الدروس
course cover
باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
20 Oct 2008
20 Oct 2008

6892

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الأول

باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
20 Oct 2008
20 Oct 2008

20 Oct 2008

6892

0

0


0

0

0

0

0

باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ التَّوْحِيدِ وَمَا يُكَفِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ

- وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُّهتَدُونَ}[الأَنْعَام:82].
- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ" أَخْرَجَاهُ. - وَلَهُمَا فِي حَدِيثِ عِتْبَانَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ" .
- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. قَالَ: كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا ؟ قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
- وَلِلتِّرْمِذِيِّ - وَحَسَّنَهُ - عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأََتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: سَعَةُ فَضْلِ اللهِ.
الثَّانِيَةُ: كَثْرَةُ ثَوَابِ التَّوْحِيدِ عِنْدَ اللهِ.
الثَّالِثَةُ: تَكْفِيرُهُ مَعَ ذَلِكَ لِلذُّنُوبِ.
الرَّابِعَةُ: تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ.
الْخَامِسَةُ: تَأَمُّلُ الْخَمْسِ اللْوَاتِي فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ.
السَّادِسَةُ: أَنَّكَ إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عِتْبَانَ وَمَا بَعْدَهُ تَبَيَّنَ لَكَ مَعْنَى قَوْلِ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَتَبَيَّنَ لَكَ خَطَأُ الْمَغْرُورِينَ.
السَّابِعَةُ: التَّنْبِيهُ لِلشَّرْطِ الَّذِي فِي حَدِيثِ عِتْبَانَ.
الثَّامِنَةُ: كَوْنُ الأَنْبِيَاءِ يَحْتَاجُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
التَّاسِعَةُ: التَّنْبِيهُ لِرُجْحَانِهَا بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَقُولُهَا يَخِفُّ مِيزَانُهُ.
الْعَاشِرَةُ: النَّصُّ عَلَى أَنَّ الأَرَضِينَ سَبْعٌ كَالسَّمَاوَاتِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ لَهُنَّ عُمَّارًا.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ خِلاَفًا لِلأَشْعَرِيَّةِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ حَدِيثَ أَنَسٍ عَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ عِتْبَانَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ" أَنَّهُ تَرْكُ الشِّرْكِ لَيْسَ قَوْلَهَا بِاللِّسَانِ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَأَمَّلِ الْجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَبْدَيِ اللهِ وَرَسُولَيْهِ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ اخْتِصَاصِ عِيسَى بِكَوْنِهِ كَلِمَةَ اللهِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ كَوْنِهِ رُوحًا مِنْهُ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ فَضْلِ الإِيمَانِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ قَوْلِهِ: "عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ".
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ أَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ كِفَّتَانِ.
الْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ ذِكْرِ الْوَجْهِ.

هيئة الإشراف

#2

25 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1) (بابُ) خبرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تقديرُهُ: هذا بابُ بيانِ فضلِ التَّوحيدِ، وبيانِ ما يُكَفِّرُ مِن الذُّنُوبِ ، و(ما) يَجُوزُ أن تَكُونَ مَوصُولَةً، أي: وبيانِ ما يُكَفِّرُهُ من الذُّنُوبِ ، ويَجُوزُ أن تكونَ مَصْدَرِيَّةً، أي: وبيانِ تكفيرِهِ الذُّنوبَ، وهذا أَرْجَحُ؛ لأنَّ الأوَّلَ يُوهِمُ أنَّ ثَمَّ ذُنُوبًا لا يُكَفِّرُهَا التَّوحيدُ، ولَيْسَ بمُرَادٍ.
ولَمَّا ذَكَرَ معنَى التَّوحِيدِ، نَاسَبَ ذِكْرَ فضلِهِ وِتكْفِيرِهِ للذُّنُوبِ؛ تَرْغِيبًا فيه وتَحْذِيرًا من الضِّدِّ.
(2) قالَ بعضُ الحَنَفِيَّةِ في تفسيرِهِ: هذا ابْتِدَاءٌ، قالَ ابنُ زَيْدٍ وابنُ إِسْحَاقَ: هذا مِن اللهِ عَلَى فَصْلِ القَضَاءِ بينَ إبراهيمَ وقومِهِ ، قالَ الزَّجَّاجُ: سألَ إبراهيمُ وأجابَ بنفسِهِ ، وعن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: لَمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ قالُوا: فَأيُّنا لم يَظْلِمْ؟ قالَ عليه السَّلامُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وكذا عن أبي بَكْرٍ الصِّديِّقِ أنَّهُ فَسَّرَهُ بالشِّرْكِ، فيكونُ الأمنُ من تأييدِ العَذَابِ ، وعن عُمَرَ أنَّهُ فسَّرَهُ بالذَّنْبِ، فيكونُ الأمنُ من كلِّ عَذَابٍ ، وقالَ الحَسَنُ والكَلْبِيُّ: {أولئكَ لهمُ الأمْنُ} في الآخِرَةِ {وهم مُهْتَدونَ} في الدُّنيَا. انتهَى.
وإنَّما ذَكَرْتُهُ؛ لأنَّ فيه شَاهِدًا لِكَلامِ شيخِ الإسلامِ الآتي في الحديثِ الَّذي ذَكَرَهُ، حديثٌ صَحِيحٌ في الصَّحيحِ والمُسْنَدِ وغيرِهِما، وفي لفظٍ لأحمدَ عن عبدِ اللهِ قالَ: لَمَّا نزلَتْ: {الَّذينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}[الأنعام: 82] شَقَّ ذلك عَلَى أَصْحَابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالُوا: يا رسولَ اللهِ، فأيُّناَ لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قالَ: "إنَّهُ ليسَ الَّذي تَعْنُونَ، ألمْ تَسْمَعُوا ما قالَ العبدُ الصَّالحُ: {يَا بُنِيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] إنَّما هو الشِّركُ".
قالَ شيخُ الإسلامِ: والذي شَقَّ عليهم ظَنُّوا أنَّ الظُّلمَ المشروطَ هو ظُلْمُ العَبْدِ لنفْسِهِ، وأنَّهُ لا أَمْنَ ولا اهْتِدَاءَ إلا لِمَنْ لم يَظْلِمْ نَفْسَهُ، فبيَّنَ لهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دَلَّهم عَلَى أنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ في كِتابِ اللهِ، وحينَئِذٍ فلا يَحْصُلُ الأَمْنُ والاهْتِدَاءُ إلا لِمَنْ لم يَلْبِسْ إيمانَهُ بهِذا الظُّلْمِ، فمَن لم يَلْبِسْ إيمانَهُ بهِ كانَ من أَهْلِ الأَمْنِ والاهْتِدَاءِ، كمَا كانَ من أهلِ الاصْطِفاءِ في قولِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}[فاطر:32] وهذا لا يَنْفِي أن يُؤَاخَذَ أحدُهُم بظُلْمِهِ لنفسِهِ بذَنْبٍ إذا لم يَتُبْ، كمَا قالَ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزَّلْزَلَة:7،8].
وقد سألَ أبو بكرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقالَ: يا رسولَ اللهِ، وأيُّنَا لم يَعْمَلْ سُوءًا؟! فقالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَنْصَبُ، أَلَسْتَ تَحْزُنُ، أَلَيْسَ تُصِيبكَ اللأَّْوَاءُ، فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بهِ" ؛ فبيَّنَ أنَّ المؤمِنَ الَّذي إذا مَاتَ دَخَلَ الجنَّةَ، قد يُجزَى بسَيِّئاتِهِ في الدُّنيا بالمصائِبِ الَّتي تُصِيبُهُ.
قالَ: فمَن سَلِمَ من أَجْنَاسِ الظُّلْمِ الثلاثةِ، يعني: الظُّلْمَ الَّذي هو الشِّركُ، وظلمَ العِبَادِ، وظلمَهُ لنفسِهِ بما دونَ الشِّركِ، كانَ له الأمنُ التَّامُّ والاهْتِدَاءُ التَّامُّ، ومَن لَمْ يَسْلَمْ مِن ظُلْمِ نَفْسِهِ كانَ له الأمنُ والاهْتِدَاءُ مُطْلَقًا، بمعنى أنَّهُ لابُدَّ أن يَدْخُلَ الجنَّةَ، كمَا وَعَدَ بذلك في الآيةِ الأُخْرَى، وقد هَداهُ اللهُ إلى الصِّراطِ المستقيمِ الَّذي تكونُ عاقِبَتُهُ فيه إلى الجنَّةِ، ويَحْصُلُ له مِن نَقْصِ الأمنِ والاهتداءِ، بحسَبِ ما نَقَصَ من إيمانِهِ بظُلْمِهِ لنفسِهِ.
ليسَ مُرَادُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولِهِ: "إنَّما هو الشِّركُ" أنَّ مَن لم يُشْرِكِ الشِّركَ الأكبرَ يَكُنْ له الأَمْنُ التَّامُّ والاهْتِدَاءُ؛ فإنَّ أحادِيثَهُ الكثيرةَ معَ نُصُوصِ القرآنِ تُبَيِّنُ أنَّ أهلَ الكَبائِرِ مُعَرَّضُون للخَوْفِ، لم يَحْصُلْ لهم الأَمْنُ التَّامُّ والاهْتِدَاءُ التَّامُّ الَّذي يكونونَ بهِ مُهْتَدِينَ إلى الصِّراطِ المستقيمِ، صِرَاطِ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عليهِم مِن غيرِ عذابٍ يَحْصُلُ لهم، بل معهم أصلُ الاهْتِدَاءِ إلى هذا الصِّراطِ ومعهم أصلُ نِعْمَةِ اللهِ عليهم، ولا بدَّ لهم مِن دُخُولِ الجنَّةِ.
وقولُهُ: "إنَّما هو الشِّركُ" إن أرادَ بهِ الأَكْبَرَ: فمقصُودُهُ: أنَّ مَن لَمْ يَكُنْ مِن أهلِهِ، فهو آمِنٌ ممَّا وَعَدَ بهِ المُشْرِكينَ من عَذابِ الدُّنيا والآخِرَةِ، وهو مُهْتَدٍ إلى ذلك ، وإن كانَ مرادُهُ جِنْسَ الشِّركِ فيُقالُ: ظُلْمُ العَبْدِ نفسَهُ، كبُخْلِهِ - لحبِّ المالِ - ببعضِ الواجِبِ هو شِرْكٌ أصْغَرُ، وحُبِّهِ ما يُبْغِضُ اللهَ حتىَّ يُقَدِّمَ هواه عَلَى محبَّةِ اللهِ شِرْكٌ أصْغَرُ، ونحوَ ذلك، فهذا فاتَه من الأَمْنِ والاهْتِدَاءِ بحسَبِهِ، ولهذا كانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذُّنوبَ في هذا الظُّلْمِ بهِذا الاعْتِبَارِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وبهِ تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ الآيةِ للتَّرْجَمَةِ، فدَلَّتْ عَلَى فَضْلِ التَّوحيدِ وتكْفِيرِهِ للذُّنُوبِ؛ لأنَّ مَنْ أَتَى بهِ تامًّا فله الأمنُ التَّامُّ والاهْتِدَاءُ التَّامُّ، ودَخَلَ الجنَّةَ بلا عَذَابٍ، ومَن أَتَى بهِ ناقِصًا بالذُّنوبِ الَّتي لم يَتُبْ منها، فإن كانَت صَغَائِرَ كُفِّرَتْ باجْتِنَابِ الكبائِرِ لآيةِ النِّساءِ والنَّجْمِ ، وإن كانَت كبائِرَ فهو في حُكْمِ المَشِيئَةِ، إن شاءَ اللهُ غَفَرَ له وإن شاءَ عذَّبَهُ، ومآلُه إلى الجنَّةِ، واللهُ أعلمُ.
(3) عُبَادَةُ: هو ابنُ الصَّامِتِ بنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ أبو الولِيدِ، أحدُ النُّقَبَاءِ، بَدْرِيٌّ مَشْهُورٌ مِن جِلَّةِ الصَّحَابَةِ، مَاتَ بالرَّمْلَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وثلاثينَ وله اثنتانِ وسبعونَ سنةً وقيلَ: عاشَ إلى خِلافَةِ مُعَاوِيَةَ.
قولُهُ: "مَنْ شَهِدَ أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ" أي: مَن تَكَلَّمَ بهِذه الكَلِمَةِ عَارِفًا لمعناهَا، عامِلاً بمُقْتَضَاها باطِنًا وظَاهِرًا، كمَا دَلَّ عليهِ قولُهُ: {فَاعْلَمْ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ}[مُحَمَّد:19] وقولُهُ: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزُّخْرُف:86] أمَّا النُّطقُ بِهَا من غيرِ مَعْرِفَةٍ لمعناها ولا عَمَلٍ بمُقْتَضَاهَا، فإنَّ ذلكَ غيرُ نافعٍ بالإِجْمَاعِ ، وفي الحديثِ ما يَدُلُّ عَلَى هذا، وهو قولُهُ: "مَنْ شَهِدَ" إذ كيفَ يَشْهَدُ وهو لا يَعْلَمُ، ومُجَرَّدُ النُّطْقِ بشَيءٍ لا يُسَمَّى شَهَادَةً بهِ.
قالَ بعضُهُم: أداةُ الحَصْرِ لِقَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الموصوفِ قَصْرَ إفرادٍ؛ لأنَّ معناهُ: الألوهِيَّةُ في اللهِ الواحدِ في مُقَابَلَةِ مَن يَزْعُمُ اشْتِرَاكَ غيرِهِ معه، وليسَ قَصْرَ قَلْبٍ؛ لأنَّ أحدًا من الكُفَّارِ لم يَنْفِهَا عن اللهِ، وإنَّما أشْرَكَ مَعهُ غيرَهُ.
وقالَ النَّوَوِيُّ: هذا حديثٌ عظيمٌ جليلُ المَوْقِعِ، وهو أجمعُ أو مِن أجمعِ الأحاديثِ المُشْتَمِلَةِ عَلَى العقائِدِ؛ فإنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمعَ فيه ما يُخْرِجُ عن مِلَلِ الكُفْرِ عَلَى اخْتِلاَفِ عقائِدِهِم وتباعُدِهَا، فاقتصرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأحْرُفِ عَلَى ما يُبَايِنُ بهِ جَمِيعَهُم. انْتَهَى.
ومعنَى (لا إِلهَ إلا اللهُ) أي: لا مَعْبُودَ بحَقٍّ إلا إلهٌ واحدٌ، وهو اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، كمَا قالَ تعالىَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 26] مع قولِهِ تعالىَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ}[النحل:36] ، فصَحَّ أنَّ معنَى الإلهِ هو المَعْبُودُ،ولهذا لَمَّا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكفَّارِ قُرَيْشٍ: "قُولوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" قالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:5] وقالَ قومُ هودٍ: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}[الأعْرَاف:70] وهو إنَّما دَعَاهُمْ إلى (لا إلهَ إِلا اللهُ) فهذا هو معنَى (لا إلهَ إلا اللهُ)، وهو عِبادَةُ اللهِ وتَرْكُ عِبادَةِ ما سِوَاه، وهو الكُفْرُ بالطَّاغُوتِ، وإيمانٌ باللهِ.
فتَضَمَّنَتْ هذه الكلِمَةُ العظيمَةُ أنَّ ما سِوَى اللهِ ليسَ بإلهٍ، وأنَّ إلَهِيَّةَ ما سِوَاه أَبْطَلُ الباطِلِ، وإثباتَها أظلَمُ الظُّلْمِ، فلا يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ سِوَاهُ، كمَا لا تَصْلُحُ الإلَهِيَّةُ لغيرِهِ، فتَضَمَّنتْ نَفْيَ الإلَهِيَّةِ عمَّا سِوَاهُ، وإثباتَهَا له وحدَهُ لا شريكَ له، وذلك يَسْتَلْزِمُ الأمرَ باتِّخَاذِهِ إلهًا وَحْدَهُ، والنَّهيَ عن اتِّخَاذِ غيرِهِ معَهُ إلَهًا وهذا يَفْهَمُهُ المُخَاطَبُ من هذا النَّفيِ والإِثْبَاتِ، كمَا إذا رأيتَ رَجُلاً يَسْتَفْتِي أو يَسْتَشْهِدُ مَن ليسَ أهلاً لذلك، ويَدَعُ مَن هو أهلاً له، فتقولُ: هذا ليسَ بِمُفْتٍ ولا شاهِدٍ، المُفتي فلانٌ، والشَّاهِدُ فلانٌ، فإنَّ هذا أمرٌ مِنه ونَهْيٌ.
وقد دَخَلَ في الإلَهِيَّةِ جميعُ أنواعِ العِبَادَةِ الصَّادِرَةِ عن تَأَلُّهِ القَلْبِ للهِ بالحُبِّ والخُضُوعِ والانْقِيادِ له وحدَهُ لا شريكَ له، فيَجِبُ إفرادُ اللهِ تعالى بِهَا، كالدُّعَاءِ والخَوْفِ والمَحَبَّةِ، والتَّوَكُّلِ والإِنَابَةِ، والتَّوبَةِ، والذَّبْحِ، والنَّذْرِ، والسُّجُودِ، وجميعِ أنواعِ العِبَادَةِ فيَجِبُ صَرْفُ جميعِ ذلك للهِ وحدَهُ لا شريكَ له، فمَن صَرَفَ شيئًا ممَّا لا يَصْلُحُ إلا للهِ مِن العِبَادَاتِ لغيرِ اللهِ، فهو مُشْرِكٌ ولو نَطَقَ بـ (لا إلهَ إلا اللهُ) إذْ لم يَعْمَلْ بما تَقْتَضِيهِ من التَّوحِيدِ والإخلاصِ.
ذِكْرُ نُصُوصِ العُلماءِ في معنَى الإله:
- قالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ: اللهُ ذو الأُلُوهِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أجمعين، رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ وابنُ أبي حَاتِمٍ.
- وقالَ الوَزِيرُ أبو المُظَفَّرِ في الإفصاحِ : قولُهُ: (شهادةُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ) يَقْتَضِي أن يكونَ الشَّاهدُ عالِمًا بأنْ: (لا إلهَ إلا اللهُ) كمَا قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {فَاعْلَمْ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ}[مُحَمَّد:19] ويَنْبَغِي أن يكونَ النَّاطِقُ بِهَا شاهدًا فيها، فقدْ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ ما أَوْضَحَ بهِ أنَّ الشَّاهدَ بالحقِّ إذا لمْ يكُنْ عالِمًا بما شَهِدَ بهِ، فإنَّهُ غيرُ بالِغٍ من الصِّدْقِ بهِ معَ مَن شَهِدَ مِن ذلكَ بما يعلَمُه في قولِهِ تعالَى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون}[الزُّخْرُف:86] قالَ: واسمُ اللهِ تعالى مُرْتَفِعٌ بَعْدَ {إلاَّ} من حيثُ إنَّهُ الواجِبُ له الإلَهِيَّةُ؛ فلا يَسْتَحِقُّهَا غيرُهُ سُبْحَانَهُ ، قالَ: واقتضَى الإقْرَارُ بِهَا أن تَعْلَمَ أنَّ كلَّ ما فيهِ أمَارَةٌ للحَدَثِ؛ فإنَّهُ لا يكونُ إلهًا، فإذا قلْتَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقدِ اشْتَمَلَ نطقُكَ هذا عَلَى أنَّ ما سِوَى اللهِ ليسَ بإلهٍ، فيلزمُكَ إفرادُهُ سبحانَهُ بذلك وحدَهُ.
قالَ: وجُمْلَةُ الفائِدَةِ في ذلِكَ أن تَعْلَمَ أنَّ هذه الكَلِمَةَ هي مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الكُفْرِ بالطَّاغوتِ والإيمانِ باللهِ؛ فإنَّكَ لَمَّا نَفَيْتَ الإِلَهِيَّةَ وأَثْبَتَّ الإيجَابَ للهِ سبحانَهُ، كنْتَ مِمَّن كَفَرَ بالطَّاغُوتِ وآمَنَ باللهِ.
- وقالَ أبو عَبْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ في التَّفْسِيرِ: {لا إلهَ إِلاَّ هو} أي: لا مَعْبُودَ إلا هو.
- وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الإلَهُ من أسماءِ الأجْنَاسِ - كالرَّجُلِ والفَرَسِ - اسمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ بحقٍّ أو بباطِلٍ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى المَعْبُودِ بحقٍّ.
- وقالَ شيخُ الإسلامِ: الإلهُ هو المعبودُ المُطَاعُ.
وقالَ أيضًا: في (لا إلهَ إلا اللهُ) إثباتُ انفرادِهِ بالإلهيَّةِ، والإلهيَّةُ تَتَضَمَّنُ كمَالَ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ ورَحْمَتِهِ وحِكْمَتِهِ، ففيها إثباتُ إحسانِهِ إلى العِبَادِ، فإنَّ الإلهَ هو المأْلُوهُ، والمألُوهُ هو الَّذي يَسْتَحِقُّ أن يُعْبَدَ، وكونُهُ يَسْتَحِقُّ أن يُعْبَدَ هو بما اتَّصفَ بهِ مِن الصفاتِ التيَّ تَسْتَلْزِمُ أن يكونَ هو المَحْبُوبَ غايةَ الحُبِّ، المَخْضُوعَ له غَايَةَ الخُضُوعِ.
- وقالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: الإلهُ هو الَّذي تُؤَلِّهُهُ القُلُوبُ مَحَبَّةً وإِجْلالاً وإِنَابَةً وإِكْرَامًا وتَعْظِيمًا وذُلاًّ وخُضُوعًا وخَوْفًا ورَجَاءً وتَوَكُّلاً.
- وقالَ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: الإلهُ هو الَّذي يُطَاعُ فلا يُعْصَى؛ هَيْبَةً له وإِجْلاَلاً ومَحَبَّةً وخَوْفًا ورجاءً وتَوَكُّلاً عليهِ وسُؤَالاً منه ودُعَاءً له، ولا يَصْلُحُ ذلك كُلُّه إلا للهِ عزَّ وجلَّ، فمَن أَشْرَكَ مَخْلُوقًا في شَيءٍ من هذه الأمورِ الَّتي هي من خَصَائِصِ الإِلَهِيَّةِ كانَ ذلك قَدْحًا في إِخْلاَصِهِ في قَوْلِ: لا إلهَ إلا اللهُ، ونَقْصًا في تَوْحِيدِهِ، وكانَ فيهِ من عُبُودِيَّةِ المَخْلُوقِ بحَسَبِ ما فيهِ من ذلِكَ، وهذا كُلُّه من فُرُوعِ الشِّركِ.
- وقالَ البِقَاعِيُّ: لا إِلهَ إلا اللهُ، أي انْتَفَى انْتِفَاءً عَظِيمًا أن يكونَ مَعْبودٌ بحقٍّ غيرَ المَلِكِ الأَعْظَمِ؛ فإنَّ هذا العِلْمَ هو أعْظَمُ االذِّكرى المُنْجِيَةِ من أهْوَالِ السَّاعَةِ، وإنَّما يكونُ عِلْمًا إذا كانَ نافِعًا، وإنَّما يكونُ نافِعًا إذا كانَ الإذْعَانُ والعَمَلُ بما تَقْتَضِيهِ، وإلا فهو جَهْلٌ صِرْفٌ.
- وقالَ الطِّيبِيُّ: الإلهُ فِعَالٌ بمعنى مَفْعولٍ، كالكتابِ بمعنى المكتوبِ، مِن أَلِهَ إِلَهَةً، أي: عَبَدَ عِبَادَةً.
وهذا كثيرٌ جدًّا في كلامِ العُلَمَاءِ،وهو إِجْمَاعٌ منهم أنَّ الإلهَ هو المعبودُ، خِلاَفًا لِما يَعْتَقِدُهُ عُبَّادُ القُبُورِ وأشْبَاهُهُم في مَعْنَى الإلَهِ أنَّهُ الخالِقُ أو القادِرُ عَلَى الاخْتِرَاعِ أو نحوَ هذه العِبَارَاتِ، ويَظُنُّونَ أنَّهُم إذا قالُوهَا بهذا المعنى، فقد أتَوْا من التَّوحِيدِ بالغَايَةِ القُصْوَى، ولو فعلُوا ما فَعَلُوا من عِبَادَةِ غيرِ اللهِ، كدُعَاءِ الأَمْوَاتِ، والاسْتِغَاثَةِ بهِم في الكُرُبَاتِ، وسُؤَالِهِم قَضَاءَ الحاجَاتِ، والنَّذْرِ لهم في المُلِمَّاتِ، وسؤالِهِم الشَّفَاعَةَ عندَ ربِّ الأرْضِ والسَّمَاواتِ، إلى غيرِ ذلك مِن أنواعِ العباداتِ، وما شَعَرُوا أنَّ إخوانَهم من كفَّارِ العَرَبِ يُشَارِكُونَهُمْ في هذا الإِقْرَارِ، ويَعْرِفونَ أنَّ اللهَ هو الخالِقُ القادِرُ عَلَى الاخْتِرَاعِ، ويَعْبُدُونَهُ بأنْوَاعٍ من العِبَادَاتِ، فَلْيَهْنِ أبو جَهْلٍ وأبو لَهَبٍ ومَن تَبِعَهُما بحُكْمِ عُبَّادِ القُبُورِ، وَلْيَهْنِ أيضًا إِخوانُهُم عُبَّادُ وَدٍّ وسُوَاعٍ وَيغُوثَ ويَعُوقَ ونسرٍ؛ إذ جَعَلَ هؤلاءِ دينَهُم هو الإسلامَ المبرورَ.
ولو كانَ معناها ما زَعَمَهُ هؤلاء الجُهَّالُ لم يَكُنْ بينَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينَهم نِزَاعٌ، بل كانُوا يُبَادِرونَ إلى إِجَابَتِهِ، ويُلَبُّونَ دَعْوَتَهُ، إذ يقولُ لهم: قولُوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، بمعنى: أنَّهُ لا قادِرَ عَلَى الاخْتِرَاعِ إلا اللهُ، فكانوا يقولونَ: سَمِعْنَا وأطَعْنَا، قالَ اللهُ تعالىَ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ}[الزُّخْرُف:87] {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:9] {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ}[يُونُس:31] الآيةَ، إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ.
لكنَّ القومَ أهلُ اللسانِ العربيِّ، فعلِمُوا أنَّهَا تَهْدِمُ عليهم دُعَاءَ الأَمْوَاتِ والأصنامِ من الأَسَاسِ، وتَكُبُّ بناءَ سُؤَالِ الشَّفَاعَةِ من غيرِ اللهِ، وصَرْفَ الإلهيَّةِ لغيرِهِ لأُمِّ الرَّأسِ، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزُّمَر:3] {هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنَا عِندَ اللهِ}[يونس:18] {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص: 5] فتبًّا لِمَنْ كانَ أبو جَهْلٍ ورَأْسُ الكُفْرِ من قُرَيْشٍ وغيرُهُم أَعْلَمَ منه بـ: (لا إلهَ إلا اللهُ) قالَ تعالىَ: {إنَّهُمْ كانُواْ إِذَا قِيلَ لهمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلهتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}[الصَّافَّات:35،36] فَعَرَفُوا أنَّهَا تَقْتَضِي تَرْكَ عِبَادَةِ ما سِوَى اللهِ، وإِفْرَادَ اللهِ بالعِبَادَةِ، وهكذا يقولُ عُبَّادُ القُبُورِ إذا طَلَبْتَ منهم إخلاصَ الدَّعوةِ والعِبَادَةِ للهِ وحدَهُ: أَنَتْرُكُ سادَتَنَا وشُفَعَاءنَا في قَضَاءِ حوائِجِنَا! فُيقالُ لهم: نَعَمْ وهذا التَّرْكُ والإخلاصُ هو الحقُّ، كمَا قالَ تعالىَ: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}[الصَّافَّات:37]
فـ: (لا إلهَ إلا اللهُ) اشْتَمَلَتْ عَلَى نفيٍ وإثباتٍ ؛ فنفَتِ الإلهيَّةَ عن كُلِّ ما سِوَى اللهِ تعالىَ، فكلُّ ما سِوَاه من الملائِكَةِ والأنبياءِ فضلاً عن غيرِهِم، ليسَ بإلهٍ، ولا له من العِبَادَةِ شيءٌ ، وأَثبتَت الإلهيَّةَ للهِ وحدَهُ،بمعنى أنَّ العَبْدَ لا يأْلَهُ غيرَهُ، أي: لا يَقْصِدُهُ بشيءٍ من التَّأَلُّهِ وهو تَعَلُّقُ القَلْبِ الَّذي يُوجِبُ قَصْدَهُ بشيءٍ من أنْوَاعِ العِبَادَةِ، كالدُّعاءِ والذَّبْحِ والنَّذْرِ وغيرِ ذلك.
وبالجُمْلَةِ فلا يُؤَلَّهُ إلا اللهُ، أي: لا يُعْبَدُ إلا هو، فمَن قالَ هذه الكَلِمَةَ عَارِفًا لمعناها، عامِلاً بمُقْتَضَاها، مِن نَفْيِ الشِّركِ وإثباتِ الوَحْدَانِيَّةِ للهِ مع الاعْتِقَادِ الجازمِ لِما تَضَمَّنَتْهُ مِن ذلك والعَمَلِ بهِ، فهذا هو المُسْلِمُ حقًّا، فإنْ عَمِلَ بهِ ظَاهِرًا من غيرِ اعْتِقَادٍ، فهو المُنَافِقُ، وإن عَمِلَ بخلافِهَا من الشِّرْكِ، فهو الكافِرُ ولو قالَها، ألا تَرَى أنَّ المُنافقينَ يَعْمَلُون بها ظَاهِرًا وهم في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِن النَّارِ، واليهودُ يقولُونها وهم عَلَى ما هم عليهِ من الشِّرْكِ والكُفْرِ، فلم تَنْفَعْهُم ، وكذلِكَ مَن ارْتَدَّ عن الإسلامِ بإِنْكارِ شيءٍ من لوازِمِهَا وحقوقِهَا، فإِنَّهَا لا تَنْفَعُهُ،ولو قالَها مِائَةَ ألْفٍ ، فكذلِكَ منِ يقولُها ممَّن يَصْرِفُ أنواعَ العِبَادَةِ لغيرِ اللهِ، كعُبَّادِ القُبُورِ والأصْنَامِ فلا تَنْفَعُهُم، ولا يَدْخُلُونَ في الحديثِ الَّذي جاءَ في فضلِها، وما أَشْبَهَه مِن الأحاديثِ.
وقد بيَّنَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقولِهِ: "وحدَهُ لا شريكَ لَهُ" تَنْبِيهًا عَلَى أنَّ الإنسانَ قد يقولُها وهو مُشْرِكٌ، كاليهودِ والمُنافقينَ وعُبَّادِ القُبُورِ، لَمَّا رَأَوْا أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قومَهُ إلى قَوْلِ: (لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ)، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما دعاهُم إلى النُّطْقِ بِهَا فَقَطْ، وهذا جَهْلٌ عَظِيمٌ، وهو عليهِ السَّلامُ إنَّما دَعَاهُمْ إليها ليقولُوها ويَعْمَلُوا بمعناها ويَتْرُكوا عِبَادَةَ غيرِ اللهِ، ولهذا قالوا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصَّافَّات:36] وقالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}[ص:5] فلهذا أَبَوْا عن النُّطْقِ بِهَا، وإلا فلَو قالُوهَا وبَقُوا عَلَى عِبَادَةِ اللاَّتِ، والعُزَّى، ومَنَاةَ،لم يكونوا مُسْلِمِينَ، ولقَاتَلَهم عليهِ السَّلامُ حَتَّى يَخْلَعُوا الأَنْدَادَ ويَتْرُكُوا عِبَادَتَهَا، ويَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لا شريكَ له، وهذا أمْرٌ مَعْلُومٌ بالاضْطِرَارِ من الكِتَابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ.
وأمَّا عُبَّادُ القُبُورِ فلم يَعْرِفُوا معنى هذهِ الكَلِمَةِ، ولا عَرَفُوا الإلَهِيَّةَ المَنْفِيَّةَ عن غيرِ اللهِ الثَّابتةَ له وحدَهُ لا شريكَ له، بل لم يَعْرِفُوا مِن معناهَا إلا ما أَقَرَّ بهِ المؤمنُ والكافرُ، واجْتَمَعَ عليه الخَلْقُ كُلُّهُم مِن أنَّ معناها: لا قَادِرَ عَلَى الاخْتِرَاعِ، أو أنَّ معناها: الإلهُ، هو الغنيُّ عَمَّا سِواه، الفقيرُ إليهِ كلُّ ما عَدَاه، ونحوَ ذلك، فهذا حَقٌّ، وهو من لَوَازِمِ الإِلَهِيَّةِ، ولكنْ ليسَ هو المُرَادَ بمعنى (لا إلهَ إلا اللهُ) فإنَّ هذا القَدْرَ قد عَرَفَهُ الكُفَّارُ، وأقَرُّوا بهِ، ولم يَدَّعُوا في آلِهَتِهِم شيئًا من ذلك، بل يُقِرُّونَ بفَقْرِهِم، وحاجَتِهِم إلى اللهِ، وإنَّما كانوا يَعْبُدونَهُم عَلَى معنى أنَّهُم وَسَائِطُ وشُفَعَاءُ عندَ اللهِ في تَحْصِيلِ المطالِبِ ونجاحِ المآرِبِ، وإلا فَقَدْ سلَّموا الخَلْقَ، والمُلْكَ، والرِّزْقَ، والإحياءَ، والإمَاتَةَ، والأمرَ كلَّه للهِ وحدَهُ لا شريكَ له، وقد عَرَفُوا معنى (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) وَأبَوا عن النُّطْقِ والعَمَلِ بها، فلم يَنْفَعْهُم تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ الشِّركِ في الإلَهِيَّةِ، كمَا قالَ تعالىَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}[يُوسُف:106]
وعُبَّادُ القُبُورِ نَطَقُوا بِهَا وجَهِلُوا معناها، وأبَوْا عن الإِتْيَانِ بهِ، فصارُوا كاليهودِ الَّذينَ يقولونَهَا ولا يَعْرِفُونَ معناها ولا يَعْمَلُونَ بهِ، فتَجِدُ أحدَهُم يقولُها وهو يُؤَلِّهُ غيرَ اللهِ بِالحُبِّ والإِجْلالِ والتَّعْظِيمِ والخَوْفِ والرَّجَاءِ والتَّوكُّلِ والدُّعاءِ عندَ الكَرْبِ، ويَقْصِدُهُ بأنواعِ العِبَادَةِ الصَّادرةِ عن تَأَلُّهِ قَلْبِهِ لغَيْرِ اللهِ ممَّا هو أعْظَمُ ممَّا يَفْعَلُه المُشْرِكُونَ الأوَّلونَ.
ولهذا إذا تَوَجَّهَتْ عَلَى أحدِهِم اليمينُ باللهِ تعالىَ أعطاكَ ما شِئْتَ من الأيمانِ صادِقًا أو كاذِبًا، ولو قيلَ له: احْلِفْ بحياةِ الشَّيخِ فُلانٍ أو بتُرْبَتِهِ ونحوِ ذلك، لم يَحْلِفْ إنْ كانَ كاذِبًا؛ وما ذاك إلا لأنَّ المَدْفُونَ في التُّرَابِ أعْظَمُ في قلْبِهِ من رَبِّ الأربابِ، وما كانَ الأوَّلُون هكذا، بل كانُوا إذا أرادُوا التَّشديدَ في اليمينِ حَلَفُوا باللهِ تعالَى، كمَا في قِصَّةِ القَسَامَةِ الّتي وَقَعَتْ في الجاهليَّةِ، وهي في صحيحِ البُخَارِيِّ.
كثيرٌ منهم وأكثرُهُم يَرَى أنَّ الاسْتِغَاثةَ بإِلَهِهِ الَّذي يَعْبُدُهُ عندَ قبرِهِ،أو غيرِه، أنفعُ وأنجَحُ من الاسْتِغَاثَةِ باللهِ في المَسْجِدِ، ويُصَرِّحُونَ بذلك، والحكاياتُ عنهمْ بذلك فيها طُولٌ، وهذا أمْرٌ ما بَلَغَ إليه شِرْكُ الأوَّلينَ، وكلُّهم إذا أصابَتْهُمُ الشَّدائِدُ أخْلَصُوا للمدفونينَ في التُّرابِ، وهتَفُوا بأسمائِهِم، ودَعَوْهُم ليكشِفُوا ضُرَّ المُصَابِ في البَرِّ والبَحْرِ والسَّفَرِ والإيابِ، وهذا أَمْرٌ ما فَعَلَه الأوَّلونَ، بل هم في هذه الحالِ يُخْلِصُونَ للكبيرِ المُتَعَالِ، فاقْرَأْ قولَهُ تعالىَ: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ}[العَنْكَبُوت:65] الآيةَ، وقولَهُ: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِربِّهِمْ يُشْرِكُونَ}[النحل:53،54]
وكثيرٌ منهم قد عَطَّلُوا المساجِدَ وعمَرُوا القُبُورَ والمشَاهِدَ، فإذا قَصَدَ أحدُهُمَ القبرَ الَّذي يُعَظِّمُهُ أخَذَ في دُعَاءِ صاحِبِهِ باكِيًا خاشِعًا ذليلاً خاضِعًا، بحيثُ لا يَحْصُلُ له ذلكَ في الجُمُعَةِ والجماعاتِ وقيامِ الليلِ وأدْبَارِ الصَّلواتِ، فيَسْأَلُونَهُمْ مَغْفِرةَ الذُّنُوبِ وتفريجَ الكُرُوبِ والنَّجاةَ من النَّارِ، وأن يَحُطُّوا عنهم الأوْزَارَ، فكيفَ يَظُنُّ عاقِلٌ فضلاً عن عالِمٍ أنَّ التَّلفُّظَ بـ: (لا إلهَ إلا اللهُ) مع هذه الأُمُورِ تَنْفَعُهم؟
وهم إنَّما قالُوهَا بأَلْسِنَتِهِمْ وخالفُوهَا باعتقادِهِم وأعمالِهِمْ، ولا ريبَ أنَّهُ لو قالهاَ أحدٌ من المشركينَ ونَطَقَ أيضًا بشَهَادَةِ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ولم يَعْرِفْ معنى الإلهِ ولا معنَى الرَّسولِ وصلَّى وصامَ وحجَّ ولا يدري ما ذلك إلا أنَّهُ رأى النَّاسَ يفعلونَهُ فتابعَهُم ولم يفعلْ شيئًا من الشِّرْكِ، فإنَّهُ لا يَشُكُّ أحدٌ في عَدَمِ إسلامِهِ، وقدْ أفتى بذلك فقهاءُ المغْرِبِ كلُّهم في أوَّلِ القَرْنِ الحاديَ عَشَرَ أو قبلِه في شَخْصٍ كانَ كذلِكَ كمَا ذكرَهُ صاحِبُ الدُّرِّ الثَّمينِ في شَرْحِ المُرْشِدِ المُعِينِ من المالِكِيَّةِ، ثُمَّ قالَ شارِحُهُ: وهذا الَّذي أَفْتَوْا بهِ جَلِيٌّ في غايةِ الجَلاءِ، لا يُمْكِنُ أن يَخْتَلِفَ فيه اثنانِ. انْتَهَى.
ولا رَيْبَ أنَّ عُبَّادَ القُبُورِ أَشَدُّ من هذا؛ لأنَّهُمُ اعْتَقَدُوا الإلَهِيَّةَ في أربابٍ مُتَفَرِّقِينَ.
فإنْ قيلَ: قد تبَيَّنَ معنى الإلهِ والإلهيَّةِ: فما الجوابُ عن قولِ مَن قالَ بأنَّ معنى الإلهِ القادِرُ عَلَى الاخْتِرَاعِ ونحوَ هذه العِبَارَةِ؟
قيلَ: الجوابُ من وجهيْنِ:
أحدِهما: أنَّ هذا قولٌ مبتدَعٌ لا يُعْرَفُ أحدٌ قالَه من العلماءِ ولا من أئِمَّةِ اللُّغةِ، وكلامُ العُلَمَاءِ وأئمَّةِ اللغةِ هو معنى ما ذَكَرْناَ كمَا تقدَّمَ فيكونُ هذا القولُ باطلاً.
الثَّاني: عَلَى تقديرِ تَسْلِيمِهِ، فهو تَفْسِيرٌ باللازِمِ للإلهِ الحقِّ؛ فإنَّ اللازمَ له أن يكونَ خالِقًا قادِرًا عَلَى الاخْتِرَاعِ، ومتى لم يَكُنْ كذلِكَ، فليسَ بإلهٍ حَقٍّ وإنْ سُمِّيَ إلهًا، وليسَ مرادُهُ أنَّ مَن عَرَفَ أنَّ الإلهَ هو القادِرُ عَلَى الاخْتِرَاعِ، فقد دَخَلَ في الإسلامِ وأتى بتحقيقِ المَرَامِ من مِفْتَاحِ دارِ السَّلامِ؛ فإنَّ هذا لا يقولُهُ أحدٌ؛ لأنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أنْ يكونَ كفَّارُ العَرَبِ مُسلمينَ، ولو قُدِّرَ أنَّ بعضَ المتأخِّرينَ أرادُوا ذلك فهو مُخْطِئٌ يُرَدُّ عليه بالدلائِلِ السمعيَّةِ والعقليَّةِ.
قولُهُ: "وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُه" أيْ: وشَهِدَ بذلك، وهو معطوفٌ عَلَى ما قبلَه، فتكونُ الشَّهَادَةُ واقِعَةً عَلَى هذه الجُمْلَةِ وما قبلَها وما بعدَهَا؛ فإنَّ العامِلَ في المَعْطُوفِ وما عُطِفَ عليه واحِدٌ.
ومعنَى (العبدِ) هنا يعني: المملوكَ العابِدَ، أي: مَمْلُوكٌ للهِ تعالى، وليسَ له من الرُّبُوبِيَّةِ والإلَهِيَّةِ شيءٌ، إنّما هو عَبْدٌ مُقَرَّبٌ عندَ اللهِ ورسولِهِ، أَرْسَلَهُ اللهُ كمَا قالَ تعالَى: {وَأنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إنَّما أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}[الجِن:19-23].
قيلَ: وقَدَّمَ العَبْدَ هنا عَلَى الرَّسُولِ تَرَقِّيًا من الأَدْنَى إلى الأَعلَى، وجَمَعَ بينَهُمَا لِدَفْعِ الإِفْرَاطِ والتَّفريطِ الَّذي وَقَعَ في شأنِ عِيسَى عليهِ السَّلامُ، وقد أَكَّدَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المعنى بقولِهِ: "لاَ تُطْرُونِي كمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابنَ مَرْيمَ، إنَّما أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه" رواهُ البُخَارِيُّ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ.
وذلك يَتَضَمَّنُ تَصْدِيقَهُ فيما أخْبَرَ، وطاعتَهُ فيما أَمَرَ، والانْتِهَاءَ عَمَّا عنه زَجَرَ، فلا يكونُ كامِلَ الشَّهَادَةِ له بالرِّسالةِ مَن تَرَكَ أَمْرَهُ وأطاعَ غيرَهُ، وارْتَكَبَ نَهْيَهُ.
قولُهُ: "وأنَّ عيسَى عبدُ اللهِ ورسولُه" وفي رِوَايَةٍ: "وابنُ أَمَتِهِ" أيْ: خِلاَفًا لِمَا يَعْتَقِدُهُ النَّصارَى أنَّهُ اللهُ أو ابنُ اللهِ، تعالَى اللهُ عن ذلكَ عُلُوًّا كَبِيرًا {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (92) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون:92،93] فيَشْهَدُ بأنَّهُ عبدُ اللهِ، أي: عابِدٌ مملوكٌ للهِ، لا مالِكٌ، فليسَ له من الربوبِيَّةِ ولا مِن الإلهيَّةِ شيءٌ، ورسولٌ صادِقٌ، خِلافًا لقولِ اليهودِ: إنَّهُ وَلَدُ بَغِيٍّ، بل يقالُ فيه ما قالَ عن نفسِهِ كمَا قالَ تعالَى: {قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْم أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}[مريم:30-34].
وقالَ تعالَى: {لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}[النساء:172] قالَ القُرْطُبِيُّ: ويُسْتَفَادُ منه ما يُلَقَّنُهُ النصرانيُّ إذا أَسْلَمَ.
قولُهُ: "وكَلِمَتُهُ" إنَّما سُمِّيَ عليهِ السَّلامُ كلِمَةَ اللهِ؛ لصُدُورِهِ بكلِمَةِ (كُنْ) بلا أبٍ، قالَه قَتَادَةُ وغيرُهُ من السَّلفِ.
قالَ الإمامُ أحمدُ فيما أملاه في الرَّدِّ عَلَى الجَهْمِيَّةِ: الكلِمَةُ الَّتي ألقاهَا إلى مريمَ حينَ قالَ له: (كُنْ) فكانَ عيسَى بـ(كُنْ)، وليسَ عيسَى هو كُنْ، ولكنْ بِكُنْ كانَ، فكُنْ مِنَ اللهِ قولٌ، وليسَ: كُنْ، مخلوقًا، وكَذَبَ النَّصارى والجهميَّةُ عَلَى اللهِ في أمرِ عيسَى؛ وذلك أنَّ الجَهْمِيَّةَ قالَت: عيسىَ رُوحُ اللهِ وكلمتُهُ، إلا أنَّ الكلِمَةَ مَخْلُوقَةٌ، وقالَت النَّصارَى: عيسَى رُوحُ اللهِ من ذاتِ اللهِ، وكلمةُ اللهِ مِن ذاتِ اللهِ، كمَا يُقالَ: إنَّ هذهِ الخِرْقَةَ مِن هذا الثَّوْبِ، وقلنا نحنُ: إنَّ عيسَى بالكلِمَةِ كانَ، وليسَ عيسى هو الكلِمَةَ. انْتَهَى، يعني بهِ ما قالَ قتادةُ وغيرُهُ.
قولُهُ: "ألقاهَا إلى مريمَ" قالَ ابنُ كثيرٍ: خَلقَهُ بالكَلِمَةِ الَّتي أرْسَلَ بِهَا جَبْرَائِيلَ -عليهِ السَّلامُ- إلى مريمَ، فنفخَ فيها من رُوحِهِ بإذنِ ربِّهِ عزَّ وجلَّ، فكانَ عيسَى بإذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وصارَتْ تلكَ النَّفْخَةُ التي نَفَخَهَا في جَيْبِ دِرْعِهَا فنزلَتْ حَتَّى وَلَجَتْ فَرْجَهَا، بمنزلةِ لِقَاحِ الأبِ الأُمَّ، والجميعُ مَخْلُوقٌ للهِ عزَّ وجلَّ، ولهذا قيلَ لعيسى: إنَّهُ كَلِمَةُ اللهِ ورُوحٌ منه؛ لأنَّهُ لم يَكُنْ له أبٌ تولَّدَ منهُ، وإنَّما هو ناشِئٌ عن الكَلِمَةِ التي قالَ له: كُنْ، فكانَ، والرُّوحِ التي أُرْسِلَ بِهَا جَبْرَائِيلُ عليهِ السَّلامُ.
قولُهُ: "وَرُوحٌ مِنْهُ" قالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: عِيسَى رُوحٌ من الأرْوَاحِ التي خلقَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ واسْتَنْطَقَهَا بقولِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُواْ بَلَى}[ الأعْرَاف: 172] بَعَثَهُ اللهُ إلى مَرْيَمَ فدَخَلَ فيها، رَوَاهُ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أحمدَ في زوائِدِ المُسْنَدِ وابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتِمٍ وغيرُهُم.
وقالَ أبو رَوْقٍ: "وَرُوحٌ منْه" أي: نَفْخَةٌ منه؛ إذ هي من جَبْرَائِيلَ بأمرِهِ، وسُمِّيَ رُوحًا؛ لأنَّهُ حَدَثَ من نَفْخَةِ جَبْرَائِيلَ عليهِ السَّلامُ.
وقالَ الإمامُ أحمدُ: "وَرُوحٌ مِنْهُ" يقولُ: مِن أَمْرِهِ كانَ الرُّوحُ فيه، كقولِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}[ الجاثِيَة: 13]يقولُ: من أَمْرِهِ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ: المُضَافُ إلى اللهِ تعالى إذا كانَ معنًى لا يقومُ بنفسِهِ ولا بغيرِهِ من المخلوقاتِ وَجَبَ أن يكونَ صِفةً للهِ تعالَى قائِمًا، وامْتَنَعَ أن يكونَ إضافتُهُ إضافةَ مَخْلُوقٍ مَرْبُوبٍ، وإنْ كانَ المُضافُ عينًا قائِمَةً بنفْسِهَا،كعيسى وجَبْرَائِيلَ عليهما السَّلامُ وأرْوَاحِ بني آدمَ، امْتَنَعَ أن يكونَ صِفَةً للهِ تعالى؛ لأنَّ ما قامَ بنفسِهِ لا يكونُ صفةً لغيرِهِ، لكنَّ الأعيانَ المُضافةَ إلى اللهِ تعالى عَلَى وجهينِ:
أحدِهِمَا: أن تكونَ تُضَافُ إليه لكونِهِ خَلَقَهَا وأبدَعَها، فهذا شامِلٌ لجميعِ المخلوقاتِ، كقولِهِم: سماءُ اللهِ، وأرضُ اللهِ، ومِن هذا البابِ، فجميعُ المخلوقينَ عبيدُ اللهِ، وجميعُ المالِ مالُ اللهِ، وجميعُ البُيُوتِ والنُّوقِ للهِ.
الوجهِ الثَّاني: أن يُضَافَ إليهِ لِمَا خَصَّهُ بهِ مِن معنًى يُحِبُّهُ ويَأْمُرُ بهِ ويَرْضَاهُ كمَا خَصَّ البيتَ العَتِيقَ بعِبَادَةٍ فيهِ لا تكونُ في غيرِهِ، وكمَا يُقالَ عن مالِ الفيءِ والخُمُسِ: هو مالُ اللهِ ورسولِهِ، ومن هذا الوجْهِ فعِبَادُ اللهِ هم الَّذينَ عَبَدُوه وأطاعُوا أمرَهُ، فهذا إضافةٌ تَتَضَمَّنُ أُلُوهِيَّتَهُ وشَرْعَهُ ودِينَهُ وتلكَ إضافَةٌ تَتَضَمَّنُ رُبُوبِيَّتَهُ وخَلْقَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
والمقصودُ منه أَنَّ إِضَافَةَ رُوحِ اللهِ هو من الوجهِ الثَّاني، واللهُ أعلَمُ.
قولُهُ: "والجنَّةَ حَقٌّ والنَّارَ حَقٌّ" أي: وشَهِدَ أنَّ الجنَّةَ التي أَخْبَرَ بِهَا اللهُ في كتابِهِ أنَّهُ أعدَّهَا لمَنْ آمنَ بهِ وبرسولِهِ حقٌّ، أي: ثابتةٌ لا شَكَّ فيها، وشَهِدَ أنَّ النَّارَ التي أخْبَرَ اللهُ في كتابِهِ أنَّهُ أعدَّهَا للكافرينَ بهِ وبرُسُلِهِ حقٌّ كذلِكَ، كمَا قالَ تعالى: {سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21] وقالَ تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البَقَرَة:24] وفيهما دليلٌ عَلَى أنَّ الجنَّةَ والنَّارَ مخلوقتانِ الآن، خِلافًا لأهلِ البِدَعِ الَّذينَ قالُوا: لا يُخْلَقانِ إلاَّ في يَوْمِ القِيَامَةِ، وفيه دليلٌ عَلَى المَعَادِ وحَشْرِ الأَجْسَادِ.
قولُهُ: "أَدْخَلَه اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كانَ مِن العَمَل" هذه الجمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وفي رِوَايَةٍ: "أَدْخَلَه اللهُ الجَنَّةَ مَنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَمَانِيَةِ" قالَ القاضي عِياضٌ: وما وَرَدَ في حديثِ عُبَادةَ يكونُ خُصُوصًا لمَنْ قالَ ما ذكرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَرَنَ بالشَّهادتينِ حقيقةَ الإيمانِ والتَّوحيدِ الَّذي وَرَدَ في حديثِهِ، فيكونُ له من الأجْرِ ما يَرْجَحُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ويُوجِبُ له المَغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ ودُخُولَ الجنَّةِ لأوَّلِ وَهْلَةٍ.
(4) قولُهُ: (ولهما) أيْ: للبُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ في صَحِيحَيْهِمَا، وهذا الحديثُ طَرَفٌ من حديثٍ طويلٍ أخْرَجَهُ الشَّيخانِ كمَا قالَ المصنِّفُ.
و(عِتْبَانُ) -بكسرِ المُهْمَلَةِ بعدَهَا مثناةٌ فوقيَّةٌ ثُمَّ مُوحَّدَةٌ- ابنُ مالِكِ بنِ عُمَرَ بنِ العَجْلاَنِ الأنْصَارِيُّ، مِن بني سالِمِ بنِ عَوْفٍ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، ماتَ في خِلافةِ مُعَاوِيَةَ.
قولُهُ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ … " الحديثَ.
اعْلَمْ أنَّهُ قد وَرَدَتْ أحاديثُ ظاهِرُهَا أنَّهُ مَن أَتَى بالشَّهادتينِ حُرِّمَ عَلَى النَّارِ، كهذا الحديثِ، وحديثِ أَنسٍ قالَ: كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ ، فَقالَ: "يَا مُعَاذُ" ، قالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ، قالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِلاَّ حَرَّمَهُ عَلَى النَّارِ".قالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا أُخبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قالَ: "إِذًا يَتَّكِلوا" فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا، أخْرَجَاهُ.
ولمُسْلِمٍ عن عُبَادَةَ مَرفوعًا: "مَنْ شَهِدَ أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ".
ووَرَدَتْ أحاديثُ فيها أنَّ مَن أتَى بالشَّهادتيْنِ دَخَلَ الجنَّةَ، ولَيْسَ فيها أنَّهُ يُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ ، منها حديثُ عُبَادَةَ الَّذي تَقَدَّمَ قبلَ هذا ، وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ: أنَّهُم كانُوا معَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ …الحديثَ؛ وفيهِ فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ لاَ يَلْقَى اللهَ بهمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الجَنَّةِ" رواهُ مسلمٌ ، وحديثُ أبي ذَرٍّ في الصَّحِيحَيْنِ مرفوعًا: "مَا مِنْ عَبْدٍ قالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ … " .
وأحسنُ ما قيلَ في معناهُ ما قالَه شيخُ الإسلامِ وغيرُهُ: إنَّ هذه الأحاديثَ إنَّما هي فيمَنْ قالها وماتَ عليهَا، كمَا جاءَتْ مقيَّدَةً، وقالها خالِصًا من قلْبِهِ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قلبُهُ، غيرَ شَاكٍّ فيها بصدْقٍ ويقِينٍ، فإنَّ حقيقةَ التَّوحيدِ انْجِذَابُ الرُّوحِ إلى اللهِ جملةً، فمَنْ شَهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ خالِصًا من قلبِهِ، دخلَ الجنَّةَ؛ لأنَّ الإخلاصَ هو انْجِذَابُ القلْبِ إلى اللهِ تعالى بأن يتوبَ من الذُّنُوبِ تَوْبَةً نَصُوحًا، فإذا ماتَ عَلَى تلكَ الحالِ نالَ ذلك؛ فإنَّهُ قد تواتَرَتِ الأحاديثُ بأنَّهُ يَخْرُجُ من النَّارِ مَنْ قالَ: (لا إلهَ إلا اللهُ) وكانَ في قلبهِ من الخيرِ ما يَزِنُ شعيرةً، وما يَزِنُ خَرْدَلَةً وما يَزِنُ ذَرَّة ، وتواتَرَتْ بأنَّ كثيرًا ممَّنْ يقولُ: (لا إلهَ إلا اللهُ) يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ منها ، وتواتَرتْ بأنَّ اللهَ حرَّمَ عَلَى النَّارِ أن تَأْكُلَ أثَرَ السُّجُودِ من ابنِ آدمَ، فهؤلاءِ كانُوا يُصَلُّونَ ويَسْجُدُونَ للهِ ، وتواترَتْ بأنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ مَن قالَ: (لا إلهَ إلا اللهُ) ومَن شَهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ.
لكنْ جاءتْ مُقَيَّدَةً بالقُيُودِ الثِّقَالِ، وأكثرُ مَن يَقُولُها لا يَعْرِفُ الإخْلاَصَ ولا اليقينَ، ومَنْ لا يَعْرِفْ ذلك يُخْشىَ عليهِ أن يُفْتَنَ عنها عندَ الموتِ، فيُحَالَ بينَهُ وبينَهَا، وأكثرُ مَن يقولُها إنَّما يقولُها تقليدًا أو عادةً، ولم يُخَالِطِ الإيمانُ بشَاشَةَ قلْبِهِ، وغالِبُ مَن يُفْتَنُ عندَ الموتِ وفي القُبُورِ أمثالُ هؤلاءِ كمَا في الحديثِ: "سَمِعْتُ النَّاسَ يقولونَ شيئًا فقُلْتُهُ"، وغالِبُ أعمالِ هؤلاءِ إنَّما هو تقليدٌ واقْتِدَاءٌ بأمثالِهِم وهمْ أقربُ النَّاسِ من قولِهِ تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزُّخْرُف:23].
وحينَئِذٍ فلا مَنَافَاةَ بينَ الأحاديثِ، فإنَّهُ إذا قالها بإخلاصٍ ويقينٍ تامٍّ، لم يكنْ في هذه الحالِ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أصلاً، فإنَّ كمَالَ إخلاصِهِ ويقينَه يُوجِبُ أنْ يكونَ اللهُ أحبَّ إليهِ مِن كلِّ شيءٍ، فإذًا لا يبقَى في قلْبِهِ إرادةٌ لِمَا حَرَّمَ اللهُ ولا كراهِيَةٌ لِما أَمَرَ اللهُ، وهذا هو الَّذي يَحْرُمُ من النَّارِ، وإنْ كانَتْ له ذُنُوبٌ قبلَ ذلِكَ؛ فإنَّ هذا الإيمانَ، وهذه التَّوبةَ، وهذا الإِخْلاصَ، وهذه المحبَّةَ وهذا اليقينَ، لا يَتْرُكُونَ له ذَنْبًا إلا يُمْحَى كمَا يُمْحَى الليلُ بالنَّهارِ.
فإذا قالَها عَلَى وجهِ الكمَالِ المَانعِ من الشِّركِ الأكبَرِ والأصْغَرِ، فهذا غيرُ مُصِرٍّ عَلَى ذنبٍ أصلاً، فيُغْفَرُ له ويُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ، وإن قالَها عَلَى وجْهٍ خَلَصَ بهِ من الشِّرْكِ الأكبرِ دونَ الأصغرِ، ولم يأتِ بعدَهَا بما يُناقِضُ ذلك، فهذه الحَسَنَةُ لا يُقَاوِمُهَا شيءٌ من السَّيِّئاتِ، فيُرَجَّحُ بِهَا مِيزَانُ الحَسَنَاتِ، كمَا في حديثِ البِطَاقَةِ، فيُحَرَّمُ عَلَى النَّارِ، ولكنْ تَنْقُصُ دَرَجَتُهُ في الجنَّةِ بقَدْرِ ذُنُوبِهِ، وهذا بخلافِ مَن رَجَحَتْ سيِّئاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وماتَ مُصِرًّا عَلَى ذلك، فإنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّارَ، وإن قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) وخَلَصَ بِهَا من الشِّركِ الأكبرِ، لكنَّهُ لم يَمُتْ عَلَى ذلك، بل أَتَى بعدَ ذلِكَ بسيِّئاتٍ رجَحَتْ عَلَى حَسَنَةِ تَوْحِيدِهِ، فإنَّهُ في حالِ قولِها كانَ مُخْلِصًا، لكنَّهُ أتى بذُنُوبٍ أَوْهنَتْ ذلك التَّوحيدَ والإخلاصَ فأضْعَفَتْهُ، وقَوِيَتْ نارُ الذُّنُوبِ حتىَّ أحرقَتْ ذلك.
بخلافِ المُخْلِصِ المُسْتَيْقِنِ؛ فإنَّ حسناتِهِ لا تكونُ إلا راجِحَةً عَلَى سيِّئاتِهِ، ولا يكونُ مُصِرًّا عَلَى سيِّئَةٍ، فإنْ ماتَ عَلَى ذلك دَخَلَ الجنَّةَ، وإنَّما يُخَافُ عَلَى المُخْلِصِ أن يأتيَ بسيِّئاتٍ راجِحَةٍ تُضْعِفُ إيمانَهُ، فلا يقولُها بإخلاصٍ ويَقِينٍ مانِعٍ من جميعِ السَّيِّئاتِ، ويُخْشَى عليه من الشِّركِ الأكبرِ والأصغرِ، فإنْ سَلِمَ من الأكبرِ بقِي مَعَهُ من الأصغرِ، فَيُضيفُ إلى ذلك سيِّئاتٍ تَنْضَمُّ إلى هذا الشِّركِ، فيُرَجَّحُ جانِبُ السَّيِّئاتِ، فإنَّ السَّيِّئاتِ تُضْعِفُ الإيمانَ واليقينَ، فيَضْعُفُ بذلك قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ، فيَمْتَنِعُ الإخلاصُ في القَلْبِ، فيَصِيرُ المُتَكَلِّمُ بِهَا كالهاذي أو النَّائمِ، أو مَن يُحَسِّنُ صوتَهُ بآيةٍ من القرآنِ مِن غيرِ ذَوْقِ طَعْمٍ ولا حلاوةٍ، فهؤلاءِ لم يقولوها بكمَالِ الصِّدقِ واليقينِ، بل يأتونَ بعدَهَا بسيِّئاتٍ تَنْقُصُ ذلك الصِّدْقَ واليقينَ، بل يقولونها من غيرِ يَقِينٍ وصِدْقٍ ويموتونَ عَلَى ذلكَ ولهم سيِّئاتٌ كثيرةٌ تَمْنَعُهُم من دُخُولِ الجنَّةِ.
وإذا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ ثقُلَ عَلَى اللِّسَانِ قولُها، وقَسَا القَلْبُ عن قَوْلِها، وكرِهَ العَمَلَ الصَّالِحَ، وثَقُلَ عليهِ سماعُ القرآنِ، واسْتَبْشَرَ بذِكْرِ غيرِهِ، واطْمَأَنَّ إلى الباطِلِ واسْتَحْلَى الرَّفَثَ ومُخَالَطَةَ أهْلِ الغَفْلَةِ، وكَرِهَ مُخَالَطَةَ أهلِ الحقِّ، فمِثْلُ هذا إذا قالَها قالَ بلسانِهِ ما ليسَ في قلبِهِ، وبفيهِ ما لا يُصَدِّقُ عَمَلَه كمَا قالَ الحَسَنُ: لَيْسَ الإيمانُ بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي، ولكنْ ما وَقَرَ في القُلُوبِ وصَدَّقَتْهُ الأعَمْالُ، فمَنْ قالَ خيرًا وعَمِلَ خيرًا قُبِلَ منه، ومَنْ قالَ شرًّا وعمِلَ شرًّا لم يُقْبَلْ منْهُ ، وقالَ بكرُ بنُ عبدِ اللهِ المُزَنِيُّ: ما سَبَقَهُمْ أبو بكرٍ بكثرةِ صيامٍ ولا صلاةٍ، ولكنْ بشيءٍ وَقَرَ في قلبِه.
فمَنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ولم يَقُمْ بمُوجَبِها، بل اكْتَسَبَ مع ذلك ذُنُوبًا وسَيِّئاتٍ، وكانَ صادِقًا في قولِها مُوقِنًا بِهَا، لكنَّ ذُنُوبَهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ صِدْقِهِ ويَقِينِهِ، وانْضَافَ إلى ذلك الشِّركُ الأصْغَرُ العَمَلِيُّ، رَجَحَتْ هذه الأشياءُ عَلَى هذه الحَسَنَةِ، وماتَ مُصِرًّا عَلَى الذُّنُوبِ، بخلافِ مَن يقولُها بيقينٍ وصِدْقٍ تامٍّ، فإنَّهُ لا يموتُ مُصِرًّا عَلَى الذُّنُوبِ، إمَّا أنْ لا يكونَ مُصِرًّا عَلَى سيِّئَةٍ أصلاً أو يكونَ توحيدُهُ المُتَضَمِّنُ لصِدْقِهِ ويقينِهِ رَجَّحَ حَسَنَاتِهِ.
والَّذينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ ممَّنْ يقولونَهَا قد فاتَهُم أحدُ هذين الشَّرطيْنِ: إمَّا أنَّهُم لم يقولُوهَا بالصِّدْقِ واليقينِ التَّامَّينِ المُنْافِيَيْنِ للسَّيِّئاتِ، أو لرُجْحَانِ السَّيِّئاتِ، أو قالوها واكْتَسَبُوا بعدَ ذلِكَ سيِّئاتٍ رَجَحَتْ عَلَى حَسَنَاتِهِم، ثُمَّ ضَعُفَ لذلك صِدْقُهُم ويَقِينُهُم، ثُمَّ لم يقولوهَا بعدَ ذلك بِصِدْقٍ ويقينٍ تامٍّ؛ لأنَّ الذُّنُوبَ قد أَضْعَفَتْ ذلك الصِّدقَ واليقينَ من قلوبِهِم، فقولُها من مِثْلِ هؤلاءِ لا يَقْوَى عَلَى مَحْوِ السَّيِّئاتِ، بل تَرْجَحُ سيِّئاتُهُم عَلَى حَسَنَاتِهِم. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وقد ذَكَرَ معناهُ غيرُهُ كابنِ القَيِّمِ، وابنِ رَجَبٍ، والمَنْذِرِيِّ والقَاضِي عِياضٍ، وغيرِهِم .
وحاصِلُه أنَّ (لا إلهَ إلا اللهُ) سَبَبٌ لدُخُولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ من النَّارِ، ومُقْتَضٍ لذلك، ولكنَّ المُقْتَضِيَ لا يَعْمَلُ عَمَلَه إلا باسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ، وانْتِفَاءِ موانِعِهِ، فقد يَتَخَلَّفُ عنه مُقْتَضَاهُ لفواتِ شَرْطٍ مِن شُرُوطِهِ، أو لوجودِ مانعٍ ؛ ولهذا قيلَ للحَسَنِ: إنَّ ناسًا يقولون مَنْ قالَ: (لا إلهَ إلا اللهُ) دَخَلَ الجنَّةَ، فقالَ: منْ قالَ: لا إلهَ إلا اللهُ فأَدَّى حَقَّها وفرْضَهَا دَخَلَ الجَنَّةَ ، وقالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سألَه: أليسَ لا إلهَ إلا اللهُ مِفْتَاحَ الجنَّةِ؟ قالَ: بلَى، ولكنْ ما مِن مِفْتَاحٍ إلا ولَه أَسْنَانٌ، فإن جِئْتَ بمِفْتَاحٍ له أسْنَانٌ فَتَحَ لك وإلا لم يَفْتَحْ.
ويَدُلُّ عَلَى ذلك أنَّ اللهَ رَتَّبَ دُخُولَ الجنَّةِ عَلَى الإيمانِ والأعمالِ الصَّالِحَةِ، وكذلِكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمَا في الصَّحِيحَيْنِ عن أبي أَيُّوبَ أنَّ رجلاً قالَ: يا رسولَ اللهِ، أَخْبِرنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ ، فقالَ: "تَعْبُدُ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُ بهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ" ، وفي المُسْنَدِ عن بَشِيرِ بنِ الخَصَاصِيَةِ قالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُبَايِعَهُ، فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ شَهَادَةَ أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلاةَ، وَأَنْ أُوتيَ الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ، وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا اثْنَتانِ فَواللهِ مَا أُطِيقُهُمَا؛ الجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، فَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَهَا، وَقالَ: "فَلاَ جِهادَ وَلاَ صَدَقَةَ، فَبِمَ تَدْخُلُ الجَنَّةَ إِذًا ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبَايِعُكَ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ.
ففي الحديثِ أنَّ الجِهَادَ والصَّدَقَةَ شَرْطٌ في دُخُولِ الجنَّةِ مَعَ حُصُولِ التَّوحيدِ، والصَّلاةِ، والحَجِّ، والصِّيامِ، والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ ، وفي الحديثِ دليلٌ عَلَى أنَّهُ لا يَكْفِي في الإيمانِ النُّطقُ من غيرِ اعْتِقَادٍ، وبالعَكْسِ ، وفيه تَحْرِيمُ النَّارِ عَلَى أهلِ التَّوحيدِ الكامِلِ ، وفيه أنَّ العَمَلَ لا يَنْفَعُ إلا إذا كانَ خالِصًا للهِ تعالَى.
(5) أبو سَعِيدٍ: اسمُهُ سَعْدُ بنُ مالِكِ بنِ سِنَانِ بنِ عُبَيْدٍ الأنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وأبوه أيْضًا كذلِكَ، اسْتُصْغِرَ أبو سَعِيدٍ بأُحُدٍ، ثُمَّ شَهِدَ ما بعْدَهَا، ماتَ بالمدينةِ سَنَةَ ثلاثٍ أو أَرْبَعٍ أو خَمْسٍ وستِّينَ ، وقيلَ أرْبَعٍ وسبعينَ.
قولُهُ: (أَذْكُرُكَ) هو بالرَّفعِ خبرُ مبتدأٍ مَحْذُوفٍ، أي أنَا أذْكُرُكَ ، وقيلَ: بل هو صِفَةٌ، وأدعُوكَ معطُوفٌ عليهِ، أي: أُثْنِي عليكَ وأَحْمَدُكَ بهِ. (وأَدْعُوك) أيْ: أَتَوَسَّلُ بهِ إليكَ إذا دَعَوْتُكَ.
قولُهُ: (قلْ ياموسَى: لا إلهَ إلاَّ اللهُ) فيه أنَّ الذَّاكِرَ بِهَا يَقُولُها كُلَّها، ولا يَقْتَصِرُ عَلَى لفظِ الجلالَةِ كمَا يَفْعَلُه جُهَّالُ المُتَصَوِّفَةِ، ولا يقولُ أيضًا: هو، كمَا يقولُهُ غُلاةُ جُهَّالِهِم، فإذا أرادُوا الدُّعَاءَ قالوا: يا هو، فإنَّ ذلك بِدْعَةٌ وضَلاَلَةٌ ، وقد صَنَّفَ جُهَّالُهم في المسألتيْنِ، وصَنَّفَ ابنُ عَرَبِيٍّ كِتَابًا سَمَّاهُ كِتابَ (الهُوَ).
قولُهُ: (كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا) هكذا ثبَتَ بخطِّ المُصَنِّفِ: (يقولُونَ) بالجمعِ مُرَاعاةً لمعنَى كلُّ، والذي في الأصولِ (يقولُ) بالإفرادِ مُرَاعاةً للفظِهَا دونَ معنَاهَا، لكنْ قد رَوَى الإمامُ أحمدُ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمروٍ هذا الحديثَ بِهَذا اللَّفْظِ الَّذي ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ أطولَ مَنْهُ ، وفي سُنَنِ النَّسَائِيِّ والحاكِمِ وشَرْحِ السُّنَّةِ بعدَ قولِهِ: "كلُّ عِبَادِكَ يقولُونَ هذا إنَّما أُرِيدُ أَنْ تَخُصَّنِي بهِ" أي: بذلك الشَّيءِ مِن بينِ عُمُومِ عِبَادِكَ؛ فإنَّ مِن طَبْعِ الإنسانِ أن لا يَفْرَحَ فَرَحًا شديدًا إلا بشيءٍ يَخْتَصُّ بهِ دونَ غيرِهِ، كمَا إذا كانَتْ عندَهُ جَوْهَرةٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً عندَ غيرِه ، مع أنَّ من رَحْمَةِ اللهِ وسنَّتِهِ المُطَّرِدَةِ أنَّ ما اشْتَدَّتْ إليهِ الحاجَةُ والضَّرُورَةُ، كانَ أكثرَ وُجُودًا، كالبُرِّ والمِلْحِ، والماءِ ونحوِ ذلِكَ دونَ الياقوتِ واللُّؤْلُؤِ، ولَمَّا كانَ بالنَّاسِ بل بالعالَمِ كُلِّه من الضَّرُورَةِ إلى لا إلهَ إلاَّ اللهُ ما لا نِهَايَةَ في الضَّرُورَةِ فوقَهُ كانَت أكثرَ الأذْكَارِ وُجُودًا، وأَيْسَرَهَا حُصُولاً، وأعْظَمَهَا معنًى، والعوامُّ والجُهَّالُ يَعْدِلُونَ عنها إلى الأسماءِ الغريبَةِ والدَّعَوَاتِ المُبْتَدَعَةِ التي لا أَصْلَ لها في الكِتابِ والسُّنَّةِ كالأحزابِ والأوْرَادِ التي ابْتَدَعَهَا جَهَلَةُ المُتَصَوِّفَةِ.
قولُهُ: (وعَامِرَهُنَّ غيْرِي) هو بالنَّصبِ، عَطْفٌ عَلَى السَّمَاواتِ، أي: لو أنَّ السَّمَاواتِ السَّبْعَ ومَن فيهِنَّ من العُمَّارِ غيرِ اللهِ والأرَضِينَ السَّبْعَ ومَن فيهِنَّ وُضِعُوا في كِفَّةِ المِيزانِ، ولا إلهَ إلا اللهُ في الكِفَّةِ الأُخْرَى، مالَتْ بهِنَّ لا إلهَ إلا اللهُ؛ ورَوَى الإمامُ أحمدُ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنَّ نُوحًا عليهِ السَّلامُ قالَ لابنِهِ عندَ موتِهِ: آمُرُكَ بـ: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِنَّ السَّمَاواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتِ فِي كِفَّةٍ، وَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بهِنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ كُنَّ في حَلْقَةٍ مُبهَمَةٍ قَصَمَتْهُنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ" ، وفيه دليلٌ عَلَى أنَّ اللهَ تعالى فَوْقَ السَّمَاواتِ.
قولُهُ: (في كِفَّةٍ) بكسرِ الكافِ وتشديدِ الفاءِ من كِفَّةِ الميزانِ، قالَ بعضُهُم: ويُطْلَقُ لكلِّ مُسْتَدِيرٍ.
قولُهُ: (مالَتْ بِهِنَّ لا إلهَ إلا اللهُ) أي: رَجَحَتْ عليهِنَّ؛ وذلك لِما اشْتَمَلَتْ عليهِ من تَوْحِيدِ اللهِ الَّذي هو أفْضَلُ الأعْمَالِ، وأساسُ المِلَّةِ، ورأسُ الدِّينِ، فمَن قالَها بإخلاصٍ ويقينٍ، وعَمِلَ بمُقْتَضَاهَا ولوازِمِهَا، واسْتَقَامَ عَلَى ذلك، فهو من الَّذينَ لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُونَ، كمَا قالَ تعالى: {إِنَّ الَّذينَ قالُواْ ربُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[فُصِّلَت:30،32]، والحديثُ يَدُلُّ عَلَى أنَّ (لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ) أفضلُ الذِّكْرِ، كمَا في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو مرفوعًا: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" رَوَاهُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ ، وعنه أيضًا مَرْفُوعًا: "يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُنْشَرُ له تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدَّ البَصَرِ ، ثُمَّ يُقالُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذا شَيْئًا ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ ، فَيُقالُ: أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ، فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لاَ ، فَيُقالُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنا حَسَنَاتٍ، وَإنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ، فَيُخْرَجُ له بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ ؟ فَيُقالُ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ، وَالبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ؛ فَطَاشَت السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، والنَّسَائِيُّ، وابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ وقالَ: صحيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وقالَ الذَّهَبِيُّ في تلخِيصِهِ صَحِيحٌ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: فالأعمالُ لا تَتَفَاضَلُ بصُوَرِهَا وعَدَدِهَا، وإنَّما تتفاضَلُ بتفاضُلِ ما في القُلُوبِ، فتكونُ صُورَةُ العَمَلِ واحِدَةً، وبينَهُمَا من التَّفَاضُلِ كمَا بينَ السَّماءِ والأرضِ، قالَ: تأمَّلْ حديثَ البِطَاقَةِ الَّتي تُوضَعُ في كِفَّةٍ، ويُقَابِلُها تِسْعةٌ وتسعونَ سِجِلاًّ، كلُّ سِجِلٍّ منها مَدَّ البَصَرِ، فتَثْقُلُ البِطَاقَةُ، وتَطِيشُ السِّجِلاَّتُ، فلا يُعَذَّبُ، ومَعْلُومٌ أنَّ كلَّ مُوَحِّدٍ له هذه البِطَاقَةُ، وكثيرٌ منهم يَدْخُلُ النَّارَ بذُنُوبهِ.
وعن أبي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "مَا قالَ عَبْدٌ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصًا قَطُّ إِلاَّ فُتِحَتْ له أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تُفْضِيَ إِلى العَرْشِ مَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ، والحاكِمُ وقالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
قولُهُ: (رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ) ابنُ حِبَّانَ: اسْمُهُ محمَّدُ بنُ حِبَّانَ - بكَسْرِ المُهْمَلَةِ وتشديدِ المُوَحَّدَةِ - ابنِ أحْمَدَ بنِ حِبَّانَ أبو حاتِمٍ التَّمِيمِيُّ البُسْتيُّ الحافِظُ صاحِبُ التَّصَانِيفِ كالصَّحيحِ والتَّاريخِ والضُّعَفَاءِ والثِّقَاتِ وغيرِ ذلك، قالَ الحاكِمُ: كانَ مِن أَوْعِيَةِ العِلْمِ في الفِقْهِ واللُّغَةِ والحديثِ والوَعْظِ ومِن عُقَلاَءِ الرِّجَالِ، ماتَ سَنَةَ أرْبَعٍ وخَمْسِينَ وثلاثِمِائةٍ بمدينةِ بُسْتَ، بالمهملةِ.
وأمَّا الحاكِمُ: فاسمُهُ: محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ محمَّدٍ الضَّبِّيُّ النَّيْسَابُورِيُّ أبو عَبْدِ اللهِ الحافِظُ، ويُعْرَفُ بابنِ البَيِّعِ، وُلِدَ سَنَةَ إحدَى وعشرينَ وثلاثِمِائَةٍ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ كالمُسْتَدْرَكِ وتاريخِ نَيْسَابُورَ وغيرِهِما، ماتَ سنةَ خمسٍ وأربعِمِائَةٍ.
(6) التِّرْمِذِيُّ: اسْمُهُ محمَّدُ بنُ عِيسَى بنِ سَوْرَةَ -بفتحِ المهملةِ- ابنِ مُوسَى بنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ أبو عِيسَى صَاحِبُ الجامِعِ وأحدُ الأئِمَّةِ الحُفَّاظِ، كانَ ضَرِيرَ البَصَرِ، رَوَى عن قُتَيْبَةَ وهَنَّادٍ والبُخَارِيِّ وخَلْقٍ، ومَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وسَبْعِينَ ومائَتَيْنِ.
وأنسٌ: هو ابنُ مالِكِ بنِ النَّضْرِ الأنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ، خادِمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَدَمَهُ عَشْرَ سِنِينَ، ودَعَا له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: "اللهمَّ أَكْثِرْ مَالَه وَوَلَدَهُ وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ" وماتَ سنةَ اثْنَتَيْنِ وقِيلَ: ثلاثٍ وتِسْعِينَ. وقَدْ جَاوَزَ المِائَةَ.
والحديثُ قِطْعَةٌ مِن حديثٍ رواهُ التِّرْمِذِيُّ مِن طريقِ كَثِيرِ بنِ فَائِدٍ حَدَّثَنَا سعيدُ بنُ عُبَيْدٍ، سَمِعْتُ بَكْرَ بنَ عبدِ اللهِ المُزَنِيَّ يقولُ: حَدَّثَنَا أنسُ بنُ مالكٍ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: "قالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوتَنِي إِلاَّ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرابِ الأَرْضِ.. " الحديثَ.
قالَ ابنُ رَجَبٍ: وإسنادُهُ لا بأسَ بهِ، وسعيدُ بنُ عُبَيْدٍ: هو الهُنائِيُّ، ذَكَرَهُ ابنُ حِبَّانَ في الثَّقَاتِ وقالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بهِ كَثِيرُ بنُ فائِدٍ عن سَعِيدِ بنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعاً، قالَ ابنُ رَجَبٍ: وتابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ أبو سعيدٍ مَوْلَى بني هاشِمٍ، فرَوَاهُ عن سعيدِ بنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا، وقدْ رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ مِن حديثِ أبي ذَرٍّ بمعناهُ، وأخرجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ورَوَى مُسْلِمٌ من حديثِ أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: "يَقُولُ اللهُ: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا … " الحديثَ، وفيه: "وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً، لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِقُرابِها مَغْفِرَةً".
قولُهُ: (لو أتَيْتَنِيِ بقُرَابِ الأرْضِ) قُرابُ الأرضِ، بضمِّ القافِ، وقيلَ: بكسرِهَا، والضَّمُّ أَشْهَرُ، وهو مَلْؤُهَا أو ما يُقَارِبُ مَلأَهَا.
قولُهُ: (ثُمَّ لقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بي شَيْئًا) شَرْطٌ ثَقِيلٌ في الوَعْدِ بحُصُولِ المَغْفِرَةِ، وهو السَّلامةُ من الشِّرْكِ؛ كثيرِهِ وقليلِهِ، صغيرِهِ وكبيرِهِ، ولا يَسْلَمُ من ذلك إلا مَن سَلَّمهُ اللهُ، وذلك هو القَلْبُ السَّلِيمُ، كمَا قالَ تعالَى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشُّعَرَاء:88،89].
قالَ ابنُ رَجَبٍ: مَن جَاءَ معَ التَّوحيدِ بقُرَابِ الأرْضِ خَطَايا لَقِيَهُ اللهُ بقُرَابِها مَغْفِرَةً، لكنَّ هذا مع مَشِيئَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فإنْ شاءَ غَفَرَ له، وإن شاءَ أخذَهُ بذُنُوبهِ، ثُمَّ كانَ عاقِبَتُهُ أن لا يُخَلَّدَ في النَّارِ، بل يَخْرُجُ منها ثُمَّ يَدْخُلُ الجنَّةَ، فإن كَمُلَ توحيدُ العَبْدِ وإِخْلاصُهُ للهِ تعالى فيه، وقامَ بشروطِهِ بقَلْبِهِ ولسانِهِ وجوارِحِهِ، أو بقلبِهِ ولسانِهِ عندَ الموتِ أوْجَبَ ذلِكَ مَغْفِرَةَ ما سلَفَ مِن الذُّنُوبِ كلِّها ومَنْعَهُ من دُخُولِ النَّارِ بالكُلِّيَّةِ، فمَنْ تَحقَّقَ بكلِمَةِ التَّوحيدِ قلبُهُ، أَخْرَجَتْ منه كلَّ ما سِوَى اللهِ محبَّةً وتعظيمًا وإجلالاً ومَهابةً وخَشْيَةً وتَوَكُّلاً، وحينَئِذٍ تُحْرَقُ ذُنُوبُهُ وخطاياهُ كلُّها ولو كانَتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ، وربَّما قَلَبَتْهَا حسناتٍ، فإنَّ هذا التَّوحيدَ هو الإكسيرُ الأعْظَمُ، فلو وُضِعَ منه ذرَّةٌ عَلَى جِبَالِ الذُّنُوبِ والخطايا لقَلَبَها حسناتٍ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ: الشِّركُ نوعان أكبرُ، وأصغرُ، فمن خَلَصَ منهما وَجَبَتْ له الجنَّةُ، ومَن ماتَ عَلَى الأكبرِ، وجبَتْ له النَّارُ، ومَن خَلَصَ من الأكبرِ، وحَصَلَ له بعضُ الأصْغَرِ مع حسناتٍ راجِحَةٍ عَلَى ذُنُوبِهِ، دَخَلَ الجنَّةَ، فإنَّ تلكَ الحسناتِ توحيدٌ كثيرٌ مع يسيرٍ من الشِّركِ الأصْغَرِ، ومَن خَلَصَ من الأكبرِ، ولكنْ كَثُرَ الأصغرُ حَتَّى رَجَحَتْ بهِ سَيِّئاتُهُ دَخَلَ النَّارَ، فالشِّركُ يُؤَاخَذُ بهِ العَبْدُ إذا كانَ أكبرَ أو كانَ كثيرًا أصْغَرَ، والأصغرُ القليلُ في جانِبِ الإخلاصِ الكثيرِ لا يُؤَاخَذُ به.
وفي هذه الأحاديثِ:
- كثرةُ ثوابِ التَّوحيدِ.
- وسَعَةُ كَرَمِ اللهِ وجُودِهِ ورَحْمَتِهِ، حيثُ وَعَدَ عِبَادَهُ أنَّ العبدَ لو أتاه بملءِ الأرضِ خطايا، وقَدْ مَاتَ عَلَى التَّوحيدِ فإنَّهُ يُقَابِلُه بالمَغْفِرَةِ الواسِعَةِ الَّتي تَسَعُ ذُنُوبَهُ.
- والرَّدُّ عَلَى الخوارِجِ الَّذينَ يُكَفِّرونَ المُسْلِمَ بالذُّنُوبِ، وعلى المُعْتَزِلَةِ الَّذينَ يقولونَ بالمَنْزِلَةِ بينَ المَنْزلتينِ وهي مَنْزِلَةُ الفاسِقِ، فيقولُونَ: ليسَ بمؤمنٍ ولا كافِرٍ ويُخَلَّدُ في النَّارِ، والصَّوابُ في ذلك قولُ أهلِ السُّنَّةِ أنَّهُ لا يُسلَبُ عنه اسمُ الإيمانِ عَلَى الإطلاقِ، ولا يُعْطَاهُ عَلَى الإِطْلاقِ، بل يُقالُ: هو مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ أو مُؤْمِنٌ عاصٍ أو مُؤْمِنٌ بإيمانِهِ، فاسِقٌ بكبيرتِهِ. وعلى هذا يَدُلُّ الكِتَابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ سَلَفِ الأُمَّةِ.
وقالَ المصنِّفُ: (تأمَّلِ الخمسَ اللواتي في حديثِ عُبَادةَ، فإنَّكَ إذا جَمَعْتَ بينَهُ وبينَ حديثِ عِتْبَانَ تبيَّنَ لك معنَى قولِ: (لا إلهَ إلا اللهُ) وتبيَّنَ لك خطأُ المغْرُورِينَ.
وفيه أنَّ الأنبياءَ يَحْتَاجون للتَّنبيهِ عَلَى معنى قولِ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ، وفيه التَّنبيهُ لرُجْحَانِهَا بجميعِ المخلوقاتِ معَ أنَّ كثيرًا ممَّنْ يقولُها يَخِفُّ ميزانُهُ، وفيه أنَّكَ إذا عَرَفْتَ حديثَ أَنَسٍ عَرَفْتَ أنَّ قولَهُ في حديثِ عِتْبَانَ: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قالَ: لاَ إِله إِلاَّ اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ" إذا تركَ الشِّرْكَ، لَيْسَ قولَها باللِّسانِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

هيئة الإشراف

#3

26 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ التَّوحيدِ ومَا يُكَفِّرُ من الذنوبِ)
(بابُ) خبرُ مبتدأٍ مَحْذوفٍ تَقْدِيرُهُ: هذا ، قُلْتُ: ويجوزُ أنْ يكونَ مبتدأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هذا ، و (مَا) يجوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، والعَائِدُ مَحْذوفٌ، أيْ: وبيانُ الذي يُكَفِّرُهُ من الذنوبِ، ويجوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أيْ: وتَكْفِيرِهِ الذُّنوبَ، وهذا الثاني أَظْهَرُ.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: (وقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[الأنعام:82]).
قالَ ابنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي المُثَنَّى، وسَاقَ بِسَنَدِهِ، عن الرَّبيعِ بنِ أنسٍ قَالَ: الإيمانُ الإخْلاَصُ للهِ وحْدَهُ.
وقالَ ابنُ كَثِيرٍ في الآيَةِ: أي: هؤلاءِ الذينَ أخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ وحْدَهُ، ولَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا هم الآمِنُونَ يومَ القيامةِ، المُهْتَدُونَ في الدُّنيا والآخِرَةِ.
وقالَ ابنُ زَيْدٍ وابنُ إِسْحَاقَ: هذا مِن اللهِ عَلَى فَصْلِ القَضَاءِ بينَ إبراهيمَ وقَوْمِهِ.
وعن ابنِ مسعودٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ قالُوا: فَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ قَالَ عليه السلامُ: " { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } "[لقمان:13]؛ وساقَهُ البخاريُّ بسَنَدِهِ فقالَ: حدَّثَنَا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ، حدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثنَا الأَعْمشُ، حَدَّثَنِي إبراهيمُ، عنْ عَلْقَمَةَ، عنْ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: "لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ؛ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ: بِشِرْكٍ، أَوَ لَمْ تَسْمَعُوا إِلى قَوْلِ لُقْمَانَ لاِبْنِهِ:{يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ؟" وهذا الحديثُ فِي الصَّحيحِ والمُسْتَدْرَكِ وغيرِهما ، ولأحْمَدَ بنحوِهِ عنْ عبدِ اللهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ".
وعنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بالذَّنْبِ، فيكونُ المعنى: الأَمْنُ مِنْ كلِّ عَذَابٍ، وقالَ الحَسَنُ والكَلْبِيُّ: {أُولَئِكَ لَهُم الأَمْنُ} فِي الآخِرَةِ، {وهُم مُهْتَدُونَ} في الدُّنيا.
قالَ شيخُ الإسلامِ: والذِين شَقَّ علَيْهِم ظَنُّوا أنَّ الظُّلْمَ المشروطَ هوَ ظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ، وأَنَّهُ لاَ أَمْنَ ولاَ اهتداءَ إلاَّ لِمَنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، فَبَيَّنَ لهُم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دَلَّهُم عَلَى أنَّ الشِّركَ ظُلْمٌ في كِتَابِ اللهِ، فَلاَ يَحْصُلُ الأمْنُ والاهتداءُ إلاَّ لِمَنْ لَمْ يَلْبِسْ إيمانَهُ بظُلْمٍ، فإنَّ مَنْ لَمْ يَلْبِسْ إيمانَهُ بهذا الظلمِ كانَ مِنْ أَهْلِ الأمْنِ والاهتداءِ، كَمَا كانَ مِنْ أهلِ الاصْطِفَاءِ في قولِهِ تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ}الآيةَ، [فاطر:32] ، وهذا لا يَنْفِي أن يُؤَاخَذَ أَحَدُهُم بظُلْمِهِ لنَفْسِهِ بذَنْبٍ إذا لمْ يَتُبْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزَّلْزَلَة:7،8] ، وقَدْ سَأَلَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَيُّنا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فقالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَيْسَ يُصِيبُكَ اللأَّْوَاءُ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ" ، فبيَّنَ أنَّ المؤمنَ الذي إذا ماتَ دَخَلَ الجنَّةَ قَدْ يُجْزَى بِسَيِّئاتِهِ في الدُّنيا بالمَصائبِ.
قال: فمَنْ سَلِمَ مِنْ أجناسِ الظُّلْمِ الثلاثةِ؛ الشركِ، وظُلْمِ العبادِ، وظُلْمِهِ لنَفْسِهِ بِمَا دُونَ الشركِ، كانَ لهُ الأمنُ التَّامُّ والاهتداءُ التَّامُّ ،
ومَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ظُلْمِهِ لنَفْسِهِ، كانَ لهُ الأمنُ والاهتداءُ مُطْلَقًا، بمعنى أَنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَدْخُلَ الجنَّةَ كَمَا وُعِدَ بذلكَ في الآيةِ الأُخْرَى، وقدْ هَدَاهُ اللهُ إلى الصِّراطِ المُسْتقيمِ الذي تكونُ عاقِبَتُهُ فيهِ إلى الجَنَّةِ، ويَحْصُلُ لهُ مِنْ نَقْصِ الأمنِ والاهتداءِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ إِيمَانِهِ بِظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ، لَيْسَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولِهِ: "إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ" ، أنَّ مَنْ لمْ يُشْرِك الشِّرْكَ الأَكْبَرَ يَكُنْ لهُ الأمْنُ التَّامُّ والاهْتدَاءُ التَّامُّ؛ فإنَّ أَحَادِيثَهُ الكَثيرَةَ مَعَ نُصوصِ القُرْآنِ تُبَيِّنُ أنَّ أَهْلَ الكَبَائرِ مُعَرَّضُونَ للخَوْفِ؛ لَمْ يَحْصُلْ لَهُم الأمنُ التَّامُّ والاهتداءُ التامُّ الذِي يكونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؛ صراطِ الذينَ أَنْعمَ اللهُ عليْهِم، مِنْ غيرِ عذابٍ يَحْصُلُ لهُم، بلْ مَعَهُمْ أصلُ الاهْتداءِ إلى هذا الصِّرَاطِ؛ ومعَهُم أَصْلُ نِعْمَةِ اللهِ عليهم، ولاَ بُدَّ لَهُم مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ ، وقولُهُ: "إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ"، إنْ أرادَ الأكبرَ فمقصودُهُ: أنَّ مَنْ لمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فهوَ آمِنٌ مِمَّا وُعِدَ بهِ المُشْرِكونَ مِنْ عذابِ الدُّنيا والآخِرَةِ، وإنْ كَانَ مُرَادُهُ جِنْسَ الشِّرْكِ، فيُقَالُ: ظُلْمُ العَبْدِ لنَفْسِهِ، كَبُخْلِهِ لِحُبِّ المَالِ ببَعْضِ الواجِبِ، هوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وحُبُّهُ مَا يَبْغَضُهُ اللهُ تَعَالَى حَتَّى يُقَدِّمَ هَوَاهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ، ونحوَ ذلكَ. فهذا فَاتَهُ مِن الأمنِ والاهْتِداءِ بِحَسَبِهِ؛ ولهذا كَانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذنبَ في هذَا الشرْكِ بهذا الاعتبارِ. انتهى مُلَخَّصًا.
وقالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قولُهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}، قالَ الصَّحابَةُ: وَأَيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ قَالَ: "ذَلِكَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ العَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟".
فلَمَّا أَشْكَلَ عليهم المرادُ بالظُّلمِ فَظَنُّوا أنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ دَاخِلٌ فيهِ، وأنَّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أيَّ ظُلْمٍ كَانَ لمْ يكُنْ آمِنًا ولا مُهْتَدِيًا، أَجَابَهُم صَلَواتُ اللهِ وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ بأنَّ الظُّلْمَ الرَّافِعَ للأمْنِ والهدايةِ على الإطلاقِ هوَ الشرْكُ ، وهذا واللهِ هوَ الجَوابُ الذي يَشْفِي العَلِيلَ، ويَرْوِي الغَلِيلَ؛ فإنَّ الظُّلمَ المُطْلَقَ التامَّ هوَ الشَّرْكُ، الذي هوَ وَضْعُ العِبَادَةِ في غَيرِ مَوْضِعِها، والأمنُ والهُدَى المطلقُ هو الأمنُ في الدُّنيا والآخِرَةِ والهُدَى إلى الصراطِ المستقيمِ، فالظُّلمُ المُطْلَقُ التامُّ رافعٌ للأمْنِ والهدى المُطْلَقِ التامِّ، ولا يَمْنَعُ أنْ يكونَ مطلقُ الظلمِ مانعًا مِنْ مُطْلَقِ الأمْنِ ومُطْلَقِ الهُدَى، فَتَأَمَّلْهُ، فالمُطْلَقُ للمُطْلَقِ، والحِصَّةُ للحِصَّةِ. انتهى مُلَخَّصًا.
(2) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وعنْ عُبَادةَ بنِ الصامتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، والجنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ" أَخْرَجَاهُ) .
عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ بنِ قَيْسٍ الأنصارِيُّ الخَزْرَجِيُّ أبو الوليدِ، أَحَدُ النُّقَبَاءِ، بَدْرِيٌّ مشهورٌ ماتَ بالرَّمْلَةِ سَنَةَ أربعٍ وثلاثينَ ولهُ اثنتانِ وسبعونَ سَنَةً؛ وقِيلَ: عَاشَ إِلَى خِلاَفَةِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" أيْ: مَنْ تَكَلَّمَ بها عارفًا لمَعْنَاهَا، عَامِلاً بِمُقْتَضَاهَا باطنًا وظاهرًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ}[مُحَمَّد:19]، وقوْلِهِ: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزُّخْرُف:86] ، أمَّا النُّطْقُ بها مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ لمَعْنَاهَا ولاَ يقينٍ ولاَ عَمَلٍ بِمَا تَقْتَضِيهِ مِن نفيِ الشِّرْكِ وإخْلاَصِ القَوْلِ والعَمَلِ؛ قولِ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلِ القلبِ والجَوارِحِ، فَغَيْرُ نَافِعٍ بالإجْمَاعِ.
قالَ في المُفْهِمِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ: بابٌ: لا يَكْفِي مُجَرَّدُ التلَفُّظِ بالشَّهَادَتَيْنِ؛ بلْ لاَ بُدَّ مِن اسْتِيقَانِ القَلْبِ ؛ هذهِ التَّرْجَمَةُ تَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ المُرْجِئَةِ القَائِلِينَ بأنَّ التلَفُّظَ بالشهادَتَيْنِ كافٍ في الإيمانِ ، وأحادِيثُ هذا البابِ تَدُلُّ على فَسَادِهِ، بلْ هوَ مَذْهَبٌ مَعْلومُ الفَسَادِ مِن الشَّرِيعَةِ لِمَنْ وَقَفَ عليها، ولأنَّهُ يَلْزَمُ منهُ تَسْوِيغُ النِّفَاقِ والحُكْمُ للمنافقِ بالإيمانِ الصَّحيحِ، وهوَ بَاطِلٌ قَطْعًا. انتهى.
وفي هذا الحديثِ مَا يَدُلُّ على هذا،وهوَ قولُهُ: "مَنْ شَهِدَ"؛ فإنَّ الشَّهَادَةَ لاَ تَصْلُحُ إلاَّ إذا كَانَتْ عنْ عِلْمٍ ويقينٍ.
قالَ النَّوَوِيُّ: هذا حديثٌ عظيمٌ جليلُ المَوْقِعِ، وهو أَجْمَعُ - أوْ مِنْ أَجْمَعِ - الأحاديثِ المُشْتَمِلَةِ عَلَى العقائدِ؛ فإنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فيهِ مَا يُخْرِجُ مِنْ مِلَلِ الكُفْرِ على اختلافِ عقائدِهِم وتَبَاعُدِهَا، فاقْتَصَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذهِ الأَحْرُفِ على ما يُبَايِنُ بِهِ جَمْيعَهُم. انتهى.
ومعنى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) أي: لاَ مَعْبُودَ حَقٌّ إلاَّ اللهُ، وهوَ في مَواضِعَ مِن القرآنِ، ويأتيكَ في قَوْلِ الْبِقَاعِيِّ صَرِيحًا.
قولُهُ: (وَحْدَهُ) تأكيدٌ للإثْباتِ، (لاَ شَرِيكَ لَهُ) تأكيدٌ للنَّفْيِ، قَالَهُ الحافِظُ، كَمَا قالَ تَعَالَى: {وَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163] ، وقالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25] ، وقالَ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:65]، فأَجَابُوا رَدًّا عليهِ بِقَوْلِهِم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}[الأعراف:70] ، وقَالَ تَعَالَى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[الحجّ:62] ، فَتَضَمَّنَ ذلكَ نَفْيَ الإلَهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللهِ، وهيَ العِبَادَةُ، وإِثْباتَهَا للهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، والقرآنُ مِنْ أوَّلِهِ إلى آخرِهِ يُبَيِّنُ هذا ويُقَرِّرُهُ ويُرْشِدُ إليهِ.
فالعِبَادَةُ بِجَمِيعِ أَنْواعِها إنَّما تَصْدُرُ عنْ تَأَلُّهِ القلبِ بِالْحُبِّ والخُضُوعِ والتذلُّلِ رَغَبًا وَرَهَبًا، وهذا كُلُّهُ لاَ يَسْتَحِقُّهُ إلاَّ اللهُ تَعَالَى، كَمَا تَقَدَّمَ في أَدِلَّةِ هذا البابِ ومَا قَبْلَهُ، فَمَنْ صَرَفَ مِنْ ذلكَ شيئًا لغيرِ اللهِ فَقَد جَعَلَهُ نِدًّا للهِ، فَلاَ يَنْفَعُهُ مَعَ ذلكَ قولٌ ولاَ عَمَلٌ.
ذِكْرُ كَلاَمِ العُلَمَاءِ في مَعْنَى الإلهِ:
قَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ ابنِ عَبَّاسٍ، وقَالَ الوزيرُ أبو المُظَفَّرِ في الإفْصاحِ: قولُهُ: (شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَالِمًا بأَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ} قالَ: واسمُ {اللهِ} مرتفعٌ بعدَ {إِلاَّ}مِنْ حيثُ إنَّهُ الواجبُ لهُ الإلهيَّةُ، فَلاَ يَسْتَحِقُّها غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ ، قالَ: وجُمْلَةُ الفائدَةِ في ذلكَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ هذِهِ الكلمةَ مُشْتَمِلَةٌ على الكفرِ بالطاغوتِ والإيمَانِ باللهِ، فإنَّكَ لَمَّا نَفَيْتَ الإلهيَّةَ وأَثْبَتَّ الإيجَابَ للهِ تعالى كُنْتَ مِمَّنْ كَفَرَ بالطَّاغُوتِ وآمَنَ باللهِ.
وقَالَ في البَدَائِعِ رَدًّا لقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ المُسْتَثْنَى مُخْرَجٌ مِن المنفيّ ، قَالَ: بَل هوَ مُخْرَجٌ مِن المنفيِّ وحُكْمِهِ، فَلاَ يكونُ داخِلاً في المنفيِّ؛ إذ لوْ كانَ كذلكَ لم يَدْخُلِ الرَّجُلُ في الإسلاَمِ بقولِ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ؛ لأَنَّهُ لمْ يُثْبِت الإلَهِيَّةَ للهِ تَعَالَى، وهذهِ أعْظَمُ كَلِمَةٍ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ الإلَهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللهِ، وإِثْباتَهَا لهُ بِوَصْفِ الاخْتِصاصِ، فَدَلاَلَتُها عَلَى إِثْباتِ إلَهِيَّتِهِ أعْظمُ مِنْ دَلاَلَةِ قَوْلِنَا: (اللهُ إِلَهٌ)، ولاَ يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ في هذا الْبَتَّة. انتهى بمعناهُ.
قُلْتُ: ولا رَيْبَ أنَّه لَمْ يَدْخُلْ في المَنْفَيِّ أَصْلاً؛ لأنَّ المُرادَ مِن هذه الكلمةِ إفرادُه تعالى بالإلهيَّةِ في قَلْبِ المُوَحِّدِ وقولِهِ وعملِهِ، كَمَا دَلَّت عليه الآياتُ المُحْكَماتُ، كَمَا أَخْبَرَ عن دَعْوةِ رُسلِهِ {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[المؤمنون:32] فنَفَوْا الإلهيَّةَ عمَّا سِوَى اللهِ تعالى، وأَثْبَتُوها للهِ وَحْدَه ، فإنَّه تعالى هو المُتَّصِفُ بِتَفَرُّدِهِ بالإلهيَّةِ أَزَلاً وأَبَدًا؛ كَمَا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ}[الأعراف:70] ، أَرادُوا أن يُدْخِلُوه في جُملةِ آلهتِهم في العبادةِ، وأَنْكَرُوا أن تَكونَ العِبادةُ له وَحْدَه، مع معرفتِهم أنَّ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ تُبْطِلُ ذلك ، وتَسْوِيةُ آلهتِهم بِاللهِ في العبادةِ: هو الشِّركُ الأَكْبَرُ، الذي يُوجِبُ الْخُلودَ في النَّارِ، فالمُوَحِّدُ مُخالِفٌ للمُشْرِكِ في قولِهِ وفعلِهِ ونيَّتِهِ، وهذا ظاهرٌ لا خَفاءَ بِهِ، بِحَمْدِ اللهِ.
وقالَ أبو عبدِ اللهِ القرطبيُّ في تفسيرِ {لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ}، أيْ لاَ مَعْبُودَ إلاَّ هوَ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الإلَهُ مِنْ أَسْماءِ الأجْنَاسِ، كالرَّجُلِ والفَرَسِ، يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ بِحَقٍّ أوْ باطِلٍ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى المَعْبودِ بِحَقٍّ.
قَالَ شَيخُ الإسْلاَمِ: الإلَهُ هوَ المَعْبودُ المُطَاعُ؛ فإنَّ الإلَهَ هوَ المأْلُوهُ، والمأْلُوهُ هوَ الذي يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ، وكَوْنُهُ يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ هوَ بما اتَّصَفَ بِهِ مِن الصِّفاتِ التي تَسْتَلْزِمُ أنْ يَكُونَ هوَ المَحْبوبَ غَايَةَ الْحُبِّ، المَخْضُوعَ لَهُ غَايَةَ الخُضُوعِ.
وقَالَ رَحِمَه اللهُ تعالى: فإنَّ الإلَهَ هوَ المَحْبوبُ المعبودُ الذي تَأْلَهُهُ القُلُوبُ بِحُبِّهَا، وتَخْضَعُ لَهُ وتَذِلُّ لهُ، وتَخَافُهُ وترجُوهُ، وتُنِيبُ إليهِ في شَدَائِدِها، وتَدْعُوهُ في مَهَمَّاتِها، وتَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ في مَصَالِحِهَا، وتَلْجَأُ إليهِ وتَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، وتَسْكُنُ إلى حُبِّهِ، ولَيْسَ ذلكَ إِلاَّ للهِ وحدَهُ؛ ولِهَذا كَانَتْ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) أَصْدَقَ الكَلاَمِ، وكانَ أَهْلُها أَهْلَ اللهِ وحِزْبَه، والمُنْكِرُونَ لَهَا أَعدَاءَهُ، وأهلَ غَضَبِهِ ونِقْمَتِهِ، فإذا صَحَّتْ صَحَّ بِهَا كُلُّ مَسْأَلَةٍ وحالٍ وذَوْقٍ، وإذا لمْ يُصَحِّحْها العَبْدُ فالفَسَادُ لاَزِمٌ لَهُ في عُلُومِهِ وأَعْمَالِهِ.
وقالَ ابنُ القَيِّمِ: الإلَهُ هوَ الذي تَأْلَهُهُ القُلُوبُ مَحَبَّةً وإِجْلاَلاً وَإِنَابَةً، وإِكْرَامًا وتَعْظِيمًا، وذُلاًّ وخُضُوعًا، وخَوْفًا ورجاءً، وتَوَكُّلاً.
وقالَ ابنُ رَجَبٍ: الإلهُ هوَ الذي يُطاعُ فَلاَ يُعْصَى؛ هيبةً لهُ وإجلالاً، ومَحَبَّةً وخَوْفًا ورَجَاءً، وتَوَكُّلاً عَلَيْهِ، وسُؤَالاً منهُ ودُعاءً لهُ، ولاَ يَصْلُحُ ذلك كُلُّهُ إلاَّ للهِ عَزَّ وجَلَّ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَخْلُوقًا فِي شَيْءٍ مِنْ هذِهِ الأُمُورِ التي هيَ مِنْ خَصَائِصِ الإلَهِيَّةِ كَانَ ذلكَ قَدْحًا في إِخْلاَصِهِ في قَوْلِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)، وكَانَ فيهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ المَخْلُوقِ بِحَسَبِ مَا فيهِ مِنْ ذلكَ.
وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) أي انْتَفَى انْتِفَاءً عَظِيمًا أنْ يَكُونَ مَعْبودٌ بِحَقٍّ غَيْرَ المَلِكِ الأَعْظَمِ؛ فإِنَّ هذَا العِلْمَ هوَ أَعْظَمُ الذِّكْرَى المُنْجِيةِ مِنْ أهوالِ الساعةِ، وإنَّما يَكُونَ عِلْمًا إذا كانَ نافعًا، وإنَّما يَكُونُ نَافِعًا إذا كَانَ مَعَ الإذْعَانِ والعَمَلِ بِمَا تَقْتَضِيهِ، وإِلاَّ فَهُوَ جَهْلٌ صِرْفٌ.
وقَالَ الطَّيِّبِيُّ: الإلهُ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْكِتَابِ بمعنَى المكتوبِ، مِنْ: أَلَهَ إِلَهَةً، أيْ: عَبَدَ عِبَادَةً.
قال الشَّارحُ: وهذا كثيرٌ في كلامِ العُلماءِ، وإِجْماعٌ منهم أنَّ الإلهَ هو المَعْبُودُ، خِلافًا لِمَا يَعْتَقِدُه عُبَّادُ القُبورِ وجَهَلةُ المُتَكَلِّمِينَ، من أنَّ مَعْناه: هو الخَالقُ والقادرُ على الاخْتراعِ، ونحوَ ذلك، ويَظُنُّون أنَّهم إذا قالُوها فقد أَتَوْا من التَّوحيدِ بالغايةِ القُصْوَى، ولو فَعَلُوا ما فَعَلُوا من عِبادةِ غيرِ اللهِ كَدَعْوةِ الأَمْواتِ، والاسْتِغاثةِ بهم في الكُرُباتِ والنَّذْرِ في المُلِمَّاتِ، إلى غيرِ ذلك مِن أنواعِ العِباداتِ ، وما شَعَرُوا أنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ وغيرَهم يُشارِكُونَهم في الإقرارِ بهذا المَعْنى، ويَعْتَقِدُون أنَّ اللهَ هو الخالقُ القادرُ على الاختراعِ، كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:9] ، فأَخْبَرَ تعالى عنهم أَنَّهم اتَّخَذُوا الأولياءَ مِن دونِهِ،وقالوا: {مَا نَعبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزُّمَر:3]، فتَبًّا لِمَن كان أبو جَهْلٍ ورُؤوسُ الكُفْرِ مِن قُرَيْشٍ وغيرُهم أَعْلَمَ منه بِمَعْنَى لا إلهَ إلاَّ اللهُ!! قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}[الصافات:35،36] فعَرَفُوا أنَّها تَدُلُّ على تَرْكِ عِبادةِ مَعْبُوداتِهِ.
قُلْتُ: ودَلالتُها على هذا دَلالةُ تَضَمُّنٍ، وأنَّ ذلك يَقْتَضِي إِخْلاصَ العِبادةِ للهِ وحدَه، فدَلالتُها على نَفْيِ الإلهيَّةِ وعِبادتِها، وإِفْرادِ اللهِ تعالى بِالعِبادةِ دَلالةُ مُطابَقةٍ ، فَدَلَّتْ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) عَلَى نَفْيِ العبادةِ عنْ كلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى كَائِنًا مَا كَانَ، وإثباتِ الإلهيَّةِ للهِ وحْدَهُ دونَ مَا سِوَاهُ،وهذا هوَ التَّوْحِيدُ الذي دَعَتْ إِلَيهِ الرُّسلُ ودَلَّ عَلَيهِ القُرْآنُ مِنْ أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عن الجنِّ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجنّ:1،2]، فَـ (لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ) لاَ تَنْفَعُ إلاَّ مَنْ عَرَفَ مَدْلولَها نَفْيًا وإِثْباتًا، واعْتَقَدَ ذلكَ وَقَبِلَهُ وعَمِلَ بهِ، وأمَّا مَنْ قَالَها عنْ غيرِ عِلْمٍ واعتقادٍ وعملٍ، فقدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ العلماءِ أنَّ هذا جَهْلٌ صِرْفٌ، فهو حُجَّةٌ عَلَيهِ بِلاَ رَيْبٍ ، فَقَوْلُهُ في الحَدِيثِ: "وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ" تَأْكِيدٌ وبيانٌ لمَضْمُونِ معناها، وقَد أَوْضَحَ اللهُ تعالى ذلكَ وبيَّنَهُ في قَصَصِ الأنبياءِ والمُرْسَلِينَ في كِتَابِهِ المُبِينِ .
فَمَا أَجْهَلَ عُبَّادَ القُبورِ بِحَالِهِم! ومَا أَعْظَمَ ما وقَعُوا فيهِ؛ فإنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ ونحْوَهُم جَحَدُوا (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) لَفْظًا ومعنًى، وهؤلاءِ المُشرِكُونَ أَقَرُّوا بِهَا لفْظًا وجَحَدُوهَا مَعْنًى، فَتَجِدُ أَحَدَهم يَقُولُها وهو يَأْلَهُ غَيْرَ اللهِ بأَنْواعِ العبادَةِ، كالْحُبِّ والتَّعْظيمِ، والخَوْفِ والرَّجَاءِ، والتَّوكُّلِ والدُّعَاءِ، وغَيْرِ ذلكَ مِنْ أنواعِ العبادَةِ.
بلْ زَادَ شِرْكُهُم عَلَى شِرْكِ العَرَبِ بِمَرَاتِبَ؛ فإنَّ أَكثرَهم إذا وَقَعَ في شِدَّةٍ أخْلَصَ الدُّعَاءَ لغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، ويَعْتَقِدونَ أَنَّهُ أَسْرَعُ فَرَجًا لَهُم، بِخِلاَفِ حَالِ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ؛ فإنَّهم يُشْرِكُونَ في الرَّخَاءِ، وأَمَّا في الشَدَائِدِ فإِنَّما يُخْلِصُونَ للهِ وحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:65]، فبهذا تَبَيَّنَ أنَّ مُشْرِكِي أَهْلِ هذهِ الأزْمانِ أَجْهَلُ باللهِ وبتَوْحِيدِهِ مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ ومَنْ قَبْلَهُم.
وقولُهُ: ("وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ") أيْ وَشَهِدَ بذلكَ، وهوَ مَعْطوفٌ على ما قَبْلَهُ على نِيَّةِ تَكْرارِ العَامِلِ، ومَعْنَى (العَبْدِ) هُنا المَمْلُوكُ العابِدُ، أيْ: أَنَّهُ مملوكٌ للهِ تعالى، والعبودِيَّةُ الخاصَّةُ وَصْفُهُ، كمَا قالَ تَعالَى {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزُّمَر:36] فأَعْلَى مَرَاتِبِ العَبْدِ العُبُودِيَّةُ الخَاصَّةُ والرِّسَالَةُ؛ فالنَّبِيُّ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الخَلْقِ في هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ، وأمَّا الرُّبُوبِيَّةُ والإلهيَّةُ فَهُمَا حَقُّ اللهِ تَعَالَى، لاَ يُشْارِكُهُ في شيءٍ منْهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
وقَوْلُهُ: ("عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ") أتَى بهاتَيْنِ الصفَتَيْنِ وجَمَعَهُما دَفْعًا للإفراطِ والتفريطِ؛ فإنَّ كثيرًا ممَّنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْرَطَ بالغُلُوِّ قَوْلاً وفِعْلاً، وفَرَّطَ بتَرْكِ مُتَابَعَتِهِ، واعْتَمَدَ على الآراءِ المخالِفَةِ لِمَا جَاءَ بِهِ، وتَعَسَّفَ في تأويلِ أخبارِهِ وأحْكامِهِ بصَرْفِها عنْ مدْلُولِهَا والصَّدْفِ عن الانْقِيادِ لَها مَعَ اطِّرَاحِهَا؛ فإنَّ شَهَادَةَ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُهُ تَقْتَضِي الإيمانَ بهِ وتَصْدِيقَهُ فيما أَخْبَرَ، وطاعتَهُ فيما أمَرَ، والانتهاءَ عَمَّا عنهُ زَجَرَ، وأنْ يُعَظِّمَ أَمْرَهُ ونَهْيَهُ، ولاَ يُقَدِّمَ عَلَيهِ قَوْلَ أحَدٍ كائنًا مَنْ كانَ، والواقِعُ اليومَ وقَبْلَهُ خلافُ ذلكَ، واللهُ المُسْتعانُ.
ورَوَى الدَّارِميُّ في مُسْنَدِهِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا لَنَجِدُ صِفةَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا ونَذِيرًا وحِرْزًا للأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي ورَسُولِي، سمَّيتُهُ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ ولاَ غَلِيظٍ، ولا صَخَّابٍ بالأسواقِ، ولاَ يَجْزِي بالسَّيِّئَةِ مِثْلَها، ولَكِنْ يَعْفُو ويَتَجَاوَزُ، لَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى يُقيمَ الملَّةَ المُتَعَوِّجَةَ بأنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، يَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وآذَانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلْفًا. قَالَ عَطَاءُ بنُ يَسَارٍ: وأَخْبَرَنِي أبو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ ابنُ سَلاَمٍ.
قولُهُ: ("وَأنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ") أيْ خِلاَفًا لِمَا يَعْتَقِدُهُ النَّصارَى أَنَّهُ اللهُ أو ابنُ اللهِ، أوْ ثَالثُ ثَلاَثَةٍ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كبيرًا، {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ}[المؤمنونَ:91]، فَلاَ بُدَّ أنْ يَشْهَدَ أنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ عَلَى عِلْمٍ ويَقِينٍ بأَنَّهُ مَمْلُوكٌ للهِ، خَلَقَهُ مِنْ أُنْثَى بِلاَ ذَكَرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمرانَ:59]، فلَيْسَ رَبًّا ولاَ إلَهًا، سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}
[مَرْيَم:29،30] ، وقَالَ: {لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا}[النساء:172] ، ويَشْهَدُ المؤمنُ أيضًا ببُطْلاَنِ قولِ أعْدَائِهِ اليهودِ: إِنَّهُ وَلَدُ بَغِيٍّ، لَعَنَهُم اللهُ ، فَلاَ يَصِحُّ إِسْلاَمُ أَحَدٍ حَتَّى يَتَبرَّأَ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا في عِيسَى عليهِ السَّلاَمُ، ويَعْتَقِدُ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى فيهِ: إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ.
قولُهُ: ("وَكَلِمَتُهُ") إنَّما سُمِّيَ عِيسَى عليهِ السَّلاَمُ كلمتَه لِوُجُودِهِ بقَوْلِهِ (كُنْ) كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ مِن المُفَسِّرِينَ ؛ قَالَ الإِمامُ أَحْمَدُ في الرَّدِّ عَلَى الجَهْمِيَّةِ: الكَلِمَةُ التي أَلْقاها إلى مَرْيمَ حِينَ قَالَ لهُ: (كُنْ)، فَكَانَ عِيسَى بِكُنْ، وليسَ عيسَى هوَ(كُنْ)، ولَكِنْ كَانَ بـ (كُنْ). فكُنْ مِن اللهِ تَعَالَى قَوْلا، وليسَ(كُنْ) مَخْلُوقًا، وكَذَبَ النَّصَارَى والجَهمِيَّةُ عَلَى اللهِ في أَمْرِ عيسَى. انتهى.
وقولُهُ: ("أَلْقاهَا إِلى مَرْيَمَ") قالَ ابنُ كَثِيرٍ: خَلَقَهُ بالْكَلِمةِ التي أَرْسَلَ بها جَبْرائِيلَ عليه السلامُ إلى مَرْيمَ، فنَفَخَ مِنْ رُوحِهِ بأمْرِ رَبِّهِ عزَّ وجَلَّ، فكَانَ عيسَى بإذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فهوَ ناشئٌ عن الكَلِمَةِ التي قَالَ لهُ (كُنْ) فكَانَ، والرُّوحِ التي أَرْسَلَ بها جَبْرائِيلَ عَلَيهِ السَّلامُ.
قولُهُ: ("وَرُوحٌ مِنْهُ") قَالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: عِيسَى رُوحٌ مِن الأَرْواحِ التي خَلَقَها اللهُ تعالى واسْتَنْطَقَها بقولِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلَى}[الأعراف:172]، بَعَثَه اللهُ إلى مَرْيمَ فَدَخَلَ فيهَا، رَواهُ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ وعَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ في زوائدِ المُسْنَدِ وابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حَاتمٍ وغَيرُهم.
قَالَ الحافظُ: وَوَصَفَهُ بأَنَّهُ مِنهُ، فالمَعْنَى أَنَّهُ كائنٌ منهُ، كَمَا في قولِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}[الجاثية: 13]، فالمَعْنَى أَنَّهُ كائنٌ منهُ، كَمَا أنَّ مَعْنَى الآيةِ الأُخْرَى أَنَّهُ سَخَّرَ هذهِ الأشياءَ كائنةً منهُ، أيْ: أَنَّهُ مُكَوِّنٌ ذلكَ ومُوجِدُهُ بقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ.
قالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ: المُضافُ إلى اللهِ تَعَالَى إذَا كانَ مَعْنًى لاَ يَقُومُ بنَفْسِهِ ولاَ بِغَيْرِهِ مِن المَخْلُوقاتِ وَجَبَ أنْ يَكُونَ صفةً للهِ تَعَالَى قائمةً بِهِ، وامْتَنَعَ أنْ تَكُونَ إضَافتُها إضافةَ مَخْلوقٍ مَرْبُوبٍ. فإذا كَانَ المُضافُ عَيْنًا قَائِمَةً بنَفْسِهَا، كعيسَى وجَبْرائِيلَ عَلَيْهِما السَّلاَمُ وأَرْواحِ بني آدمَ، امْتَنَعَ أنْ تَكُونَ صِفَةً للهِ تَعَالَى؛ لأنَّ مَا قَامَ بنَفْسِهِ لاَ يكونُ صِفَةً لغَيْرِهِ ، لكنَّ الأَعْيانَ المُضَافَةَ إلى اللهِ عَلَى وجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنْ تُضَافَ إليهِ لِكَوْنِهِ خَلَقَها وأَبْدَعَها، فهذا شَامِلٌ لجَمِيعِ المخلوقاتِ، كقولِهِم: سماءُ اللهِ، وأَرْضُ اللهِ، فجَمِيعُ المَخْلُوقِينَ عَبيدُ اللهِ، وجَمِيعُ المالِ مالُ اللهِ.
الوَجْهُ الثَّانِي: أنْ يُضَافَ إليهِ لِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ مَعْنًى يُحِبُّهُ ويَأْمُرُ بِهِ ويَرْضَاهُ، كَمَا خَصَّ البَيْتَ العَتِيقَ بِعبادَةٍ فيهِ لاَ تَكُونُ في غَيْرِهِ، وكَمَا يُقَالُ عن مَالِ والفَيْءِ الخُمُسِ: هوَ مَالُ اللهِ ورسُولِهِ .
ومِنْ هذا الوَجْهِ: فعِبَادُ اللهِ هم الذينَ عَبَدُوهُ وأَطَاعُوا أمْرَهُ؛ فهَذِهِ إِضَافَةٌ تَتَضَمَّنُ أُلوهِيَّتَهُ وشَرْعَهُ ودِينَهُ، وتلكَ إضافةٌ تَتَضَمَّنُ رُبُوبِيَّتَهُ وخَلْقَهُ. انتهى مُلَخَّصًا.
قولُهُ: ("والجَنَّةَ حَقٌّ والنَّارَ حَقٌّ") أيْ وشَهِدَ أنَّ الجَنَّةَ التي أَخْبَرَ بِهَا تَعَالَى في كِتَابِهِ أَنَّهُ أَعَدَّهَا للمُتَّقِينَ حقٌّ ثَابِتَةٌ لاَ شَكَّ فيها، وشَهِدَ أنَّ النَّارَ التي أَخْبَرَ بِهَا تَعَالَى في كِتَابِهِ أَنَّهُ أَعَدَّها للكَافِرينَ حَقٌّ، كذلكَ ثابتةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21]، وقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24]، وفي الآيَتَيْنِ ونَظَائرِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ مخلوقَتَانِ الآنَ، خِلاَفًا للمُبْتَدِعَةِ، وفيهما الإيمانُ بالمَعَادِ.
قولُهُ: ("أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ علَى مَا كَانَ مِن العَمَلِ") هذهِ الجُمْلَةُ جوابُ الشَّرْطِ، وفي رِوَايَةٍ: ("أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ")؛ قَالَ الحافظُ: ومَعْنَى قولِهِ: "عَلَى مَا كانَ مِن العَمَلِ"، أيْ مِنْ صَلاَحٍ أوْ فَسَادٍ؛ لكنَّ أَهْلَ التَّوْحيدِ لاَ بُدَّ لَهُم مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "عَلَى مَا كَانَ مِن العَمَلِ" أي يُدْخِلَ أَهْلَ الجَنَّةِ الجنةَ عَلَى حَسَبِ أَعْمالِ كلٍّ مِنْهم في الدَّرَجَاتِ. انتهى.
قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: مَا وَرَدَ في حَدِيثِ عُبَادَةَ يكُونُ مَخْصُوصًا لِمَنْ قَالَ مَا ذَكَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَرَنَ بالشَّهادَتَيْنِ حَقِيقَةَ الإيمانِ والتَّوْحيدِ الذي وَرَدَ في حدِيثِهِ، فيكونُ لهُ مِن الأجْرِ ما يَرْجَحُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ويُوجِبُ لهُ المغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ ودُخُولَ الجَنَّةِ لأَوَّلِ وَهْلَةٍ.
قال العَلاَّمةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى: والمَقْصُودُ أنَّ كلمةَ التَّوْحِيدِ إذا شَهِدَ بِها المُؤْمِنُ عارِفًا لِمَعْناها وحَقِيقَتِه نَفْيًا وإِثْباتًا، مُتَّصِفًا بِمُوجَبِها قائِمًا قَلْبُه ولِسانُهُ وجَوَارِحُهُ بِشَهادَتِهِ، فهذه الكلمةُ من هذا الشَّاهدِ، أَصْلُها ثابتٌ راسِخٌ في قَلْبِهِ، وفُروعُهَا مُتَّصِلةٌ في السَّماءِ، وهي مُخْرِجةٌ لِثَمَرَتِها كُلَّ وَقْتٍ. انْتَهَى.
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وَلَهُمَا في حدِيثِ عِتْبَانَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ"). قَوْلُهُ: (ولَهُمَا) أي: البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ في صَحِيحَيْهِما بكَمَالِهِ، وهذا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَ(عِتْبَانُ) بكَسْرِ المُهْمَلَةِ بَعَدَها مُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ ثمَّ مُوَحَّدَةٌ، ابنُ مالكِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَجْلاَنِ الأنْصارِيُّ، مِنْ بَنِي سَالِمِ بنِ عَوْفٍ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، مَاتَ في خِلاَفَةِ مُعاوِيَةَ.
وأَخَرَجَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ بِسَنَدِهِ عنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنا أنسُ بنُ مالكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: "يَا مُعَاذُ" ، قَالَ: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "يَامُعَاذُ" ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "يَا مُعَاذُ" ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاَثًا، قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالى عَلَى النَّارِ" ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: "إِذًا يَتَّكِلُوا" ، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
وسَاقَ بسَنَدٍ آخَرَ: حَدَّثَنا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ: "مَنْ لَقِيَ اللهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ" ، قَالَ: أَفلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: "لاَ؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا" .
قُلتُ: فَتَبَيَّنَ بهذا السياقِ مَعْنَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّها تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الشِّرْكِ لِمَنْ قَالَها بِصِدْقٍ ويَقَينٍ وإِخْلاَصٍ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ وغيرُهُ في هذا الحديثِ ونحوِهِ: إنَّها فِيمَنْ قَالَها ومَاتَ عَلَيْهَا، كَمَا جاءَتْ مُقَيَّدَةً بقَوْلِهِ: "خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهَا بِصِدْقٍ ويَقِينٍ" فإنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ انْجِذَابُ الرُّوحِ إلى اللهِ تَعَالَى جُمْلَةً، فمَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ؛ لأَِنَّ الإخْلاَصَ هوَ انْجِذَابُ القَلْبِ إلى اللهِ تَعَالَى بأنْ يَتُوبَ مِن الذُّنوبِ تَوْبَةً نَصُوحًا، فإذا مَاتَ عَلَى تلكَ الحالِ نَالَ ذلكَ، فإنَّهُ قَدْ تَواتَرَت الأَحادِيثُ بأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَكَانَ في قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، وَمَا يَزِنُ خَرْدَلَةً، وَمَا يَزِنُ ذَرَّةً ، وتَواتَرَت بأنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ منها، وتَوَاتَرَتْ بأنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ مِن ابنِ آدَمَ، فهؤلاءِ كانُوا يُصَلُّونَ ويَسْجُدُونَ لله، وتَوَاتَرَتْ بأَنَّ اللهَ يُحَرِّمُ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وشَهِدَ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، لَكِنْ جَاءتْ مُقَيَّدةً بالقُيُودِ الثِّقَالِ.
وأكثرُ مَنْ يَقُولُها لاَ يَعْرِفُ الإِخْلاَصَ، وأَكْثرُ مَنْ يَقُولُها إنَّما يَقُولُها تَقْليدًا أوْ عَادَةً، ولم يُخَالِط الإيمانُ بَشَاشَةَ قَلْبِهِ، وغَالِبُ مَنْ يُفْتَنُ عندَ الموتِ وفي القُبُورِ أَمْثالُ هؤلاءِ، كَمَا في الحَدِيثِ: "سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونُ شَيْئًا فَقُلْتُهُ" وغَالِبُ أَعْمَالِ هؤلاءِ إنَّما هوَ تَقْلِيدٌ واقتداءٌ بأمْثَالِهِم، وهمْ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْ قولِهِ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزُّخْرُف:23].
وحِينَئذٍ فَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَ الأحَادِيثِ؛ فإنَّهُ إذَا قَالَها بإخْلاَصٍ ويَقِينٍ تَامٍّ لَمْ يَكُنْ في هَذِهِ الحَالِ مُصِرًّا على ذَنْبٍ أصْلاً، فإنَّ كَمَالَ إِخْلاَصِهِ ويَقِينِهِ يُوجِبُ أنْ يكونَ اللهُ أَحَبَّ إليهِ مِنْ كلِّ شَيْءٍ، فإذًا لاَ يَبْقَى في قَلْبِهِ إرَادَةٌ لِمَا حَرَّمَ اللهُ، ولاَ كَرَاهَةٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ، وهذَا هوَ الذِي يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ وإِنْ كَانَتْ لَه ذُنوبٌ قبلَ ذلكَ، فإنَّ هذا الإيمانَ، وهذا الإخلاصَ، وهذِه التَّوْبَةَ، وهذهِ المَحَبَّةَ، وهذا اليَقِينَ، لاَ تَتْرُكُ لَهُ ذَنْبًا إلاَّ مُحِيَ عنهُ كَمَا يَمْحُو اللَّيْلَ النَّهارُ، فإِذَا قَالَها عَلَى وجْهِ الكَمَالِ المانِعِ مِن الشِّرْكِ الأَكْبَرِ والأَصْغَرِ، فَهَذَا غَيرُ مُصِرٍّ عَلَى ذَنْبٍ أصْلاً، فيُغْفَرُ لهُ ويَحْرُمُ على النَّارِ، وإنْ قَالَها عَلَى وَجْهٍ خَلُصَ بهِ مِن الشرْكِ الأكبرِ دونَ الأصْغَرِ، ولمْ يَأْتِ بَعْدَها بِمَا يُنَاقِضُ ذلكَ، فهذهِ الحَسَنَةُ لاَ يُقَاوِمُها شَيْءٌ مِن السَّيِّئاتِ، فَيُرَجَّحُ بِهَا مِيزَانُ الحَسَناتِ، كَمَا في حَدِيثِ البِطَاقَةِ فيَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، ولَكِنْ تَنْقُصُ دَرَجَتُهُ في الجَنَّةِ بِقَدْرِ ذُنوبِهِ، وهذا بِخَلاَفِ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئاتُهُ بِحَسَناتِهِ ومَاتَ مُصِرًّا عَلَى ذلكَ، فإنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّارَ، وإنْ قَالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) وخَلُصَ بِهَا مِن الشِّرْكِ الأَكْبَرِ لكنَّهُ لمْ يَمُتْ عَلَى ذلكَ، بلْ أَتَى بَعْدَها بسيِّئاتٍ رَجَحَتْ عَلَى حَسَنَةِ تَوْحِيدِهِ، فإِنَّهُ في حَالِ قَوْلِها كَانَ مُخْلِصًا لكنَّهُ أَتَى بذُنُوبٍ أَوْهَنَتْ ذلكَ التَّوْحيدَ والإخلاصَ فأَضْعَفَتْهُ، وقَوِيَتْ نَارُ الذُّنُوبِ حَتَّى أَحْرَقَتْ ذلكَ، بِخِلاَفِ المُخْلِصِ المُسْتَيْقِنِ، فإنَّ حَسَناتِهِ لاَ تَكُونُ إلاَّ رَاجِحةً على سيِّئاتِهِ، ولاَ يكونُ مُصِرًّا على سَيِّئَاتٍ، فإنْ مَاتَ عَلَى ذلكَ دَخَلَ الجَنَّةَ.
وإنَّما يُخَافُ على المُخْلِصِ أنْ يأْتِيَ بسيِّئةٍ رَاجِحَةٍ فَيَضْعُفُ إِيمَانُهُ فَلاَ يَقُولُها بإخْلاَصٍ ويقينٍ مانعٍ مِنْ جَمِيعِ السيِّئاتِ، ويُخْشَى عَلَيْهِ مِن الشِّرْكِ الأَكْبَرِ والأصغرِ، فإن سَلِمَ مِن الأكْبَرِ بَقِيَ مَعَهُ مِن الأَصْغَرِ، فيُضِيفُ إلى ذَلِكَ سيِّئاتٍ تَنْضَمُّ إلى هذا الشرْكِ فيُرَجَّحُ جانبُ السيِّئاتِ؛ فإِنَّ السيِّئاتِ تُضْعِفُ الإيمانَ واليقينَ، فَيَضْعُفُ قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، فَيَمْتَنِعُ الإِخْلاَصُ بالقَلْبِ، فَيَصِيرُ المُتَكَلِّمُ بِهَا كَالْهَاذِي أو النائمِ، أوْ مَنْ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بآيةٍ مِن القرآنِ مِنْ غيرِ ذَوْقٍ وحَلاَوةٍ، فهؤلاءِ لمْ يَقولُوها بكَمَالِ الصِّدْقِ واليَقِينِ، بلْ يَأْتُونَ بعدَها بسيِّئاتٍ تَنْقُضُ ذلكَ، بلْ يَقُولُونَها مِنْ غيرِ يَقِينٍ وصِدْقٍ، ويَمُوتُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَهم سيِّئاتٌ كثيرةٌ تَمْنَعُهم مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ، فإذا كَثُرَت الذُّنوبُ ثَقُلَ عَلَى اللسانِ قَوْلُها، وقَسَا القلبُ عنْ قولِها، وكَرِهَ العَمَلَ الصَّالِحَ، وثَقُلَ عَلَيْهِ سَمَاعُ القرآنِ، واسْتَبْشَرَ بذِكْرِ غَيْرِه، واطْمَأَنَّ إلى الباطِلِ، واسْتَحْلَى الرَّفَثَ ومُخَالَطَةَ أهلِ الباطلِ، وكَرِهَ مُخالَطَةَ أَهْلِ الحقِّ؛فَمَثَلُ هذا إذا قَالَها قَالَ بلِسانِهِ مَا لَيْسَ في قَلْبِهِ، وبِفِيهِ ما لاَ يُصَدِّقُهُ عَمَلُهُ، قَالَ الحَسَنُ: ليسَ الإيمانُ بالتَّحَلِّي ولاَ بالتَّمَنِّي، ولكنْ مَا وَقَرَ في القُلُوبِ وصَدَّقَتْهُ الأَعْمَالُ، فَمَنْ قَالَ خيرًا وعَمِلَ خَيْرًا قُبِلَ مِنْهُ، ومَنْ قَالَ خَيْرًا وعَمِلَ شرًّا لَمْ يُقْبَلْ منهُ، وقَالَ بكرُ بنُ عبدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ: مَا سَبَقَهُمْ أَبُو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بكَثْرَةِ صِيامٍ ولاَ صَلاَةٍ، ولَكِنْ بشَيْءٍ وَقَرَ في قَلْبِهِ.
فمَنْ قَالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) ولم يَقُمْ بِمُوجَبِهَا، بل اكْتَسَبَ مَعَ ذلكَ ذُنوبًا، وكَانَ صَادِقًا في قَوْلِها مُوقِنًا بِهَا، لَكِنْ لهُ ذنوبٌ أَضْعَفَتْ صِدْقَهُ ويَقِينَهُ، وانْضَافَ إلى ذلكَ الشرْكُ الأصغرُ العَمَلِيُّ، رَجَحَتْ هذهِ السيِّئاتُ عَلَى هذهِ الحَسَنَةِ، ومَاتَ مُصِرًّا على الذُّنوبِ، بِخِلاَفِ مَنْ يَقُولُها بيقينٍ وصِدْقٍ، فإنَّهُ إمَّا أنْ لاَ يكونَ مُصِرًّا على سيِّئةٍ أصْلاً، أو يكونَ تَوْحيدُهُ المُتَضَمِّنُ لصِدْقِهِ ويَقِينِهِ رجَّحَ حَسَناتِهِ.
والذينَ يَدْخُلونَ النَّارَ مِمَّن يَقُولُها لَمْ يَقُولُوها بالصِّدْقِ واليَقِينِ التَّامَّيْنِ المُنافِيَيْنِ للسيِّئاتِ أوْ لِرُجْحَانِها، أوْ قالُوها واكْتَسَبُوا بعدَ ذلكَ سيِّئاتٍ رَجَحَتْ عَلَى حَسَنَاتِهِم، ثُمَّ ضَعُفَ لذلكَ صِدْقُهم ويَقِينُهم، ثمَّ لمْ يَقُولُوها بَعْدَ ذلكَ بِصِدْقٍ ويَقِينٍ تَامٍّ؛ لأَِنَّ الذُّنوبَ قَد أَضْعَفَتْ ذلكَ الصِّدْقَ واليقينَ مِنْ قُلُوبِهم، فَقَوْلُهَا مِنْ مِثْلِ هؤلاءِ لاَ يَقْوَى عَلَى مَحْوِ السَّيِّئاتِ، فَتَرْجَحُ سيِّئاتُهم عَلَى حَسَناتِهِم. انتهى مُلَخَّصًا.
وَقَدْ ذَكَرَ هذا كَثِيرٌ مِن العُلَماءِ، كابنِ القَيِّمِ وابنِ رَجَبٍ وغَيْرِهما.
قُلْتُ: وبِمَا قَرَّرَهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ رَحِمَه اللهُ تَعالَى تَجْتَمِعُ الأَحادِيثُ.
قالَ: وفي الحديثِ دَليلٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفِي في الإيمانِ النُّطْقُ مِنْ غيرِ اعْتِقَادٍ، وبالعَكْسِ، وفيهِ تَحْريمُ النَّارِ على أهلِ التوحيدِ الكاملِ، وفيهِ أنَّ العَمَلَ لاَ يَنْفَعُ إلاَّ إذا كانَ خَالِصًا للهِ تعالى على ما شَرَعَهُ على لسانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تنبيهٌ:
قالَ القُرْطُبِيُّ في تَذْكِرَتِهِ: قولُهُ في الحديثِ: "مِنْ إِيمَانٍ" أيْ مِنْ أَعْمَالِ الإيمانِ التي هيَ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ فيكونُ فيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أنَّ الأعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِن الإيمانِ ، والدَّليلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بالإيمانِ مَا قُلْناهُ، ولم يُرِدْ مُجَرَّدَ الإيمانِ الذي هوَ التَّوْحيدُ ونَفْيُ الشُّرَكَاءِ والإِخْلاَصُ بقولِهِ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، مَا في الحَديثِ نَفْسِهِ مِنْ قولِهِ: "أَخْرِجُوا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْبِضُ سُبْحَانَهُ قَبْضَةً فَيُخْرِجُ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ" يُرِيدُ بذلكَ إلا التَّوْحيدَ المُجَرَّدَ مِن الأَعْمَالِ. انتهى مُلَخَّصًا مِنْ شَرْحِ سُنَنِ ابنِ مَاجَةَ.
(4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وعنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ ، قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، قَالَ: كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونُ هَذَا، قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالأَرَضِينَ في كِفَّةٍ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ في كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ وصَحَّحَهُ).
أبو سَعِيد: اسْمُهُ سَعْدُ بنُ مالكِ بنِ سِنَانِ بنِ عُبَيْدٍ الأنْصارِيُّ الخَزْرَجِيُّ، صَحَابِيٌّ جَليلٌ وأَبُوهُ كذلكَ، اسْتُصْغِرَ أبو سعيدٍ بِأُحُدٍ، وشَهِدَ مَا بَعْدَها، مَاتَ بالمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلاَثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وسِتِّينَ، وقيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وسبعينَ.
قولُهُ: ("أَذْكُرُكَ") أيْ أُثْنِي عَلَيْكَ، ("وَأَدْعُوكَ") أيْ أَسْأَلُكَ بِهِ.
قولُهُ: ( "قُلْ يَامُوسَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ") فيهِ أنَّ الذَاكِرَ يَقُولُها كُلَّهَا، ولاَ يَقْتَصِرُ عَلَى لفظِ الجَلاَلَةِ، ولاَ على (هُو) كَمَا يَفْعَلُهُ غُلاَةُ جُهَّالِ المُتَصَوِّفَةِ؛ فإنَّ ذلكَ بِدْعَةٌ وضَلاَلةٌ. قولُهُ: ("كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونُ هَذَا") ثَبَتَ بِخَطِّ المُصَنِّفِ بالجَمْعِ، والذي في الأُصُولِ "يقولُ" بالإِفْرَادِ مُرَاعَاةً للَفْظَةِ ("كلِّ") وهوَ في المُسْنَدِ مِنْ حَديثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عمرٍو بلفظِ الجمعِ كَمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ عَلَى مَعْنَى ( "كُلُّ")، ومَعْنَى: ("كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونُ هَذَا") إِنَّما أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بهِ منْ بَيْنِ عُمُومِ عِبَادِكَ، وفِي رِوَايَةٍ بعدَ قولِهِ: "كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونُ هَذَا"، "قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ يَا رَبِّ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ".
ولَمَّا كَانَ بالناسِ بلْ بالعالَمِ كُلِّهِ مِن الضَّرُورَةِ إِلَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) ما لاَ نِهَايةَ لهُ، كَانَتْ مِنْ أَكْثَرِ الأَذْكارِ وجُودًا، وأَيْسَرِها حُصُولاً، وأَعْظَمِها مَعْنًى، والعَوَامُّ والجُهَّالُ يَعْدِلُونَ عنها إلى الدَّعَوَاتِ المُبْتَدَعَةِ التي ليْسَتْ في الكتابِ ولاَ في السُّنَّةِ.
قولُهُ: ("وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي") هوَ بالنَّصْبِ عَطْفٌ على السماواتِ، أيْ لوْ أنَّ السماواتِ السبعَ ومَنْ فيهنَّ مِن العُمَّارِ غيرَ اللهِ تَعَالَى، والأرَضينَ السبعَ ومَنِ فيهِنَّ، وُضِعُوا في كِفَّةِ الميزانِ، ولاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ في الكِفَّةِ الأُخْرَى، مَالَت بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، ورَوَى الإمامُ أحمدُ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ نُوحًا قَالَ لاِبْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: آمُرُكَ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ في كِفَّةٍ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ في كِفَّةٍ، رَجَحَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ".
قولُهُ: ("في كِفَّةٍ") هوَ بكَسْرِ الكافِ وتَشْدِيدِ الفاءِ، أيْ كِفَّةِ المِيزَانِ.
قولُهُ: ("مَالَتْ بِهِنَّ") أيْ رَجَحَتْ، وذلكَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عليهِ مِنْ نفيِ الشركِ وتوحيدِ اللهِ، الذي هوَ أَفْضَلُ الأعمالِ وأساسُ المِلَّةِ والدِّينِ، فَمَنْ قَالَها بإخْلاَصٍ ويَقِينٍ وعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا ولَوَازِمِها وحُقُوقِهَا، واسْتَقَامَ عَلَى ذَلِكَ، فهذِهِ الحَسَنَةُ لاَ يُوازِنُها شيءٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13].
ودَلَّ الحديثُ عَلَى أنَّ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) أَفْضَلُ الذِّكْرِ، كحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو مَرْفُوعًا: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" رَوَاهُ أحمدُ والتِّرْمِذيُّ، وعنهُ أيضًا مَرْفُوعًا: "يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ البَصَرِ، ثُمَّ يُقَالُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لاَ، فَيُقَالُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ، فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ في كِفَّةٍ، وَالبِطَاقَةُ في كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ" رَوَاهُ التِّرْمِذيُّ وحَسَّنَهُ، والنَّسَائِيُّ وابنُ حِبَّانَ والحاكمُ وقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي تَلْخِيصِهِ: صَحِيحٌ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فالأعمالُ لاَ تَتَفَاضَلُ بصُوَرِهَا وعَدَدِها، وإنَّما تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي القُلُوبِ، فتكُونُ صورةُ العَمَلَيْنِ واحِدَةً، وبينَهُمَا مِن التَّفاضُلِ كَمَا بينَ السماءِ والأرضِ.
قَالَ: تَأَمَّلْ حديثَ البطاقةِ التي تُوضَعُ في كِفَّةٍ، ويُقَابِلُها تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ سِجِلاًّ، كلُّ سِجِلٍّ منها مَدُّ البصرِ، فَتَثْقُلُ البطاقةُ وتَطِيشُ السِّجِلاَّتُ، فَلاَ يُعَذَّبُ. ومَعْلُومٌ أنَّ كلَّ مُوَحِّدٍ لهُ هذهِ البطاقةُ، وكثيرٌ منْهُم يَدْخُلُ النَّار بِذُنُوبِهِ.
قولُهُ: (رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكمُ) ابنُ حِبَّانَ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ حِبَّانَ - بكسْرِ المُهْمَلَةِ وتَشْدِيدِ المُوَحَّدَةِ - ابنِ أحمدَ بنِ حِبَّانَ بنِ مُعَاذٍ، أبو حاتمٍ التَّمِيمِيُّ البُسْتِيُّ الحافظُ صاحبُ التَّصانِيفِ كالصَّحِيحِ والتاريخِ والضُّعفاءِ والثِّقَاتِ وغيرِ ذلكَ، قَالَ الحَاكمُ: كَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ في الفِقْهِ واللُّغَةِ والحديثِ والوَعْظِ، ومِنْ عُقَلاَءِ الرِّجَالِ، مَاتَ سَنَةَ أربعٍ وخمسينَ وثَلاَثِمِائَةٍ بِمَدِينةِ بُسْتَ، بِسُكُونِ المُهْمَلَةِ.
وأمَّا الحاكمُ فاسْمُهُ مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُوريُّ أبو عبدِ اللهِ الحَافِظُ، ويُعْرَفُ بِابْنِ الْبَيِّعِ، وُلِدَ سَنَةَ إحْدَى وعشرينَ وثَلاَثِمِائَةٍ، وصَنَّفَ التَّصَانيفَ كالمُسْتَدْرَكِ وتَارِيخِ نَيْسَابُورَ وغَيْرِها، ومَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وأرْبَعِمائةٍ.
(5) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ، عَنْ أنسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأََتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً").
ذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ الجُمْلَةَ الأخِيرَةَ مِن الحديثِ، وقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِتَمَامِهِ فَقَالَ: عنْ أنسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي... "الحديثَ.
التِّرْمِذِيُّ: اسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ عِيسَى بنِ سَوْرَةَ -بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ- ابنِ موسَى بنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ أبو عِيسَى، صَاحبُ الجَامِعِ وأَحَدُ الحُفَّاظِ، كَانَ ضَريرَ البَصَرِ، رَوَى عنْ قُتَيْبَةَ وَهَنَّادٍ والبخاريِّ وَخَلْقٍ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وسَبْعِينَ ومائَتَيْنِ.
وأَنَسٌ: هوَ ابنُ مالكِ بنِ النَّضْرِ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ؛ خَادِمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَدَمَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وقَالَ لهُ: "اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ" ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وقيلَ: ثَلاَثٍ وتِسْعِينَ، وقَدْ جَاوَزَ المِائَةَ.
وقَدْ رَوَاهُ الإمَامُ أحمدُ مِنْ حَديثِ أَبِي ذَرٍّ بِمَعْناهُ، وهذَا لَفْظُهُ: "وَمَنْ عَمِلَ قُرَابَ الأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيَنِي لاَ يُشْرِكُ بِي جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَهَا مَغْفِرَةً" ، ورَوَاهُ مُسْلمٌ، وأَخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: ("لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ") بضَمِّ القافِ، وقيلَ: بكَسْرِها، والضَّمُّ أَشْهَرُ، وهوَ مِلْؤُها أوْ مَا يُقَارِبُ مِلْئَهَا.
قولُهُ: ("ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا") شَرْطٌ ثَقِيلٌ فِي الوَعْدِ بِحُصُولِ المَغْفِرَةِ، وهوَ السَّلاَمةُ مِن الشِّرْكِ؛ كَثيرِهِ وقَلِيلِهِ، صَغِيرِه وكَبِيرِه، ولاَ يَسْلَمُ مِنْ ذلكَ إلاَّ مَنْ سَلَّمَ اللهُ تَعَالَى، وذلكَ هوَ القلبُ السليمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[ الشعراء: 89].
قالَ ابنُ رَجَبٍ: مَنْ جَاءَ مَعَ التوحيدِ بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايا لَقِيَهُ اللهُ تعالى بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، إلى أَنْ قَالَ: فإنْ كَمُلَ توحيدُ العبدِ وإِخْلاَصُهُ للهِ تَعَالَى فيهِ، وقَامَ بشُرُوطِهِ بقَلْبِهِ ولِسَانِه وجَوَارِحِهِ، أوْ بِقَلْبِهِ ولِسَانِهِ عندَ الموتِ، أَوْجَبَ ذلكَ مَغْفِرَةَ مَا قَدْ سَلَفَ مِن الذُّنوبِ كُلِّها، وَمَنَعَهُ مِنْ دُخولِ النَّارِ بالكُلِّيَّةِ، فمَنْ تَحَقَّقَ بكَلِمَةِ التوحيدِ قَلْبُهُ أَخْرَجَتْ منهُ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ تعالى مَحَبَّةً وتَعْظِيمًا وإِجْلاَلاً ومَهَابَةً وخَشْيَةً وتَوَكُّلاً، وحينَئذٍ تُحْرَقُ ذُنُوبُهُ وخَطَايَاهُ كلُّها وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ. انتهى مُلَخَّصًا.
قَالَ العَلاَّمةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في مَعْنَى الحديثِ: ويُعْفَى لأهلِ التوحيدِ المَحْضِ الذي لمْ يَشُوبُوهُ بالشِّرْكِ مَا لاَ يُعْفَى لِمَنْ لَيْسَ كَذِلكَ، ولوْ لَقِيَ المُوَحِّدُ الذي لمْ يُشْرِكْ باللهِ شيئًا الْبَتَّةَ رَبَّهُ بِقُرابِ الأرْضِ خَطَايَا أَتَاهُ بِقُرَابِهَا مغفرةً، ولاَ يَحْصُلُ هذا لِمَنْ نَقَصَ توحيدُهُ؛ فإنَّ التوحيدَ الخَالِصَ الذي لاَ يَشُوبُهُ شِرْكٌ لاَ يَبْقَى مَعَهُ ذَنْبٌ؛ لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وإِجْلاَلِهِ وتَعْظِيمِهِ وخَوْفِهِ ورَجَائِهِ مَا يُوجِبُ غَسْلَ الذُّنُوبِ ولوْ كَانَتْ قُرابَ الأرْضِ، فالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ والدَّافِعُ لَهَا قَوِيٌّ. انتهى.
وفي هذا الحديثِ:
- كَثْرَةُ ثَوابِ التَّوحيدِ.
- وسَعَةُ كَرَمِ اللهِ وجُودِهِ ورَحْمَتِهِ.
- والردُّ عَلَى الخَوارِجِ الذينَ يُكَفِّرُونَ المسلمَ بالذُّنُوبِ، وعَلَى المعتزلةِ القَائِلِينَ بالمَنْزِلَةِ بينَ المنزلَتَيْنِ، وهيَ الفُسُوقُ، ويَقُولونَ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ ولاَ كَافرٍ ويُخَلَّدُ في النَّارِ، والصوابُ قولُ أَهْلِ السُّنَّةِ: إنَّهُ لا يُسْلَبُ عنهُ اسمُ الإيمانِ، ولاَ يُعْطَاهُ عَلَى الإطْلاَقِ، بَلْ يُقالُ: هوَ مؤمنٌ عاصٍ، أوْ مُؤْمِنٌ بإيمانِهِ، فَاسِقٌ بكَبِيرَتِهِ، وعَلَى هَذَا يَدُلُّ الكتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ سَلَفِ الأمَّةِ.
وعنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَأُعْطِيَ ثَلاَثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحِمَاتُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ ابنُ كَثيرٍ في تَفْسيرِهِ: وأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ والترمذيُّ وابنُ ماجَةَ والنَّسائِيُّ، عنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}[المُدَّثِّر:56]، وَقَالَ: "قَالَ رَبُّكُمْ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلاَ يُجْعَلُ مَعِيَ إِلَهٌ، فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِيَ إِلَهًا كَانَ أَهْلاً أَنْ أَغْفِرَ لَهُ".
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (تَأَمَّل الْخَمْسَ اللَّوَاتِي في حَديثِ عُبادَةَ، فإنَّكَ إذا جَمَعْتَ بَيْنَهُ وبَيْنَ حديثِ عِتْبانَ تبيَّنَ لكَ مَعْنَى قولِ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ)، وتَبَيَّنَ لَكَ خَطَأُ المَغْرُورِينَ).
- وفيهِ: أنَّ الأَنبياءَ يَحْتَاجُونَ للتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)، والتَّنْبِيهِ لِرُجْحَانِها بِجَمِيعِ المخلوقاتِ، مَعَ أنَّ كثيرًا مِمَّنْ يَقولُها يَخِفُّ مِيزَانُهُ.
- وفيهِ: إِثْباتُ الصفاتِ خِلاَفًا للمُعَطِّلَةِ.
- وفيهِ: أنَّكَ إذا عَرَفْتَ حَديثَ أنسٍ عَرَفْتَ أنَّ قوْلَهُ في حديثِ عِتْبَانَ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ" أَنَّه تَرْكُ الشِّرْكِ، لَيْسَ قَوْلَها باللسانِ فقطْ.

هيئة الإشراف

#4

26 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) لَمَّا ذكَرَ في الترجمةِ السابقةِ وجوبَ التوحيدِ، وأنه الفرضُ الأعظمُ على جميعِ العبيدِ، ذكَرَ هنا فضلَه، وهو آثارُه الحميدةُ ونتائجُه الجميلةُ، وليسَ شيءٌ من الأشياءِ له من الآثارِ الحسنةِ والفضائلِ المتنوعةِ مثلَ التوحيدِ، فإن خيرَ الدنيا والآخرةِ من ثمراتِ هذا التوحيدِ وفضائلِه.
فقولُ المؤلفِ رحِمَه اللهُ: (وما يُكفِّرُ من الذنوبِ) من بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، فإن مغفرةَ الذنوبِ وتكفيرَ الذنوبِ من بعضِ فضائلِه وآثارِه كما ذكَرَ شواهدَ ذلك في الترجمةِ.
ومن فضائلِه أنه السببُ الأعظمُ لتفريجِ كُرُباتِ الدنيا والآخرةِ ودفعِ عقوبتِهما.
ومن أجلِّ فوائدِه أنه يمنَعُ الخلودَ في النارِ، إذا كانَ في القلبِ منه أدنى مثقالِ حبةِ خردلٍ، وأنه إذا كَمَلَ في القلبِ يمنَعُ دخولَ النارِ بالكليةِ، ومنها أنه يُحَصِّلُ لصاحبِه الهدى الكاملَ والأمنَ التامَّ في الدنيا والآخِرَةِ، ومنها أنه السببُ الوحيدُ لنيلِ رضا اللهِ وثوابِه، وأن أسعدَ الناسِ بشفاعةِ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن قالَ لا إلهَ إلا اللهُ خالصًا من قلبِه.
ومن أعظمِ فضائلِه أن جميعَ الأعمالِ والأقوالِ الظاهرةِ والباطنةِ متوقِّفةٌ في قَبولِها وفي كمالِها وفي ترتُّبِ الثوابِ عليها على التوحيدِ، فكلما قوِيَ التوحيدُ والإِخلاصُ للهِ كَمَلت هذه الأمورُ وتَمَّت.
ومن فضائلِه أنه يُسهِّلُ على العبدِ فعلَ الخيرِ وتركَ المنكراتِ، ويسلِّيهِ عن المصيباتِ، فالمخلصُ للهِ في إيمانِه وتوحيدِه تَخِفُّ عليه الطاعاتُ؛ لما يرجو من ثوابِ ربِّهِ ورضوانِه، ويهونُ عليه تركُ ما تهواهُ النفسُ من المعاصِي؛ لما يخشَى من سخطِه وعقابِه، ومنها أن التوحيدَ إذا كَمَلَ في القلبِ حبَّبَ اللهُ لصاحبِه الإِيمانَ وزيَّنَه في قلبِه، وكَرَّهَ إليه الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وجعلَه من الراشدينَ، ومنها أنه يخفِّفُ عن العبدِ المكارهَ، ويهوِّنُ عليه الآلامَ، فَبِحَسَبِ تكميلِ العبدِ للتوحيدِ والإِيمانِ يتلقَّى المكارهَ والآلامَ بقلبٍ منشرحٍ ونفسٍ مطمئنةٍ وتسليمٍ ورضًا بأقدارِ اللهِ المؤلمةِ.
ومن أعظمِ فضائلِه أنه يحرِّرُ العبدَ من رِقِّ المخلوقينَ والتعلُّقِ بهم وخوفِهم ورجائِهم والعملِ لأجلِهم، وهذا هو العزُّ الحقيقيُّ والشرفُ العالي، ويكونُ مع ذلك متألِّـهًا مُتَعَبِّدًا للهِ، لا يرجو سواهُ، ولا يخشَى إلاَّ إيَّاه، ولا يُنيبُ إلا إليه، وبذلك يَتِمُّ فلاحُه، ويتحقَّقُ نجاحُه.
ومن فضائلِه التي لا يَلحقُه فيها شيءٌ أن التوحيدَ إذا تَمَّ وَكَمَلَ في القلبِ وتحقَّقَ تحقُّقًا كاملاً بالإِخلاصِ التامِّ، فإنه يصيرُ القليلُ من عملِه كثيرًا، وتُضاعَفُ أعمالُه وأقوالُه بغيرِ حصرٍ ولا حسابٍ، وَرَجَحَت كلمةُ الإِخلاصِ في ميزانِ العبدِ بحيثُ لا تقابلُها السماواتُ والأرضُ وَعُمَّارُهَا من جميعِ خلقِ اللهِ كما في حديثِ أبي سعيدٍ المذكورِ في الترجمةِ، وفي حديثِ البطاقةِ التي فيها لا إلهَ إلا اللهُ التي وزَنت تسعةً وتسعينَ سِجلاًّ من الذنوبِ، كلُّ سجلٍّ يبلُغُ مدَّ البصرِ، وذلك لكمالِ إخلاصِ قائلِها، وكم ممن يقولُها لا تبلُغُ هذا المبلغَ؛ لأنه لم يكنْ في قلبِه من التوحيدِ والإِخلاصِ الكاملِ مثلُ ولا قريبُ مما قام بقلبِ هذا العبدِ.
ومن فضائلِ التوحيدِ أن اللهَ تكفَّلَ لأهلِه بالفتحِ والنصرِ في الدنيا، والعزِّ والشرفِ، وحصولِ الهدايةِ، والتيسيرِ لليسرَى، وإصلاحِ الأحوالِ، والتسديدِ في الأقوالِ والأفعالِ، ومنها أن اللهَ يَدْفَعُ عن الموحِّدِينَ أهلِ الإِيمانِ شرورَ الدنيا والآخرةِ، وَيَمُنُّ عليهم بالحياةِ الطيبةِ والطمأنينةِ إليه والطمأنينةِ بذكْرِه.
وشواهدُ هذه الجملِ من الكتابِ والسنةِ كثيرةٌ معروفةٌ، واللهُ أعلمُ.

هيئة الإشراف

#5

26 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) سَبَقَ أنْ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ وجُوبَ التوحيدِ، وأَنَّهُ لاَ بُدَّ منهُ، وأنَّ مَعْنَى قولِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أنَّ العبادَةَ لاَ تَصِحُّ إلاَّ بالتَّوْحِيدِ، وهنا ذَكَرَ المُؤَلِّفُ فَضْلَ التَّوْحيدِ.
وقَولُهُ: (وَمَا يُكَفِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ) معطوفٌ عَلَى (فضلِ) فيكونُ المَعْنَى: بابُ فضلِ التوحيدِ، وبابُ ما يُكَفِّرُ مِن الذُّنُوبِ، وعَلَى هذا فالعَائِدُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ ما يُكَفِّرُ مِن الذُّنُوبِ، وعُقِدَ هذَا البَابُ لأَِمْرَيْنِ:
الأَوَّلُ: بيانُ فَضْلِ التَّوْحِيدِ.
الثاني: بيانُ ما يُكَفِّرُ مِن الذُّنوبِ؛ لأَنَّ مِنْ آثارِ فَضْلِ التَّوحيدِ تَكْفِيرُ الذُّنوبِ.
(2) قولُهُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا} أيْ يَخْلِطوا.
(3) قولُهُ {بِظُلْمٍ} الظُّلْمُ هنا مَا يُقَابِلُ الإيمَانَ، وهوَ الشِّرْكُ، ولَمَّا نَزَلَتْ هذه الآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ، وقَالُوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الأمرُ كَمَا تَظنُّونَ، إِنَّما المُرادُ بِهِ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعوا إِلَى قَوْلِ الرَّجُلِ الصالِحِ - يَعْنِي لُقْمَانَ -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟" ).
والظُّلْمُ أَنْواعٌ ثلاثة:
الأول: أَظْلَمُ الظُّلْمِ، وهوَ الشِّرْكُ في حَقِّ اللهِ.
الثاني: ظُلْمُ الإنْسانِ نَفْسَهُ، فَلاَ يُعْطِيهَا حقَّها، مثلُ أنْ يَصُومَ فَلاَ يُفْطِرُ، ويقومَ فَلاَ يَنَامُ.
الثالث: ظُلْمُ الإنْسانِ غَيْرَهُ، مِثْلُ أنْ يَتَعَدَّى عَلَى شَخْصٍ بالضَّربِ أو القَتْلِ أوْ أَخْذِ مَالٍ ومَا أَشْبَهَ ذلكَ.
وإذا انتَفَى الظُّلمُ حَصَلَ الأمْنُ، لَكِنْ هَلْ هُو أَمْنٌ كَامِلٌ؟
الجَوابُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الإِيمانُ كَامِلاً لَمْ يُخَالِطْهُ مَعصيَةٌ، فالأمنُ أمنٌ مطلَقٌ؛ أيْ كامِلٌ، وإذَا كَانَ الإيمانُ مْطْلَقَ إيمانٍ - غيرَ كاملٍ - فَلَهُ مُطْلقُ الأمْنِ؛ أيْ أَمْنٌ نَاقِصٌ، كمُرْتَكِبُ الكَبِيرةِ فهو آمِنٌ مِنَ الخُلُودِ في النارِ، وغَيْرُ آمِنٍ مِن العَذَابِ، بَلْ هوَ تَحْتَ المَشْيئَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
قولُهُ: (الأَمْنُ) (ألْ) فيها للجِنْسِ، ولهذا فَسَّرْنَا الأمْنَ بأنَّهُ إمَّا أمنٌ مطلَقٌ، وإمَّا مُطْلَقُ أَمْنٍ، حَسَبَ الظُّلمِ الذي تَلبَّسَ بِهِ.
قَوْلُهُ: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أيْ في الدُّنيا إلَى شَرْعِ اللهِ بالعِلْمِ والعَمَلِ، فالاهْتِدَاءُ بالعِلْمِ هِدَايَةُ الإرْشَادِ، والاهْتِدَاءُ بالعَمَلِ هِدَايَةُ تَوْفِيقٍ، ومُهْتَدُونَ في الآخرةِ إلَى الجنَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} هذه هِدَايَةُ الآخرةِ، وهيَ للذِين ظَلَمُوا إلَى صِرَاطِ الجَحَيمِ، فيكونُ مُقَابِلُها أنَّ الذِين آمَنُوا ولَمْ يَظْلِمُوا يُهْدَوْنَ إلَى صِرَاطِ النَّعيمِ.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كما في الدرر السنّية (1/115) : لا إله إلا الله شجرة السعادة، إن غرستها في منبت التصديق، وسقيتها من ماء الإخلاص، ورعيتها بالعمل الصالح؛ رسخت عروقها، وثبت ساقها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها، وتضاعف أكلها: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها}وإن غرست هذه الشجرة، في منبت التكذيب والشقاق، وأسقيتها بماء الرياء والنفاق، وتعاهدتها بالأعمال السيئة، والأقوال القبيحة، وطفح عليها غدير العَذِر، ولفحها هجير هجر؛ تناثرت ثمارها، وتساقطت أرواقها، وانقشع ساقها، وتقطعت عروقها، وهبت عليها عواصف القذر، ومزقتها كل ممزق {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً}.
ومُنَاسَبةُ الآيَةِ للتَّرْجَمةِ: أنَّ اللهَ أثْبَتَ الأمْنَ لِمَن لَمْ يُشْرِكْ، والذي لَمْ يُشْرِكْ يَكُونُ مُوَحِّدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ فَضَائِلِ التَّوحيدِ اسْتِقْرَارُ الأمنِ.
(4) قولُهُ: ("مَنْ شَهِدَ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ") الشَّهَادَةُ لاَ تَكُونُ إلاَّ عَن عِلْمٍ سَابِقٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهذا العِلْمُ قدْ يَكُونُ مُكْتَسَبًا، وَقَدْ يَكُونُ غَرِيزِيًّا، والعِلْمُ بـ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ غَرِيزيٌّ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"، وقَدْ يكونُ مُكْتَسَبًا، وذلكَ بتدبُّرِ آياتِ اللهِ، والتَّفكُّرِ فيها، ولاَ بدَّ أنْ يوجَدَ العِلْمُ بـ:لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، ثمَّ الشَّهَادَةُ بِهَا.
وقولُهُ: ("لاَ إِلَهَ") أيْ لاَ مَأْلوهَ، والمأْلوهُ هوَ المعبودُ محبَّةً وتَعْظِيمًا، تُحِبُّهُ وتُعظِّمُهُ لِمَا تَعْلَمُ مِنْ صِفَاتهِ العَظِيمَةِ وأَفْعَالِهِ الجَلِيلَةِ.
قولُهُ: ("إلاَّ اللهُ") أيْ لاَ مَأْلُوهَ إلاَّ اللهُ، ولهذا حُكِيَ عنْ قريشٍ قولُهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، أمَّا قولُهُ تَعَالَى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} فهذا التأَلُّهُ باطلٌ؛ لأنَّهُ بغيرِ حقٍّ، فهوَ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، وإذا انْتَفَى شَرْعًا فهوَ كالمُنْتَفِي وقُوعًا، فَلاَ قَرَارَ لَهُ: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.
وبهذا يعلم غلط المتكلمين الذين يَقُولُونَ: إنَّ مَعْنَى إِلَهٍ: آلِهٌ، والآلِهُ القَادِرُ عَلَى الاخْتِرَاعِ، فيكُونُ مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) أيْ لاَ قَادِرَ عَلَى الاخْتِرَاعِ إلاَّ اللهُ. والتَّوحيدُ عندَهُم: أنْ تُوَحِّدَ اللهَ فَتَقُولَ: هوَ وَاحِدٌ في ذَاتِهِ لاَ قَسِيمَ لَهُ، وواحِدٌ في أَفْعَالِهِ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وواحِدٌ في صِفَاتِهِ لاَ شَبِيهَ لَهُ، ولوْ كَانَ هذا مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) لَمَا أنْكَرَتْ قريشٌ عَلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ دَعْوَتَهُ، ولآمَنَتْ بهِ وصَدَّقَتْ؛ لأنَّ قُرَيْشًا تَقْولُ: لاَ خَالِقَ إلاَّ اللهُ، و(لاَ خَالِقَ) أَبْلغُ مِنْ كَلِمَةِ (لاَ قَادِرَ)؛ لأنَّ القَادِرَ قَدْ يَفْعَلُ، وقَدْ لاَ يَفْعَلُ، أمَّا الخَالِقُ فقدْ فَعَلَ وحَقَّقَ بقُدرةٍ منهُ، فَصَارَ فَهْمُ المُشْرِكِينَ خَيْرًا مِنْ فَهْمِ هؤلاءِ المُتَكَلِّمِينَ والمُنْتَسِبِينَ للإسْلاَمِ، فالتوحيدُ الذي جاءَتْ بهِ الرُّسلُ في قولِهِ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} أيْ مِنْ إلهٍ حَقِيقِيٍّ يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبدَ وهُو اللهُ.
يقول الشيخ عبد الله البابطين كما في الدرر السنّية (2/297) : وجميع العلماء من المفسرين وشراح الحديث والفقه يفسرون الإله بأنه المعبود، وإنما غلط في ذلك بعض المتكلمين، فظن أن الإله هو القادر على الاختراع، وهذه زلة عظيمة، وغلط فاحش، إذا تصوره العامي العاقل تبين له بطلانه، وكأن هذا القائل لم يستحضر ما حكاه الله عن المشركين في مواضع من كتابه، ولم يعلم أنّ مشركي العرب وغيرهم يقرون بأن الله هو القادر على الاختراع، وهم مع ذلك مشركون.
قولُهُ: ("مَنْ شَهِدَ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ") مَنْ: شَرطيَّةٌ، وجوابُ الشَّرطِ: "أدْخَلَهُ اللهُ الْجنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ"، والشَّهَادَةُ هيَ الاعْتِرَافُ باللسانِ، والاعْتِقَادُ بالقَلْبِ، والتَّصْدِيقُ بالجَوارِحِ، وإلاَّ فهيَ كَذِبٌ، ولِهَذا لَمَّا قالَ المُنافِقُونَ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} وهذه جملةٌ مُؤَكَّدَةٌ بثَلاَثِ مُؤَكَّدَاتٍ: الشَّهادَةِ، وإنَّ، واللامِ، كَذَّبَهم اللهُ بقَوْلِهِ: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، فَلَمْ يَنْفَعْهُم هذا الإقرارُ باللسانِ؛ لأنَّهُ خَالٍ مِن الاعتقادِ بالقَلْبِ، وخَالٍ مِن التَّصدِيقِ بالعَمَلِ، فلمْ يَنْفَعْ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ إلاَّ بِعَقِيدَةٍ في القَلْبِ، واعْترافٍ باللسانِ، وتَصْديقٍ بالعَمَلِ.
وقولُهُ: ("لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ") أيْ لاَ مَعْبُودَ عَلَى وجْهٍ يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ إلاَّ اللهُ، وهذه الأَصْنامُ الَّتِي تُعْبَدُ لاَ تَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ؛ لأنَّهُ لَيْسَ فيها مِنْ خَصَائِصِ الأُلُوهِيَّةِ شيءٌ.
(5) قولُهُ: ("وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ") قوله: ("وحدَهُ") تَوْكِيدٌ للإثْبَاتِ، وقوله: ("لاَ شَرِيكَ لَهُ") تَوْكِيدٌ للنَّفْيِ في كلِّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِن الرُّبُوبيَّةِ والأُلُوهيَّةِ والأسْمَاءِ والصِّفاتِ.
قولُهُ: ("وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ") قولُهُ: ("عَبْدُهُ") أيْ لَيسَ شَرِيكًا مَعَ اللهِ.
وقولُهُ: ("وَرَسُولُهُ") أي المَبْعُوثُ بِمَا أَوْحَى اللهُ إليهِ، فليسَ كَاذِبًا عَلَى اللهِ، فالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، وهُو بَشَرٌ مِثْلُنَا، إِلاَّ أنَّهُ يُوحَى إليهِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ}، فهوَ رَسُولٌ أَرْسَلَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بأعظمِ شَرِيعَةٍ إلَى جميعِ الخَلْقِ، فبَلَّغَها غايَةَ البلاغِ، معَ أنَّهُ أُوذِيَ وقُوتِلَ.
وتَحْقِيقُ شَهَادَةَ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ بأنْ نَعْتَقِدَ ذلكَ بقُلُوبِنا، ونَعْتَرِفَ بهِ بألْسِنَتِنا، مع مُتَابَعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِجَوارِحِنا، فنَعْمَلَ بِهَدْيهِ، ولاَ نَعْمَلَ لهُ.
أمَّا ما يَنْقُضُ تَحْقيقَ هذه الشَّهَادَةِ فهوَ شيئان:
الأول: فِعْلُ المَعَاصِي، فالمَعْصِيَةُ نَقْصٌ في تَحْقيقِ هذه الشَّهادَةِ؛ لأنَّكَ خَرَجْتَ بمَعْصِيتِكَ مِن اتِّباعِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
الثاني: الابْتِدَاعُ في الدِّينِ مَا ليسَ منهُ، فهو نَقْصٌ في تَحْقيقِ هذه الشَّهَادَةِ؛ لأنَّكَ تَقَرَّبْتَ إلَى اللهِ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ ولاَ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، والابْتِدَاعُ في الدِّينِ في الحقيقةِ مِن الاستهزاءِ باللهِ؛ لأنَّكَ تقرَّبْتَ إليهِ بشيءٍ لَمْ يَشْرَعْهُ.
قوله: ("وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسوله") قدْ تَطَرَّفَ في عِيسَى طَائفتانِ:
الأُولَى: اليهودُ كذَّبُوهُ، فقالُوا: بأنَّهُ وَلَدُ زِنًا، وأنَّ أُمَّهُ مِن البَغَايَا، وأَنَّهُ ليسَ بنبيٍّ، وقَتَلُوهُ شَرْعًا؛ أيْ: مَحْكُومٌ عليهم عندَ اللهِ أنَّهم قَتَلُوهُ في حُكْمِ اللهِ الشرْعيِّ؛ لقولِهِ تعالَى عنهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}، وأمَّا بالنسبةِ لِحُكمِ اللهِ القَدَرِيِّ فقدْ كَذَبُوا، ومَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بلْ رَفَعَهُ اللهُ إليهِ، ولَكِنْ شُبِّهِ لَهم، فَقَتَلُوا الـمُشَبَّهَ لهم، وصَلَبُوهُ.
الثانيَةُ: النَّصارَى فقالُوا: إنَّهُ ابنُ اللهِ، وإنَّهُ ثالثُ ثلاثةٍ، وجَعَلوهُ إِلَهًا مَعَ اللهِ، وكَذَبُوا فيمَا قَالُوا.
أمَّا عَقِيدَتُنا: فنَشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ ورسولُهُ، وأنَّ أمَّهُ صِدِّيقَةٌ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بذلكَ ، وأَنَّها أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، فهيَ عَذْراءُ، ولَكِنَّ مثَلَهُ عندَ اللهِ كَمَثلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فيَكُونُ.
وفي قولِهِ: ("عَبْدُ اللهِ") ردٌّ علَى النَّصارَى.
وفي قولِهِ: ("وَرَسُولُهُ") ردٌّ علَى اليهودِ.
(6) وقولُهُ: ("وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ") أَطْلَقَ اللهُ عليهِ كلمةً؛ لأنَّهُ خُلِقَ بها فقال الله: (كن) فكانَ عليهِ السَّلاَمُ، أما هو في نفسه فليسَ كَلِمَةً؛ لأنَّهُ يَأْكُلُ، ويَشْرَبُ، ويَبُولُ، ويَتَغَوَّطُ، وتَجْرِي عليهِ جميعُ الأحْوَالِ البَشَرِيَّةِ، قَالَ تعالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وكَلاَمَ اللهِ وصْفٌ قائِمٌ بهِ، لاَ بَائِنٌ منهُ، أمَّا عِيسَى فهوَ ذَاتٌ بَائِنَةٌ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ، يَذْهَبُ ويَجِيءُ، ويَأْكُلُ الطَّعَامَ ويَشْرَبُ.
قولُهُ: ("أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ") أيْ وجَّهَهَا إليها بقولِهِ: {كُن فَيَكُونُ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
قولُهُ: ("وَرُوحٌ مِّنْهُ") أيْ صارَ جَسَدُهُ عليهِ السَّلاَمُ بالكَلِمَةِ، فنُفِخَتْ فيهِ هذِهِ الرُّوحُ التي هيَ مِن اللهِ؛ أيْ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أُضِيفَتْ إليهِ للتَّشْرِيفِ والتَّكْرِيمِ، وعِيسَى عليهِ السَّلاَمُ ليسَ رُوحًا، بلْ جَسَدٌ ذُو رُوحٍ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {ما الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} فبالنَّفْخِ صارَ جَسَدًا، وبالرُّوحِ صارَ جَسَدًا ورُوحًا.
قولُهُ: ("مِنْهُ") هذهِ هيَ التي أَضَلَّت النَّصارَى، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا كَثِيرًا، ولكنَّنا نَقُولُ: إنَّ اللهَ قدْ أَعْمَى بصائِرَكُم، فإنَّها لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ، ولكنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي في الصُّدورِ، فَمِن المَعْلومِ أنَّ عيسَى عليهِ السَّلاَمُ كانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وهذا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ، ومِن المَعْلُومِ أيضًا أنَّ اليهودَ يَقُولُونَ أَنَّهم صَلَبُوهُ، وهَلْ يُمْكنُ لِمَنْ كانَ جُزْءًا مِن الرَّبِّ أنْ يَنْفَصِلَ عن الرَّبِّ، ويَأكلَ ويَشْرَبَ، ويُدَّعَى أنَّهُ قُتِلَ وصُلِبَ؟. وعلَى هذا تكونُ (مِنْ) بيانية أو للابتداءِ، وليستْ للتَّبْعِيضِ، فهيَ كقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَماَ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} فَلاَ يُمْكِنُ أنْ نَقُولَ: إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ والأنْهَارَ جَزْءٌ مِن اللهِ، وهذا لَمْ يقُلْ بهِ أَحَدٌ، فقولُهُ: ("منهُ") أيْ رُوحٌ صَادِرَةٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، وليسَتْ جُزْءًا مِن اللهِ كَمَا تَزْعُمُ النَّصارَى.
واعْلَمْ أنَّ مَا أَضَافَهُ اللهُ إلَى نَفْسِهِ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلاَثةِ أقْسامٍ:
الأوَّلُ: العَيْنُ القَائِمَةُ بنَفْسِها، وإضافَتُها مِنْ بابِ إضافةِ المَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ، وهذه الإضافةُ قدْ تَكُونُ علَى سبيلِ عُمُومِ الخلْقِ كقولِهِ تعالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، وقولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ}، وقدْ تكونُ علَى سبيلِ الخُصوصِ لشَرَفِيَّتِهِ، كقولِهِ تعالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}، وكقولِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا} وهذا القِسمُ مَخْلوقٌ.
الثاني: أنْ يكونَ شيئًا مُضَافًا إلَى عَيْنٍ مَخْلوقةٍ يقومُ بِهَا، مِثَالُهُ قولُهُ تعالَى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} فإضافةُ هذه الرُّوحِ إلَى اللهِ مِنْ بابِ إضافةِ المخلوقِ إلَى خالِقِهِ تَشْرِيفًا، فهيَ رُوحٌ مِن الأَرْواحِ التي خَلَقَها اللهُ، وليسَتْ جُزءًا أوْ رُوحًا مِن اللهِ، إذْ إنَّ هذه الرُّوحَ حَلَّتْ في عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وهوَ عَيْنٌ مُنْفَصِلَةٌ عن اللهِ، وهذا القِسْمُ مَخْلُوقٌ أيضًا.
الثالثُ: أنْ يكونَ وصْفًا غيرَ مُضَافٍ إلَى عينٍ يَقُومُ بِهَا، مثالُ ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} فالرسالةُ والكلامُ أُضِيفَا إلَى اللهِ مِنْ بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلَى المَوْصُوفِ، فإذا أَضَافَ اللهُ لنَفْسِهِ صِفَةً، فهذه الصِّفَةُ غيرُ مَخْلُوقَةٍ.
وبهذا يَتَبَيَّنُ أنَّ هذه الأقْسامَ الثلاَثَةَ قِسْمانِ منها مَخْلُوقانِ، وقِسْمٌ غَيرُ مخلوقٍ؛ فالأعيانُ القائِمَةُ بنَفْسِهَا والمُتَّصِلُ بهذه الأعيانِ مخلوقةٌ، والوصْفُ الذي لم يُذْكَرْ لهُ عَيْنٌ يَقُومُ بِهَا غيرُ مَخْلُوقٍ؛ لأنَّهُ يكونُ مِنْ صِفاتِ اللهِ، وصِفاتُ اللهِ غيرُ مَخْلُوقَةٍ، ويمكن إرجاع القسمة الثلاثية إلى هذين القسمين اللذين ذكرنا، وقد اجْتَمَعَ القسمانِ في قولِهِ: "كَلِمَتُهُ"، "وَرُوحٌ مِنْهُ"، فـ "كَلِمَتُهُ" هذه وصْفٌ مُضَافٌ إلَى اللهِ، وعَلَى هذا فتكونُ "كَلِمَتُهُ" صِفَةً مِنْ صفاتِ اللهِ، "ورُوحٌ منهُ" هذه أُضِيفَتْ إِلَى عَيْنٍ؛ لأنَّ الرُّوحَ حَلَّت في عِيسَى، فهيَ مَخْلُوقةٌ.
قَولُهُ: ("أدْخَلَهُ اللهُ الجنَّةَ") إِدْخالُ الجَنَّةِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ:
الأوَّلُ: إدخالٌ كاملٌ لم يُسْبَقْ بعذابٍ لِمَنْ أَتَمَّ العَمَلَ.
الثاني: إدخالٌ ناقصٌ مَسْبوقٌ بعذابٍ لِمَنْ نَقَصَ العَمَلَ.
فالمُؤْمِنُ إذا غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَناتِهِ، إنْ شاءَ اللهُ عذَّبَهُ بَقَدْرِ عَمَلِهِ، وإنْ شَاءَ لَمْ يُعَذِّبْهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
(7) قولُهُ: (عِتْبانَ) هوَعِتْبانُ بنُ مالكٍ، أَحَدُ الأنْصارِ رَضِيَ اللهُ عنهم، كَانَ يُصلِّي مَعَ النّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فَضَعُفَ بَصَرُهُ، وشَقَّ عليهِ المَجِيءُ إلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَطَلبَ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنْ يَخْرُجَ إليهِ، وأنْ يُصَلِّيَ في مَكَانٍ مِنْ بَيْتِهِ، ليتَّخِذَهُ مَصَلًّى، فَخَرَجَ إليهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ومَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ البَيْتَ قَالَ: "أيْنَ تُرِيدُ أنْ أُصلِّيَ؟" قَالَ: صَلِّ هَا هُنا، فَصَلَّى بهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ علَى طَعَامٍ صَنَعُوهُ لهُ، فَجَعَلُوا يَتَذَاكَرُونَ، فذَكَرُوا رَجُلاً يُقالُ لهُ مَالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ بَعْضُهم: هُو مُنافِقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تَقُلْ هَكَذَا، أَلَيْسَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ويُرِيدُ بذلكَ وجْهَ اللهِ؟" ثُمَّ قَالَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ.. " الحديث، فنَهَاهُم أنْ يَقُولُوا هَكَذا؛ لأنَّهم لاَ يَدْرُونَ عَمَّا في قَلْبِهِ؛ فهوَ يَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وقدْ قالَ الرَّسُولُ ما قالَ، ولَمْ يَبَرِّئ الرَّجُلَ، بلْ أَتَى بِعَبارةٍ عَامَّةٍ بأنَّ اللهَ حَرَّمَ علَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ الله، ونَهَى أنْ نُطْلِقَ أَلْسِنَتَنا في عِبادِ اللهِ الذينَ ظَاهِرُهم الصَّلاَحُ، ونقولَ: هذا مُراءٍ، هذا فاسِقٌ، ومَا أَشْبَهَ ذلكَ؛ لأنَّنا لوْ أَخَذْنا بِما نَظُنُّ فسَدَتِ الدُّنيا والآخِرَةُ، فَكِثيرٌ مِن الناسِ نَظُنُّ بهم سوءًا، ولَكِنْ لاَ يَجُوزُ أنْ نقولَ ذلكَ، وظاهِرُهم الصَّلاَحُ، ولهذا قَالَ العُلَمَاءُ: يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِمُسْلمٍ ظَاهِرُهُ العَدَالَةُ.
(8) قولَهُ: ("فإنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النارِ") أيْ مَنَعَ منَ النَّارِ، أوْ مَنَعَ النَّارَ أنْ تُصِيبَهُ.
(9) قولُهُ: ("مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ") أيْ يُشْتَرَطُ الإِخْلاَصُ، بدليلِ قولِهِ: "يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللهِ" أيْ يَطْلُبُ وجْهَ اللهِ، ومَنْ طَلَبَ وجْهًا لاَ بُدَّ أنْ يَعْمَلَ كلَّ ما في وُسْعِهِ للوصولِ إليهِ؛ لأنَّ مُبْتَغِيَ الشيءِ يَسْعَى في الوصولِ إليهِ، فالحَديثُ واضِحُ الدَّلاَلَةِ علَى شَرْطيَّةِ العَمَلِ لِمَنْ قالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللهِ، ولذا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عندَ قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "مِفْتاحُ الجنَّةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" لكِنْ مَنْ أَتَى بمِفْتاحٍ لاَ أَسْنَانَ لَهُ لاَ يُفْتَحُ لَهُ.
قالَ شيخُ الإسْلاَمِ: إنَّ المُبْتَغِيَ لاَ بُدَّ أنْ يُكَمِّلَ وسائلَ البُغْيَةِ، وإذا أَكْمَلَها حُرِّمَتْ عليهِ النارُ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، فإذا أتَى بالحَسَناتِ علَى الوجْهِ الأَكْمَلِ، فإنَّ النَّارَ تَحْرُمُ عليهِ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، وإنْ أَتَى بشيءٍ ناقصٍ فإنَّ الابتغاءَ فيهِ نَقْصٌ؛ فيكونُ تَحْرِيمُ النَّارِ عليهِ فيهِ نَقْصٌ، لكنْ يَمْنَعُهُ ما مَعَهُ مِن التَّوحيدِ مِنَ الخلودِ في النارِ.وكذا مَنْ زَنَى، أوْ شَرِبَ الخَمْرَ، أوْ سَرَقَ، فإذا فَعَلَ شيئًا مِنْ ذلكَ ثمَّ قَالَ حينَ فَعَلَهُ: أَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، أبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللهِ، فهوَ كَاذِبٌ في زَعْمِهِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ" فَضْلاً عنْ أنْ يكونَ مُبتغِيًا وجْهَ اللهِ.
وفي الحديثِ ردٌّ علَى المُرْجِئَةِ؛ فالمُرْجِئةُ يَقُولونَ: يَكْفِي قولُ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) دونَ ابتغاءِ وجْهِ اللهِ، وفيهِ ردٌّ علَى الخَوَارِجِ والمُعْتَزِلَةِ؛ لأنَّ ظاهِرَ الحديثِ أنَّ مَنْ فَعَلَ هذه المُحَرَّماتِ لاَ يُخلَّدُ في النَّارِ، لكنَّهُ مُسْتَحِقٌّ للعُقُوبَةِ، وهم يَقُولُونَ إنَّ فَاعِلَ الكبيرَةِ مُخَلَّدٌ في النَّارِ.
(10) قولُهُ: ("أَذْكُرُكَ وأَدْعُوكَ بِهِ") صِفَةٌ لشيءٍ؛ أيْ كي أَذْكُرَكَ، وأَدْعُوَكَ بِهِ، وليست جوابَ الطَّلَبِ، فَمُوسَى عليهِ السَّلامُ طَلَبَ أَمْرَيْنِ؛ أحدهما ذِكْرُ اللهِ، والآخر دُعاؤهُ، فأَجَابَهُ اللهُ بقولِهِ: "قُلْ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ"، وهذه الجُمْلَةُ ذِكْرٌ مُتَضَمِّنٌ للدُّعاءِ؛ لأنَّ الذَّاكِرَ يُرِيدُ رِضَا اللهِ عنه، والوُصُولَ إلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، فهوَ ذِكْرٌ مُتَضَمِّنٌ للدُّعَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي=حِبَاؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الْحِباءُ
يعني عَطَاؤُكَ.
واسْتَشْهَدَ ابنُ عباسٍ عَلَى أنَّ الذِّكْرَ بمعنَى الدُّعاءِ بقولِ الشَّاعِرِ:
إذَا أَثْنَى عَلَيْكَ العَبْدُ يَوْمًا=كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَـاءُ
(11) قولُهُ: ("كلُّ عبادِكَ يقولونَ هَذا") ليسَ المعنَى أَنَّها كَلِمَةٌ هَيِّنَةٌ كلٌّ يقولُها؛ لأنَّ مُوسَى عليهِ الصَّلاَةُ والسَّلاًمُ يَعْلَمُ عِظَمَ هذه الكَلِمَةِ، ولكنَّهُ أَرَادَ شيئًا يَخْتَصُّ بهِ؛ لأنَّ تَخْصِيصَ الإنْسانِ بالأمرِ يدلُّ عَلَى مَنْقَبةٍ لهُ ورِفْعَةٍ، فَبَيَّنَ اللهُ لمُوسَى أنَّهُ مَهْمَا أُعْطِيَ فَلَنْ يُعْطَى أَفْضَلَ مِنْ هذه الكَلِمَةِ، وأنَّ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) أَعْظَمُ مِن السَّمَاواتِ والأَرْضِ ومَا فيهِنَّ؛ لأنَّها تَمِيلُ بِهِنَّ وتَرْجَحُ، فَدَلَّ ذلكَ علَى فَضْلِ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) وعِظَمِها، لكنْ لاَ بُدَّ من الإتيانِ بشُرُوطِهَا، أمَّا مُجَرَّدُ أنْ يقولَها القائلُ بلِسَانِهِ، فكَم مِنْ إنْسانٍ يَقُولُها، لكنَّها عندَهُ كالرِّيشَةِ، لاَ تُساوِي شيئًا؛ لأنَّهُ لَمْ يَقُلْها علَى الوجْهِ الذي تَمَّتْ بهِ الشُّرُوطُ، وانتَفَتْ المَوَانِعُ.
(12) قولُهُ: ("والأَرَضِينَ السبعَ") في بَعْضِ النُّسَخِ بالرَّفْعِ، وهذا لاَ يَصْلُحُ؛ لأنَّهُ إذا عُطِفَ عَلَى اسمِ (إنَّ) قَبْلَ استكمالِ الخَبَرِ وجَبَ النَّصْبُ.
(13) قولُهُ: ("مَالَتْ") أيْ: رَجَحَتْ حتَّى يَمِلْنَ.
قولُهُ: ("عامِرَهُنَّ") أيْ سَاكِنَهُنَّ، فالعَامِرُ للشيءِ هوَ الذي عُمِرَ بِهِ الشيءُ.
قولُهُ: ("غيرِي") اسْتَثْنَى نَفْسَهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى؛ لأنَّ قولَ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) ثَنَاءٌ عَلَيهِ، والمُثْنَى عليهِ أَعْظَمُ مِن الثَّناءِ.
(14) قولُهُ: ("قَالَ اللهُ تَعَالَى: يا ابنَ آدمَ... ") إلخ هذا مِن الأحاديثِ القُدْسِيَّةِ، والحديثُ القُدْسِيُّ: ما رَوَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنْ رَبِّهِ، وقدْ أَدْخَلَهُ المُحَدِّثُونَ في الأحاديثِ النَّبَويَّةِ؛ لأنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تَبْلِيغًا، وليسَ مِن القرآنِ بالإجماعِ، وإنْ كانَ كلُّ واحدٍ منهما قدْ بَلَّغَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أُمَّتَهُ عنِ اللهِ عزَّ وجَلَّ.
قولُهُ: ("بِقُرَابِ الأرْضِ") أيْ مَا يُقَارِبُها إِمَّا مَلْئًا، أوْ ثِقَلاً، أوْ حَجْمًا.
(15) قولُهُ ("خَطَايا") جَمعُ خَطِيئَةٍ، وهيَ الذنبُ، والخَطَايا الذُّنوبُ، ولوْ كانتْ صغيرةً، لقولِهِ تعالَى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ}.
(16) قولُهُ: ("لاَ تُشْرِكُ بِي شيئًا") جملةُ "لاَ تُشْرِكُ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ علَى الحالِ مِن التاءِ؛ أيْ لَقِيتَنِي في حَالٍ لا تُشْرِكُ بي شيئًا.
قولُهُ: ("شيئًا") نَكِرَةٌ في سياقِ النَّفْيِ تُفِيدُ العُمُومَ؛ أيْ لاَ شِرْكًا أَصْغَرَ ولاَ أَكْبَرَ، وهذا قيدٌ عظيمٌ، قدْ يَتَهاونُ بهِ الإنسانُ، ويقولُ: أنا غيرُ مُشْرِكٍ وهوَ لاَ يَدْرِي، فحُبُّ المالِ مَثَلاً بِحَيْثُ يُلْهِي عنْ طَاعَةِ اللهِ مِن الإشْرَاكِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "تعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ.. " الحديثَ، فَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَنْ كانَ همُّهُ الدِّينارَ عبدًا لهُ.
(17) قولُهُ: ("لأََتَيْتُكَ بقُرَابِهَا مَغْفِرَةً") أيْ أنَّ حَسَنَةَ التَّوْحيدِ عَظِيمَةٌ، تُكفِّرُ الخَطَايا الكبيرةَ إذا لَقِيَ اللهَ وهوَ لاَ يُشْرِكُ بهِ شيئًا، والمغفرةُ سَتْرُ الذَّنْبِ والتَّجاوزُ عنه.
ومناسبةُ الحديثِ للتَّرْجَمَةِ: أنه في هذا الحديثِ بيان فضلُ التوحيدِ، وأنَّهُ سببٌ لتكفيرِ الذنوبِ، فهوَ مُطَابِقٌ لقولِهِ في التَّرْجَمَةِ: (وما يُكَفِّرُ مِن الذُّنوبِ).
(18) قولُهُ: ( فيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: سَعَةُ فَضْلِ اللهِ ) لقولِهِ: "أَدْخَلَهُ اللهُ الْجنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَملِ".
(19) (الثانيَةُ: كثرةُ ثوابِ التوحيدِ عندَ اللهِ) لقولِهِ: "مَالَتْ بِهِنَّ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ".
(20) (الثالثةُ: تَكْفيرُهُ معَ ذلكَ الذُّنوبَ) لقولِهِ: "لأََتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً" ، فالإنْسانُ قدْ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ أحيانًا، فيقعُ في الخَطَايا، لكنَّهُ مُخْلصٌ للهِ في عِبَادِتِهِ وطَاعَتِهِ، فحَسَنةُ التوحيدِ تُكَفِّرُ عنه الخَطَايا إذا لَقِيَ اللهَ بها.
(21) (الرابعةُ: تفسيرُ الآيَةِ التي في سُورَةِ الأنعامِ) وهيَ قولُهُ تعالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، فالظلمُ هنا الشِّركُ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الرَّجُلِ الصَّالحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".
(22) (الخامسةُ: تأمَّل الخمسَ اللَّواتِي في حديثِ عُبَادَةَ) وهُنَّ : الشَّهادَتَانِ، وأنَّ عيسَى عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إلَى مَرْيمَ، ورُوحٌ منهُ، وأنَّ الجنَّةَ حقٌّ، وأنَّ النارَ حقٌّ.
(23) (السادسةُ: أنَّكَ إذا جَمَعْتَ بينَهُ وبينَ حديثِ عِتْبانَ، وحديثِ أَبِي سعيدٍ، وحديثِ أنسٍ، وما بعدَهُ تَبَيَّنَ لكَ مَعْنَى قولِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)، وتَبَيَّنَ خَطَأُ المَغْرُورينَ) لأنَّهُ لاَ بُدَّ أنْ يَبْتَغِيَ بها وجْهَ اللهِ، وإذا كانَ كذلكَ فَلاَ بدَّ أنْ تَحْمِلَ المرءَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ.
(24) (السابعةُ: التَّنْبِيهُ للشرْطِ الذي في حديثِ عِتْبانَ) وهوَ أنْ يَبْتَغِيَ بقولِهَا وجْهَ اللهِ، ولاَ يَكْفِي مجرَّدُ القولِ؛ لأنَّ المنافِقِينَ كانوا يَقُولُونَها، ولَمْ تَنْفَعْهم.
(25) (الثامنةُ: كونُ الأنبياءِ يَحْتاجُونَ للتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) فَغَيْرُهم مِنْ بَابِ أوْلَى.
(26) (التاسعةُ: التَّنْبِيهُ لرُجْحَانِها بِجَمِيعِ المَخْلوقاتِ، مَعَ أنَّ كثيرًا مِمَّن يقولُها يَخِفُّ مِيزَانُهُ) فالبَلاَءُ مِن القائلِ لاَ مِن القولِ؛ لأنَّهُ قدْ يكونُ اخْتَلَّ شرطٌ مِن الشروطِ، أوْ وُجِدَ مانعٌ مِن الموانعِ، فإنَّها تَخِفُّ بِحَسبِ ما عندَهُ، أمَّا القولُ نَفْسُهُ فَيَرْجَحُ بِجَميعِ المَخْلوقاتِ.
(27) (العاشرةُ: النَّصُّ عَلَى أنَّ الأَرَضينَ سَبْعٌ كالسماواتِ) لأنه لم يَرِدْ في القُرآنِ تَصْرِيحٌ بذلكَ، بلْ وَرَدَ صَرِيحًا أنَّ السَّماواتِ سَبْعٌ بقولِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وبالنسبةِ للأَرَضِينَ لم يَرِدْ إلاَّ قولُهُ تَعَالَى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فالمِثْلِيَّةُ بالكَيْفِيَّةِ غَيرُ مُرَادَةٍ، لظُهُورِ الفَرْقِ بينَ السَّماءِ والأرْضِ في الْهَيْئَةِ، والكَيْفِيَّةِ، والارْتِفَاعِ، والحُسْنِ، فبَقِيَت المِثْلِيَّةُ في العَدَدِ، أمَّا السُّنَّةُ فهيَ صَرِيحةٌ جدًّا بأنَّها سَبْعٌ، مثلُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ".
(28) (الحاديَةَ عشرةَ: أنَّ لهنَّ عُمَّارًا) أي السَّماواتِ ، وعُمَّارُهُنَّ المَلاَئِكَةُ.
(29) (الثانيَةَ عشرةَ: إثباتُ الصفاتِ خِلافًا للأشْعَرِيَّةِ) وفي بَعْضِ النُّسخِ (خِلافًا للمُعَطِّلَةِ)، وهذه أَحْسَنُ؛ لأنَّها أَعَمُّ، حيثُ تَشْمَلُ الأَشْعَرِيَّةَ، والمُعْتَزِلَةَ، والجَهْمِيَّةَ، وغيرَهم، ففيهِ إثباتُ الوجْهِ للهِ سبحانَهُ بقولِهِ: "يَبْتَغِي بذلِكَ وجْهَ اللهِ" وإثباتُ الكَلاَمِ بقولِهِ: "وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا" وإثْباتُ القولِ في قولِهِ: "قُل: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ".
(30) (الثالثةَ عشرةَ: أنَّكَ إذا عَرَفْتَ حَديثَ أنسٍ عَرَفْتَ أنَّ قولَهُ في حديثِ عِتْبانَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بِذلِكَ وجْهَ اللهِ" أنَّهُ تَرَكَ الشِّرْكَ) وفي بعضِ النُّسخِ: (إذَا تَرَكَ الشِّرْكَ) أيْ أنَّ قولَهُ: "حَرَّمَ عَلَى النارِ مَنْ قالَ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، يَبْتَغِي بذلِكَ" يَعْنِي تَرَكَ الشِّرْكَ، وليسَ مجرَّدَ قولِها باللسانِ؛ لأنَّ مَن ابْتَغَى وجْهَ اللهِ في هذا القولِ لاَ يُمْكنُ أنْ يُشْرِكَ أبدًا.
(31) (الرابعةَ عشرةَ: تَأَمَّل الجَمْعَ بينَ كونِ كلٍّ مِنْ عيسَى ومحمدٍ عبْدَيِ اللهِ ورَسُولَيْهِ) مِنْ وجْهَيْنِ؛ الأولُ أنَّهُ جَمَعَ لكلٍّ منهما بينَ العبوديَّةِ والرسالَةِ، الثاني أنَّهُ جَمَعَ بينَ الرَّجُلَيْنِ، فتَبَيَّنَ أنَّ عيسَى مثلُ مُحَمَّدٍ وأنَّهُ عبدٌ ورسولٌ، وليسَ ربًّا ولاَ ابنًا للرَّبِّ سبحانَهُ.
(32) (الخامسةَ عشرةَ: مَعْرِفَةُ اخْتِصَاصِ عِيسَى بكَوْنِهِ كَلِمَةَ اللهِ) أيْ أنَّ عِيسَى انْفَرَدَ عنْ مُحَمَّدٍ في أَصْلِ الخِلْقَةِ، فَقَدْ كانَ بكَلِمَةٍ، أمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ خُلِقَ مِنْ مَاءِ أَبِيهِ.
(33) (السادسةَ عشرةَ: مَعْرِفَةُ كونِهِ رُوحًا منهُ) أيْ أنَّ عيسَى رُوحٌ مِن اللهِ، و(مِنْ) هنا بَيَانِيَّةٌ، أوْ للابْتِدَاءِ، وليستْ للتَّبْعِيضِ؛ أيْ: رُوحٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ اللهِ، وليسَت بعضًا مِن اللهِ، بلْ هيَ مِنْ جُمْلَةِ الأَرْواحِ المَخْلُوقَةِ.
(34) (السابعةَ عشرةَ: مَعْرِفَةُ فَضْلِ الإيمانِ بالجنَّةِ والنَّارِ) لقولِهِ في حَديثِ عُبَادَةَ: "وأنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، والنَّارَ حَقٌّ"، والفَضْلُ أنَّهُ مِنْ أَسْبابِ دُخولِ الجنَّةِ.
(35) (الثامنةَ عشرةَ: مَعْرِفَةُ قولِهِ: "عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ") أيْ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ ولوْ قَلَّ، أوْ عَلَى مَا كَانَ مِن العَمَلِ السيِّئِ ولوْ كَثُرَ، بشرطِ أنْ لاَ يَأْتِيَ بِمَا يُنافِي التَّوْحيدَ، ويُوجِبُ الخُلُودَ في النَّارِ، لكنْ لاَ بُدَّ مِن العَمَلِ، ولاَ يَلْزَمُ اسْتِكْمَالُ العَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَتِ المُعْتَزِلَةُ والخَوَارِجُ.
ولَمْ تُذْكَرْ أركانُ الإسْلاَمِ هنا؛لأنَّ مِنْهَا مَا يَكْفُرُ الإنسانُ بتَرْكِهِ، ومِنْها مَا لاَ يَكْفُرُ؛ فإنَّ الصَّحِيحَ أنَّهُ لاَ يَكْفُرُ إلاَّ بتَرْكِ الشَّهَادَتَيْنِ والصَّلاَةِ، وإنْ كَانَ رُوِيَ عن الإمامِ أحْمَدَ أنَّ جميعَ أركانِ الإسْلاَمِ يَكْفُرُ بتَرْكِهَا، لكنَّ الصَّحِيحَ خِلاَفُ ذلكَ.
(36) (التاسعةَ عَشرةَ: مَعْرِفَةُ أنَّ المِيزَانَ لَهُ كِفَّتانِ) أَخَذَها المُؤَلِّفُ مِنْ قولِهِ: "لوْ أنَّ السَّماواتِ.. "إلخ، "وُضِعَتْ في كِفَّةٍ، ولاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ في كِفَّةٍ")، والظَّاهِرُ أنَّ الذي في الحَديثِ تَمْثِيلٌ، يَعْنِي أنَّ قولَ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، أَرْجَحُ مِنْ كلِّ شيءٍ، وليسَ في الحديثِ أنَّ هذا الوزنَ في الآخِرَةِ، وكأنَّ المؤلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ حَصَلَ عندَهُ انْتِقَالٌ ذِهْنِيٌّ، فانْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْ هذا إلَى ميزانِ الآخرةِ.
قلت: لم يصرح إمام الدعوة -رحمه الله- بأنه ميزان الآخرة، فمراده بيان أن حقيقة الميزان إذا أطلق في لسان العرب فهو ذو كفتين كما في هذا الحديث، ويعرف به أن لميزان الآخرة كفتين.
(37) (العشرونَ: معرفةُ ذِكْرِ الوجْهِ) وجهُ اللهِ تَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الخَبَرِيَّةِ الذَّاتيَّةِ التي مُسَمَّاهَا بالنِّسْبَةِ لَنَا أبعاضٌ وأجزاءٌ؛ لأنَّ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مَا هُو مَعْنًى مَحْضٌ، ومنهُ ما مُسَمَّاهُ بالنِّسْبَةِ لَنَا أَبْعَاضٌ وأجزاءٌ، ولاَ نَقُولُ بالنِّسبةِ للهِ تَعَالَى أبعاضٌ، لأنَّنا نَتَحاشَى كَلِمَةَ التَّبْعِيضِ في جَانِبِ اللهِ تَعَالَى.

هيئة الإشراف

#6

26 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا الباب (باب فضل التوحيد وما يكَفِّر من الذنوب)، التوحيد بأنواعه له فضل عظيم على أهله، ومن أعظم فضله أنه به تكفر الذنوب، ولهذا قال الشيخ -رحمه الله- في التبويب: (باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب).

(ما يكفر) ما هنا موصولة، موصول حرفي، يعني تقدر مع ما بعدها بمصدر، يكون المعنى باب فضل التوحيد وتكفيره الذنوب، فالتوحيد يكفر الذنوب جميعاً، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض، فإن التوحيد حسنة عظيمة، لا تقابلها معصية إلا وأحرق نور تلك الحسنة أثر تلك المعصية إذا كَمُلَ ذلك النور.
(باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) يعني وتكفيره الذنوب، فالتوحيد من كمله كمل توحيد الربوبية، توحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات فإنه تُكفر ذنوبه كما سيأتي في الباب بعده؛ أنه من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وكلما زاد التوحيد كلما محا من الذنوب بمقدار عِظَمه، وكلما زاد التوحيد كلما أمِن العبد في الدنيا وفي الآخرة بمقدار عظمه، وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كلما كان متعرضاً لدخول الجنة على ما كان عليه من العمل؛ لهذا ساق الإمام -رحمه الله- آية الأنعام، فقال: (باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وقول الله تعالى) من أهل العلم من قال: إن قوله: (وما يكفر من الذنوب) (ما) هنا موصول اسمي، يعني والذي يكفره من الذنوب، وهذا أيضاً سائغ ظاهر الصحة.
(وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}) {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}الظلم هنا هو الشرك، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في هَذِهِ الآيَةِ حِينَمَا اسْتَعْظَمَ الصَّحَابَةُ هَذِهِ الآيَةَ فَقُالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ: "لَيْسَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، الظُّلْمُ الشِّرْك، أَلَمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ العَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ") فالظلم هنا في مراد الشيخ هو الشرك، فيكون معنى الآية بما يناسب هذا الباب: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، ففضل الذي آمن يعني وَحَّد ولم يلبس إيمانه بشرك لم يلبس توحيده بشرك أن له الأمن التام والاهتداء التام؛ وجه الدلالة: أن قوله: {الَّذِينَ آمَنواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أن قوله: {بظلم} هنا نكرة في سياق {لم يلبسوا} وهذا يدل على عموم أنواع الظلم.
هل العموم هنا العموم المخصوص، أو العموم الذي يراد به الخصوص؟ هنا يراد العموم الذي يراد به الخصوص؛ لأننا قلنا فيما سبق لك آنفاً: إن النكرة في سياق النفي أو النهي تدل على العموم.
العموم عند الأصوليين تارة يكون باقياً على عمومه، هذه حالة، وتارة يكون عموماً مخصوصاً، يعني دخله التخصيص، وتارة يكون عموماً مراداً به الخصوص، يعني لفظه عام ولكن يراد به الخصوص، وهذا الثالث هو الذي أراد به الشيخ رحمه الله وجه الاستدلال من الآية، فيكون الظلم هنا، صحيح نكرة في سياق (لم) تدل على العموم، لكنه عموم مراد به الخصوص، وهو خصوص أحد أنواع الظلم، وهو الشرك، فيصير العموم في أنواع الشرك لا في أنواع الظلم كلها؛ لأن من أنواع الظلم ما هو من جهة ظلم العبد نفسه بالمعاصي، ومن جهة ظلم العبد غيره بأنواع التعديات، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله جل وعلا بالشرك، فهذا هو المراد بهذا العموم، فيكون عموماً في أنواع الشرك، وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية، فيكون المعنى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم يعني: توحيدهم بنوع من أنواع الشرك، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
و(الأمن) هنا هو الأمن التام في الدنيا، المراد به أمن القلب وعدم حزنه على غير الله جل وعلا، والاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة، وكلما صار ثَمَّ نقص في التوحيد بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك -الشرك الأصغر أو الشرك الخفي وسائر الشرك، ونحو ذلك- فيذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك، هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك.
فإذا فسرت الظلم بأنه جميع أنواع الظلم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يكون هناك مقابلة بين الأمن والاهتداء وبين حصول الظلم، فكلما انتفى الظلم وُجِدَ الأمن والاهتداء، كلما كمل التوحيد وانتفت المعصية عظم الأمن والاهتداء، وإذا زاد الظلم قلّ الأمن والاهتداء بحسب ذلك.
قال: (وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ ، أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ" .
مناسبة هذا الحديث للباب: قوله: "عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ"؛ وقوله: ("عَلَى مَا كَانَ") يعني على الذي كان عليه من العمل، ولو كان مقصراً في العمل، وعنده ذنوب وعصيان، فإن فضل توحيده لله، وشهادته لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، ونفي إشراك المشركين بعيسى، وإقراره بالغيب، وبالبعث، فإن ذلك له فضل عليه؛ وهو أن يدخله الله الجنة ولو كان مقصراً في العمل، وهذا من فضل التوحيد على أهله.
قال: (ولهما في حديث عِتبان: "فَإِنَّ اللَه حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ الله يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله"؛ قوله: ("مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ") المراد بالقول هنا الذي معه تمام الشروط؛ كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحج عرفة" يعني إذا أتى ببقية الأركان والواجبات، قوله هنا: "مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" يعني باجتماع شروطها، وبالإتيان بلازمها "يبتغي بذلك وجه الله"؛ ليخرج حال المنافقين؛ لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله، فإن الله حرم عليه النار، وقوله: "حَرَّمَ عَلَى النَّارِ" تحريم النار في نصوص الكتاب والسنة على درجتين؛ الأولى تحريم مؤبد، والثانية تحريم بعد أمد.
التحريم المؤبد يقتضي أن من حرم الله عليه النار، فإنه إذا كان التحريم تحريماً مؤبداً، فإنه لن يدخلها، يغفر الله له، أو يكون من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وإذا كان التحريم بعد أمد، يعني ربما يدخلها ثم يحرم عليه البقاء فيها.
وهذا الحديث يحتمل الأول ويحتمل الثاني.
"فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله" والذي أتى بالتوحيد وانتهى عن ضده، وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي ومات من غير توبة، فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه ثم حرم عليه النار، وإن شاء الله غفر له وحرم عليه النار ابتداءً.
فإذاً وجه الشاهد من الحديث للباب: أن هذه الكلمة وهي كلمة التوحيد -وسيأتي بيان معناها مفصلاً إن شاء الله تعالى- هذه الكلمة لما ابتغى بها صاحبها وجه الله وأتى بشروطها وبلوازمها، تفضل الله عليه وأعطاه ما يستحقه؛ من أنه حرم عليه النار، وهذا فضل عظيم، نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أهله.
حديث أبي سعيد الخدري بعد ذلك، فيه: "قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ قَالَ: قُلْ يَامُوسَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، قَالَ يَا رَبّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا".
في هذا الحديث دلالة على أن أهل الفضل والرفعة في الدين والإخلاص والتوحيد قد يُنبَّهون على شيء من مسائل التوحيد، فهذا موسى-عليه السلام- وهو أحد أولي العزم من الرسل، وهو كليم الله -جل وعلا- أراد شيئاً يختص به غير ما عند الناس، وأعظم ما يختص به أولياء الله، وأنبياؤه، ورسله، وأولي العزم منهم: هو كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فأراد شيئاً أخص، فعُلِم أنه لا أخص من كلمة التوحيد، فهي أفضل شيء، وهي التي دُلَّ عليها أولو العزم من الرسل ومن دونهم من الناس "قَال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي" يعني ومن في السموات السبع من الملائكة ومن عباد الله، غير الله جل وعلا "وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ في كِفَّةٍ" يعني لو تمثلت السموات أجساماً، والأرض جسما،ً والجميع سيوضع في ميزان له كفتان وجاءت (لا إله إلا الله) في الكفة الأخرى؛ كما قال هنا: "ولا إلا إله الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله".
(لا إله إلا الله) كلمة توحيدٍ فيها ثقلٌ لميزانِ من قالها، وعِظَمٌ في الفضل لمن اعتقدها وما دلت عليه، فلهذا قال: "مالت بهن لا إله إلا الله"؛ وجه الدلالة أنه لو تُصُوِّرَ أن ذنوب العبد بلغت ثقل السموات السبع، وثقل ما فيها من العبَّاد والملائكة، وثقل الأرض؛ لكانت لا إله إلا الله مائلة بذلك الثقل من الذنوب، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جُعل على أحد العصاة سجلات عظيمة، فقيل له: هل لك من عمل؟ فقال: لا، فقيل له: بلى، ثم أخرجت له بطاقة فيها لا إله إلا الله، فوضعت في الكفة الأخرى؛ فطاشت سجلات الذنوب وثقلت البطاقة.
وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد إنما هو لمن قويت في قلبه؛ ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية؛ لأنه مخلص فيها، مصدّق، لا ريب عنده فيما دلت عليه، معتقد ما فيها، محب لما دلت عليه، فيقوى أثرها في القلب ونورها، وما كان كذلك فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب، وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب.
فإذاً يكون هذا الحديث وحديث البطاقة، يدل على أن لا إله إلا الله لا يقابلها ذنب ولا تقابلها خطيئة، لكن هذا في حق من كملها وحققها؛ بحيث لم يخالطها في قلبه في معناها ريب ولا تردد، ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن، وعلى الأسماء والصفات باللزوم، وعلى الإلهية بالمطابقة.
فإذاً يكون من يكمل له الانتفاع بهذه الكلمة ولا يقابلها ذنوب وسجلات -ولو كانت في ثقل السموات وما فيها والأرض- يكون ذلك في حق من كمل ما دلت عليه من التوحيد، وهذا معنى هذا الحديث وحديث البطاقة.
وهذا أيضاً هو الذي دل عليه الحديث الآخِر في الباب: (عن أنس قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقول: "قال الله تعالى: يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَة") وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب.
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة، وهي أنه من أتى بذنوب عظيمة ولو كانت كقراب الأرض خطايا، يعني كعظم وقدر الأرض خطايا، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئاً، لأتى الله لذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة؛ وهذا لأجل فضل التوحيد وعظم فضل الله -جل وعلا- على عباده بأن هداهم إليه؛ ثم أثابهم عليه.
ذا بعض ما تيسر، وأسال الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والرشد والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

هيئة الإشراف

#7

26 Oct 2008

تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال

قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ فضلِ التَّوحيدِ ومَا يُكَفِّرُ منَ الذُّنُوبِ

وعنْ أبي سَعيدٍ الخُدرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ عنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: "قالَ مُوسَى: يا ربِّ عَلِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بهِ… " إلى آخره.
أخرجـَهُ النَّسائيُّ، وابنُ حبَّانَ، والطَّبرانيُّ، والحاكمُ، والبيهقيُّ، وأبو يعلَى، والبَغَويُّ منْ طرقٍ عنْ درَّاجِ بنِ سمعانَ عن أبي الهيثمِ سليمانَ بنِ عمرو العتواريِّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ بهِ.
وضعَّفَهُ بعضُهُم من أجلِ درَّاجِ بنِ سمعانَ، ولا سيَّمَا في روايتِهِ عن أبي الهيثمِ، وهذا الحديثُ منهَا.
قلْتُ: الحديثُ صحَّحَهُ الأئمَّةُ.
قالَ الحاكمُ: هذا حديثٌ صحيحُ الإِسنادِ ولم يخرِّجَاهُ.
وقالَ الذَّهبيُّ في التَّلخيصِ: صحيحٌ.
وصحَّحَهُ ابنُ حبَّانَ.
وقالَ الهيثمِيُّ: ورجالُهُ وُثِّقُوا وفيهم ضعفٌ.
وقالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ: سندُهُ صحيحٌ.
وقالَ المنذريُّ: وقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإِسنادِ ، ولم يتعقـَّبـْهُ.
وهو كمَا قالُوا: إسنادُهُ حسنٌ أو صحيحٌ؛ لوجوهٍ:
الأوَّلِ: أنَّ درَّاجاً هذا قد اختلفَ فيه أهلُ العلمِ، فضعَّفَهُ أحمدُ والنَّسائيُّ وأبو حاتمٍ الرَّازيُّ وفضلكُ الرَّازيُّ والدَّار قطنيُّ، ووثَّقَهُ يحيى بنُ معينٍ وعثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ وابنُ حبَّانَ وابنُ شاهينَ كمَا في تهذيبِ التَّهذيبِ في ترجمتِهِ.
وقالَ المنذريُّ: صحـَّحَ حديثَهُ عن أبي الهيثمِ التّرمذيُّ واحتجَّ به ابنُ خزيمةَ وابنُ حبَّانَ في صحيحيْهِمَا والحاكمُ وغيرُهُمْ. اهـ.
وابنُ معينٍ من الموثِّقِينَ له، وهو ممَّنْ يتمسَّكُ بتوثيقِهِ ويعضُّ عليه بالنَّواجِذِ، نصَّ عليه الذَّهبيُّ.
وقد ساقَ ابنُ عديٍّ له عدَّةَ أحاديثَ من مناكيرِهِ، ثمَّ قالَ: وسائرُ أخبارِ درَّاجٍ غيرَ ما ذكرْتُ من هذه الأحاديثِ يتابعُهُ النَّاسُ عليها، وأرجُو إذا أخرجْتُ درَّاجاً وبرَّأْتُهُ من هذه الأحاديثِ الَّتي أنكرْتُ عليه أنَّ سائرَ أحاديثِهِ لا بأسَ بها، وتَقْرُبُ صورتُهُ ممَّا قالَ عنه يحيى بنُ معينٍ. اهـ.
وهذا الحديثُ لم يذكرْهُ في مناكيرِهِ فدلَّ على أنَّه ممَّا تابعَهُ النَّاسُ عليهِ.
الثَّاني: أنَّهُ جاءَ من طريقٍ أخرى موقوفاً على كعبِ الأحبارِ، أخرجَهُ ابنُ أبي شيبةَ بقولِهِ: حدَّثَنَا يحيى بنُ آدمَ عن مفضلٍ عن منصورٍ عن مجاهدٍ عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ هشامٍ عن كعبٍ قالَ: قالَ موسى: يا ربِّ دلَّنِي على عملٍ إذا عملْتُهُ كانَ شكراً لك فيمَا اصطفَيْتَ إليَّ، قالَ: يا موسى، قلْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، قالَ: فكانَ موسى أرادَ من العملِ ما هو أنهَدُ لجسمِهِ ممَّا أمَرَ بهِ، قالَ: فقالَ لهُ: يا موسى، لو أنَّ السَّماواتِ السَّبعَ والأراضينَ السَّبعَ وُضِعَتْ في كفَّةٍ، ووُضِعَتْ لا إلهَ إلا اللهُ في كفَّةٍ لرجَحَتْ بهنَّ.
رجالُهُ ثقاتٌ: مفضلُ هو ابنُ مُهَلْهِلٍ، ومنصورٌ هو ابنُ المعتمرِ، ومجاهدٌ هو ابنُ جبرٍ، وأبو بكر بنُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ هشامٍ هو أحدُ الفقهاءِ السَّبعةِ، ولا أدري أسَمِعَ من كعبٍ أم لا.
الثَّالثِ: أنَّ له شواهدَ منها:
- حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرو رَضِي اللهُ عَنْهُما أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لرجلٍ: "ألا أرى عليكَ لباسَ مَنْ لا يعقلُ؟" ثمَّ قالَ: "إنَّ نبيَّ اللهِ نوحاً لمَّا حضرَتْهُ الوفاةُ قالَ لابنِهِ: إنِّي قاصٌّ عليكَ الوصيَّةَ: آمرُكَ باثنتينِ، وأنهاكَ عن اثنتينِ: آمرُكَ بلا إلهَ إلا اللهُ؛ فإنَّ السَّماواتِ السَّبعَ والأرضينَ السَّبعَ لو وُضِعَتْ في كفَّةٍ ولا إلهَ إلا اللهُ في كفَّةٍ، رجحَـْت بهـنَّ لا إلهَ إلا اللهَ … "الحديثُ ، أخرجَهُ أحمدُ والحاكمُ والبخاريُّ والبيهقيُّ من طريقِ الصقعبِ بنِ زهيرٍ عن زيدِ بنِ أسلمَ عن عطاءِ بنِ يسارٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بهِ.
وقالَ الحاكِمُ: هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ.
وقالَ الذَّهبيُّ: صحيحُ الإسنادِ.
وقالَ ابنُ كثيرٍ: وهذا إسنادٌ صحيحٌ ولم يخرِّجُوهُ. يعني أصحابَ الكتبِ السّتَّةِ.
وقالَ الهيثميُّ: رجالُ أحمدَ ثقاتٌ.
وقالَ أحمدُ شاكر: إسنادُهُ صحيحٌ.
وقالَ السَّاعاتيُّ: وهو حديثٌ صحيحٌ.
وأخرجَهُ الحاكمُ أيضاً بسندِهِ من طريقِ ابنِ عجلانَ عن زيدِ بنِ أسلمَ مُرْسَلاً ، والبخاريُّ من طريقِ عبدِ العزيزِ عن زيدٍ كذلِكَ.
وقالَ الحاكمُ: هذا من جنسِ الَّذي يقولُ: إنَّ الثّقةَ إذا وصلَهُ لم يضرَّهُ إرسالُ غيرِهِ. اهـ.
وأخرجَهُ الطَّبرانيُّ من طريقِ محمَّدِ بنِ إسحاقَ عن عمرو بنِ دينارٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: "كانَ في وصيَّةِ نوحٍ… " فذكرَهُ، نقلَهُ عنه الحافظُ ابنُ كثيرٍ، والبزَّارُ من طريقِ ابنِ إسحاقَ أيضاً عن عمرو بنِ دينارٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطَّابِ بنحوِهِ، وقالَ: لا نعلمُ أحداً رواهُ عن عمرو عن ابنِ عمرَ إلا ابنَ إسحاقَ ولا نعلمُ حدَّثَ به عن أبي معاويةَ إلا إبراهيمَ بنَ سعيدٍ. اهـ.
قالَ ابنُ كثيرٍ: والظـَّاهرُ أنَّهُ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ كمَا رواهُ أحمدُ، والطَّبرانيُّ، واللهُ أعلمُ. اهـ.
وقالَ المنذريُّ: رُوَاتُهُ محتَجٌّ بهم في الصَّحيحِ إلا ابنَ إسحاقَ.
وقالَ الهيثميُّ: فيه محمـَّدُ بنُ إسحاقَ وهو ثقةٌ مدلِّسٌ ورجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ.
وأخرجَهُ النَّسائيُّ: أخبرَنَا عبدُ الرَّحمنِ بنُ محمَّدٍ قالَ: حدَّثَنَا حجَّاجُ قالَ: أخبرَنَا ابنُ جريجٍ، قالَ: أخبرَنِي صالحُ بنُ سعيدٍ حديثاً رفعَهُ إلى سليمانَ بنِ يسارٍ إلى رجلٍ من الأنصارِ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: "قالَ نوحٌ لابنِهِ.. " فذكرَهُ بنحوِهِ.
- ومن شواهدِهِ حديثُ البطاقةِ عند أحمدَ والتّرمذيِّ والبغويِّ وابنِ حبَّانَ وابنِ ماجهَ والحاكمِ وحمزةَ الكنَانيِّ والسُّيوطيِّ من طرقٍ عن الليثِ بنِ سعدٍ قالَ: أخبرَنِي عامرُ بنُ يحيى عن أبي عبدِ الرَّحمنِ المعافريِّ الحبليِّ قالَ: سمعْتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرو بنِ العاصِ يقولُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يستخلِصُ رجلاً من أمَّتِي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ فينشُرُ عليه تسعةً وتسعينَ سجلاًّ، كلُّ سجِلٍّ مدَّ البصرِ، ثمَّ يقولُ: أتنكرُ من هذا شيئاً ؟ أظلمتكَ كَتَبَتِي الحافظونَ؟ قالَ: قالَ لا، يا ربِّ، فيقولُ: ألَكَ عذرٌ أو حسنةٌ؟ فيبهَتُ الرَّجلُ، فيقولُ: لا، يا ربِّ، فيقولُ: بلى إنَّ لك حسنةً واحدةً، لا ظلمَ اليومَ عليكَ، فتُخْرَجُ له بطاقةٌ فيها: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، فيقولُ: أحضرُوهُ، فيقولُ: يا ربُّ ما هذه البطاقةُ مع هذه السِّجلاَّتِ؟! فيُقَالُ: إنَّكَ لا تُظْلَمُ، فتُوضَعُ السِّجلاَّتُ في كفَّةٍ، قالَ: فطاشَتِ السِّجلاتُ وثقُلَتِ البطاقةُ ولا يثقُلُ شيءٌ بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ" اللفظُ لأحمدَ.
قالَ التّرمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ .
وبمثلِهِ قالَ البغويُّ.
وقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإسنادِ.
ووافقَهُ الذَّهبيُّ.
وقالَ السّيوطيُّ: حديثٌ صحيحٌ
وقالَ أحمدُ شاكر: إسنادُهُ صحيحٌ.
وقالَ حمزةُ الكنانيُّ: وهو من أحسنِ الأحاديثِ.
قلْتُ: وهو كما قالُوا رجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

16 Jun 2009

العناصر


* مناسبة باب (فضل التوحيد...) لكتاب التوحيد .
* مناسبة باب (فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) لما قبله .
* شرح قول المصنف: (باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) .
- جملة من فضائل التوحيد .
* تفسير قول الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الآية .
- تعلق قول الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} بما قبله .
- معنى قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} .
- أنواع الظلم .
* شرح حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "من شهد أن لا إله إلا الله... " .
- منزلة حديث عبادة بن الصامت .
- ترجمة عبادة بن الصامت .
* بيان معنى (لا إله إلا الله) .
- معنى (لا إله إلا الله) ، وبعض نصوص العلماء في معنى الإله والإلهية .
- هل يكفي النطق بالشهادة من غير معرفة لمعناها ؟
- معنى الحصر في كلمة التوحيد .
- بيان أن العلم بالشهادة غريزي ومكتسب .
- الجواب عن قول من قال إن معنى (الإله): القادر على الاختراع .
* معنى قوله: "وأن محمداً عبده ورسوله" .
- الحكمة من تقديم وصف العبد على الرسول في قوله: "وأن محمداً عبده ورسوله" .
- بيان ما ينقض تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله .
- نماذج من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم .
* الكلام على الحديث القدسي .
- تعريف الحديث القدسي، ولماذا أدخله المحدثون في الأحاديث النبوية ؟
* معنى قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" .
- سبب تسمية عيسى بـ (كلمة الله) والرد على الجهمية في ذلك .
- أنواع ما يضاف إلى الله تعالى .
- الحكمة من الجمع بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام .
- معنى قوله: "ألقاها إلى مريم" .
- معنى قوله: "وروح منه" .
- معنى قوله: "والجنة حق والنار حق" ونظائره في القرآن وما يستفاد منها .
- المراد بقوله: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" .
* شرح حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه: "فإن الله حرم على النار... " .
- ترجمة عتبان بن مالك رضي الله عنه .
- هل يكفي النطق بالشهادتين عن العمل واليقين ؟
- بعض ما يستفاد من حديث عتبان .
- الاستدلال بحديث عتبان على أن الأعمال من الإيمان .
* شرح حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "قال موسى: يا رب علمني شيئاً... " .
- ترجمة أبي سعيد الخدري .
- معنى قوله: "أذكرك وأدعوك به" .
- فائدة من قوله: "يا موسى قل: لا إله إلا الله" فيها رد على المتصوفة .
- لماذا أسند الفعل (يقول) إلى ضمير الجمع في قوله: "كل عبادك يقولون هذا" ؟
- السبب في طلب موسى من الله أن يخصه بذكر .
- معنى قوله: "وعامرهن غيري" ونظيرٌ له من السنة .
- معنى قوله: "في كفة مالت بهن" .
- بيان وجه كون (لا إله إلا الله) أفضل الأذكار .
- الأدلة على أن (لا إله إلا الله) أفضل الأذكار .
- تتفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب .
- ترجمة ابن حبان .
- ترجمة الحاكم .
* شرح حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
- تمام حديث أنس ورواياته والحكم عليه .
- ترجمة أنس بن مالك رضي الله عنه .
- معنى قوله: "لاتشرك بي شيئاً" .
- معنى قراب في قوله: "لو أتيتني بقراب الأرض" .
- شرط حصول المغفرة .
- ما هو القلب السليم ؟
- نوعا الشرك وجزاء كل منهما .
- فوائد من حديث أنس .
* ترجمة الترمذي .
* ما يستفاد من أحاديث الباب .
* في أحاديث الباب الرد على الخوارج والمعتزلة والأشعرية .