنُّكَ بشِرْكِ العِبادةِ، كالدُّعاءِ والاسْتِغاثةِ والتَّوبةِ وسُؤالِ الشَّفاعةِ وغيرِ ذلك مِن أنواعِ الشِّركِ في العِبادةِ، وسيَأْتِي مَزِيدٌ لهذا إنْ شاءَ اللهُ تعالى في بابِ مَنْ أَطَاعَ العُلَماءَ والأُمَراءَ.
(5)قال: (وقوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله})[البقرة:166].
قالَ المُصَنِّفُ-رَحِمَهُ اللهُ- في مَسائلِهِ:
ومنها:أيْ: مِن الأمورِ المُبَيِّنةِ لِتفسيرِ التَّوحيدِ، وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، آيةُ البقرةِ في الكُفَّارِ الَّذينَ قالَ اللهُ فيهم: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167] وذَكَرَ أنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُم كَحُبِّ اللهِ، فدَلَّ عَلَى أنَّهُم يُحِبُّونَ اللهَ حُبًّا عظيمًا، ولم يُدْخِلْهُم في الإسلامِ، فكيفَ بمَن أَحَبَّ النِّدَّ حُبًّا أَكْبَرَ مِن حُبِّ اللهِ؟
فكيف بمَن لم يُحِبَّ إلاَّ النِّدَّ وحدَهُ، ولم يُحِبَّ اللهَ؟
قُلْتُ: مُرادُهُ أنَّ معنى التّوحيدِ، وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، هو إفرادُ اللهِ بأصلِ الحُبِّ الَّذي يَسْتَلْزِمُ إخلاصَ العبادةِ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ،وعلى قَدْرِ التَّفاضُلِ في هذا الأصلِ، وما يَنْبَنِي عليهِ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ يكونُ تَفاضُلُ الإيمانِ والجَزاءُ عليه في الآخرةِ.
فمَنْ أشرَكَ باللهِ -تعالى- في ذلك فهو المشركُ، لهذهِ الآيةِ، أَخْبَرَ تعالَى عن أهلِ هذا الشِّركِ أنَّهُمْ يَقولونَ لآلهتِهِم وهم في الجَحِيمِ: {تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشُّعَراء:97، 98] ومعلومٌ أنَّهُم ما ساوَوْهُمْ بهِ في الخَلْقِ والرَّزْقِ والمُلْكِ، وإنَّما ساوَوْهُمْ بهِ في المَحَبَّةِ والإلهيَّةِ والتَّعظيمِ والطَّاعةِ.
فمَنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) وهو مُشركٌ باللهِ في هذهِ المَحَبَّةِ، فما قالَهَا حقَّ القولِ وإن نَطَقَ بهَا، إذ هو قَدْ خالَفَهَا بالعملِ، كمَا قالَ المُصَنِّفُ: فكيفَ بمَنْ أَحَبَّ النِّدَّ حُبًّا أَكْبَرَ مِن حُبِّ اللهِ؟!
وسيَأْتِي الكلامُ عَلَى هذه الآيةِ في بابِهَا إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
(6)قولُهُ: (في الصَّحيحِ) أي: (صحيحِ مُسْلِمٍ) عن أَبِي مالِكٍ الأَشْجَعِيِّ عن أَبِيهِ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ.
وأَبُو مالِكٍ اسمُهُ سَعْدُ بنُ طارِقٍ، كُوفِيٌّ ثِقةٌ، ماتَ في حدودِ الأربعينَ ومِائةٍ، وأبوهُ طارِقُ بنُ أَشْيَمَ، بالمُعْجَمةِ والمُثنَّاةِ التَّحْتيَّةِ وَزْنُ أَحْمَرَ، ابنِ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيُّ صَحابيٌّ له أَحادِيثُ.
قالَ مُسْلِمٌ: (لم يَرْوِ عنه غيرُ ابنِهِ).
قولُهُ: (مَنْ قالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ) اعْلَمْ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ عَلَّقَ عِصْمةَ المالِ والدَّمِ بأَمْرَينِ:
الأوَّلِ: قولُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
الثَّاني:الكُفْرُ بما يُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ،فلم يَكْتَفِ باللَّفْظِ المُجَرَّدِ عن المَعْنَى، بل لا بدَّ مِن قولِها والعملِ بِهَا.
قالَ المصنِّفُ: (وهذا مِن أَعْظَمِ ما يُبَيِّنُ مَعْنى لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فإنَّهُ لم يَجْعَل التَّلفُّظَ بها عاصِمًا للدَّمِ والمالِ، بل ولا معرفةَ معناها معَ التَّلفُّظِ بهَا، بل ولا الإقرارَ بذلك، بل ولا كَوْنَهُ لا يَدْعُو إلاَّ اللهَ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، بل لا يَحْرُمُ دمُهُ ومالُهُ حتَّى يُضِيفَ إلى ذلك الكُفْرَ بما يُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ، فإنْ شَكَّ أو تَرَدَّدَ لم يَحْرُمْ مالُهُ ودَمُهُ، فيا لَها مِن مَسْألةٍ ما أَجَلَّها، ويا لهُ مِن بَيانٍ ما أَوْضَحَهُ، وحُجَّةٍ ما أَقْطَعَهَا للمُنازِعِ).
قُلْتُ: وقد أَجْمَعَ العُلماءُ عَلَى معنَى ذلك، فلا بدَّ في العِصْمةِ مِن الإِتْيانِ بالتَّوحيدِ، والْتِزامِ أحكامِهِ، وتَرْكِ الشِّرْكِ كمَا قالَ تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ}[الأنفال:39].
والفِتْنةُ هنا:الشِّركُ، فدَلَّ عَلَى أنَّهُ إذا وُجِدَ الشِّركُ، فالقتالُ باقٍ بحالِهِ:
-كمَا قالَ تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}[التوبة:36].
-وقالَ تعالى:{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التوبة:5] فَأَمَرَ بقِتالِهِم عَلَى فِعلِ التَّوحيدِ، وتَرْكِ الشِّرْكِ، وإقامةِ شَعائرِ الدِّينِ الظَّاهرةِ، فإذا فَعَلُوهَا خُلِّيَ سَبيلُهُم، ومتَى أَبَوْا عن فِعلِهَا أو فِعلِ شيءٍ مِنها، فالقتالُ باقٍ بحالِهِ إجماعًا، ولو قالُوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
وكذلِكَ:النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ العِصْمةَ بما عَلَّقَهَا اللهُ بهِ في كِتابِهِ كما في هذا الْحَدِيثِ.
وفي (صَحيحِ مُسْلِمٍ) عن أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ويُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عنه قالَ: (لَمَّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ وكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِن العَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لأَبِي بَكْرٍ: كيفَ تُقاتِلُ النَّاسَ، وقدْ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَمَنْ قالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَه وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)).
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (واللهِ لأَُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المَالِ، واللهِ لو مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقاتَلْتُهم عَلَى مَنْعِهِ).
فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: (فواللهِ ما هو إلاَّ أنْ رَأَيْتُ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَأَبِي بَكْرٍ لِلقِتالِ، فعَرَفْتُ أنَّهُ الحَقُّ) لَفْظُ مُسْلِمٍ.
فانْظُرْ كَيْفَ فَهِمَ صِدِّيقُ الأمَّةِ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُرِدْ مجرَّدَ اللَّفْظِ بِهَا مِن غيرِ إِلْزامٍ لِمعناها وأَحْكامِهَا، فكانَ ذلك هو الصَّوابَ، واتَّفَقَ عليهِ الصَّحابةُ، ولم يَخْتَلِفْ فيه مِنْهم اثْنانِ إلاَّ ما كانَ مِن عُمَرَ حتَّى رَجَعَ إِلَى الحَقِّ.
وكانَ فَهْمُ الصِّدِّيقِ هو المُوافِقَ لِنُصوصِ القرآنِ والسُّنَّةِ.
وفي (الصَّحيحَيْنِ) أيضًا عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهم إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ)).
فهذا الحَدِيثُ كآيةِ بَرَاءةَ، بَيَّنَ فيه ما يُقاتَلُ عليه النَّاسُ ابْتِداءً، فإذا فَعَلُوهُ، وَجَبَ الكَفُّ عنهُمْ إلاَّ بِحَقِّهِ، فإن فَعَلُوا بعدَ ذلِكَ ما يُناقِضُ هذا الإِقْرارَ والدُّخولَ في الإسلامِ، وَجَبَ القتالُ حتَّى يكونَ الدِّينُ كلُّهُ للهِ، بل وأَقَرُّوا بالأركانِ الخَمْسةِ وفَعَلُوهَا، وأَبَوْا عن فعلِ الوُضوءِ للصَّلاةِ ونحوِهِ، أو عن تَحْرِيمِ بَعْضِ مُحَرَّماتِ الإسلامِ كالرِّبا أو الزِّنا أو نحوِ ذلك وَجَبَ قِتالُهُم إجماعًا، ولم تَعْصِمْهُمْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ، ولا ما فَعَلُوهُ مِن الأركانِ.
وهذا مِن أَعْظَمِ ما يُبَيِّنُ معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) وأنَّهُ ليسَ المرادُ منها مجرَّدَ النُّطْقِ، فإذا كانَتْ لا تَعْصِمُ مَن اسْتَباحَ مُحَرَّماً، أو أَبَى عن فِعْلِ الوُضوءِ مَثَلاً بل يُقَاتَلُ عَلَى ذلك حتىَّ يَفْعَلَهُ، فكيفَ تَعْصِمُ مَنْ دانَ بالشِّركِ وفَعَلَهُ وأَحَبَّهُ ومَدَحَهُ، وأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، ووَالَى عليهِ، وعَادَى عليهِ، وأَبْغَضَ التَّوحِيدَ الَّذي هو إخلاصُ العبادةِ للهِ، وتَبَرَّأَ منه، وحارَبَ أهلَهُ، وكَفَّرَهُم، وصَدَّ عن سبيلِ اللهِ كمَا هو شأنُ عُبَّادِ القُبورِ؟
وقدْ أجمعَ العلماءُ عَلَى أنَّ منْ قالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وهو مُشْرِكٌ، أنَّهُ يُقاتَلُ حتَّى يَأْتِيَ بالتَّوحيدِ.
ذِكْرُ التَّنْبيهِ عَلَى كلامِ العُلماءِ في ذلك:
فإنَّ الحاجةَ داعيةٌ إليه لدَفْعِ شُبَهِ عُبَّادِ القبورِ في تَعَلُّقِهِم بهِذه الأحاديثِ وما في معناها مع أنَّهَا حُجَّةٌ عليهم، بحَمْدِ اللهِ، لا لَهُمْ.
- قالَ أَبُو سُلَيْمانَ الخَطَّابيُّ في قولِهِ:( ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))معلومٌ أنَّ المُرادَ بهذا أَهْلُ الأَوْثانِ دونَ أهلِ الكتابِ؛ لأنَّهُم يَقُولُونَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ثُمَّ يُقَاتَلونَ، ولا يُرْفَعُ عنهم السَّيفُ).
-وقالَ القاضِي عِياضٌ: (اخْتِصاصُ عَصْمِ المالِ والنَّفسِ بمَنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) تعبيرٌ عن الإجابةِ إلى الإيمانِ، وأنَّ المرادَ بذلك مُشْرِكُو العربِ، وأهلُ الأوثانِ، ومَن لا يُوَحِّدُ، وهم كانُوا أوَّلَ مَن دُعِيَ إلى الإسلامِ، وقُوتِلَ عليهِ، فأمَّا غيرُهُم ممَّنْ يقرُّ بِالتَّوحيدِ فلا يُكْتَفَى في عِصْمتِهِ بقولِهِ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) إذ كانَ يَقولُهَا في كفرِهِ، وهي مِن اعْتِقادِهِ، فلذلِكَ جاءَ في الحديثِ الآخَرِ: ((وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ))).
-وقالَ النَّوَوِيُّ: (لا بدَّ معَ هذا مِن الإيمانِ بجميعِ ما جاءَ بهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكمَا جاءَ في الرِّوايةِ الأُخْرَى:((وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بهِ))).
-وقالَ شيخُ الإسلامِ لَمَّا سُئِلَ عن قتالِ التَّتارِ مَعَ التَّمسُّكِ بالشَّهادتينِ، لِمَا زَعَمُوا مِن اتِّباعِ أصلِ الإسلامِ، فقالَ: (كلُّ طائفةٍ مُمْتَنِعةٍ مِن التزامِ شرائعِ الإسلامِ الظَّاهرةِ المُتَوَاتِرةِ مِن هؤلاءِ القومِ أو غيرِهِمْ، فإنَّهُ يَجِبُ قِتالهُم حتَّى يَلْتَزِمُوا شرائعَهُ، وإنْ كانُوا مع ذلِكَ ناطِقِين بالشَّهادتينِ مُلْتَزِمِينَ بعضَ شرائعِهِ، كمَا قاتَلَ أبو بَكْرٍ والصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مانِعِي الزَّكَاةِ، وعلى ذلك اتَّفَقَ الفُقَهاءُ بَعْدَهم).
قالَ: (فأَيُّمَا طائفةٍ ممتنعةٍ امْتَنَعَتْ عن بعضِ الصَّلواتِ المَفْرُوضاتِ، أو الصِّيامِ أو الحَجِّ، أو عن التزامِ تحريمِ الدِّماءِ أو الأموالِ أو الخَمْرِ أو المَيْسِرِ، أو نِكاحِ ذَوَاتِ المَحارِمِ، أو عن التزامِ جِهادِ الكُفَّارِ، أو ضَرْبِ الجِزْيَةِ عَلَى أهلِ الكتابِ، أو غيرِ ذلك مِن التزامِ وَاجِباتِ الدِّينِ أو مُحَرَّماتِهِ الَّتي لا عُذْرَ لأحدٍ في جُحودِهَا أو تَرْكِهَا، الَّتي يَكْفُرُ الواحدُ بِجُحودِهَا، فإنَّ الطَّائفةَ المُمْتَنِعةَ تُقَاتَلُ عليها وإنْ كانَتْ مُقِرَّةً بِها، وهذا مِمَّا لا أَعْلَمُ فيه خِلافاً بين العُلماءِ).
قالَ: (وهؤلاءِ عندَ المُحَقِّقِينَ مِن العُلماءِ لَيْسوا بمَنْزِلةِ البُغَاةِ، بل هم خارِجونَ عن الإسلامِ بمنزلةِ مانِعِي الزَّكاةِ، ومِثلُ هذا كثيرٌ في كلامِ العلماءِ).
والمقصودُ التَّنبيهُ عَلَى ذلك،ويَكْفِي العاقلَ المُنْصِفَ ما ذَكَرَهُ العلماءُ مِن كلِّ مَذْهبٍ في بابِ حُكْمِ المُرْتَدِّ، فإنَّهُم ذَكَرُوا فيهِ أشياءَ كثيرةً يَكْفُرُ بها الإنسانُ، ولو أَتَى بجميعِ الدِّينِ.
وهو صَرِيحٌ في كُفْرِ عُبَّادِ القبورِ، ووُجُوبِ قِتالِهِم إنْ لم يَنْتَهُوا حَتَّى يَكونَ الدِّينُ للهِ وحدَهُ، فإذا كانَ مَن التزَمَ شرائعَ الدِّينِ كُلَّها إلاَّ تحريمَ المَيْسِرِ أو الرِّبَا أو الزِّنَا يَكونُ كافرًا يَجِبُ قِتالُهُ، فكيفَ بمَنْ أَشْرَكَ باللهِ ودُعِيَ إلى إِخْلاصِ الدِّينِ للهِ، والبراءةِ والكفرِ بمَنْ عَبَدَ غيرَ اللهِ، فَأَبَى عن ذلك، واسْتَكْبَرَ وكانَ مِن الكافِرِينَ؟!
قولُهُ: (وحِسابُهُ عَلَى اللهِ) أي: إلى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هو الَّذي يَتَوَلَّى حِسابَهُ، فإن كانَ صادقًا مِن قلبِهِ جازَاهُ بِجَنَّاتِ النَّعيمِ، وإنْ كانَ مُنافِقاً عذَّبَهُ العذابَ الأليمَ.
وأمَّا في الدُّنْيَا، فالحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ، فمَن أَتَى بالتَّوحيدِ والْتَزَمَ شرائِعَهُ ظاهرًا، وَجَبَ الكَفُّ عنهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ منه ما يُخالِفُ ذلك.
واسْتَدَلَّ الشَّافعيَّةُ بالحديثِ عَلَى قَبولِ توبةِ الزِّنْدِيقِ،وهو الَّذي يُظْهِرُ الإسلامَ، ويُسِرُّ الكفرَ. والمشهورُ في مَذْهبِ أحمدَومالكٍ أنَّهَا لا تُقْبَلُ؛ لقولِهِ تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}[البقرة:160] والزِّنديقُ لا يَتَبَيَّنُ رُجوعُهُ؛ لأنَّهُ مُظْهِرٌ للإسلامِ، مُسِرٌّ للكُفْرِ، فإذا أَظْهَرَ التَّوبةَ لم يَزِدْ عَلَى ما كانَ منه قَبْلَهَا.والحديثُ مَحْمولٌ عَلَى المُشْرِكِ.
-ويَتَفَرَّعُ عَلَى ذلك سُقوطُ القتلِ وعدمُهُ، أمَّا في الآخرةِ، فإنْ كانَ دخلَ في الإسلامِ صادقاً قُبلَتْ.وفيه:وُجوبُ الكَفِّ عن الكافرِ إذا دَخَلَ في الإسلامِ ولو في حالِ القتالِ حتىَّ يَتَبَيَّنَ منه ما يُخالِفُ ذلِكَ.وفيه: أنَّ الإنسانَ قد يَقُولُ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ولا يَكْفُرُ بما يُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ.وفيهِ:أنَّ شرطَ الإيمانِ الإقرارُ بالشَّهادةِ،والكفرُ بما يُعْبَدُ من دونِ اللهِ مع اعتقادِ ذلك واعتقادِ جميعِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وفيه:أنَّ أَحْكَامَ الدُّنيَا عَلَى الظَّاهرِ،وأنَّ مالَ المُسْلِمِ ودَمَهُ حَرَامٌ إلاَّ في حَقٍّ كالقَتْلِ قِصاصًا ونحوِهِ، وتَغْرِيمِهِ قيمةَ ما يُتْلِفُهُ.
(7)قولُهُ: (وشَرْحُ هذه التَّرجمةِ ما بعدَهَا من الأبوابِ) يَعْنِي أَنَّ ما يَأْتِي بَعْدَ هذهِ التَّرجمةِ من الأبوابِ شرحٌ للتَّوحيدِ، وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ؛ لأنَّ مَعْنَى التَّوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، أنْ لا يُعْبَدَ إلاَّ اللهُ، ولا يُعْتَقَدَ النَّفْعُ والضَّرُّ إلاَّ في اللهِ، وأن يُكْفَرَ بما يُعْبَدُ من دونِ اللهِ، ويُتَبَرَّأَ منها ومن عابديهَا، وما بعدَ هذا منَ الأبوابِ بَيانٌ لأنْواعٍ من العباداتِ والاعتقاداتِ الَّتي يَجِبُ إخلاصُها للهِ تعالى، وذلك هو معنَى التَّوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَعْلَمُ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (بَابُ تَفْسِيرِ التَّوْحِيدِ وشَهَادَةِ: أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)
أَرَادَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى بهذه الترْجَمَةِ، وما جاءَ بعدَها مِن الآياتِ والحديثِ: أن يَزِيدَ هذا المقامَ بيانًا وإِيضاحًا، وإلاَّ فقدْ تَقَدَّمَ في الآياتِ والأحاديثِ ما يُفَسِّرُ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وما دَلَّتْ عليهِ مِن التوحيدِ، ونَفْيِ الشِّرْكِ، والتَّنْدِيدِ.
(2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وقولِ اللهِ تعالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغِونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}) [الإسراء:57]. قُلْتُ: هَذَا مِنْ عَطْفِ الدَّالِّ عَلَى المَدْلُولِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ في أَوَّلِ الكِتَابِ مِن الآيَاتِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِن التَّوْحِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وسَابِقِهَا ولاَحِقِهَا. وكذلكَ مَا ذَكَرَهُ في الأَبْوابِ بَعْدَهَا، فَمَا فَائِدَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ؟ قِيلَ: هَذِهِ الآيَاتُ المَذْكُورَاتُ في هَذَا البَابِ فِيهَا مَزِيدُ بَيَانٍ بِخُصُوصِهَا لِمَعْنَى كَلِمَةِ الإِخْلاَصِ، وما دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ العِبَادَةِ. وفِيهَا: الحُجَّةُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بالأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ يَدْعُوهُم ويَسْأَلُهُم؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هوَ سَبَبُ نُزُولِ بَعْضِ هَذِهِ الآياتِ، كالآيَةِ الأُولَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء:56]. أَكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَعْبُدُ المَسِيحَ وأُمَّهَ،والعُزَيْرَ، والمَلاَئِكَةَ، وَقَدْ نَهَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، كَمَا في الآيَةِ مِن التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ. وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ دُعَاءهُم مِنْ دُونِ اللهِ شِرْكٌ باللهِ يُنَافِي التَّوْحيدَ، ويُنَافِي شَهَادَةَ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ فإِنَّ التَّوْحِيدَ أَنْ لاَ يُدْعَى إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ. وكَلِمَةُ الإِخْلاَصِ نَفَتْ هَذَا الشِّرْكَ؛ لأَِنَّ دَعْوَةَ غَيْرِ اللهِ تَأَلِيهٌ وعِبَادَةٌ لَهُ، و((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)). وفي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ المَدْعُوَّ لاَ يَمْلِكُ لِدَاعِيهِ كَشْفَ ضَرَرٍ، وَلاَ تَحْوِيلَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَلاَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَلَو كَانَ المَدْعُوُّ نَبِيًّا أوْ مَلَكًا. وهَذَا يُقَرِّرُ بُطْلاَنَ دَعْوَةِ كُلِّ مَدْعُوٍّ مِنْ دونِ اللهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ؛ لأَِنَّ دَعْوَتَهُ تَخُونُ دَاعِيَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ وَلاَ يَضُرُّهُ. وهَذِهِ الآيَةُ تُقَرِّرُ التَّوْحِيدَ ومَعْنَى: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ وَمَنْ تَبِعَهُم مِن المُؤْمِنِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: (تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ والعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ). وقَرَأَ ابنُ زَيْدٍ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ} قَالَ العِمَادُ ابنُ كَثِيرٍ: (وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ المُفَسِّرِينَ، وَذَكَرَهُ عنْ عِدَّةٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ). قَالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في هَذِهِ الآيَاتِ المَقَامَاتُ الثَّلاَثُ: الحُبُّ - وهوَ ابْتِغَاءُ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ والتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - والرَّجَاءُ والخَوْفُ، وهَذَا هوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وحَقِيقَةُ دِينِ الإِسْلاَمِ، كَمَا في (المُسْنَدِ)، عنْ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عنْ أَبِيهِ، عنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَتَيْتُكَ إِلاَّ بَعْدَ ما حَلَفْتُ عَدَدَ أَصَابِعِي هَذِهِ أنْ لاَ آتِيَكَ، فَبِالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا بَعَثَكَ بِهِ؟ قَالَ: ((الإِسْلاَمُ)). قَالَ: وَمَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: ((أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ، وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَكَ إِلى اللهِ، وَأَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ)). وأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ، مِنْ حَدِيثِ خَالَدِ بنِ مَعْدَانَ، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلإِسْلاَمِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)).
وهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لُقْمَان:22].
(3) وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزُّخْرُف:26-28]؛ أيْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَتَدَبَّرْ كَيْفَ عَبَّرَ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ العَظِيمَةِ بِمَعْنَاهَا الذي دَلَّتْ ووُضِعَتْ لهُ من البَرَاءةِ مِنْ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ مِن المَعْبُودَاتِ المَوْجُودَةِ في الخَارِجِ: كالكَوَاكِبِ، والهَيَاكِلِ، والأَصْنامِ التي صَوَّرَهَا قَوْمُ نُوحٍ عَلَى صُوَرِ الصَّالِحِينَ: وَدٍّ وَسُوَاعٍ ويَعُوقَ ونَسْرٍ، وغَيْرِهَا مِن الأَوْثَانِ والأَنْدَادِ التي كَانَ يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ بأَعْيَانِهَا. وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ جَمِيعِ المَعْبُودَاتِ إِلاَّ الذي فَطَرَهُ، وهوَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ فَهَذَا هوَ الذي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الإِخْلاَصِ مُطَابَقَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} فَكُلُّ عِبَادَةٍ يُقْصَدُ بِهَا غَيْرُ اللهِ؛ مِنْ دُعَاءٍ وَغَيْرِهِ، فهيَ بَاطِلَةٌ، وهيَ الشِّرْكُ الذي لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَـالُوا ضَـلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِينَ}. (4) وقَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ)، قالَ: ((أَلَيْسَ يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟)). قَالَ: (بَلَى)، قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ)). فَصَارَتْ طَاعَتُهُمْ في المَعْصِيَةِ عِبَادَةً لغَيْرِ اللهِ، وَبِهَا اتَّخَذُوهُم أَرْبَابًا، كَمَا هوَ الوَاقِعُ في هَذِهِ الأُمَّةِ. وهَذَا مِن الشِّرْكِ الأَكْبَرِ المُنَافِي للتَّوْحِيدِ الذي هوَ مَدْلُولُ شَهَادَةِ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ). فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ الإِخْلاَصِ نَفَتْ هَذَا كُلَّهُ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِمَدْلُولِ هَذِهِ الكَلِمَةِ، فَأَثْبَتُوا مَا نَفَتْهُ مِن الشِّرْكِ، وتَرَكُوا مَا أَثْبَتَتْهُ مِن التَّوْحِيدِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}. فَكُلُّ مَن اتَّخَذَ نِدًّا للهِ، يَدْعُوهُ مِنْ دونِ اللهِ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَرْجُوهُ لِمَا يُؤَمِّلُهُ منْهُم؛ مِنْ قَضَاءِ حَاجَاتِهِ وتَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِ، كَحَالِ عُبَّادِ القُبُورِ والطَّوَاغِيتِ والأَصْنَامِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يُعَظِّمُوهُم ويُحِبُّوهُم؛ لذلكَ فَإِنَّهُم أَحَبُّوهم مَعَ اللهِ وإِنْ كَانُوا يُحِبُّونَ اللهَ تَعَالَى، ويَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَيُصَلُّونَ ويَصُومُونَ، فَقَدْ أَشْرَكُوا باللهِ في المَحَبَّةِ بِمَحَبَّةِ غَيْرِهِ وعِبَادَةِ غَيْرِهِ. فاتِّخَاذُهُم الأَنْدَادَ يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ يُبْطِلُ كُلَّ قَوْلٍ يَقُولُونَهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ؛ لأَِنَّ المُشْرِكَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ عَمَلٌ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ. وهؤلاءِ وإِنْ قَالُوا: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَقَدْ تَرَكُوا كُلَّ قَيْدٍ قُيِّدَتْ بِهِ هَذِهِ الكَلِمَةُ العَظِيمَةُ؛ مِن العِلْمِ بِمَدْلُولِهَا؛ لأَِنَّ المُشْرِكَ جَاهِلٌ بِمَعْنَاهَا، وَمِنْ جَهْلِهِ بِمَعْنَاهَا جَعَلَ للهِ شَرِيكًا في المَحَبَّةِ وغَيْرِهَا، وَهَذَا هوَ الجَهْلُ المُنَافِي للعِلْمِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن الإِخْلاَصِ، وَلَمْ يَكُنْ صَادِقًا في قَوْلِهَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْفِ مَا نَفَتْهُ مِن الشِّرْكِ، وَلَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَتْهُ مِن الإِخْلاَصِ، وتَرَكَ اليَقِينَ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ لَوْ عَرَفَ مَعْنَاهَا وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لأََنْكَرَهُ، أَوْ شَكَّ فِيهِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ، وهوَ الحَقُّ، وَلَمْ يَكْفُرْ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، كَمَا في الحَدِيثِ. بَلْ آمَنَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ باتِّخَاذِ النِّدِّ وَمَحَبَّتِهِ لهُ وعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ مِنْ دونِ اللهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}؛ لأَِنَّهُم أَخْلَصُوا لهُ الحُبَّ فَلَمْ يُحِبُّوا إِلاَّ إِيَّاهُ، ويُحِبُّونَ مَنْ أَحَبَّ، ويُخْلِصُونَ أَعْمَالَهُم جَمِيعًا للهِ، ويَكْفُرُونَ بِمَا عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ. فبهَذَا يَتَبَيَّنُ لِمَنْ وفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى لِمَعْرِفَةِ الحَقِّ وقَبُولِهِ دَلاَلَةَ هذهِ الآيَاتِ العَظِيمَةِ عَلَى مَعْنَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَعَلَى التَّوْحِيدِ الذي هوَ مَعْنَاهَا الذي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ المُرْسَلِينَ، فَتَدَبَّرْ. وقولُهُ تَعَالَى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] الآيَةَ، يَتَبَيَّنُ مَعْنَى هذهِ الآيَةِ بِذِكْرِ مَا قَبْلَهَا، وهيَ قولُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]. -قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (يَقُولُ تَعَالَى:{قَلْ} يَا مُحَمَّدُ للمُشْرِكِينَ الذينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ:{ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} مِن الأَصْنَامِ والأَنْدَادِ وارْغَبُوا إِلَيْهِم، فَإِنَّهُم لاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُم؛ أيْ: بالكُلِّيَّةِ، {وَلاَ تَحْوِيلاً} أيْ: وَلاَ أَنْ يُحَوِّلُوهُ إلى غَيْرِكُم. فإنَّ الذي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ هوَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، الذي لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ). -قَالَ الْعَوْفِيُّ: (عن ابنِ عَبَّاسٍ في الآيَةِ: كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَقُولُونَ: نَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ والمَسِيحَ وعُزَيْرًا، وهُم الذينَ يُدْعَوْنَ). وَرَوَى البُخَارِيُّ في الآيَةِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (نَاسٌ مِن الجِنِّ كَانُوا يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا). وفي رِوَايَةٍ: (كَانَ نَاسٌ مِن الإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِن الجِنِّ، فَأَسْلَمَ الجِنُّ وتَمَسَّكَ هؤلاءِ بِدِينِهِم). وقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوَسِيلَةَ هيَ الإِسْلاَمُ، وهوَ كَذَلِكَ عَلَى كِلاَ القَوْلَيْنِ. -وقَالَ السُّدِّيُّ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ في الآيَةِ قَالَ: (عِيسَى وَأَمُّهُ وعُزَيْرٌ). -وقَالَ مُغِيرَةُ، عنْ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ في هَذِهِ الآيَةِ: (هُمْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ، والشَّمْسُ والقَمَرُ). -وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (عِيسَى وَعُزَيْرٌ والمَلاَئِكَةُ). قَوْلُهُ: {ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} لاَ تَتِمُّ العِبَادَةُ إِلاَّ بالخَوْفِ والرَّجَاءِ؛ فَكُلُّ داعٍ دُعَاءَ عِبَادَةٍ أو اسْتِغَاثَةٍ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَائِفًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِيًا، وَإِمَّا أَنْ يَجْتَمِعَ فيهِ الوَصْفَانِ). -قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في هذهِ الآيَةِ لَمَّا ذَكَرَ أَقْوَالَ المُفَسِّرِينَ: (وهذهِ الأَقْوالُ كُلُّهَا حَقٌّ؛ فَإِنَّ الآيَةَ تَعُمُّ مَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ عَابِدًا للهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِن المَلاَئِكَةِ، أوْ مِن الجِنِّ، أوْ مِن البَشَرِ. والسَّلَفُ في تَفْسِيرِهِم يَذْكُرُونَ جِنْسَ المُرَادِ بالآيَةِ عَلَى نَوْعِ التَّمْثِيلِ، كَمَا يَقُولُ التَّرْجُمَانُ لِمَنْ سَأَلُهُ: (مَا مَعْنَى الخُبْزِ؟) فَيُرِيهِ رَغِيفًا فَيَقُولُ: هَذَا. فالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِهِ لاَ إِلَى عَيْنِهِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُم بِذَلِكَ تَخْصِيصَ نَوْعٍ دونَ نوعٍ معَ شُمُولِ الآيَةِ. فالآيَةُ خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ دَعَا مِنْ دونِ اللهِ مَدْعُوًّا، وَذَلِكَ المَدْعُوُّ يَبْتَغِي إِلَى اللهِ الوَسِيلَةَ، ويَرْجُو رَحْمَتَهُ، وَيَخَافُ عَذَابَهُ. فَكُلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أوْ غَائِبًا مِن الأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ -سَواءٌ كَانَ بِلَفْظِ الاسْتِغَاثَةِ أوْ غَيْرِهَا- فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ.كَمَا تَتَنَاوَلُ مَنْ دَعَا المَلاَئِكَةَ والجِنَّ؛ فَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ دُعَائِهِم، وبَيَّنَ أَنَّهُم لاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عن الدَّاعِينَ وَلاَ تَحْوِيلَهُ، وَلاَ يَرْفَعُونَهُ بالكُلِّيَّةِ، ولاَ يُحَوِّلُونَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، كَتَغْييرِ صِفَتِهِ أوْ قَدْرِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ تَحْويلاً} فَذَكَرَ نَكِرَةً تَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّحْوِيلِ. فَكُلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أوْ غَائِبًا مِن الأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ، أوْ دَعَا الْمَلاَئِكَةَ، فَقَدْ دَعَا مَنْ لاَ يُغِيثُهُ، ولاَ يَمْلِكُ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُ وَلاَ تَحْوِيلَهُ) انتهى. وفي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَدْعُو صَالِحًا وَيَقُولُ: أَنَا لاَ أُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا، الشِّرْكُ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ. (5)قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: وقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُون (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزُّخْرُف:26-28]. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عنْ عَبْدِهِ ورَسُولِهِ وخَلِيلِهِ إِمَامِ الحُنَفَاءِ، ووَالِدِ مَنْ بُعِثَ بَعْدَهُ مِن الأَنْبِيَاءِ؛ الذي تَنْتَسِبُ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ في نَسَبِهَا ومَذْهَبِهَا: إِنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ وقَوْمِهِ في عِبَادَتِهِم الأَوْثَانَ فَقَالَ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27] {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] أيْ: هذهِ الكَلِمَةُ؛ وهيَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وخَلْعُ مَا سِوَاهُ مِن الأَوْثَانِ، وهيَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) جَعَلَهَا في ذُرِّيَّتِهِ يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ هَدَاهُ اللهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أيْ: إِلَيْهَا. قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، والضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، والسُّدِّيُّ، وغَيْرُهُم، في قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يَعْنِي: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، لاَ يَزَالُ في ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَقُولُهَا). ورَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} قَالَ: (إنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ اللهَ رَبُّنَا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزُّخْرُف:87] فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ رَبِّهِ) ورَوَاهُ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ. ورَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عنْ قَتَادَةَ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قَالَ: (الإِخْلاَصُ والتَّوْحِيدُ لاَ يَزَالُ في ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ ويُوَحِّدُهُ). قُلْتُ: فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) تَوْحِيدُ اللهِ بإِخْلاَصِ العِبَادِ لهُ، والبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. قَالَ المُصَنِّفُ: (وذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ البَرَاءَةَ وهذهِ المُوَالاَةَ هيَ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ). وفي هَذَا المَعنَى يَقُولُ العَلاَّمَةُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في (الكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ): وإِذَا تَوَّلاَهُ امْرُؤٌ دُونَ الوَرَى =طُرًّاتــــَوَّلاَالــــعـــَظـــِيـــمُ الــــــشَّأْنِ قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وَقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ والمَسِيحَ ابنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. الأَحْبَارُ: هم العُلَمَاءُ. والرُّهْبَانُ: هم العُبَّادُ. وهذهِ الآيَةُ قَد فَسَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ، وذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ مُسْلِمًا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ: قَالَ: فَقُلْتُ: (إِنَّهُم لَمْ يَعْبُدوهُمْ؟!) فَقَالَ: ((بَلَى! إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلاَلَ وَحَلَّلُوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ؛ فَذَلِكَ عِبادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، والطَّبَرَانِيُّ مِنْ طُرُقٍ. قَالَ السُّدِّيُّ: (اسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِم؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31] فَإِنَّ الحَلاَلَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ، والحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللهُ، والدِّينَ مَا شَرَعَهُ اللهُ). فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ غَيْرَ اللهِ ورَسُولِهِ، وَأَعْرَضَ عَن الأَخْذِ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ؛ في تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ، أَو تَحْريمِ مَا أَحَلَّهُ اللهُ، وأَطَاعَهُ في مَعْصِيَةِ اللهِ، واتَّبَعَهُ فِيمَا لَمْ يَأْذَن اللهُ، فَقَد اتَّخَذَهُ رَبًّا وَمَعْبُودًا، وجَعَلَهُ للهِ شَرِيكًا، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوْحِيدَ الَّذِي هوَ دِينُ اللهِ الذي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الإِخْلاَصِ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)؛ فإنَّ الإِلَهَ هوَ المَعْبُودُ. وَقَدْ سَمَّى اللهُ تَعَالَى طَاعَتَهُم عِبَادَةً لَهُم، وَسَمَّاهُم أَرْبَابًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} أيْ: شُرَكَاءَ للهِ تَعَالَى في العِبَادَة. {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمرانَ:80] فَكُلُّ مَعْبُودٍ رَبٌّ، وَكُلُّ مُطاعٍ وَمُتَّبَعٍ عَلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ ورَسُولُهُ فَقَد اتَّخَذَهُ المُطِيعُ رَبًّا ومَعْبُودًا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى في آيَةِ الأَنْعَامِ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] وَهَذَا هوَ وَجْهُ مُطَابَقَةِ الآيَةِ للتَّرْجَمَةِ. وَيُشْبِهُ هَذِهِ الآيَةَ في المَعْنَى قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} [الشُّورَى:21]، واللهُ أَعْلَمُ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ في مَعْنَى قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} (وهؤلاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم ورُهْبَانَهُم أَرْبابًا حَيْثُ أَطَاعُوهُم في تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ، يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُم بَدَّلُوا دِينَ اللهِ فَيَتَّبِعُونَهُم عَلَى التَّبْدِيلِ، فَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللهُ، وتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللهُ؛ اتِّباعًا لرُؤَسَائِهِم، مَعَ عِلْمِهِم أَنَّهُم خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ، فَهَذَا كُفْرٌ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ ورَسُولُهُ شِرْكًا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُم ويَسْجُدُونَ لَهُم. فَكَانَ مَن اتَّبَعَ غَيْرَهُ في خِلاَفِ الدِّينِ -مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِلاَفٌ للدِّينِ، واعْتَقَدَ مَا قَالَهُ ذَلِكَ دُونَ مَا قَالَهُ اللهُ ورَسُولُهُ- مُشْرِكًا مِثْلَ هؤلاءِ. الثاني: أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُم وإِيمَانُهُم بِتَحْرِيمِ الحَرَامِ وتَحْلِيلِ الحَلاَلِ ثَابِتًا، لَكِنَّهُم أَطَاعُوهُم في مَعْصِيَةِ اللهِ، كَمَا يَفْعَلُ المُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِن المَعَاصِي التي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ. فهؤلاءِ لَهُم حُكْمُ أَمْثَالِهِم مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ، كَمَا قَدْ ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)). ثُمَّ ذَلِكَ المُحَرِّمُ للحَلاَلِ، وَالمُحَلِّلُ للحَرَامِ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا، قَصْدُهُ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ، لَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الحَقُّ في نَفْسِ الأَمْرِ وَقَد اتَّقَى اللهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَهَذَا لاَ يُؤَاخِذُهُ بِخَطَئِهِ، بلْ يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الذي أَطَاعَ بِهِ رَبَّهُ. ولَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا أَخْطَأَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ، وَعَدَلَ عنْ قَوْلِ الرَّسُولِ، فَهَذَا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ الذي ذَمَّهُ اللهُ، لاَ سِيَّمَا إِن اتَّبَعَ في ذلكَ هَوَاهُ، ونَصَرَهُ باليَدِ واللِّسَانِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ للرَّسُولِ، فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ العُقُوبَةَ عَلَيْهِ. ولِهَذَا اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عُرِفَ الحَقُّ لاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ في خِلاَفِهِ، وإِنَّمَا تَنَازَعُوا في جَوَازِ التَّقْلِيدِ للقَادِرِ عَلَى الاسْتِدْلاَلِ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عنْ إِظْهَارِ الحَقِّ الذي يَعَلَمُهُ. فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ عَرَفَ أَنَّ دِينَ الإِسْلاَمِ حَقٌّ وهوَ بَيْنَ النَّصَارَى، فَإِذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الحَقِّ لاَ يُؤَاخَذُ بِمَا عَجِزَ عنهُ، وهَؤُلاَءِ كالنَّجَاشِي وغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ في هؤلاءِ الآياتِ مِنْ كِتَابِهِ: - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ}[آل عمرانَ:199]. -وقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}[المائدة:83].
- وقَوْلِهِ:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:159].
وَأَمَّا إنْ كَانَ المُتَّبِعُ للمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عنْ مَعْرِفَةِ الحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَقَدْ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِن الاجْتِهَادِ في التَّقْلِيدِ، فَهَذَا لاَ يُؤَاخَذُ إِنْ أَخْطَأَ كَمَا في القِبْلَةِ.
وَأَمَّا إن قَلَّدَ شَخْصًا دونَ نَظِيرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ، ونَصَرَهُ بِيَدِهِ ولِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ أَنَّ مَعَهُ الحَقَّ، فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحًا، وَإِنْ كَانَ مَتْبُوعُهُ مُخْطِئًا كَانَ آثِمًا، كَمَنْ قَالَ في القُرْآنِ بِرَأْيِهِ، فَإِنْ أَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ.
وَهَؤُلاَءِ مِنْ جِنْسِ مَانِعِ الزَّكَاةِ الذي تَقَدَّمَ فِيهِ الوَعِيدُ، وَمِنْ جِنْسِ عَبْدِ الدِّينَارِ والدِّرْهَمِ، والقَطِيفَةِ والخَمِيصَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا أَحَبَّ المَالَ مَنَعَهُ عنْ عِبَادَةِ اللهِ وطَاعَتِهِ، صَارَ عَبْدًا لهُ.
وكَذَلِكَ: هَؤُلاَءِ فَيُكُونُ فِيهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَلَهُم مِن الوَعِيدِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَفِي الحَدِيثِ: ((إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ)).
وَهَذَا مَبْسُوطٌ عن النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا إِطْلاَقُ الكُفْرِ والشِّرْكِ عَلَى كَثِيرٍ مِن الذُّنُوبِ)
انْتَهَى.
- قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في مَعْنَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا}[فُصِّلتْ:9](أيْ: وَتَجْعَلُونَ لِمَنْ خَلَقَ ذَلِكَ الأندادَ؛ وَهُم الأَكْفَاءُ مِن الرِّجَالِ تُطِيعُونَهُم في مَعَاصِي اللهِ) انْتَهَى.
قُلْتُ:كَمَا هوَ الوَاقِعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ عُبَّادِ القُبُورِ.
(6) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}[البقرة:165].
-قَالَ العِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (يَذْكُرُ تعالَى حَالَ المُشْرِكِينَ بِهِ في الدُّنْيَا، وَمَآلَهُم في الدَّارِ الآخِرَةِ؛ حَيْثُ جَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا؛ أَيْ: أَمْثَالاً ونُظَرَاءَ يَعْبُدُونَهُم مَعَهُ ويُحِبُّونَهُم كَحُبِّهِ، وهوَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هوَ، وَلاَ ضِدَّ لهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ، وَلاَ شَرِيكَ مَعَهُ).
وَفِي(الصَّحِيحَيْنِ) عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلقَكَ)).
وقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} وَلِحُبِّهِم للهِ تَعَالَى، وَتَمَامِ مَعْرِفَتِهِم بِهِ، وتَوْقِيرِهِم وتَوْحِيدِهِم، لاَ يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، بلْ يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ ويَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ، ويَلْجَؤُونَ في جَمِيعِ أُمُورِهِم إِلَيْهِ.
ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى المُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لأَِنْفُسِهِم بذلكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا}.
- قَالَ بَعْضُهُم: تَقْدِيرُ الكَلاَمِ: (لوْ عَايَنُوا العَذَابَ لَعَلِمُوا حِينَئذٍ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا) أيْ: أَنَّ الحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ تَحْتَ قَهْرِهِ وغَلَبَتِهِ وسُلْطَانِهِ، {وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة:165]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25-26].يَقُولُ: لَوْ عَلِمُوا مَا يُعَانُونَ هناكَ وَمَا يَحُلُّ بِهِم مِن الأَمْرِ الفَظِيعِ المُنْكَرِ الهَائِلِ عَلَى شِرْكِهِم وكُفْرِهِم لاَنْتَهَوْا عَمَّا هُم فِيهِ مِن الضَّلاَلِ.ثُمَّ أَخْبَرَ عنْ كُفْرِهِم بأوثانِهِم، وتَبَرُّؤِ المَتْبُوعِينَ مِن التَّابِعِينَ، فَقَالَ تَعَالَى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة:166] تَبَرَّأَتْ منهم المَلاَئِكَةُ الذينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُم كانوا يَعْبُدُونَهُم في الدُّنْيَا، فَتَقُولُ المَلاَئِكَةُ: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}[القصص:63]، ويَقُولُونَ: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، والجِنُّ أَيْضًا يَتَبَرَّؤُونَ مِنْهُم ويَتَنَصَّلُونَ مِنْ عِبَادَتِهِم لَهُم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:5،6]) انْتَهَى كَلاَمُهُ.
ورَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} مُبَاهَاةً ومُضَاهَاةً للحَقِّ بالأَنْدَادِ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} مِن الكُفَّارِ لأَِوْثَانِهِم.قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومِن الأُمُورِ المُبَيِّنَةِ لتَفْسِيرِ التَّوْحِيدِ وشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، آيَةُ البَقَرَةِ في الكُفَّارِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، ذَكَرَ أَنَّهُم يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُم كَحُبِّ اللهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم يُحِبُّونَ اللهَ حُبًّا عَظِيمًا فَلَمْ يُدْخِلْهُم في الإِسْلاَمِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَحَبَّ النِّدَّ أَكْبَرَ مِنْ حُبِّ اللهِ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يُحِبَّ إِلاَّ النِّدَّ وَحْدَهُ؟) انتهى.
ففي الآيَةِ بَيَانُ أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ في المَحَبَّةِ فَقَدْ جَعَلَهُ شَرِيكًا للهِ في العِبَادَةِ، واتَّخَذَهُ نِدًّا مِنْ دونِ اللهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هوَ الشِّرْكُ الذي لا يَغْفِرُهُ اللهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في أُولَئِكَ: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وقَوْلِهِ: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} المُرَادُ بالظُّلْمِ هنا الشِّرْكُ، كَقَوْلِهِ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}[الأنعام:82] كَمَا تَقَدَّمَ.
-فَمَنْ أَحَبَّ اللهَ وَحْدَهُ، وأَحَبَّ فِيهِ وَلَهُ، فهوَ مُخْلِصٌ.
-وَمَنْ أَحَبَّهُ وَأَحَبَّ مَعَهُ غَيْرَهُ، فهوَ مُشْرِكٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:21،22].
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ مَا مَعْنَاهُ: (فَمَنْ رَغِبَ إِلَى غَيْرِ اللهِ في قَضَاءِ حَاجَةٍ أوْ تَفْرِيجِ كُرْبَةٍ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لهُ، ومَحَبَّتُهُ هيَ الأَصْلُ في ذَلِكَ) انْتَهَى.
فكَلِمَةُ الإِخْلاَصِ:(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) تَنْفِي كُلَّ شِرْكٍ في أيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ، وتُثْبِتُ العِبَادَةَ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا للهِ تَعَالَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الإِلَهَ هوَ المَأْلُوهُ الذي تَأْلَهُهُ القُلُوبُ بالْمَحَبَّةِ أوْ غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ.
فَـ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) نَفَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ عَنْ غَيْرِ اللهِ، وأَثْبَتَتْهُ للهِ وَحْدَهُ، فَهَذَا هوَ الذي دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الإِخْلاَصِ مُطَابَقَةً، فَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا، واعْتِقَادِهِ، وقَبُولِهِ، والعَمَلِ بِهِ باطِنًا وَظَاهِرًا، واللهُ أَعْلَمُ.
- قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَتَوْحِيدُ المَحْبُوبِ أَنْ لاَ يَتَعَدَّدَ مَحْبُوبُهُ؛ أيْ: مَعَ اللهِ تَعَالَى بعِبَادَتِهِ لهُ، وتَوْحِيدُ الحُبِّ: أَنْ لاَ يَبْقَى في قَلْبِهِ بَقِيَّةُ حُبٍّ حَتَّى يَبْذُلَهَا لَهُ؛ فَهَذَا الحُبُّ - وَإِنْ سُمِّيَ عِشْقًا - فهوَ غَايَةُ صَلاَحِ العَبْدِ ونَعِيمِهِ وقُرَّةُ عَيْنِهِ، ولَيْسَ لِقَلْبِهِ صَلاَحٌ ولاَ نَعِيمٌ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ اللهُ ورَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يَكُونَ مَحَبَّتُهُ لِغَيْرِ اللهِ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى، فَلاَ يُحِبُّ إِلاَّ اللهَ، كَمَا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ:((ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ)) الحَدِيثَ). وَمَحَبَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هيَ مِنْ مَحَبَّتِهِ؛ وَمَحَبَّةُ المَرْءِ إِنْ كَانَتْ للهِ فهيَ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ اللهِ فَهِيَ مُنْقِصَةٌ لِمَحبَّةِ اللهِ مُضْعِفَةٌ لَهَا؛ ويُصَدِّقُ هذه المَحَبَّةَ بأَنْ تَكُونَ كَرَاهِيَتُهُ لأَِبْغَضِ الأَشْيَاءِ إِلَى مَحْبُوبِهِ - وهوَ الكُفْرُ - بِمَنْـزِلَةِ كَرَاهَتِهِ لإلْقَائِهِ في النَّارِ أوْ أَشَدَّ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ المَحَبَّةِ، فَإِنَّ الإِنْسَانَ لاَ يُقَدِّمُ عَلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِذَا قَدَّمَ مَحَبَّةَ الإِيمَانِ باللهِ عَلَى نَفْسِهِ - بِحَيْثُ لوْ خُيِّرَ بَيْنَ الكُفْرِ وَإِلْقَائِهِ في النَّارِ لاخْتَارَ أَنْ يُلْقَى في النَّارِ وَلاَ يَكْفُرُ - كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وهذه المَحَبَّةُ هيَ فَوْقَ مَا يَجِدُهُ العُشَّاقُ المُحِبُّونَ مِنْ مَحَبَّةِ مَحْبُوبِيهِم، بلْ لاَ نَظِيرَ لِهَذِهِ المَحَبَّةِ، كَمَنْ لاَ مِثْلَ لِمَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، وهيَ مَحَبَّةٌ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ المَحْبُوبِ فيها عَلَى النَّفْسِ والمَالِ والوَلَدِ، وتَقْتَضِي كَمَالَ الذُّلِ والخُضُوعِ والتَّعْظِيمِ والإِجْلاَلِ والطَّاعَةِ والانْقِيَادِ ظَاهِرًا وبَاطِنًا.
وَهَذَا لاَ نَظِيرَ لَهُ في مَحَبَّةِ مَخْلُوقٍ، وَلَوْ كَانَ المَخْلُوقُ مَنْ كَانَ، وَلِهَذَا مَنْ شَرَكَ بَيْنَ اللهِ تعالَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ في المَحَبَّةِ الخَاصَّةِ كَانَ مُشْرِكًا شِرْكًا لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} والصَّحِيحُ: أَنَّ مَعْنَى الآيَةِ: أَنَّ الذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ مِنْ أَهْلِ الأَنْدَادِ لأَِنْدَادِهِم.كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَحَبَّةَ المُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِم لاَ يُمَاثِلُهَا مَحَبَّةُ مَخْلُوقٍ أَصْلاً، كَمَا لاَ يُمَاثِلُ مَحْبُوبَهُم غَيْرُهُ، وَكُلُّ أَذًى في مَحَبَّةِ غَيْرِهِ فهوَ نَعِيمٌ في مَحَبَّتِهِ، وكُلُّ مَكْرُوهٍ في مَحَبَّةِ غَيْرِهِ فهوَ قُرَّةُ عَيْنٍ في مَحَبَّتِهِ.وَمَنْ ضَرَبَ بِمَحَبَّتِهِ الأَمْثَالَ الَّتِي في مَحَبَّةِ المَخْلُوقِ للمَخْلُوقِ: كالوَصْلِ، والهَجْرِ والتَّجَنِّي بِلاَ سَبَبٍ مِن المُحِبِّ؛ وَأَمِثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى اللهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا، فهوَ مُخْطِئٌ أَقْبَحَ الخَطَأِ وأَفْحَشَهُ، وهوَ حَقِيقٌ بالإِبْعَادِ والمَقْتِ) انْتَهَى.
(7) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (في الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَكَفَرَ بِما يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، حَرُمَ مالُهُ وَدَمُهُ، وحِسابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))) قَوْلُهُ: (في الصَّحِيحِ) أيْ: (صَحِيحِ مُسْلِمٍ)، عنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ.
وأَبُو مَالِكٍ: اسْمُهُ سَعْدُ بنُ طَارِقٍ،كُوفِيٌّ ثِقَةٌ مَاتَ في حُدُودِ الأَرْبَعِينَ ومِائَةٍ، وَأَبُوهُ طَارِقُ بنُ أَشْيَمَ - بالمُعْجَمَةِ والمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَزْنُ أَحْمَرَ - ابنِ مَسْعودٍ الأَشْجَعِيُّ، صَحَابِيٌّ لَهُ أَحَادِيثُ، قَالَ مُسْلِمٌ: (لَمْ يَرْوِ عنه غَيْرُ ابْنِهِ).
وفي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ)، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ للقَوْمِ: ((مَنْ وَحَّدَ اللهَ، وَكَفَرَ بِما يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، حَرُمَ مالُهُ ودَمُهُ وحِسابُهُ عَلَى اللهِ عزَّ وجلَّ)) رَواهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بنِ هَارُونَ قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، عنْ أَبِيهِ. وَرَواهُ الإمامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ إدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مَالِكٍ قَالَ: قُلْتُ لأَِبِي، الحديثَ. ورِوَايَةُ الحَدِيثِ بِهَذَا اللَّفْظِ يُفَسِّرُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
قَوْلُهُ: (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَكَفَرَ بِما يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ) اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عِصْمَةَ المَالِ والدَّمِ في هَذَا الحَدِيثِ بِأَمْرَيْنِ:
الأَوَّلُ:قَوْلُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) عِن عِلْمٍ وَيَقِينٍ، كَمَا هوَ مُقَيَّدٌ في قَوْلِهَا في غَيْرِ مَا حَدِيثٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
والثَّانِي:الكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، فَلَمْ يَكْتَفِ باللَّفْظِ المُجَرَّدِ عن المَعْنَى، بلْ لاَ بُدَّ مِنْ قَوْلِهَا والعَمَلِ بِهَا.
قُلْتُ: وفيهِ مَعْنَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا}[البقرة:256]. (8) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ ما يُبَيِّنُ مَعْنَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا للدَّمِ والمَالِ؛ بلْ وَلاَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا، بلْ ولاَ الإِقْرَارَ بذلكَ، بلْ وَلاَ كَوْنَهُ لاَ يَدْعُو إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، بلْ لاَ يَحْرُمُ مَالُهُ ودَمُهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ الكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، فَإِنْ شَكَّ أوْ تَوَقَّفْ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ ودَمُهُ. فَيَا لَهَا مِنْ مَسْأَلَةٍ مَا أَجَلَّهَا، وَيَا لَهُ مِنْ بَيَانٍ مَا أَوْضَحَهُ، وحُجَّةٍ مَا أَقْطَعَهَا للمُنازِعِ) انْتَهَى.
قُلْتُ:وَهَذَا هوَ الشَّرْطُ المُصَحِّحُ لِقَوْلِ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَلاَ يَصِحُّ قَوْلُهَا بدونِ هَذِهِ الخَمْسِ الَّتِي ذَكَرَهَا المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى أَصْلاً.
قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ}[الأنفال:39]
وَقَالَ:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}[التوبة:5] أَمَرَ بِقِتَالِهِم حَتَّى يَتُوبُوا مِن الشِّرْكِ ويُخْلِصُوا أَعْمَالَهُم للهِ تَعَالَى؛ ويُقِيمُوا الصَّلاَةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِنْ أَبَوْا عنْ ذلكَ أوْ بَعْضِهِ قُوتِلُوا إِجْمَاعًا.
وذَكَرَ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في تَفْسيرِ قَوْلِهِ تعالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} فقَالَ: قالَ الحافِظُ أبو بكرٍ البَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بنُ أحمدَ -وَسَاقَ بسَنَدِهِ- عنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قَالَ: ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَخَلَعَ الأَنْدَادَ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ)) الحديثَ.
وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيُؤْمِنوا بي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ؛ فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهدُوا أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَموالَهُم إِلاَّ بِحَقِّها، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ)) وهَذَانِ الحَدِيثَانِ تَفْسِيرُ الآيَتَيْنِ: آيَةِ الأَنْفَالِ، وآيَةِ (بَرَاءةٌ).
وقَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَعْنَاهَا، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهَا، أَنَّهُ يُقَاتَلُ حَتَّى يَعْمَلَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن النَّفْيِ والإِثْبَاتِ.
- قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في قَوْلِهِ ((أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) (مَعْلُومٌ أَنَّ المُرَادَ بِهَذَا أَهْلُ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ دونَ أَهْلِ الكِتَابِ؛ لأَِنَّهُم يَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ثُمَّ يُقَاتَلُونَ وَلاَ يُرْفَعُ عَنْهُم السَّيْفُ).
-وقَالَ القَاضِي عِياضٌ: (اخْتِصَاصُ عِصْمَةِ المَالِ والنَّفْسِ بِمَنْ قَالَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) تَعْبِيرٌ عَن الإِجَابَةِ إلى الإِيمَانِ، وأَنَّ المُرَادَ بذلكَ مُشْرِكُو العَرَبِ وأَهْلُ الأَوْثَانِ، فَأَمَّا غَيْرُهُم مِمَّنْ يُقِرُّ بالتَّوْحِيدِ، فَلاَ يُكْتَفَى في عِصْمَتِهِ بِقَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، إِذا كان يَقُولُهَا في كُفْرِهِ) انْتَهَى مُلَخَّصًا.
-وقَالَ النَّوَوِيُّ: (لاَ بُدَّ مَعَ هَذَا مِن الإِيمَانِ بِجَمِيعِ ما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَ في الرِّوايَةِ:((وَيُؤْمِنوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ))).
-وقَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، لَمَّا سُئِلَ عنْ قِتَالِ التَّتَارِ فَقَالَ: (كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عن الْتِزَامِ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ منْ هؤلاء القَوْمِ أوْ غَيْرِهم؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُم حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَهُ، وإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ نَاطِقِينَ بالشَّهَادَتَيْنِ ومُلْتَزِمِينَ بَعْضَ شَرَائِعِهِ. كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ والصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مَانِعِي الزَّكَاةِ، وعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ بَعْدَهُم). قَالَ: (فَأَيُّمَا طَائِفَةٍ امْتَنَعَتْ عنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَاتِ، أو الصِّيامِ؛ أو الحَجِّ، أوْ عن الْتِزَامِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، أو الأَمْوالِ، أو الخَمْرِ، أو المَيْسِرِ، أوْ نِكَاحِ ذَوَاتِ المَحَارِمِ، أوْ عن الْتِزَامِ جِهَادِ الكُفَّارِ؛ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْتِزَامِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ ومُحَرَّمَاتِهِ التي لاَ عُذْرَ لأَِحَدٍ في جُحُودِهَا أوْ تَرْكِهَا، التي يَكْفُرُ الوَاحِدُ بِجُحُودِهَا؛ فَإِنَّ الطَّائِفَةَ المُمْتَنِعَةَ تُقَاتَلُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُقِرَّةً بِهَا، وَهَذَا مِمَّا لاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا بَيْنَ العُلَمَاءِ. قَالَ: وهؤلاء عِنْدَ المُحَقِّقِينَ لَيْسُوا بُغَاةً، بلْ هُمْ خَارِجُونَ عن الإِسْلاَمِ) انْتَهَى.
قَوْلُهُ: ((وَحِسابُهُ عَلَى اللهِ)) أي: اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى هوَ الذي يَتَوَلَّى حِسَابَهُ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا جَازَاهُ بِجِنَّاتِ النَّعِيمِ، وإِنْ كَانَ مُنَافِقًا عَذَّبَهُ العَذَابَ الأَلِيمَ.
وَأَمَّا في الدُّنْيا فالحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ،فَمَنْ أَتَى بالتَّوْحِيدِ ولَمْ يَأْتِ بِمَا يُنَافِيهِ ظَاهِرًا، والْتَزَمَ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ، وَجَبَ الكَفُّ عنه.
قُلْتُ: وَأَفَادَ الحَدِيثُ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَلاَ يَكْفُرُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، ولَمْ يَأْتِ بِمَا يَعْصِمُ دَمَهُ ومَالَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ والأَحَادِيثُ. قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وَشَرْحُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا بَعْدَهَا مِن الأَبْوابِ) قُلْتُ: وذَلِكَ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مِن الأَبْوابِ فيهِ مَا يُبَيِّنُ التَّوْحِيدَ ويُوَضِّحُ مَعْنَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وفيهِ أَيْضًا بَيَانُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِن الشِّرْكِ الأَصْغَرِ والأَكْبَرِ، وَمَا يُوصِلُ إلى ذَلِكَ مِن الغُلُوِّ والبِدَعِ، مِمَّا تَرْكُهُ مِنْ مَضْمُونِ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ وتَحَقَّقَهُ تَبَيَّنَ لَهُ مَعْنَى: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن الإِخْلاَصِ ونَفْيِ الشِّرْكِ، وبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ.
فَبِمَعْرِفَةِ الأَصْغَرِ مِن الشِّرْكِ يُعْرَفُ مَا هوَ أَعْظَمُ منهُ مِن الشِّرْكِ الأَكْبَرِ المُنَافِي للتَّوْحِيدِ.
وَأَمَّا الأَصْغَرُ فَإِنَّمَا يُنَافِي كَمَالَهُ،فَمَن اجْتَنَبَهُ فهوَ المُوَحِّدُ حَقًّا.وبِمَعْرِفَةِ وسَائِلِ الشِّرْكِ والنَّهْيِ عنها لِتُجْتَنَبَ تُعْرَفُ الغَايَاتُ التي نُهِيَ عن الوَسَائِلِ لأَِجْلِهَا؛ فَإِنَّ اجْتِنَابَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْتَلْزِمُ التَّوْحيدَ والإِخْلاَصَ بلْ يَقْتَضِيهِ. وفيهِ:أيضًا مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ، وتَنْزِيهُ الرَّبِّ تَعَالَى عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ.وَكُلُّ مَا يُعْرَفُ باللهِ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وأَدِلَّةِ رُبُوبِيَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هوَ المَعْبُودُ وحدَهُ، وَأَنَّ العِبَادَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لَهُ، وهَذَا هوَ التَّوْحِيدُ، ومَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1) هما بمعنىً واحدٍ، فهو مِن بابِ عطفِ المترادفَيْنِ.
وهذِه المسألةُ أكبرُ المسائلِ وأهمُّها كما قال المصنِّفُ رحِمَه اللهُ.
وحقيقةُ تفسيرِ التوحيدِ:العلمُ والاعترافُ بتَفَرُّدِ الربِّ بجميعِ صفاتِ الكمالِ وإخلاصِ العبادةِ له.
وذلك يَرجِعُ إلى أمْرَينِ:
الأمرُ الأولُ: نفيُ الألوهيةِ كلِّها عن غَيْرِ اللهِ؛بأن يَعْلَمَ ويعتقدَ أن لا يستحِقَّ الإلهيةَ -ولا شيئًا من العبوديةِ- أحدٌ من الخلقِ؛ لا نبيٌّ مُرْسَلٌ، ولا مَلَكٌ مقرَّبٌ، ولا غَيْرُهما، وأنه ليسَ لأحدٍ من الخلقِ في ذلك حظٌّ ولا نَصِيبٌ.
والأمرُ الثاني: إثباتُ الألوهيةِ للهِ تعالى وحدَه لا شريكَ له وتفرُّدُه بمعاني الألوهيةِ كلِّها،وهي نعوتُ الكمالِ كلُّها.
ولا يكفِي هذا الاعتقادُ وحدَه حَتَّى يحقِّقَه العبدُ بإخلاصِ كلمةِ الدينِ للهِ، فيقومَ بالإِسلامِ، والإِيمانِ، والإِحسانِ، وبحقوقِ اللهِ، وحقوقِ خلقِه قاصدًا بذلك وجْهَ اللهِ، وطالبًا رضوانَه وثوابَه، ويعلمَ أنَّ من تمامِ تفسيرِها وتحقيقِها البراءةَ من عبادةِ غَيْرِ اللهِ، وأنَّ اتخاذَ أندادٍ يُحِبُّهم كحبِّ اللهِ، أو يطيعُهم كطاعةِ اللهِ، أو يعملُ لهم كما يعملُ للهِ، ينافي معنَى: لا إلهَ إلاَّ اللهُ أشدَّ المنافاةِ.
وبيَّن المصنِّفُ -رحِمَه اللهُ- أنَّ مِن أعظمِ ما يُبَيِّنُ معنَى لا إلهَ إلاَّ اللهُ قولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)).
فلم يَجْعَلْ مجرَّدَ التلفُّظِ بِها عاصمًا للدَّمِ والمالِ، بلْ ولا مَعْرفةِ معناها مع لفْظِهَا، بلْ ولا الإِقرارِ بذلك، بل ولا كونِه لا يدعو إلا اللهَ وحدَه لا شريكَ له، بَلْ لا يَحْرُمُ مالُه ولا دمُه حتى يُضيفَ إلى ذلك الكفرَ بما يُعْبَدُ من دونِ اللهِ، فَإِنْ شَكَّ أو توقَّفَ لم يَحْرُمْ مالُه ولا دمُه.
فتَبيَّنَ بذلك أنه لا بدَّ من اعتقادِ وجوبِ عبادةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ لَهُ، ومن الإِقرارِ بذلك اعتقادًا ونطقًا، ولا بدَّ من القيامِ بعبادةِ اللهِ وحدَه طاعةً للهِ وانقيادًا، ولا بدَّ من البراءةِ مما ينافي ذلك عقدًا وقولاً وفعلاً.
ولا يَتِمُّ ذلك؛ إلا بِمحَبَّةِ القائمينَ بتوحيدِ اللهِ، وموالاتِهم ونُصْرَتِهم، وبغضِ أهلِ الكفرِ والشركِ ومعاداتِهم، لا تُغْنِي في هذا المقامِ الألفاظُ المجردةُ ولا الدعاوَى الخاليةُ من الحقيقةِ، بلْ لا بدَّ أنْ يَتَطابقَ العلمُ والاعتقادُ والقولُ والعملُ، فإنَّ هذِه الأشياءَ متلازمةٌ، مَتَى تَخَلَّفَ واحدٌ مِنْها تَخَلَّفَتِ البَقِيَّةُ.
واللهُ أعلمُ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)التفسيرُ في لسان العرب هو: الكشفُ والإيضاحُ، مأخوذٌ من قولِهم: فَسَرَتْ الثمرةُ قِشْرَها، ومنه تفسيرُ القرآنِ الكريمِ.
والتوحيدُ: تقدَّمَ تعريفُه، والمرادُ بِهِ هنا اعتقادُ أنَّ اللهَ واحِدٌ في ألوهِيَّتِهِ.
وقولُه: (وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ) معطوفٌ على التوحيدِ، أي: وتفسيرِ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ. والعطفُ هنا من بابِ عطفِ المترادفيْن؛ لأنَّ التوحيدَ حقيقةً هو شهَادةُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ. وهذا البابُ مُهمٌّ؛لأنه لَمَّا سبَقَ الكلامُ على التوحيدِ وفضلِهِ والدعوةِ إليه كأنَّ النفسَ الآن اشْرَأَبَّتْ إلى بيانِ ما هو هذا التوحيدُ الذي بُوِّبَ لَه هذه الأبوابُ؟(وجوبُه، وفضلُه، والدعوةُ إليه) فيُجابُ بهذا البابِ، وهو تفسيرُ التوحيدِ، وقد ذكَرَ المؤلِّفُ خمسَ آياتٍ: (2)قولُه تعالَى: {أُولَـئِكَ} أُولاءِ مبتدأٌ، و{الَّذِينَ} بدلٌ منه، و{يَدْعُونَ} صلةُ الموصولِ، وجملةُ {يَبْتَغُونَ} خبرُ المبتدأِ، أي: هؤلاء الذين يَدْعُوهم هؤلاءِ هم أنْفُسُهم يبْتَغُون إلى ربِّهم الوسيلةَ أيُّهُم أقرَبُ، فكيْفَ تَدْعُونَهم، وهم محتاجون مُفْتَقِرُون؟!! فهذا سَفَهٌ في الحقيقةِ، وهذا ينْطَبِقُ على كلِّ مَن دُعِي وهو داعٍ، كعيسى ابنِ مريمَ، والملائكةِ، والأولياءِ، والصالحين.وأما الشجَرُ والحجرُ؛ فلا يَدْخُلُ في الآيةِ. فهؤلاء الذين زَعَمْتُم أنّهم أولياءُ مِن دونِ اللهِ لا يملِكُون كشْفَ الضُّرِّ، ولا تحويلَه مِن مكانٍ إلى مكانٍ؛ لأنهم هم بأنفسِهم يَدْعُون يَبْتَغُون إلى ربِّهم الوسيلةَ أيُّهم أقربُ، وقد قالَ -تعالى- مُبَيِّنًا حالَ هؤلاء المدعُوِّين: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. قولُه: {يَدْعُونَ} أيْ: دعاءَ مسألةٍ، كمَن يَدْعو عليًّا عندَ وقوعِهِم في الشدائدِ، وكمَن يَدْعُو النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. وقد يكونُ دعاءَ عبادةٍ،كمَن يَتَذَلَّلُ لهم بالتقرُّبِ والنذرِ والركوعِ والسجودِ.قولُه: {يَبْتَغُونَ} يَطْلُبونَ. قولُه: {الوسيلَةَ} أيْ: الشيءَ الذي يُوصِلُهُم إلى اللهِ، يعني: يَطْلُبُونَ ما يكونُ وسيلةً إلى اللهِ -سبحانَه وتعالَى- أيُّهم أقربُ إلى اللهِ، وكذلِكَ - أيضًا -: يَرْجُونَ رحْمَتَه، ويخافونَ عذابَه. ووجهُ مناسبةِ الآيةِ للبابِ: (بابُ تفسيرِ التوحيدِ، وشهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ) أنَّ التوحيدَ يَتَضَمَّنُ البراءةَ من الشركِ، بحيثُ لا يَدْعُو مَعَ اللهِ أحدًا، لا مَلَكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مُرْسَلاً، وهؤلاء الذين يَدْعُون الأنْبياءَ والملائِكَةَ لم يتبرَّؤُوا مِن الشركِ، بل هم واقعون فيه، ومِن العَجَبِ: أنَّهم يدعون مَن هم في حاجةٍ إلى ما يُقَرِّبُهُم إلى اللهِ -تعالى-، فهم غيرُ مُسْتَغْنِين عَن اللهِ بأنْفُسِهِم، فكيفَ يُغْنُون غَيْرَهم؟!. (3) قولُه: {بَرَاءٌ} على وزنِ فَعَالٌ، وهي صِفةٌ مُشَبَّهَةٌ من التَّبَرُّءِ، وهو التَّخَلِّي أيْ: إنَّني متخَلٍّ غايةَ التخلِّي عمَّا تَعْبُدُونَ إلا الذي فَطَرَني. وإبراهيمُ-عليه الصلاةُ والسلامُ- قويٌّ في ذاتِ اللهِ، فقالَ ذلك مُعْلِنًا بِهِ لأبيه وقومِه، وأبوهُ هو آزَرُ. قولُه: {تَعْبُدُونَ}العبادةُ هنا: التذلُّلُ والخضوعُ؛ لأن في قومِه مَن يَعْبُدُ الأصنامَ. - ومنهم: مَن يعبُدُ الشمسَ والقمرَ والكواكِبَ. قولُه: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} جَمَعَ بينَ النفيِ والإثباتِ. -فالنفيُ:{بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ}. -والإثباتُ:{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فدلَّ على أنَّ التوحيدَ لا يَتِمُّ إلا بالكفرِ بما سِوَى اللهِ، والإيمانِ باللهِ وحدَه، {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وهؤلاء يَعْبُدُون اللهَ، ويعبدون غيرَه؛ لأنَّه قالَ: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} والأصلُ في الاستثناءِ الاتِّصالُ إلا بدليلٍ، ومع ذلك تبرَّأَ منهم.وفي قولِ إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} ولم يقلْ: (إلا اللهُ) فائدتان: الأولى: الإشارةُ إلى علَّةِ إفرادِ اللهِ بالعبادةِ؛لأنه كما أنه مُنْفَرِدٌ بالخلْقِ فيجِبُ أن يُفْرَدَ بالعبادةِ. الثانيةُ:الإشارةُ إلى بُطلانِ عبادةِ الأصنامِ؛لأنَّها لم تَفْطُرْكم حتى تَعْبُدُوها، ففيها تعليلٌ للتوحيدِ الجامعِ بينَ النفيِ والإثباتِ، وهذه مِن البلاغةِ التامَّةِ في تعبيرِ إبراهيمَ عليه السلامُ.ويُستفادُ من الآيةِ: أنَّ التوحيدَ لا يَحْصُلُ بعبادةِ اللهِ مع غيرِه، بل لابدَّ مِن إخلاصِها للهِ، والناسُ في هذا المقامِ ثلاثةُ أقسامٍ: الأول: قسمٌ يعبُدُ اللهَ وحدَه. الثاني: وقسمٌ يعبُدُ غيرَه فقَط. الثالث: وقسمٌ يعبُدُ اللهَ وغيرَه،والأوَّلُ فقط هو المُوَحِّدُ. (4)قولُه: {أَحْبَارَهُمْ} والمعطوفُ عليها هو المفعولُ الأولُ لاتَّخَذوا، والمفعول الثاني: هو {أربابًا} أي: هؤلاء اليهودُ والنصَارَى صيَّروا أحبارَهم، ورُهْبانَهم أربابًا. والأحبارُ: جمعُ حَبْرٍ وهو العالِمُ،ويقالُ للعالِمِ أيضًا: بَحْرٌ؛ لكَثْرَةِ عِلْمِهِ. والْحَبْرُ: بفتحِ الحاءِ، وكسرِها، يقالُ: حَبْرٌ، وحِبْرٌ. قولُه: {وَرُهْبَانَهُمْ} أي: عُبَّادَهم.قولُه: {أربابًا} جمعُ ربٍّ، أيْ: يَجْعَلُونَهم أربابًا مِن دونِ اللهِ، فجعَلوا الأحبارَ أربابًا؛ لأنهم يأْتَمِرُون بأمرِهِم، في مخالفةِ أمرِ اللهِ، فيطيعُونَهم في معصيةِ اللهِ، وجَعَلُوا الرُّهْبانَ أرْبَابًا باتِّخاذِهِم أولياءَ يَعْبُدونهم مِن دونِ اللهِ. قولُه: {مِنْ دُونِ اللهِ} أي: مِن غيرِ اللهِ. قولُه: {والمسيحَ ابنَ مَرْيَمَ} معطوفٌ على أحبارهِم، أي: اتَّخذوا المسيحَ ابنَ مريمَ - أيضًا - رَبًّا حيثُ قالوا: إنه ثالثُ ثلاثةٍ. قولُه: {إلا ليَعْبُدُوا} أي: يَتَذَلَّلُوا بالطاعةِ للهِ وحدَه، الذي خلَقَ المسيحَ والأحبارَ والرُّهْبانَ والسماواتِ والأرضَ. قولُه: {لا إلهَ إلا هُو} أيْ: لا مَعْبُودَ حقٌّ إلا هو. قولُه: {سُبْحَانَه} تنزيهُ اللهِ عمَّا يُشْرِكون. ووجهُ كونِ هذه الآيةِ تَفسيرًا للتوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ: أنَّ اللهَ أنْكَرَ عليهم اتِّخاذَ الأحبارِ والرُّهْبانِ أربابًا مِن دونِ اللهِ، وهذه الآيةُ سيأتي لها تَرْجَمةٌ كامِلةٌ في كلامِ المؤلِّفِ رَحِمَه اللهُ، فهؤلاءِ جعلوا الأحبارَ شُركاءَ في الطاعةِ، كُلَّمَا أُمِروا بشيءٍ أطاعوهُم، سواءٌ وافقَ أمرَ اللهِ أمْ لا. إذًا: فتفسيرُ التوحيدِ -أيضًا- بلا إلهَ إلا اللهُ يستلزمُ أنْ تكونَ طاعتُك للهِ وحدَه، ولهذا على الرغمِ مِن تأكيدِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لطاعةِ ولاةَ الأمرِ فقد قالَ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ في المَعْرُوفِ)). (5)قولُه: {أَندَادًا} جمعُ نِدٍّ، وهو الشبيهُ والنظيرُ، ولهذا قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لمن قالَ له: ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ: ((أَجَعَلْتَني للهِ نِدًّا؟! بلْ ما شاءَ اللهُ وحدَهُ)).قولُه: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} هذا وجهُ المشابهةِ، أي: النِّدِّيةُ في المحبةِ، يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ. (وحبُّ) مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، أي: جَعَلُوهم مُسَاوِين للهِ، واخْتَلَفَ المفسِّرون في قولِه: {كَحُبِّ اللهِ}. فقيل:يجعلونَ محبَّةَ الأصنامِ مساويَةً لمحبَّةِ اللهِ،فيكونُ في قلوبِهم محبَّةٌ للهِ ومحبَّةٌ للأصنامِ، ويَجْعَلُون محبَّةَ الأصنامِ كمحبَّةِ اللهِ، فيكونُ المصدرُ مضافًا إلى مَفعولِه.وقيلَ:يُحبُّونَ هذه الأصنامَ كمحبةِ المؤمنين للهِ.وسياقُ الآيةِ يُؤَيِّدُ القول الأوَّلَ. قولُه: {وَالَّذِينَ آمَنواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ}على القول الأولِ يكونُ معناها: والذينَ آمنوا أشدُّ حبًّا للهِ مِن هؤلاء للهِ؛ لأنّ محبةَ المؤمنينَ خالصةٌ، ومحبةَ هؤلاءِ فيها شِرْكٌ بينَ اللهِ وبينَ أصنامِهم. وعلى القول الثاني معناها:والذين آمَنُوا أشدُّ حُبًّا للهِ مِن هؤلاء لأصنامِهِم؛لأنَّ محبَّةَ المؤمنين ثابِتَةٌ في السَّرَّاءِ والضرَّاءِ على برهانٍ صحيحٍ، بخلافِ المشركين فإنَّ محبَّتَهم لأصنامِهِم تتضاءَلُ إذا مسَّهُم الضُّرُّ. فما بالُكَ بِرَجُلٍ يحبُّ غيرَ اللهِ أكثرَ مِن محبَّتِهِ للهِ؟وما بالُك برجُلٍ يحبُّ غيرَ اللهِ ولا يُحِبُّ اللهَ؟ فهذا أقبحُ وأعظمُ، وهذا موجودٌ في كثيرٍ من المُنْتَسِبِين للإسلامِ اليومَ؛ فإنَّهم يُحِبُّون أولياءهم أكثرَ ممَّا يُحِبُّون اللهَ، ولهذا لو قيلَ لَه: احْلِفْ باللهِ، حلَفَ صادِقًا أو كاذبًا، أما الوليُّ فلا يحلِفُ بِهِ إلا صادقًا. وتجدُ كثيرًا مِنهم يَأْتُون إلى مكَّةَ والمدينةِ؛ويَرَوْن أن زيارةَ قبرِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أعظمُ مِن زيارةِ البيتِ؛ لأنّهم يَجِدُون في نفوسِهِم حبًّا لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كحبِّ اللهِ أو أعظمَ، وهذا شركٌ؛ لأنّ اللهَ يعْلَمُ أننا ما أحْبَبْنَا رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إلا لحبِّ اللهِ؛ فهو رسولُه، ما أحْبَبْنَاه لأنه محمدُ بنُ عبدِ اللهِ، لكننا أحْبَبْنَاه؛ لأنه رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فنحنُ نُحِبُّه بمحبَّةِ اللهِ، لكنْ هؤلاء يجعلونَ محبةَ اللهِ تابِعةً لمحبَّةِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إنْ أحَبُّوا اللهَ.فهذه الآيةُ فيها محنةٌ عظيمةٌ لكثيرٍ مِن قلوبِ المسلمين اليومَ، الذين يَجْعَلُونَ غيرَ اللهِ مِثْلَ اللهِ في المحبَّةِ.وفيه أناسٌ -أيضًا- أَشْرَكُوا باللهِ في مَحَبَّةِ غيرِه، لا على وجهِ العبادةِ الشرعيَّةِ لكن على وجهِ العبادةِ المذكُورةِ في الحديثِ، وهي محبَّةُ الدِّرهمِ والدينارِ والخَمِيصَةِ والخَمِيلَةِ، يُوجَدُ أُنَاسٌ لو فَتَّشْتَ عن قُلوبِهِم لوجَدتَ قلوبَهم مَلأى مِن مَحَبَّةِ متَاعِ الدُّنيا، وحتَّى هذا الذي جاءَ يُصَلِّي، هو في المسجدِ، لكن قَلْبُه مشْغولٌ بما يُحِبُّه مِن أمورِ الدنيا.فهذا نوعٌ من أنواعِ العبادةِ في الحقيقةِ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحِمَه اللهُ-: (كلُّ الأمورِ تَسيرُ بالمَحَبَّةِ، فأنت مثلاً لا تَتَحَرَّكُ لشيءٍ إلا وأنتَ تُحِبُّه؛ حتى اللُّقْمَةِ مِن الطعامِ، لا تأْكُلُها إلا لمحبَّتِكَ لها).ولهذا قيلَ:إنَّ جميعَ الحركاتِ مَبْنَاها علَى المحبَّةِ، فالمحبَّةُ أساسُ العَمَلِ، فالإشْراكُ بالمحبَّةِ إِشراكٌ باللهِ. والمحبَّةُ أنواعٌ: الأوَّلُ: المحبةُ للهِ، وهذه لا تُنَافِي التوحيدَ، بل هِي مِن كمالِهِ، فأَوْثَقُ عُرَى الإيمانِ: الحبُّ في اللهِ، والبُغضُ في اللهِ. والمحبَّةُ للهِ هي:أنْ تُحِبَّ هذا الشيءَ؛ لأنَّ اللهَ يُحِبُّه، سواءٌ كانَ شَخْصًا، أو عَمَلاً،وهذا مِن تمامِ التوحيدِ. الثاني: المحبةُ الطبيعيَّةُ التي لا يُؤْثِرُها المرءُ على محبةِ اللهِ، فهذه لا تُنَافِي محبَّةَ اللهِ، كمحبَّةِ الزوجةِ، والولدِ، والمالِ، ولهذا لما سُئل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أحبُّ الناسِ إليكَ؟ قالَ:((عائِشَةُ)).قيلَ: فَمِنَ الرِّجالِ؟قال: ((أَبُوها)). ومِن ذلك:محبةُ الطعامِ، واللِّباسِ. الثالثُ: المحبةُ مع اللهِ التي تُنَافى محبةَ اللهِ،وهي: أن تكونَ محبةُ غيرِ اللهِ كمحبةِ اللهِ، أو أكثرَ من محبةِ اللهِ، بحيثُ إذا تَعَارَضَتْ محبةُ اللهِ ومحبةُ غيرِه قَدَّمَ محبةَ غيرِ اللهِ؛ وذلك إذا جَعَلَ هذه المحبَّةَ نِدًّا للهِ يُقَدِّمُها على محبَّةِ اللهِ، أو يُسَاويها بها.الشاهِدُ مِن هذه الآيةِ: أنَّ اللهَ جعَلَ هؤلاء الذين ساوَوْا محبَّةَ اللهِ بمحبةِ غيرِه مُشْرِكِينَ جاعِلِينَ للهِ أنْدَادًا. (6)قولُه: (مَن قالَ لا إلهَ إلا اللهُ) أي: لا معبودَ حقٌّ إلا اللهُ، فلفْظُ الجلالةِ بَدَلٌ مِن الضميرِ المسْتَتِرِ في الخَبَرِ، ومَن يَرَى أنَّ (لا) تَعْمَلُ في المعْرِفَةِ يقولون: (اللهُ) خبرٌ مِثْلَ: {إِنَّما اللهُ إلهٌ واحِدٌ}قولُه: (وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ) هذا دليلٌ على أنَّه لا يكفي مجرَّدُ التلَفُّظِ بلا إلهَ إلا اللهُ، بلْ لا بدَّ أنْ تَكْفُرَ بعبادةِ مَن يُعبدُ مِن دونِ اللهِ، بلْ وتَكْفُرُ - أيضًا - بكلِّ كُفْرٍ. - فمَن يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ ويرَى أنَّ النصارَى واليهودَ اليومَ على دينٍ صحيحٍ فليسَ بمسلِمٍ. -ومَن يرَى الأديانَ أفكارًا يَخْتارُ منها ما يريدُ فليسَ بمسلِمٍ، بلْ الأديانُ عقائِدُ مرسومةٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، يتَمَشَّى الناسُ عليها، ولهذا يُنكَرُ على بعضِ الناسِ في تعبيرِهِ بقولِه:(الفِكرُ الإسلاميُّ، بل الواجبُ أنْ يقالَ: الدِّينُ الإسلاميُّ، أو العقيدةُ الإسلاميَّةُ، ولا بأسَ بقولِ المفكِّرِ الإسلاميِّ؛ لأنه وَصْفٌ للشخْصِ نَفْسِه، لا للدِّينِ الذي هو عليه).[قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (الدرر السنية) (2/243 ـ 244): (وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم:((وكفر بما يعبد من دون الله))فهذا: شرط عظيم، لا يصح قول: لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال؛ لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله؛ فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دلت عليه؛ من ترك الشرك والبراءة منه وممن فعله. فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى من فعل ذلك؛ صار مسلماً، معصوم الدم والمال. - وهذا معنى قوله تعالى:{فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعُ عليم}. وقد قيدت (لا إله إلا الله) في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال، لا بد من الإتيان بجميعها، قولاً واعتقاداً وعملاً، فمن ذلك حديث عتبان الذي في (الصحيح): -((فإن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)).
-وفي الحديث الآخر:((صدقاً من قلبه)).
-((خالصاً من قلبه)). -((مستيقناً بها قلبه)) غير شاك، فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له، مع العلم بمعناها ومضمونها، كما قال تعالى:{ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فاعلم أنه لا إله إلا الله}فمعناها يقبل الزيادة، لقوة العلم، وصلاح العمل) ] (7)قولُه: (وشرْحُ هذه الترجمةِ) المرادُ بالشرحِ هنا: التفصيلُ. و(الترجمةُ) هي التعبيرُ بلغةٍ عن لغةٍ أُخْرى، ولكنَّها تُطْلَقُ باصْطِلاحِ المؤلِّفين على العناوينِ، والأبوابِ، فيقالُ: تَرْجَمَ على كذا، أيْ: بَوَّبَ لهُ. (8)قولُه: (فيهِ أكبرُ المسائِلِ وأهمُّها، وهيَ تفسيرُ التوحيدِ) فتفسيرُ التوحيدِ لا بدَّ فيه من أمرَيْنِ: الأولُ: البراءةُ ممَّا سِوَى اللهِ عزَّ وجلَّ،والكُفرُ بغيرِهِ. الثاني: إثباتُ الألوهيَّةِ للهِ وحدَه، فلا بدَّ مِن النَّفْيِ والإثباتِ لتحقيقِ التوحيدِ؛ لأنَّ التوحيدَ جَعْلُ الشيءِ واحِدًا بالعقيدةِ والعَمَلِ، وهذا لا بدَّ فيه مِن النفيِ والإثباتِ. (9) قولُه: (وتفسيرُ الشهادةِ) الشهادةُ: هي التعبيرُ عمَّا تَيَقَّنَه الإنسانُ بقلْبِهِ. فقولُ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، أيْ: أَنْطِقُ بِلِساني معبِّرًا عمَّا يُكِنُّه قَلْبي مِن اليقينِ، وهو أنَّه لا إِلهَ إلا اللهُ. (10) قولُه: (منها: آيةُ الإسراء) وهي قولُه تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآيةَ، فبيَّن فيها الردَّ على المشركين الذين يَدْعُون الصالِحِين، وبيَّنَ أنَّ هذا هو الشِّركُ الأكْبَرُ؛ لأنَّ الدُّعاءَ مِن العبادةِ، قالَ تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فدَلَّ على أنَّ الدعاءَ عِبادةٌ؛ لأنّ آخِرَ الكلامِ تعليلٌ لأوَّلِهِ، فكلُّ مَن دَعا أحدًا غيرَ اللهِ حيًّا أو ميِّتًا فهو مُشْرِكٌ شِرْكًا أكْبَرَ. والدعاءُ ينقسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: الأوَّلُ:جائِزٌ،وهو أنْ تَدْعُوَ مخلوقًا بأمرٍ مِن الأمورِ التي يمكنُ أن يُدْرِكَهَا بأشياءَ محسوسةٍ معلومَةٍ، فهذا ليس من دعاءِ العبادةِ، بل هو مِن الأمورِ الجائِزَةِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِذا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ)). الثاني: أنْ تَدْعُوَ مخلوقًا مُطْلَقًا،سواءٌ كانَ حيًّا أو ميِّتًا فيما لا يَقْدِرُ عليه إلا اللهُ، فهذا شِركٌ أَكْبَرُ؛ لأنَّكَ جَعَلْتَه نِدًّا للهِ فيما لا يقْدِرُ عليه إلا اللهُ، مِثْلَ: يا فلانُ، اجْعَلْ ما في بَطْنِ امْرَأتي ذَكَرًا. الثالثُ: أنْ تدعوَ مَخْلُوقًا ميِّتًا لا يُجِيبُ بالوسائِلِ الحِسِّيَّةِ المعلومَةِ،فهذا شِرْكٌ أكبرُ أيضًا؛ لأنه لا يَدْعُو مَن كانَ هذه حالَه حتى يعْتَقِدَ أنَّ له تَصَرُّفًا خَفِيًّا في الكونِ. (11) قولُه: (ومِنها آيةُ (براءَةٌ)، بيَّنَ أنَّ أهلَ الكتابِ اتَّخَذُوا أحبَارَهُم ورُهْبَانَهُم أربابًا مِن دونِ اللهِ) وهذا شِرْكُ الطاعةِ، وهو بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ ألصقُ من توحيدِ الألوهيَّةِ؛ لأنَّ الحكمَ -شرعِيًّا كانَ أو كونيًّا- إلى اللهِ تعالى، فَهو من تمامِ رُبُوبِيَّتِهِ: -قالَ تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ}. -وقالَ تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. والشيخُ-رحِمَه اللهُ- جَعَلَ شِرْكَ الطاعةِ مِنَ الأكْبَرِ، وهذا فيه تَفْصِيلٌ، وسيأتي -إنْ شاءَ اللهُ- في بابِ مَن أطاعَ الأمراءَ والعلماءَ في تحليلِ ما حَرَّمَ اللهُ، أو بالعكسِ. (12) قولُه: (ومنها: قولُ الخليلِ - عليه السلامُ - للكفارِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فاسْتَثْنَى من المعبودين ربَّه) فدَلَّ هذا على أن التوحيدَ لا بدَّ فيه من نفيٍ وإثباتٍ؛ بالبراءةِ مما سوى اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ للهِ وحدَه. (وذكَرَ - سُبحانَه - أنَّ هذه البراءةَ وهذه الموالاةَ هي تفسيرُ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، فقالَ:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}) وهي لا إلهَ إلا اللهُ، فكانَ معنى قولِه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} هُو معنى قولِ: لا إلهَ إلا اللهُ. (13) قولُه: (ومنها آيةُ البَقَرَةِ في الكفارِ الذينَ قالَ اللهُ فيهم: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}) فجَعَلَ اللهُ المحبَّةَ شِرْكًا إذا أَحَبَّ شيئًا سِوى اللهِ كمَحَبَّتِه للهِ، فيكونُ مُشْرِكًا معَ اللهِ في المحبَّةِ، ولهذا يَجِبُ أنْ تكونَ محبَّةُ اللهِ خالِصَةً لا يُشَارِكُه فيها أَحَدٌ، حتى محبَّةُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فلولا أنه رسولٌ مَا وَجَبَتْ طاعتُه ولا محبَّتُه إلا كمَا نُحِبُّ أيَّ مُؤْمِنٍ، ولا يُمْنَعُ الإنسانُ من محبةِ غيرِ اللهِ، بل له أن يحبَّ كلَّ شيءٍ تُبَاحُ محبَّتُه، كالوَلَدِ، والزوْجَةِ، ولكن لا يَجْعَلُ ذلك كمحبَّةِ اللهِ. (14)قالَ المؤلِّفُ: (فكيف بمَن أحبَّ النِّدَّ أكبرَ مِن حبِّ اللهِ؟! وكيف بمَن لم يُحِبَّ إلا النِّدَّ وحدَه ولم يُحِبَّ اللهَ؟!) فالأقسامُ أربعةٌ: الأوَّلُ: أنْ يُحِبَّ اللهَ حبًّا أشَدَّ مِن غيرِه،فهذا هو التوحيدُ. الثاني: أن يُحِبَّ غيرَ اللهِ كمحبَّةِ اللهِ، وهذا شرْكٌ. الثالثُ:أن يحبَّ غيرَ اللهِ أشدَّ حبًّا مِن اللهِ، وهذا أعْظَمُ ممَّا قبْلَه. الرابعُ: أن يحبَّ غيرَ اللهِ وليسَ في قلبِهِ محبَّةٌ للهِ تعالى،وهذا أعظمُ وأطَمُّ. (15)قولُه: (ومنها: قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ قالَ: لا إِلهَ إلا اللهُ))) إلخ. إذًا:فلا بُدَّ من الكفرِ بالطاغوتِ والإيمانِ باللهِ، قالَ تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. قولُه: (وكَفَرَ بما يُعْبَدُ مِن دُونِ اللهِ) أي: كفَرَ بالأصنامِ، وأنكَرَ أن تكونَ عبادَتُها حقًّا، فلا يكْفي أنْ يقولَ: (لا إلهَ إلا اللهُ) ولا أعْبُدُ صَنَمًا، بل لا بدَّ أنْ يقولَ: الأصنامُ التي تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ أَكْفُرُ بها وبعبادتِها. فمَن رضِيَ دينَ النصارَى دِينًا يَدِينون اللهَ بِه فهو كافِرٌ؛لأنَّه إذا ساوَى غيرَ دينِ الإسلامِ مع الإسلامِ فقد كذَّبَ قولَه تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}.وبهذا يكونُ كافِرًا.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
مرّ معنا أن التوحيد:هو شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا قال العلماء: العطف هنا (التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله) هذا من عطف المترادفات، ولكن هذا فيه نظر؛ من جهة أن الترادف غير موجود، الترادف الكامل، لكن الترادف الناقص موجود.
فإذاً:هو من قبيل عطف المترادفات التي معناها واحد؛ لكن يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى.فالتوحيد مرّ معنا تعريفه في أول الكتاب، وقوله: (باب تفسير التوحيد) يعني: الكشف والإيضاح عن معنىالتوحيد.
وقد قلتُ لك:إن التوحيد هو:-اعتقاد أن الله -جل وعلا- واحد في ربوبيته لا شريك له.
-واحد في إلهيته لا نِدَّ له.
-واحد في أسمائه وصفاته لا مثل له سبحانه وتعالى.قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويشمل ذلك أنواع التوحيد جميعاً.فإذاً: التوحيد: هو اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء.(وشهادة أن لا إله إلا الله)يعني: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله.هذه الشهادة أعظم كلمة قالها مكلّف،ولا شيء أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسموات، وما تعبّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها.(شهادة أن لا إله إلا الله) الشهادة:
-تارة تكون شهادة حضور وبصر.
-وتارة تكون شهادة علم، يعني: يشهد على شيء حضره ورآه، أو يشهد على شيء علمه، هذان نوعان لمعنى الشهادة.
فإذا قال قائل: (أشهد) فيحتمل أنه سيأتي بشيء رآه، أو بشيء علمه، و(أشهد أن لا إله إلا الله) هذه شهادة علمية، ولهذا في قوله: (أشهد) العلم.
والشهادة في اللغة، وفي الشرع، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ (شهد) كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وكقوله: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (شهد) تتضمن أشياء:
الأول: الاعتقاد بما سينطق به،الاعتقاد بما شهده (شهد أن لا إله إلا الله) يعني: اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة.وهذا فيه العلم، وفيه اليقين؛لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقاداً إلا إذا كان ثَمَّ علم ويقين.
الثاني: التكلم بها{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} صار اعتقاداً، وصار أيضاً إعلاماً ونطقاً بها.
الثالث: الإخبار بذلك والإعلام به،فينطقه بلسانه من جهة الواجب، وأيضاً لا يسمى شاهداً حتى يخبر غيره بما شهد، هذا من جهة الشهادة.فإذاً:يكون (أشهد أن لا إله إلا الله) معناها: أعتقد، وأتكلم، وأُعْلِم، وأُخْبِر بأن لا إله إلا الله، فافترقت إذاً عن حال الاعتقاد، وافترقت إذاً عن حال القول، وافترقت إذاً عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد من الثلاثة مجتمعة، ولهذا نقول في الإيمان: إنه اعتقاد الجنَاَن، وقول اللسان، وعمل الجوارح والأركان.
(لا إله إلا الله):هذه هي كلمة التوحيد، وهي مشتملة من حيث الألفاظ على أربعة ألفاظ:
الأول: لا.
الثاني: إله.
الثالث: إلا.
الرابع: (لفظ الجلالة)الله.
أما (لا) هنا: فهي النافية للجنس، تنفي جنس استحقاق الألوهية عن أحد إلا الله جل وعلا - في هذا السياق- وإذا أتى بعد النفي (إلا) وهي أداة الاستثناء، صارت تفيد معنىً زائداً وهو الحصر والقصر، فيكون المعنى: الإلهية، الحقة أو الإله الحق هو الله بالحصر والقصر، ليس ثَمَّ إله حق إلا هو دون ما سواه.وكلمة (إله):فِعَال، يعني: من جهة الوزن قالوا: فِعالٌ تأتي أحياناً بمعنى فاعل، وتأتي أحياناً بمعنى مفعول، وننظر هنا فنجد أن كلمة (أَلَهَ) في اللغة بمعنى عبد، وقال بعض اللغويين: (أَلَهَ) يأله إذا تحير، (أَلَهَ فلان، ويألَه، أو تألَّه إذا تحير) وسمي الإله عندهم إلهاً؛ لأن الألباب تحيرت في كُنْهِ وصفه، وكُنْهِ حقيقته.
وهذا القول ليس بجيد،بل الصواب أن كلمة (إلَه): فعال بمعنى مفعول؛ وهو المعبود، فـ(إله) معناها: معبود.ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس: أنه قرأ في سورة الأعراف:{أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلاهتك} كان ابن عباس يقرأها هكذا: {ويذرك وإلاهتك}.قال: لأن فرعون كان يُعْبَد، ولم يكن يَعْبُد، فصوّب القراءة بـ {ويذرك وإلاهتك} يعني: وعبادتك، وقراءتنا -وهي قراءة السبعة- {ويذرك وآلهتك} يعني: المتقدمين، فهذا معناه: أن ابن عباس فهم من الإلهة معنى العبادة.
قال الراجز في شعره المعروف الذي ذكرته لكم من قبل:
لـِلـــَّهِ دَرُّ الــــغـَانـِيـَاتِ الــــمُدَّه =ِ سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلهُّي
يعني: من عبادتي.فإذاً:يكون الإله هو المعبود.
(لا إله)يعني: لا معبود إلا الله.هنا (لا معبود): (لا) النافية للجنس -كما تعلمون- تحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تعمل عمل (إنَّ) عَمَلَ إنَّ اجْعَلْ للا في نَكِرَهْ فأين خبر (لا) النافية للجنس؟ كثير من الناس من المنتسبين للعلم قدروا الخبر: لا إله موجود إلا الله.وهذا يحتاج إلى مقدمة قبله، وهو أن المتكلمين، والأشاعرة، والمعتزلة، ومن ورثوا علوم اليونان؛ قالوا: إن كلمة (إله) هي بمعنى فاعل؛ لأن (فِعَال) تأتي بمعنى مفعول أو فاعل، فقالوا: هي بمعنى (آله) و(الآله) هو القادر، ففسروا (الإله) بأنه القادر على الاختراع.
ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة ما هو مسطور في شرح (العقيدة السنوسية) التي تسمى عندهم بـ(أم البراهين) قال ما نصه فيها: (الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه).قال: (فمعنى لا إله إلا الله: لا مستغنياً عما سواه، ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله) ففسروا الألوهية بالربوبية، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع أو بالمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، وبالتالي يقدرون الخبر (موجود)، (لا إله موجود) يعني: لا قادر على الاختراع والخلق موجود إلا الله، لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه موجود إلا الله؛ لأن الخلق جميعاً محتاجون إلى غيرهم.
وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك في المسلمين؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو إفراد الله في الربوبية، فإذا اعتقد أن القادر على الاختراع هو الله وحده، صار موحداً.إذا اعتقد أن المستغني عما سواه والمفتقر إليه كل ماعداه هو الله وحده، صار عندهم موحداً، وهذا من أبطل الباطل، أين حال مشركي قريش الذين قال الله -جل وعلا- فيهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وفي آية أخرى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ} ونحو ذلك من الآيات، وهي كثيرة؛ كقوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} الآيات من سورة يونس، وهذا معلوم أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية.فإذاً:صارت هذه الكلمة دالة على غير ما أراد أولئك، وهو ما ذكرناه آنفاً من أن معنى (لا إله) يعني: لا معبود، فيكون الخبر: إما أن يكون تقديره: (موجود) فيكون المعنى: لا معبود موجود إلا الله، وهذا باطل؛ لأننا نرى أن المعبودات كثيرة.وقد قال جل وعلا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ} مخبراً عن قول الكفار: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهاً وَاحِداً} فالمعبودات كثيرة، والمعبودات موجودة، فإذاً: تقدير الخبر بموجود غلط.
ومن المعلوم أن المتقرر في علم العربية أن خبر (لا) النافية للجنس يكثر حذفه في لغة العرب؛ وفي نصوص الكتاب والسنة، ذلك أن خبر (لا) النافية للجنس يحذف إذا كان المقام يدل عليه، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك، وقد قال ابن مالك في آخر (باب لا النافية للجنس) حينما ساق هذه المسألة:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر= إذا الـمــرادمــــع سـقـوطه ظهر
إذا ظهر المراد مع حذف الخبر فإنك تحذف الخبر؛ لأن الكلام الأنسب أن يكون مختصراً، كما قال عليه الصلاة والسلام:((لا عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُوْلَ)). أين الخبر؟كلها محذوفات؛ لأنها معلومة لدى السامع.إذاً:فالخبر هنا معلوم، وهو أنه ليس الخبر (موجوداً) يعني: يقدر بـ(موجود) لأن الآلهة التي عبدت مع الله موجودة، فيقدر الخبر بقولك: (بحق) أو (حق) لا إله بحق، يعني: لا معبود بحق، أو لا معبود حق إلا الله، إن قدرت الظرف فلا بأس، أو قدرت كلمة مفردة (حق) لا بأس، لا معبود حق إلا الله، هذا معنى كلمة التوحيد.فيكون إذاً: كل من عُبِدَ غير الله جل وعلا، عبد نعم، ولكن هل عبد بالحق أم عبد بالباطل، والظلم، والطغيان، والتعدي؟ عبد بالباطل، والظلم، والطغيان، والتعدي؛ وهذا يفهمه العربي من سماع كلمة (لا إله إلا الله) ولهذا كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (بئس قومٌ أبو جهلٍ أعلم منهم بلا إله إلا الله، يفهم هذه الكلمة وأبى أن يقولها).
ولو كانت كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله؛ لقالوها بسهولة، ولم يدروا ما تحتها من المعاني، لكن يعلم أن معناها لا معبود حق إلا الله، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم - ولن يقر بالظلم على نفسه- وبالبغي -ولن يقر بأنه باغ متعد- وبالتعدي والعدوان، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله.
وفيها:الجمع بين النفي والإثبات؛ كما سيأتي في بيان آية الزخرف:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.قال الإمام رحمه الله: (وقول الله تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}) هذه الآية تفسير للتوحيد، وذلك أننا عرّفنا التوحيد بأنه إفراد الله بالعبادة، وهو توحيد الإلهية، وهذه الآية اشتملت على الثناء على خاصة عباد الله بأنهم وحَّدوا الله بالإلهية، وهذه مناسبة الآية للباب، فقد وصفهم الله -جل وعلا- بقوله: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} و(يدعون) بمعنى يعبدون؛ لأن الدعاء هو العبادة.
والدعاء نوعان كما سيأتي تفصيله:
-دعاء مسألة.
- ودعاء عبادة.
قال هنا:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعني: يعبدون.{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}
الوسيلة: هي القصد والحاجة، يعني: أن حاجاتهم يبتغونها إلى ربهم ذي الربوبية الذي يملك الإجابة.
وفي قول الله -جل وعلا- في سورة المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سئل ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وهي من مسائل نافع بن الأزرق المعروفة - سئل عن قوله: {الوسيلة} في قوله: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} ما معنى الوسيلة؟قال: (الوسيلة: الحاجة) فقال له: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: (نعم، ألم تسمعا إلى قول الشاعر - وهو عنترة-: إن الرجال -يخاطب امرأة-:
إن الـرجال لـهم إلـيك وسيلـةٌ =أن يأخذوك تكحّلي وتخضبي
(لهم إليك وسيلة)يعني: لهم إليك حاجة.ووجه الاستدلال من آية المائدة:أنه قال: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} فقدّم الجار والمجرور على لفظ الوسيلة، وتقديم الجار والمجرور -وحقه التأخير- يفيد الحصر والقصر، وعند عدد من علماء المعاني يفيد الاختصاص، وهذا أو ذاك فوجه الاستدلال ظاهر في أن قوله تعالى في آية الإسراء:{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} أن حاجاتهم إنما يبتغونها عند الله، وقد اختص الله -جل وعلا- بذلك، فلا يتوجهون إلى غيره، وقد حصروا وقصروا التوجه في الله جل وعلا.وقد جاء بلفظ الربوبية دون لفظ الألوهية،يعني قال: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ولم يقل: (يبتغون إلى الله الوسيلة) لأن إجابة الدعاء والإثابة هي من مفردات الربوبية؛ لأن ربوبية الله على خلقه تقتضي أن يجيب دعاءهم، وأن يعطيهم سؤلهم؛ لأن ذاك من أفراد الربوبية.فإذاً: ظهر من قوله: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} أن فيها تفسير التوحيد، وهو أن كل حاجة من الحاجات إنما تنـزلها بالله جل وعلا.{يدعون}يعبدون، وهم إنما يطلبون حاجاتهم من الله جل وعلا، فلا يعبدون بنوع من العبادات ويتوجهون به لغير الله.
-فإذا نحروا فإنما ينحرون يبتغون إلى ربهم الحاجة.
-وإذا صلوا إنما يصلون يبتغون إلى ربهم الحاجة.
-وإذا استغاثوا فإنما يستغيثون بالله يبتغون إليه الحاجة دون ما سواه، إلى آخر مفردات توحيد العبادة.فهذه الآية دالة بظهور على أن قوله: {يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} أنه هو التوحيد.وقد استشكل بعض أهل العلم إيراد هذه الآية في هذا الباب،وقال: ما مناسبة هذه الآية لهذا الباب؟ وبما ذكرت لك تتضح المناسبة جلية،قال جل وعلا: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وهذه حال خاصة عباد الله: أنهم جمعوا بين العبادة، وبين الخوف، وبين الرجاء؛ فيرجون رحمته، يخافون عذابه؛ وهم إنما توجهوا إليه وحده دونما سواه؛ فأنزلوا الخوف، والمحبة، والدعاء، والرغب، والرجاء في الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، وهذا هو تفسير التوحيد.
- قال رحمه الله: (وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}
وجه الاستدلال من هذه الآية: في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} هذه الجملة فيها البراءة وفيها الإثبات، البراءة مما يعبدون، قال بعض أهل العلم: تبَرَّأَ من العبادة ومن المعبودين قبل أن يَتَبَرَّأَ من العابدين؛ لأنه إذا تبرأ من أولئك فقد بلغ به الحنق، والكراهة، والبغضاء، والكفر بتلك العبادة مبلغها الأعظم؛ وقد جاء تفصيل ذلك في آية الممتحنة كما هو معلوم.
إذاً: مناسبة هذه الآية للباب:أن قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} اشتملت على نفي وإثبات، فهي مساوية لكلمة التوحيد، بل هي دلالة كلمة التوحيد، ففي هذه الآية تفسير شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولهذا قال -جل وعلا-بعدها: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} ما هذه الكلمة؟ هي قول: (لا إله إلا الله)كما عليه تفاسير السلف.فإذاً:قوله جل وعلا: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} هذا فيه النفي الذي نعلمه من قوله: (لا إله) فتفسير شهادة أن لا إله إلا الله في هذه الآية، (لا إله)معناها: {إنني براء مما تعبدون}.(إلا الله) معناها: {إلا الذي فطرني}.فإذاً:في آية الزخرف هذه أن إبراهيم -عليه السلام- شرح لهم معنى كلمة التوحيد بقوله: {إنني براء مما تعبدون}والبراءة:هي الكفر، والبغضاء، والمعاداة؛ تبرأ من عبادة غير الله: إذا أبغضها، وكفر بها،وعاداها؛ وهذه لابد منها، لا يصح إسلام أحد حتى تقوم هذه البراءة في قلبه؛ لأنه إن لم تقم هذه البراءة في قلبه فلا يكون موحداً.البراءة:هي أن يكون مبغضاً لعبادة غير الله، كافراً بعبادة غير الله، معادياً لعبادة غير الله؛كما قال هنا: {إنني براء مما تعبدون}. أما البراءة من العابدين: فإنها من اللوازم، وليست من أصل كلمة التوحيد،البراءة من العابدين، فقد يعادي وقد لا يعادي، وهذه لها مقامات: منها ما هو مُكَفر، ومنها ما هو نوع مولاة ولا يصل بصاحبه إلى الكفر.
إذاً:تحصل لك أن البراءة التي هي مضمنة في النفي (لا إله): بغض لعبادة غير الله؛ وكفر بعبادة غير الله، وعداوة لعبادة غير الله، وهذا القدر لا يستقيم إسلام أحد حتى يكون في قلبه ذلك.قال: {إلا الذي فطرني} وهذا استثناء كما هو الاستثناء في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قال بعض أهل العلم:{إلا الذي فطرني} ذكر الفطر دون غيره؛ لأن في ذلك التذكير بأنه إنما يستحق العبادة من فَطَرَ، أما من لم يَفْطِرْ ولم يخلق شيئاً فإنه لا يستحق شيئاً من العبادة. إذاً:مناسبة هذه الآية ظاهرة للباب، ووجه الاستدلال منها، ومعنى البراءة، ومعنى النفي والإثبات فيها وفي كلمة التوحيد.قال: (وقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ}): {أرباباً}جمع رب، والربوبية هنا هي العبادة، يعني: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم معبودين، {من دون الله} يعني: مع الله، وذلك أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، والطاعة من التوحيد، فرد من أفراد العبادة أن يطيع في التحليل والتحريم، فإذا أطاع غير الله في التحليل وفي التحريم فإنه قد عبد ذلك الغير.فهذه الآية فيها ذكر أحد أفراد التوحيد، أحد أفراد العبادة، وهو الطاعة، وسيأتي إيرادها في باب مستقل إن شاء الله تعالى مع بيان ما تشتمل عليه من المعاني.قال: (وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}) أثبت الله -جل وعلا- أنهم اتخذوا من دون الله أنداداً، يعني: مع الله أو من دونه أنداداً جعلوهم يستحقون شيئاً من العبادات، ووصفهم بأنهم يحبونهم -يعني المشركين- {يحبونهم كحب الله}.
وقوله هنا: {كحب الله} المفسرون من السلف فمن بعدهم هنا على قولين:
منهم من يقول:{يحبونهم كحب الله}هي كلها في الذين اتخذوا أنداداً، يعني: يحبون أندادهم كحبهم لله.وقال آخرون: {يحبونهم كحب الله}
يعني: يحبونهم كحب المؤمنين لله، فالكاف بمعنى (مِثْل) هنا؛ كقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، {كالحجارة}: الكاف هنا اسم بمعنى مثل؛ لأنه عطف عليه اسماً آخر، قال: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}. {يحبونهم كحب الله}
يعني: ساووا محبة تلك الآلهة بمحبة الله، فهم يحبون الله حبّاً عظيماً ولكنهم يحبّون تلك الآلهة أيضاً حبّاً عظيماً، وهذا التساوي هو الشرك، والتسوية هذه هي التي جعلتهم من أهل النار؛ كما قال -جل وعلا- في سورة الشعراء مخبراً عن قول أهل النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومعلوم أنهم ما سوَّوا تلك الآلهة برب العالمين في الخلق والرزق ومفردات الربوبية، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والعبادة.
فإذاً:هنا يكون قوله جل وعلا: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} يعني: يحبونهم محبة مثل محبتهم لله، وهذا الوجه أرجح من الوجه الآخر الذي تقديره: كحب المؤمنين لله، والذين آمنوا أشد حبّاً لله.
وجه الاستدلال من الآية ومناسبتها للباب ظاهرة في أن التشريك في المحبة منافٍ لكلمة التوحيد، منافٍ للتوحيد من أصله، بل حكم الله عليهم بأنهم اتخذوا أنداداً من دون الله، ووصفهم بأنهم اتخذوا الأنداد في المحبة، والمحبة محركة، وهي التي تبعث على التصرفات.
فإذاً: هنا ذكر للمحبة، والمحبة نوع من أنواع العبادة،ولما لم يفردوا الله بهذه العبادة صاروا متخذين أنداداً من دون الله، وهذا معنى التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله.ثم قال رحمه الله: (في (الصَّحِيحِ) عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ:((مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مالُه ودمُه؛ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلّ))) في هذا الحديث بيان التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، ذلك أن ثمة فرقاً بين قول لا إله إلا الله، وبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، فالتوحيد والشهادة أرفع درجة ومختلف عن مجرد القول؛ وهذا الحديث فيه قيد زائد عن مجرد القول، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ)) فيكون الواو هنا تعطف، ويكون ما بعدها غير ما قبلها؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، ويكون((كفر بما يعبد من دون الله)):هذه زيادة على مجرد القول، فيكون قال: لا إله إلا الله، ومع قوله كفر بما يعبد من دون الله، يعني: تبرأ مما يعبد من دون الله، هذا قول.
والقول الثاني:أن الواو هنا ليست عاطفة عطف مغايرة شيء عن شيء أصلاً،وإنما هي من باب عطف التفسير، يعني: يكون ما بعدها بعض ما قبلها؛ كقوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْريلَ وَميكالَ} جبريل وميكال: بعض الملائكة؛ فعطفهم، وخصهم بالذكر؛ وأظهر اسم جبريل وميكال لبيان أهمية هذين الاسمين، وأهمية الملكين؛ لأن أولئك اليهود لهم كلام في جبريل وميكال.
المقصود: أن يكون العطف هنا عطف خاص بعد عام، أو عطف تفسير؛ لأن ما بعدها داخل فيما قبلها، وهذا تفسير لقوله: لا إله إلا الله.
فيكون إذاً: لا إله إلا الله -على هذا القول الثاني- متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، وهذا هو الذي ذكرته لك في معنى البراءة في آية الزخرف:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} قلنا: البراءة تتضمن البغض، والكفر، والمعاداة؛ الكفر بما يعبد من دون الله، وهذا تفسير ظاهر لكلمة التوحيد.
قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ)) هذا تفسير، وهذا الوجه الثاني هو الأظهر والأنسب لسياق الشيخ رحمه الله تعالى، بل هو الذي يتوافق مع ما قبله من الأدلة. قال: ((حَرُمَ دمُه ومالهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلّ)) ذلك أنه صار مسلماً، من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله صار مسلماً، والمسلم لا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث، ولا يحل ماله؛ ولهذا قال هنا: ((حرم ماله ودمه)). إذاً:يظهر لك من هذه الترجمة وما فيها من الآيات والحديث: أن تفسير التوحيد، وتفسير شهادة أن لا إله إلا لله؛ يحتاج منك إلى مزيد عناية، ونظر، وتأمل، وتأن؛ٍ حتى تفهمه بحجته، وببيان وجه الحجة في ذلك.بعد ذلك قال الشيخ رحمه الله: (وتفسير هذه الترجمة ما يأتي بعدها من أبواب) فالكتاب كله هو:
-تفسير للتوحيد.
- وتفسير لكلمة لا إله إلا الله، وبيان ما يضاد ذلك.
-وبيان ما ينافي أصل التوحيد
وما ينافي كمال التوحيد.
- وبيان الشرك الأكبر، والشرك الأصغر، والشرك الخفي، وشرك الألفاظ، وبيان بعض مستلزمات التوحيد: توحيد العبادة من الإقرار لله بالأسماء والصفات، وبيان ما يتضمن توحيد العبادة من الإقرار لله -جل وعلا- بالربوبية.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
العناصر
أهمية باب (تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله)
مناسبة باب (تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله) لما قبله
شرح ترجمة الباب (تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله)
- بيان حقيقة تفسير التوحيد
- بيان أنواع الشهادة من جهة اللغة
- بيان معنى الشهادة شرعاً وما تتضمنه
- بيان معنى (لا إله إلا الله)
- كلمة التوحيد لا تنفع من قالها وهو لا يعلم معناها ولا يعمل بمقتضاها
- بيان أن كل من عبد غير الله فقد عبده بالباطل
مقدمة في بيان الخلاف في تقدير الخبر في كلمة التوحيد
- تقدير الخبر في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)
- بيان الآثار المترتبة على الخطأ في معرفة معنى كلمة التوحيد
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة... الآية)
- مرجع الإشارة والضمير في قوله: (أولئك الذين يدعون...)
- استشكال بعض أهل العلم لإيراد هذه الآية في هذا الباب وجوابه
- أقسام الدعاء
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ...) الآية
- معنى قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون)
- معنى قوله تعالى: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني)
- سبب تعبير إبراهيم بقوله (إلا الذي فطرني) ولم يقل إلا الله؟
- المراد بالكلمة في قوله -تعالى-: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)، ومعنى كلمة التوحيد
- دلالة الآية على معنى كلمة التوحيد
تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) الآية
- مناسبة الآية للترجمة
- الفرق بين الأحبار والرهبان في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً) وما تدل عليه
- كلام قيم لشيخ الإسلام في أقسام من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، وحكم التقليد
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) الآية
- مناسبة قوله -تعالى-(ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً..) للباب
- معنى قوله -تعالى-: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)
- تفسير قوله - تعالى- (والذين آمنوا أشد حبا لله)
- كلام لابن القيم في توحيد المحبوب وتوحيد الحب
- أنواع المحبة
شرح حديث أبي مالك الأشجعي: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله….الحديث)
- المراد بقول المصنف -هنا- (في الصحيح)
- تخريج حديث أبي مالك الأشجعي
- ترجمة أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه
- معنى قوله: (من قال لاإله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله)
- بيان معنى كلمة (إله)
- معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وحسابه على الله)
- بم تثبت عصمة الدم والمال، وذكر الأدلة وكلام العلماء في ذلك
- جملة من فوائد حديث أبي مالك الأشجعي
المراد بقول المصنف (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب)