20 Oct 2008
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النَّحْل: 120].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} [الْمُؤْمِنُون:59].
وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ
الْبَارِحَةَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ
فِي صَلاَةٍ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ:
ارْتَقَيْتُ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ
حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ، قَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمْ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا
عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ أَنَّهُ قَالَ: "لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ"،
قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ؛ وَلَكِنْ
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ
النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ
وَالرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي
سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا
مُوسَى وَقَوْمُهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي:
هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ"، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ
مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ
فَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ
عَلَيْهِم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ"، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ" .
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: مَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي التَّوْحِيدِ .
الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى تَحْقِيقِهِ ؟
الثَّالِثَةُ: ثَنَاؤُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِكَوْنِهِ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .
الرَّابِعَةُ: ثَنَاؤُهُ عَلَى سَادَاتِ الأَوْلِيَاءِ بِسَلاَمَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ .
الْخَامِسَةُ: كَوْنُ تَرْكِ الرُّقْيَةِ وَالْكَيِّ مِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ .
السَّادِسَةُ: كَوْنُ الْجَامِعِ لِتِلْكَ الْخِصَالِ هُوَ التَّوَكُّلَ .
السَّابِعَةُ: عُمْقُ عِلْمِ الصَّحَابَةِ لِمَعْرِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَنَالُوا ذَلِكَ إِلاَّ بِعَمَلٍ .
الثَّامِنَةُ: حِرْصُهُمْ عَلَى الْخَيْرِ .
التَّاسِعَةُ: فَضِيلَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ .
الْعَاشِرَةُ: فَضِيلَةُ أَصْحَابِ مُوسَى .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: عَرْضُ الأُمَمِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ .
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُحْشَرُ وَحْدَهَا مَعَ نَبِيِّهَا .
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قِلَّةُ مَنِ اسْتَجَابَ لِلأَنْبِيَاءِ .
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ يَأْتِي وَحْدَهُ .
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: ثَمَرَةُ هَذَا الْعِلْمِ وَهُوَ عَدَمُ الاِغْتِرَارِ بِالْكَثْرَةِ وَعَدَمُ الزُّهْدِ فِي الْقِلَّةِ .
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الرُّخْصَةُ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ .
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: عُمْقُ عِلْمِ السَّلَفِ
لِقَوْلِهِ: (قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ
كَذَا وَكَذَا) فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ الأَوَّلَ لاَ يُخَالِفُ
الثَّانِيَ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: بُعْدُ السَّلَفِ عَنْ مَدْحِ الإِنْسَانِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: "أَنْتَ مِنْهُمْ" عَلَمٌ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبُوَّةِ.
الْعِشْرُونَ: فَضِيلَةُ عُكَّاشَةَ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ.
الثَّانِيةُ وَالْعِشْرُونَ: حُسْنُ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1) أيْ: وَلاَ عَذَابٍ.
وَتَحْقِيقُ التَّوْحيدِ: هوَ مَعْرِفَتُهُ، والاطِّلاَعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، والقِيَامُ بهِ عِلْمًا وعَمَلاً.
وحَقِيقَةُ ذلكَ هوَ انْجِذَابُ الرُّوحِ إلى اللهِ مَحَبَّةً وَخَوْفًا،
وإِنَابَةً وتَوَكُّلاً، ودُعَاءً وإِخْلاَصًا، وإِجْلاَلاً وهَيْبَةً،
وتَعْظِيمًا وعِبَادَةً.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلاَ يَكُونُ في قَلْبِهِ شَيْءٌ لغَيْرِ اللهِ، وَلاَ
إِرَادَةٌ لِمَا حَرَّمَ اللهُ، وَلاَ كَرَاهَةٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ،
وذَلِكَ هوَ حَقِيقَةُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ فَإِنَّ الإِلَهَ هوَ
المَأْلُوهُ المَعْبُودُ.
ومَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ابنُ القيِّمِ:
فلِواحِدٍ كُنْ واحِدًا في واحِدٍ=أَعْنِي سَبِيلَ الحَقِّ والإِيمَـانِ
وذَلِكَ هوَ حَقِيقَةُ الشَّهَادَتَيْنِ.
فَمَنْ قَامَ بِهِما عَلَى هَذَا الوَجْهِ فهوَ مِن السَّبْعِينَ أَلْفًا
الَّذينَ يَدْخُلُونَ الجنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ ولاَ عَذَابٍ.
(2) قولُهُ: (وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[النحل:120] ).
مُنَاسَبَةُ الآيَةِ للتَّرْجَمَةِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى
وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ في هذهِ الآيَةِ بهذهِ الصِّفَاتِ
الجَلِيلَةِ الَّتِي هيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ تَحْقِيقِ التَّوْحيدِ؛
تَرْغِيبًا في اتِّبَاعِهِ في التَّوْحيدِ، وتَحْقِيقِ العُبُودِيَّةِ في
اتِّباعِ الأَوَامِرِ وتَرْكِ النَّواهِي، فمَن اتَّبعَهُ في ذلكَ فإنَّهُ
يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ كَمَا يَدْخُلُها
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
الدَّعْوَةُ الأُولَى: أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً؛ أيْ: قُدْوَةً وإِمَامًا
مُعَلِّمًا للخَيْرِ، وإِمَامًا يُقْتَدَى بهِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عن ابنِ
مَسْعُودٍ، ومَا كَانَ كَذَلِكَ إِلاَّ لتَكْمِيلِهِ مَقَامَ الصَّبْرِ
واليَقِينِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تُنالُ الإِمَامَةُ في الدِّينِ، كمَا
قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكانوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:24].
الدَّعوةُ الثَّانِيَةُ: أنَّهُ كَانَ قانتًا للهِ؛ أيْ: خَاشِعًا
مُطِيعًا، دَائِمًا عَلَى عِبَادَتِهِ وطَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ شَيْخُ
الإِسْلاَمِ: القُنُوتُ في اللُّغَةِ: دَوَامُ الطَّاعَةِ، والمُصَلِّي
إِذَا طَالَ قِيَامُهُ أوْ رُكُوعُهُ أوْ سُجُودُهُ فهوَ قَانِتٌ في ذَلِكَ
كُلِّهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزُّمَر:9]، فَجَعَلَهُ قَانِتًا في حَالِ السُّجودِ والقيامِ. انتهَى.
فوصَفَهُ في هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِتَحْقِيقِ العُبُوديَّةِ في
نَفْسِهِ: أوَّلاً: عِلْمًا وعَمَلاً، وثَانِيًا: دَعْوةً وتَعْلِيمًا
واقْتِدَاءً بهِ، وما كانَ يُقْتَدَى بهِ إِلاَّ لِعِلْمِهِ بهِ في
نَفْسِهِ.
ووَصَفَهُ في الثَّانِيَةِ: بالاسْتِقَامَةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فُصِّلَتْ:34]، فَتَضَمَّنَت العِلْمَ والعَمَلَ والاسْتِقَامَةَ والدَّعْوَةَ.
الدَّعْوَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّهُ كَانَ حَنِيفًا؛ والحَنَفُ: المَيْلُ؛
أيْ: مَائِلاً مُنْحَرِفًا قَصْدًا عن الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
حِكَايَةً عنهُ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم:30].
الدَّعوةُ الرَّابِعَةُ: أنَّهُ مَا كَانَ مِن المُشْرِكِينَ؛ أيْ: هوَ
وَجْهٌ خَالِصٌ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ مُطْلَقًا، فَنَفَى عنهُ
الشِّرْكَ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِ النَّفْيِ، بِحَيْثُ لاَ يُنسَبُ إليهِ
شِرْكٌ وإِنْ قَلَّ؛ تَكْذِيبًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ في زَعْمِهِم أنَّهُمْ
عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وَقَالَ المُصَنِّفُ في الكَلاَمِ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كانَ أُمَّةً}[النحل:120]: لِئَلاَّ يَسْتَوْحِشَ سَالِكُ الطَّرِيقِ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِينَ، {قَانِتًا للهِ} لاَ للمُلُوكِ وَلاَ للتُّجَّارِ المُتْرَفِينَ، {حَنِيفًا} لا يَمِيلُ يَمِينًا وَلاَ شِمَالاً كَفِعْلِ العُلَمَاءِ المَفْتُونِينَ، {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} خِلاَفًا لِمَنْ كَثَّرَ سَوادَهُم وزَعَمَ أنَّهُ مِن المُسْلِمِينَ.
قُلْتُ: وهوَ مِنْ أَحْسَنِ ما قِيلَ في تَفْسِيرِ هذهِ الآيَةِ، لَكِنَّهُ
يُنَبِّهُ بالأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى. وقولُهُ: (لِئَلاَّ يَسْتَوْحِشَ)
تَنْبِيهٌ عَلَى بَعْضِ مَعْنَى الآيَةِ، وهوَ المُنْفَرِدُ وحْدَهُ في
الخَيْرِ. وَقَدْ رَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ عبَّاسٍ، في قولِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كانَ أُمَّةً قَانِتًا} كَانَ عَلَى الإِسْلاَمِ، ولَمْ يَكُنْ في زَمَانِهِ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ عَلَى الإِسْلاَمِ غيرَهُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ: {كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} ، ولا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وبَيْنَ كَلاَمِ ابنِ مَسْعُودٍ المُتَقَدِّمِ.
(3) قولُهُ: (وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ}[المؤمنونَ:60]).
مُنَاسَبةُ الآيَةِ للتَّرْجَمَةِ: مِنْ جِهَةِ أنَّ اللهَ تَعَالَى وَصَفَ
المُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ إِلَى الجنَّاتِ بِصِفَاتٍ؛ أَعْظَمُهَا
الثَّناءُ عَلَيْهِم بأنَّهُم بِرَبِّهم لاَ يُشْرِكُونَ؛ أيْ: شَيْئًا مِن
الشِّرْكِ في وَقْتٍ مِن الأَوْقَاتِ؛ فَإِنَّ الإِيمَانَ النَّافِعَ
مُطْلَقًا لا يُوجَدُ إِلاَّ بِتَرْكِ الشِّرْكِ مُطْلَقًا، ولَمَّا كَانَ
المُؤْمِنُ قَدْ يَعْرِضُ لهُ مَا يَقْدَحُ في إِيمَانِهِ مِنْ شِرْكٍ
جَلِيٍّ أوْ خَفِيٍّ، نَفَى عنْهم ذلكَ، ومَنْ كَانَ كذلِكَ فَقَدْ بَلَغَ
مِنْ تَحْقِيقِ التَّوحيدِ النِّهايَةَ، وفَازَ بِأَعْظَمِ التِّجارَةِ،
ودَخَلَ الجنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ ولاَ عَذَابٍ.
قالَ ابنُ كثيرٍ: {وَالَّذينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ}[المؤمنونَ:60]
أيْ لاَ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، بلْ يُوَحِّدُونَهُ وَيَعْلَمُونَ
أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَحَدٌ صَمَدٌ، لم يتَّخِذْ صَاحِبَةً
وَلاَ وَلَدًا، وَأَنَّهُ لاَ نَظِيرَ لهُ.
(4) هَكَذَا أَوْرَدَ المُصَنِّفُ هَذَا الحَدِيثَ غَيْرَ مَعَزُوٍّ.
وَقَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا ومُطَوَّلاً، ومُسْلِمٌ
واللَّفْظُ لَهُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ.
قولُهُ:(عنْ حُصَيْنِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ) هوَ
السُّلَمِيُّ أَبُو الهُذَيْلِ الكُوفِيُّ، ثِقَةٌ، تَغَيَّرَ حِفْظُهُ في
الآخِرِ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاَثِينَ ومِائَةٍ وَلَهُ ثَلاَثٌ
وتِسْعُونَ سَنَةً.
و(سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ) هوَ الإِمَامُ
الفَقِيهُ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِ ابنِ عَبَّاسٍ، رِوَايتُهُ عنْ عَائِشَةَ
وَأَبِي مُوسَى مُرْسَلَةٌ، وهوَ كُوفيٌّ مَوْلَى لبَنِي أَسَدٍ، قُتِلَ
بَيْنَ يَدَي الحَجَّاجِ سَنَةَ خمسٍ وتِسْعِينَ، وَلَمْ يُكْمِل
الخَمْسِينَ.
قولُهُ: (انْقَضَّ) هوَ بالقافِ والضَّادِ المُعْجَمَةِ؛ أيْ: سَقَطَ.
و(البَارِحَةُ) هيَ أَقْرَبُ لَيْلَةٍ مَضَتْ،
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ قَبْلَ الزَّوالِ: رَأَيْتُ
اللَّيْلَةَ، وبَعْدَ الزَّوالِ: رَأَيْتُ البَارِحَةَ، وهَكَذا قَالَ
غَيْرُهُ، وهيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ بَرِحَ إِذَا زَالَ.
قولُهُ: (أَمَا إنِّي لمْ أكُنْ في صَلاَةٍ)
القَائِلُ هوَحُصَيْنٌ، خَافَ أنْ يَظُنَّ الحَاضِرُونَ أنَّهُ مَا رَأَى
النَّجْمَ إِلاَّ لأَِنَّهُ يُصَلِّي، فَأَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ عنْ
نَفْسِهِ إِيهَامَ العِبَادَةِ وأنَّهُ يُصَلِّي مَعَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ
فَعَلَ ذلكَ، وهذا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ السَّلفِ الصَّالِحِ وحِرْصِهِم
عَلَى الإِخْلاصِ، وشِدَّةِ ابْتِعَادِهِم عن الرِّياءِ، بِخِلاَفِ مَنْ
يقولُ: فَعَلْتُ وفَعَلْتُ؛ لِيُوهِمَ الأَغْمَارَ أنَّهُ مِن الأَوْلياءِ،
ورُبَّمَا عَلَّقَ السُّبْحَةَ في عُنُقِهِ أوْ أَخَذَهَا في يدِهِ
يَمْشِي بِهَا بَيْنَ النَّاسِ إِعْلاَمًا للنَّاسِ أنَّهُ يُسَبِّحُ
عَدَدَ مَا فيها مِن الخَرَزِ.
وقدْ قَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بنُ وَضَّاحٍ: حَدَّثَنا أَسَدٌ، عنْ
جَرِيرِ بنِ حَازِمٍ، عن الصَّلْتِ بنِ بُرْهَامَ قالَ: مَرَّ ابنُ
مَسْعُودٍ بامْرَأَةٍ تُسَبِّحُ بهِ، فقَطَعَهُ وأَلْقَاهَا، ثُمَّ مَرَّ
برَجُلٍ يُسَبِّحُ بِحَصًى، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ
جِئْتُم بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، أوْ: لَقَدْ غَلَبْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا.
قولُهُ: (ولَكِنِّي لُدِغْتُ) هوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، أيْ: لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ أوْ نَحْوُهَا.
قولُهُ: (قُلْتُ: ارْتَقَيْتُ) لَفْظُ مُسْلِمٍ: اسْتَرْقَيْتُ؛ أيْ: طَلَبْتُ مَنْ يَرْقِينِي
قولُهُ: (فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟) فيهِ طَلَبُ الحُجَّةِ عَلَى صحَّةِ المَذْهَبِ.
قولُهُ: (حديثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ) أيْ:
حَمَلَنِي عَلَيْهِ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ، واسْمُهُ عَامِرُ
بنُ شَرَاحيل الهَمْدَانِيُّ -بِسُكُونِ الميمِ- الشَّعْبِيُّ، وُلِدَ في
خِلاَفَةِ عُمَرَ، وهوَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ وحُفَّاظِهِم
وفُقَهائِهِم، ماتَ سَنَةَ ثَلاَثَةٍ ومِائَةٍ.
قولُهُ: (عنْ بُرَيْدَةَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ
وفَتْحِ ثَانِيهِ، تَصْغِيرُ بُرْدَةٍ، ابْنِ الْحُصَيْبِ، بضمِّ الحَاءِ
وفَتْحِ الصَّادِ المُهْمَلَتَيْنِ، ابنِ عبدِ اللهِ بنِ الحَارِثِ
الأَسْلَمِيِّ، صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وسِتِّينَ،
قَالَهُ ابنُ سَعْدٍ.
قولُهُ: (لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ)
هَكَذَا رُوِيَ هُنَا مَوْقُوفًا، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وابنُ مَاجَهْ
عنهُ مَرْفُوعًا، ورَوَاهُ أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ عنْ
عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ بهِ مَرْفُوعًا، قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُ
أَحْمَدَ ثِقَاتٌ، والعَيْنُ: هيَ إِصَابَةُ العَائِنِ غَيْرَهُ
بِعَيْنِهِ، والحُمَةُ: بضَمِّ المُهْمَلَةِ وتَخْفِيفِ المِيمِ: سُمُّ
العَقْرَبِ وشَبَهُهَا.
قالَ الخَطَّابِيُّ: ومَعْنَى الحَدِيثِ: لاَ رُقْيَةَ أَشْفَى أَوْ
أَوْلَى مِنْ رُقْيَةِ العَيْنِ والحُمَةِ، وَقَدْ رَقَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورُقِيَ.
قُلْتُ: وسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بالرُّقَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قولُهُ: (قَدْ أَحْسَنَ مَن انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ)
أيْ: مَنْ أَخَذَ بِمَا بَلَغَهُ مِن العِلْمِ وعَمِلَ بهِ فَقَدْ
أَحْسَنَ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ، وعَمِلَ بِمَا بَلَغَهُ مِن
العِلْمِ، بِخِلاَفِ مَنْ يَعْمَلُ بِجَهْلٍ أوْ لاَ يَعْمَلُ بِمَا
يَعْلَمُ؛ فَإِنَّهُ مُسِيءٌ آثِمٌ، وفيهِ فَضِيلَةُ عِلْمِ السَّلَفِ
وحُسْنُ أَدَبِهِم وهَدْيِهم وتَلَطُّفُهُم في تَبْلِيغِ العِلْمِ،
وإِرْشَادُهُم مَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا إِلَى مَا هوَ
أَفْضَلُ منهُ، وأَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا بَلَغَهُ عن اللهِ وعنْ رَسُولِهِ
فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ العَمَلُ بهِ عَلَى مَعْرِفَةِ
كَلاَمِ أَهْلِ المَذَاهِبِ أوْ غَيْرِهِم.
قولُهُ: (ولكنْ حَدَّثَنا ابنُ عبَّاسٍ) هوَ
عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ الهَاشِمِيُّ، ابنُ عمِّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا لهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ"
فَكَانَ كذلِكَ، قالَ عُمَرُ: لوْ أَدْرَكَ ابنُ عبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا
عَشَرَهُ منَّا أَحَدٌ؛ أيْ: مَا بَلَغَ عُشْرَهُ في العِلْمِ. مَاتَ
بالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وسِتِّينَ.
قَالَ المُصَنِّفُ: (فيهِ عُمْقُ عِلْمِ السَّلَفِ؛ لقولِهِ: قَدْ أَحْسَنَ مَن انْتَهى إلى مَا سَمِعَ، ولَكِنْ كَذَا وكَذَا.
فَعُلِمَ أنَّ الحديثَ الأوَّلَ لا يُخَالِفُ الثَّانِيَ).
قولُهُ: ("عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ") وفي
رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، والنَّسَائِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْثَرَ بنِ
القَاسِمِ، عنْ حُصَيْنِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ ذلكَ كانَ لَيْلَةَ
الإِسْرَاءِ، ولفظُهُ: لَمَّا أُسرِيَ بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَمُرُّ بالنَّبِيِّ ومَعَهُ الوَاحِدُ.
قَالَ الحَافِظُ: فإنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا، كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ
لِمَنْ ذَهَبَ إلى تَعَدُّدِ الإِسْرَاءِ، وأنَّهُ وَقَعَ بالمدينةِ أيضًا
غيرَ الَّذي وَقَعَ بِمَكَّةَ.
كذا قالَ، وليسَ بظاهرٍ، بلْ قدْ يكونُ رَأَى ذَلِكَ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ
وَلَمْ يُحَدِّثْ بهِ إِلاَّ في المَدِينَة، ولَيْسَ في الحَدِيثِ مَا
يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ حَدَّثَ بهِ قَرِيبًا مِن العَرْضِ عَلَيْهِ.
قولُهُ: ("فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ") هوَ الجَمَاعَةُ دُونَ العَشَرَةِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
قولُهُ: ("والنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلاَنِ، والنَّبِيَّ ولَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ")
فيهِ أنَّ الأَنْبِيَاءَ مُتَفَاوِتُونَ في عَدَدِ أَتْبَاعِهِم، وأَنَّ
بَعْضَهُمْ لاَ يَتْبَعُهُ أَحَدٌ، وفيهِ الرَّدُّ عَلَى مَن احْتَجَّ
بالأَكْثَرِ، وزَعَمَ أنَّ الحقَّ مَحْصورٌ فيهم، وليسَ كذلِكَ، بل
الواجِبُ اتِّبَاعُ الكِتَابِ والسُّنَّةِ مَعَ مَنْ كَانَ وأَيْنَ كَانَ.
قولُهُ: ("إذْ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظِيمٌ") السَّوَادُ: ضِدُّ البَيَاضِ، والمُرَادُ هنا: الشَّخْصُ الَّذي يُرَى مِنْ بَعِيدٍ؛ أيْ: رُفِعَ لي أَشْخَاصٌ كَثِيرَةٌ.
قولُهُ: ("فَظَنَنْتُ أنَّهُم أُمَّتِي")
اسْتَشْكَلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ كونَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم
يَعْرِفْ أُمَّتَهُ، حَتَّى ظَنَّ أنَّهُمْ أُمَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلاَمُ، وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ
لَمْ تَرَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ فَقَالَ: "إنَّهُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ"،
وَأَجَابَ بأَنَّ الأَشْخَاصَ التي رَآها في الأُفُقِ لاَ يُدْرَكُ منها
إِلاَّ الكَثْرَةُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لأَِعْيَانِهِم، وَأَمَّا مَا في
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَرُبُوا منهُ،
ذَكَرَهُ الحَافِظُ.
قولُهُ: ("فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وقَوْمُهُ") أيْ: مُوسَى بنُ عِمْرانَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ، وقومُهُ: الَّذينَ اتَّبَعُوهُ، وفيهِ فَضِيلَةُ مُوسَى وقَوْمِهِ.
قولُهُ: ("فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ") لَفْظُ مُسْلِمٍ بعدَ قولِهِ: "هَذَامُوسَى وقَوْمُهُ"،"وَلَكِنِ
انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ
لِي: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الآخَرِ.فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ
عَظِيمٌ.فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ".
قولُهُ: ("ومَعَهُم سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الجنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ")
أيْ: لِتَحْقِيقِهِم التَّوحيدَ. قالَ الحافِظُ: المُرَادُ بالمَعِيَّةِ
المَعْنَويَّةُ؛ فإنَّ السَّبعينَ ألفًا المذكورينَ مِنْ جُمْلَةِ
أُمَّتِهِ، لَكِنْ لَمْ يَكُونُوا في الَّذِينَ عُرِضُوا إِذْ ذَاكَ،
فَأُرِيدَ الزِّيَادَةُ في تَكْثِيرِ أُمَّتِهِ بإِضَافَةِ السَّبْعِينَ
أَلْفًا إِلَيْهِم.
قُلْتُ: وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِظَاهرٍ؛ فَإِنَّ في رِوَايَةِ ابنِ فُضَيْلٍ: "وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاَءِ مِنْ أُمَّتِكَ سَبْعُونَ أَلْفًا"،
وَقَدْ وَرَدَ في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ في الصَّحِيحَيْنِ وَصْفُ
السَّبْعِينَ أَلفًا بأنَّهُم تُضِيءُ وجُوهُهُم إِضَاءةَ القَمَرِ
لَيْلَةَ البَدْرِ، وفيهمَا عنهُ مَرْفُوعًا: "أَوَّلُ
زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ، وَالَّذينَ عَلَى
آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءةً".
وجاءَ في أحاديثَ أُخَرَ أنَّ معَ السَّبْعِينَ ألفًا زيادةً عليهم،
فرَوَى أحمدُ والبيهقيُّ في البعثِ حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ في السَّبعينَ
أَلْفًا فَذَكَرَهُ وزَادَ قَالَ: "فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي، فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا"،
قالَ الحافظُ: وَسَنَدُهُ جيِّدٌ.وفي البابِ عنْ أَبِي أَيُّوبَ عندَ
الطَّبَرَانِيِّ، وعنْ حُذَيْفَةَ عندَ أَحْمَدَ، وعنْ أَنَسٍ عندَ
البَزَّارِ، وعنْ ثَوْبَانَ عندَ أَبِي عَاصِمٍ، قالَ: فهذهِ طُرُقٌ
يُقَوِّي بعضُهَا بعضاً.
قالَ: وجاءَ في أحاديثَ أُخَرَ أكثرُ منْ ذلكَ، فأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ
وحَسَّنَهُ، والطَّبَرَانِيُّ وابنُ حِبَّانَ في صحِيحِهِ منْ حديثِ أبي
أُمَامَةَ رفَعَهُ: "وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ
الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعونَ
أَلْفًا لاَ حِسَابَ عَلَيْهِم وَلاَ عَذَابَ، وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ
حَثَيَاتِ رَبِّي"، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى منْ حديثِ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ سَبْعِينَ
أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وُجُوهُهُمْ
كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ
سَبْعِينَ أَلْفًا"، قالَ الحافظُ: وفي سَنَدِهِ رَاوِيَانِ؛
أحدُهُمَا ضَعِيفُ الحِفْظِ، والآخَرُ لمْ يُسَمَّ. قُلْتُ: وفيهِ أنَّ
كُلَّ أُمَّةٍ تُحْشَرُ مَعَ نبيِّهَا.
قولُهُ: (ثُمَّ نَهَضَ) أيْ: قامَ.
قولُهُ: (فخاضَ النَّاسُ في أولئكَ) قالَ
النَّوويُّ: هوَ بالخاءِ والضَّادِ المُعْجَمَتَيْنِ؛ أيْ: تكلَّمُوا
وتناظَرُوا). قالَ: وفي هذا إباحةُ المُناظرةِ في العلمِ والمباحثةِ في
نصوصِ الشَّرعِ عَلَى جهةِ الاستفادةِ وإظهارِ الحقِّ، وفيهِ عُمْقُ عِلْمِ
السَّلَفِ لمَعْرِفَتِهِم أنَّهُم لمْ يَنَالُوا ذلكَ إِلاَّ بعِلْمٍ،
وفيهِ حِرْصُهُم عَلَى الخيرِ ذكرَهُ المصنِّفُ.
قولُهُ: قالَ: "هم الَّذينَ لا يَسْتَرْقُونَ" هكذا ثَبَتَ في الصَّحيحَيْنِ.
وفي روايَةِ مسلمٍ التي ساقَهَا المصنِّفُ هنا زيادةُ: "وَلاَ يَرْقُونَ"
وكَانَ المُصَنِّفُ اخْتَصَرَهَا كَغَيْرِهَا لَمَّا قيلَ: إنَّهَا
مَعْلُولَةٌ؛ قالَ شيخُ الإسلامِ: هذهِ الزِّيادَةُ وَهْمٌ من الرَّاوِي،
لَمْ يَقُل النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَرْقُونَ؛
لأَِنَّ الرَّاقِيَ مُحْسِنٌ إِلَى أَخِيهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَدْ سُئِلَ عن الرُّقَى، قالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ"، وقالَ: "لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا"،
قالَ: وأيضًا فَقَدْ رَقَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ورَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ، قالَ: والفَرْقُ بَيْنَ الرَّاقِي والمُسْتَرْقِي في أنَّ
المُسْتَرْقِيَ سَائِلٌ مُسْتَعْطٍ مُلْتَفِتٌ إلى غيرِ اللهِ بقلْبِهِ،
والرَّاقِيَ مُحْسِنٌ، قَالَ: وإنَّما المُرَادُ وَصْفُ السَّبْعينَ ألفًا
بتمامِ التَّوكُّلِ، فلا يَسْأَلُونَ غيرَهُمْ أنْ يَرْقِيَهُمْ ولاَ
يَكْوِيَهُم، ولا يَتَطَيَّرُونَ.
وكذا قالَ ابنُ القيِّمِ، ولكن اعْتَرَضَهُ بعضُهُمْ بأنْ قالَ: تَغْلِيطُ
الرَّاوِي مَعَ إِمْكَانِ تَصْحِيحِ الزِّيادَةِ لا يُصَارُ إليهِ، والمعنى
الَّذي حَمَلَهُ عَلَى التَّغْلِيطِ مَوْجُودٌ في المَرْقِيِّ؛ لأَِنَّهُ
اعْتَلَّ بأنَّ الَّذي لا يَطلُبُ مِنْ غيرِهِ أَنْ يَرْقِيَهُ تَامُّ
التَّوكُّلِ، فكذا يُقالُ: والذي يَفْعَلُ بهِ غيرُهُ ذلكَ يَنْبَغِي أَنْ
لاَ يُمَكِّنَهُ منهُ لأَِجْلِ تَمامِ التَّوكُّلِ، وليسَ في وُقُوعِ ذلكَ
منْ جبريلَ عليهِ السَّلامُ دلالةٌ عَلَى المُدَّعَى، وَلاَ في فِعْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهُ أيضًا دَلاَلَةٌ في
مَقَامِ التَّشريعِ وتَبْيِينِ الأحكامِ.
كذا قالَ هذا القَائِلُ وهوَ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ هذهِ الزِّيادَةَ لا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا إِلاَّ
بِحَمْلِهَا عَلَى وجوهٍ لا يَصِحُّ حَمْلُها عليها، كقولِ بعضِهِم:
(المرادُ لا يَرْقُونَ بِمَا كَانَ شِرْكًا أو احْتَمَلَهُ) فإنَّهُ لَيْسَ
في الحديثِ ما يَدُلُّ عَلَى هذا أصلاً، وأيضًا فَعَلَى هذا لا يكونُ
للسَّبعينَ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهم؛ فإنَّ جُمْلَةَ المؤمنينَ لا
يَرْقُونَ بِمَا كَانَ شِرْكًا.
الثَّاني: قولُهُ: (فكذا يُقالُ .. إلخ) لا يَصِحُّ هذا القياسُ، فإنَّهُ
مِنْ أَفْسَدِ القِيَاسِ، وكيفَ يُقَاسُ مَنْ سَأَلَ وطَلَبَ عَلَى مَنْ
لَمْ يَسْأَلْ، مَعَ أنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الفَارِقِ الشَّرْعِيِّ؟!
فهوَ فَاسِدُ الاعتبارِ،لأنَّهُ تَسْوِيَةٌ بينَ ما فرَّقَ الشَّارعُ
بينَهُمَا بقولِهِ: "مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ"
رواهُ أحمدُ والتِّرمذيُّ وصحَّحَهُ ابنُ مَاجَهْ، وصحَّحَهُ ابنُ
حِبَّانَ والحاكمُ أيضًا، وكيفَ يُجْعَلُ تَرْكُ الإحسانِ إلى الخَلْقِ
سَبَبًا للسَّبْقِ إلى الجِنَانِ؟! وهذا بِخِلاَفِ مَنْ رَقَى أوْ رُقِيَ
مِنْ غيرِ سؤالٍ، فقدْ رَقَى جبريلُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ولا يَجُوزُ أنْ يُقَالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لمْ يكُنْ
مُتَوَكِّلاً في تلكَ الحالِ.
الثَّالثُ: قولُهُ: (ليسَ في وقوعِ ذلكَ منْ جبريلَ عليهِ السَّلامُ...إلخ)
كَلاَمٌ غيرُ صَحِيحٍ، بلْ هُمَا سيِّدا المُتَوَكِّليِنَ، فَإِذَا وَقَعَ
ذلكَ منهُمَا دَلَّ عَلَى أنَّهُ لا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، فاعْلَمْ
ذلكَ.
قولُهُ: ("لاَ يَكْتَوُونَ") أيْ: لا
يَسْأَلُونَ غيرَهُم أنْ يَكْوِيَهُم، كمَا لاَ يَسْأَلُونَ غيرَهُم أَنْ
يَرْقِيَهُمْ؛ اسْتِسْلاَمًا للقَضَاءِ، وتَلَذُّذًا بالبَلاَءِ. أَمَّا
الكَيُّ في نفسِهِ فجائزٌ، كمَا في الصَّحيحِ عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ،
أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلى أُبَيِّ بنِ
كَعْبٍ طَبِيبًا، فَقَطَعَ لهُ عِرْقًا وَكَوَاهُ، وفي صحيحِ البخاريِّ عنْ
أنسٍ، أَنَّهُ كُوِيَ مِنْ ذَاتِ الجَنْبِ وَالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ، ورَوَى التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ عنْ أَنَسٍ، أنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى أَسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ
من الشَّوْكةِ، وفي صَحيحِ البُخَاريِّ عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: "الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثٍ: شَرْبَةُ عَسَلٍ، وَشَرْطَةُ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةُ نَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى عَنِ الْكَيِّ" وفي لفظٍ: "وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ".
قالَ ابنُ القيِّمِ: فَقَدْ تَضَمَّنَتْ أَحَادِيثُ الكَيِّ أَرْبَعَةَ
أنواعٍ؛ أحدُهَا فِعْلُهُ، والثَّاني عَدَمُ مَحَبَّتِهِ لَهُ، والثَّالِثُ
الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، والرَّابعُ النَّهيُ عنهُ، ولا تَعَارُضَ
بينَهَا بِحَمْدِ اللهِ؛ فإنَّ فِعْلَهُ لهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ،
وعَدَمُ مَحَبَّتِهِ لهُ لا يَدُلُّ عَلَى المَنْعِ منهُ، وأمَّا الثَّناءُ
عَلَى تاركِيهِ، فيَدُلُّ عَلَى أنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى وَأَفْضَل، وأمَّا
النَّهيُ عنهُ فعلى سبيلِ الاختيارِ والكَرَاهِيَةِ.
قولُهُ: ("وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ") أيْ: لا
يَتَشَاءَمُونَ بالطُّيورِ ونحوِهَا، وسيأتي بيانُ الطِّيَرَةِ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا في بابِهَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
قولُهُ: ("وَعَلَى رَبِّهمْ يَتَوَكَّلُونَ")
ذَكَرَ الأَصْلَ الجَامِعَ الَّذي تَفَرَّعَتْ عنهُ هذهِ الأَفْعَالُ؛ وهوَ
التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ، وصِدْقُ الالْتِجَاءِ إليهِ، والاعْتِمَادُ
بالقَلْبِ عَلَيْهِ الَّذي هوَ خُلاَصَةُ التَّفْرِيدِ، ونِهَايَةُ
تَحْقِيقِ التَّوحِيدِ؛ الَّذي يُثْمِرُ كُلَّ مَقَامٍ شَرِيفٍ مِن
الْمَحَبَّةِ والخَوْفِ والرَّجَاءِ، والرِّضَى بِهِ رَبًّا وإِلَهًا،
والرِّضَى بقَضَائِهِ، بلْ رُبَّمَا أَوْصَلَ العَبْدَ إلى التلذُّذِ
بالبلاءِ، وعَدَّهُ من النَّعْماءِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ، واللهُ ذو الفَضْلِ العظيمِ.
واعْلَمْ أنَّ الحديثَ لا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُم لاَ يُبَاشِرُونَ
الأَسْبَابَ أَصْلاً كَمَا يَظُنُّهُ الجَهَلَةُ؛فَإِنَّ مُبَاشَرَةَ
الأَسْبَابِ في الجُمْلَةِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ لاَ انْفِكَاكَ
لأَِحَدٍ عنهُ حَتَّى الحَيَوانِ البَهِيمِ، بلْ نَفْسُ التَّوكُّلِ
مُبَاشَرَةٌ لأَِعْظَمِ الأَسْبَابِ، كمَا قالَ تعالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق:3]؛
أيْ كَافِيهِ، إنَّما المُرادُ أنَّهُم يَتْرُكُونَ الأُمُورَ
المَكْرُوهَةَ مَعَ حَاجَتِهِم إِلَيْهَا تَوَكُّلاً عَلَى اللهِ،
كَالاسْتِرْقَاءِ والاكْتِوَاءِ، فَتَرْكُهُم لهُ ليسَ لكونِهِ سببًا لكنْ
لكونِهِ سَبَبًا مَكْرُوهًا، لاَسِيَّمَا والمَرِيضُ يَتَشَبَّثُ بِمَا
يَظُنُّهُ سَبَبًا لشِفَائِهِ بِخَيْطِ العَنْكَبُوتِ، أَمَّا نَفْسُ
مُبَاشَرَةِ الأَسْبابِ والتَّدَاوِي عَلَى وَجْهٍ لاَ كَرَاهِيَةَ فيهِ،
فَغَيْرُ قَادِحٍ في التَّوَكُّلِ، فَلاَ يَكُونُ تَرْكُهُ مُشْرُوعًا،
كَمَا في الصَّحِيحَيْنِ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلاَّ أَنْزَلَ لهُ شِفَاءً"،
وعن أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءت الأَعْرَابُ فَقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ،
أَنَتَدَاوَى؟فَقالَ: "نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ
تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ
لَهُ شِفَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ".قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: "الْهَرَمُ" رَوَاهُ أحمدُ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هذهِ الأَحَادِيثُ إِثْبَاتَ
الأَسْبَابِ والمُسَبَّباتِ، وإِبْطَالَ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهَا، والأمرَ
بالتَّداوِي، وأنَّهُ لا يُنافِي التَّوَكُّلَ، كمَا لا يُنَافِيهِ دَفْعُ
دَاءِ الجُوعِ والعَطَشِ والحَرِّ والبَرْدِ بأَضْدَادِهَا، بلْ لا تَتِمُّ
حَقِيقَةُ التَّوْحيدِ إِلاَّ بِمُبَاشَرَةِ الأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَها
اللهُ مُقْتَضَياتٍ لمُسَبِّبَاتِهَا قَدَرًا وشَرْعًا، وأَنَّ
تَعْطِيلَها يَقْدَحُ بمباشرتِهِ في نفسِ التَّوكُّلِ، كمَا يَقْدَحُ في
الأَمْرِ والحِكْمَةِ، ويُضَعِّفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ مُعَطِّلُها أَنَّ
تَرْكَها أَقْوَى مِن التَّوكُّلِ، فإنَّ تَرْكَها عَجْزٌ يُنَافِي
التَّوكُّلَ الَّذي حقيقتُهُ اعْتِمَادُ القَلْبِ عَلَى اللهِ في حُصُولِ
ما يَنْفَعُ العَبْدَ في دِينهِ ودُنْياهُ، ودَفْعِ ما يَضُرُّهُ في
دِينِهِ ودُنْياهُ. ولاَ بُدَّ مَعَ هَذَا الاعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ
الأَسْبابِ، وإِلاَّ كَانَ مُعَطِّلاً للأَمْرِ والحِكْمَةِ والشَّرْعِ،
فَلاَ يَجْعَلُ العَبْدُ عَجْزَهُ تَوَكُّلاً، ولا تَوَكُّلَهُ عَجْزًا.
وقد اختلفَ العلماءُ في التَّداوي هلْ هوَ مُبَاحٌ وتَرْكُهُ أَفْضَلُ، أوْ
مُسْتَحَبٌّ أوْ وَاجِبٌ؟ فالمَشْهُورُ عنْ أَحْمَدَ الأوَّلُ؛ لهذا
الحديثِ وما في معناهُ، ولكنْ عَلَى ما تَقَدَّمَ لا يَتِمُّ الاستدلالُ
بهِ عَلَى ذلكَ. والمشهورُ عندَ الشَّافعيِّ الثَّاني، حتَّى ذكَرَ
النَّوويُّ في شرحِ مسلمٍ: أنَّهُ مَذْهَبُهُم ومذهبُ جمهورِ السَّلَفِ
وعَامَّةِ الخَلَفِ، واخْتَارَهُ الوزيرُ أبو المُظَفَّرِ؛ قالَ: ومذهبُ
أَبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ مؤكَّدٌ حتَّى يُدانِيَ بهِ الوجوبَ، قالَ:
ومَذْهبُ مالكٍ أنَّهُ يَسْتَوِي فِعْلُهُ وتَرْكُهُ؛ فإنَّهُ قالَ: لا
بَأْسَ بالتَّدَاوي، ولا بأسَ بتركِهِ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ: لَيْسَ بواجبٍ عندَ جماهيرِ الأئمَّةِ، إنَّما
أَوْجَبَهُ طائفةٌ قَلِيلةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وأَحْمَدَ.
قولُهُ: (فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ)
بِضَمِّ العَيْنِ وتَشْدِيدِ الكافِ ويَجُوزُ تَخْفِيفُهَا، ومِحْصَنٌ
بكسرِ الميمِ وسكونِ الحاءِ وفتحِ الصَّادِ المهملتيْنِ، ابنِ حُرْثَانَ،
بضمِّ المهملةِ وسكونِ الرَّاءِ وبعدَهَا مثلَّثَةٌ، الأَسَدِيُّ مِنْ
بَنِي أَسدِ بنِ خُزَيْمَةَ، ومِنه حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ، كانَ من
السَّابقينَ إلى الإسلامِ، ومِنْ أَجْمَلِ الرِّجَالِ، هاجرَ وشَهِدَ
بَدْرًا وَقَاتَلَ فيهَا، قالَ ابنُ إسحاقَ: وبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: "خَيْرُ فَارِسٍ فِي الْعَرَبِ عُكَّاشَةُ"
ومَنَاقِبُهُ مشهورةٌ، اسْتُشْهِدَ في قِتَالِ أهلِ الردَّةِ معَ خالدِ
بنِ الوليدِ بِيَدَي طُلَيْحَةَ الأسديِّ سنةَ اثنتَيْ عَشْرَةَ، ثُمَّ
أسْلَمَ طُلَيْحَةُبعدَ ذلِكَ.
قولُهُ: (قالَ: ادعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهُمْ فقالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ" ) في روايَةِ البخاريِّ: فَقَالَ: "اللهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ"، وكذلِكَ في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ عندَ البخاريِّ مِثْلُهُ، وفي بعضِ الرِّواياتِ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ".
قالَ الحافظُ: ويُجْمَعُ بأنَّهُ سَأَلَ الدُّعَاءَ أوَّلاً، فدعَا لهُ،
ثُمَّ استفهَمَ هلْ أُجيبَ؟ فأخبرَهُ. وفيهِ طلبُ الدُّعاءِ من الفاضلِ.
قولُهُ: (ثُمَّ قامَ إليهِ رَجُلٌ آخَرُ) لمْ
نَقِفْ عَلَى تسميتِهِ إِلاَّ في طَرِيقٍ واهيَةٍ ذكرَهَا الخطيبُ في
المُبْهَمَاتِ منْ روايَةِ أبي حُذَيْفَةَ إسحاقَ بنِ بِشْرٍ أحدِ
الضُّعفاءِ منْ طريقَيْنِ لهُ عنْ مجاهدٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انصرَفَ منْ غَزَاةِ بني المُصْطَلِقِ، فَسَاقَ
قصَّةً طويلةً فيها ذلكَ، قالَ الحافظُ: وهذا معَ ضعفِهِ وإرسالِهِ
يُسْتَبْعَدُ منْ جهةِ جلالةِ سعدِ بنِ عُبَادَةَ؛ فإنْ كانَ محفوظًا
فلَعَلَّهُ آخَرُ باسمِ سَيِّدِ الخَزْرَجِ واسمِ أبيهِ، فإنَّ في
الصَّحَابةِ كذلِكَ آخَرُ لهُ في مسندِ بقيِّ بنِ مَخْلَدٍ، وفي الصَّحابةِ
سعدُ بنُ عُمَارَةَ، فلعلَّ اسمَ أبيهِ تَحَرَّفَ.
قولُهُ: ("سبقَكَ بهَا عُكَّاشَةُ") قالَ ابنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى قولِهِ: "سَبَقَكَ"
أيْ: إلى إِحْرَازِ هذهِ الصِّفاتِ، وهيَ التَّوكُّلُ وعدمُ التَّطيُّرِ
وما ذَكَرَ معَهُ، وعَدَلَ عنْ قولِهِ: لسْتَ منهُمْ، أوْ لسْتَ عَلَى
أخلاقِهِم تلطُّفًا بأَصْحَابِهِ، وحُسْنَ أَدَبٍ مَعَهُم.
وقالَ القُرْطُبِيُّ: لمْ يكُنْ عندَ الثَّاني مِن الأحْوالِ ما كانَ
عِنْدَ عُكَّاشَةَ؛ فلذلكَ لمْ يُجِبْ، إِذْ لوْ أَجَابَهُ لجَازَ أنْ
يَطْلُبَ ذلكَ كلُّ مَنْ كانَ حَاضِرًا فَيَتَسَلْسَلُ الأمرُ، فَسَدَّ
البَابَ بقولِهِ ذلكَ، وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ قالَ: كانَ مُنَافِقًا؛
لوجهَيْنِ؛ أحدُهما أنَّ الأصلَ في الصَّحابةِ عَدَمُ النِّفاقِ، فَلاَ
يَثْبُتُ ما يخالفُ ذلكَ إلاَّ بنقلٍ صحيحٍ، والثَّاني أنَّهُ قَلَّ أنْ
يصدُرَ مثلُ هذا السُّؤالِ إلاَّ عنْ قصدٍ صحيحٍ ويقينٍ بتَصْدِيقِ
الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيفَ يَصدُرُ ذلكَ منْ
منافقٍ؟!
قُلْتُ: هذا أَوْلَى ما قِيلَ في تَأْوِيلِهِ، وإِلَيْهِ مَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ.
قَالَ المُصَنِّفُ: (وفيهِ اسْتِعْمَالُ المَعَارِيضِ وحُسْنُ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1) وهذا البابُ
تكميلٌ للبابِ الذِي قَبْلَه وتابعٌ له، فإن تحقيقَ التوحيدِ تهذيبُه،
وتصفيتُه من الشركِ الأكبرِ والأصغرِ، ومن البدعِ القوليةِ الاعتقاديةِ،
والبدعِ الفعليةِ العمليةِ، ومن المعاصِي؛ وذلك بكمالِ الإِخلاصِ للهِ في
الأقوالِ، والأفعالِ، والإِراداتِ، وبالسلامةِ من الشركِ الأكبرِ المناقضِ
لأصلِ التوحيدِ، ومن الشركِ الأصغرِ المنافي لكمالِه، وبالسلامةِ من البدعِ
والمعاصِي التي تُكدِّرُ التوحيدَ، وتمنَعُ كمالَه، وتعوقُه عن حصولِ
آثارِه.
فمن حقَّقَ توحيدَه، بأن امتلأَ قلبُه من الإِيمانِ والتوحيدِ والإِخلاصِ،
وصدَّقتْه الأعمالُ بأن انقادتْ لأوامرِ اللهِ طائعةً منيبةً مخبتةً إلى
اللهِ، ولم يَجْرَحْ ذلك بالإِصرارِ على شيءٍ من المعاصِي، فهذا الذي
يدخُلُ الجنةَ بغيرِ حسابٍ، ويكونُ من السابقينَ إلى دخولِها وإلى
تَبَوُّءِ المنازلِ منها.
ومن أخصِّ ما يدُلُّ على تحقيقِه كمالُ القنوتِ للهِ، وقوةُ التوكلِ على
اللهِ، بحيثُ لا يَلْتفِتُ القلبُ إلى المخْلُوقِينَ في شأنٍ من شؤونِه،
ولا يستشْرِفُ إليهم بقلبِه، ولا يسألُهم بلسانِ مقالِه أو حالِه، بلْ
يكونُ ظاهرُه وباطنُه، وأقوالُه وأفعالُه، وحبُّه وبغضُه، وجميعُ أحوالِه
كلِّها مقصودًا بها وجهُ اللهِ متَّبِعًا فيها رسولَ اللهِ.
والناسُ في هذا المقامِ العظيمِ درجاتٌ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}
وليسَ تحقيقُ التوحيدِ بالتمنِّي، ولا بالدعاوَى الخاليةِ من الحقائقِ،
ولا بِالحُلَى العاطلةِ، وإنما ذلك بما وقَرَ في القلوبِ من عقائدِ
الإِيمانِ وحقائقِ الإِحسانِ، وصدَّقَتْه الأخلاقُ الجميلةُ، والأعمالُ
الصالحةُ الجليلةُ؛ فمن حقَّقَ التوحيدَ على هذا الوجهِ حَصَلَت له جميعُ
الفضائلِ المشارِ إليها في البابِ السابقِ بأكملِها، واللهُ أعلمُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1) وهذا البابُ
تكميلٌ للبابِ الذِي قَبْلَه وتابعٌ له، فإن تحقيقَ التوحيدِ تهذيبُه،
وتصفيتُه من الشركِ الأكبرِ والأصغرِ، ومن البدعِ القوليةِ الاعتقاديةِ،
والبدعِ الفعليةِ العمليةِ، ومن المعاصِي؛ وذلك بكمالِ الإِخلاصِ للهِ في
الأقوالِ، والأفعالِ، والإِراداتِ، وبالسلامةِ من الشركِ الأكبرِ المناقضِ
لأصلِ التوحيدِ، ومن الشركِ الأصغرِ المنافي لكمالِه، وبالسلامةِ من البدعِ
والمعاصِي التي تُكدِّرُ التوحيدَ، وتمنَعُ كمالَه، وتعوقُه عن حصولِ
آثارِه.
فمن حقَّقَ توحيدَه، بأن امتلأَ قلبُه من الإِيمانِ والتوحيدِ والإِخلاصِ،
وصدَّقتْه الأعمالُ بأن انقادتْ لأوامرِ اللهِ طائعةً منيبةً مخبتةً إلى
اللهِ، ولم يَجْرَحْ ذلك بالإِصرارِ على شيءٍ من المعاصِي، فهذا الذي
يدخُلُ الجنةَ بغيرِ حسابٍ، ويكونُ من السابقينَ إلى دخولِها وإلى
تَبَوُّءِ المنازلِ منها.
ومن أخصِّ ما يدُلُّ على تحقيقِه كمالُ القنوتِ للهِ، وقوةُ التوكلِ على
اللهِ، بحيثُ لا يَلْتفِتُ القلبُ إلى المخْلُوقِينَ في شأنٍ من شؤونِه،
ولا يستشْرِفُ إليهم بقلبِه، ولا يسألُهم بلسانِ مقالِه أو حالِه، بلْ
يكونُ ظاهرُه وباطنُه، وأقوالُه وأفعالُه، وحبُّه وبغضُه، وجميعُ أحوالِه
كلِّها مقصودًا بها وجهُ اللهِ متَّبِعًا فيها رسولَ اللهِ.
والناسُ في هذا المقامِ العظيمِ درجاتٌ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}
وليسَ تحقيقُ التوحيدِ بالتمنِّي، ولا بالدعاوَى الخاليةِ من الحقائقِ،
ولا بِالحُلَى العاطلةِ، وإنما ذلك بما وقَرَ في القلوبِ من عقائدِ
الإِيمانِ وحقائقِ الإِحسانِ، وصدَّقَتْه الأخلاقُ الجميلةُ، والأعمالُ
الصالحةُ الجليلةُ؛ فمن حقَّقَ التوحيدَ على هذا الوجهِ حَصَلَت له جميعُ
الفضائلِ المشارِ إليها في البابِ السابقِ بأكملِها، واللهُ أعلمُ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((1) هذا البابُ كالمُتمِّمِ للبابِ الذي قبلَه؛ لأنَّ الذي قبلَه: (بابُ فضلِ التوحيدِ، وما يُكَفِّرُ من الذنوبِ) فمِن فضلِه هذا الفضلُ العظيمُ الذي يسعَى إليه كلُّ عاقلٍ، وهو دخولُ الجنَّةِ بغيرِ حسابٍ.
(2) قولُه: (مَن) شرطيةٌ، وفعلُ الشرطِ (حقَّقَ) وجوابُه: (دخَلَ)، قولُه: (بلا حسابٍ) أيْ: لا يُحاسَبُ، لا على المعاصي، ولا على غيرِها.
وتحقيقُ التوحيدِ: تخليصُه من الشِّركِ، ولا يكونُ إلا بأمورٍ ثلاثةٍ:
الأوَّلُ: العِلْمُ، فلا يمكنُ أن تحقِّقَ شيئاً قبل أنْ تعلَمَه، قالَ اللهُ تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ}.
الثاني: الاعتقادُ، فإذا علِمْتَ ولم تعتقدْ واستكبرْتَ لم تحقِّق التوحيدَ، قالَ اللهُ -تعالى- عن الكافرين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهاً وَاحِداً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فلم يعتقدوا انفرادَ اللهِ بالألوهيَّةِ.
الثالثُ: الانقيادُ، فإذا علِمْتَ واعتقدتَ ثم لم تَنْقَدْ فإنك لم تحقَّق التوحيدَ، قالَ تعالى: {إِنَّهُمْ
كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ
(35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}.
فإذا حَصَلَ هذا وحقَّق التوحيدَ فإنَّ الجنَّةَ مضمونةٌ له بغيرِ حسابٍ،
ولا نقولُ: إنْ شاءَ اللهُ؛ لأنّ هذا حكايةُ حكمٍ ثابتٍ شرعاً، ولهذا جزَمَ
المؤلِّفُ - رحِمَه اللهُ تعالى - بذلك في الترجمةِ دونَ أن يقولَ: إنْ
شاءَ اللهُ، أما بالنسبةِ للرجلِ المعيَّنِ فإننا نقولُ: إن شاءَ اللهُ.
وقد ذكَرَ المؤلِّفُ في هذا البابِ آيتين، ومناسبتُهما للبابِ الإشارةُ إلى
تحقيقِ التوحيدِ، وأنه لا يكونُ إلا بانتفاءِ الشركِ كلِّهِ.
(3) قولُه تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً... } الآيةَ.
وهذا ثناءٌ من اللهِ -سبحانَه وتعالَى- على إبراهيمَ بأنه إمامٌ متبوعٌ؛
لأنه أحدُ الرسلِ الكِرامِ من أُولي العَزْمِ، ثم إنَّه -صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قدوةٌ في أعمالِه وأفعالِه وجهادِه، فإنَّه جاهَدَ
قومَهُ وحصَلَ منهم عليهِ ما حصلَ، وأُلقي في النارِ فصبَرَ، ثم ابتلاهُ
اللهُ -سبحانَه وتعالى- بالأمرِ بذبحِ ابنِهِ، وهو وحيدُه، وقد بلَغَ معه
السعيَ، أيْ: شبَّ وترَعْرَعَ، فليس كبيراً قد طابتِ النَّفْسُ منه، ولا
صغيراً لم تتعلَّقْ به النفسُ كثيراً، فصارَ على مُنْتَهَى تعلُّقِ النفسِ
به، فجاءَ الفرجُ من اللهِ تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ولا يصحُّ ما ذكرَه بعضُهم من أنَّ السكينَ انقلَبَتْ، أو أن رقبتَه صارَتْ حديداً، ونحوَ ذلك.
(4) قولُه: {قانِتاً} القنوتُ: دوامُ الطاعةِ، والاستمرارُ فيها عَلَى كُلِّ حالٍ، فهو مُطِيعٌ للهِ ثابِتٌ على طَاعَتِه، مُدِيمٌ لَهَا في كُلِّ حالٍ.
(5) قولُه: {حَنِيفاً} أيْ: مائِلاً عن الشركِ،
مُجَانِبًا لكلِّ ما يخالِفُ الطاعةَ، فوُصِفَ بالإثباتِ والنَّفْيِ، أيْ:
بالوصفيْنِ الإيجابيِّ والسلبيِّ.وأصل الكلمة الإقبال ولازمها الميل، قال
ابن القيم: أصل الحنف: الإقبال، ثم وصف بلا زمه، وهو الميل؛ لأن المقبل على
شيء مائل عن غيره.
(6) قولُه: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
تأكيدٌ، أيْ: لم يكنْ مُشرِكاً طولَ حياتِه، فقد كانَ -عليه الصلاةُ
والسلامُ- معصوماً عن الشركِ، مع أن قومَه كانوا مشركين، فوصَفَه اللهُ
بامتناعِ الشركِ استمراراً في قولِه: {حنيفاً} وابتداءً في قولِه: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والدليلُ على ذلك: أنَّ اللهَ جعلَه إماماً، ولا يجعلُ اللهُ للناسِ إماماً مَن لم يحقِّقِ التوحيدَ أبداً.
(7) قولُه: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} هذه الآيةُ سبقتها آيةٌ، وهي قولُه: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}، لكنَّ المؤلِّفَ ذكرَ الشاهِدَ، وقولُه: {مِنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ}أي: مِن خوفِهِم منه على علمٍ، و{مُشْفِقُونَ}
أي: خائفون من عذابِه إن خالفوه، فالمعاصي بالمعنى الأعمِّ -هيَ- شركٌ؛
لأنَّها صادرةٌ عن هَوًى مخالفٍ للشرعِ، وقد قالَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ}، أمَّا بالنسبةِ للمعنى الأخصِّ، فيُقَسِّمُها العلماءُ إلى قسميْن؛ الأول شركٍ، الثاني فسوقٍ، وقولُه: {يُشْرِكُونَ}
يُرادُ به الشركُ بالمعنى الأعمِّ؛ إذ تحقيقُ التوحيدِ لا يكونُ إلا
باجتنابِ الشِّركِ بالمعنى الأعمِّ، ولكن ليسَ معنى هذا ألا تقعَ منهم
المعاصي؛ لأنَّ كلَّ بني آدَمَ خطَّاءٌ، ولكن هؤلاء إذا عَصَوْا فإنهم
يتوبون، ولا يصرون عليها كما قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ
وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
(8) قولُه: (عن حُصيْنِ بنِ عبدِ الرحمنِ قالَ: كنتُ عندَ سعيدِ بنِ جُبيْرٍ): وهما رجلان من التابعين.
(9) قولُه: (انْقَضَّ البارحةَ) أي: سقَطَ.
(10) قولُهُ: (فقلتُ: أنا) أي: حُصَيْنٌ.
(11) قولُهُ: (أمَا إِني لَمْ أكُن في صَلاةٍ)
أمَا: أداةُ استفتاحٍ، وقيلَ: إنَّها بمعنى حقًّا، وعلى هذا فتُفْتَحُ
هَمزةُ (إنَّ) فيقالُ: أما أني لَم أكنْ في صلاةٍ، أي: حقّاً لم أكنْ في
صلاةٍ، وقد قالَ هذا رحِمَه الله؛ لئلاَّ يُظَنَّ أنه قائمٌ يصلِّي
فيُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، وهذا خِلافُ ما عليه بعضُهم، يفرحُ بتوهم
الناسَ أنه قائم يصلي، وهذا مِن نقْصِ التوحيدِ، وقولُ حصينٍ-رحمه اللهُ-
ليسَ مِن بابِ المراءاةِ، بل هو مِن بابِ الحسناتِ، وليسَ كمَن يتْرُكُ
الطاعاتِ خوفاً من الرياءِ؛ لأن الشيطانَ قد يلعبُ على الإنسانِ، ويُزيِّنُ
له تركَ الطاعةِ خشيَةَ الرياءِ، بل افْعَلِ الطاعةَ، ولكن لا يكنْ في
قلبِكَ أنَّك تُرائي الناسَ.
(12) قولُه: (لُدغتُ) أي: لدغَتْهُ عَقْربٌ أو غيرُها، والظاهِرُ أنها شديدةٌ؛ لأنه لم ينَمْ منها.
(13) قولُه: (ارتقَيْتُ) أي: استرقَيْتُ؛ لأنَّ افتعلَ الشيءَ مثلُ استفعلَ، وفي روايةِ مسلمٍ: (استرقيتُ) أي: طلبتُ الرقيةَ.
(14) قولُه: (فَما حَمَلَك عَلَى ذلك) أي: قالَ سعيدٌ: ما السببُ أنَّكَ استرقيتَ؟
(15) قولُه: (لا رُقْيَةَ) أي: لا قراءةَ على مريضٍ، أو مصابٍ.
(16) قولُه: (مِن عينٍ) ويسَمِّيها العامَّةُ
الآن (النحاتةَ)، وبعضُهم يسمِّيها (النفسَ)، وبعضُهم يسميها (الحَسَدَ)،
وهي نظرَةٌ من حاسدٍ نَفْسُهُ خبيثةٌ، تتكَيَّفُ بكيْفِيَّةٍ خاصَّةٍ،
فينبعثُ منها ما يؤثِّرُ على المصابِ.
(17) قولُه: (حُمَة) بضمِّ الحاءِ وفتحِ الميمِ مع تخفيفِها،وهي كلُّ ذاتِ سمٍّ، والمعنى لدَغَته إحدْى ذواتِ السمومِ، والعقربُ منها.
(18) فقالَ سعيدُ بنُ جبيْرٍ: (قدْ أحسَنَ مَن انتهى إلى ما سَمِعَ، ولكنْ حدَّثَنَا ابنُ عبَّاسٍ.. ) إلخ، فيه أن حصيناً أخذ بحديثِ: "لا رُقْيَةَ إلا مِن عينٍ أو حُمَةٍ"
وهذا يدلُّ على أنَّ الرُّقْيَةَ مِن العينِ أو الحُمَةِ مفيدةٌ، وهو أمرٌ
واقعٌ؛ فإنَّ الرُّقى تنفَعُ - بإذنِ اللهِ - مِن العينِ، ومِن الحُمَةِ
أيضاً، وكثيرٌ من الناسِ يقرؤُونَ على الملدوغِ، فيَبْرَأُ حالاً، ويدلُّ
لهذا قصةُ الرجلِ الذي بعثَه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، في
سَرِيَّةٍ فاستضافوا قوماً فلَم يُضَيِّفُوهم، فلُدِغَ سيِّدُهم، فقالوا:
مَن يَرْقِي؟ فقالوا: لعلَّ هؤلاء الرَّكْبَ عندهم راقٍ فجاؤُوا إلى
السَّرِيَّةِ، قالوا: هل فيكم مِن راقٍ؟ قالوا: نعم، ولكن لا نرْقي لكم إلا
بشيءٍ من الغنَمِ، فقالوا: نُعْطِيكُم، فاقْتَطَعُوا لَهم مِن الغَنَمِ،
ثُمَّ ذهَبَ أحدُهم يقرأُ عليه الفاتِحَةَ، فقامَ كأنما نشِطَ من عِقالٍ،
فانْتَفَعَ اللديغُ بقراءتِها، ولهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
"ومَا يُدْرِيكَ أنها رُقيةٌ" يعني الفاتحةَ، وكذا القراءةُ مِن العينِ مفيدةٌ.
ويُستعمَلُ للعينِ طريقةٌ أُخرى غيرُ الرقْيَةِ، وهو الاسْتِغْسَالُ، وهي
أنْ يُؤْتَى بالعائنِ، ويُطلَبَ منه أنْ يتوضأَ، ثم يُؤخذَ ما تناثرَ من
الماءِ مِن أعضائهِ، ويُصَبَّ على المُصَابِ، ويَشْرَبَ منه، ويبرأَ بإذنِ
اللهِ.
وهناك طريقةٌ أخرى، ولا مانِعَ منها أيضاً، وهي أن يُؤْخَذَ شيءٌ مِن
شِعارِهِ أي: ما يلي جسْمَه من الثيابِ، كالثوبِ، والطاقيَّةِ، والسِّروالِ
وغيرِها، أو الترابِ إذا مشَى عليه وهو رَطْبٌ، ويُصَبُّ على ذلك ماءٌ
يُرَشُّ به المصابُ، أو يشْرَبُهُ، وهو مُجرَّبٌ.
وأما العائِنُ، فينبغي إذا رأَى ما يُعْجِبُه أن يُبَرِّكَ عليه؛ لقولِ
النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعامِرِ بنِ ربيعةَ لما عانَ
سهْلَ بنَ حنيفٍ: "هلاّ برَّكْتَ عليه" أي قلتَ: بارَكَ اللهُ عليكَ.
قولُه: (ولكنْ حدَّثنا) القائِلُ: سعيدُ بنُ جبيْرٍ.
(19) قولُه: (" عُرِضَت عليَّ الأممُ" ) العارِضُ لها هو اللهُ سبحانَه وتعالى، وهذا في المنامِ فيما يظْهَرُ، و("الأممُ") جمعُ أمَّةٍ، وهي أممُ الرُّسُلِ.
(20) قولُه: (" الرَّهْطُ") مِن الثلاثةِ إلى التسعةِ.
(21) قولُه: (" والنَّبيَّ ومعه الرجلُ والرَّجُلانِ ")
الظاهرُ: أنَّ الواوَ بمعنى أو، أي: ومعه الرجلُ أو الرجلان؛ لأنَّه لو
كانَ معه الرجلُ والرجلان صارَ يُغْنِي أن يقولَ: ومعه ثلاثةٌ، لكنَّ
المعنى: والنبيَّ ومعه الرجلُ، والنبيَّ ومعه الرجلان.
(22) قولُه: ("والنبيَّ وليسَ معهُ أَحَدٌ") أي:
يُبْعَثُ، ولا يكونُ معه أحدٌ، لكنْ يبعثُه اللهُ لإقامةِ الحجَّةِ، فإذا
قامَتِ الحُجَّةُ حينئذٍ يُعذَرُ اللهُ من الخلقِ، ويُقيمُ عليهم الحجَّةَ.
(23) قولُه: (إذ رُفِع لي) هذا على تقديرِ محذوفٍ، أي: بيْنَمَا أنا كذلكَ إذْ رُفِعَ لي.
(24) قولُه: ("سَوَادٌ عظيمٌ") المرادُ بالسوادِ
هنا الظاهِرُ: أنه الأشخاصُ، ولهذا تقولُ: ما رأيتُ سوادَه، فرأى شخْصَه،
أيْ: أشخاصاً عظيمةً كانوا من كثرتِهِم سواداً؛ لأنَّ السوادَ يُطلَقُ على
الشخْصِ.
(25) قولُه: ("فظَنَنْتُ أَنَّهم أُمَّتي") لأنَّ الأنبياءَ عُرِضوا عليه بأمَمِهِم، فظنَّ أنَّ هذا السوادَ هم أمَّتَه عليه الصلاةُ والسلامُ.
(26) قولُه: ("فَقيلَ لي: هذا مُوسى وقومُه") وهذا يدلُّ على كثرةِ أتباعِ مُوسى -عليهِ السلامُ- وقومِه الذين أُرسِلَ إليهمْ.
(27) قولُه: ("فإذا سَوادٌ عَظيمٌ فقيلَ لي: هَذِه أُمَّتُكَ")
وهذا أعظمُ مِن السوادِ الأولِ؛ لأنَّ أُمَّةَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أكثرُ بكثيرٍ مِن أمَّةِ موسى عليهِ السلامُ.
(28) قولُه: ("بغيرِ حِسابٍ ولا عذابٍ") أيْ لا يُعذَّبون ولا يُحاسَبون كرامةً لهم، وظاهرُهُ: لا في قبورِهِم، ولا بعدَ قيامِ الساعةِ.
(29) قولُه: (فخاضَ الناسُ في أولئكَ) هذا الخوضُ للوصولِ إلى الحقيقةِ نظريّاً، وعمليّاً حتى يكونوا منهم.
(30) قولُه: (الذينَ صَحِبوا رسولَ اللهِ) يَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ الصُّحْبَةُ المُطْلَقَةُ.
(31) قولُه: (الذينَ وُلِدوا في الإسلامِ) أيْ
مَن وُلِدَ بعدَ البَعْثَةِ، وأسلَمَ، وهؤلاءِ كثيرونَ، ولو قلنا: وُلِدوا
في الإسلامِ مِن الصحابةِ ما بلَغوا سبعين ألفاً؛ إلا أن يكون المراد من
الصحابة وغيرهم ممن يكون بعدهم من هذه الأمة.
(32) قولُه: (فَخَرجَ عليهم رسولُ اللهِ) أيْ: أخبروه بما قالوا، وما جرى بينَهم.
(33) قولُه: ("لا يَسْتَرْقُون") في بعضِ رواياتِ مسلمٍ: "لا يَرْقُون"
ولكنَّ هذه الروايةَ خطأٌ كمَا قالَ شيخُ الإسلامِ؛ لأنَّ الرسولَ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ يَرْقِي، ورقاهُ جِبريلُ وعائشةُ، وكذلك
الصَّحابةُ كانوا يَرقُونَ، واسْتَفْعَلَ بمعنى طلَبَ الفِعلَ مِثْلَ:
اسْتَغْفَرَ أيْ طلَبَ المغْفِرَةَ، واستَجَارَ: طلَبَ الجِوارَ، وهنا
اسْتَرْقَى، أيْ طلَبَ الرُّقيةَ، فهؤلاء لا يَطلُبون مِن أحدٍ أن يقرأَ
عليهم لقوَّةِ اعتمادِهِم على اللهِ، ولعزَّةِ نفوسِهِم عن التذللِ لغيرهِ،
ولما في ذلك مِن التعلُّقِ بغيرِهِ.
(34) قولُه: ("ولا يَكْتَوُونَ") معنى اكْتَوى: طلَبَ مَن يكويه، وهذا مِثْلُ قولِه: ("ولا يسْتَرْقُون")،
أما بالنسبَةِ لمن أُعِدَّ للكيِّ مِن قِبَلِ الحكومةِ فطَلَبُ الكَيِّ
منه ليس فيه ذلٌّ؛ لأنَّه مُعَدٌّ مِن قِبَلِ الحكومةِ يأخُذُ الأجرَ على
ذلك مِن الحكومةِ، ولأنَّ هذا الطلبَ مجرَّدُ إخبارٍ من الطالِبِ بأنَّه
مُحتَاجٌ إلى الكيِّ، وليس سؤالَ تذلُّلٍ.
(35) قولُه: ("ولا يَتَطيَّرون") مأخوذٌ مِن
الطَّيْرِ، والمصدرُ منه تَطَيُّرٌ، والطِّيَرَةُ اسمُ المصدْرِ، وأصلُه
التشاؤمُ بالطَّيْرِ، ولكنَّه أعمُّ من ذلك فهو التشاؤمُ بمرْئِيٍّ أو
مَسْموعٍ، أو زمانٍ، أو مكانٍ.
وهل هذه الأشياءُ تدلُّ على أنَّ مَن لم يتَّصِفْ بها فهو مذمومٌ، أو فاته الكمالُ؟
الجوابُ: أنَّ الكمالَ فاتَه إلا بالنسْبَةِ للتطيُّرِ فإنَّه لا يجوزُ؛
لأنَّه ضررٌ وليس له حقيقةٌ أصلاً، أما بالنسبةِ لطلبِ العلاجِ، فالظاهِرُ
أنه مثلُه؛ لأنَّه عامٌّ، وقد يُقالُ: إنَّه لولا قولُه: "ولا يسْتَرْقُون" لقلتُ: إنَّه لا يدخلُ؛ لأنَّ الاكتواءَ ضررٌ محقَّقٌ: إحراقٌ بالنارِ، وألمٌ للإنسانِ ونفعُه مُرْتَجًى، لكن كلمةُ "يَسْتَرْقُون"
مُشْكِلَةٌ، فالرُّقْيَةُ ليس فيها ضَرَرٌ، إنْ لم تنفعْ لم تضرَّ، وهنا
نقولُ الدواءُ مثلُها؛ لأنَّ الدواءَ إذا لم ينفعْ لم يَضُرَّ، وقدْ
يَضُرُّ أيضاً؛ لأنَّ الإنسانَ إذا تناولَ دواءً، وليس فيه مرضٌ لهذا
الدواءِ فقد يضُرُّه، وهذه المسألةُ تحتاجُ إلى بحثٍ، وهل نقولُ -مثلاً- ما
تَأكَّدت منفعتُه ولَم يكنْ في طلبِ الإنسانِ لهُ إذلالٌ لنفسِه فهو لا
يضرُّ، أيْ لا يفوتُ المرءَ الكمالُ بِهِ، كجبرِ الكَسْرِ، وقطْعِ العُضْوِ
مثلاً، أو كمَا يفْعَلُ الناسُ الآنَ في الزائِدةِ وغيرِها؟ ولو قالَ
قائِلٌ: بالاقْتِصَارِ على ما في هذا الحديثِ، وهو أنَّهم لا يَسْتَرْقُون
ولا يكتَوُون، ولا يَتَطيَّرون، وأنَّ ما عدا ذلك لا يَمْنَعُ مِن دخولِ
الجنَّةِ بلا حسابٍ ولا عذابٍ، للنصوصِ الواردةِ بالأمرِ بالتدَاوي،
والثناءِ على بعضِ الأدويَةِ، كالعَسَلِ والحبَّةِ السوداءِ لكانَ لَه
وَجْهٌ.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد ص96: واعلم أن الحديث لا يدل
على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمرٌ
فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرةٌ لأعظم الأسباب، كما
قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي كافيه.
وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها، توكلاً على
الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له؛ لكونه سبباً مكروهاً،
لاسيمّا والمريض يتشبث فيما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت، أما مباشرةُ
الأسباب على وجه لا كراهية فيه؛ فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه
مشروعاً؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله" .
وإذا طلَبَ منك إنسانٌ أن يَرْقِيَكَ فهل يَفوتُكَ كمالٌ إذا لم تَمْنَعْه؟
الجوابُ: لا يفوتُكَ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لم
يَمْنَعْ عائِشَةَ أن تَرْقِيَه، وهو أكملُ الخلْقِ توكُّلاً على اللهِ
وثقةً بِهِ؛ ولأنَّ قوله: "لا يَسْتَرْقُون"
إنَّما كانَ في طلَبِ هذه الأشياءِ، ولا يَخْفَى الفَرْقُ بين أنْ تَحْصُلَ
هذه الأشياءُ بطلَبٍ وبينَ أنْ تحصُلَ بغَيْرِ طلَبٍ، قال في فتح المجيد
ص94: والفرق بين الراقي والمسترقي: أنّ المسترقي سائلٌ مستعط ملتفت إلى غير
الله بقلبه والراقي محسنٌ.
(36) قولُه: (فقالَ: "أنتَ مِنهم" ) وقولُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هذا هل هو بوحيٍ مِن اللهِ إقراريٍّ، أو وحيٍ إلهاميٍّ، أو وحيِ رسولٍ؟
مثلَ هذه الأمورِ يَحْتَمِلُ أنَّها وحيٌ إلهامِيٌّ، أو بواسِطَةِ الرسولِ،
أو وحيٌّ إقراريٌّ، بمعنى أنَّ الرسولَ يقولُها، فإذا أقرَّه اللهُ عليه
صارَتْ وَحْياً إقراريًّا، لكنَّ روايةَ البُخاريِّ: "اللهُمَّ اجْعَلْه مِنهم" تدلُّ على أنَّ الجملةَ: "أنتَ مِنهم" خبرٌ بمعْنَى الدُّعاءِ.
(37) قولُه: (ثم قامَ رجلٌ آخرُ فقالَ: ادْعُ اللهَ أنْ يجعَلَني منهُم، قالَ: "سبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ" ) لم يُرد النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أن يقولَ له: لا، ولكن قالَ: "سَبَقَكَ بها"
أيْ بهذه الْمَنْقَبَةِ والفضيلَةِ، أو بهذه المسأَلَةِ عُكاَّشَةُ بنُ
مِحْصَنٍ، وقد اختلَفَ العلماءُ لماذا قالَ الرسولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ - هذا الكلامَ؟ فقيلَ: إنَّه كانَ منافِقاً، فأرادَ الرسولُ
-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ألاَّ يُجابِهَه بِما يَكْرَهُ تأليفاً،
وقيل: خافَ أن ينفَتِحَ البابُ، فيطلبَها مَن ليس مِنهم، فقالَ هذه الكلمةَ
التي أصبَحَت مَثَلاً.
(38) قولُه: (فيه مسائلُ) أيْ: في هذا البابِ مسائِلُ.
(29) المسألةُ ( الأولى: معرِفةُ مراتِبِ النَّاسِ في التوحيدِ) وهذه مأخوذةٌ من قولِه: "يَدخلون الجنَّةَ بِغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ" ثُمَّ قالَ: "هُمُ الذينَ لا يَسْتَرْقونَ، ولا يكْتَوون، ولا يتَطَيَّرونَ".
(30) (الثانيةُ: ما معنى تحقيقِه ؟ ) أيْ تحقيقِ التوحيدِ، وسبقَ لنا في أوَّل البابِ أنَّ تحقيقَه: تخليصُه مِن الشِّركِ.
(31) (الثالثةُ: ثناؤُه - سبحانَه - على إبراهيمَ بكونهِ لم يكُ مِن المشركين) وهو ظاهِرٌ في الآيةِ الكريمةِ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
فإنَّ هذه الآيةَ لا شكَّ أنَّها سِيقَت للثناءِ على إبراهيمَ عليه
الصلاةُ والسلامُ، وإذا كان مَناطُ الثناءِ انتفاءَ الشِّركِ عنه دلَّ ذلك
على أنَّ كلَّ مَن انْتَفَى عنه الشِّركُ فهو مَحَلُّ ثناءٍ مِن اللهِ
سبحانَه وتعالى.
(32) (الرابعةُ: ثناؤُه على ساداتِ الأولياءِ بسلامتِهِم من الشِّركِ) لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} وهذه الآيةُ في سياقِ آياتٍ كثيرةٍ، ابْتَدَأَهَا اللهُ بقولِه: {إِنَّ
الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ
يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَـئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، فهؤلاء هم
ساداتُ الأولياءِ، وكلامُ المؤلِّفِ مِن بابِ إضافةِ الصفةِ إلى موصوفِها،
أيْ أولياءُ الساداتِ وليسَ يريدُ -رحِمَه اللهُ- الساداتِ من الأولياءِ،
بل يريدُ الأولياءَ الذينَ هُم ساداتُ الخلقِ.
(33) (الخامسةُ: كونُ تركِ الرُّقْيَةِ والكيِّ من تحقيقِ التوحيدِ) لقولِه: "الذينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولا يكْتَوون" فالمرادُ بقولِ المؤلِّفِ: (الرُّقْيَةُ والكيُّ) الاسْتِرْقاءُ والاكْتِواءُ.
(34) (السادسةُ: كونُ الجامعِ لتلك الخصالِ هو التوكُّلَ)
الخصالُ هي تَركُ الاسترقاءِ، وتركُ الاكتواءِ، وتركُ التطيُّرِ، يعني
أنَّ الجامعَ لهذه الأشياءِ هُو قوةُ التوكُّلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ.
(35) (السابعةُ: عُمقُ علمِ الصحابةِ، لمَعْرِفَةِ أنَّهم لم ينالوا ذلك إلا بعملٍ)
أي لم يَنَلْ هؤلاء السبعون ألفاً هذا الثوابَ إلا بعملٍ، ووجهُه أنَّ
الصحابَةَ خاضوا فيمَن يكونُ له هذا الثَّوابُ العظيمُ، وذَكَرُوا أشياءَ.
(36) (الثامنةُ: حِرصُهم على الخيرِ) وجهُه خوضُهم في هذا الشيءِ؛ لأنَّهم يُرِيدون أن يصِلُوا إلى نتيجةٍ؛ حتَّى يقوموا بها.
(37) (التاسعةُ: فضيلةُ هذه الأُمَّةِ بالكميَّةِ والكيفيَّةِ)؛
أمَّا الكَميَّةُ فلأنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رأى
سواداً عظيماً أعظَمَ مِن السوادِ الذي كانَ مَع موسى، وأمَّا الكيفيَّةُ
فلأنَّ معهم هؤلاء الذين لا يَسْتَرْقُون ولا يكْتَوونَ
ولا يتطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكَّلُونَ.
(38) (العاشِرةُ: فضيلةُ أصحابِ موسى) وهو مأخوذٌ من قولِه: "إذ رُفِعَ لي سوادٌ عظيمٌ" ولكن قد يقالُ: إنَّ التعبيرَ بقولِ: كثرةِ أتباعِ موسى أنسبُ لدلالةِ الحديثِ؛ لأن الحديثَ يقولُ: "سَوادٌ عظيمٌ، فَظننتُ أنّهم أُمَّتي" وهذا يدلُّ على الكثرةِ، ويمكنُ أن تكون كثرة من آمن منهم فضيلتهم فيتوجه ما ذكره إمام الدعوة.
(39) (الحاديةَ عشرةَ: عرضُ الأممِ عليه، عليه الصلاةُ والسلامُ)
وهذا له فائدتان: الفائدةُ الأولى تسليةُ الرسولِ -عليه الصلاةُ والسلامُ-
حيثُ رأَى مِن الأنبياءِ مَن ليس معه إلا الرجلُ والرجلان، ومِن الأنبياءِ
مَن ليس معه أحدٌ، فَيَتَسَلَّى بذلك - عليه الصلاةُ والسلامُ -ويقولُ: {مَا كُنتُ بِدَعاً مِّنَ الرُّسُلِ}،
الفائدةُ الثانيةُ بيانُ فضيلتِه عليه الصلاةُ والسلامُ، وشرفِه حيثُ كانَ
أكثرَهم أتباعاً وأفضلَهم، فصارَ في عَرْضِ الأممِ عليه هاتان الفائدتانِ.
(40) (الثانيةَ عشرةَ: أنَّ كلَّ أمَّةٍ تُحْشَرُ وَحْدَهَا مع نبيِّها) لقولِه: "رأيْتُ النبيَّ ومَعَه الرجلُ والرجلان"
ولولا أنَّ كلَّ نبيٍّ متمَيِّزٌ عن النبيِّ الآخرِ لاخْتَلَطَ بعضُهم
ببعضٍ، ولم يُعْرَف الأتباعُ مِن غيرِ الأتباعِ، ويدُلُّ لذلك قولُه تعالى:
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} فإنه يدُلُّ على أنَّ كلَّ أمةٍ تكونُ وحدَها.
(41) (الثالثةَ عشرةَ: قِلةُ مَن استجابَ للأنبياءِ) وهو واضِحٌ من قولِه: "والنبيَّ ومَعه الرجلُ والرجلانِ، والنبيَّ ولَيس معه أحدٌ".
(42) (الرابعةَ عشرةَ: أنَّ مَن لم يُجِبْه أحدٌ يَأْتي وحدَه) لقولِه: "والنَّبيَّ ولَيس معه أحدٌ".
(43) (الخامسةَ عشرةَ: ثمرةُ هذا العلمِ، وهو عدمُ الاغترارِ بالكثرةِ) فإنَّ الكثرةَ قد تكونُ ضلالاً، قالَ اللهُ تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ}،
وأيضاً الكثرةُ مِن جهةٍ أخرى إذا اغْتَرَّ الإنسانُ بكثرتِه؛ وظنَّ أنَّه
لن يُغْلَبَ أو أنه منصورٌ؛ فهذا أيضاً سببٌ للخِذلانِ، فالكثرةُ إنْ
نظرْنَا إلى أنَّ أكثرَ أهلِ الأرضِ ضُلاَّلٌ لا تَغْتَرَّ بِهِم، فلا
تَقُلْ: إنَّ الناسَ على هذا، كيف أنْفَرِدُ عنهم؟ كذلك أيضاً لا تغترَّ
بالكثرةِ، إذا كانَ معك أتباعٌ كثيرون على الحقِّ، فكلامُ المؤلِّفِ له
وجهان: الوجهُ الأولُ أن لا نَغْتَرَّ بكثرةِ الهالكين، فنَهْلِكَ معهم،
الوجهُ الثاني أنّ لا نَغْتَرَّ بكثرةِ الناجِين، فيَلْحَقَنَا الإعجابُ
بالنفسِ، ينبغي أن يحذر المرء من الزُّهدِ في القِلَّةِ، فقد تكونُ
القلَّةُ خيراً مِن الكثرةِ.
(44) (السادسةَ عشرةَ: الرُّخصةُ في الرقيةِ مِن العينِ والحُمَةِ) مأخوذةٌ من قولِه: "لا رُقيْةَ إلا مِن عينٍ أو حُمَةٍ".
(45) (السابعةَ عشرةَ: عُمقُ علمِ السلفِ لقولِه: (قدْ
أَحْسَنَ مَن انتَهى إلى ما سَمِعَ، ولكن كذا وكذا) فعُلِمَ أنَّ الحديثَ
الأولَ لا يخالِفُ الثانِيَ) لأنَّ قولَه: " لا رُقْيَةَ إلا من عينٍ أو حُمَةٍ "
لا يُخالِفُ الثانيَ؛ لأنَّ الثانيَ إنَّما هو في الاسْتِرْقاءِ، والأولُ
في الرُّقْيَةِ، فالإنسانُ إذا أَتاه مَن يَرْقِيه ولم يمنَعْه فإنَّه لا
يُنافي قولَه: "ولا يَسْتَرْقون" لأنَّ هناك
ثلاثَ مراتِبَ: المرتبةُ الأولى أنْ يَطْلُبَ مَن يرْقِيه، وهذا قد فاتَه
الكمالُ، المرتبةُ الثانيةُ أنْ لا يَمْنَعَ مَن يَرقيه، وهذا لم يفتْه
الكمالُ؛ لأنَّه لم يَسْتَرْقِ ولم يَطْلُبْ، المرتبةُ الثالثةُ أنْ يمنعَ
مَن يرْقِيَه، وهذا خِلافُ السُّنَّةِ؛ فإنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يَمْنَعْ عائِشَةَ أن تَرْقِيَه، وكذلك الصحابةُ لم
يَمْنَعُوا أحداً أنْ يرْقِيَهُم؛ لأنَّ هذا لا يُؤثِّرُ في التَّوَكُّلِ.
(46) (الثامنةَ عشرةَ: بُعْدُ السلَفِ عن مدحِ الإنسانِ بما ليس فيه) يُؤْخَذُ مِن قولِه: (أمَا إنِّي لم أكنْ في صلاةٍ، ولكنِّي لُدِغْتُ)
لأنَّه إذا كانَ رأَى الكوْكَبَ الذي انْقَضَّ استلْزَمَ أنْ يكونَ
يَقْظَانَ، واليَقْظَانُ إمَّا أنْ يُصَلِّيَ، وإما أن يكونَ له شُغُلٌ
آخرُ، وإمَّا أنْ يكونَ لديه مانِعٌ مِن النومِ.
(47) (التاسعةَ عشرةَ: قولُه: "أنتَ منهم" عَلَمٌ مِن أعلامِ النبوَّةِ)
يعني دليلاً على نبوَّةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ولأن
عُكَّاشَةَ بنَ مِحْصَنٍ - رضِيَ اللهُ عنه - بقِيَ مَحروساً من الكُفرِ
حتى ماتَ على الإسلامِ، فيكونُ هذا دليلاً مِن دلائلِ نبوةِ الرسولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، هذا إذا قلنا: إنَّ الجملةَ خبريَّةٌ ليست جملةً
دعائيَّةً، فإنْ قلنا: إنَّها جملةٌ دعائيَّةٌ فقد نقولُ أيضاً: فيه
عَلَمٌ من أعلامِ النبوةِ، وهو أنَّ اللهَ استجابَ دعْوَةَ الرسولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، لكنَّ استجابةَ الدعوةِ ليست مِن خصائِصِ
الأنْبياءِ؛ فقد تُجابُ دعوةُ مَن ليسَ بنبيٍّ، وحينئذٍ لا يمكنُ أنْ تكونَ
عَلَماً من أعلامِ النبوَّةِ إلا حيث جعَلْنا الجملةَ خبريَّةً مَحْضَةً.
(48) (العشرون: فضيلةُ عُكَّاشَةَ) بكونِه ممَّن
يدخلونَ الجنَّة بغيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، وهل نَشْهَدُ له بذلكَ؟ نعم؛ لأن
الرسولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شهِدَ له بها.
(49) (الحاديةُ والعشرون: استعمالُ المعارِيضِ) وفي المعاريضِ مَنْدُوحةٌ عَن الكذبِ؛ وذلك لقولِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "سَبقَكَ بها عُكَّاشَةَ"
فإنَّ هذا في الحقيقةِ ليس هو المانِعَ الحقيقيَّ، بل المانِعُ ما
أشَرْنَا إليه في الشَّرحِ، إمَّا أن يكونَ هذا الرجلُ منافِقاً، فلَم
يُرِد النبَّيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أن يجعَلَه مع الذين
يَدْخُلُونَ الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، وإمَّا خوفاً مِن انْفِتَاحِ
البابِ فيسألُ هذه المرتَبَةَ مَن ليسَ مِن أهلِها.
(50) (الثانيةُ والعشرون: حُسْنُ خُلُقِه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ) وذلك لأنَّه ردَّ هذا الرجلَ، وسدَّ البابَ على وجهٍ ليس فيه غَضاضةٌ على أحدٍ، ولا كراهَةٌ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإن الاهتمام بالعلم والرغبة فيه والحرص عليه والإقبال عليه دليل
صحة القلوب؛ لأن القلب إذا صحا لنفسه وعرف ما ينفعه فإنه سيحرص على العلم؛
ذلك لأن الله -جل جلاله- مدح أهل العلم، ورفعهم على غيرهم درجات، قال
سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وقال جل وعلا: {أمَّن
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ
وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}،
فعدم استواء من يعلم مع من لا يعلم هذا إنما يذكره ويعيه أهل الألباب،
إنما يتذكر أولوا الألباب، وأما الجاهل فهو لا يعرف أنه جاهل ويقنع
بالجهالة، ثم هو لا يعلم معنى العلم وأهمية العلم، وأن العلم هو الشرف
الأعظم في هذه الحياة، ولهذا قال العلماء: من دلائل أهمية العلم أن الله
-جل جلاله- ما أمر نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أن يدعو
بالازدياد من شيء إلا من العلم؛ فقال سبحانه لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} وما أمره بالازدياد، أو بدعاء الازدياد من غير العلم، وكفى بذلك شرفاً.
العلم يشترك كثيرون في الاهتمام به، لكن لا يستوون في أخذه، ولا في طريقة أخذه، وهم طبقات:
1- فمنهم المتعجل الذي يظن أن العلم يُحَصَّل في أسابيع أو في أشهر أو في
سنين معدودة، وهذا بعيد عن الصواب؛ لأن العلم لا ينتهي حتى يموت المرء،
وبقي من العلم أشياء كثيرة لم يعلمها؛ فإن العلم واسع الأطراف، واسع
الجنبات؛ والله -جل وعلا- هو ذو العلم الكامل، وأعطى البشر بمجموعهم أعطاهم
بعض علمه، فهذا يفوت عليه شيء من العلم، وذاك يفوت عليه شيء من العلم،
ولكن بمجموعهم لو جُمع علم من فيها، لكان شيئاً قليلاً جدّاً من علم الله،
كما تضع الإبرة في البحر ثم تخرجها لم تنقص من ماء البحر شيئاً.وإذا كان
كذلك فإن رَوْمَ العلم لا يمكن أن يكون بإطلاق، بل ينبغي لطالب العلم أن
يكون متدرجاً فيه.
والتدرج سنة لا بد منها، هي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وهي سنة الصحابة، وهي سنة أهل العلم بعدهم، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم-َ ما علَّم الصحابة العلم جملة واحدة، وإنما علَّمهم في سنين
عدداً، في مكة علمهم أصل الأصول الذي به سلامة القلب وصحته، وسلامة العقل
وصحته، ألا وهو توحيد الله -جل جلاله- والبراءة من كل ما سوى الرب جل وعلا،
ثم بعد ذلك أتى العلم شيئاً فشيئاً لصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلٌّ أخذ من العلم بقدر ما يُسِّر له وقُدِّر له.
هكذا أهل العلم من بعد الصحابة، لا تجد أن أولئك خاضوا العلم خوضاً واحداً؛
فمنهم من برَّز في علم العربية، ومنهم من برَّز في علم الأصول، ومنهم من
برَّز في التفسير، ومنهم من برَّز في الحديث، ومنهم من برَّز في علوم الآلة
الأخرى، كالمصطلح ونحوه، ومنهم من برَّز في الفقه وهكذا في علوم شتّى،
وإذا كان كذلك كانت وصية ابن شهاب الزهري التي لابد أن نحفظها، كانت وصيته
نعم الوصية حيث قال: "من رام العلم جملة ذهب عنه جملة" ، إنما يطلب العلم
على مر الأيام والليالي، فالمتعجلون لا يُحَصِّلون العلم، فلا بد إذن من
التدرج.
2- ثُمّ ثَمَّ صنف آخر أيضاً من الشباب، أو من طلاب العلم، وهم المتذوقون؛
المتذوقون: أهل التذوق في أخذ العلم، يأتي ويطلب علماً ما مدة قليلة، ثم
يأتي ويحكم على هذا العلم، أو يحكم على من يُعَلِّم ذاك العلم، وأيضاً
ينتقل إلى آخر ثم يحكم على ذلك العلم الآخر وعلى من يُعَلِّم ذلك العلم
الآخر، وهذا دليل نقص في العلم، ونقص في الإدراك والعقل؛ لأن العلوم لا
يحكم عليها إلا من حواها من جميع جنباتها، وأحاط من ورائها، وهذا لا يتأتى
لأكثر الشباب الذين يتذوقون، تجد أنه في مدة من الزمن: أشهر أو سنة، حضر
عند فلان من أهل العلم، أو من المعلمين من طلبة العلم؛ فحكم على نفسه، أو
على ذلك المعلم بأنه كذا وكذا، ثم انتقل إلى غيره، ثم في الآخر تجد أن هذا
النوع ييأس ولا يحصل علماً كثيراً، ذلك لأنه تعجل وكان متذوقاً في العلم،
والتذوق بمعنى كثرة التنقل، والأخذ من هذا بشيء، والأخذ من ذاك بشيء؛ هذا
لا يكون المرء به عالماً ولا طالب علم، وإنما كما قال الأولون: (يكون
أديباً) لأنهم عرفوا الأدب بأنه: الأخذ من كل علم بطرف، وهذا مما لا ينبغي
أن يسلك، يعني: أن يكون طالب العلم الذي أراد صحة العلم، وصحة السلوك فيه،
لا يصلح أن يكون متذوقاً.
3- إذاً: فَرَجَعَ السبيلُ إلى أن يكون مؤصِّلاً نفسه متدرجاً في العلم،
والتأصيل أمره عزيز جدّاً، تأصيل العلم، وتأصيل طلب العلم، وأن يحفظ كما
حفظ الأولون، انظر إن كنت معتبراً، انظر كتب التراجم حيث ترجم أولئك
المصنفون لأهل العلم، تجد أنه في ترجمة إمام من الأئمة وحافظ من الحفاظ،
تجد أنهم يذكرون في أوائل ترجمته أنه قرأ الكتاب الفلاني من الكتب القصيرة؛
من المتون المختصرة، وقرأ الكتاب الفلاني، وحفظ كذا، وحفظ كذا، لماذا
يذكرون هذا ويجعلونه منقبةً لأولئك؟ لأن حفظ تلك المتون، وقراءة تلك
المختصرات هي طريقة العلم في الواقع، وهذه سنة العلماء، ومن تركها فقد ترك
سنة العلماء في العلم والتعليم منذ تشعب العلم بعد القرن الرابع الهجري،
لهذا ينبغي لك أن تكون حريصاً على التأني في طلب العلم، وأن تُحْكِم ما
تسمع وما تقرأ شيئاً فشيئاً.
ومن المهمات أيضاً، أن لا تُدْخِل عقلك إلا صورة صحيحة من العلم، لا تهتم
بكثرة المعلومات بقدر ما تهتم بألا يدخل العقل إلا صورة صحيحة للعلم، إذا
أردت أن تتناولها، تناولتها بالاحتجاج، أو بالذكر، أو بالاستفادة، تناولتها
تناولاً صحيحاً، أما إذا كنت تدخل في عقلك مسائل كثيرة، وإذا أتى النقاش
لحظت من نفسك أن هذه المسألة فهمتها على غير وجهها، والثانية فهمتها على
غير وجهها، لها قيد لم تهتم به، لها ضوابط ما اعتنيت بها؛ فتكون الصور في
الذهن كثيرة، وتكون المسائل كثيرة لكن غير منضبطة، وليس ذلك بالعلم، إنما
العلم أن تكون الصورة في الذهن للمسألة العلمية منضبطة من جهة الصورة، صورة
المسألة، ومن جهة الحكم، ومن جهة الدليل، ومن جهة وجه الاستدلال، فهذه
الأربع تهتم بها جدّاً.
أعيدها: الأولى صورة المسألة، الثانية حكم المسألة في أي علم؛ في الفقه أو
في الحديث أو في المصطلح أو الأصول أو النحو أو التفسير... الخ، الثالثة
دليلها، ما دليل هذا الذي قال كذا وكذا؟ الرابعة ما وجه الاستدلال؟ استدل
بدليل، كيف أعمل عقله في هذا الدليل فاستنبط منه الحكم؟
فإذا عودت ذهنك على هذه الأربع سرت مسيراً جيداً في فهم العلم، والذي يحيط
بذلك الاهتمام باللغة العربية، الاهتمام بألفاظ أهل العلم؛ لأن من لم يهتم
بألفاظ أهل العلم، وبلغة العلم، لم يدرك مراداتهم من كلامهم.
هذا الباب (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب)
وقد ذكر في الباب قبله فضل التوحيد وما يُكَفَّر من الذنوب، وهذا الباب
أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد، فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله، وأهل
التوحيد هم أهل الإسلام، فلكل من التوحيد فضل، ولكل مسلم نصيب من التوحيد،
وله بالتالي نصيب من فضل التوحيد وتكفير الذنوب، أما خاصة هذه الأمة، فهم
الذين حققوا التوحيد، ولهذا عطف هذا الباب على ما قبله لأنه أخص، (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب )،
وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب.تحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين: لا إله
إلا الله محمد رسول الله، ومعنى تحقيق الشهادتين: تصفية الدين، يعني ما
يدين به المرء- من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فصار تحقيق التوحيد يرجع
إلى ثلاثة أشياء؛ الأول ترك الشرك بأنواعه الأكبر والأصغر والخفي، والثاني
ترك البدع بأنواعها، والثالث ترك المعاصي بأنواعها، وتحقيق التوحيد صار
تصفيته من أنواع الشرك وأنواع البدع وأنواع المعاصي.
وتحقيق التوحيد يكون -على هذا- على درجتين: درجة واجبة، ودرجة مستحبة،
وعليها يكون الذين حققوا التوحيد، على درجتين أيضاً؛ فالدرجة الواجبة أن
يترك ما يجب تركه من الثلاث التي ذكرت؛ يترك الشرك خفيه وجليه، صغيره
وكبيره؛ ويترك البدع، ويترك المعاصي، هذه درجة واجبة، والدرجة المستحبة من
تحقيق التوحيد، وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم
تفاضل، ألا وهي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله جل
وعلا، يعني أن يكون القلب متوجهاً إلى الله بكليته، ليس فيه التفات إلى غير
الله، نطقه لله، وفعله وعمله لله، بل وحركة قلبه لله جل جلاله، وقد عبّر
عنها بعض أهل العلم، أعني هذه الدرجة المستحبة: أن يترك ما لا بأس به حذراً
مما به بأس، يعني في مجال أعمال القلوب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح.
فإذاً رجع تحقيق التوحيد الذي هذا فضله، وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب
ولا عذاب رجع إلى تَيْنِك المرتبتين، وتحقيقه تحقيق الشهادتين لا إله إلا
الله، محمد رسول الله؛ لأن في قوله: لا إله إلا الله الإتيان بالتوحيد
والبعد عن الشرك بأنواعه؛ ولأن في قوله أشهد أن محمداً رسول الله البعد عن
المعصية والبعد عن البدع؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمداً رسول الله أن يطاع
فيما أمر، وأن يصدق فيما أخبر، وأن يُجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد
الله إلا بما شرع.
فمن أتى شيئاً من المعاصي والذنوب ثم لم يتب منها، أو لم تُكَفّر له؛ فإنه
لم يحقق التوحيد الواجب، وإذا أتى شيئاً من البدع؛ فإنه لم يحقق التوحيد
الواجب، وإذا لم يأت شيئاً من البدع، ولكن حَسًنَهْا بقلبه، أو قال: لا شيء
فيها، فإن حركة القلب كانت في غير تحقيق التوحيد، في غير تحقيق شهادة أن
محمداً رسول الله، فلا يكون من أهل تحقيق التوحيد، كذلك أهل الشرك بأنواعه
ليسوا من أهل تحقيق التوحيد.
وأما مرتبة الخاصة التي ذكرت، ففيها يتنافس المتنافسون، وما ثَمَّ إلا عفو الله ومغفرته ورضوانه.
استدل الشيخ في هذا الباب بآيتين وبحديث:
أما الآية الأولى، قال رحمه الله: (وقول الله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين} ) هذه الآية فيها الدلالة على أن إبراهيم -عليه السلام- كان محققاً للتوحيد، وجه الدلالة أن الله -جل وعلا- وصفه بصفات:
- الأولى: أنه كان أمة، والأمة هو الإمام الذي جمع جميع صفات الكمال البشري
وصفات الخير، وهذا يعني أنه لم ينقص من صفات الخير شيئاً، وهذا هو معنى
تحقيق التوحيد.
والأمة تُطْلَق في القرآن إطلاقات، ومن تلك الإطلاقات أن يكون معنى الأمة
الإمام المقتدى به في الخير، وسمّي أمة؛ لأنه يقوم مقام أمة في الاقتداء،
ولأنه يكون من سار على سيره غير مستوحش ولا متردد، لأنه ليس مع واحد فقط
وإنما هو مع أمة.
- الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد أنه قال: {قانتاً لله حنيفاً}
وهاتان صفتان: قانتاً لله: صفة، حنيفاً: صفة، ولكن هذه وهذه متلازمتان؛
لأن (القنوت لله) معناه: دوام الطاعة، وملازمة الطاعة لله جل وعلا؛ فهو
ملازم الطاعة لله جل وعلا، {حنيفاً} هذا فيه النفي، ففي قوله: {قانتاً لله} الإثبات في لزوم الطاعة، ولزوم أفراد التوحيد، وفي قوله: {حنيفاً}بالنفي،
قال العلماء: الحنيف هو ذو الحنف، وهو الميل عن طريق المشركين، مائلاً عن
طريق المشركين، مائلاً عن هدي وسبيل المشركين، فصار إذن عنده ديمومة وقنوت
وملازمة للطاعة، وبعدٌ عن سبيل المشركين، ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار
إبراهيم -عليه السلام- حنيفاً عن ذلك السبيل، يعني مائلاً عن ذلك السبيل
بعيداً عنه، معلوم أنه يشتمل على الشرك والبدعة والمعصية، فهي ثلاث أخلاق
المشركين: شرك، وبدعة، ومعصية من غير إنابة ولا استغفار.
- قال: {ولم يك من المشركين}{يك} هذه هي (يكن) وفي النفي يجوز حذف النون - نون (يكن)- في مثل هذا {ولم يك من المشركين} وفي آية أخرى: {ولم يكن من المشركين} فهما جائزان في اللغة إذا جاءت يكن في سياق النفي كما هو معلوم {ولم يك من المشركين}.
المشركين: جمع تصحيح للمشرك، والمشرك: اسم فاعل الشرك، و(ال) كما هو معلوم
في العربية، إذا جاءت قبل اسم الفاعل، أو اسم المفعول؛ فإنها تكون موصولة؛
كما قال ابن مالك في الألفية:
وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَـةُ أَلْ=وَكَوْنُها بِمُعْرَبِ الأفعالِ قُلْ
والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم، فكان إذن المعنى: ولم يك من
المشركين، يعني ولم يك فاعلاً للشرك بأنواعه، لم يك منهم؛ ولم يك من الذين
يفعلون الشرك بأنواعه، وأيضاً دل قوله: {ولم يك من المشركين}
على أنه ابتعد عنهم؛ لأن (مِنَ) تحتمل أن تكون تبعيضية؛ فتكون المباعدة
بالأجسام، ويحتمل أن تكون بيانية؛ فتكون المباعدة بمعنى الشرك.
المقصود أن الشيخ -رحمه الله- استحضر هذه المعاني من الآية، فدلته الآية على أنها في تحقيق التوحيد، قال جل وعلا: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين}
ذلك لأن من جمع تلك الصفات فقد حقق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة
بغير حساب.في تفسير إمام الدعوة المصنف الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه
الله- في تفسيره لآخر سورة النحل، فسّر هذه الآية، فقال رحمه الله: {إن إبراهيم كان أمة}لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين، {قانتاً لله} لا للملوك، ولا للتجار المترفين، {حنيفاً} لا يميل يميناً ولا شمالاً كحال العلماء المفتونين، {ولم يك من المشركين} خلافاً لمن كثّر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين.
وهو من التفاسير الرائقة الفائقة البعيدة المعاني {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}.
قال بعد ذلك (وقوله: {والذين هم بربهم لا يشركون} ) هذه من آيات في سورة المؤمنون، وهي في مدح خاصة المؤمنين، ووجه الاستدلال من الآية على الباب أنه قال: {والذين هم بربهم لا يشركون}
لا يشركون: نفي للشرك؛ كما ذكرت لكم من قبل: أن النفي إذا تسلط على الفعل
المضارع فإنه يفيد عموم المصدر الذي استكنَّ في الفعل، يعني كأنه قال جل
وعلا: والذين هم بربهم لا يفعلون شركاً، أو لا يشركون، لا بشرك أكبر ولا
أصغر ولا خفي، والذي لا يشرك هو الموحد، فصار عندنا لازم، وهو: أن من لم
يشرك أي أنواع من الشرك، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده، قال العلماء: قدّم
هنا قوله {بربهم}{والذين هم بربهم لا يشركون}
لأن الربوبية تستلزم العبودية، فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم
الإشراك في الطاعة وعدم الإشراك في العبودية، وهذا وصف الذين حققوا
التوحيد؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك ألا يشرك هواه، وإذا أشرك المرء هواه
أتى بالبدع، أو أتى بالمعصية، فصار نفي الشرك نفياً للشرك بأنواعه، ونفياً
للبدعة، ونفياً للمعصية، وهذا هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا، فإذاً الآية
دالة على ما ترجم به الإمام -رحمه الله- من قوله: (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب) وأولئك قال فيهم الله جل وعلا: {والذين هم بربهم لا يشركون}.
أما الحديث فهو حديث طويل، وموضع الشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام: "فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"
ثم نهض فدخل منـزله فخاض الناس في أولئك؛ فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام
فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأخبروه فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"
هذه في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذه صفة من صفاتهم،
وتلك الصفة خاصة بهم، لا يلتبس أمرهم بغيرهم؛ لأن هذه الصفة كالشامة
يعرَفون بها، من هم الذين حققوا التوحيد؟ قال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون" فذكر أربع صفات:
1- الأولى أنهم لا يسترقون، ومعنى يسترقون، يعني لا يطلبون الرقية، والطالب
للرقية في قلبه ميل للراقي حتى يرفع ما به من جهة السبب، وهذا النفي "لا يسترقون"
لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم جدّاً أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه؛
فالرقية عند العرب في الجاهلية، وهكذا حال أكثر الناس لهم تعلق بها، فالقلب
يتعلق بالراقي ويتعلق بالرقية، وهذا ينافي كمال التوكل على الله جل جلاله،
وأما ما جاء في بعض الروايات، أنهم الذين "لا يرْقون" فهذا غلط؛ لأن
الراقي مُحسن إلى غيره، وهي لفظة شاذة، والصواب ما جاء في هذه الرواية من
أنهم الذين "لا يسترقون" يعني لا يطلبون الرقية،
وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه، وإلى الرقية،
ونوع توكل، أو نوع استرواح لهذا الذي يرقي، أو للرقية.
2- قال: "ولا يكتوون" والكيُّ مكروه في أصله؛
لأن فيه تعذيباً بالنار، مع أنه مأذون به شرعاً لكن فيه كراهة، والعرب
تعتقد أن الكي يحُدث المقصود دائماً، فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي، فصار تعلق
القلب بهذا الكي من جهة أنه سبب يؤثر دائماً، ومعلوم أن الكي يؤثر بإذن
الله -جل وعلا- إذا اجتمعت الأسباب وانتفت الموانع، فالنفي لأجل أن في الكي
بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله.
3- قال: "ولا يتطيرون" والطيِّرَة شيء يعرض على
القلب من جراء شيء يحدث أمامه، إما أن يجعله يقدم على أمر، أو أن يحجم عنه،
وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيماً.
4- قال بعدها: "وعلى ربهم يتوكلون" وهي جامعة للصفات السابقة.
هذه الصفات لا يُعْنَى بذكرها أن الذين حققوا التوحيد، لا يباشرون الأسباب؛
كما فهمه بعضهم، من أن تحقيق التوحيد أو أن الكمال أن لا يباشر سبباً
البتة، أو أن لا يتداوى البتة، هذا غلط لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-
رُقِيَ، ولأنه عليه الصلاة والسلام تداوى، وأمر بالتداوي، وأمر أيضاً بعض
الصحابة بأن يكتوي ونحو ذلك، فليس فيه أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقاً،
أو لا يباشرون أسباب الدواء، وإنما فيه ذكر لهذه بخصوصها، هذه الثلاث
بخصوصها لأنها يكثر تعلق القلب والتفاته إلى الراقي، أو إلى الكي، أو
الكاوي، أو إلى التطير، ففيها إنقاص من التوكل.
أما التداوي فهو مشروع، إما واجب، أو مستحب، وفي بعض الأحوال يكون مباحاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام"
المقصود من هذا أن التداوي فعلاً- يعني أن يفعل التداوي، وأن يطلب الدواء
ليس خارماً لتحقيق التوحيد، ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا
يسترقون بخصوص الرقية، ولا يكتوون بخصوص الكي، ولا يتطيرون، وأما ما عدا
ذلك مما أذن به؛ فلا يدخل فيما يختص به أهل تحقيق التوحيد، فإذاً يكون
الأظهر عندي مما في هذا الحديث أنه مخصوص بهذه الثلاثة: لا يسترقون، ولا
يكتوون، ولا يتطيرون، أما الأسباب الأخرى المأذون بها؛ فلا تدخل في صفة
الذين حققوا التوحيد.
قال: (فقام عكّاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر؛ فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم فقال: "سبقك بها عكاشة"
) هذا فيه دليل على أن أهل تحقيق التوحيد قليل وليسوا بكثير، ولهذا جاء
عديدهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفاً، قد جاء في بعض الروايات عند
الإمام أحمد وعند غيره "بأن الله -جل وعلا- أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كل ألف من السبعين ألفاً"
أعطاه سبعين ألفاً، فيكون العدد قرابة خمسة ملايين من هذه الأمة، فإن كان
ذلك الحديث صحيحاً -وقد صحح إسناده بعض أهل العلم- فإنه لا يكون للعدد في
هذا الحديث مفهوم، أو كان قبل سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يزاد في
عدد أولئك الذين حققوا التوحيد ، ما معنى أن يزاد في عددهم؟ يعني: أن الله
-جل وعلا- يَمُنُّ على أناس من هذه الأمة أكثر من السبعين ألفاً ممن سيأتون
فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد، والله -جل وعلا- هو الذي يوفق، وهو الذي
يهدي، ثم هو الذي يجازي، فما أعظمه من مُحسن برٍّ كريم رحيم.
العناصر
مناسبة باب (من حقق التوحيد دخل الجنة... ) لما قبله .
شرح ترجمة باب (من حقق التوحيد دخل الجنة... ) .
- معنى تحقيق التوحيد .
تفسير قول الله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله } الآية .
- مناسبة قول الله -تعالى-: { إن إبراهيم كان أمة.. } للباب .
- معنى أمة في قوله -تعالى-: { كان أمَّة } ، والدليل عليه .
- معنى القنوت في قوله: { قانتاً لله } .
- بيان ما يتضمنه وصف إبراهيم بأنه أمَّة وقانت لله .
- معنى { حنيفاً } ونظائره في القرآن .
- معنى قوله تعالى: { ولم يك من المشركين } .
- تفسير المصنف وبعض السلف للآية وهي قوله -تعالى-: { إن إبراهيم كان أمة.. } الآية .
- فائدة: أبو إبراهيم عليه السلام اسمه آزر .
- فائدة: أبو نوح عليه السلام من المؤمنين .
تفسير قول الله تعالى: { والذين هم بربهم لا يشركون } الآية .
- مناسبة قوله -تعالى-: { والذين هم بربهم لا يشركون } للباب .
- معنى قوله -تعالى-: { والذين هم بربهم لا يشركون } .
شرح حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه .
- تخريج حديث بريدة بن الحصيب .
- ترجمة حصين بن عبد الرحمن .
- ترجمة سعيد بن جبير .
- معنى (انقض) في قوله: (الكوكب الذي انقض) .
- معنى (البارحة) في قوله: (انقض البارحة) .
- معنى (أما) في قوله: (أما إني لم أكن في صلاة) .
- لم قال حصين (أما إني لم أكن في صلاة) ؟ وما يستفاد منه .
- المراد باللدغة في قوله: (ولكني لدغت) .
- معنى (ارتقيت) .
- ما يستفاد من قوله: (فما حملك على ذلك) .
- معنى قوله: (حديث حدثناه الشعبي) .
- ترجمة الشعبي .
- ترجمة بريدة -رضي الله عنه- .
- الروايات في قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة) ومعنى العين والحمة .
- معنى (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع)، وما يستفاد منه .
شرح حديث ابن عباس رضي الله عنه .
- ترجمة ابن عباس -رضي الله عنه- .
- رواية الترمذي في قوله: " عرضت علي الأمم" ، وهل يستفاد منها تعدد الإسراء ؟
- الفائدة من عرض الأمم عليه -صلى الله عليه وسلم- .
- المراد بالرهط في قوله: "ومعه الرهط" .
- في قوله: "والنبي ومعه الرجل.. " الرد على من احتج بالكثرة .
- الأنبياء متفاوتون في عدد الأتباع .
- المراد بالسواد في قوله: " إذ رفع لي سواد عظيم " .
- معنى قوله: " فظننت أنهم أمتي " ، وجواب استشكال كون النبي صلى الله عيه وسلم لم يعرف أمته .
- فضل موسى -عليه السلام- .
- المراد بالمعية في قوله: " ومعهم سبعون ألفاً "، وبيان سبب حصولهم على هذا الفضل .
- الروايات في استزادة النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه على السبعين ألفا .
- معنى قوله: (ثم نهض فخاض الناسُ)، وما يستفاد منه .
- المراد بقوله: ( الذين صحبوا رسول الله ) .
- معنى قوله: (الذين ولدوا في الإسلام.. ) .
- رأي شيخ الإسلام في صحة زيادة لفظة " ولا يرقون " ، وسبب إهمال المصنف لها .
- توجيه زيادة " ولا يرقون" عند من يصححها، والرد عليه .
- مراتب الرقية وحكم كل مرتبة .
الكلام على الكي .
- معنى قوله: " يكتوون" .
- بيان حكم الكيِّ .
- أنواع أحاديث الكي والجمع بينها .
- طلب الكي ممن أعدته الحكومة لذلك هل فيه تذلل؟
- معنى " ولا يتطيرون" .
التوكل ومباشرة الأسباب .
- معنى التوكل في قوله: " وعلى ربهم يتوكلون" .
- حكم مباشرة الأسباب .
- بيان أن فعل الأسباب لا ينافي تحقيق التوحيد .
- حكم التداوي .
- الخلاف في حكم التداوي .
- صفات السبعين ألفا هل هي صفات كمال؟
- ترجمة عكاشة بن محصن .
- ما يستفاد من قوله: (ادع الله أن يجعلني منهم) .
- نوع الوحي في قوله صلى الله عليه وسلم: " أنت منهم " .
من هو الرجل المبهم في قوله: ( ثم قام إليه رجل آخر) .
- معنى " سبقك" في قوله صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة" .
- لم عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول: (لستَ منهم) إلى قوله: "سبقك بها عكاشة" ؟
- رأي القرطبي في سبب عدم إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لمن طلب ما طلبه عكاشة .
- جواب القرطبي على من قال: إنه كان منافقاً .
بيان أهمية العلم وطريقة التعلم .
مسائل باب (من حقق التوحيد.. ) إلخ .