الدروس
course cover
كتاب التوحيد وقول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
20 Oct 2008
20 Oct 2008

16927

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم الأول

كتاب التوحيد وقول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
20 Oct 2008
20 Oct 2008

20 Oct 2008

16927

0

0


0

0

0

0

0

كتاب التوحيد وقول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ للهِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

كِتَابُ التَّوْحِيدِ

- وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: { وما خَلَقْتُ الجنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدونِ } [الذَّارِيَات: 56].
- وَقَوْلُهُ: { ولقدْ بَعَثْنا فِي كلِّ أمَّةٍ رَّسولاً أنِ اعبدُوا اللهَ واجتَنِبُوا الطَّاغوتَ } [النَّحْل: 36].
- وَقَوْلُهُ: { وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عندَكَ الكِبَرَ أحَدُهُمَا أوكِلاهُمَا فلا تَقُلْ لهما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وقُل لهما قولاً كَرِيمًا ، واخْفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُما كَمَا رَبَّيَاني صَغِيرًا } [الإِسْرَاء:23-24].
- وَقَوْلُهُ: { واعبُدوا اللهَ ولا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا } [النِّسَاء:36].
- وَقَوْلُهُ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ ما حرَّم رَبُّكم عليكم ألاَّ تُشرِكوا بهِ شَيْئًا وبالوَالِدينِ إحسَانًا ولا تقتلُوا أولادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ نحنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُم وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنها ومَا بَطَنَ وَلا تقتلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّم اللهُ إلاَّ بالحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تَعقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتي هِيَ أحسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وَأوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَها وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعهدِ الله أَوفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأَنْعَام:151-153].
- قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ ما حرَّم رَبُّكم عليكم ألاَّ تُشرِكوا بهِ شَيْئًا } إِلَى قَوْلِه: { وأَنَّ هذا صِراطي مُستَقيمًا }الآيَةَ .
- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَـارٍ فَقَـالَ لِي : " يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ ؟ " ، قُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ: " لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ.
الثَّانِيةُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّوْحِيدُ؛ لأَِنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَعْبُدِ اللهَ، فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ }.
الرَّابِعَةُ: الْحِكْمَةُ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ كُلَّ أُمَّةٍ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ دِينَ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ.
السَّابِعَةُ: الْمَسْأَلَةُ الْكَبِيرَةُ: أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ لاَ تَحْصُلُ إِلاَّ بِالْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ، فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: { فَمَن يَكْفُرْ بالطَّاغوت ويؤمن بالله } الآيَةَ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الطَّاغُوتَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ.
التَّاسِعَةُ: عِظَمُ شَأْنِ ثَلاَثِ الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَفِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: أَوَّلُهَا النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ.
الْعَاشِرَةُ: الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ وَفِيهَا ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً ؛ بَدَأَهَا اللهُ بِقَوْلِهِ: { لا تجعلْ معَ الله إلهًا آخرَ فتقعدَ مذمومًا مخذولاً }، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } ، وَنَبَّهَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ: { ذلكَ مما أوحَى إليكَ ربُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ }.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي تُسَمَّى آيَةَ الْحُقُوقِ الْعَشَرَةِ بَدَأَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: { وَاعْبُدُوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيهُ عَلَى وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ الْعِبَادِ عَلَيْهِ إِذَا أَدَّوْا حَقَّهُ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لاَ يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ كِتْمَانِ الْعِلْمِ لِلْمَصْلَحَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِحْبَابُ بَشَارَةِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَسُرُّهُ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْخَوْفُ مِنَ الاِتِّكَالِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُ الْمَسْئُولِ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
الْعِشْرُونَ: جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ دُونَ الْبَعْضِ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَوَاضُعُهُ صلى الله عليه وسلم لِرُكُوبِ الْحِمَارِ مَعَ الإِرْدَافِ عَلَيْهِ.
الثَّانِيةُ وَالْعِشْرُونَ: جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فَضِيلَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

هيئة الإشراف

#2

24 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمْدُ للهِ الذي رَضِيَ الإِسْلامَ للمؤمنينَ دينًا، ونَصَبَ الأدلَّةَ على صِحَّتِهِ وبيَّنَها تَبْيِينًا، وغَرَسَ التَّوحِيدَ في قُلُوبِهمْ، فأَثْمَرتْ بإخلاصِهِ فنونًا، وأعانَهم على طاعتِهِ هدايةً منه وكَفَى بربِّكَ هاديًا ومُعِينًا.
والحَمْدُ للهِ الذي لَمْ يتَّخِذْ وَلَدًا، ولَمْ يَكُنْ له شَرِيكٌ في المُلْكِ، ولَمْ يَكُنْ له وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا، الذي خَلَقَ مِن المَاءِ بَشَرًا فجَعَلَه نسَبًا وصِهْرًا وكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا، ويَعْبُدُونَ مِن دونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُهُم وَلاَ يَضُرُّهُم وَكَانَ الكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا.
وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَه لاَ شَرِيكَ له في رُبُوبيَّتِهِ وإِلَهِيَّتِهِ، تَعَالَى عن ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا.
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُه، أَرْسَلَهُ بالحَقِّ شَاهِدًا، ومُبَشِّرًا، ونَذِيرًا، ودَاعِيًا إلى اللهِ بِإِذْنِهِ، وسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا شَرْحٌ لكِتَابِ التَّوْحِيدِ وَافٍ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- بالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ مِن بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ؛ إِذْ هو المَقْصُودُ بالأَصَالَةِ -هنا- وَلَمْ أُخْلِهِ -أيضًا- مِن التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَضَمَّنُه مِن غَيْرِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الأَوْلَى بِنَا هو بَيَانُ ما وُضِعَ لأَِجْلِهِ الكِتَابُ لعُمُومِ الضَّرَرِ والفَسَادِ الوَاقِعِ مِن مُخَالَفَةِ ما فيه.
والأَصْلُ في ذَلِكَ هو الإِعْرَاضُ عن الهُدَى والنُّورِ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن الكِتَابِ والحِكْمَةِ، والاسْتِغْنَاءِ عن ذلكَ بِمُتَابَعَةِ الآباءِ والأَهْواءِ والعَادَاتِ المُخَالِفَةِ لذلكَ.
ولِهَذَا كَرَّرَ اللهُ تَعَالَى الأَمْرَ بِمُتَابَعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في مَوَاضِعَ كَثِيرةٍ مِن القُرْآنِ، وضَرَبَ الأَمْثَالَ لذلكَ، وأَكَّدَه وتَوَعَّدَ عَلَى الإِعْرَاضِ عنه، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لشِدَّةِ الحَاجَةِ، بل الضَّرُورَةُ إلى ذلك فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، فَإِنَّه لاَ صَلاَحَ للعَبْدِ، ولاَ فَلاَحَ وَلاَ سَعَادَةَ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِلاَّ بذلكَ، ومتى لم يَحْصُلْ ذَلِكَ للعَبْدِ فهو مَيِّتٌ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
فسَمَّى سُبْحَانَه وَتَعَالَى الخَالِيَ عن هَذَا الهُدَى والنُّورِ مَيِّتًا، وسَمَّى مَن حَصَلَ له ذلك حياًّ؛ وذلكَ أنَّهُ لاَ مَقْصُودَ به في حَيَاةِ الدُّنْيَا إِلاَّ تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى، ومَعْرِفَتُه وخِدْمَتُه، والإِخْلاَصُ له، والاسْتِلْذَاذُ بذِكْرِهِ، والتذَلُّلُ لعِظَمَتِهِ، والانْقِيَادُ لأَِوَامِرِهِ، والإِنَابَةُ إليهِ، والإِسْلاَمُ له، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا للعَبْدِ، فهو الحَيُّ، بل قَدْ حَصَلَتْ له الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ في الدَّارَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97].
فَإِذَا فَاتَهُ هَذَا المَقْصُودُ فهو مَيِّتٌ، بل شَرٌّ مِن المَيِّت:
- قَالَ اللهُ تَعَالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف:3].
- وقَالَ تعَالَى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153].
- وَقَالَ تَعَالَى: { قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة:15-16].
- وقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّها النّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [النساء:174].
- وَقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء:59].
- { وَمَا أَرْسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } [النساء:64].
- { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65].
- وقال تعالى: { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل:89].
- وقال تعالى: { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99)مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْرًا(100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْلاً } [طه:99-101].
- وقال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا(124) وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } [طه:123-125] ؛ قال ابنُ عَبَّاسٍ: تَكَفَّلَ اللهُ لِمَن قَرَأَ القُرْآنَ وعَمِلَ بِمَا فيه أَنْ لاَ يَضِلَّ في الدُّنْيا، ولا يَشْقَى في الآخِرَةِ.
- وقَالَ تَعَالَى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاه نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وِإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى:52].
فيَا عَجَبًا مِمَّن يَزْعُمُ أنَّ الهِدَايَةَ والسَّعَادَةَ لاَ تَحْصُلُ بالقُرْآنِ ولاَ بالسُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَهْتَدِ إِلاَّ بذلك:
- كَمَا قَالَ تَعَالَى: { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [سبأ:50]، ثُمَّ بعدَ ذَلِكَ يُحِيلُهَا عَلَى قَوْلِ فُلاَنٍ وفُلاَنٍ.
- وقَالَ تعَالَى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر:7].
والآيَاتُ في هَذَا المَعْنَى كَثِيرَةٌ، فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَن عَقَلَ عن اللهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ ويَقِينٍ في دِينِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ } [يوسف:108] ، ومُحَالٌ أَنْ يَحْصُلَ اليَقِينُ والبَصِيرَةُ إِلاَّ مِن كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكيفَ يَنَالُ الهُدَى والإِيمَانَ مَنْ زَعَمَ أنَّ ذلك لاَ يَحْصُلُ مِن القُرْآنِ إنَّما يَحْصُلُ مِن الآرَاءِ الفَاسِدَةِ التي هي زُبَالَةُ الأَذْهَانِ ! تَاللهِ لَقَدْ مُسِخَتْ عُقُولٌ هذا غايةُ ما عِنْدَها مِن التَّحْقِيقِ والعِرْفانِ.
وهَذِه المُتَابَعَةُ لكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي حَقِيقَةُ دِينِ الإِسْلاَمِ، الذي افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَى الخَاصِّ والعَامِّ، وهو حَقِيقَةُ الشَّهَادَتَيْنِ الفَارِقَتَيْنِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكُفَّارِ، والسُّعَداءِ أَهْلِ الجَنَّةِ والأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّارِ.
إذ مَعْنَى الإِلَهِ: هو المَعْبُودُ المُطَاعُ، وذلك هو دِينُ اللهِ الذي ارْتَضَاهُ لنَفْسِهِ ومَلاَئِكَتِهِ ورُسُلِهِ وأَنْبِيَائِهِ فَبِهِ اهْتَدَى المُهْتَدُونَ وإِلَيْهِ دَعَا المُرْسَلُونَ ؛ { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] ، { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُون وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران:83] فَلاَ يُتَقَبَّلُ مِن أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ مِن الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ ، كما قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ }[آل عمران:85].
شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ دِينُهُ قَبْلَ شَهَادَةِ المَخْلُوقِينَ، وأَنْزَلَهَا تُتْلَى في كِتَابِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى وهو العَزِيزُ العَلِيمُ: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [آل عمران:18].
جَعَلَ أَهْلَهُ هُمُ الشُّهَداءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِمَا فَضَّلَهُم به مِن الأقوالِ، والأعمالِ، والاعْتِقَادَاتِ التي تُوجِبُ إِكْرَامَهُ ؛ فَقَالَ تَعَالَى وَلَمْ يَزَلْ عَزِيزًا حَمِيدًا: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة:143].
وفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الأَدْيانِ، فهو أَحْسَنُهَا حُكْمًا، وأَقْوَمُهَا قِيلاً ؛ فَقَالَ تَعَالَى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء:125].
وكيف لا يُمَيِّزُ مَن له بَصِيرَةٌ بَيْنَ دِينٍ أُسِّسَ على تَقْوَى من اللهِ ورضوانٍ، وارْتَفَعَ بِنَاؤُه على طاعَةِ الرَّحْمَنِ، والعَمَلِ بِمَا يَرْضَاهُ في السِّرِّ والإِعْلاَنِ، وبَيْنَ دِينٍ أُسِّسَ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بصَاحِبِه في النَّارِ؟ أُسِّسَ عَلَى عِبَادَةِ الأصنامِ والأوثانِ، والالْتِجَاءِ إلى الصَّالِحِينَ وغَيْرِهم مِن الإِنْسِ والجَانِّ، عِنْدَ الشَّدَائِدِ والأَحْزَانِ، وصَرْفِ مُخِّ العبادةِ لغيرِ المَلِكِ الدَّيَّانِ، ورَجَاءِ النَّفْعِ والعَطَاءِ والمَنْعِ مِمَّن لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا، فَضْلاً عن غَيْرِه مِن نَوْعِ الإِنْسَانِ، ودَعْوَى التَّصَرُّفِ في المُلْكِ لِصَالِحِ رَمِيمٍ في التُّرَابِ والأَكْفَانِ ، قد عَجَزَ عن دَفْعِ مَا حَلَّ به مِن أَمْرِ اللهِ، فَكَيْفَ يَدْفَعُ عَمَّن دَعَاهُ مِن بَعِيدِ الأَوْطَانِ ؟! أو فَاسِقٌ يُشَاهِدُونَ فِسْقَه وفُجُورَه فهو أَبْعَدُ النَّاسِ مِن الرَّحْمَنِ ؟! أو سَاحِرٌ يُرِيهِم مِن سِحْرِه مَا يُحَيِّرُ به الأَذْهانَ، فَيَظُنُّ المَخْذُولُونَ أَنَّها كَرَامَةٌ مِن اللهِ، وَإِنَّمَا هي مِن مَخَارِيقِ الشَّيْطَانِ ! تبًّا لَهُم سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهم بَابَ العِلْمِ والإِيمَانِ، وفَتَحُوا عَلَيْهَا بَابَ الجَهْلِ والكُفْرَانِ، قَابَلوا خَبَرَ اللهِ بالتَّكْذِيبِ، وأَمْرَه بالعِصْيانِ.
أَخْبَرَ بِأَنَّ الهُدَى والنُّورَ في كِتَابِهِ، فَقَالُوا: كَانَ ذَاكَ فِيمَا مَضَى مِن الزَّمَانِ ، وَأَمَرَهُم باتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إليهم مِن رَبِّهِم، وَلاَ يَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، فَقَالُوا: لا بُدَّ لَنَا مِن وَلِيٍّ غَيْرِ القُرْآنِ ، إنْ جِئْتَهم بكِتَابِ اللهِ قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ أَهْلَ الزَّمَان ، أو جِئْتَهُم بِسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: خَالَفَهَا الشَّيْخُ فُلاَنٌ، وهو أَعْلَمُ مِنَّا ومنكم، فاعْتَبِرُوا يا أُولِي الإِيمَانِ.
عَمَـدُوا إلى قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ، فَبَنَوْا عَلَيْهَا البُنْيَانَ، ونَقَشُوا سُقُوفَهَا والحِيطَانَ، وحَلَّوْها بالغَالِي مِن الأَثْمَانِ، وأَلْبَسُوهَا أَلْوَانَ السُّتُورِ الحِسَانِ، وَجَعَلُوا لَهَا السَّدَنَةَ والخُدَّامَ، فِعْلَ عُـبَّادِ الأوثانِ والصُّلبانِ، وذَبَحُوا وَنَذَرُوا لِمَن فيها، وَقَرَّبُوا لَهُم القُرْبانَ، وقَالُوا: هؤلاء شُفَعَاؤُنَا في كَشْفِ الكُرُوبِ وغُفْرَانِ الذُّنُوبِ ودُخُولِ الجِنَانِ.
فباللهِ صِفْ لي شِرْكَ المُشْرِكِينَ، هل هو بِعَيْنِهِ إِلاَّ هذا، كَمَا نَطَقَ به القُرْآنُ في سُورَةِ يُونُسَ، والزُّمَرِ، وَغَيْرِهِمَا، مِن مُحْكَمَاتِ الفُرْقَانِ، إِنْ غَرَّكَ أَنَّ الأَكْثَرَ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَكَمَ اللهُ بِأَنَّهُم أَضَلُّ سَبِيلاً مِن الأَنْعَامِ؛ إِذِ اسْتَبْدَلُوا الشِّرْكَ بالتَّوْحيدِ، والضَّلاَلَ بالهُدَى، والكُفْرَ بالإِسْلاَمِ، نَعُوذُ باللهِ مِن مُوجِبَاتِ غَضَبِهِ وأَلِيمِ عِقَابِهِ فهو السَّلاَمُ، أو غَرَّكَ أَنَّ بَعْضَ مَن تُعَظِّمُه قَدْ رَأَى شَيْئًا مِن هَذَا أَو قَالَهُ، فالخَطَأُ جَائِزٌ عَلَى مَن سِوَى الرَّسُولِ مِن الأَنَامِ.
فَعَلَيْكَ بالرُّجُوعِ إلى العِصْمَةِ الذي لاَ سَبِيلَ إِلَى تَطَرُّقِ الخَطَأِ إِلَيْهِ، وهو كَلاَمُ ذِي الجَلاَلِ والإِكْرَامِ، وسُنَّةُ رَسُولِهِ -عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاَةِ والسَّلاَمِ-، مَعَ مَا قَالَهُ العُلَمَاءُ الأَعْلاَمُ، الذين نَطَقُوا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وحَقَّقُوها بالأَعْمَالِ والكَلاَمِ.
ولَمْ يَزَلِ الحَالُ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَكَ مِن الأُمُورِ العِظَامِ مُنْتَشِرًا في أَهْلِ البُلْدَانِ المُنْتَسِبينَ إلى الإِسْلاَمِ، المَارِقِينَ منه كَمَا تَمْرُقُ الرَّمِيَّةُ مِن السِّهَامِ، إلى أَنْ أَرَادَ اللهُ إِزَالَةَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وكَشْفَ البِدَعِ والضَّلاَلاَتِ، ونَفْيَ الشُّبُهَاتِ والجَهَالاَتِ، وتَصْدِيقَ بِشَارةِ رَسُولِ رَبِّ الأَرْضِ والسَّمَاواتِ، في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " رَوَاهُ أَبُو دَاودَ والحَاكِمُ والبَيْهَقِيُّ في المَعْرِفَةِ وإِسْنَادُه صَحِيحٌ، على يَدَيْ مَن أَقَامَهُ هذا المُقَامَ، ومَنَحَهُ جَزِيلَ الفَضْلِ والإِنْعَامِ، أَعْنِي به الشَّيْخَ الإِمَامَ خَلَفَ السَّلَفِ الكِرَامِ، المُتَّبِعَ لهَدْي سيدِ الأَنَامِ، المنافحَ عن دِينِ اللهِ في كُلِّ مَقَامٍ، شَيْخَ الإِسْلاَمِ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الوَهَّابِ، أَحْسَنَ اللهُ له المَآبَ وضَاعَفَ له الثَّوَابَ، فَدَعَا إلى اللهِ لَيْلاً ونَهَارًا وسِرًّا وجِهَارًا، وَقَامَ بِأَمْرِ اللهِ في الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ومَا حَابَى أَحَدًا فيه ولاَ دَارَى، فعَظُمَ عَلَى الأَكْثَرِينَ وأَنِفُوا اسْتِكْبَارًا، وَلَمْ يُثْنِهِ ذَلِكَ عَن أَمْرِ اللهِ حَتَّى قَيَّضَ اللهُ له أَعْوانًا وَأَنْصَارًا، فَرَفَعُوا أَلْوِيَتَهُ وأَعْلاَمَهُ حَتَّى انْتَشَرَتْ في الخَافِقَينِ انْتِشَارًا.
وَصَنَّفَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- التَّصَانِيفَ في تَوْحيدِ الأَنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ، والرَّدِّ عَلَى مَن خَالفَهُ مِن المُشْرِكِينَ، وَمِن جُمْلَتِهَا كِتَابَ التَّوْحيدِ ؛ وهو كِتَابٌ فَرْدٌ في مَعْنَاهُ، لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ سَابِقٌ، وَلاَ لَحِقَهُ فيه لاَحِقٌ، وهو الذي قَصَدْتُ الكَلاَمَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وإِنْ كُنْتُ لَسْتُ مِمَّنْ يَتَصَدَّى لِهَذَا الشَّأْنِ لكن لَمَّا رَأَيْتُ الكِتَابَ لَمْ يَتَعَرَّضْ للكَلاَمِ عَلَيْهِ أَحَدٌ يُعْتَدُّ بِهِ ورَأَيْتُ تَشَوُّقَ الطَّلَبَةِ والإِخْوَانِ إلى شَرْحٍ يَفِي ببَعْضِ ما فيه مِن المَقَاصِدِ، أَحْبَبْتُ أَنْ أُسْعِفَهُمْ بِمُرَادِهم عَلَى حَسَبِ طَاقَتِي، واللهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، ولذلك يَسَّرَ اللهُ الكَلاَمَ عَلَيْهِ، وَمَنَّ به مِن عِنْدِه وَحْدَه لاَ شَرِيكَ له بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ، لاَ بِحَوْلِي وقُوَّتِي فَنَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى: تَيْسِيرَ العَزِيزِ الحَمِيدِ في شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
وحَيْثُ أَطْلَقْتُ شَيْخَ الإِسْلاَمِ، فالمُرَادُ بِهِ الإِمَامُ أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، والحَافِظَ فالمُرَادُ به أَبُو الفَضْلِ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلاَنِيُّ، صَاحِبُ فَتْحِ البَارِي وغَيْرِه رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
وأسألُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وسَبَبًا للفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.

***

(1) افْتَتَحَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ كِتَابَهُ بالبَسْمَلَةِ، اقْتِدَاءً بالكِتَابِ العَزِيزِ وعَمَلاً بالحَدِيثِ: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ " رَوَاهُ الحَافِظُ عَبْدُ القَادِرِ الرَّهاويُّ في الأَرْبَعِينَ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الخَطِيبُ في الجَامِعِ بنحوِهِ.
فإن قلْتَ: هَلاَّ جَمَعَ المُصَنِّفُ بَيْنَ البَسْمَلَةِ والحَمْدَلَةِ، لِمَا رَوَى ابنُ ماجه والبيهقيُّ، عن أبي هريرةَ مرفوعًا: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالحَمْدِ للهِ فَهُوَ أَقْطَعُ " وفي روايةٍ لأحمدَ: " لاَ يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ وَأَقْطَعُ ".
قيلَ: المرادُ الافتتاحُ بما يدلُّ عَلَى المقصودِ مِن حمدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ؛ لأَِنَّ الحَمْدَ مُتَعَيِّنٌ؛ لأَِنَّ القَدْرَ الَّذي يَجْمعُ ذلك هو ذِكْرُ اللهِ وَقَدْ حَصَلَ بالبَسْمَلَةِ ، وأيضًا فَلَيْسَ في الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ تَتَعيَّنُ كِتَابتُها مَعَ النُّطْقِ بِهَا، فَقَدْ يَكُونُ المُصَنِّفُ نَطَقَ بذلِكَ في نفسِهِ.
واتّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الجَارَّ والمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ الكُوفِيُّونَ فِعْلاً مُقَدَّمًا، والتَّقْدِيرُ: أَبْدَأُ، وقَدَّرَهُ البَصْرِيُّونَ اسْمًا مُقَدَّمًا، والتَّقْدِيرُ: ابْتِدَائِي كَائِنٌ، أو مُسْتَقِرٌّ.
قَالَ: (فالجَارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي في مَوْضِعِ رَفْعٍ) وذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ القَوْلَيْنِ مُتَقَارِبَانِ، وَكُلٌّ قَدْ وَرَدَ بِهِ القُرْآنُ.

- أمَّا مَنْ قدَّرَه باسْمٍ تَقْدِيرُهُ: باسْمِ اللهِ ابْتِدَائِي ؛ فلِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود:41].

- ومَنْ قَدَّرَه بالفِعْلِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا نَحْوَ: بَدَأَ باسْمِ اللهِ، وابْتَدَأْتُ باسْمِ اللهِ، فلقولِهِ تَعَالَى: { اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } .

وكِلاَهُمَا صَحِيحٌ، فَإنَّ الفِعْلَ لاَ بُدَّ له مِن مَصْدَرٍ، فلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الفِعلَ ومَصْدَرَهُ، وذلك بِحَسَبِ الفِعْلِ الَّذي سَمَّيْتَهُ قبلَه إن كانَ قِيَامًا أو قُعُودًا، أو أَكْلاً، أو شُرْبًا، أو قِرَاءَةً، أو وُضُوءًا، أو صَلاَةً، فالمَشْرُوعُ ذِكْرُ اسمِ اللهِ تَعَالَى في ذلكَ كلِّه تَبَرُّكًا وَتَيمُّنًا واسْتِعَانَةً عَلَى الإِتْمَامِ والتَّقَبُّلِ.

وقَدَّرهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِعْلاً مُؤَخَّرًا، أي: باسْمِ اللهِ أَقْرَأُ أو أَتْلُو؛ لأَِنَّ الَّذي يَتْلُوهُ مَقْرُوءٌ، وكلُّ فَاعِلٍ يَبْدَأُ في فِعْلِهِ باسْمِ اللهِ كَانَ مُضْمِرًا ما تُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ مَبْدأً له، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ إِذَا حَلَّ أو ارْتَحَلَ، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، كَانَ المَعْنَى بِسْمِ اللهِ أَحِلُّ، وبسمِ اللهِ أَرْتَحِلُ، وهَذَا أَوْلَى مِن أَنْ يُضْمَرَ أَبْدَأُ، لعَدَمِ ما يُطَابِقُهُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ، أو ابْتِدَائِي لزِيَادَةِ الإِضْمَارِ فيهِ، وإنَّما قَدَّرَ المَحْذُوفَ مُتَأَخِّرًا وقَدَّمَ المَعْمُولَ؛ لأَِنَّهُ أَهَمُّ وَأَدَلُّ عَلَى الاخْتِصَاصِ، وأَدْخَلُ في التَّعْظِيمِ وأَوْفَقُ للوُجُودِ، فإنَّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى مُقَدَّمٌ عَلَى القِرَاءَةِ، كيفَ وَقَدْ جُعِلَ آلةً لَهَا مِن حَيْثُ إنَّ الفِعْلَ لاَ يُعْتَدُّ بهِ شَرْعًا مَا لَمْ يُصَدَّرْ باسْمِهِ تَعَالَى.
وأمَّا ظُهُورُ فِعْلِ القِرَاءةِ في قَوْلِهِ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فَلأَِنَّ الأَهَمَّ ثَمَّةَ القِرَاءةُ، ولِذَا قَدَّمَ الفِعْلَ فيها عَلَى مُتعلَّقِهِ، بِخِلاَفِ البَسْمَلَةِ فَإِنَّ الأَهَمَّ فيها الابْتِدَاءُ، قَالَهُ البَيْضَاوِيُّ، وَهَذَا القَوْلُ أَحْسَنُ الأَقْوَالِ، وأَظُنُّهُ اخْتِيارَ شَيْخِ الإِسْلاَمِ، وَقَدْ أَلَمَّ بهِ ابنُ كَثِيرٍ إِلاَّ أنَّهُ جَعَلَ المَحْذُوفَ مُقَدَّرًا قَبْلَ البَسْمَلَةِ.
وذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ لحَذْفِ العَامِلِ في بِسْمِ اللهِ فَوَائِدَ عَدِيدةً:
منها: أَنَّهُ مَوْطِنٌ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فيه سِوَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَوْ ذَكَرْتَ الفِعْلَ وهو لا يَسْتَغْنِي عن فَاعِلِه كَانَ ذلكَ مُنَاقِضًا للمَقْصُودِ، فَكَانَ في حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ للمَعْنَى ليكونَ المَبْدُوءُ بهِ اسْمَ اللهِ، كَمَا تَقُولُ في الصَّلاَةِ: اللهُ أَكْبَرُ، ومَعْنَاهُ: مِن كُلِّ شَيْءٍ، ولَكِنْ لاَ تَقُولُ هَذَا القَدْرَ ليَكُونَ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لمَقْصُودِ الجَنَانِ، وهو أَنْ لاَ يَكُونَ في القَلْبِ إِلاَّ ذِكْرُ اللهِ وحدَهُ، فَكَمَا تَجَرَّدَ ذِكْرُهُ في قَلْبِ المُصَلِّي تَجَرَّدَ ذِكْرُه في لِسَانِهِ.
ومنها: أَنَّ الفِعْلَ إِذَا حُذِفَ صَحَّ الابْتِدَاءُ بالتَّسْمِيَةِ في كُلِّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ وَحَرَكَةٍ، ولَيْسَ فِعْلٌ أَوْلَى بِهَا مِن فِعْلٍ، فَكَانَ الحَذْفُ أَعَمَّ مِن الذِّكرِ، فَأَيَّ فِعْلٍ ذَكَرْتَهُ كَانَ المَحْذُوفُ أَعَمَّ منهُ.
(اللهِ) عَلَمٌ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ: أنَّهُ أَعْرَفُ المَعَارِفِ ، ويُقَالُ: إنَّهُ الاسْمُ الأَعْظَمُ؛ لأَِنَّهُ يُوصَفُ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ له الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ له مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر:22-24] فَأَجْرَى الأَسْمَاءَ البَاقِيَةَ كُلَّهَا صِفَاتٍ له.
واختلفُوا: هلْ هو اسمٌ جامدٌ أو مشتَقٌّ؟ عَلَى قولين: أَصَحُّهُمَا أنَّهُ مُشْتَقٌّ.
قالَ ابنُ جريرٍ: فإنَّهُ عَلَى ما رُوِيَ لَنَا عن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اللهُ ذُو الأُلُوهِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ.
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ عن الخَلِيلِ أَنَّ أَصْلَهُ: (إِلَهٌ) مِثْلَ فِعَالٍ، فَأُدْخِلَتِ الأَلِفُ واللاَّمُ بَدَلاً مِن الهَمْزَةِ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: مِثْلَ النَّاسِ أَصْلُهُ أُنَاسٌ.
وَقَالَ الكِسَائِيُّ والفَرَّاءُ: أَصْلُه الإِلَهُ حَذَفُوا الهَمْزَةَ وأَدْغَمُوا اللاَّمَ الأُولَى في الثَّانِيَةِ .
وعَلَى هَذَا فالصَّحِيحُ أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن أَلِهَ الرَّجُلُ: إِذَا تَعبَّدَ، كَمَا قَرَأَ ابنُ عَبَّاسٍ: { وَيَذَرَكَ وإِلَهَتَكَ } أي: عِبَادَتَكَ وَأَصْلُهُ الإِلَهُ ؛ أي: المَعْبُودُ، فحُذِفَتِ الهَمْزَةُ الَّتِي هي فَاءُ الكَلِمَةِ فالْتَقَتِ اللاَّمُ الَّتِي هي عينُهَا مَعَ اللاَّمِ الَّتِي للتَّعْرِيفِ، فأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا في الأُخْرَى، فَصَارَتَا في اللَّفْظِ لاَمًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً وفُخِّمَتْ تَعْظِيمًا، فَقِيلَ: اللهُ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ: القَوْلُ الصَّحِيحُ أَنَّ اللهَ أصْلُه: الإِلَهُ، كَمَا هو قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ منهم، وأنَّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى هو الجَامِعُ لجَمِيعِ مَعَانِي الأَسْمَاءِ الحُسْنَى والصِّفَاتِ العُلَى.
قَالَ: وزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ وَشَيْخُهُ أَبُو بَكْرِ بنُ العَرَبِيِّ أَنَّ اسْمَ اللهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ؛ لأَِنَّ الاشْتِقَاقَ يَسْتَلْزِمُ مَادَّةً يُشتَقُّ منها، واسْمُهُ تَعَالَى قَدِيمٌ، والقَدِيمُ لاَ مَادَّةَ له، فيَسْتَحِيلُ الاشْتِقَاقُ.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بالاشْتِقَاقِ هَذَا المَعْنَى وَأَنَّهُ مُسْتَمَدٌّ مِن أَصْلٍ آخَرَ فهو بَاطِلٌ، ولَكِنَّ الَّذينَ قالُوا بالاشْتِقَاقِ لَمْ يُرِيدُوا هَذَا المَعْنَى، وَلاَ أَلَمَّ بقُلُوبِهِم، وإنَّما أَرَادُوا أنَّهُ دَالٌّ عَلَى صِفَةٍ له تَعَالَى وهي الإِلَهِيَّةُ كَسَائِرِ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى: كالعَلِيمِ والقَدِيرِ والغَفُورِ والرَّحِيمِ والسَّمِيعِ والبَصِير ؛ لإِنَّ هَذِهِ الأَسْمَاءَ مُشْتَقَّةٌ مِن مَصَادِرِها بِلاَ رَيْبٍ، وهي قَدِيمَةٌ، والقَدِيمُ لاَ مَادَّةَ له، فَمَا كَانَ جَوابَكُم عن هذه الأَسْمَاءِ فهو جَوَابُ القَائِلِينَ باشْتِقَاقِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ الجَوَابُ عن الجَمِيعِ أَنَّا لاَ نَعْنِي بالاشْتِقَاقِ إِلاَّ أنَّهَا مُلاَقِيَةٌ لِمَصَادِرِهَا في اللَّفْظِ والمَعْنَى، لاَ أنَّهَا مُتَولِّدةٌ منه تَوَلُّدَ الفَرْعِ من أصْلِه ، وتَسْمِيَةُ النُّحَاةِ للمَصْدَرِ والمُشْتَقِّ منه أَصْلاً وفَرْعًا لَيْسَ مَعْناهُ أنَّ أحدَهمُا تولَّدَ مِن الآخَرِ، وإنَّما هو باعْتِبَارِ أنَّ أحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ الآخَرَ وزِيَادَةً.
وذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ لِهَذَا الاسْمِ الشَّرِيفِ عَشْرَ خَصَائِصَ لفْظِيَّةٍ ثُمَّ قَالَ: (وأَمَّا خَصَائِصُهُ المَعْنَوِيَّةُ فقد قالَ فيها أَعْلَمُ الخَلْقِ بهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " وكيف تُحْصَى خَصَائِصُ اسْمٍ مُسَمَّاهُ كلُّ كمَالٍ عَلَى الإِطْلاَقِ وَكُلُّ مَدْحٍ وَكُلُّ حَمْدٍ وَكُلُّ ثَنَاءٍ وَكُلُّ مَجْدٍ وَكُلُّ جَلاَلٍ وَكُلُّ إِكْرَامٍ وَكُلُّ عِزٍّ وكُلُّ جَمَالٍ، وَكُلُّ خَيْرٍ وإِحْسَانٍ وجُودٍ وَبِرٍّ وفَضْلٍ فَلَهُ ومِنْهُ.
فَمَا ذُكِرَ هذا الاسْمُ في قَلِيلٍ إِلاَّ كَثَّرَهُ، وَلاَ عِنْدَ خَوْفٍ إِلاَّ أَزَالَهُ، ولاَ عِنْدَ كَرْبٍ إِلاَّ كَشَفَهُ، وَلاَ عِنْدَ هَمٍّ وغَمٍّ إلاَّ فَرَّجَهُ، ولاَ عِنْدَ ضِيقٍ إِلاَّ وَسَّعَهُ، ولا تَعَلَّقَ بهِ ضَعِيفٌ إِلاَّ أَفَادَهُ القُوَّةَ، وَلاَ ذَلِيلٌ إِلاَّ أنَالَهُ العِزَّ، وَلاَ فَقِيرٌ إِلاَّ أَصَارَهُ غَنِيًّا، وَلاَ مُسْتَوْحِشٌ إِلاَّ آنَسَهُ، وَلاَ مَغْلُوبٌ إِلاَّ أيَّدَهُ ونَصَرَهُ، وَلاَ مُضْطَرٌّ إلاَ كَشَفَ ضُرَّهُ، وَلاَ شَرِيدٌ إِلاَّ آواهُ.
فهو الاسْمُ الَّذِي تُكْشَفُ بهِ الكُرُبَاتُ، وتُسْتَنْزَلُ بهِ البَرَكَاتُ والدَّعَوَاتُ، وتُقَالُ بهِ العَثَرَاتُ، وتُسْتَدْفَعُ بِهِ السَّيِّئَاتُ، وتُسْتَجْلَبُ بهِ الحَسَنَاتُ، وهو الاسْمُ الَّذِي بِهِ قَامَتِ السَّمَاواتُ والأَرْضُ، وبِهِ أُنْزِلَتِ الكُتُبُ، وبهِ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وبهِ شُرِعَتِ الشَّرَائِعُ، وبهِ قَامَتِ الحُدُودُ، وبهِ شُرِعَ الجِهَادُ، وبهِ انْقَسَمَتِ الخَلِيقَةُ إِلَى السُّعَداءِ والأَشْقِيَاءِ، وبهِ حَقَّتِ الحَاقَّةُ، ووَقَعَتِ الوَاقِعَةُ، وبهِ وُضِعَتِ المَوَازِينُ القِسْطُ، ونُصِبَ الصِّرَاطُ، وقَامَ سُوقُ الجنَّةِ والنَّارِ.
وبهِ عُبِدَ رَبُّ العَالَمِينَ وَحُمِدَ، وبِحَقِّهِ بُعِثَتِ الرُّسُلُ، وعنه السُّؤالُ في القَبْرِ ويومَ البَعْثِ والنُّشُورِ وبهِ الخِصَامُ، وإليهِ المُحَاكَمَةُ، وفيه المُوَالاَةُ والمُعَادَاةُ، وبهِ سَعِدَ مَنْ عَرَفَهُ وقام بِحَقِّهِ، وبهِ شَقِيَ مَنْ جَهِلَهُ وتَرَكَ حَقَّهُ، فهو سِرُّ الخَلْقِ والأَمْرِ وبهِ قامَا وَثَبَتَا، وإِلَيْهِ انْتَهَيَا، فالخَلْقُ والأَمْرُ بهِ وإِلَيْهِ ولأَِجْلِهِ فَمَا وُجِدَ خَلْقٌ وَلاَ أَمْرٌ وَلاَ ثَوَابٌ وَلاَ عِقَابٌ إِلاَّ مُبْتَدِئًا منه، مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ، وذَلِكَ مُوجِبُهُ ومُقْتَضَاهُ، ربَّنَا ما خَلَقْتَ هَذَا باَطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) إلى آخِرِ كَلاَمِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
(الرَّحمنُ) و(الرَّحِيمُ) قَالَ ابنُ كثيرٍ: اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِن الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ المُبَالَغَةِ، ورَحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِن رَحِيم ، قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: وَهُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُما أَرَقُّ مِن الآخَرِ ، أي: أَوْسَعُ رَحْمَةً.
وَقَالَ ابنُ المُبَارَكِ: الرَّحْمَنُ إِذَا سُئِلَ أَعْطَى، والرَّحِيمُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ يَغْضَبُ ، قُلْتُ: كَأنَّ فيه إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى كَلاَمِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ لأَِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى تَغْلِبُ غَضَبهُ، وَعَلَى هَذَا فالرَّحْمَنُ أَوْسَعُ مَعْنًى مِن الرَّحِيمِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ زِيَادَةُ البِنَاءِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ عَامٌّ في جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ يَخْتَصُّ بِهِ اللهُ تَعَالَى، والرَّحِيمُ إنَّما هو في جِهَةِ المُؤْمِنِينَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب:43] ونَحْوَهُ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ.
ويُشكِلُ عَلَيْهِ قولُهُ تَعَالَى: { إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:143] ، وقولُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ: " رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا " .
فالصَّوابُ -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- ما قَالَهُ ابنُ القَيِّمِ: إنَّ الرَّحْمَنَ دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ القَائِمَةِ بهِ -سُبْحَانَهُ-، والرَّحيمَ دالٌّ عَلَى تعلُّقِهَا بالمَرْحُومِ، فكَانَ الأَوَّلُ للوَصْفِ والثَّانِي للفِعْلِ ؛ فالأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، والثَّانِي دالٌّ عَلَى أنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ.
وإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: { وَكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { إنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة:117] ، وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِم، فَعُلِمَ أنَّ (رَحْمَن) هو المَوْصُوفُ بالرَّحْمَةِ، و(رَحِيم) هو الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ.
والرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ نَعْتَانِ للهِ تَعَالَى ، واعْتُرِضَ بورُودِ اسْمِ الرَّحْمَنِ غَيْرَ تابعٍ لاِسْمٍ قَبْلَهُ ؛ قَالَ تَعَالَى: { الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] فهو عَلَمٌ، فَكَيْفَ يُنْعَتُ بهِ.
والجَوَابُ ما قَالَهُ ابنُ القَيِّمِ أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّبِّ تَعَالَى هي أَسْمَاءٌ ونُعُوتٌ، فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ، فَلاَ تَنَافِيَ فيها بَيْنَ العَلَمِيَّةِ والوَصْفِيَّةِ ، فالرَّحْمَنُ اسْمُهُ تَعَالَى ، ووصْفُهُ تَعَالَى لاَ يُنَافِي اسْمِيَّتَهُ، فَمِن حَيْثُ هو صِفَةٌ جَرَى تَابِعًا لاِسْمِ اللهِ تَعَالَى، ومِن حَيْثُ هو اسْمٌ وَرَدَ في القُرْآنِ غَيْرَ تَابِعٍ، بل وَرَدَ الاسْمُ العَلَمُ ، ولَمَّا كَانَ هَذَا الاسْمُ مُخْتَصًّا بهِ سُبْحَانَهُ حَسُنَ مَجِيئُهُ مُفْرَدًا غَيْرَ تَابِعٍ كَمَجِيءِ اسْمِ اللهِ، وَهَذَا لاَ يُنَافِي دَلاَلَتَهُ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ كاسْمِ اللهِ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى صِفَةِ الأُلُوهِيَّةِ فلَمْ يَجِئْ قَطٌّ تَابِعًا لغَيْرِهِ بلْ مَتْبُوعًا، وهَذَا بِخِلاَفِ العَلِيمِ والقَدِيرِ والسَّمِيعِ والبَصِيرِ ونَحْوِهَا، ولِهَذَا لاَ تَجِيءُ هَذِهِ مُفْرَدَةً بل تَابِعَةً.
قُلْتُ: قولُهُ عن اسمِ اللهِ: ولَمْ يَجِئْ قَطُّ تَابِعًا لغَيْرِهِ، بل لَقَدْ جَاءَ في قولِهِ تَعَالَى: { إِلى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ (1) اللهِ الَّذِي له مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [إبراهيم:1 ،2] عَلَى قِرَاءَةِ الجَرِّ، وجَوَابُ ذَلِكَ مِن كَلاَمِهِ المُتَقَدِّمِ، فيُقَالُ فيه مَا قَالَهُ في اسْمِ الرَّحْمَنِ.


(2) (كتابُ التَّوْحِيدِ)
الكِتَابُ: مَصْدَرُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابًا وكِتَابَةً وكَتْبًا. ومَدَارُ الْمَادَّةِ عَلَى الجَمْعِ ، ومنه تَكَتَّبَ بَنُو فُلاَنٍ: إِذَا اجْتَمَعُوا ، والكَتِيبَةُ لِجَمَاعَةِ الخَيْلِ، والكِتَابَةُ بالقَلَمِ لاِجْتِمَاعِ الكَلِمَاتِ والحُرُوفِ، وسُمِّيَ الكِتَابُ كِتَابًا لِجَمْعِهِ مَا وُضِعَ له، ذَكَرَهُ غَيْرُ واحِدٍ.
والتَّوْحِيدُ: مَصْدَرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ تَوْحِيدًا، أي: جَعَلَهُ واحِدًا.
وسُمِّيَ دِينُ الإِسْلاَمِ تَوْحِيدًا؛ لأَِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ في مُلْكِهِ وأَفْعَالِهِ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ووَاحِدٌ في ذَاتِهِ وصِفَاتِهِ لاَ نَظِيرَ لَهُ، ووَاحِدٌ في إلَهِيَّتِهِ وعِبَادَتِهِ لاَ نِدَّ له، وإلى هذه الأَنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ يَنْقَسِمُ تَوْحِيدُ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ الَّذِينَ جَاؤُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وهي مُتَلاَزِمَةٌ، كُلُّ نَوْعٍ مِنْها لاَ يَنْفَكُّ عن الآخَرِ، فَمَنْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنْهَا وَلَمْ يَأْتِ بالآخَرِ، فَمَا ذَاكَ إِلاَّ أنَّهُ لَمْ يَأْتِ بهِ عَلَى وَجْهِ الكَمَالِ المَطْلُوبِ.
وإِنْ شِئْتَ قلْتَ: التَّوحِيدُ نَوْعَانِ:
- تَوْحِيدٌ في المَعْرِفَةِ والإِثْبَاتِ، وهو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ والأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ.
- وتَوْحِيدٌ في الطَّلَبِ والقَصْدِ، وهو تَوْحِيدُ الإِلَهِيَّةِ والعِبَادَةِ.
ذَكَرَهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ وابْنُ القَيِّمِ، وذَكَرَ مَعْنَاهُ غَيْرُهُمَا.
النَّوعُ الأَوَّلُ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ والمُلْكِ، وهو الإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ومَالِكُهُ وخَالِقُهُ ورَازِقُهُ، وأَنَّهُ المُحْيِي المُمِيتُ النَّافِعُ الضَّارُّ المُتَفَرِّدُ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ الاضْطِرَارِ، الَّذِي له الأَمْرُ كُلُّهُ، وبِيَدِهِ الخَيْرُ كُلُّهُ، القَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، لَيْسَ له في ذَلِكَ شَرِيكٌ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ الإِيمَانُ بالقَدَرِ.
وهَذَا التَّوْحِيدُ لاَ يَكْفِي العَبْدَ في حُصُولِ الإِسْلاَمِ، بل لاَ بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مَعَ ذَلِكَ بِلاَزِمِهِ مِن تَوْحِيدِ الإِلَهِيَّةِ؛ لأَِنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَى عن المُشْرِكِينَ أنَّهُم مُقِرُّونَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ للهِ وَحْدَهُ ؛ قَالَ تَعَالَى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [يونس:31] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ } [الزخرف:87] ، وقالَ: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ } [العنكبوت:63] ، وَقَالَ تَعَالَى: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [النمل:62].
فهُمْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ ولَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُسْلِمِينَ، بل قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّه إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون } [يوسف:106] قَالَ مُجَاهِدٌ في الآيَةِ: إِيمَانهُم باللهِ قَوْلُهُم: إنَّ اللهَ خَلَقَنَا ويَرْزُقُنَا ويُمِيتـُنَا، فَهَذَا إِيمَانٌ مَعَ شِرْكِ عِبَادَتِهِم غَيْرَهُ ، رواهُ ابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حَاتمٍ ، وعن ابنِ عَبَّاسٍ وعَطَاءٍ والضَّحَّاكِ نَحْوَ ذَلِكَ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الكُفَّارَ يَعْرِفُونَ اللهَ وَيَعْرِفُونَ رُبُوبِيَّتَهُ، ومُلْكَهُ وَقَهْرَهُ، وكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَهُ وَيُخْلِصُونَ لَهُ أَنْوَاعًا مِن العِبَادَاتِ كالحَجِّ والصَّدَقَةِ والذَّبْحِ والنَّذْرِ والدُّعاءِ وَقْتَ الاضْطِرَارِ ونَحْوِ ذَلِكَ ، ويَدَّعُونَ أنَّهُم عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { مَا كانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [آل عمران: 67] وبَعْضُهُم يُؤْمِنُ بالبَعْثِ والحِسَابِ، وبَعْضُهُمْ يُؤْمِنُ بالقَدَرِ.
كَمَا قَالَ زُهَيرٌ:
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتَابٍ فيُدَّخَرْ=لِيَوْمِ الحِسَابِ أو يُعَجَّلْ فَيَنْقِمِوقالَ عَنْتَرَةُ:
يَاعَبْلُ أَيْنَ مِن المَنِيَّـةِ مَهْرَبـي=إِنْ كَانَ رَبِّي في السَّمَاءِ قَضَاهَا
ومِثْلُ هَذَا يُوجَدُ في أَشْعَارِهِم، فَوَجَبَ عَلَى كلِّ مَن عَقَلَ عن اللهِ تَعَالى أَنْ يَنْظُرَ ويَبْحَثَ عن السَّبَبِ الَّذي أَوْجَبَ سَفْكَ دِمَائِهِم، وسَبْيَ نِسَائِهِم، وإِبَاحَةَ أَمْوَالِهِم، مَعَ هَذَا الإِقْرَارِ والمَعْرِفَةِ، ومَا ذَاكَ إِلاَّ لِإِشْرَاكِهِم في تَوْحِيدِ العِبَادَةِ الَّذِي هو مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
النَّوْعُ الثَّانِي: تَوْحِيدُ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ، وهو الإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ الحَيُّ القَيُّومُ الَّذي لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ، لَهُ المَشِيئَةُ النَّافِذَةُ، والحِكْمَةُ البَالِغَةُ، وأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى، وعَلَى المُلْكِ احْتَوَى، وأَنَّهُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ، سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الأَسْمَاءِ الحُسْنَى، والصِّفاتِ العُلَى.
وهَذَا أَيْضًا لاَ يَكْفِي في حُصُولِ الإِسْلاَمِ، بَلْ لاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِن الإِتْيَانِ بِلاَزِمِه، مِن تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ والإِلَهِيَّةِ.
والكُفَّارُ يُقِرُّونَ بِجِنْسِ هَذَا النَّوْعِ، وإِنْ كَانَ بَعْضُهُم قَدْ يُنْكِرُ بَعْضَ ذَلِكَ، إمَّا جَهْلاً، وَإِمَّا عِنَادًا، كَمَا قَالُوا: لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلاَّ رَحْمَنَ اليَمَامَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ فيهِم: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [الرعد: 30].
قالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: والظَّاهِرُ أَنَّ إِنْكَارَهُم هَذَا إنَّما هو جُحُودٌ وعِنَادٌ وتَعَنُّتٌ في كُفْرِهِم، فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ في بَعْضِ أَشْعَارِ الجَاهِلِيَّةِ تَسْمِيَةُ اللهِ بالرَّحْمَنِ ؛ قالَ الشَّاعرُ:

وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ


وَقَالَ الآخَرُ:

أَلاَ قَضَبَ الرَّحمنُ رَبِّي يمينَهَا

وهما جاهليَّانِ.
وقالَ زُهَيرٌ:

فَلاَ تَكْتُمَنَّ اللهَ مَا في نُفُوسِكُم=ليَخْفَى ومَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
قُلْتُ: وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُم إِنْكَارُ شَيْءٍ مِن هَذَا التَّوْحِيدِ إِلاَّ في اسْمِ الرَّحْمَنِ خَاصَّةً، وَلَوْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ لَرَدُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، كَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ تَوْحِيدَ الإِلَهِيَّةِ فَقَالُوا: { أَجَعَلَ الآلَهِةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5] لاَ سِيَّمَا السُّورُ المَكِّيَّةُ مَمْلُوءَةٌ بِهَذَا التَّوحِيدِ.
النَّوعُ الثَّالثُ: تَوْحيدُ الإلهيَّةِ المَبْنِيُّ عَلَى إِخْلاَصِ التَّأَلُّهِ للهِ تَعَالَى، مِن المَحَبَّةِ وَالخَوْفِ، والرَّجَاءِ والتَّوَكُّلِ، والرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، والدُّعَاءِ للهِ وَحْدَهُ ، ويَنْبَنِي عَلَى ذلك إخلاصُ العِبَادَاتِ كُلِّهَا ظَاهِرِهَا وباطِنِها للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ له، لاَ يَجْعَلُ فيها شَيْئًا لِغَيْرِهِ، لاَ لمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلاَ لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَضْلاً عن غَيْرِهِمَا.
وهَذَا التَّوْحِيدُ هو الَّذِي تَضَمَّنَهُ قولُهُ تَعَالَى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وقولُهُ تَعَالَى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[هود:123] ، وقولُهُ تَعَالَى: { فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }[التوبة:129] ، وقولُهُ تَعَالَى: { ربُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم:65] ، وقولُهُ تَعَالَى: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود:88] ، وقولُهُ تعالَى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [الفرْقَان:58] ، وقولُهُ: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر:99].
وهذا التَّوحيدُ هو أوَّلُ الدِّينِ وآخِرُه، وباطنُهُ وظَاهِرُهُ، وهو أوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وآخِرُهَا، وهو مَعْنَى قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ؛ فَإِنَّ (الإِلَهَ) هو المَأْلُوهُ المَعْبُودُ بالمَحَبَّةِ، والخَشْيَةِ، والإِجْلاَلِ، والتَّعْظِيمِ، وجَمِيعِ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ، وَلأَِجْلِ هَذَا التَّوحيدِ خُلِقَتِ الخَلِيقَةُ، وأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وأُنزلِتِ الكُتُبُ، وبِهِ افْتَرَقَ النَّاسُ إِلَى مُؤْمِنِينَ وكُفَّارٍ، وسُعَداءَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَشْقِيَاءَ أهلِ النَّارِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:21] فَهَذَا أوَّلُ أَمْرٍ في القُرْآنِ ، وَقَالَ تَعَالَى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [المؤمنون:23] فَهَذَا دَعْوَةُ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعْدَ حُدُوثِ الشِّرْكِ ، وقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ: { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف:65] ، وَقَالَ صَالِحٌ لقومِهِ: { اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [هود:61] ، وقَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: { اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 85] ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لقومِهِ: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] ، وقَالَ تَعَالَى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف:45] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56] ، قَالَ هِرَقْلُ لأَِبِي سُفْيَانَ لَمَّا سَأَلَهُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يَقُولُ لَكُمْ ؟ قَالَ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، واتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُم ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ " ، وفي رِوَايَةٍ: " أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ " .
وهَذَا التَّوحيدُ هو أوَّلُ واجِبٍ عَلَى المُكَلَّفِ، لاَ النَّظَرُ وَلاَ القَصْدُ إِلَى النَّظَرِ وَلاَ الشَّكُّ في اللهِ، كَمَا هي أَقْوالٌ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا بَعَثَ اللهُ بهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن مَعَانِي الكِتَابِ والحِكْمَةِ، فهو أَوَّلُ وَاجِبٍ وآخِرُ واجِبٍ، وأوَّلُ ما يُدْخَلُ بهِ الإسلامُ وآخِرُ ما يُخْرَجُ بهِ مِنَ الدُّنيَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ " حدِيثٌ صَحيحٌ ، وقالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقدْ أَفْصَحَ القُرْآنُ عن هذا النَّوعِ كُلَّ الإِفْصاح وأَبْدَأَ فيهِ وأعَادَ، وضَرَبَ لِذلِكَ الأَمْثَالَ، بِحَيْثُ إنَّ كلَّ سُورَةٍ في القُرْآنِ فيها الدَّلاَلَةُ عَلَى هذا التَّوحيدِ، ويُسَمَّى هذا النَّوعُ تَوحيدَ الإِلَهِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إخْلاَصِ التَّأَلُّهِ -وهو أشَدُّ المَحَبَّةِ- للهِ وحْدَهُ، وذلك يَسْتَلْزِمُ إِخْلاَصَ العِبَادَةِ، وتَوْحيدَ العِبَادَةِ لذلك، وتوحيدَ الإرادةِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إرادةِ وجْهِ اللهِ بالأَعْمَالِ ،
وتَوحيدَ القَصْدِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إِخْلاَصِ القَصْدِ المُسْتَلْزِمِ لِإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ ،
وتَوحيدَ العَمَلِ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إخْلاَصِ العَمَلِ للهِ وَحْدَه ؛
قالَ اللهُ تَعَالَى: { فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } [الزمر:2] ، وقالَ: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ }[الزمر:11،12] ، وَقَالَ: { قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِي (14) فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } إلى قولِهِ: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إلى قولِهِ: { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } الآيةَ إلى قولِهِ: { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } الآيةَ إلى قولِهِ: {وَأَنِـيبُواْ إِلَى ربِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ له مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } إلى قولِهِ: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:14-66] إلى آخِرِ السُّورةِ.
فكلُّ هذه السُّورِ في الدُّعاءِ إلى هذا التَّوحيدِ، والأمرِ بهِ، والجوابِ عن الشُّبهاتِ والمُعَارَضَاتِ، وذِكْرِ مَا أعَدَّ اللهُ لأَِهْلِهِ مِن النَّعيمِ المُقِيمِ، ومَا أعَدَّ لمَنْ خالفَهُ مِن العَذَابِ الأليمِ.
وكلُّ سُورةٍ في القُرْآنِ، بلْ كلُّ آيةٍ في القُرْآنِ، فهي دَاعِيَةٌ إلى هذا التَّوحيدِ، شَاهِدَةٌ بهِ، مُتَضَمِّنَةٌ له؛ لأَِنَّ القُرْآنَ:
- إمَّا خَبَرٌ عن اللهِ تَعَالَى وأَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ وأَفْعَالِهِ، وهو تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وتَوْحيدُ الصِّفاتِ فذاك مُستلزِمٌ لهذا، مُتَضَمِّنٌ له.
- وإمَّا دُعاءٌ إلى عِبَادَتِهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وخَلْعِ ما يُعبدُ من دونِهِ، أو أمْرٌ بأنواعٍ مِن العِبَادَاتِ، ونَهيٌ عن المخالفاتِ، فهذا هو توحيدُ الإلهيَّةِ والعِبَادَةِ، وهو مُسْتَلْزِمٌ للنَّوْعَيْنِ الأَوَّلَيْنِ، مُتَضَمِّنٌ لهما أيضًا.
- وإمَّا خَبَرٌ عن إِكْرَامِهِ لأَِهْلِ توحيدِهِ وطاعتِهِ، وما فَعَلَ بِهِمْ في الدُّنيا، وما يُكْرِمُهُم بهِ في الآخرةِ، فهو جَزَاءُ تَوْحيدِهِ.
- وإمَّا خَبَرٌ عن أَهْلِ الشِّرْكِ ومَا فَعَلَ بِهِم في الدُّنيا من النَّكَالِ، وما يُحِلُّ بِهِم في العُقْبَى مِن الوَبَالِ، فهو جَزَاءُ مَنْ خرَجَ عنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ.
وهَذَا التَّوحِيدُ هو حَقِيقَةُ دِينِ الإسْلاَمِ الَّذي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّ دِينَ الإِسْلاَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى هذه الأَرْكَانِ الخَمْسَةِ وهي الأَعْمَالُ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الإِسْلاَمَ هو عِبَادَةُ اللهِ وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ له، بِفِعْلِ الَمأْمُورِ، وَتَرْكِ المَحْظُورِ، والإِخْلاَصُ في ذلكَ للهِ.
وقدْ تَضَمَّنَ ذلكَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ، فَيَجِبُ إِخْلاَصُهَا للهِ تَعَالَى، فَمَن أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وغَيْرِهِِ في شَيْءٍ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ.
فمنها: المَحَبَّةُ، فَمَن أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وبَيْنَ غَيْرِهِ في المَحَبَّةِ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ للهِ، فهو مُشْرِكٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ } إِلَى قولِهِ تَعَالَى: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة:165-167].
ومنها: التَّوكُّلُ، فَلاَ يُتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِ اللهِ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة:3] ، { وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُون } [المجادلة:10] والتَّوكُّلُ عَلَى غيرِ اللهِ فيما يَقْدِرُ عَلَيْهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ.
ومنها: الخَوْفُ، فَلاَ يُخَافُ خَوْفَ السِّرِّ إِلاَّ مِنَ اللهُ ؛ ومَعْنَى خَوْفِ السِّرِّ: هو أَنْ يَخَافَ العَبْدُ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ بِمَشِيئتِهِ وقُدْرَتِهِ وإن لم يُبَاشِرْهُ، فهذا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ لأَِنَّهُ اعْتِقَادٌ للنَّفْعِ والضُّرِّ في غَيْرِ اللهِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [النحل:51] ، وَقَالَ تَعَالَى: { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [المائدة:44] ، وقالَ تعالى: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ له إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس:107].
ومنها: الرَّجاءُ فيما لا يَقْدِرُ عليهِ إِلاَّ اللهُ كَمَنْ يَدْعُو الأَمْواتَ أو غَيْرَهُم رَاجِيًا حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِن جِهَتِهِم فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ } [البقرة:218] ، وقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : لاَ يَرْجُوَنَّ عبدٌ إِلاَّ رَبَّه.
ومنها: الصَّلاَةُ والرُّكُوعُ والسُّجُود ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ، وقالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُم }[الحج:77].
ومنها: الدُّعَاءُ فيما لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ، سَوَاءً كَانَ طَلَبًا للشَّفَاعَةِ أَو غَيْرِها مِن المَطَالِبِ ؛ قالَ اللهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:13،14] ، وقالَ تعالى: { وَقالَ ربُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] ، وقالَ تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ } [يونس:106] ، وقالَ تعالى: { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر:43،44].
ومنها: الذَّبحُ، قالَ اللهُ تَعَالَى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ له وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162 ،163] والنُّسُكُ: الذَّبْحُ.
ومنها: النَّذرُ؛ قالَ اللهُ تَعَالَى: { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [الإنسان: 7].
ومنها: الطَّوَافُ، فَلاَ يُطَافُ إِلاَّ بِبَيْتِ اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29].
ومنها: التَّوْبَةُ، فلا يُتابُ إِلاَّ للهِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } [آل عمران:135] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَتُوبُواْ إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور:31].
ومنها: الاسْتِعَاذَةُ فيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ } ، وقالَ تَعَالَى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }.
ومنها: الاسْتِغَاثَةُ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ }[الأنفال:9].
فمَنْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وبينَ مَخْلُوقٍ فِيمَا يَخْتَصُّ بالخَالِقِ تَعَالَى مِنْ هذِهِ العِبَادَاتِ أو غَيْرِهَا، فهو مُشْرِكٌ ، وإنَّمَا ذَكَرْنَا هذه العِبَادَاتِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ عُبَّادَ القُبُورِ صَرَفُوهَا للأَمْوَاتِ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، أو أَشْرَكُوا بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وبَيْنَهُم فيها، وإِلاَّ فَكُلُّ نَوْعٍ مِن أَنْوَاعِ العِبَادَةِ، مَنْ صَرَفَهُ لغيرِ اللهِ، أو شَرَّكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَغَيْرِهِ فيهِ، فهو مُشْرِكٌ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئًا } [النساء:36].
وهذا الشِّرْكُ في العِبَادَةِ هو الَّذِي كَفَّرَ اللهُ بهِ المُشْرِكِينَ، وأَبَاحَ بهِ دِمَاءَهُم وأَمْوَالَهُم ونِسَاءَهُم، وإِلاَّ فَهُم يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هو الخَالِقُ الرَّزَّاقُ المُدَبِّرُ ليس له شَرِيكٌ في مُلْكِهِ، وإنَّما كَانُوا يُشْرِكُونَ بهِ في هَذِهِ العِبَادَاتِ ونَحْوِهَا، وكَانُوا يَقُولُونَ في تَلْبِيَتِهِم: لبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، إِلاَّ شَرِيكًا هو لَكَ، تَمْلِكُهُ ومَا مَلَكَ.
فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتَّوحيدِ الَّذي هو مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) الَّذي مَضْمُونُه أَنْ لاَ يُعْبَدَ إِلاَّ اللهُ، لاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَضْلاً عن غَيْرِهِمَا فَقَالُوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5].
وكَانُوا يَجْعَلُونَ مِن الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا للهِ وللآلهةِ مِثْلَ ذلك، فَإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِن الَّذي للهِ إلى الَّذي للآلهةِ تَرَكُوه لَهَا، وقَالُوا: اللهُ غَنِيٌّ، وإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِن الَّذي للآلِهَةِ إلى الَّذي للهِ تَعَالَى رَدُّوهُ، وَقَالُوا: اللهُ غَنِيٌّ، والآلِهَةُ فَقِيرَةٌ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعَالَى: { وَجَعَلُواْ للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام:136] ، وهذا بِعَيْنِهِ يَفْعَلُهُ عُبَّادُ القُبُورِ، بل يَزِيدُونَ عَلَى ذلك فَيَجْعَلُونَ للأَمْوَاتِ نَصِيبًا مِن الأَوْلاَدِ.
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فاعْلَمْ أَنَّ الشِّرْكَ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ بالنِّسْبَةِ إلى أَنْوَاعِ التَّوحِيدِ، وكُلٌّ منها قَدْ يَكُونُ أَكْبَرَ وأَصْغَرَ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ أَكْبَرَ بالنِّسْبَةِ إلى ما هو أَصْغَرُ منه، ويَكُونُ أَصْغَرَ بالنِّسْبَةِ إلى ما هو أَكْبَرُ مِنْهُ.
القِسْمُ الأَوَّلُ: الشِّرْكُ في الرُّبُوبِيَّةِ، وهو نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: شِرْكُ التَّعْطِيلِ، وهو أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، كَشِرْكِ فِرْعَوْنَ ؛ إذ قالَ: { وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ } ، ومِن هَذَا شِرْكُ الفَلاَسِفَةِ القَائِلِينَ بِقِدَمِ العَالَمِ وأَبَدِيَّتِهِ، وأنَّهُ لم يَكُنْ مَعْدُومًا أَصْلاً، بل لم يَزَلْ وَلاَ يَزالُ، والحَوَادِثُ بأَسْرِهَا مُسْتَنِدَةٌ عِنْدَهم إلى أَسْبَابٍ ووَسَائِطَ اقْتَضَتْ إِيجَادَهَا، يُسَمُّونَهَا: العُقُولَ، والنُّفُوسَ ، ومِن هَذَا شِرْكُ طَائِفَةِ أَهْلِ وَحْدَةِ الوُجُودِ,كابْنِ عَرَبِيٍّ، وابنِ سَبْعِينَ، والعَفِيفِ التِّلْمِسَانِيِّ، وابنِ الفَارِضِ، ونَحْوِهم مِن المَلاَحِدَةِ الَّذينَ كَسَوا الإِلْحَادَ حِلْيَةَ الإِسْلاَمِ، ومَزَجُوهُ بِشَيْءٍ مِن الحَقِّ، حَتَّى رَاجَ أَمْرُهُم عَلَى خَفَافِيشِ البَصَائِرِ ، ومِن هَذَا شِرْكُ مَن عَطَّلَ أَسْمَاءَ الرَّبِّ وأَوْصَافَهُ، مِن غُلاَةِ الجَهْمِيَّةِ، والقَرَامِطَةِ.
النَّوعُ الثَّانِي: شِرْكُ مَن جَعَلَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ وَلَمْ يُعَطِّلْ أَسْمَاءهُ وصِفَاتِهِ وربوبيَّتَهُ، كَشِرْكِ النَّصَارَى الَّذِينَ جَعَلُوهُ ثَالِثَ ثَلاَثَةٍ، وشِرْكِ المَجُوسِ القَائِلِينَ بإِسْنَادِ حَوَادِثِ الخَيْرِ إلى النُّورِ وحَوَادِثِ الشَّرِّ إلى الظُّلْمَةِ ، ومِن هَذَا شِرْكُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشْرِكُ بالكَوَاكِبِ العُلْوِيَّاتِ، ويَجْعَلُهَا مُدَبِّرَةً لأَِمْرِ هَذَا العَالَمِ، كَمَا هو مَذْهَبُ مُشْرِكِي الصَّابِئَةِ وغَيْرِهِم.
قُلْتُ: ويَلْتَحِقُ بهِ مِن وَجْهٍ شِرْكُ غُلاَةِ عُبَّادِ القُبُورِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَرْوَاحَ الأَوْلِياءِ تَتَصَرَّفُ بَعْدَ المَوْتِ، فَيَقْضُونَ الحَاجَاتِ، ويُفَرِّجُونَ الكُرُباتِ، ويَنْصُرونَ مَن دَعَاهُم، ويَحْفَظُونَ مَن الْتَجَأَ إِلَيْهِم، وَلاَذَ بِحِمَاهم، فَإِنَّ هذه مِن خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُم في هذا النَّوعِ.
القِسْمُ الثَّاني: شِّرْكُ في تَوْحيدِ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ، وهو أَسْهَلُ مِمَّا قَبْلَهُ، وهو نَوْعَانِ:
أَحَدُهُما: تَشْبِيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كمَن يَقُولُ: يَدٌ كيَدِي، وسَمْعٌ كَسَمْعِي، وبَصَرٌ كبَصَرِي، واسْتِوَاءٌ كاسْتِوَائِي، وهو شِرْكُ المُشَبِّهَةِ.
الثَّاني: اشْتِقَاقُ أسماءٍ للآلهةِ الباطِلَةِ مِن أسماءِ الإلَهِ الحَقِّ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180] ، قالَ ابنُ عبَّاسٍ: { يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِهِ } يُشْرِكُونَ ، وعنه: سَمَّوُا اللاَّتَ مِن الإِلَهِ، والعُزَّى مِن العَزِيزِ.
القِسْمُ الثَّالثُ: الشِّرْكُ في تَوحيدِ الإلهيَّةِ والعبادةِ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: أَصْلُ الشِّرْكِ المُحَرَّمِ اعْتِقَادُ شَرِيكٍ للهِ تَعَالَى في الإلهيَّةِ، وهو الشِّركُ الأعْظَمُ، وهو شِرْكُ الجَاهِلِيَّةِ، ويَلِيهِ في الرُّتْبَةِ اعْتِقَادُ شَرِيكٍ للهِ تَعَالَى في الفِعْلِ، وهو قولُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَوْجُودًا مَا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى يَسْتَقِلُّ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ وإِيجَادِهِ وإنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كونَهُ إِلَهًا. هذا كَلاَمُ القُرْطُبِيِّ.
وهو نَوْعَانِ:
أَحَدُهُما: أَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا يَدْعُوه كَمَا يَدْعُو اللهَ، ويَسْأَلُهُ الشَّفاعَةَ كَمَا يَسْأَلُ اللهَ، ويَرْجُوهُ كَمَا يَرْجُو اللهَ، ويُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللهَ، ويَخْشَاهُ كَمَا يَخْشَى اللهَ ، وبالجُمْلَةِ فهو أَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا يَعْبُدُهُ كمَا يَعْبُدُ اللهَ، وهَذَا هو الشِّرْكُ الأَكْبَرُ ، وهو الَّذي قَالَ اللهُ فيهِ: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا } [النساء:36] ، وقالَ: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } [النحل:36] ، وقالَ تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس:18] ، وَقَالَ تَعَالَى: { اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [السجدة:4] ، والآياتُ في النَّهْيِ عن هَذَا الشِّرْكِ وبَيَانِ بُطْلاَنِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
الثَّاني: الشِّركُ الأصغرُ، كيسيرِ الرِّياءِ والتَّصَنُّعِ للمخلوقِ، وعَدَمِ الإخْلاَصِ للهِ تَعَالَى في العِبَادَةِ، بل يَعْمَلُ لِحَظِّ نَفْسِهِ تارَةً، ولطَلَبِ الدُّنيا تَارَةً، ولطَلَبِ المَنْزِلَةِ والجَاهِ عندَ الخلقِ تارَةً، فله مِن عَمَلِهِ نَصِيبٌ، ولغَيْرِهِ منه نَصِيبٌ.
ويَتْبَعُ هذا النَّوعَ الشِّركُ باللهِ في الألفاظِ، كالحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وقولِ: مَا شاءَ اللهُ وشِئْتَ، ومالي إِلاَّ اللهُ وأنتَ، وأنا في حَسْبِ اللهِ وحَسْبِكَ، ونحوِهِ ، وقد يكونُ ذلكَ شِرْكًا أَكْبَرَ بِحَسَبِ حَالِ قَائِلِه ومَقْصِدِهِ ، هذا حَاصِلُ كَلاَمِ ابنِ القيِّمِ وغَيْرِهِ.
وقَد اسْتَوْفَى المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بَيَانَ جِنْسِ العِبَادَةِ الَّتِي يَجِبُ إِخْلاَصُها للهِ بالتَّنْبِيهِ عَلَى بعضِ أنواعِهَا، وبيانِ ما يُضَادُّهَا مِنَ الشِّرْكِ باللهِ تَعَالَى في العِبَادَاتِ والإرَادَاتِ والأَلْفَاظِ، كَمَا سَيَمُرُّ بكَ إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى مُفَصَّلاً في هذا الكِتَابِ، فاللهُ تَعَالَى يَرْحَمُهُ ويَرْضَى عنه.
فإن قلتَ: هلاَّ أَتَى المُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- بِخُطْبَةٍ تُنْبِئُ عن مَقْصِدِه كَمَا صَنَعَ غيرُهُ ؟
قيل: كأنَّهُ -واللهُ أعْلَمُ- اكْتَفَى بدَلاَلَةِ التَّرْجَمَةِ الأُولَى عَلَى مَقْصُودِهِ، فإنَّهُ صَدَّرَهُ بقولِهِ: (كِتَابُ التَّوحيدِ) وبالآياتِ الَّتِي ذَكَرَها وما يَتْبَعُهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ، فَكَأنَّهُ قَالَ: قَصَدْتُ جَمْعَ أنواعِ توحيدِ الإلهيَّةِ الَّتي وَقَعَ أكثرُ النَّاسِ في الإشراكِ فيها وهم لا يَشْعُرونَ، وبَيَانَ شيءٍ مِمَّا يُضَادُّ ذلكَ مِن أَنْواعِ الشِّركِ، فاكْتَفَى بالتَّلْوِيحِ عن التَّصْرِيحِ.
والأَلِفُ واللاَّمُ في (التَّوحيدِ) للعَهْدِ الذِّهْنِيِّ.

(3) قولُهُ: ( وقولِ اللهِ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]. )
يَجُوزُ في (قولِ اللهِ) الرَّفعُ والجرُّ، وهكذا حكمُ ما يَمُرُّ بكَ مِن هذا البابِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ: العِبَادَةُ: هي طَاعَةُ اللهِ بامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ ،
وقَالَ أَيْضًا: العِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويَرْضَاه، مِن الأَقْوَالِ، والأَعْمَالِ البَاطِنَةِ والظَّاهِرَةِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ: ومَدارُهَا عَلَى خَمْسَ عَشْرَةَ قَاعِدَةً، مَنْ كَمَّلَهَا كَمَّلَ مَرَاتِبَ العُبُودِيَّةِ، وبَيَانُ ذلكَ أنَّ العِبَادَةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى القَلْبِ، واللِّسَانِ، والجَوَارِحِ ، والأَحْكَامُ الَّتِي للعُبُودِيَّةِ خَمْسةٌ: واجِبٌ، ومُسْتَحَبٌّ، وحَرَامٌ، ومَكْرُوهٌ، ومُبَاحٌ ؛ وهُنَّ لكُلِّ واحدٍ مِن القَلْبِ واللِّسَانِ والجَوَارِحِ.
وقَالَ القُرْطُبِيُّ: أَصْلُ العِبَادَةِ: التَّذلُّلُ والخُضُوعُ، وسُمِّيتْ وظَائِفُ الشَّرعِ عَلَى المكلَّفينَ عباداتٍ؛ لأنَّهُم يَلْتَزِمُونَهَا ويَفْعَلُونَهَا خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ للهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابنُ كثيرٍ: العِبَادَةُ في اللُّغَةِ مِن الذِّلَّةِ، يُقالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ وغَيْرُ معبَّدٍ، أي: مُذَلَّلٌ ، وفي الشَّرعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كمَالَ المحبَّةِ والخضوعِ والخوفِ.
وهكذا ذَكَرَ غيرُهم مِن العُلَمَاءِ.
ومَعْنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ تعالَى أَخْبَرَ أنَّهُ ما خَلَقَ الإنسَ والجنَّ إِلاَّ لعِبَادَتهِ، فهذا هو الحِكْمَةُ في خَلْقِهم، ولَمْ يُرِدْ منهم مَا تُرِيدُهُ السَّادَةُ مِن عبيدِهَا من الإعانةِ لهم بالرِّزْقِ والإطعامِ، بل هو الرَّازِقُ ذو القُوَّةِ المَتينُ، الَّذي يُطْعِمُ ولا يُطعَمُ، كمَا قالَ تَعَالَى: { قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ } [الأنعام:14] .
وعبادَتُهُ هي طَاعَتُهُ بفعلِ المَأمورِ، وتَرْكِ المحظورِ، وذلكَ هو حَقِيقَةُ دينِ الإسلامِ؛ لأَِنَّ مَعْنَى الإسلامِ هو الاسْتِسْلاَمُ للهِ المُتَضَمِّنُ غَايَةَ الانْقِيَادِ، في غَايَةِ الذُّلِّ والخُضُوعِ .
قالَ عليُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في الآيةِ: إِلاَّ لآمُرَهُم أَنْ يَعْبُدُونِي، وأَدْعُوَهُم إلى عِبَادَتِي ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلاَّ لآمُرَهم وأنْهاهُمْ، واخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وشيخُ الإسلامِ، قالَ: ويَدُلُّ عَلَى هذا قولُهُ: { أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة:36] قالَ الشَّافعيُّ: لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهى.
وقولُهُ: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } [الفرْقَان:77] أي: لَوْلاَ عِبَادَتُكُمْ إيَّاهُ ، وقد قالَ في القرآنِ في غَيْرِ مَوْضعٍِ: { اعْبُدُواْ رَبَّكُمْ }، { اتَّقُواْ رَبَّكُمْ } ، فَقَدْ أمَرَهُم بِمَا خُلِقُوا له، وأَرْسَلَ الرُّسُلَ إلى الجِنِّ والإِنْسِ بذلك، وهذا المَعْنَى هو الَّذي قُصِدَ بالآيةِ قَطْعًا، وهو الَّذي يفهَمُهُ جَمَاهِيرُ المُسْلِمِينَ، ويَحْتَجُّونَ بالآيَةِ عَلَيْهِ، ويُقِرُّونَ أَنَّ اللهَ إنَّما خَلَقَهُم لِيَعْبُدُوه العِبَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ وهي طَاعَتُهُ وطَاعَةُ رُسُلِه لاَ ليُضَيِّعُوا حَقَّه الَّذي خَلَقَهم له.
قالَ: وهذه الآيةُ تُشْبِهُ قولَهُ تَعَالَى: { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [البقرة:185] وقولَهُ: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ } [النساء:64] ثُمَّ قَدْ يُطَاعُ وَقَدْ يُعْصَى ، وكَذَلِكَ ما خَلقَهُم إِلاَّ للعِبَادَةِ، ثُمَّ قد يَعْبُدُونَ وقَدْ لا يَعْبُدُونَ ، وهو سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ فَعَلَ الأَوَّلَ وهو خَلْقُهُم ليَفْعَلَ بِهِم كُلِّهِم الثَّانيَ وهو عِبَادَتُهُ، ولكنْ ذَكَرَ الأَوَّلَ ليَفْعَلُوا هم الثَّانيَ، فيَكُونُوا هُم الفَاعِلِينَ له، فَيَحْصُلُ لهم بفِعْلِهِ سَعَادَتُهُم، ويَحْصُلُ ما يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ منهم وَلَهُم . انْتَهَى.
والآيةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ اخْتِصَاصِ الخَالِقِ تَعَالى بالعِبَادَةِ؛ لأَِنَّهُ سُبْحَانَهُ هو ابْتَدَأَكَ بِخَلْقِكَ والإِنْعَامِ عَلَيْكَ بِقُدْرَتِه ومَشِيئَتِهِ ورَحْمَتِه مِن غَيْرِ سَبَبٍ منكَ أَصْلاً، وَمَا فَعَلَهُ بِكَ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ إِذَا احْتَجْتَ إليه في جَلْبِ رِزْقٍ أو دَفْعِ ضُرٍّ فهو الَّذي يَأْتِي بالرِّزْقِ لاَ يَأْتِي بهِ غَيْرُه، وهو الَّذي يَدْفَعُ الضُّرَّ لا يَدْفَعُه غيرُهُ ؛ كمَا قالَ تعالى: { أمَّن هَـذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَـنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أمَّن هَـذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } [الملك:20،21].
وهو سُبْحَانَهُ يُنعِمُ عليكَ، ويُحْسِنُ إليكَ بنفسِهِ، فإنَّ ذلكَ موجَبُ ما تَسَمَّى بهِ، ووصَفَ بهِ نَفْسَهُ، إذ هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الودودُ المَجِيدُ، وهو قَادِرٌ بنَفْسِهِ، وقُدْرَتُهُ مِن لَوَازِمِ ذاتِهِ، وكذلِكَ رَحْمَتُهُ وعِلْمُهُ وحِكْمَتُهُ، لاَ يَحْتَاجُ إلى خَلْقِهِ بوجْهٍ مِن الوُجُوهِ، بل هو الغَنِيُّ عن العَالَمِينَ { وَمَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل:40].
فالرَّبُّ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ بنَفْسِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِن صِفَاتِ الكَمَالِ ثَابِتٌ له بِنَفْسِهِ، وَاجِبٌ له مِن لَوَازِمِ ذاتِهِ، لا يَفْتَقِرُ في شيءٍ مِن ذلك إلى غَيْرِهِ، فَفِعْلُه وإِحْسَانُهُ وجُودُهُ مِن كمَالِهِ، لاَ يَفْعَلُ شَيْئًا لحاجةٍ إلى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، بل كُلُّ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ فإنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.
وهو سُبْحَانَهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ، فَكُلُّ مَا يَطْلُبُه فهو يَبْلُغُه ويَنَالُه ويَصِلُ إليهِ وحْدَهُ وَلاَ يُعِينُهُ أَحدٌ، وَلاَ يَعُوقُهُ أَحَدٌ، لاَ يَحْتَاجُ في شَيْءٍ مِن أُمُورِهِ إِلَى مُعِينٍ، وَمَا لَهُ مِن المَخْلُوقِينَ مِن ظَهِيرٍ، وَلَيْسَ له وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ، قَالَه شَيْخُ الإِسْلاَمِ.

(4) قالَ: ( وقولِهِ: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } [النحل:36] ) .
قالُوا: الطَّاغُوتُ: مُشْتَقٌّ مِن الطُّغْيانِ وهو مُجَاوَزَةُ الحَدِّ.
وقد فسَّرَهُ السَّلفُ ببعضِ أَفْرَادِهِ ؛ قالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ ، وَقَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطَّواغِيتُ: كُهَّانٌ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِم الشَّياطِينُ ، رَوَاهُمَا ابنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّاغُوتُ: الشَّيطَانُ في صُورَةِ الإِنْسَانِ، يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ وهو صَاحِبُ أَمْرِهِم .
وَقَالَ مَالِكٌ: الطَّاغُوتُ: كُلُّ ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ ، قُلْتُ: وهو صَحِيحٌ، لَكِنْ لاَبُدَّ فيهِ مِن اسْتِثْنَاءِ مَن لاَ يَرْضَى بِعِبَادَتهِ.
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ: الطَّاغُوتُ: ما تَجَاوَزَ بهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِن مَعْبُودٍ أو مَتْبُوعٍ أو مُطَاعٍ ؛ فَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مَنْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ غَيْرَ اللهِ ورَسُولِهِ، أَوْ يَعْبُدُونَهُ مِن دونِ اللهِ، أو يَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِن اللهِ، أو يُطِيعُونَهُ فيما لاَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ طَاعَةُ اللهِ ، فهذه طَوَاغِيتُ العَالَمِ، إِذَا تَأَمَّلْتَهَا وتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَهَا رَأَيْتَ أَكْثَرَهُم مِمَّن أَعْرَضَ عن عِبَادَةِ اللهِ إِلَى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وعن طاعتِهِ ومُتَابَعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى طاعَةِ الطَّاغُوتِ ومُتَابعتِهِ.
وأمَّا مَعْنَى الآيةِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ في كُلِّ أمَّةٍ -أيْ: في كُلِّ طَائِفَةٍ وقَرْنٍ مِن النَّاسِ- رَسُولاً بِهَذِهِ الكَلِمَةِ: { أَن اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } أيْ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ واتْرُكُوا عِبَادَةَ ما سِوَاهُ، فَلِهَذَا خُلِقَت الخَلِيقَةُ، وأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وأُنْزِلَتِ الكُتُبُ، كَمَا قالَ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] وَقَالَ تَعَالَى: { قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلاَ أُشْرِكَ بهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } [الرعد:36].
وهذه الآيةُ هي مَعْنَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فإنَّهَا تَضَمَّنَت النَّفْيَ والإِثْبَاتَ كَمَا تَضَمَّنتْهُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ؛ فَفِي قَوْلِهِ: { اعْبُدُوا اللهَ } الإِثْبَاتُ، وفي قولِهِ: { اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } النَّفْيُ.
فَدَلَّتِ الآيةُ عَلَى أنَّهُ لاَبُدَّ في الإسلامِ مِن النَّفْيِ والإثباتِ، فَيُثبِتُ العِبَادَةَ للهِ وحْدَهُ، ويَنْفِي عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ وهو التَّوحيدُ الَّذي تضَمَّنَتهُ سورةُ { قُلْ يَا أَيُّها الكَافِرُون } [الكافرون:1] ، وهو مَعْنَى قولِهِ: { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:256].
قَالَ ابنُ القيِّمِ: وَطَرِيقَةُ القُرْآنِ في مِثْلِ هَذَا أَنْ يَقرِنَ النَّفيَ بالإثباتِ، فيَنْفِيَ عِبَادَةَ ما سِوَى اللهِ، ويُثْبِتَ عِبَادَتَهُ، وهذا هو حَقِيقَةُ التَّوحيدِ، والنَّفْيُ المَحْضُ ليسَ بتوحيدٍ، وكذلِكَ الإثباتُ بدونِ النَّفيِ، فَلاَ يَكُونُ التَّوحيدُ إِلاَّ مُتَضَمِّنًا للنَّفْيِ والإثباتِ، وهذا حَقِيقَةُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. انْتَهَى.
ويَدْخُلُ في الكُفْرِ بالطَّاغُوتِ بُغْضُهُ وكَرَاهَتُهُ، وعَدَمُ الرِّضَى بِعِبَادَتِهِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ.
ودَلَّتِ الآيةُ عَلَى أنَّ الحِكْمَةَ في إِرْسَالِ الرُّسُلِ هي عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ وتَرْكُ عِبَادَةِ ما سِوَاه، وَأَنَّ أَصْلَ دِينِ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وهو الإِخْلاَصُ في العِبَادَةِ للهِ، وإِن اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُم، كَمَا قَالَ تَعَالىَ: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة:48] ، وأنَّهُ لابُدَّ في الإيمانِ مِن العَمَلِ رَدًّا عَلَى المُرْجِئَةِ.

(1) قالَ: ( قولُهُ: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء:23] )
هَكَذا ثَبَتَ في بعضِ الأُصولِ، لم يَذْكُرِ الآيةَ بكَمَالِها.
قالَ مُجاهِدٌ: { وقَضَى } يَعْنِي: وَصَّى، وكذلِكَ قرأَ أُبيُّ بنُ كَعْبٍ، وابنُ مَسْعودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهُم ،
ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ في قولِهِ: { وَقَضَى رَبُّكَ } يَعْنِي: أَمَرَ.
وقولِهِ: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } (أنْ) هي المصدريَّةُ وهي في مَحَلِّ جَرٍّ بِالباءِ، والمعنى: أنْ تَعْبُدُوه ولا تَعْبُدُوا غيرَهُ ممَّنْ لا يَمْلِكُ ضَرًّا ولا نَفْعًا، بل هو إِمَّا فَقِيرٌ مُحْتاجٌ إلى رَحْمةِ رَبِّهِ يَرْجُوها كمَا تَرْجُونهَا، وإِمَّا جَمادٌ لا يَسْتَجِيبُ لمَنْ دَعَاه.
وقولُهُ: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أيْ: وقَضَى أن تُحْسِنُوا بالوَالِدَينِ إِحْسانًا كمَا قَضَى بِعِبادتِهِ وحدَهُ لا شَرِيكَ له.
وَعَطْفُ حقِّهِمَا عَلَى حَقِّ اللهِ تَعالىَ دليلٌ عَلَى تَأَكُّدِ حقِّهِما وأنَّهُ أَوْجَبُ الحقوقِ بعدَ حقِّ اللهِ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ، يَقْرِنُ بينَ حقِّهِ عَزَّ وجلَّ وحقِّ الوالدين، كقولِهِ: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لُقْمان:14] وقالَ: { وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [البقرة:83] ، ولم يَخُصَّ تَعالى نَوْعًا مِن أنواعِ الإحسانِ لِيَعُمَّ أنواعَ الإحسانِ.
وقد تَوَاتَرَت النُّصوصُ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأَمْرِ بِبِرِّ الوَالِدَين والحَثِّ عَلَى ذلكَ، وتَحْرِيمِ عُقوقِهمَا كمَا في القرآنِ ؛ ففِي صحيحِ البُخارِيِّ عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلى اللهِ ؟ قالَ: " الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِها " ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ " ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " حَدَّثَنِي بِهنَّ وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
وعن أَبِي بَكْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلاَ أُنَبِّئكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " ، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: " الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ "، وَكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: " أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلا وَشَهَادَةُ الزُّورِ " فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ . رَوَاهُ البُخارِيُّ ومُسْلِم
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ: " أُمُّكَ " ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " أُمُّكَ" ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " أُمُّكَ " ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " أَبُوكَ " أَخْرَجَاه.
وعن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدَينِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِ الوَالِدَيْنِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكمُ.
وعن أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقالَ: يَا رَسُولَ الله هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ فَقالَ: " نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " رَوَاهُ أَبو داودَ وابنُ ماجهَ وابنُ حِبَّانَ في صحيحِه ، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ قد أَفْرَدَهَا العُلماءُ بالتَّصنيفِ وذَكَرَ البُخارِيُّ منها شَطْرًا صالحًا في كِتابِ الأَدَبِ المُفْرَدِ .

قالَ: ( وقولُهُ: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأَنْعام:151-153]. ) .
قالَ ابنُ كَثِيرٍ: ( يَقولُ اللهُ تَعالى لِنبيِّهِ ورسولِه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لهؤلاءِ المشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غيرَ اللهِ، وحَرَّمُوا ما رَزَقَهُم اللهُ، وقَتَلُوا أولادَهُم، وكلُّ ذلكَ فَعَلُوه بآرائِهِم الفَاسِدةِ، وتَسْوِيلِ الشَّيطانِ لهم ؛ { تَعَالَوْا } أَيْ: هَلُمُّوا وأَقْبِلُوا { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي: أَقْصُصْ عليكم، وأُخْبِرْكم بما حَرَّمَ ربُّكُم عَلَيْكم حقًّا، لا تَخَرُّصًا ولا ظَنًّا، بل وَحْيٌ مِنه وأَمْرٌ مِن عندِهِ، { أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } قَالَ: وكانَ في الكلامِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عليهِ السِّياقُ، وتقديرُهُ: وَصَّاكُم أن لا تُشْرِكُوا بهِ شيئًا ، ولهذا قالَ في آخِرِ الآيةِ { ذلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ } ).
قُلْتُ: ابْتَدَأَ تعالى هذه الآياتِ المُحْكَمَاتِ بتَحْرِيمِ الشِّركِ والنَّهيِ عنه، فحَرَّمَ علينا أن نُشْرِكَ بهِ شيئًا فشَمِلَ ذلكَ كُلَّ مُشْرَكٍ بهِ، وكُلَّ مُشْرَكٍ فيه مِن أنواعِ العِبادةِ، فإنَّ { شَيْئًا } مِن النَّكِرَاتِ فيَعُمُّ جميعَ الأشياءِ، وما أَبَاحَ تَعالى لِعِبادِهِ أن يُشْرِكوا بهِ شيئًا، فإنَّ ذلكَ أَظْلَمُ الظُّلْمِ وأَقْبَحُ القَبِيحِ.
ولفظُ (الشِّرْكِ) يَدُلُّ عَلَى أنَّ المشرِكِينَ كانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ، ولَكِن يُشْرِكُون بِهِ غَيرَهُ مِن الأَوْثَانِ والصَّالِحِين والأَصْنَامِ، فكانَت الدَّعْوَةُ وَاقِعَةً عَلَى تَرْكِ عِبادةِ ما سِوَى اللهِ، وإِفْرادِ اللهِ بِالعِبادةِ ، وكانَت (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) مُتَضَمِّنةً لهذا المعْنى، فدَعَاهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإِقْرارِ بهِا نُطْقًا وعَمَلاً واعْتِقادًا، ولهذا إذا سُئِلُوا عَمَّا يَقولُ لهم، قالُوا: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا واتْرُكُوا ما يَقُولُ آباؤُكم كمَا قالَه أَبُو سُفْيانَ.
وقولُهُ: { وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَانًا } قالَ القُرْطُبِيُّ: الإحسانُ إلى الوالدينِ: بِرُّهما وحِفْظُهُما وصِيانتُهُمَا، وامْتِثالُ أَمْرِهمِا، وإِزَالةُ الرِّقِّ عَنْهُمَا، وتَرْكُ السَّلْطَنةِ عليهِمَا ، و{إِحْسَانًا } نُصِبَ عَلَى المَصْدَريَّةِ، وناصِبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ مِن لَفْظِهِ: تقديرُهُ: وأَحْسِنُوا بِالوالدينِ إِحْساناً.
وقولُهُ: { وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [الأنعام:150] ؛ الإِمْلاقُ: الفَقْرُ، أَي: لا تَئِدُوا بَناتِكُم خَشْيةَ العَيْلةِ والفَقْرِ، فإنِّي رازِقُكُم وإيَّاهُم، وكانَ منهم مَن يفعلُ ذلكَ بالإناثِ والذُّكورِ خَشْيةَ الفَقْرِ، ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ.
وفي الصَّحيحين عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ ؟ قالَ: " أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ " ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } [الفُرْقَان:68].
{ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: نَهْيٌ عامٌّ عن جميعِ أَنْواعِ الفَوَاحشِ، وهي المَعاصِي ، و { ظَهَرَ } وَ { بَطَنَ } حالتان تَسْتَوْفِيانِ أَقْسامَ ما جُعِلَتْ له مِن الأشياءِ.
وفي التَّفسيرِ المَنْسوبِ إلى أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ مِن الحَنَفِيَّةِ -وهو تَفْسِيرٌ عظيمٌ- { وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } أي: القَبائِحَ.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ، والضَّحَّاكِ، والسُّدِّيِّ: أنَّ مِن الكُفَّارِ مَن كانَ لا يَرَى بالزِّنَا بَأْسًا إذا كانَ سِرًّا،
وقِيلَ: الظَّاهرُ ما بينَك وبينَ الخَلْقِ، والباطنُ ما بينَكَ وبينَ اللهِ. انْتَهَى.
وفي الصَّحيحين عن ابنِ مَسْعُودٍ مَرْفوعًا: " لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِن اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ " .
{ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ } قالَ ابنُ كَثِيرٍ: هذا مِمَّا نَصَّ تعالى عَلَى النَّهْيِ عنه تَأْكيدًا، وإلا فهو داخِلٌ في النَّهيِ عن الفَوَاحشِ.
وفي الصَّحيحين عن ابن مَسْعُودٍ مَرْفوعًا: " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَماعَةِ " .
وعن ابنِ عُمَرَ مرفوعًا: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " رَوَاهُ البُخارِيُّ.
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: { ذلكم } إشارةٌ إلى هذه المُحَرَّماتِ، والوَصِيَّةُ: الأَمْرُ المُؤَكَّدُ المُقَرَّرُ ، وقولُهُ: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تَرَجٍّ بالإضافةِ إلينا، أي: مَنْ سَمِعَ هذه الوصيَّةَ يُرْجَى وُقوعُ أَثَرِ العَقْلِ بعدَهَا.
قُلْتُ: هذا غيرُ صحيحٍ، والصَّوَابُ أنَّ (لَعَلَّ) هنا للتَّعليلِ، أيْ: أنَّ اللهَ وَصَّانا بهِذه الوَصَايا لِنَعْقِلَها عنه، ونَعْمَلَ بِها، كمَا قالَ: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [الْبَيِّنَة: 5].
وفي تفسيرِ الطَّبَرِيِّ الحَنَفِيِّ: ذَكَر أَوَّلاً { تَعْقِلُونَ } ثُمَّ { تَذَكَّرُونَ } ثُمَّ { تَتَّقُونَ} ؛ لأنَّهُم إذا عَقَلُوا تَذَكَّرُوا، فإذا تَذَكَّرُوا خافُوا واتَّقَوُا المَهالِكَ.
{ وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: هذا نَهْيٌ عن القُرْبِ الَّذي يَعُمُّ وجوهَ التَّصَرُّفِ، وفيه سَدُّ الذَّرِيعةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى ما يَحْسُنُ وهو التَّشْمِيرُ والسَّعْيُ في نَمائِهِ.
قالَ مُجاهِدٌ: { الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } التِّجارةُ فيه، فمَن كانَ مِن النَّاظِرِينَ له مالٌ يَعِيشُ بهِ، فالأَحْسَنُ إذا ثمَّرَ مالَ اليَتِيمِ أن لا يَأْخُذَ مِنه نَفَقَةً ولا أُجْرَةً ولا غيرَهُمَا، ومَن كانَ مِن النَّاظِرِينَ لا مالَ له، ولا يتَّفِقُ له نَظَرٌ إلاَّ بأن يُنفِقَ عَلَى نفسِهِ مِن رِبْحِ نظرِهِ، وإلاَّ دَعَت الضَّرُورةُ إلى تَرْكِ مالِ اليَتِيمِ دونَ نظرٍ، فالأَحْسَنُ أن يَنْظُرَ ويَأْكُلَ بالمعْرُوفِ. قاله ابنُ زَيْدٍ.
وقولُهُ: { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قالَ مالِكٌ وغيرُهُ: هو الرُّشْدُ وزَوالُ السَّفَهِ معَ البُلوغِ.
قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: وهو أَصَحُّ الأقوالِ وأَلْيَقُهَا بهذا الموضعِ.
قلْتُ: وقد رُوِيَ نحوُهُ عن زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، والشَّعْبِيِّ، ورَبِيعَةَ، وغيرِهِم، ويَدُلُّ عليهِ قولُهُ تعالى: { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النِّساء:6]
فاشْتَرَطَ تعالى للدَّفْعِ إِليهم ثلاثةَ شروطٍ:
- الأوَّلُ: ابْتِلاؤُهُم، وهو اخْتِبارُهُم وامْتِحانُهم بما يَظْهَرُ بهِ مَعْرفتُهُم لمصالحِ أنفسِهِم وتدبيرِ أموالِهم.
- والثَّاني: البُلُوغُ.
- والثَّالثُ: الرُّشْدُ.
{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالقِسْطِ } قالَ ابنُ كَثِيرٍ: يَأْمُرُ تَعَالَى بإقامةِ العَدْلِ في الأَخْذِ والإِعْطاءِ، كمَا تَوَعَّدَ عليه في قولِهِ: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المُطَفِّفِين:1-6] ، وقد أَهْلَكَ اللهُ أُمَّةً مِن الأُمَمِ كانُوا يَبْخَسُونَ المِكْيالَ والمِيزانَ.
وقالَ غيرُهُ: القِسْطُ: العَدْلُ.
وقد رَوَى التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابِ الكَيْلِ والميزانِ: " إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا هَلَكَتْ فِيهِ الأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبْلَكُمْ " ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا بإسنادٍ صحيحٍ.
{ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } قالَ ابنُ كَثِيرٍ: أي: مَن اجْتَهَدَ في أداءِ الحقِّ وأَخْذِهِ، فإنْ أَخْطَأَ بعدَ اسْتِفْراغِ وُسْعِهِ وبَذْلِ جَهْدِهِ، فلا حَرَجَ عليهِ.
وقد رَوَى ابنُ مَرْدُويَه عن سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ مَرْفُوعًا: " أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا " قالَ: " مَن أَوْفَى عَلَى يَدِهِ فِي الكَيْلِ والميزانِ - واللهُ يَعْلَمُ صِحَّةَ نِيَّتِه بالوَفاءِ فِيهِما - لم يُؤَاخَذْ، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ: وُسْعَها " . قالَ: هذا مُرْسَلٌ غَرِيبٌ ، قُلْتُ: وفيهِ رَدٌّ عَلَى القائِلِينَ بِجَوازِ تَكْلِيفِ ما لا يُطَاقُ.
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى } هذا أَمْرٌ بالعَدْلِ في القَوْلِ والفِعْلِ عَلَى القَرِيبِ والبَعِيدِ.
قالَ الحَنَفِيُّ: العَدْلُ في القولِ في حقِّ الوَلِيِّ والعَدُوِّ، لا يَتَغَيَّرُ بالرِّضَى والغضبِ، بل يكونُ عَلَى الحقِّ والصِّدقِ، وإنْ كانَ ذا قُرْبَى فلا يَمِيلُ إلى الحَبِيبِ، ولا إلى القريبِ { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [الْمَائدة:8].
{ وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا } قالَ ابنُ جَرِيرٍ: يَقولُ: وبوَصيَّةِ اللهِ الَّتي وَصَّاكُم بها، فأَوْفُوا وانْقادُوا لذلِكَ، بأن تُطِيعُوهُ فيمَا أَمَرَ بهِ ونَهَاكُم عنه، وتَعْمَلُوا بكِتابِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ، وذلك هو الوَفاءُ بعَهْدِ اللهِ ، وكذا قالَ غيرُهُ.
قُلْتُ: وهو حَسَنٌ، ولكنَّ الظَّاهِرَ أنَّ الآيةَ فيما هو أَخَصُّ، كالبَيْعَةِ والذِّمَّةِ والأمانِ والنَّذْرِ ونحوِ ذلِكَ، وهذه الآيةُ كقولِهِ: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } [النَّحْل:91] فهذا هو المَقْصُودُ بالآيةِ، وإن كانَت شامِلةً لِمَا قالوا بطريقِ العُمومِ.
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يَقُولُ تعالى: هذا وَصَّاكُم وأَمَرَكُم بهِ وأَكَّدَ عليكُم فيه لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ، أي: تَتَّعِظُونَ وتَنْتَهُونَ عَمَّا كُنْتُم فيهِ.
{ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } قالَ القُرْطُبِيُّ: هذه آيةٌ عظيمةٌ عَطفَهَا اللهُ عَلَى ما تَقَدَّمَ، فإنَّهُ لَمَّا نَهَى وأَمَرَ، حَذَّرَ عن اتِّباعِ غيرِ سبيلِهِ وأَمَرَ فيها باتِّباعِ طريقِهِ عَلَى ما بيَّنَتْهُ الأحاديثُ الصَّحيحةُ وأقاوِيلُ السَّلَفِ.
{ وأنَّ } في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أي: (واتْلُ أنَّ هذا صِراطِي) عن الفَرَّاءِ والكِسائِيِّ ، قالَ الفَرَّاءُ: ويَجُوزُ أن يَكونَ خَفْضًا، أي: وَصَّاكُم بهِ، وبأنَّ هذا صِراطِي ، قالَ: والصِّرَاطُ: الطَّريقُ الَّذي هو دِينُ الإسلامِ ، { مُسْتَقِيمًا } نُصِبَ عَلَى الحالِ، ومَعْناه: مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لا اعْوِجاجَ فيهِ، فأَمَرَ باتِّباعِ طَرِيقِه الَّذي طَرَقَهُ عَلَى لِسانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشَرَعَهُ، ونِهايتُهُ الجَنَّةُ، وتَشَعَّبَتْ منه طُرُقٌ، فَمَنْ سَلَكَ الجادَّةَ نَجَا، ومَنْ خَرَجَ إلى تلكَ الطُّرقِ أَفْضَتْ بهِ إلى النَّارِ ، قالَ اللهُ تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] أي: تَمِيلَ. انْتَهَى.
ورَوَى أَحْمَدُ والنَّسائِيُّ، والدَّارِمِيُّ، وابنُ أَبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بيدِهِ، ثُمَّ قالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا " ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عن يَمِينِ ذلكَ الخَطِّ وعن شِمالِه، ثُمَّ قالَ: " وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ، ثُمَّ قَرَأَ: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }.
وعن النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا قالَ: " ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وعلى جَنَبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وعَلَى الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا ولا تَعْوَجُّوا، ودَاعٍ يَدْعُو مِن جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِن تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ: لا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ ، فَالصِّرَاطُ: الإِسْلامُ، والسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ، والأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، والدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ: واعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ، وابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حاتمٍ.
وعن مُجاهِدٍ في قولِهِ: { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } [الأنعام:153] قالَ: البِدَعُ والشُّبُهَاتُ ، رَوَاهُ ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حاتمٍ.
وهذه السُّبُلُ تَعُمُّ اليهوديَّةَ، والنَّصرانيَّةَ، والمَجُوسيَّةَ، وعُبَّادَ القُبورِ، وسائرَ أهلِ المِلَلِ والأَوْثانِ، والبِدَعِ والضَّلالاتِ من أهلِ الشُّذوذِ والأهواءِ، والتَّعمُّقِ في الجَدَلِ، والخَوْضِ في الكلامِ، فاتِّباعُ هذه مِن اتِّباعِ السُّبُلِ الَّتي تَذْهَبُ بالإنسانِ عن الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ إلى مَوَافقةِ أصحابِ الجَحِيمِ، كمَا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " وفي رِوايةٍ: " كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " حديثٌ صحيحٌ.
قالَ ابنُ مَسْعُودٍ: تَعَلَّمُوا العِلْمَ قبلَ أن يُقْبَضَ، وقَبْضُهُ ذَهابُ أَهْلِه، أَلا وإيَّاكُمْ والتَّنَطُّعَ وَالتَّعَمُّقَ والبِدَعَ، وعليكُمْ بالعَتِيقِ ، رَواهُ الدَّارِمِيُّ.
قُلْتُ: العَتِيقُ: هو القديمُ، يَعْنِي: ما كانَ عليهِ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُهُ مِن الهُدَى، دونَ ما حَدَثَ بعدَهُم، فالهَرَبَ الهَرَبَ، والنَّجاءَ النَّجاءَ، والتَّمسُّكَ بالطَّرِيقِ المستقيمِ والسَّنَنِ القَوِيمِ، وهو الَّذي كانَ عليهِ السَّلَفُ الصَّالحُ، وفيه المَتْجَرُ الرَّابحُ ، قاله القُرْطُبِيُّ.
وقالَ سَهْلُ بنُ عَبْدِ اللهِ: عَلَيْكُم بالأَثَرِ والسُّنَّةِ، فإنِّي أَخَافُ أنَّهُ سَيَأْتِي عن قَلِيلٍ زَمَانٌ إذا ذَكَرَ إنسانٌ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاقْتِداءَ بهِ في جميعِ أَحْوالِه ذَمُّوهُ ونَفَرُوا عنهُ وتَبَرَّؤُوا منهُ، وأَذَلُّوهُ وأَهَانُوه.
قُلْتُ: رَحِمَ اللهُ سَهْلاً ما أَصْدَقَ فَرَاسَتَهُ، فلقدْ كانَ ذلك وأَعْظَمُ، وهو أن يُكَفَّرَ الإنسانُ بتَجْرِيدِ التَّوحيدِ والمُتابَعةِ، والأَمْرِ بإِخْلاصِ العِبادةِ للهِ، وتَرْكِ عِبادةِ ما سِوَاه والأَمْرِ بِطاعةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَحْكِيمِهِ في الدَّقِيقِ والجَلِيلِ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلْنَذْكُرْ في الصِّراطِ المستقيمِ قَوْلاً وَجِيزًا، فإنَّ النَّاسَ قد تَنَوَّعَتْ عِباراتُهم عنه، وتَرْجَمتُهُم عنه بحَسَبِ صِفاتِهِ ومُتَعَلِّقاتِهِ، وحقيقتُهُ شيءٌ واحدٌ وهو طريقُ اللهِ الَّذي نَصَبَه لِعِبادِهِ مُوصِلاً لهم إليهِ، ولا طَرِيقَ إليهِ سِواه، بَل الطُّرُقُ كُلُّها مَسْدُودةٌ عَلَى الخَلْقِ إلاَّ طَرِيقَهُ الَّذي نَصَبَه عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِه، وجَعَلَه مُوصِلاً لِعِبادِهِ إليهِ وهو إِفْرادُهُ بالعُبوديَّةِ وإفرادُ رسولِه بالطَّاعةِ، فلا يُشْرَكُ بهِ أَحَدٌ في عُبوديَّتِهِ ، ولا يُشْرَكُ برَسُولِه أَحَدٌ في طاعتِهِ، فيُجَرِّدُ التَّوحيدَ، ويُجَرِّدُ مَتابعةَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا معنى قولِ بعضِ العارِفِينَ: إنَّ السَّعادةَ كُلَّها والفلاحَ كُلَّه مَجْموعٌ في شَيْئَيْنِ: صِدْقِ مَحَبَّةٍ وحُسْنِ مُعامَلَةٍ، وهذا كُلُّه مَضْمُونُ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ ، فأيُّ شيءٍ فُسِّرَ بهِ الصِّراطُ المستقيمُ، فهو داخِلٌ في هذينِ الأصلينِ.
ونُكْتَةُ ذلك أن تُحِبَّهُ بقَلْبِكَ كُلِّه، وتُرْضِيَه بجَهْدِكَ كُلِّه، فلا يَكُونُ في قَلْبِكَ مَوْضِعٌ إلا مَعْمورٌ بِحُبِّهِ، ولا يَكونُ لكَ إرادةٌ إلا مُتَعَلِّقةٌ بمَرْضاتِهِ.
- فالأَوَّلُ: يَحْصُلُ بتحقيقِ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
- والثَّاني: يَحْصُلُ بتحقيقِ شَهادةِ أنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ، وهذا هو الهُدَى ودِينُ الحقِّ، وهو مَعْرفةُ الحقِّ والعملُ بهِ، وهو معرفةُ ما بَعَثَ اللهُ بهِ رسولَه والقيامُ بِهِ، فقُلْ ما شِئْتَ مِن العِباراتِ الَّتي هذا آخِيَّتُها وقُطْبُ رَحَاهَا.

قالَ: وقولُهُ: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النِّساء:36] هَكَذا أُثْبِتَ في نُسْخةٍ بخَطِّ شَيْخِنَا ولم يَذْكُر الآيةَ.
قالَ ابنُ كَثِيرٍ: يَأْمُرُ تَعالى عِبادَه بعِبادتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، فإنَّهُ الخالِقُ الرَّازِقُ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ في جميعِ الحالاتِ، فهو المُسْتَحِقُّ مِنهم أن يُوَحِّدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئًا مِن مخلوقاتِهِ.
قُلْتُ: هذا أوَّلُ أَمْرٍ في القرآنِ، وهو الأمرُ بعبادتِهِ وحدَهُ لا شريكَ له، والنَّهْيُ عن الشِّركِ، كمَا في قولِهِ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[البقرة:21] وتَأَمَّلْ كيفَ أَمَرَ تعالى بعبادتِهِ، أي: فِعْلِها خالِصةً له، ولم يَخُصَّ بذلك نوعًا مِن أنواعِ العبادةِ، لا دُعاءً ولا صَلاةً ولا غَيرَهُمَا، لِيَعُمَّ جميعَ أنواعِ العبادةِ، ونَهَى عن الشِّركِ بهِ، ولم يَخُصَّ أيضًا نوعًا مِن أنواعِ العبادةِ بجَوَازِ الشِّركِ فيهِ.
وفي هذه الآيةِ واللَّوَاتي قبلَها دليلٌ عَلَى أنَّ العبادةَ هي التَّوحيدُ، لأنَّ الخُصومةَ فيهِ، وإلاَّ فكانَ المشركونَ يَعْبُدُونَ اللهَ ويَعْبُدُونَ غيرَهُ، فأُمِرُوا بالتَّوحيدِ، وهو عبادةُ اللهِ وحدَهُ وتَرْكُ عبادةِ ما سِواه.
وفِيهنَّ دَليلٌ عَلَى أنَّ التَّوحيدَ أوَّلُ واجِبٍ عَلَى المُكَلَّفِ، وهو الكُفْرُ بالطَّاغوتِ، والإيمانُ باللهِ المُسْتَلْزِمُ لِعبادتِهِ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ مَنْ عَبَدَ غيرَ اللهِ بنوعٍ مِن أنواعِ العبادةِ فقد أَشْرَكَ، سَوَاءٌ كانَ المعبودُ مَلَكًا أو نَبِيًّا أو صالحًا أو صَنَمًا.

(2) (قالَ ابنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أرادَ أن يَنْظُرَ إلى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتي عليها خاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلى قولِهِ: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ })
(ابنُ مَسْعُودٍ) هو عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ بنِ غافِلِ- بمُعْجَمةٍ وفاءٍ- ابنِ حَبيبٍ الهُذَليُّ أبو عبدِ الرَّحمنِ، صَحابيٌّ جليلٌ مِن السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ وأهلِ بَدْرٍ وبَيْعَةِ الرِّضْوانِ، ومِن كِبارِ العُلماءِ مِن الصَّحابةِ، أمَّرَهُ عُمَرُ عَلَى الكُوفةِ، وماتَ سَنَةَ اثنتينِ وثلاثينَ.
وهذا الأَثَرُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أَبِي حاتمٍ، والطَّبَرَانِيُّ بنحوِهِ، ورَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وعبدُ بنُ حُمَيْدٍ عن الرَّبِيعِ بنِ خُثَيْمٍ نحوَهُ.
قالَ بعضُهُم ما معناه: أي: مَن أرَادَ أن يَنْظُرَ إلى الوَصِيَّةِ الَّتي كأنَّهَا كُتِبَتْ وخُتِمَ عليها، ثُمَّ طُوِيَت فلم تُغَيَّرْ ولم تُبَدَّلْ، تَشْبِيهًا لها بالكتابِ الَّذي كُتِبَ ثُمَّ خُتِمَ عليهِ فلم يُزَدْ فيه ولم يُنْقَصْ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَها وخَتَمَ عليها وأَوْصَى بها، فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُوصِ إلاَّ بِكِتابِ اللهِ، كمَا قالَ فيما رَوَاهُ مُسْلِمٌ: " وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ " .
قُلْتُ: وقد رَوَى عُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَؤُلاءِ الآَيَاتِ الثَّلاثِ ؟ " ، ثُمَّ تَلا { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتَّى فَرَغَ مِن ثلاثِ آياتٍ، ثُمَّ قالَ: " مَنْ وَفَّى بِهِنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الآَخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ " رَواهُ ابنُ أَبِي حاتِمٍ، والحاكمُ وصَحَّحهُ، فهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَنِي بِهِنَّ، ويُبالِغُ في الحَثِّ عَلَى العملِ بهِنَّ.

(3) هذا الحديثُ في الصَّحيحين وبعضُ رِواياتِه نحوَ ما ذَكَرَ المُصَنِّفُ.
ومُعاذٌ: هو مُعاذُ بنُ جَبَلِ بنِ عَمْرِو بنِ أَوْسٍ الأَنْصارِيُّ الخَزْرَجِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحمنِ صَحابيٌّ مَشْهورٌ مِن أَعْيانِ الصَّحابةِ، شَهِدَ بَدْرًا وما بعدَهَا، وكانَ إليهِ المُنْتَهَى في العِلْمِ بالأحكامِ والقرآنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ماتَ سَنَةَ ثمَانيَ عَشْرةَ بالشَّامِ.
قولُهُ: (كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؛ فيه جَوازُ الإِرْدافِ عَلَى الدَّابَّةِ، وفَضِيلةٌ لِمُعاذٍ مِن جِهةِ رُكوبِهِ خَلْفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: (عَلَى حِمارٍ) ؛ في رِوايةٍ: (اسمُهُ عُفَيْرٌ) ، بعَيْنٍ مُهْمَلةٍ مَضْمُومةٍ، ثُمَّ فاءٍ مَفْتُوحةٍ ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وهو الحِمَارُ الَّذي كانَ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: إنَّهُ ماتَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ ، وفيه: تَوَاضُعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للإِرْدافِ ولِرُكوبِ الحِمَارِ، خِلافَ ما عليهِ أهلُ الكِبْرِ.
قولُهُ: " أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟ " الدِّرايةُ: هي المعرفةُ، وأَخْرَجَ السُّؤالَ بِصِيغةِ الاسْتِفْهامِ، لِيَكونَ أَوْقَعَ في النَّفْسِ، وأَبْلَغَ في فَهْمِ المُتَعَلِّمِ، فإنَّ الإِنْسانَ إِذَا سُئِلَ عن مَسْألةٍ لا يَعْلَمُهَا ثُمَّ أُخْبِرَ بهَا بعدَ الامتحانِ بالسُّؤالِ عنها، فإنَّ ذلك أَوْعَى لِفَهْمِهَا وحِفْظِهَا، وهذا مِن حُسْنِ إرشادِهِ وتعليمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
و" حَقُّ اللهِ عَلَى العِبادِ " هو ما يَسْتَحِقُّهُ عليهم ويَجْعَلُه مُتَحَتِّمًا.
و" حقُّ العِبادِ عَلَى اللهِ " مَعْناهُ أنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّهُ قد وَعَدَهُم ذلك جَزاءً لهم عَلَى توحيدِهِ، ووعدُهُ حقٌّ، إنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ: كَوْنُ المُطِيعِ يَسْتَحِقُّ الجزاءَ، هو اسْتِحْقاقُ إِنْعامٍ وفَضْلٍ، ليس هو استحقاقَ مُقابَلةٍ كمَا يَسْتَحِقُّ المَخْلوقُ عَلَى المخلوقِ، فمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: لا معنى للاستحقاقِ إلاَّ أنَّهُ أَخْبَرَ بذلِكَ، ووَعْدُهُ صِدْقٌ، ولكنَّ أَكْثرَ النَّاسِ يُثْبِتُون اسْتِحْقاقًا زائدًا عَلَى هذا كمَا دَلَّ عليهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ ، قالَ تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } [الرُّوم:48] ، ولكنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقولُونَ: هو الَّذي كَتَبَ عَلَى نفسِهِ الرَّحمةَ، وأَوْجَبَ هذا الحقَّ عَلَى نفسِهِ، لم يُوجِبْهُ عليهِ مخلوقٌ، والمُعْتَزِلةُ يَدَّعُونَ أنَّهُ وَاجِبٌ عليهِ بالقِياسِ عَلَى الخَلْقِ، وأنَّ العِبادَ هم الَّذينَ أَطَاعُوه بدونِ أن يَجْعَلَهم مُطِيعِينَ له، وأنَّهُم يَسْتَحِقُّونَ الجزاءَ بدونِ أن يَكونَ هو المُوجِبَ، وغَلِطُوا في ذَلِكَ، وهذا البابُ غَلِطَت فيهِ القَدَرِيَّةُ والجَبْرِيَّةُ أَتْباعُ جَهْمٍ والقَدَرِيَّةُ النَّافِيةُ.
قولُهُ: (فَقُلْتُ: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ) ؛ فيه حُسْنُ أَدَبِ المُتَعَلِّمِ، وأنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أنْ يَقُولَ ذلكَ بخِلافِ أكثرِ المُتَكَلِّفِينَ.
قولُهُ: " أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا " أي: يُوَحِّدُوهُ بالعِبادةِ وَحْدَهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئًا.
وفائدةُ هذه الجملةِ: بَيانُ أنَّ التَّجرُّدَ مِن الشِّركِ لابدَّ منه في العِبادةِ، وإلاَّ فلا يكونُ العبدُ آتِيًا بعبادةِ اللهِ بل مُشْرِكٌ، وهذا هو معنى قولِ المُصَنِّفِ: (إنَّ العبادةَ هي التَّوحيدُ، لأنَّ الخُصومةَ فيهِ)، وفيهِ معرفةُ حقِّ اللهِ عَلَى العبادِ، وهو عبادتُهُ وحدَهُ لا شريكَ له.
فيا مَنْ حَقُّ سيِّدِهِ الإقبالُ عليهِ، والتَّوجُّهُ بقلبهِ إليهِ، لقد صَانَكَ وشَرَّفَكَ عن إِذْلالِ قلبِكَ ووجهِكَ لغيرِهِ، فما هذه الإِسَاءةُ القَبِيحةُ في مُعاملتِهِ مع هذا التَّشْرِيفِ والصِّيانَةِ! فهو يُعَظِّمُكَ ويَدْعُوكَ إلى الإقبالِ وأنتَ تَأْبَى إلاَّ مُبارَزَتَهُ بقَبائحِ الأفعالِ ، في بعضِ الآثارِ الإلهيَّةِ: " إِنِّي والجِنَّ والإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ، أَخْلُقُ ويُعْبَدُ غَيْرِي، وأَرْزُقُ ويُشْكَرُ سِوَاي، خَيْرِي إِلَى الْعِبادِ نَازِلٌ، وشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إليهم بالنِّعَمِ، ويَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بالمَعاصِي " ، وكيفَ يَعْبُدُهُ حقَّ عِبادتِهِ مَن صَرَفَ سؤالَه، ودُعاءهُ، وتَذَلُّلَه، واضْطِرارَهُ، وخَوْفَهُ ورَجاءهُ، وتَوَكُّلَه، وإِنابتَهُ، وذَبْحَهُ، ونَذْرَهُ؛ لمَنْ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا، ولا موتًا ولا حَياةً ولا نُشورًا، مِن مَيِّتٍ رَمِيمٍ في التُّرابِ، أو بِناءٍ مَشِيدٍ مِن القِبابِ، فَضْلاً مِمَّا هو شرٌّ مِن ذلك.
قولُهُ: " وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " قَالَ الخَلْخَالِيُّ: تَقْديرُهُ: أنْ لا يُعَذِّبَ مَن يَعْبُدُهُ ولا يُشْرِكُ بهِ شَيْئًا .
والعبادةُ: هي الإِتْيانُ بالأوامرِ، والانْتِهاءُ عن المَنَاهِي؛ لأنَّ مجرَّدَ عَدَمِ الإِشْراكِ لا يَقْتَضِي نَفْيَ العَذَابِ، وقد عُلِمَ ذلك مِن القُرْآنِ والأَحادِيثِ الوَارِدةِ في تَهْدِيدِ الظَّالِمِينَ والعُصاةِ.
وقالَ الحافِظُ: اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الإشراكِ، لأنَّهُ يَسْتَدْعِي التَّوحيدَ بالاقْتِضاءِ، ويَسْتَدْعِي إثباتَ الرِّسالةِ باللُّزُومِ؛ إذ مَن كَذَّبَ رَسولَ اللهِ، فقد كَذَّبَ اللهَ، ومَن كذَّبَ اللهَ، فهو مُشْرِكٌ، وهو مِثْلُ قولِ القائلِ: مَن تَوَضَّأَ صَحَّت صَلاتُهُ، أي: مع سائرِ الشُّروطِ، فالمرادُ مَنْ ماتَ حالَ كونِهِ مُؤْمِنًا بجميعِ ما يَجِبُ الإيمانُ بهِ.
قُلْتُ: وسيَأْتِي تقريرُ هذا في البابِ الَّذي بعدَهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
قولُهُ: ( أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ ) ؛ فيه اسْتِحْبابُ بِشارةِ المسلمِ بمَا يَسُرُّهُ ، وفيه: ما كانَ عليه الصَّحابةُ مِن الاسْتِبْشارِ، بمثلِ هذا، نَبَّهَ عليه المُصَنِّفُ.
قولُهُ: قالَ: " لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " ، وفي رِوايةٍ: " إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا " ، أي: يَعْتَمِدُوا عَلَى ذلِكَ، فيَتْرُكُوا التَّنافُسَ في الأعمالِ الصَّالحةِ.
وفي رِوايةٍ: (فَأَخْبَرَ بهِا مُعاذٌ عندَ موتِهِ تَأَثُّمًا) ، أي: تَحَرُّجًا مِن الإِثْمِ.
قالَ الوَزِيرُ أَبُو المُظَفَّرِ: لم يَكُنْ يَكْتُمُهَا إلاَّ عن جاهِلٍ يَحْمِلُه جَهْلُه عَلَى سُوءِ الأَدَبِ بتَرْكِ الخِدْمةِ في الطَّاعةِ، فأمَّا الأَكْياسُ الَّذينَ إذا سَمِعُوا بمثلِ هذا ازْدادُوا في الطَّاعةِ، ورَأَوْا أَنَّ زِيادةَ النِّعَمِ تَسْتَدْعِي زِيادةَ الطَّاعةِ فلا وَجْهَ لِكِتْمانِها عَنْهُم.
وقالَ الحافظُ: دَلَّ هذا عَلَى أنَّ النَّهْيَ للتَّبْشِيرِ ليسَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وإلاَّ لَمَا أَخْبَرَ بهِ أَصْلاً، أو أنَّهُ ظَهَرَ له أنَّ المَنْعَ إنَّما هو مِن الإِخْبارِ عُمومًا، فَبَادَرَ قبلَ مَوْتهِ فأَخْبَرَ بهِا خَاصًّا مِن النَّاسِ.
وفي البابِ مِن الفوائدِ غيرُ ما تَقَدَّمَ:
- التَّنبِيهُ عَلَى عَظَمةِ حقِّ الوالدينِ، وتَحْرِيمِ عُقوقِهِمَا.
- والحَثُّ عَلَى إخلاصِ العبادةِ للهِ تَعالى، وأنَّهَا لا تَنْفَعُ معَ الشِّركِ، بل لا تُسَمَّى عِبادةً شَرْعًا.
- والتَّنبيهُ عَلَى عَظمةِ الآياتِ المُحْكَمَاتِ في سُورةِ الأنعامِ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
- وجَوازُ كِتْمانِ العِلْمِ لِلمَصْلَحةِ، ولا سِيَّمَا أحاديثُ الرَّجاءِ الَّتي إذا سَمِعَها الجُهَّالُ ازْدادُوا مِن الآثامِ.
كمَا قالَ بعضُهُم:

فَأَكْثِرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِن الخَطَايَا=إِذَا كَانَ الْقُدُومُ عَلَى كَرِيـمِ
- وتَخْصِيصُ بعضِ النَّاسِ بالعلمِ دونَ بعضٍ.
- وفضيلةُ مُعاذٍ، ومَنْزِلَتُهُ مِن العلمِ، لكونِهِ خُصَّ بما ذُكِرَ.
- واسْتِئْذَانُ المُتَعَلِّمِ في إِشَاعةِ ما خُصَّ بهِ مِن العلمِ.
- والخوفُ مِن الاتِّكالِ عَلَى سَعَةِ رَحْمةِ اللهِ.
- وأنَّ الصَّحابةَ لا يَعْرِفُونَ مثلَ هذا إلاَّ بتعليمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
قولُهُ: ( أَخْرَجَاهُ في الصَّحيحين ) ؛ أي: أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيهِما ، وإنَّما أَضْمَرَهُمَا لِلعلمِ بهِما.
والبُخارِيُّ: هو الإمامُ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ إِبْرَاهِيمَ الجُعْفِيُّ مَوْلاهُم، الحافِظُ الكَبِيرُ صاحبُ الصَّحيحِ والتَّاريخِ والأَدَبِ المُفْرَدِ وغيرِ ذلك من مصنَّفاتِهِ ، رَوَى عن الإمامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ والحُمَيْدِيِّ وابنِ المَدِينِيِّ وطَبَقَتِهِم ، ورَوَى عنه مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ والفَرَبْرِيُّ رَاوِي الصَّحِيحِ وغيرُهُم ، وُلِدَ سنةَ أربعٍ وتسعينَ ومائةٍ، وماتَ سنةَ ستٍّ وخمسينَ ومائتينِ.
ومُسْلِمٌ: هو ابنُ الحَجَّاجِ بنِ مُسْلِمٍ أَبُو الحُسَيْنِ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ صاحِبُ الصحيحِ والعِلَلِ والوُحْدَانِ وغيرِ ذلكَ ، رَوَى عن أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، ويَحْيَى بنِ مَعِينٍ وأَبِي خَيْثَمَةَ، وابنِ أبي شَيْبَةَ، وطَبَقَتِهِم ، رَوَى عنه التِّرْمِذِيُّ، وإبراهيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُفْيانَ رَاوِي الصَّحيحِ وغيرُهُما ، وُلِدَ سنةَ أربعٍ ومِائَتَيْنِ، وماتَ سنةَ إحدى وسِتِّينَ ومِائَتَينِ بنَيْسَابُورَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

هيئة الإشراف

#3

24 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ


قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): (بسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبِهِ نَسْتَعِينُ، وعَلَيْهِ التُّكلانُ.
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ، والعاقبةُ للمتَّقينَ، ولا عُدوانَ إلاَّ على الظَّالِمينَ، كالمُبْتدِعَةِ والمُشْرِكينَ ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، إِلَهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وقَيُّومُ السَّماواتِ والأرَضِينَ ، وأَشْهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورَسولُهُ، وخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ أَجمعينَ.
اللهُمَّ صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وعلى آلِ محمَّدٍ، وأصحابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسَلِّمْ تَسْلِيمًا.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ كتابَ التَّوحيدِ الذي ألَّفَهُ الإمامُ شيخُ الإسلامِ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ، أجزَلَ اللهُ لهُ الأجْرَ والثوابَ، وغفرَ لهُ ومَنْ أجابَ دعوتَهُ يومَ يقومُ الحسابُ، قَدْ جَاءَ بَدِيعًا في معناهُ مِنْ بيانِ التَّوحيدِ ببراهينِهِ، وجَمْعِ جُمَلٍ مِنْ أدلَّتِهِ لإيضاحِهِ وتبيينِهِ، فصارَ عَلَمًا للمُوحِّدِينَ، وحُجَّةً عَلَى المُلْحِدينَ، فانْتَفَعَ بِهِ الخلْقُ الكثيرُ، والجمُّ الغفيرُ.
فإنَّ هذا الإمامَ رَحِمَهُ اللهُ في مبتدأِ نَشْأَتِهِ، قدْ شَرحَ اللهُ صَدْرَهُ للحقِّ المُبينِ، الذي بَعثَ بهِ المُرْسَلِينَ؛ مِنْ إِخْلاَصِ العِبَادَةِ بِجَمِيعِ أَنْواعِهَا للهِ رَبِّ العالَمِينَ، وإِنكارِ ما عَلَيْهِ الكثيرُ مِنْ شِرْكِ المُشْرِكِينَ.
فَأَعْلَى اللهُ هِمَّتَهُ،وقَوَّى عَزِيمَتَهُ، فتَصَدَّى لِدَعْوَةِ أهلِ نَجْدٍ إلى التَّوحيدِ الذي هوَ أساسُ الإسلامِ والإيمانِ، ونَهَاهُمْ عَن عِبادةِ الأَشْجَارِ، والأحْجَارِ، والقُبُورِ، والطَّوَاغِيتِ، والأَوْثانِ، وعَن الإيمانِ بالسَّحَرَةِ، والمُنَجِّمِينَ، والكُهَّانِ.
فأَبْطَلَ اللهُ بدَعْوتِهِ كلَّ بِدْعَةٍ وضَلاَلةٍ يَدْعُو إليها كلُّ شيطانٍ، وأَقَامَ اللهُ بِهِ عَلَمَ الجهادِ، وأدْحَضَ بِهِ شُبَهَ المُعارِضِينَ مِنْ أهلِ الشِّرْكِ والعِنادِ، ودانَ بالإسلامِ أكثرُ أهلِ تلكَ البلادِ، الحاضرُ مِنْهُمْ والبادِ، وانْتَشَرَتْ دَعْوتُهُ ومُؤَلَّفاتُهُ في الآفاقِ، حَتَّى أَقَرَّ لهُ بالفَضْلِ مَنْ كانَ مِنْ أهلِ الشِّقاقِ، إلاَّ مَن اسْتَحْوذَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ وَكَرَّهَ إليهِ الإيمانَ، فأَصَرَّ على العِنادِ والطُّغْيانِ.
وقَدْ أَصْبحَ أكثرُ أهلِ جَزِيرةِ العَرَبِ بدَعْوتِهِ كَمَا قَالَ قَتادَةُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَن حالِ أوَّلِ هذهِ الأمَّةِ: إنَّ المُسْلِمِينَ لَمَّا قَالُوا: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، أَنْكَرَ ذلكَ المُشْرِكُونَ وكَبُرَتْ عَلَيْهمْ، وضَاقَ بِهَا إِبْلِيسُ وجُنودُهُ، فَأَبَى اللهُ إلاَّ أنْ يُمْضِيَها ويُظهرَها، ويَنْصُرَها عَلَى مَنْ نَاوَأَها، إنَّها كَلِمةٌ، مَنْ خَاصَمَ بِهَا فَلَجَ، ومَنْ قَاتَلَ بِهَا نُصِرَ.
إنَّما يَعْرِفُها أهلُ هذهِ الجزيرةِ التي يَقْطَعُها الرَّاكِبُ في ليالٍ قَلاَئلَ، ويَسِيرُ الرَّاكِبُ في فِئَامٍ مِن الناسِ، لاَ يَعْرِفونَها ولا يُقِرُّونَ بها.
وقدْ شَرَحَ اللهُ صُدُورَ كثيرٍ مِن العلماءِ لدعوَتِهِ، وسُرُّوا واسْتَبْشَروا بِطَلْعَتِهِ، وأَثْنَوْا عَلَيْهِ نَثْرًا ونَظْمًا ؛ فمِنْ ذلكَ، مَا قَالَهُ عَالِمُ صَنْعاءَ مُحمَّدُ بْنُ إِسْماعِيلَ الأَمِيرُ في هذا الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى شعرًا:
وقدْ جَاءَت الأَخْبارُ عَنْـهُ بِأَنَّهُ=يُعِيدُ لنَا الشَّرْعَ الشَّرِيفَ بِمَا يُبدِي
ويَنْشُرُ جَهْرًا مَا طَوَى كلُّ جَاهِـلٍ=ومُبْتَدِعٍ مِنْهُ فَوافَـقَ مَا عِنْدِي
ويَعْمُرُ أَرْكانَ الشَّرِيعَةِ هَادِمًا=مَشَاهِدَ ضَلَّ الناسُ فيها عَن الرُّشْدِ
أَعَادُوا بِهَا مَعْنَى سُوَاعٍ وَمِثْلُهُ=يَغُوثُ وَوَدٌّ بِئْسَ ذَلِـكَ مِـنْ وِدِّ
وقَدْ هَتَفُوا عِنْدَ الشَّدَائدِ بِاسْمِهـا=كما يَهْتِفُ المُضْطَرُّ بالصَّمدِ الفَرْدِ
وكَمْ عَقَرُوا في سُوحِها مِنْ عَقيرةٍ=أُهِلَّتْ لِغَيْرِ اللهِ جَهْرًا عَلَى عَمْدِ
وكمْ طَائِفٍ حَوْلَ القُبُـورِ مُقَبِّـلٍ=ومُسْتَلِمِ الأركانِ مِنهُنَّ بِالْأيدي

وقالَ شَيْخُنا أبو بكرٍ حُسَيْنُ بنُ غنَّامٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فيهِ:
لَقَدْ رَفَعَ المَوْلَى بِهِ رُتْبَـةَ الهُـدَى=بِوَقْتٍ بِهِ يُعْلَى الضَّلاَلُ وَيُرْفَعُ
سَقَاهُ نَمِيرَ الفَهْمِ مَوْلاَهُ فارْتَوَى=وعَامَ بِتَيَّارِ المَعَارِفِ يَقْطَعُ
فَأَحْيا بِهِ التَّوْحِيدَ بَعْدَ انْدِراسِهِ=وأَوْهَى بِهِ مِنْ مَطْلَعِ الشِّرْكِ مَهْيَعُ
سَمَا ذِرْوةَ المَجْدِ التي ما ارْتَقَى لَهَا=سِوَاهُ ولاَ حاذَى فَنَاهَا سُمَيْدَعُ
وشَمَّرَ في مِنْهَاجِ سُنَّةِ أَحْمَدِ=يُشِيدُ ويُحْيِي مَا تَعَفَّى ويَرْفَعُ
يُنَاظِرُ بِالآياتِ والسُّنَّةِ التي=أُمِرْنا إليْهَا في التَّنازُعِ نَرْجِعُ
فَأَضْحَتْ بِهِ السَّمْحَاءُ يَبْسُمُ ثَغْرُها=وأَمْسَى مُحَيَّاهَا يُضِيءُ ويَلْمَعُ
وعَادَ بِهِ نَهْجُ الغُوَايَةِ طَامِسًا=وَقَدْ كَانَ مَسْلُوكًا بِهِ النَّاسُ تَرْبَعُ
وجَرَّتْ بِهِ نَجْدٌ ذُيُولَ افْتِخَارِها=وحُقَّ لَهَا بِالأَلْمَعِيِّ تَرَفُّع
فآثارُهُ فيها سَوَامٍ سَوافِرٌ=وأَنْوارُهُ فيها تُضِيءُ وتَلْمَعُ

وأمَّا كِتابُهُ المَذْكُورُ، فمَوْضُوعُهُ في بَيانِ ما بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ توحيدِ العبادةِ، وبيانِهِ بالأدِلَّةِ مِن الكِتَابِ والسُّنةِ، وذِكْرِ ما يُنافِيهِ مِن الشرْكِ الأكْبرِ، أوْ يُنافي كَمَالَهُ الواجبَ مِن الشرْكِ الأصْغَرِ ونحوِهِ، ومَا يُقَرِّبُ مِنْ ذلكَ أوْ يُوصِلُ إليهِ.
وقدْ تَصَدَّى لشَرْحِهِ حَفِيدُ المُصَنِّفِ، وهوَ الشيخُ سُلَيْمَانُ بنُ عبدِ اللهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ، فوَضَعَ عَلَيْهِ شَرْحًا أَجَادَ فيهِ وأَفَادَ، وأَبْرَزَ فيهِ مِن البيانِ ما يُحِبُّ أنْ يُطْلَبَ منهُ ويُرَادَ، وسَمَّاهُ " تَيْسيرَ العَزِيزِ الحَمِيدِ في شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحيدِ " ، وحيثُ أُطْلِقَ: شيخُ الإسلامِ، فالمرادُ بهِ: أبو العبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الحليمِ بنِ عبدِ السَّلاَمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، والحافظُ، فالمرادُ بِهِ: أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ.
ولمَّا قَرَأْتُ شَرْحَهُ رَأَيْتُهُ أَطْنَبَ في مواضعَ، وفي بعضِها تَكْرَارٌ يُسْتَغْنى بالبعضِ مِنهُ عَن الكُلِّ، ولَمْ يُكْمِلْهُ ، فأَخَذْتُ في تَهْذِيبِهِ وتَقْريبِهِ وتَكْمِيلِهِ، ورُبَّما أَدْخَلْتُ فيهِ بَعْضَ النُّقُولِ المُسْتَحْسَنَةِ تَتْمِيمًا للفائدةِ، وسَمَّيتُهُ " فَتْحَ المَجِيدِ لِشَرْحِ كِتَابِ التَّوْحيدِ " ، واللهَ أَسْأَلُ أنْ يَنْفَعَ بِهِ كلَّ طالبٍ للعلمِ ومُسْتَفِيدٍ، وأنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لوَجْهِهِ الكرِيمِ، ومُوصِلاً مَنْ سَعَى فيهِ إلى جنَّاتِ النَّعِيمِ، ولاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

***

(1) ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بالبَسْمَلَةِ؛ اقتداءً بالكتابِ العزيزِ، وعَمَلاً بِحَديثِ " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ " أَخْرَجَه ابنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقَيْنِ ، قَالَ ابنُ الصَّلاَحِ: والحَدِيثُ حَسَنٌ ، ولأَِبِي دَاودَ وابنِ مَاجَه " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فيهِ بِالْحَمْدُ للهِ، أَوْ بِالْحَمْدِ، فَهُوَ أَقْطَعُ " ، ولأَِحْمَدَ " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُفْتَتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، أَوْ أَقْطَعُ " ، وللدَّارَقُطْنِيِّ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَقْطَعُ ".
والمُصَنِّفُ قَد اقْتَصَرَ في بَعْضِ نُسَخِهِ عَلَى البَسْمَلَةِ؛لأنَّها مِنْ أبلغِ الثَّناءِ والذِّكْرِ وللحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ، وكانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَصِرُ عليها في مُرَاسَلاَتِهِ، كما في كتابِهِ لِهِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ.
ووقَعَ لي نُسْخَةٌ بِخَطِّهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بَدَأَ فيها بالبَسْمَلَةِ، وثنَّى بالحَمْدِ والصَّلاةِ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآلِه، وعَلَى هذا فالابْتِداءُ بالبَسْمَلةِ حقيقيٌّ، وبالحَمْدَلَةِ نِسْبِيٌّ إِضَافِيٌّ، أيْ: بالنسبةِ إلى ما بعدَ الحمدِ يكونُ مَبْدُوءًا بهِ.
والباءُ في (بِسْمِ اللهِ) مُتَعَلِّقةٌ بمحذوفٍ، اختارَ كثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ كونَهُ فِعْلاً خاصًّا مُتَأَخِّرًا ؛ أمَّا كونُهُ فِعلاً: فلأنَّ الأصْلَ في العملِ للأفعالِ ، وأمَّا كونُهُ خاصًّا: فلأنَّ كلَّ مُبْتَدِئٍ بالبسملةِ في أَمْرٍ يُضْمِرُ ما جَعَلَ البسمَلَةَ مَبْدَأً لَهُ ، وأمَّا كونُهُ مُتَأَخِّرًا: فلِدَلاَلَتِهِ عَلَى الاخْتِصاصِ، وأَدْخَلَ في التعظيمِ، وأوْفَقَ للوُجُودِ؛ ولأنَّ أهمَّ ما يُبْدَأُ بهِ ذِكْرُ اللهِ تعالى.
وذَكَرَ العَلاَّمَةُ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى لَحَذْفِ العَامِلِ فوائدَ ؛ منها أَنَّهُ مَوْطِنٌ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَتَقَدَّمَ فيهِ غَيْرُ ذِكْرِ اللهِ ، ومنها أنَّ الفعلَ إذا حُذِفَ صحَّ الابتداءُ بالبسملةِ في كلِّ عملٍ وقولٍ وحَرَكةٍ، فكانَ الحذفُ أعمَّ. انتهى مُلَخَّصًا.
وباءُ (بِسْمِ اللهِ) للمُصاحَبَةِ ، وقِيلَ: للاستعانةِ ، فيكونُ التقديرُ: بِسْمِ اللهِ أُؤَلِّفُ حالَ كَوْنِي مُسْتَعِينًا بِذِكْرِهِ، مُتَبَرِّكًا بِهِ.
وأمَّا ظهورُهُ في { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ }[العلق:1]، وفي { بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا }[هود:41]؛ فلأنَّ المَقَامَ يَقْتَضِي ذلكَ كَمَا لا يَخْفَى.
والاسمُ مُشْتَقٌّ مِن السُّمُوِّ وهو العُلُوُّ ، وقيلَ: مِن الوَسْمِ، وهوَ العَلاَمَةُ؛ لأنَّ كلَّ ما سُمِّيَ فقد نُوِّهَ باسْمِهِ ووُسِمَ.
قولُهُ: (اللهِ) قالَ الكِسائِيُّ والفَرَّاءُ: أصْلُهُ الإلَهُ، حَذَفُوا الهمزةَ وأدْغَموا اللامَ في اللاَّمِ، فصارَتَا لاَمًا واحدةً مُشدَّدةً مُفَخَّمةً.
قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ، وأنَّ أصلَهُ (الإلهُ)، كَمَا هوَ قولُ سِيبَوَيْهِ وجُمْهورِ أصحابِهِ إلاَّ مَنْ شَذَّ، وهو الجامعُ لِمَعانِي الأسماءِ الحُسْنَى والصفاتِ العُلَى ، والذينَ قالُوا بالاشتقاقِ إنَّما أرادُوا أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى صفةٍ لهُ تَعَالَى، وهيَ الإلَهِيَّةُ، كسائرِ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى، كالعَلِيمِ والَقدِيرِ والسَّميعِ والبصيرِ، ونحوِ ذلكَ، فإنَّ هذهِ الأسماءَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مصادرِها بلا رَيْبٍ، وهيَ قديمةٌ ، ونحنُ لا نَعْنِي بالاشتقاقِ إلاَّ أنَّها مُلاَقِيَةٌ لمَصَادِرِهَا في اللَّفْظِ والمَعْنَى، لا أنَّها مُتَولِّدَةٌ مِنْهُ تَوَلُّدَ الفرْعِ مِنْ أَصْلِهِ ، وتَسْمِيَةُ النُّحاةِ للمَصْدرِ والمشتقِّ منهُ: أصلاً وفَرْعًا، لَيْسَ معناهُ أنَّ أحدَهُما مُتَوَلِّدٌ مِن الآخَرِ، وإنَّما هوَ باعتبارِ أنَّ أحدَهُما يَتَضَمَّنُ الآخَرَ وزيادةً.
قالَ أبو جعفرٍ بنُ جَرِيرٍ: (اللهُ) أَصْلُهُ (الإلهُ) أُسْقِطَت الهَمْزةُ التي هيَ فاءُ الاسمِ، فالْتَقَت اللامُ التي هيَ عينُ الاسمِ واللامُ الزائدةُ، وهيَ ساكنةٌ، فأُدْغِمَتْ في الأُخْرَى، فصارتا في اللفظِ لامًا واحدةً مُشدَّدةً. انتهى.
وقال: وأمَّا تأويلُ (اللهِ) فإنَّهُ عَلَى مَعْنَى ما رُوِيَ لنا عنْ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ قالَ: هُوَ الذي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيءٍ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ ، وساقَ بسنَدِهِ عن الضَّحَّاكِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ قالَ: اللهُ ذُو الأُلُوهِيَّةِ والعُبُوديَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ.
فإنْ قالَ لنا قائلٌ: وما دلَّ على أنَّ الأُلوهيَّةَ هيَ العبادةُ، وأنَّ الإلهَ هوَ المعبودُ، وأنَّ لهُ أصْلاً في (فَعَلَ ويَفْعَلُ)؟
قيل: لا تمانُعَ بينَ العربِ في الحكمِ، وذَكَرَ بيتَ رُؤْبَةَ بنِ العَجَّاجِ:
للهِ دَرُّ الغانِيـاتِ الْمُـدَّهِ=سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي

يَعْنِي: مِنْ تَعَبُّدِي وطَلَبِي اللهَ بعَمَلِي.
ولاَ شَكَّ أنَّ التألُّهَ التَّفَعُّلُ، مِنْ أَلَهَ يَأْلَهُ، وقدْ جاءَ منهُ مصدرٌ يدُلُّ عَلَى أنَّ العَرَبَ قَدْ نَطَقَتْ منه بِفَعَلَ يَفْعَلُ بغَيْرِ زيادةٍ؛ وذلكَ ما حدَّثَنَا بهِ سُفْيانُ بنُ وَكِيعٍ، وسَاقَ السَّنَدَ إلى ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ قَرَأَ: { وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ }[الأعراف:127] قالَ: عبادَتَكَ، ويقولُ: إِنَّهُ كانَ يُعْبَدُ وَلا يَعْبُدُ ، وسَاقَ بسَنَدٍ آخَرَ عَن ابنِ عبَّاسٍ: { وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ } قالَ: إِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلا يَعْبُدُ ، وذَكَرَ مِثْلَهُ عنْ مُجاهِدٍ، ثُمَّ قَالَ: فقدْ بَيَّنَ قولُ ابنِ عبَّاسٍ ومُجاهِدٍ هذا، أنَّ (أَلَهَ): عَبَد، وأنَّ الإِلاهَةَ مَصْدَرُهُ ، وسَاقَ حَدِيثًا عَن أَبِي سَعِيدٍ مَرْفوعًا: " أَنَّ عِيسَى أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ: اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ، فَقَالَ عِيسَى: أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ اللهُ إِلَهُ الآلِهَةِ " .
قالَ العلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: لهذا الاسمِ الشريفِ عَشْرُ خَصَائِصَ لفظيَّةٍ، ثُمَّ قالَ: وأمَّا خَصَائِصُهُ المَعْنَوِيَّةُ فَقَدْ قالَ أَعْلَمُ الخَلْقِ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " ، وكَيْفَ تُحْصَى خَصَائِصُ اسْمٍ لِمُسَمَّاهُ كُلُّ كمالٍ عَلَى الإطلاقِ، وكلُّ مَدْحٍ وَحَمْدٍ، وكلُّ ثَنَاءٍ ، وكلُّ مَجْدٍ، وكلُّ إجْلالٍ وكلُّ كمالٍ، وكلُّ عِزٍّ وَكلُّ جَمَالٍ، وكلُّ خَيْرٍ وإحسانٍ وَجُودٍ وَفَضْلٍ وَبِرٍّ، فَلَهُ وَمِنْهُ ؟
فما ذُكِرَ هذا الاسمُ في قليلٍ إلاَّ كثَّرَهُ، ولا عِنْدَ خَوْفٍ إلاَّ أَزَالَهُ، ولا عندَ كرْبٍ إلاَّ كَشَفَهُ، ولا عندَ هَمٍّ وغمٍّ إلاَّ فرَّجَهُ، ولا عندَ ضيقٍ إلاَّ وسَّعَهُ، ولا تَعَلَّقَ بهِ ضعيفٌ إلاَّ أفَادَهُ القُوَّةَ، ولا ذَلِيلٌ إلاَّ أَنَالَهُ العِزَّ، ولا فقيرٌ إلاَّ أَصَارَهُ غنيًّا، ولاَ مُسْتَوْحِشٌ إلاَّ آنَسَهُ، ولا مَغْلوبٌ إلاَّ أيَّدَهُ ونصَرَهُ، ولا مُضْطَرٌّ إلاَّ كَشَفَ ضُرَّهُ، ولا شريدٌ إلاَّ آوَاهُ ، فهوَ الاسمُ الذي تُكْشَفُ بهِ الكُرُباتُ، وتُسْتَنـْزَلُ بهِ البَرَكاتُ، وتُجابُ بهِ الدَّعواتُ، وتُقالُ بهِ العَثَراتُ، وتُسْتَدْفَعُ بهِ السَّيِّئاتُ، وَتُسْتَجْلَبُ بِهِ الحَسَناتُ.
وهوَ الاسمُ الذي قَامَتْ بهِ السماواتُ والأرضُ، وبهِ أُنْزِلَت الكُتُبُ، وبِهِ أُرْسِلَت الرُّسُلُ، وبهِ شُرِعَت الشَّرَائعُ، وبهِ قامَت الحدودُ، وبهِ شُرِعَ الجهادُ، وبِهِ انْقَسَمَت الخَلِيقَةُ إلى السُّعَدَاءِ والأشقياءِ، وبهِ حَقَّت الحاقَّةُ، ووَقَعَت الواقِعَةُ، وبهِ وُضِعت الموازينُ القِسْطُ ونُصِبَ الصراطُ، وقامَ سُوقُ الجنَّةِ والنَّارِ، وبهِ عُبِدَ ربُّ العالَمِينَ وحُمِدَ، وبِحَقِّهِ بُعِثَت الرُّسلُ، وعنهُ السؤالُ في القبرِ ويومَ البعثِ والنُّشورِ، وبهِ الخصامُ وإليهِ المُحَاكَمَةُ، وفيهِ المُوَالاةُ والمُعَادَاةُ، وبهِ سَعِدَ مَنْ عَرَفَهُ وقَامَ بحقِّهِ، وبهِ شَقِيَ مَنْ جَهِلَهُ وتَرَكَ حَقَّهُ، فهو سِرُّ الخَلْقِ والأَمْرِ، وبهِ قَامَا وثَبَتَا، وإليهِ انْتَهَيَا، فالخَلْقُ بهِ وإليهِ ولأَجْلِهِ، فما وُجِدَ خَلْقٌ وَلاَ أَمْرٌ وَلاَ ثَوَابٌ وَلاَ عِقَابٌ إِلاَّ مُبْتَدِيًا مِنْهُ مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ، وذلكَ مُوجَبُهُ ومُقْتَضاهُ { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }[آل عمرانَ:91]. إلى آخِرِ كَلاَمِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى.
قولُهُ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: حدَّثنِي السَّرِيُّ بنُ يَحْيَى، حَدَّثنا عُثْمانُ بنُ زُفَرَ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَرْزَمِيَّ يقولُ: الرَّحْمَنِ بِجَمِيعِ الخَلْقِ، والرَّحِيمِ بالمُؤْمِنينَ. وسَاقَ بِسَنَدِهِ عنْ أَبِي سَعِيدٍ، يَعْنِي: الخُدْرِيَّ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ: الرَّحْمَنُ: رَحْمَنُ الآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَالرَّحِيمُ: رَحِيمُ الآخِرَةِ " .
قالَ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: واسْمُهُ (اللهُ تعالى) داَلٌّ عَلَى كَونِهِ مَأْلُوهًا معبودًا، يأْلَهُهُ الخَلاَئقُ مَحَبَّةً وتَعْظيمًا وخُضُوعًا، وَمَفْزَعًا إليهِ في الحَوائِجِ والنوائِبِ، وذلكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ رُبوبيَّتِهِ ورَحْمتِهِ المُتَضَمِّنَتَيْنِ لكمالِ المُلْكِ والحَمْدِ، وإِلَهِيَّتُهُ ورُبوبيَّتُهُ ورَحْمانيَّتُهُ ومُلْكُهُ مُسْتَلْزِمٌ لجميعِ صفاتِ كمالِهِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ ثبوتُ ذلكَ لِمَنْ لَيْسَ بِحَيٍّ، ولاَ سَمِيعٍ، ولاَ بصيرٍ، ولا قادرٍ، ولا مُتَكَلِّمٍ، ولا فعَّالٍ لِمَا يُرِيدُ، ولا حكيمٍ في أقوالِهِ وأفعالِهِ ، فصفاتُ الجلالِ والجمالِ أخصُّ باسمِ (اللهِ)، وصِفَاتُ الفِعْلِ والقُدْرةِ والتفرُّدِ بالضُّرِّ والنَّفْعِ والعطاءِ والمَنْعِ ونفوذِ المشيئةِ وكمالِ القوَّةِ وتدبيرِ أَمْرِ الخَلِيقَةِ أَخَصُّ باسمِ (الرَّبِّ)، وصِفاتُ الإحسانِ والجُودِ والبرِّ والحَنانِ والرَأْفَةِ واللُّطْفِ أَخَصُّ باسمِ (الرَّحْمَنِ).
وقالَ رَحِمَهُ اللهُ أيضًا: (الرحمنُ) دالٌّ عَلَى الصِّفَةِ القائمةِ بهِ سُبْحانَهُ، (والرَّحِيمُ) دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِها بالمرحومِ ، و إذا أَرَدْتَ فَهْمَ هذا فَتَأَمَّلْ قولَهُ تَعَالَى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا }[الأحزاب: 43]، { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة:117] ولَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِم.
وقالَ: إنَّ أسماءَ الربِّ تَعَالَى هيَ أسماءٌ ونُعُوتٌ، فإنَّها دالَّةٌ على صفاتِ كَمَالِهِ، فَلاَ تَنَافِيَ فيها بينَ العَلَمِيَّةِ والوَصْفِيَّةِ، فالرَّحْمَنُ اسْمُهُ تَعَالَى وَوَصْفُهُ، فَمِنْ حيْثُ هوَ صِفَةٌ جَرَى تَابِعًا لاسْمِ اللهِ، ومِنْ حيثُ هوَ اسمٌ وَرَدَ في القُرآنِ غَيرَ تابعٍ، بلْ وَرَدَ الاسمُ العلمُ، كقولِهِ تَعَالَى: { الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }[طه:5]. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
(2) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ: (الحَمْدُ للهِ) ومَعْناهُ: الثناءُ بالكَلاَمِ عَلَى الجَمِيلِ عَلَى وجْهِ التعْظِيمِ ، فَمَوْرِدُهُ:اللسانُ والقلبُ ، والشُّكْرُ يكونُ باللسانِ، والْجَنَانِ، والأرْكَانِ ، فهوَ أعمُّ مِن الحَمْدِ مُتعَلَّقًا، وأَخَصُّ سَبَبًا؛ لأَنَّهُ يَكُونُ في مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ، والحَمْدُ أعَمُّ سببًا وأَخَصُّ مَوْرِدًا؛ لأَنَّهُ يَكُونُ في مُقَابلَةِ النِّعْمَةِ وغَيْرِها، فبينَهُما عُمومٌ وخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، يَجْتَمِعانِ في مَادَّةٍ، ويَنْفَرِدُ كلُّ واحدٍ عن الآخَرِ في مَادَّةٍ.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِه وَسَلَّمَ)
أَصَحُّ مَا قِيلَ في مَعْنَى صلاةِ اللهِ عَلَى عبدِهِ ما ذَكَرَهُ البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عنْ أَبِي العَالِيَةِ قالَ: صلاةُ اللهِ ثناؤُهُ عَلَيهِ عِندَ الْمَلائكَةِ، وقَرَّرَهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى ونَصَرَهُ في كتابَيْهِ جَلاَءِ الأفْهَامِ وبَدَائعِ الفَوَائِدِ.
قُلْتُ: وقَدْ يُرَادُ بِها الدُّعاءُ، كما في المُسْندِ عنْ عليٍّ مَرْفوعًا: " الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ " .
قولُهُ: (وَعَلَى آلِهِ) أيْ: أتْباعِهِ عَلَى دِينِهِ ، نَصَّ عليهِ الإمامُ أحمدُ هنا، وعليهِ أكثرُ الأصحابِ ، وعلى هذا فيَشْمَلُ الصَّحابةَ وغيرَهُمْ مِن المُؤْمِنينَ.
(3) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (كِتابُ التَّوْحِيدِ) كتابُ: مَصْدَرُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابًا وكِتَابَةً وكَتْبًا، ومَدَارُ الْمَادَّةِ عَلَى الجَمْعِ ، ومنهُ:تَكَتَّبَ بَنُو فُلاَنٍ: إذا اجْتَمَعُوا ، والكَتِيبَةُ: لِجَمَاعَةِ الخَيْلِ، والكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ لاجْتِمَاعِ الكلماتِ والحروفِ ، وَسُمِّيَ الكتابُ كتابًا لِجَمْعِهِ ما وُضِعَ لَهُ.
التَّوْحِيدُ نوعانِ:
-تَوْحيدٌ في المعرفةِ والإثباتِ، وهوَ توحيدُ الرُّبُوبيَّةِ والأسماءِ والصفاتِ.
-وتوحيدٌ في الطَّلَبِ والقَصْدِ، وهوَ تَوْحيدُ الإلهيَّةِ والعبادةِ.
قالَ العلاَّمةُ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وأمَّا التَّوحيدُ الذي دَعَتْ إليهِ الرُّسُلُ ونَزَلَتْ بِهِ الكُتُبُ، فهوَ نَوْعانِ:
- تَوْحيدٌ في المَعْرِفَةِ والإثْباتِ.
- وتَوْحِيدٌ في الطَّلبِ والقَصْدِ.
فالأوَّلُ: هوَ إثباتُ حقيقةِ ذاتِ الرَّبِّ تعالى، وصِفَاتِهِ، وأفْعَالِهِ، وأَسْمَائِهِ، وتَكَلُّمِهِ بكُتُبِهِ، وتَكْلِيمِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبادِهِ، وإثباتُ عُمُومِ قضائِهِ وقَدَرِهِ وحُكْمِه.
وقَدْ أفْصَحَ القرآنُ عنْ هذا النوعِ جِدَّ الإفْصَاحِ، كَمَا في أوَّلِ سُورَةِ الحَدِيدِ، وسُورَةِ طه، وآخِرِ الحَشْرِ، وأوَّلِ "تَنْـزِيلُ" السَّجْدَةِ، وأوَّلِ آلِ عِمْرانَ، وسُورَةِ الإخلاصِ بكَمَالِهَا، وغيرِ ذلكَ.
النوعُ الثانِي: مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورةُ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وقولُهُ تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }[آل عمرانَ:64]، وأَوَّلُ سورةِ "تنـزيلُ الكتاب"ِ وآخِرُهَا، وأوَّلُ سورةِ يونسَ ووَسَطُها وآخِرُها، وأوَّلُ سورةِ الأعرافِ وآخِرُها، وجُمْلَةُ سورةِ الأنعامِ، وغَالِبُ سُوَرِ القرآنِ، بلْ كلُّ سورةٍ في القرآنِ فهيَ مُتَضَمِّنةٌ لنَوْعَيِ التَّوْحيدِ، شَاهِدةٌ بِهِ داعيةٌ إليهِ ؛ فإنَّ القرآنَ:
-إمَّا خَبَرٌ عن اللهِ تعالى وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وأقوالِهِ،
فهوَ التوحيدُ العِلْميُّ الخبريُّ.
-وإمَّا دَعْوةٌ إلى عِبادتِهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وخَلْعِ ما يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فهوَ التَّوحِيدُ الإرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ.
-وإمَّا أَمْرٌ ونَهْيٌ، وإلزامٌ بطاعتِهِ وأمرِهِ ونَهْيِهِ،فهوَ حقوقُ التوحيدِ ومُكَمِّلاتُهُ.
-وإمَّا خَبَرٌ عنْ إكرامِ أهلِ التوحيدِ ومَا فُعِلَ بِهِم في الدُّنيا ومَا يُكَرِّمُهم بهِ في الآخِرَةِ، فهو جَزَاءُ تَوْحيدِهِ.
-وإمَّا خَبَرٌ عنْ أهلِ الشرْكِ ومَا فُعِلَ بِهِم في الدُّنيا مِن النَّكالِ، ومَا يَحُلُّ بهم في العُقْبَى مِن العَذَابِ، فهوَ جَزَاءُ مَنْ خَرَجَ عَن حُكْمِ التوحيدِ.
فالقرآنُ كلُّهُ في التوحيدِ وحقوقِهِ وجزائِهِ، وفي شَأْنِ الشِّرْكِ وأهْلِهِ وجَزَائِهِم. انتهى.
قالَ شَيْخُ الإسلامِ: التوحيدُ الذي جاءَتْ بهِ الرُّسُلُ إنَّما يَتَضَمَّنُ إثباتَ الإلهيَّةِ للهِ وحدَهُ بأنْ يُشْهَدَ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، لا يُعْبَدُ إلاَّ إيَّاهُ، ولا يُتَوَكَّلُ إلاَّ عَلَيْهِ، ولاَ يُوَالَى إلاَّ لهُ، ولا يُعَادَى إلاَّ فيهِ، ولا يُعْمَلُ إلاَّ لأجلِهِ ؛ وذلكَ يَتَضَمَّنُ إثباتَ ما أثْبَتَهُ لنَفْسِهِ مِن الأسماءِ والصِّفَاتِ ؛ قالَ تَعَالَى: { وَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ }[البقرة:163] ، وقالَ تَعَالَى:{ وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ }[النحل:51] ، وقَالَ تَعَالَى:{ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }[المؤمنونَ:117] ، وقَالَ تَعَالَى:{ وَاسْأَلْ مَن أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }[الزخرف:45] ، وأَخْبَرَ عَن كلِّ نَبِيٍّ مِن الأنبياءِ أَنَّهُم دَعَوا النَّاسَ إلى عِبادَةِ اللهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وقالَ:{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ }[المُمْتَحِنَة: 4] ، وقالَ عَن المُشْرِكِينَ:{ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }[الصافَّات:35،36] وهذا في القرآنِ كَثِيرٌ.
ولَيْسَ المُرَادُ بالتوحيدِ مُجَرَّدَ توحيدِ الرُّبُوبيَّةِ،وهوَ اعتقادُ أنَّ اللهَ وحْدَهُ خَلَقَ العالَمَ، كَمَا يَظُنُّ ذلكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ أَهْلِ الكَلاَمِ والتَّصوُّفِ ، ويَظُنُّ هؤلاءِ أَنَّهُم إذا أَثْبَتُوا ذلكَ بالدَّليِلِ فقدْ أَثْبَتُوا غَايَةَ التوحيدِ، وأَنَّهُم إذا شَهِدُوا هذا وفَنُوا فيهِ، فَقَدْ فَنُوا في غَايَةِ التَّوْحيدِ؛ فإنَّ الرَّجُلَ لوْ أَقَرَّ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى مِن الصِّفاتِ، ونزَّهَهُ عَن كلِّ ما يَتَنَزَّهُ عنهُ، وأقرَّ بأَنَّهُ وحدَهُ خَالِقُ كلِّ شيءٍ، لم يكُنْ مُوَحِّدًا حتَّى يَشْهَدَ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ، فَيُقِرُّ بأنَّ اللهَ هوَ الإلَهُ المُسْتَحِقُّ للعِبادَةِ، ويَلْتَزِمُ بعِبَادَةِ اللهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ.
و(الإلهُ) هوَ المأْلُوهُ المَعْبودُ الذي يَسْتَحِقُّ العبادةَ، ولَيْسَ هوَ (الإلهَ) بِمَعْنَى القادرِ عَلَى الخَلْقِ ، فإذا فَسَّرَ المُفَسِّرُ (الإلهَ) بمعنَى القادرِ عَلَى الاخْتِرَاعِ، واعْتَقَدَ أنَّ هذا المعْنَى هوَ أخصُّ وَصْفِ (الإلهِ) وجَعَلَ إثباتَ هذا هوَ الغايةَ في التوحيدِ، كَمَا يَفْعَلُ ذلكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصِّفَاتِيَّةِ، وهوَ الذي يقولونَه عنْ أبي الحَسَنِ وأتْباعِهِ، لَمْ يَعْرِفْ حقيقةَ التوحيدِ الذي بَعَثَ اللهُ بهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ كانُوا مُقِرِّينَ بأنَّ اللهَ وحدَهُ خَالِقُ كلِّ شيءٍ، وكانوا معَ هذا مُشْرِكِينَ، قالَ تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }[يوسف:106] ، قالَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ: تَسْأَلُهمْ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؟ فيقولونَ: اللهُ، وهُمْ مَعَ هذا يَعْبُدونَ غَيْرَهُ ، قالَ تعالى: { قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } إلى قولِهِ: { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }[المؤمنونَ:84-89]
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بأنَّ اللهَ تَعَالَى رَبُّ كلِّ شيءٍ وخَالِقُهُ يكونُ عابدًا لهُ دونَ مَا سِوَاهُ، داعيًا لهُ دونَ مَا سِوَاهُ، رَاجيًا لهُ خائفًا منهُ دونَ ما سِوَاهُ، يُوالِي فيهِ ويُعَادِي فيهِ، ويُطِيعُ رُسُلَهُ، ويَأْمُرُ بِمَا أَمَرَ بهِ ويَنْهَى عَمَّا نَهَى عنهُ، وعامَّةُ المُشْرِكِينَ أقرُّوا بأنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، وأثْبَتوا الشُّفَعَاءَ الذينَ يُشْرِكُونَهم بهِ، وجَعَلُوا لهُ أنْدَادًا ؛ قَالَ تَعَالَى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ (43) قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا }[الزُّمَر:43،44] ، وقَالَ تَعَالَى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ } إلى قولِهِ: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }[يونس:18] ، وقَالَ تَعَالَى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }[الأنعام:94] ، وقَالَ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ }[البقرة:165] ؛ ولهذا كانَ مِنْ أتْباعِ هؤلاءِ مَنْ يَسْجُدُ للشَّمْسِ والقَمَرِ والكَوَاكِبِ ويَدْعُوها، ويَصُومُ وَيَنْسُكُ لها ويَتَقرَّبُ إليها، ثُمَّ يَقُولُ: إنَّ هذا ليسَ بِشِرْكٍ، إنَّما الشِّرْكُ إذا اعْتَقَدْتُ أَنَّها المُدَبِّرَةُ لِي، فإذا جَعَلْتُهَا سببًا وواسِطَةً لمْ أكُنْ مُشْرِكًا، ومِن المَعْلُومِ بالاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الإسلامِ أنَّ هذا شِرْكٌ. انتهى كَلاَمُهُ رَحِمَه اللهُ تعالى.
(4) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وقولِ اللهِ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]. ) ، بالجرِّ عَطْفٌ على التَّوْحيدِ ، ويَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الابْتِدَاءِ.
قَالَ شَيْخُ الإسلامِ: العبادةُ: هيَ طَاعَةُ اللهِ بامْتثالِ ما أمَرَ اللهُ بهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ ، وقَالَ أيضًا: العبادةُ: اسمٌ جَامِعٌ لكلِّ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويَرْضَاهُ مِن الأقوالِ والأعْمَالِ الظَّاهِرَةِ والباطِنَةِ ، قالَ ابنُ القَيِّمِ: ومَدَارُها عَلَى خَمْسَ عَشْرَةَ قَاعِدَةً، مَنْ كَمَّلَها كَمَّلَ مَراتِبَ العُبُودِيَّةِ ؛ وبيانُ ذلكَ: أنَّ العبادَةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى القَلْبِ واللّسانِ والجَوارِحِ ، والأَحْكَامُ التي للعُبُودِيَّةِ خَمْسَةٌ: واجِبٌ، ومُسْتَحَبٌّ، وحَرَامٌ ومَكْرُوهٌ، ومُبَاحٌ، وَهُنَّ لكلِّ واحِدٍ مِن القَلْبِ واللسانِ والجَوَارِحِ.
وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ العبادةِ التَّذَلُّلُ والخُضُوعُ، وسُمِّيَتْ وَظَائِفُ الشَّرْعِ عَلَى المُكَلَّفِينَ عِبَادَاتٍ؛ لأَنَّهُم يَلْتَزِمُونَها ويَفْعَلُونَها خَاضِعِينَ متذَلِّلِينَ للهِ تَعَالَى ، ومَعْنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ تعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الجنَّ والإنسَ إلاَّ لعبادَتِهِ، فهذا هوَ الحِكْمَةُ في خَلْقِهِم.
قُلْتُ: وهيَ الحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ ، قالَ الْعِمَادُ ابنُ كَثِيرٍ: وعبادَتُهُ هيَ طَاعَتُهُ بفِعْلِ المأمورِ وتَرْكِ المحظورِ، وذلكَ هوَ حَقِيقةُ دينِ الإسلامِ؛ لأنَّ مَعْنَى الإسلامِ الاستسلامُ للهِ تَعَالَى، المُتَضَمِّنُ غَايَةَ الانْقِيادِ والذُّلِّ والخُضُوعِ. انتهى.
وقالَ أيضًا في تفسيرِ هذهِ الآيةِ: ومَعْنَى الآيةِ أنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ ليَعْبُدُوهُ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، فمَنْ أَطَاعَهُ جَازَاهُ أَتَمَّ الجَزَاءِ، ومَنْ عَصَاهُ عَذَّبَهُ أشدَّ العذابِ، وأخْبَرَ أَنَّهُ غيرُ مُحْتاجٍ إليهم، بلْ هم الفُقَرَاءُ إليه في جَمِيعِ أَحْوَالِهم، وهوَ خَالِقُهم ورَازِقُهم.
قَالَ عَليُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الآيةِ: إلاَّ لآمُرَهُم أنْ يَعْبُدُونِي وأَدْعُوَهُم إلى عِبَادَتِي ، وقالَ مُجَاهِدٌ: إلاَّ لآمُرَهُم وأنْهَاهُم، اختارَهُ الزَّجَّاجُ وشيخُ الإسلامِ، قالَ: ويَدُلُّ عَلَى هذا قولُهُ تعالى:{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى }[القيامة:36] ؛ قالَ الشافِعِيُّ: لاَ يُؤْمَرُ وَلا يُنْهَى، وقالَ في القرآنِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ:{ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [البقرة:21]، { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } فَقَدْ أمَرَهم بِمَا خُلِقُوا لَهُ، وأَرْسَلَ الرُّسُلَ بذلكَ ، وهذا المَعْنَى هوَ الذي قُصِدَ بالآيةِ قطعًا؛ وهوَ الذي يَفْهَمُهُ جَمَاهِيرُ المُسْلِمينَ ويَحْتَجُّونَ بالآيةِ عَلَيْهِ ، قالَ: وهذهِ الآيةُ تُشْبِهُ قولَهُ تَعَالَى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ }[النساء:64]، ثُمَّ قَدْ يُطَاعُ وقدْ يُعْصَى، وكذلكَ ما خَلَقَهم إلاَّ لعبادتِهِ، ثمَّ قدْ يَعْبُدُونَ وقدْ لا يَعْبُدُونَ، وهوَ سبحانَهُ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ فَعَلَ الأَوَّلَ، وهوَ خَلْقُهُمْ، ليَفْعَلَ بهِم كُلِّهم الثَّانِيَ، وهوَ عبادَتُهُ، ولكنْ ذَكَرَ الأوَّلَ ليَفْعَلُوا هم الثانيَ، فيكونوا هُم الفَاعِلِينَ لهُ. فيَحْصُلُ لَهُم بفِعْلِهِ سَعَادَتُهم، ويَحْصُلُ ما يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ منهُ ولَهُم. انتهى.
ويَشْهدُ لهذا المَعْنَى: ما تَوَاتَرَتْ بهِ الأحاديثُ ؛ فمنها مَا أَخْرَجَهُ مسلمٌ في صَحِيحِهِ عنْ أنسِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: " يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لأَِهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ ما هوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ؛ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِي - أَحْسَبُهُ قَالَ: وَلاَ أُدْخِلُكَ النَّارَ - فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ " ، فهذا المُشْركُ قَدْ خالَفَ مَا أَرادَهُ اللهُ تعالى مِنْ تَوْحِيدِهِ وأنْ لا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، فَخَالَفَ مَا أرادَهُ اللهُ مِنْهُ فَأَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ، وهَذِهِ هِيَ الإرادةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ فَبَيْنَ الإرادةِ الشَّرْعِيَّةِ الدينيَّةِ والإرادةِ الكونيَّةِ القَدَريَّةِ عُمُومٌ وخصوصٌ مُطْلَقٌ،يَجْتَمِعانِ في حقِّ المُخْلِصِ المُطِيعِ، وتَنْفَرِدُ الإرادةُ الكوْنِيَّةُ القَدَريَّةُ في حَقِّ العَاصِي، فافْهَمْ ذلكَ تَنْجُ مِنْ جَهَالاَتِ أَرْبَابِ الكَلاَمِ وتابِعِيهِم.
(5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وقوْلِه: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }[النحل:36] . )
الطَّاغُوتُ: مُشْتَقٌّ مِن الطُّغْيانِ، وهو مُجَاوَزَةُ الحدِّ ؛ قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطاغوتُ: الشيطانُ ، وقالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطَّواغيتُ: كُهَّانٌ كانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهم الشياطينُ ، رَوَاهُما ابنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وقَالَ مَالكٌ: الطاغوتُ: كلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ ، قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطانُ وما زَيَّنَهُ مِن عِبادةِ غَيْرِ اللهِ.
قُلْتُ: وذلكَ المذْكُورُ بعضُ أفرادِهِ، وقدْ حَدَّهُ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تَعالى حدًّا جامِعًا: الطاغوتُ: مَا تَجَاوَزَ بِهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أوْ مَتْبُوعٍ أوْ مُطَاعٍ.
فَطَاغُوتُ كلِّ قَوْمٍ: مَنْ يَتَحاكَمُونَ إليهِ غَيرَ اللهِ ورَسُولِهِ، أوْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، أوْ يَتَّبِعُونَهُ على غيرِ بصيرةٍ مِن اللهِ، أوْ يُطِيعُونَهُ فيما لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ للهِ، فَهَذِهِ طواغيتُ العالَمِ؛ إذا تَأَمَّلْتَهَا وَتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ الناسِ مَعَها رَأَيْتَ أكثرَهُم أعْرَضَ عَن عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى إلى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وعنْ طاعةِ اللهِ ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى طَاعَةِ الطاغوتِ ومُتابَعَتِهِ.
وأمَّا مَعْنَى الآيةِ: فأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ في كُلِّ طائفةٍ من الناسِ رَسُولاً بهذِهِ الكلمةِ: { أنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الْطَّاغُوتَ } أي: اعْبُدُوا اللهَ وحدَهُ واتْرُكُوا عِبَادَةَ ما سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة:256] وهذا مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ)؛ فإِنَّها هيَ العُرْوةُ الوُثْقَى.
قالَ العِمَادُ ابنُ كَثِيرٍ في هذهِ الآيةِ: وكُلُّهم يَدْعُو إلى عِبَادَةِ اللهِ، ويَنْهَى عنْ عِبَادَةِ ما سِوَاهُ، فلمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ يُرْسِلُ الرُّسُلَ بذلكَ منذُ حَدَثَ الشِّرْكُ في قَوْمِ نُوحٍ الذينَ أُرْسِلَ إليهمْ، وكانَ أوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إلى أهلِ الأرْضِ إلى أنْ خَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي طَبَّقَتْ دَعْوتُهُ الإنسَ والجنَّ في المشارقِ والمغاربِ، وكلُّهُم كَمَا قالَ اللهُ تَعَالَى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ }[الأنبياء:25] ، وقَالَ تَعَالَى في هذهِ الآيةِ الكَرِيمةِ: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الْطَّاغُوتَ }[النحل:36]، فكيفَ يَسُوغُ لأَحَدٍ مِن المُشْرِكِينَ بَعْدَ هذَا أنْ يقولَ:{ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } فَمَشِيئَةُ اللهِ تَعَالَى الشرعيَّةُ عنهم مَنْفِيَّةٌ؛ لأَنَّهُ نَهَاهُم عنْ ذلكَ على أَلْسُنِ رُسُلِهِ ، وأمَّا مشيئتُهُ الكونيَّةُ، وهيَ تَمْكِينُهم مِنْ ذلكَ قَدَرًا، فَلاَ حُجَّةَ لَهُم فيه؛ لأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النَّارَ وأَهْلَها مِن الشَّياطِينِ والكَفَرَةِ، وهوَ لاَ يَرْضَى لعبادِهِ الكُفْرَ، ولهُ في ذلكَ حجَّةٌ بالِغَةٌ وحِكْمَةٌ قاطِعَةٌ، ولِهَذَا قالَ: { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ }[النحل:36] . انتهى.
قُلْتُ: وهذهِ الآيةُ تُفَسِّرُ الآيةَ قَبْلَها، وذلكَ قولُهُ: { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ } فَتَدَبَّرْ .
ودَلَّتْ هذهِ الآيةُ عَلَى أنَّ الحِكْمَةَ في إرْسالِ الرُّسُلِ دَعْوَتُهم أُمَمَهُم إلى عِبَادَةِ اللهِ وحدَهُ، والنَّهْيُ عنْ عِبَادَةِ ما سِوَاهُ، وأنَّ هذَا هوَ دينُ الأنبياءِ والمُرْسَلِينَ وإن اخْتَلَفَتْ شَرِيعَتُهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }[المائدة:48]، وأَنَّهُ لاَ بُدَّ في الإيمانِ مِنَ العَمَلِ من القَلْبِ والجَوَارِحِ.
(1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: (وقولِهِ تَعَالَى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْكِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23،24] )، قَالَ مُجَاهِدٌ: {قَضَى} يَعْنِي: (وَصَّى)، وكذا قَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وابنُ مسعودٍ وغيْرُهُم ، ولابنِ جَرِيرٍعن ابنِ عبَّاسٍ: {وَقَضَى رَبُّكَ} يَعْنِي: أَمَرَ.
وقولُهُ تَعَالَى: { أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ }، المَعْنَى: أنْ تَعْبُدُوهُ وحْدَهُ دونَ مَا سِوَاهُ، وهذا مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) ، قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: والنَّفْيُ المحضُ ليسَ تَوْحيدًا، وكذلكَ الإثباتُ بِدُونِ النفْيِ، فلا يكونُ التوحيدُ إلاَّ مُتَضَمِّنًا للنَّفيِ والإثباتِ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيدِ.
وقولُهُ: { وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }، أيْ: وقَضَى أنْ تُحْسِنُوا بالوالدَيْنِ إحسانًا، كَمَا قَضَى بعبادتِهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قالَ تَعَالَى في الآيةِ الأُخْرَى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }[لقمان:14].
وقولُهُ: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أيْ: لا تُسْمِعْهُمَا قَوْلاً سيِّئًا، حتَّى ولاَ التَّأْفِيفَ الذي هوَ أدْنَى مراتبِ القولِ السيِّئِ، { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أيْ: لاَ يَصْدُرْ منكَ إليْهِما فِعْلٌ قَبِيحٌ، كما قالَ عطاءُ بنُ أَبِي رَباحٍ: لاَ تَنْفُضْ يَدَيْكَ عَلَى وَالِدَيْكَ.
ولَمَّا نَهَاهُ عَن الفعلِ القبيحِ والقولِ القبيحِ أمَرَهُ بالفعلِ الحَسَنِ والقولِ الحَسَنِ، فقالَ: { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } أيْ: لَيِّنًا طيِّبًا بأَدَبٍ وتوقيرٍِ.
وقولُهُ: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }، أيْ: تَوَاضَعْ لَهُما، { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أيْ: في كِبَرِهِمَا وعِنْدَ وفاتِهِمَا، { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }.
وقدْ وَرَدَ في بِرِّ الوَالِدَيْنِ أحاديثُ كثيرةٌ ؛ منها الحديثُ الْمَرْوِيُّ منْ طُرُقٍ عنْ أنسٍ وغيرِه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَعِدَ الْمِنبرَ قَالَ: " آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ " ، فَقَالوا: يا رَسُولَ اللهِ، عَلاَمَ أَمَّنْتَ؟ فَقَالَ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ " ، ورَوَى الإِمامُ أحمدُ مِنْ حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، وَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ " ، قَالَ الْعِمَادُ ابنُ كثيرٍ: صَحِيحٌ مِنْ هذا الوجْهِ ، وعنْ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلاَ أُنَبِّئُكُم بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ " ، قُلْنَا: بَلَى يا رسولَ اللهِ ، قالَ: " الإِشْرَاكُ بِاللهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ " ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: " أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ " ، فَما زالَ يُكَرِّرُها حَتَّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ ، رواهُ البخاري ُّومسلمٌ ، وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدَيْنِ، وَسُخْطُهُ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ " رَوَاه التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ والحاكمُ ، وعَنْ أبي أُسَيْدٍ الساعديِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عندَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقالَ: يا رسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِما؟ فَقَالَ: " نَعَمْ، الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " رَوَاهُ أبو داودَ وابنُ مَاجَه ، والأحاديثُ في هذَا المَعْنَى كثيرةٌ جدًّا.
(2) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: ( وقَوْلُهُ: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }[النساء:36] )، قالَ العمادُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذِهِ الآيةِ: يَأْمُرُ تَعَالَى عَبَادَهُ بعِبَادَتِهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ فإنَّهُ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ في جَمِيعِ الحَالاَتِ، وهوَ المُسْتَحِقُّ منهم أنْ يُوَحِّدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. انتهى.
وهذِهِ الآيةُ هيَ التي تُسَمَّى آيةَ الحُقُوقِ العَشْرَةِ، وفي بعضِ النُّسَخِ المُعْتَمَدةِ مِنْ نُسَخِ هذا الكِتَابِ تَقدِيمُ هذِهِ الآيةِ عَلَى آيةِ الأنْعامِ، ولهذا قَدَّمْتُها لِمُناسَبَةِ كَلاَمِ ابنِ مسعودٍ الآتي لآيةِ الأنعامِ؛ ليكونَ ذِكْرُهُ بعدَها أنْسَبَ.
(3) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: ( وقولِهِ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُـوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[الأنعام:151-153] ).
قَالَ العِمَادُ ابنُ كثيرٍ: يَقُولُ تَعَالَى لنبيِّهِ ورَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ}لهؤلاءِ المُشْرِكِينَ الذينَ عَبَدُوا غَيرَ اللهِ، وحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُم اللهُ: {تَعَالَوْا} أيْ: هَلُمُّوا وأَقْبِلُوا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}أَقُصُّ علَيْكُم حقًّا، لا تَخَرُّصًا ولا ظنًّا، بلْ وَحْيًا منهُ وأمرًا مِنْ عِندِهِ، {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}وكأنَّ في الكَلاَمِ مَحْذُوفًا دَلَّ عليهِ السياقُ تَقْدِيرُهُ: وصَّاكُمْ ألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ ولهذَا قَالَ في آخِرِ الآيةِ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ}. انتهى.
قُلْتُ: فيكونُ المعنى: حرَّمَ عليْكُم مَا وصَّاكُمْ بتَرْكِهِ مِن الإشْرَاكِ بِهِ ، وفي المُغْنِي لابنِ هشامٍ في قولِهِ تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} سبعةُ أَقْوالٍ، أَحْسَنُها: هذا الذي ذَكَرَهُ ابنُ كثيرٍ، ويَلِيهِ: أُبَيِّنُ لَكُمْ ذلكَ؛ لِئَلاَّ تُشْرِكُوا، فَحُذِفَت الجُمْلَةُ مِنْ أَحَدِهما، وهيَ {وَصَّاكُمْ}وحَرْفُ الجَرِّ وما قَبْلَهُ مِن الأُخْرَى.
ولهذا إذا سُئِلُوا عَمَّا يَقولُ لَهُم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَقولُ: اعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُم؛ كما قالَ أبو سُفْيان َلِهِرَقْلَ، وهذا هوَ الذي فَهِمَ أبو سفيانَ وغيْرُهُ منْ قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: " قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، تُفْلِحُوا " .
قولُهُ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}قالَ الْقُرْطُبِيُّ: الإحسانُ إلى الوالدَيْنِ بِرُّهُمَا، وحِفْظُهما، وصيانَتُهما، وامتثالُ أمْرِهما، وإزالةُ الرقِّ عنْهُما، وتَرْكُ السَّلْطَنَةِ عليْهِمَا، و{إِحْسانًا}نُصِبَ عَلَى المصدريَّةِ، وناصبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ مِنْ لفظِهِ تقديرُهُ: وأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا.
وقولُهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} الإمْلاَقُ: الفَقْرُ، أيْ: لا تَئِدُوا بَنَاتِكُمْ خَشْيةَ العَيْلَةِ والفقرِ؛ فإنِّي رازِقُكُم وإيَّاهُمْ، وكانَ منهم مَنْ يَفْعلُ ذلكَ بالإناثِ والذُّكورِ خَشْيَةَ الفقرِ. ذَكَرَهُ القرطبيُّ ، وفي الصَّحيحَيْن عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قالَ: " أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: " أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ " ثُمَّ تَلا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} الآيةَ، [الفرقان:68].
وقوْلُهُ: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: نَهْيٌ عامٌّ عنْ جميعِ أنواعِ الفواحشِ، وهيَ المعاصِي، و{ظَهَرَ} و{بَطَنَ}حالتانِ تَسْتَوْفِيَانِ أقسامَ ما جُعِلَتَا لهُ من الأشياءِ. انتهى.
قولُهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} في الصَّحيحَيْنِ عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ " .
قولُهُ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: {ذَلِكُمْ}إشارةٌ إلى هذهِ المُحَرَّمَاتِ، والوَصِيَّةُ: الأمرُ المُؤَكَّدُ المُقَرَّرُ.
وقولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(لَعَلَّ) للتعليلِ، أيْ: أنَّ اللهَ تعالى وصَّانا بهذهِ الْوَصَايَا لِنَعْقِلَها عنهُ ونعملَ بِهَا ، وفي تفسيرِ الطَبَريِّ الحَنَفِيِّ: ذَكَرَ أَوَّلاً: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ثمَّ {تَذَكَّرونَ} ثمَّ {تَتَّقُونَ} لأَنَّهُم إذا عَقَلُوا تَذَكَّروا فإذا تَذَكَّرُوا خَافُوا واتَّقَوْا.
قولُهُ: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: هذا نَهْيٌ عامٌّ عن القُرْبِ الذِي يَعُمُّ وُجُوهَ التصرُّفِ، وفيهِ سدُّ الذَّرِيعَةِ. ثمَّ اسْتَثْنَى ما يَحْسُنُ وهوَ السعيُ في نَمَائِهِ ، قالَ مجاهدٌ: { التي هيَ أَحْسَنُ}، التجارةُ فيهِ ، وقولُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قالَ مالكٌ وغيرُهُ: هوَ الرُّشْدُ وزوالُ السَّفَهِ معَ البلوغِ، رُوِيَ نحوُ هذا عنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ والشَّعْبِيِّ ورَبِيعَةَ وغيْرِهِم.
قولُهُ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}قالَ ابنُ كثيرٍ: يَأْمُرُ تعالى بإقامةِ العدلِ في الأخذِ والإعطاءِ {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أيْ: مَن اجتهدَ بأداءِ الحقِّ وَأَخْذِهِ، فإنْ أخْطَأَ بعدَ استفراغِ وُسْعِهِ وبَذْلِ جُهدِهِ فلاَ حَرَجَ عَلَيهِ.
قولُهُ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} هذا أمْرٌ بالعَدْلِ في القَوْلِ والفِعْلِ عَلَى القريبِ والبعيدِ ، قالَ الحنفيُّ: العدلُ في القولِ في حقِّ الوليِّ والعدوِّ ولا يَتَغَيَّرُ في الرِّضَى والغَضَبِ، بلْ يكونُ على الحقِّ وإنْ كانَ ذا قُرْبَى، فلا يَمِيلُ إلى الحبيبِ والقريبِ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة:8]).
قولُهُ: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} قالَ ابنُ جَرِيرٍ: وَبِوَصِيَّةِ اللهِ تَعَالَى التي وصَّاكُم بِهَا فأَوْفُوا وانْقَادُوا لِذلك؛ بأنْ تُطِيعُوه فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ ونَهاكُم عنْه، وتَعْمَلُوا بكتابِهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلكَ هوَ الوفاءُ بِعَهْدِ اللهِ. وكذا قالَ غيرُهُ.
قولُهُ: {ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تَتَّعِظُونَ وتَنْتَهُونَ عمَّا كُنْتُم فيهِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } قالَ القرطبيُّ: هذهِ آيةٌ عظيمةٌ عَطَفَها على ما تَقَدَّمَ، فإنَّهُ لَمَّا نَهَى وأمَرَ حذَّرَ عن اتِّباعِ غيرِ سبيلِهِ على ما بَيَّنَتْهُ الأحاديثُ الصحيحةُ وأقاويلُ السلفِ ، و{أَنَّ} في موضعِ نَصْبٍ، أيْ: وأَتْلُو أنَّ هذا صِراطِي ، عن الفرَّاءِ والكِسائِيِّ ، قال الفرَّاءُ: ويجوزُ أنْ يكونَ خَفْضًا، أيْ: وصَّاكُمْ بهِ وبأنَّ هذا صِرَاطِي، قالَ: والصِّراطُ الطريقُ الذي هوَ دينُ الإسلامِ ، {مُسْتَقِيمًا} نُصِبَ على الحالِ، ومعناهُ: مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لا اعْوِجاجَ فيهِ ، فأَمَرَ باتِّباعِ طَرِيقِهِ الذي طَرَقَهُ على لسانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشَرَعَهُ، ونهايتُهُ الجنَّةُ، وتَشَعَّبَتْ منهُ طُرُقٌ، فمَنْ سَلَكَ الجادَّةَ نَجَا، ومَنْ خَرَجَ إلى تلكَ الطُّرُقِ أَفْضَتْ بهِ إلى النارِ ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أيْ: تَمِيلَ. انتهى.
وروَى أحمدُ والنَّسَائِيُّ والدَّارِميُّ وابنُ أبي حاتمٍ والحَاكِمُ، وصَحَّحَهُ، ورَوَاه مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ في كتابِ الاعتصامِ بسَنَدٍ صحيحٍ عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا " ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الخَطِّ وَعَن شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: " وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ وَعَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} ، وعنْ مجاهدٍ: {ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قالَ: الْبِدَعَ والشَّهَوَاتِ.
قالَ العلامةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلْنَذْكُرْ في الصراطِ المستقيمِ قَوْلاً وَجِيزًا؛ فإنَّ الناسَ قدْ تَنَوَّعَتْ عبارَاتُهم عنهُ بِحَسَبِ صِفَاتِهِ ومُتَعَلَّقَاتِهِ، وحَقِيقَتُهُ شَيْءٌ واحدٌ، وهوَ طريقُ اللهِ الذي نَصَبَهُ لعبادِهِ مُوصِلاً لَهُمْ إليهِ، ولا طريقَ إليهِ سِوَاهُ، بل الطُّرُقُ كلُّها مَسدُودَةٌ عَلَى الخلقِ إلاَّ طَريقَهُ الذي نَصَبَهُ على أَلْسُنِ رُسُلِهِ، وجَعَلَهُ مُوصِلاً لعبادِهِ إليه، وهوَ إفرادُهُ بالعبادةِ، وإفرادُ رُسُلِهِ بالطَّاعَةِ، فَلاَ يُشْرِكُ بِهِ أحدًا في عبوديَّتِهِ، ولا يُشْرِكُ برسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدًا في طاعَتِهِ، فَيُجَرِّدُ التوحيدَ، ويُجَرِّدُ متابعةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلُّهُ مضمونُ شهادةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ، فأيُّ شيءٍ فُسِّرَ بِهِ الصراطُ المستقيمُ فهوَ داخلٌ في هذيْنِ الأصلَيْنِ.
ونُكْتَةُ ذلكَ أنْ تُحِبَّهُ بِقَلْبِكَ وتُرْضِيَهُ بِجُهْدِكَ كُلِّهِ، فَلاَ يكونُ في قَلْبِكَ موضعٌ إلاَّ معمورًا بِحُبِّهِ، ولا يكونُ لكَ إرادةٌ إلاَّ مُتَعَلِّقَةً بِمَرْضَاتِهِ ، فالأوَّلُ: يَحْصُلُ بتحقيقِ شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، والثاني: يَحْصُلُ بتحقيقِ شهادَةِ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ، وهذا هوَ الهُدَى ودِينُ الحَقِّ، وهوَ مَعْرِفَةُ الحَقِّ والعَمَلُ بِهِ، وهوَ معرفةُ ما بَعَثَ اللهُ بهِ رَسولَهُ والقيامُ بهِ، فقُلْ ما شِئْتَ مِن العباراتِ التي هذا آخِيَّتُهَا وقُطْبُ رَحَاهَا.
قالَ: وقالَ سَهْلُ بنُ عبدِ اللهِ: علَيْكُمْ بالأَثَرِ والسُنَّةِ؛ فإِنِّي أخافُ أنَّهُ سيَأْتِي عنْ قليلٍ زمانٌ إذا ذَكَرَ إنسانٌ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاقْتِدَاءَ بِهِ في جميعِ أحوالِهِ ذَمُّوهُ ونَفَرُوا عَنْهُ وتَبَرَّءُوا منهُ وأَذَلُّوهُ وأهانُوهُ.
(4) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: ( قالَ ابنُ مَسْعودٍ: مَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عَلَيها خَاتَمُهُ فَليَقْرَأْ قولَهُ تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قولِهِ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآيةَ)
قولُهُ: (ابنُ مَسْعودٍ) هوَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودِ بنِ غَافِلِ -بِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ- ابنِ حَبِيبٍ الْهُذَلِيُّ أبو عبدِ الرَّحْمَنِ، صحابِيٌّ جَليلٌ مِن السابقينَ الأوَّلِينَ من أهلِ بدْرٍ وأُحُدٍ والخَنْدقِ وبيَعَةِ الرِّضْوانِ، ومِنْ كِبارِ عُلماءِ الصَّحابَةِ، أمَّرَهُ عُمَرُ عَلَى الكوفةِ، ومَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وثَلاَثِينَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وهذا الأثرُ رواهُ الترمذيُّ وحَسَّنَهُ، وابنُ المُنْذِرِ وابنُ أَبِي حَاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ بنحوِهِ.
وسَبَبُ هذا القَوْلِ-واللهُ أَعْلَمُ- مَا رَوَاه البُخَارِيُّ في صحيحِهِ عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَجَعُه، قال: " ائْتُونِي بِكِتابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتابًا لا تَخْتَلِفُوا بَعْدَهُ " ، قال عُمَرُ: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ غَلَبَهُ الوَجَعُ! وعندَنا كِتابُ اللهِ حَسْبُنا ، فاخْتَلَفُوا وكَثُرَ اللَّغَطُ، قال: " قُومُوا عَنِّي ولا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ " ، فَخَرَجَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حالَ بينَ رَسُولِ اللهِ وبينَ كِتابِهِ ، فَقَالَ ابنُ مَسْعودٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ التي عَلَيْها خاتَمُه... الحديثَ.
وقالَ بعضُهم: معناهُ: مَنْ أَرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلى الوصيَّةِ التي كَأنَّها كُتِبَتْ وخُتِمَ علَيْهَا فلمْ تُغَيَّرْ ولم تُبَدَّلْ فَلْيَقْرَأْ: {قُلْ تَعالَوْا} إلى آخرِ الآياتِ، شبَّهَها بالكتابِ الذي كُتِبَ ثمَّ خُتِمَ فلمْ يُزَدْ فِيهِ ولَمْ يُنْقَصْ ، فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يُوصِ إلاَّ بكتابِ اللهِ تعالى، كما قالَ فيما رَوَاهُ مسلمٌ: " وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كَتابَ اللهِ ".
وقدْ رَوَى عُبادةُ بنُ الصامتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّكُمْ يُبايِعُنِي عَلَى هَؤُلاَءِ الآيَاتِ الثَّلاَثِ؟ " ثُمَّ تَلا قَوْلَهُ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِن الثَّلاَثِ الآياتِ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ وَفَّى بِهِنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقوبَتَهُ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ آخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ " رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ والحاكمُ، وصَحَّحَهُ، ومُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ في الاعْتِصَامِ.
قُلْتُ: ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يُوصِ أُمَّتَهُ إلاَّ بما وصَّاهُم به اللهُ تعالى عَلَى لِسانِهِ، وفي كِتَابِهِ الذي نَزَّلَهُ {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل: 89]، وهذهِ الآياتُ وَصِيَّةُ اللهِ تَعَالَى ووَصِيَّةُ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(5) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: ( وَعَنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ قالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى حِمَارٍ، فَقَال لِي: " يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟ " ، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ ، قَالَ: " حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا " ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: " لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " أَخْرَجَاهُ في الصَّحِيحَيْنِ )
هذا الحَدِيثُ في الصَّحيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ، وفي بعضِ رواياتِهِ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
و (مُعاذٌ) هوَ: ابنُ جبلِ بنِ عمرِو بنِ أَوْسٍ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ أبو عبدِ الرَّحْمَنِ؛ صحابِيٌّ مشهورٌ مِنْ أَعْيَانِ الصحابةِ، شَهِدَ بدرًا وما بَعْدَها، وكانَ إليهِ المُنْتَهَى في العِلْمِ والأحكامِ والقرآنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُعَاذٌ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ " أيْ: بِخَطْوَةٍ ، قَالَ في القَامُوسِ: وَالرَّتْوةُ: الخَطْوَةُ وشَرَفٌ من الأرضِ، وسُوَيْعَةٌ من الزمانِ، والدَّعْوَةُ، والْقطْرَةُ، وَرَمْيَةٌ بسهمٍ، أوْ نَحْوُ مِيلٍ، أوْ مَدَى البصرِ، والرَّاتِي العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ. انتهى. وقالَ في النهايةِ: إنَّهُ يَتَقَدَّمُ العُلَمَاءَ برَتْوَةٍ، أيْ: بِرَمْيةِ سهمٍ ، وقيلَ: بمِيلٍ ، وقيلَ: مَدى البَصَرِ ، وهذهِ الثلاثةُ أشبَهُ بمعنى الحديثِ.
ماتَ سنَةَ ثمانيَ عَشْرَةَ بالشامِ في طَاعُونِ عِمْوَاسَ، وقد اسْتَخْلَفَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهْلِ مَكَّةَ يومَ الفتحِ يُعَلِّمُهم دينَهُم.
قولُهُ: ( كُنْتُ رَدِيفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فيهِ : جَوازُ الإِرْدَافِ على الدَّابَّةِ ، وفَضيلةُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: (عَلَى حِمَارٍ) في روايةٍ: اسْمُهُ عُفَيْرٌ ، قُلْتُ: أَهْدَاهُ إليْهِ المُقَوْقِسُ صَاحبُ مِصْرَ ، وفيهِ: تَواضُعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكُوبِ الحمارِ والإردافِ عليهِ، وخِلاَفًا لِمَا عليهِ أهلُ الْكِبْرِ.
قولُهُ: ( " أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ" ) أخْرَجَ السؤالَ بصيغةِ الاستفهامِ؛ ليكونَ أوقَعَ في النَّفْسِ وأَبْلَغَ في فَهْمِ المُتَعَلِّمِ ، و( " حَقُّ اللهِ عَلَى العِبادِ") هُوَ ما يستحِقُّهُ عليهم ، و(" حَقُّ العِبادِ عَلَى اللهِ" ) معناهُ أَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لا مَحالَةَ؛ لأَنَّهُ قدْ وعَدَهم ذلكَ جَزَاءً لهم على تَوحيدِهِ: {وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ}[الروم:6].
قالَ شيخُ الإسلامِ: كَوْنُ المُطِيعِ يَسْتَحِقُّ الجزَاءَ هوَ استحقاقُ إنعامٍ وفضلٍ، ليسَ هوَ استحقاقَ مُقَابَلَةٍ، كما يَسْتَحِقُّ المخلوقُ على المخلوقِ، فمِن الناسِ مَنْ يقولُ: لا مَعْنَى للاستحقاقِ، إلاَّ أَنَّهُ أخْبَرَ بذلكَ وَوَعْدُهُ صِدْقٌ، ولكنَّ أكثرَ الناسِ يُثْبِتُونَ استحقاقًا زائدًا على هذا، كما دلَّ عليهِ الكتابُ والسُّنَّةُ، قالَ تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}[الروم:47] ، ولكنَّ أهلَ السُّنَّةِ يقولونَ: هوَ الذي كَتَبَ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِه الحَقَّ، لَمْ يُوجِبْهُ عليهِ مَخلوقٌ.
والمُعْتَزِلَةُ يَدَّعُونَ أَنَّهُ واجِبٌ عليهِ بالقِياسِ على المخلوقِ، وأنَّ العبادَ هم الذينَ أطاعُوهُ بدونِ أنْ يَجْعَلَهم مُطِيعينَ لَهُ، وأَنَّهُم يَسْتَحِقُّونَ الجزاءَ بدونِ أنْ يكونَ المُوجِبَ، وغَلِطُوا في ذلكَ، وهذا البابُ غَلِطَتْ فيهِ الجَبْرِيَّةُ، والقَدَريَّةُ أتباعُ جَهْمٍ، والقَدَريَّةُ النافيةُ.
قولُهُ: ( قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فيهِ حُسْنُ الأدَبِ مِن المُتَعَلِّمِ، وأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أنْ يَقُولَ ذلكَ، بِخِلاَفِ أكثرِ المُتَكَلِّفِينَ.
قولُهُ: ( "أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ) أيْ: يُوَحِّدُوهُ بالعبادةِ ، ولَقَدْ أَحْسَنَ العَلاَّمةُ ابنُ القَيِّمِ حيثُ عَرَّفَ العبادَةَ بتعريفٍ جَامِعٍ فقالَ:
وعِبَادَةُالرَّحْمَنِ: غايةُ حُبِّـهِ=معَ ذُلِّ عابدِهِ هُمَا قُطْبَـانِ
وعَلَيهِمَا فَلَكُ العِبَادَةِ دَائِـرٌ=مَا دَارَ حَتَّى قَامَت القُطْبانِ
ومَدَارُه بالأمْرِ أمْرِ رسولِـهِ=لاَ بالهَوَى والنَّفْسِ والشَّيْطَانِ

قولُهُ: ( "وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ) أيْ: يُوَحِّدُوهُ بالعبادَةِ، فَلاَ بُدَّ مِن التَّجَرُّدِ مِن الشركِ في العبادةِ، ومَنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ مِن الشركِ لمْ يكُنْ آتِيًا بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، بلْ هوَ مُشْرِكٌ قدْ جَعَلَ للهِ نِدًّا ، وهذا مَعْنَى قولِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَفِيهِ أنَّ العبادةَ هيَ التوحيدُ؛ لأنَّ الخُصومَةَ فيهِ) ، وفي بعضِ الآثارِ الإلهِيَّةِ: " إِنِّي وَالْجِنَّ وَالإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ، أَخْلُقُ ويُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَايَ، خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي " .
قولُهُ: ( "وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " ).
قالَ الحافظُ: اقْتَصَرَ عَلَى نفيِ الإشراكِ؛ لأنَّهُ يَسْتَدْعي التوحيدَ بالاقتضاءِ، ويستدعِي إثباتَ الرسالةِ باللُّزُومِ؛ إذْ مَنْ كذَّبَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقدْ كذَّبَ اللهَ، ومَنْ كذَّبَ اللهَ فهوَ مُشْرِكٌ، أو هوَ مِثْلُ قولِ القائلِ: مَنْ تَوَضَّأَ صَحَّتْ صَلاتُهُ، أيْ: معَ سائرِ الشروطِ. انتهى.
قولُهُ: ( أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ) فيهِ اسْتِحْبابُ بِشَارَةِ المسلمِ بما يَسُرُّهُ ، وفيهِ ما كانَ عليهِ الصحابةُ من الاستبشارِ بمثلِ هذا. قالَهُ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
قولُهُ: ( " لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا" ) أيْ: يَعْتَمِدوا على ذلكَ فيَتْرُكوا التَّنَافُسَ في الأعْمَالِ ، وفي رِوايةٍ: فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ؛ أيْ: تَحَرُّجًا مِن الإِثْمِ ، قالَ الْوَزِيرُ أَبُو المُظَفَّرِ: لمْ يكُنْ يكْتُمُها إلاَّ عَنْ جَاهِلٍ يَحْمِلُهُ جَهْلُهُ عَلَى سُوءِ الأدَبِ بتَرْكِ الخدمةِ في الطاعةِ؛ فأمَّا الأكْياسُ الذينَ إذَا سَمِعُوا بِمِثْلِ هذا زَادُوا في الطَّاعَةِ؛ ورَأَوْا أنَّ زيادَةَ النِّعَمِ تَسْتَدْعِي زيادَةَ الطَّاعَةِ، فَلاَ وَجْهَ لكِتْمَانِها عنْهُم.
وفي البابِ مِن الفوائدِ غيرُ ما تَقَدَّمَ:
- الحثُّ على إخلاصِ العبادةِ للهِ تعالى، وأنَّها لاَ تَنْفَعُ مَعَ الشركِ، بلْ لا تُسَمَّى عبادةً.
- والتَّنْبيهُ على عَظَمَةِ حقِّ الوالدَيْنِ، وتَحْريمِ عُقُوقِهِمَا.
- والتنبيهُ عَلَى عَظَمَةِ الآياتِ المُحْكَمَاتِ في سُورَةِ الأنْعَامِ.
- وجَوازُ كِتْمانِ العِلْمِ للمَصْلَحَةِ.
قولُهُ: ( أَخْرَجَاهُ) أي: البخاريُّ ومسلمٌ.
- و(البخاريُّ) هوَ: الإمامُ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ بَرْدِزْبَهْ الْجُعْفِيُّ مَوْلاَهُم، الحافظُ الكبيرُ صاحبُ الصَّحِيحِ والتاريخِ والأدَبِ المُفْرَدِ وغيرِ ذلكَ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ ، رَوَى عن الإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ والْحُمَيْدِيِّ وابْنِ المَدِينِيِّ وطَبَقَتِهِم، ورَوَى عنهُ مُسْلمٌ والنَّسَائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ والفِرَبْرِيُّ رَاوِي الصَّحِيحِ ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وتسعينَ ومِائَةٍ، وماتَ سَنَةَ ستٍّ وخمسينَ ومائتَيْنِ.
- و(مُسْلِمٌ) هوَ: ابنُ الحَجَّاجِ بنِ مُسْلِمٍ أبو الحُسَيْنِ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ صاحبُ الصَّحِيحِ والعِلَلِ والوُحْدَانِ وغيرِ ذلكَ ، رَوَى عنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ ويَحْيَى بنِ مَعِينٍ وأَبِي خَيْثَمَةَ وابنِ أَبِي شَيْبَةَ وطَبَقَتِهِم، ورَوَى عن البخاريِّ صحيحَه ، ورَوَى عنهُ التِّرْمِذِيُّ، وإبراهيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُفْيَانَ رَاوِي الصَّحيحِ وغيْرُهُمَا ، وُلِدَ سَنَةَ أربعٍ ومائتَيْنِ، وماتَ سَنَةَ إحْدَى وسِتِّينَ ومائتَيْنِ بِنَيْسَابُورَ، رَحِمَهُمَا اللهُ تعالى.

هيئة الإشراف

#4

25 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) هذه الترجمةُ تدلُّ على مقصودِ هذا الكتابِ من أولهِ إلى آخرِه، ولهذا استُغْنِيَ بِها عن الخطبةِ، أي: أن هذا الكتابَ يشتملُ على توحيدِ الإِلهيةِ والعبادةِ بذكرِ أحكامِهِ، وحدودِهِ وشروطِهِ، وفضلِهِ وبراهينِهِ، وأصولِهِ وتفاصيلِهِ، وأسبابِهِ، وثمراتِهِ، ومقتضياتِهِ، وما يزدادُ بِهِ ويقوِّيهِ، أو يُضعِّفُه ويُوهيه، وما به يَتِمُّ أو يكمُلُ.
اعلمْ أن التوحيدَ المطلقَ: العلمُ والاعترافُ بتفرُّدِ الربِّ بصفاتِ الكمالِ، والإِقرارُ بِتَوَحُّدِهِ بِصفاتِ العَظَمَةِ وَالجلالِ، وإفرادُه وحدَهُ بِالعبادةِ.
وهو ثلاثةُ أقسامٍ:
أحدُها: توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ، وهو: اعتقادُ انفرادِ الربِّ -جلّ جلالُه- بالكمالِ المطلقِ من جميعِ الوجوهِ بنعوتِ العظمةِ والجلالِ والجمالِ التي لا يشاركُهُ فيها مُشاركٌ بوجهٍ من الوجوهِ، وذلك بإثباتِ ما أثبتَه اللهُ لنفسِه، أو أثبتَه له رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جميعِ الأسماءِ والصفاتِ ومعانيها وأحكامِها الواردةِ في الكتابِ والسنةِ، على الوجهِ اللائقِ بعظمتِه وجلالِه، من غيرِ نفيٍ لشيءٍ منها ولا تعطيلٍ، ولا تحريفٍ، ولا تمثيلٍ، ونفيِ ما نفاه عن نفسهِ، أو نفاه عنه رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من النقائِصِ والعيوبِ، وعن كلِّ ما ينافي كمالَهُ.
الثاني: توحيدُ الربوبيةِ، بأن يعتقدَ العبدُ أن اللهَ هو الربُّ المتفرِّدُ بالخلقِ والرزقِ والتدبيرِ، الذي ربَّى جميعَ الخلقِ بالنعمِ، وربَّى خواصَّ خلقِه، وهم الأنبياءُ وأتباعُهم، بالعقائدِ الصحيحةِ، والأخلاقِ الجميلةِ، والعلومِ النافعةِ، والأعمالِ الصالحةِ، وهذه هي التربيةُ النافعةُ للقلوبِ والأرواحِ، المثمرةُ لسعادةِ الدّارينِ.
الثالثُ: توحيدُ الإِلهيةِ، ويقالُ له توحيدُ العبادةِ ؛ وهو العلمُ والاعترافُ بأنَّ اللهَ ذو الألوهيةِ والعبوديةِ على خَلْقِه أجمعينَ، وإفرادُه وحدَه بالعبادةِ كلِّها، وإخلاصُ الدينِ للهِ وحدَه.
وهذا الأخيرُ يستلزمُ القسمينِ الأوَّلَيْنِ ويتضمَّنُهما؛ لأن الألوهيةَ التي هي صفةٌ تعُمُّ أوصافَ الكمالِ، وجميعَ أوصافِ الربوبيةِ والعظمةِ، فإنه المألوهُ المعبودُ؛ لما له من أوصافِ العظمةِ والجلالِ، ولما أسداه إلى خلقِه من الفواضلِ والأفضالِ، فتوحُّدُه تعالى بصفاتِ الكمالِ وتفرُّدُه بالربوبيةِ يلزمُ منه أن لا يستحِقَّ العبادةَ أحدٌ سواه ، ومقصودُ دعوةِ الرسلِ من أولِهم إلى آخرِهم الدعوةُ إلى هذا التوحيدِ.
فذكَرَ المصنِّفُ في هذه الترجمةِ من النصوصِ ما يدُلُّ على أن اللهَ خلَقَ الخلْقَ لعبادتِه والإِخلاصِ له، وأن ذلك حقُّه الواجبُ المفروضُ عليهم ، فجميعُ الكتبِ السماويةِ وجميعُ الرسلِ دعَوْا إلى هذا التوحيدِ، ونَهَوْا عن ضدِّه من الشركِ والتنديدِ، وخصوصاً محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا القرآنَ الكريمَ، فإنه أمَرَ به وفرَضَه وقرَّره أعظمَ تقريرٍ، وبيَّنَه أعظمَ بيانٍ، وأخبَرَ أنه لا نجاةَ ولا فلاحَ ولا سعادةَ إلا بهذا التوحيدِ، وأن جميعَ الأدلةِ العقليةِ والنقليةِ والأفقيةِ والنفسيةِ أدلةٌ وبراهينُ على هذا الأمرِ بهذا التوحيدِ ووجوبِه.
فالتوحيدُ هو حقُّ اللهِ الواجبُ على العبيدِ، وهو أعظمُ أوامرِ الدينِ، وأصلُ الأصولِ كلِّها، وأساسُ الأعمالِ.

هيئة الإشراف

#5

25 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي


قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: (لَم يُذْكَرْ في النُّسخِ التي بأيدينا خطبةٌ للكتابِ فإمَّا أنْ تكونَ قدْ سقَطَتْ من النُّسَّاخِ، وإما أنْ يكونَ المؤلِّفُ قد اكْتَفَى بالترجمةِ؛ لأنَّها عُنْوَانٌ على موضوعِ الكتابِ، وهوَ التَّوْحِيدُ.
والكتابُ بمعنى مكتوبٍ وهو المجموع ، منْ قولِهم: كَتِيبةٌ، وهيَ المجموعةُ مِنَ الخيلِ ، أما التوحيدُ فهوَ في اللغةِ: مصدرُ وَحَّدَ الشيءَ إذا جعَلهُ واحدًا ، وفي الشرعِ: إفرادُ اللهِ سبحانَه بما يَخْتَصُّ بهِ مِنَ الرُّبوبِيَّةِ والأُلُوهِيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ ، واللفظ الدال على ما يختص به في لسان الشرع هو الحق كما سيأتي في حديث معاذ رضي الله عنه.
فالصحيح أن يقال في تعريف التوحيد شرعاً: هو إفراد الله بحقوقه، ومن هنا سمى المصنف -رحمه الله- كتابه (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد).
وحقوق الله عز وجل ثلاثة : حق ربوبية ، وحق ألوهية ، وحق أسماء وصفات، وبرعايتها تميز تقسيم التوحيد. ا.هـ
فهو ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: الأول توحيدُ الربُوبِيَّةِ ، الثاني توحيدُ الأُلوهيَّةِ ، الثالث توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ ، وقد اجْتَمَعت هذه الأقسام الثلاثة في قولِهِ تعالَى: {رَبِّ السَّمَواتِ والأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.
فأما القسمُ الأولُ وهو: توحيدُ الرُّبوبيَّةِ ؛ فهو إفرادُ الله - عَزَّ وجلَّ - بالخلْقِ، والْمُلْكِ، والتَّدبيرِ.
- وإفرادُهُ بالخَلْق: هو أنْ يَعْتَقِدَ الإنسانُ أنَّهُ لا خالقَ إلاَّ اللهُ، قالَ تعالَى: {أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ} فهذه الجملةُ تفيدُ الحصرَ، لتقديمِ الخبرِ؛ إِذ إنَّ تقديمَ ما حقُّهُ التأخيرُ يُفيدُ الحصرَ ، وقالَ تعالَى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض} وهذه الآيَةُ أيضاً تُفيدُ اختصَاصَ الخَلقِ بِاللهِ؛ لأنَّ الاستفهامَ فيها مُشْرَبٌ معنى التَّحَدِّي.
أمَّا ما ورَدَ منْ إثباتِ خالِقٍ غيرِ الله كقولِهِ تعالَى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} ، وكقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في المُصَوِّرِين أنه يقالُ لهم: " أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ " ؛ فهذا لَيس خلقًا حقيقةً، ولا إيجادًا بعدَ عَدَمٍ، بلْ هوَ تحويلٌ للشيءِ مِنْ حالٍ إلى حالٍ، وأيضًا ليسَ شاملاً، بلْ هو محصورٌ بدائرة ضيقة فيما يتمكَّنُ الإنسانُ منهُ، فلا يُنافي قولَنا: إفرادُ اللهِ بالخلقِ.
- وأما إفرادُ اللهِ بالْمُلْكِ: فهو أنْ نعتقدَ أنَّهُ لا يَملكُ الخلقَ إلاَّ خالقُهم، كما قال تعالَى: {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقال تعالَى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}.
وأما ما ورَدَ مِنْ إثباتِ المِلكيَّةِ لغيرِ اللهِ كقولِهِ تعالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}، وقال تعالَى: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} فهُوَ مُلْكٌ مَحدودٌ لا يَشْمَلُ إلاَّ شيئًا يَسيرًا مِنْ هذهِ المخلوقاتِ، فالإنسانُ يمَلِكُ ما تَحْتَ يَدِهِ، ولا يَمْلِكُ ما تَحتَ يدِ غيرِهِ، وكذا هُو مُلكٌ قاصرٌ مِنْ حيثُ الوصفُ، فالإنسانُ لا يَمْلِكُ ما عندَه تمامَ الملْكِ، ولهذا لا يَتَصرَّفُ فيهِ إلاَّ عَلَى حَسَبِ ما أُذِنَ لهُ فيهِ شَرْعًا؛ فلوْ أرادَ أنْ يُحْرِقَ مالَه، أوْ يُعذِّبَ حَيوانَه، قُلنا: لا يجوزُ، أمَّا اللهُ فَهو يَملِكُ ذلِكَ كُلَّه مُلكًا عَامًّا شامِلاً.
- وأمَّا إِفرادُ اللهِ بالتدبيرِ: فهُو أنْ يعتقدَ الإنسانُ أنَّهُ لا مُدَبِّرَ إلاَّ اللهُ وحدَه، كما قال تعالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّماءِ والأَرْضِ أمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ... } إلى قولِهِ: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
وأمَّا تدبيرُ الإنسانِ فمحصورٌ بِما تحتَ يدِهِ، ولا يتصرف إلا بما أُذِن لَه فيهِ شَرْعًا.
وهذه الأمور الثلاثة ؛ الخلق ، والملك ، والتدبير هي أصول توحيد الربوبية وإليها ترجع أفراد الأفعال الإلهية، فمن قال في تعريف توحيد الربوبية: هو إفراد الله بأفعاله فقد جمع مع الوجازة الإصابة. ا.هـ
وهَذا القِسمُ مِنَ التوحيدِ لَم يُعَارِضْ فيهِ المشركون الذينَ بُعِثَ فيهم الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بلْ كانوا مُقرِّين بِهِ، قال تعالَى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} ، فهُم يُقِرُّون بأنَّ اللهَ هُو الذي يُدبِّرُ الأمرَ،وهُو الذي بِيدِهِ ملكوتُ السماواتِ والأرضِ ، ولَم يُنكرْهُ أَحَدٌ معلومٌ مِنْ بني آدمَ، فَما قال أحَدٌ مِنَ المخْلوقينَ: إنَّ للعالَمِ خالِقَينِ متساوِيَيْن، ولا جحد أَحدٌ توحيدَ الربوبيَّةِ لا عَلى سبيلِ التَّعطيلِ، ولا عَلَى سبيلِ التَّشريكِ، إلاَّ:
أ- ما حَصَل مِنْ فِرعَوْنَ ؛ فإِنَّه أنكَرَه على سبيلِ التعطيلِ مُكابرةً، فإِنه عطَّل اللهَ مِنْ ربوبيتهِ، وأنكَر وجودَه، قالَ تعالَى حِكايَةً عنه: {فَقَالَ أَنا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}، {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وهَذا مُكابرةٌ منهُ؛ لأنهُ يَعْلَمُ أنَّ الرَّبَّ غيرُهُ، كما قال اللهُ تعالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، وقالَ تعالَى حِكايَةً عَنْ مُوسى وَهو يُنَاظِرُهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، فَهو في نفسِهِ مُقِرٌّ بأنَّ الرَّبَّ هُو اللهُ عزَّ وجلَّ.
ب- وإلا ما حصلَ من المجوسِ: فإنهم أنكروا توحيدَ الربوبيَّةِ على سبيلِ التَّشريكِ حيثُ قالوا: إنَّ للعالَمِ خَالِقَينِ هُما الظُّلْمَةُ والنُّورُ، ومَع ذلكَ لَمْ يَجْعَلُوا هَذين الخالِقَين مُتساويينِ، فَهم يقولونَ: إنَّ النُّورَ خيرٌ مِنَ الظُّلْمَةِ؛ لأنَّهُ يَخْلُقُ الخيرَ، والظُّلمةَ تَخْلُقُ الشَّرَّ، والذي يَخْلُقُ الخيرَ خيْرٌ مِنَ الذي يَخْلُقُ الشَّرَّ ، وأيضًا: فإنَّ الظُّلمةَ عدَمٌ لا يُضِيءُ، والنُّورَ وجودٌ يُضِيءُ، فهُو أكْمَلُ في ذاتِهِ، ويقولونَ -أيضًا- بفرقٍ ثالثٍ، وهوَ: أنَّ النورَ قديمٌ على اصطلاحِ الفلاسِفةِ ، واختلَفوا في الظُّلمَةِ هَل هِيَ قديمةٌ، أوْ مُحْدَثَةٌ؟ علَى قولَين:
ودلالةُ العقلِ علَى أنَّ الخالِقَ للعالَمِ واحدٌ ظاهرة جليلة، ذكرها الله عز وجل في كتابه فقال: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، إذْ لَو أَثْبَتْنا أن للعالَمِ خالِقَين لكانَ كلُّ خالِقٍ يريدُ أنْ ينفردَ بِما خلَق، ويَسْتَقلَّ بهِ كعادةِ الملوكِ؛ إذْ لا يَرْضَى أنْ يُشارِكَهُ أحَدٌ، وإذا استقلَّ بهِ فإنَّهُ يريدُ - أيضًا - أنْ يكونَ السلطانُ لَه لا يُشارِكُهُ فيهِ أحدٌ، وحينئذٍ إذا أراد السلطانَ غيره فإما أنْ يَعْجِزَ كُلُّ واحدٍ منهما عَن الآخرِ، أوْ يُسَيْطِرَ أحدُهُما على الآخرِ، فإن سَيْطَرَ أحدُهما على الآخرِ ثبَتَت له الربوبيَّةُ دون الآخر، وإنْ عَجَز كلٌّ منهما عن الآخرِ زالَت الربوبيَّةُ عنهُما جَميعًا؛ لأنَّ العاجِزَ لا يَصلُحُ أنْ يكونَ رَبًّا.
أما القسمُ الثاني فهو: توحيدُ الأُلوهيَّةِ ، ويقالُ لهُ: توحيدُ العبادةِ أيضاً، فباعتبارِ إضافتِهِ إلى اللهِ يُسَمَّى: توحيدَ الألوهيَّةِ، وباعتبارِ إضافتِهِ إلى الخلْق يُسَمَّى توحيدَ العِبَادةِ ، وحقيقته: إفرادُ اللهِ - عزَّ وجلَّ - بالعبادةِ، فالْمُستَحِقُّ للعبادةِ هُو اللهُ، قالَ تعالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله كما في الدرر السنِيَّة (1/291): توحيد العبادة هو:إفراد الله سبحانه بأنواع العبادة، وهو نفس العبادة المطلوبة شرعاً، ليس أحدهما دون الآخر ، ولهذا قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناه: التوحيد .
وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون ، وأما العبادة من حيث هي؛ فهي أعم من كونها توحيداً عموماً مطلقاً، فكل موحد عابد لله، وليس كل من عبد الله يكون موحداً ، ولذا يقال عن المشرك إنه يعبد الله؛مع كونه مشركاً، كما قال الخليل: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}[الشعراء:75-77] فاستثنى الخليل ربه من معبوداتهم، فدل على أنهم يعبدون الله.
والعبادة في لسان العرب: الخضوع والذل، ومنه قول طرفة في معلقته:

إلى أَن تَحامَتْني العَشيرَةُ كُلُّها ... وَأُفْرِدتُ إفرادَ البَعيرِ المُعَبَّـدِ
وتُطلَقُ في الشرع علَى شَيئَيْنِ:
الأولُ: التعبُّدُ بِمعنى التذلُّلِ للهِ -عَزَّ وجلَّ- بفعلِ أوامرِهِ، واجْتنابِ نواهيهِ، مَحَبَّةً وتعظيمًا.
الثاني: المُتَعَبَّدُ بهِ، ومعناها -كما قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحِمه اللهُ-: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويَرْضَاهُ، مِنَ الأقوالِ، والأعمالِ الظاهرةِ، والباطنةِ.
مثالُ ذلكَ: الصلاةُ، ففعلُها عبادةٌ، وهوَ التعبُّدُ، ونَفسُ الصلاةِ عبادةٌ، وهُو المُتَعَبَّدُ بهِ.
فإفرادُ اللهِ بهذا التوحيدِ حقيقة هو: أنْ تكونَ عبدًا للهِ وحدَه تُفْرِدُهُ بالتذلُّلِ محبةً وتعظيمًا، وتَعْبُدُهُ بما شرَع ، قالَ تعالَى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} ، وقال تعالَى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فَوصْفُهُ -سُبحانَه- بأنَّهُ ربُّ العَالمِين كالتعليلِ لثُبوتِ الألوهيَّةِ لهُ، فهوَ الإلهُ؛ لأنّه ربُّ العَالمين ، وقال تعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، فالمنفردُ بالخلق هوَ المستحقُّ للعبادةِ؛ إذْ مِن السَّفَهِ أنْ تَجْعَلَ المخلوقَ الحادِثَ الآيِلَ للفَناءِ إلهًا تَعبُدُهُ، فَهو في الحقيقةِ لَن يَنْفَعَكَ لا بإيجادٍ ولا بإعدادٍ ولا بإمدادٍ، فمِنَ السَّفَهِ أنْ تأتيَ إلى قَبْر إنسانٍ صارَ رَميمًا تدعوهُ وتَعْبُدُهُ، وهوَ بحاجةٍ إلى دعائِكَ، وأنتَ لستَ بحاجةٍ إلى أنْ تدعُوَه، فهُوَ لا يَمْلِكُ لنفسِهِ نَفعًا ولا ضَرًّا فكيفَ يَمْلِكُهُ لغيرِهِ؟
وهذا القِسمُ كَفَرَ بهِ وجَحَدَه أكثرُ الخَلْقِ، ومِنْ أجلِ ذلكَ أرسلَ اللهُ الرسلَ، وأنزلَ عليهم الكتُبَ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنا فَاعْبُدُونِ} ، ومَعَ هذا فأتْباعُ الرُّسُلِ قِلةٌ قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: " رأيْتُ النَّبيَّ ومَعهُ الرَّهْطُ، والنبيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنَّبيَّ وَليْسَ مَعَه أَحَدٌ " .
ومِنَ العجَبِ أنَّ أكثرَ المُصَنِّفِين في عِلمِ التَّوحيدِ مِنَ المتأَخِّرين تعظم عنايتهم بتوحيدِ الربوبيَّةِ، وكَأنَّما يُخاطِبون أقوامًا يُنْكِرون وجودَ الرَّبِّ -وإنْ كانَ يوجدُ مَنْ يُنكِرُ الربَّ- لكنَّ أكثَرَ المسلمينَ واقعون في شِرْكِ العبادةِ ، ولهذا ينبغي أنْ يعتنى بهذا النوعِ مِنَ التوحيدِ، حَتى نُخْرِجَ إليهِ هؤلاء المسلمين الذينَ يقولون بأنَّهم مسلمونَ، وهُم مُشركون ولا يَعْلَمُون.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما في الدرر السنية (2/125): توحيد الربوبية أقر به الكافر والمسلم ، أمّا توحيد الألوهيّة فهو الفارق بين الكفر والإسلام، فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا وهذا؛ لأنّ قولك: لا يخلق ولا يرزق إلا الله؛ لا يصيرك مسلماً، حتى تقول لا إله إلا الله، مع العمل بمعناها؛ فهذه الأسماء؛ كل واحد منها له معنى يخصه .
أما القسمُ الثالثُ فهو توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ ، وهُو إفرادُ اللهِ - عَزَّ وجلَّ - بِمَا لَهُ مِن الأسماءِ والصِّفاتِ، وَهذا يَتَضَمَّنُ شيئينِ:
الأولُ: الإثباتُ،وذلكَ بأنْ نُثْبِتَ للهِ عزَّ وجلَّ جميعَ أسمائِهِ وصفاتِهِ التي أثْبَتَها لنفسِهِ في كتابهِ أوْ سنَّةِ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
الثاني: نَفْيُ المماثلةِ، وذلكَ بأنْ لا نَجْعَلَ للهِ مَثيلاً في أسمائِهِ وصفاتِهِ، كما قال تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، فدلَّت هذهِ الآيَةُ على أنَّ جميعَ صفاتِهِ لا يُماثِلُهُ فيها أحدٌ مِنَ المخلوقينَ، فهيَ وإن اشتركتْ في أصلِ المعنى، لكنْ تَخْتَلِفُ في حقيقةِ الحالِ، فمَنْ لم يُثْبِتْ ما أثْبَتَه اللهُ لنفسِهِ فهوَ مُعَطِّلٌ، وتعطيلُهُ هذا يُشْبِهُ تعطيلَ فرعونَ ، ومَنْ أثْبتَها مَع التشبيهِ صارَ مُشابِهًا للمشركين الذينَ عَبَدوا مَع اللهِ غيرَه، ومَنْ أثبتَها بدونِ مُماثلةٍ صارَ مِنَ الموحِّدِين.
وهذا القسْمُ مِنَ التوحيدِ ضَلَّتْ فيهِ طوائف من بعضِ الأُمةِ الإسلاميَّةِ، وانقسَموا إلى فِرَقٍ كثيرة :
- فَمِنهم مَنْ سَلَكَ مَسلكَ التَّعطيلِ فعطَّلَ ونَفَى الصفاتِ زاعِمًا أنّه مُنـَزّهٌ للهِ، وقدْ ضَلَّ؛ لأنَّ المُنَـزِّهَ حقيقةً هُو الذي يَنْفِي عَنه صفاتِ النَّقصِ والعيبِ، ويُنـَزِّهُ كلامَه مِنْ أنْ يكونَ تعْمِيَةً وتَضْليلاً، فإذا قال: بأنّ اللهَ ليسَ لَه سَمْعٌ، ولا بَصَرٌ، ولا عِلمٌ، ولا قُدْرةٌ، لم ينَزهِ اللهَ، بَلْ وصَمَه بِأعيَبِ العيوبِ، ووصَم كلامَه بالتعميَةِ والتضليلِ؛ لأنَّ اللهَ يُكَرِّرُ ذلكَ في كلامِهِ، ويُثْبِتُهُ فيقول: {سَمِيعٌ بَصيرٌ} ويقول: {عَزيزٌ حَكِيمٌ} ويقول: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فإِذا أثبته في كلامِهِ وهُو خالٍ منهُ، كان في غايَةِ التَّعمِيَةِ والتضليلِ والقَدْحِ في كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
- ومِنهم مَنْ سَلَكَ مسلَكَ التمثيلِ زاعِمًا بأنّه محقِّقٌ لما وصَفَ اللهُ بهِ نفسَه، وقدْ ضلُّوا؛ لأنَّهم لَم يَقْدُروا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ؛ إذ وصَمُوهُ بالعيبِ والنقصِ؛ حيث جَعلوا الكامِلَ مِنْ كلِّ وجهٍ كالناقِصِ مِنْ كلِّ وجهٍ ، وإذا كان اقترانُ تفضيلِ الكاملِ على الناقِص يَحُطُّ منْ قدرِهِ، كما قيل:

ألَمْ تَرَ أن السيفَ يَنْقُـصُ قَـدْرُهُ إذا قِيلَ إن السيفَ أمْضَى مِنَ العَصَا

فكيفَ بتمثيلِ الكامِلِ بالناقِصِ؟ وهذا أعظَمُ ما يكونُ جِنايَةً على اللهِ عزَّ وجلَّ، وإنْ كان المُعَطِّلُونَ أعظمَ جُرْمًا، لكنَّ الكلَّ لَم يَقْدُرِ اللهَ حقَّ قدْرِهِ.
فالواجبُ أنْ نؤمنَ بما وصَف اللهُ وسَمَّى بهِ نفسَه في كتابِهِ، وعلَى لسانِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ.
(1) قولُهُ: {إلاَّ لِيعْبُدُونِ} استثناءٌ مُفرَّغٌ مِنْ أعمِّ الأحوالِ، أيْ: ما خَلَقْتُ الجنَّ والإنسَ لأيِّ شيءٍ؛ إلاَّ للعبادةِ ، واللامُ في قولِهِ: {إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} للتعليلِ، وهو لبيانِ الحكمةِ مِن الْخَلْقِ، وليسَ التعليلَ الملازِمَ للمعلولِ؛ إذْ لوْ كانَ كذلكَ لَلَزِمَ أنْ يكونَ الخلْقُ كلُّهم عُبَّادًا للهِ يَتَعَبَّدونَ لَه، وليسَ الأمرُ كذلكَ، فهذه العلَّةُ غائيَّةٌ، وليسَت مُوجِبةً ؛ فالعلَّةُ الغائيَّةُ لبيانِ الغايَةِ والمقصودِ مِنْ هذا الفعلِ، لكنَّها قدْ تَقَعُ، وقدْ لا تَقَعُ، مثلَ: بَرَيْتُ القلمَ لأكْتُبَ بهِ، فقَد تَكْتُبُ، وقدْ لا تَكْتُبُ ، والعلَّةُ الموجِبةُ معناها أنَّ المعلولَ مبنيٌّ عليها، فلا بدَّ أنْ تقعَ، وتكونَ سابقةً للمعلولِ، وملازمةً لهُ، مثلُ: انْكسَرَ الزُّجاجُ لِشدَّةِ الحَرِّ.
وقولُهُ: {إِلاَّ لِيعْبُدُونِ} فُسِّر: إلاَّ ليوَحِّدُونِ، وَهَذا حقٌّ، وفُسِّرَ بِمَعنى: يَتَذَلَّلُون لي بالطاعةِ فعلاً للمأمورِ، وترْكًا للمحظورِ، ومِنْ طاعتِهِ أن يُوَحَّدَ سبحانَه وتعالَى، فهذه هيَ الحكمةُ مِنْ خلقِ الجنِّ والإنسِ ، ولهذا أَعْطَى اللهُ البشرَ عُقولاً، وأرسلَ إليهم رُسلاً، وأنزلَ عليهم كُتُبًا، ولوْ كانَ الغرَضُ مِنْ خَلْقِهم كالغرضِ مِنْ خَلْقِ البهائِمِ، لضاعتِ الحكمةُ مِنْ إرسالِ الرُّسلِ، وإنزالِ الكُتُبِ؛ لأنَّهُ في النهايَةِ يكونُ كشجرةٍ نَبَتَتْ، فنَمَتْ، ثمَّ تحَطَّمَتْ ، ولهذا قال تعالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فلا بدَّ أنْ يَرُدَّكَ إلى معادٍ تُجازَى على عَملِكَ، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ ، وليسَت الحكمةُ مِنْ خلْقِهم نفْعَ اللهِ بذلك، ولهذا قال تعالَى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}.
وأما قولُهُ تعالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فهذا ليسَ إقراضًا للهِ سبحانَه، بلْ هوَ غنيٌّ عنه، لكنه سُبحانَه شبَّه معاملةَ عبدِهِ لهُ بالقَرْضِ؛ لأنَّهُ لا بدَّ مِنْ وفائِهِ، فكأنَّه التزامٌ مِن اللهِ سبحانَهُ أنْ يُوَفِّيَ العاملَ أجرَ عملِهِ، كما يُوَفِّي المُقْتَرِضُ مَنْ أَقْرَضَهُ.
(2) قوله: {أمَّةٍ} تُطْلَقُ الأمَّةُ في القرآنِ على معانٍ منها: الطائفةُ، كما في هذه الآيَةِ ؛ فكلُّ أمةٍ بُعِثَ فيها رسولٌ، مِنْ عَهدِ نوحٍ إلى عهدِ نبيِّنا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
والحكمةُ مِنْ إرسالِ الرُّسل تشتمل على ثلاث مقاصد:
الأول: إقامةُ الحُجَّةِ، قال تعالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
الثاني: الرحمةُ، لقولِهِ تعالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
الثالث: بيانُ الطَّريقِ المُوصِلِ إلى اللهِ تعالَى؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَعْرِفُ ما يَجِبُ للهِ على وجهِ التفصيلِ إلاَّ عنْ طريقِ الرُّسلِ.
قولُهُ: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ}، (أنْ): قيل: تفسيريَّةٌ،وهيَ التي سُبِقَتْ بما يدلُّ على القولِ دونَ حروفِهِ، كقولِهِ تعالَى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} والوحيُ فيهِ معنى القولِ دونَ حروفِهِ، والبعثُ متضمِّنٌ معنى الوحْيِ؛ لأنَّ كُلَّ رسولٍ مُوحًى إليهِ.
وقيل: إنَّها مصدريَّةٌ على تقديرِ الباءِ،أيْ: بأنْ اعبدوا، والراجحُ: الأوَّلُ لعدمِ التقديرِ.
قولُهُ: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} أيْ: تذَلَّلُوا لهُ بالعبادةِ، وسبقَ تعريفُ العبادةِ.
قولُهُ: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي: ابْتَعِدُوا عنه بأنْ تكونوا في جانبٍ، وهوَ في جانبٍ ، والطاغوتُ: مُشْتَقٌّ من الطُّغْيانِ، وهوَ صفةٌ مُشَبَّهةٌ ، والطغيانُ: مُجَاوَزةُ الحدِّ، كما في قولِهِ تعالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أيْ: تَجَاوَزَ حدَّهُ.
وأَجْمَعُ ما قِيلَ في تعريفِهِ، هوَ ما ذكرَه ابنُ القيِّمِ رحِمَهُ اللهُ، بأنَّهُ ما تجاوَزَ بهِ العبدُ حدَّهُ مِنْ متبوعٍ، أوْ معبودٍ، أوْ مُطاعٍ ، ومُرادُهُ مَنْ كان راضيًا بذلكَ، أوْ يقالُ: هوَ طاغوتٌ باعتبارِ عابدِهِ، وتابعِهِ، ومُطيعِهِ؛ لأنَّهُ تجاوَزَ بهِ حدَّهُ؛ حيثُ نزَّلهُ فوقَ مَنْزلتِهِ التي جَعَلها اللهُ لهُ، فتكونُ عبادتُهُ لهذا المعبودِ، واتَّباعُهُ لمتبوعِهِ، وطاعتُهُ لِمُطاعِهِ، طُغْيانًا لمجاوزتِهِ الحدَّ بذلكَ ، وقد يجتمع المعنيان فيكون طاغوتاً باعتبار عابده وتابعه ومطيعه، وطاغوتاً باعتبار رضاه بذلك.
فالمتبوعُ مثلُ: الكُهَّانِ، والسَّحَرةِ، وعلماءِ السُّوءِ ، والمعبودُ مثلُ: الأصنامِ ، والمطاعُ مثلُ: الأمراءِ الخارجينَ عَن طاعةِ اللهِ، فإذا اتَّخذهم الإنسانُ أربابًا يُحِلُّ ما حرَّمَ اللهُ منْ أجلِ تحليلِهم لهُ، ويُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ مِنْ أجلِ تحريمِهم لهُ، فهؤلاءِ طواغيتُ، والفاعلُ تابعٌ للطاغوتِ؛ قال تعالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَِالطَّاغُوتِ} ولمْ يقلْ: إنَّهُم طواغيتُ.
والتوحيدُ لا يَتِمُّ إلاَّ برُكْنيْنِ هما:
- الإثباتُ .
- النفْيُ .
إذ النفيُ المحضُ تعطيلٌ محضٌ، والإثباتُ المحضُ لا يمنعُ المشاركةَ ؛ مثالُ ذلكَ: (زيْدٌ قائمٌ) يدلُّ على ثبوتِ القيامِ لزيدٍ، لكنْ لا يدلُّ على انفرادِهِ بهِ ، و(لَم يقُمْ أحدٌ) هذا نفيٌ محضٌ، و(لمْ يقُمْ إلاَّ زيدٌ) هذا توحيدٌ لهُ بالقيامِ؛ لأنَّهُ اشْتَملَ على إثباتٍ ونفيٍ.
ووجهُ الاستشهادِ بهذه الآيَةِ لكتابِ التوحيدِ أنَّها دالَّةٌ على إجماعِ الرسلِ -عليهمُ الصلاةُ والسلامُ- على الدعوةِ إلى التوحيدِ، وأنَّهُم أُرْسِلوا بهِ لقولِهِ تعالَى: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
(1) قولُه: {وقَضَى} قضاءُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- يَنْقَسِمُ إلى قسمين: الأول قضاءٌ شَرْعِيٌّ ، الثاني قضاءٌ كَوْنيٌّ.
فالقضاءُ الشرعيُّ: يجوزُ وقوعُه مِن المَقْضِي عليه وعدمُه، ولا يكونُ إلا فيما يحبُّه اللهُ ، كالمذكور في هذه الآيةِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} فتكونُ {قَضَى} بمعنى: شرَع، أو بمعنى: وصَّى، وما أشْبَهَهما.
والقضاءُ الكونيُّ: لابُدَّ من وقوعِه، ويكونُ فيما أحَبَّه اللهُ وفيما لا يُحِبُّه كقولِه تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} ، فالقضاءُ هنا كونيٌّ؛ لأنَّ اللهَ لا يَشْرَعُ الفسادَ في الأرضِ، ولا يُحِبُّه.
فإن قيل: ثبتَ أنَّ اللهَ قَضَى كَونًا ما لا يُحِبُّه، فكيف يَقْضِي اللهُ ما لا يُحِبُّه؟
والجوابُ: أنَّ المحبوبَ قسمانِ: أحدهما محبوبٌ لذاتِه ، والآخر محبوبٌ لغيرِه ، فالمحبوبُ لغيرِه قد يكونُ مَكْرُوهًا لذاتِه، ولكن يُحَبُّ لما فيه مِنَ الحكمةِ والمصلحةِ، فيكون حينئذٍ محبوبًا مِن وجهٍ؛ مكروهًا مِن وجهٍ آخرَ ؛ كالفسادِ في الأرضِ الذي وقع مِن بني إسرائيلَ هو في حدِّ ذاتِهِ مكروهٌ للهِ؛ لأنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفسادَ، ولكنْ للحكمةِ التي يَتَضَمَّنُها وكان محبوبًا إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- مِن وجهٍ آخرَ ، ومِنْ ذلك: القحطُ، والجدْبُ، والمرَضُ، والفقْرُ؛ لأنَّ اللهَ رحيمٌ لا يُحِبُّ أنْ يُؤْذِيَ عبادَه بشيءٍ مِن ذلك، بل يريدُ بعبادِه اليُسرَ، لكن يُقَدِّرُه للحِكَمِ المُتَرَتِّبةِ عليه، فيكونُ محبوبًا إلى اللهِ من وجهٍ، مكروهًا مِن وجهٍ آخر ، قال اللهُ تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
والشاهدُ من هذه الآيةِ قولُه تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} فهذا هو التوحيدُ لتضمُّنِه للنفيِ والإثباتِ.
(2) قولُه: {وَلا تُشْرِكُوا} في مقابلِ (لا إِلَهَ) لأنها نفيٌ ، وقولُه: {وَاعْبُدُوا}في مقابلِ (إِلا اللهُ) لأنها إثباتٌ ، وقولُه: {شَيْئًا} نكرةٌ في سياقِ النهيِ، فتعُمُّ كلَّ شيءٍ: لا نبيًّا، ولا مَلَكًا، ولا وليًّا، بل ولا أمرًا مِن أمورِ الدُّنيا، فلا تَجْعَلِ الدُّنيا شَريكًا مَع الله ، والإنسانُ إذا كان هَمُّه الدنيا كان عابدًا لها؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " تَعِسَ عبدُ الدنيارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرهَمِ، تَعِسَ عَبدُ الخَمِيلةِ، تَعِسَ عبدُ الخَمِيصَة " .
(3) الخطابُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أمرَه اللهُ أنْ يقولَ للناسِ: {تَعَالَوْا} أي: أَقْبِلوا، وهَلُمُّوا، وأصلُه من العلوِّ كأنَّ المناديَ يُنَادِيكَ أنْ تَعْلُوَ إلى مكانِه، فيقولُ: تَعَالَ، أي: ارْتَفِعْ إليَّ ، وقولُه: {أَتْلُ} بالجزمِ جوابًا للأمرِ في قولِهِ: {تَعَالَوْا} ، وقولُه: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} {ما} اسمٌ موصولٌ مفعولٌ لأَتْلُ، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: ما حَرَّمَهُ رَبُّكم عليكم ، وقال: {رَبُّكُمْ} ولم يقلْ: ما حَرّمَ اللهُ؛ لأنَّ الرَّبَّ هنا أنسبُ؛ حيثُ إنّ الربَّ له مُطْلَقُ التصرفِ في المربوبِ والحكمُ عليه بما تَقْتَضِيه حكمتُه ، قولُه: {أَلا تُشْرِكُوا} أنْ: تفسيريةٌ، تُفَسِّرُ {أتل} أي: أتلو عليكم ألا تُشْرِكوا به شيئًا، وليستْ مصدريةً، وقد قيل به، وعلى هذا القولِ تكونُ (لا) زائدةً، ولكنَّ القولَ الأولَ أصحُّ أي: أتلُ عليكم عدَمَ الإشراكِ؛ لأنَّ اللهَ لم يُحَرِّمْ علينا أنْ لا نُشْرِكَ بهِ، بل حَرَّمَ علينا أن نُشْرِكَ به، ومما يُؤَيِّدُ أنَّ (أن) تفسيريةٌ أن (لا) هنا ناهيةٌ لتَتَنَاسَبَ الجُمَلُ، فتكونَ كلُّها طلبيةً.
وقد تضمنت هذه الآيات خمس وصايا في الآية الأولى:
الأولى: توحيد الله.
الثانية: الإحسان بالوالدين.
الثالثة: أن لا نقتل أولادنا.
الرابعة: أن لا نقرب الفواحش.
الخامسة: أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
وأربعُ وصايا في الآية الثانية:
الأولى: أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
الثانية: أن نوفي الكيل والميزان بالقسط.
الثالثة: أن نعدل إذا قلنا.
الرابعة: أن نوفي بعهد الله.
ثم قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} وهذه هي الوصيةُ العاشرة.
فقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} يحتمل أنّ المشارَ إليه ما سبق؛ لأنك لو تأملتَه وجدته محيطًا بالشرعِ كله إما نصًّا، وإما إيماءً.
ويُحتمل أنّ المرادَ به ما عُلِمَ من دين الله، أي: هذا الذي جاءكم بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هو صراطي، أي الطريقُ الموصلُ إليه سبحانه وتعالى.
قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: ذلك المذكورُ وصاكم به لتنالوا درجةَ التقوى، والالتزامِ بما أمر اللهُ به ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
(4) قوله: ( وصيةِ مُحَمَّدٍ ) الوصيةُ بمعنى: العهدِ، ولا يكون العهدُ وصيةً إلا إذا كانَ في أمرٍ مهمٍّ ، وقوله: ( الّتي عَلَيها خاتَمهُ ) الخاتم: بمعنى التوقيع ، وهي ليست وصيةً مكتوبةً مختومًا عليها، لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لم يوصِ بشيءٍ، لكن ابن مسعودٍ رضيَ الله عنهُ يرى أنّ هذه الآياتِ قد شمِلت الدِّين كُلّه فكأنها الوصيةُ التي ختَمَ عليها رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وأبقاها لأُمَّته ، وهيَ آياتٌ عظيمةٌ إذا تدبرها الإنسانُ وعمِل بها حصَلت له الأوصافُ الثلاثةُ الكاملةُ العقلُ والتذكُّرُ والتَّقوى.
(5) قولهُ: ( رديف ) بمعنى رادفٍ أي: راكبٌ معه خلفَه، فهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ مثل: رحيمٍ بمعنى راحمٍ، وسميعٍ بمعنى سامعٍ.
قوله: " ما حَقُّ اللهِ عَلَى العبادِ " أي: ما أوجَبه عليهِم، وما يجبُ أن يعاملوه به، وألقاه على معاذٍ بصيغةِ السؤالِ ليكون أشدَّ حضورًا لقلبِه، حَتى يفهَم ما يقوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ .
قوله: " وما حَقُّ العِبادِ علَى اللهِ؟ " أي ما يجبُ أن يعاملَهم به، والعبادُ لم يوجبوا شيئًا، بل اللهُ أوجبه على نفسِه فضلاً منه على عبادِه، قالَ تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ فأوجبَ سبحانَه على نفسِه أنْ يرحمَ مَنْ عمِل سوءًا بجهالةٍ أي: بسَفَهٍ وعدَم حُسنِ تصرفٍ ثم تابَ مِن بعدِ ذلك وأصلَح ، ومعنى {كتَب} أي: أوْجبَ ، قال ابن تيمية: كون المطيع يستحق الجزاء فهو استحقاق إنعام وفضل من الله، ليس استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق.
قوله: " يَعْبُدُوهُ " أي: يتذللوا له بالطاعةِ ، قوله: " وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " أي: في عبادتهِ وما يختصُّ به، وشيئًا نكرة في سياق النفي، فتعمُّ كلَّ شيءٍ لا رسولاً ولا ملكًا ولا وليًّا ولا غيرهم.
وقوله: " وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " وهذا الحقُّ تفضلَ اللهُ به على عبادِه، ولم يوجبه عليه أحدٌ، ولا تظن أن قوله: " مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " أنه مجردٌ عن العبادةِ؛ لأن التقدير: مَنْ يعبدُه ولا يشركُ به شيئًا، ولم يذكر قوله: (من يعبده) لأنه مفهومٌ من قوله: " وَحَقُّ العِبَادِ " ومن كان وصفُه العبوديةَ فلا بد أن يكون عابدًا ، ومَن لَم يعبدِ اللهَ ولَم يُشرك بهِ شيئًا هل يعذبْ؟ الجوابُ: نعم، يُعذب لأن الكلامَ فيه حذفٌ، وتقديرُه: (مَن يعبده ولا يُشْرِكُ به شيئاً) ،ويدلُّ لهذا أمران:
الأولُ: قوله: " حَقُّ العِبَادِ " ومن كان وصفُه العبوديةَ فلا بد أن يكون عابدًا.
الثاني: أن هذا مقابلٌ لما تقدم: " أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " فَعُلِمَ أنّ المرادَ بقوله: " لا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " أي في العبادة.
ومعنى الحديث: أنّ الله لا يعذبُ من لا يشرك به شيئًا، وأنّ المعاصي تكون مغفورة بتحقيقِ التوحيدِ، ونَهى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عن إخبارهم لئلا يتكلوا على هذه البشرى؛ لأنّ تحقيقَ التوحيد يستلزمُ اجتناب المعاصي؛ والمعاصي صادرةٌ عن الهوى، وهذا نوعٌ مِن الشرك، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، ومناسبةُ الحديثِ للترجمة: بيانُ فضيلةِ التوحيدِ، وأنه مانعٌ من عذابِ الله.
(6) فيه مسائل:
الأولى: (الحكمةُ من خلقِ الجن والإنس) لقوله: {ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}، فالحكمةُ هي عبادةُ الله، لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكحِ.
(7) والثانيةُ: (أنّ العبادة هي التوحيد) أي أنّ العبادةَ مبنيّةٌ على التوحيد، فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعبادة، لا سيما وأنّ بعضَ السَّلف فسَّروا قوله تعالى: {إِلا لِيَعْبُدُونِ} إلا ليوحدون ، وهذا مطابقٌ تمامًا لما استنبطه المؤلِّف - رحمه الله - مِن أنّ العبادة هي التوحيد، فكل عبادةٍ لا تُبنى على التوحيدِ فهي باطلة، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " قال الله تعالى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " .
وقوله: (لأنّ الخصومة فيه) أي بينَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وقريش، فقريشٌ يعبدون الله يطوفون له ويُصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي، فهي كالعدم، لعدم الإتيان بالتوحيد، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ}.
(8) وقوله في الثالثةِ: (ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}) لَستم عابدين عبادتي، لأنّ عبادتكم مبنيةٌ على الشِّرك، فليست بعبادة لله تعالى.
(9) الرابعةُ: (الحكمة في إرسالِ الرسلِ) أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فالحكمةُ هي: الدعوةُ إلى عبادةِ الله وحده، واجتنابُ عبادةِ الطاغوتِ.
(10) الخامسةُ: (أنّ الرسالة عمت كل أمةٍ) أخذَها من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً}.
(11) السادسة: (أنّ دينَ الأنبياءِ واحدٌ) أخذها من قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، ومثله قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ؛ لأنّ الشرعة العملية تختلفُ باختلاف الأممِ والأماكنِ والأزمنةِ ، وأما أصلُ الدِّين فواحدٌ، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
(12) السابعة: (المسألة الكبيرة أن عبادةَ الله لا تحصُل إلا بالكفرِ بالطاغوت) ودليله قوله -تعالى-: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فمَن عبدَ الله ولَم يكفر بالطاغوتِ فليس بموحدٍ، ولهذا جَعل المؤلفُ رحمه الله هذهِ المسألة كبيرةً؛ لأنّ كثيرًا مِن المسلمين جَهِلها في زمانِه وفي زماننا الآن.
(13) الثامنةُ: (أنّ الطاغوتَ عامٌّ في كل ما عُبِدَ مِن دونِ الله) فكل ما عُبد مِن دونِ اللهِ فهو طاغوتٌ، وقد عرَّفه ابن القيم بأنه كلُّ ما تجاوزَ به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ.
فالمعبودُ : كالصنمِ ، والمتبوعُ : كالعالِم ، والمطاعُ : كالأميرِ.
(14) التاسعةُ: (عِظمُ شأنِ الثلاثِ آياتٍ المحكماتِ في سورة الأنعام) (المحكماتُ) أي التي ليسَ فيها نسخٌ، أَخَذَ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
(15) العاشرةُ: (الآياتُ المحكماتُ في سورةِ الإسراءِ) وهيَ قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}.
(16) ( وفيها ثماني عَشرة مسألةً، بدأَها بقوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} وختَمها بقولِه تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا}، وقد نَبّهَنا الله سبحانه على عِظم شَأنِ هذه المسائلِ بقوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}) .
فبدأها اللهُ بالنهيِ عن الشركِ بقوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} والقاعدُ ليس قائمًا، لأنه لا خيرَ لِمن أشركَ بالله، مذمومًا عندَ الله وعندَ أوليائهِ، مخذولاً لا ينتصِر في الدنيا ولا في الآخرةِ ، وختَمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} فهذهِ عقوبتُه عندما يُلقى في النارِ كلٌّ يلومُه ويدحَرُه فيندحرُ والعياذُ بالله.
(17) الحاديةَ عشرةَ: (آيةُ سورةِ النساءِ التي تُسمَّى آيةَ الحقوقِ العشرةِ بدأها بقولِه تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا})
فأحقُّ الحقوقِ حقُّ الله، ولا تنفعُ الحقوقُ صاحبها إذا أدّاها إلا به، فبُدِئت هذه الحقوقُ به، ولهذا لما سألَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حكيمُ بن حزامٍ عمَّن كان يتصدقُ ويعتقُ ويصلُ رحِمه في الجاهليةِ هل له من أجرٍ؟ فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " أسْلَمْتَ على ما أسْلَفْتَ مِنَ الخيرِ " فدلّ على أنه إذا لم يُسْلِم لم يكنْ له أجرٌ، فصارتِ الحقوقُ كلها لا تنفعُ إلا بتحقيقِ حقِّ الله.
(18) الثانيةَ عشرةَ: ( التنبيهُ على وصيةِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند موته) وذلك مِن قولِ ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- ولكنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لم يوصِ بها حقيقةً، بل أشار إلى أننا إذا تَمسَّكنا بكتابِ الله فلنْ نَضلَّ بعده، ومِن أعظم ما جاءَ به كتابُ الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.
(19) الثالثة عشرةَ: (معرفةُ حقِّ الله علينا) وذلكَ بأن نعبُده ولا نشركَ به شيئًا.
(20) الرابعة عشرةَ: (معرفةُ حقِّ العبادِ عليه إذا أدّوا حقه) وذلكَ بأن لا يعذِّب مَن لا يشركُ به شيئًا، أما مَن أشركَ فإنه حقيقٌ أنْ يعذَّبَ.
(21) الخامسةَ عشرةَ: (أنَّ هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابةِ) وذلك أنَّ معاذًا أخبر بها تأثمًا، أي: خروجًا عَن إثمِ الكِتمان عند موته بعدَ أنْ مات كثيرٌ من الصحابة، وكان -رضي الله عنه- علم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشى أن يُفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يُرد -صلى الله عليه وسلم- كتمها مطلقًا، لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذًا ولا غيره.
(22) السادسةَ عشرةَ: (جوازُ كتمانِ العلمِ للمصلحةِ) إذْ إنَّ كتمان العلمِ على سبيل الإطلاق لا يجوزُ، لأنه ليس بمصلحةٍ، ولهذا أخبرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- معاذًا ولم يكتم ذلكَ مُطلَقًا.
وأما كتمان العلمِ في بعض الأحوال، أو عَن بعض الأشخاصِ لا على سبيل الإطلاق فجائزٌ للمصلحةِ، كما كَتَم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ذلك عَن بقيةِ الصحابة، خَشيةَ أنْ يَتَّكِلُوا عليه، وقال لمعاذ: " لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " .
(23) السابعة عشرةَ: ( استحبابُ بشارة المسلم بما يَسرُّهُ) لقوله: ( أَفَلا أُبَشِّر النَّاسَ؟) وهذه مِن أحسن الفوائدِ.
(24) الثامنة عشرةَ: ( الخوفُ من الاتكال على سعةِ رحمةِ اللهِ) وذلك لقوله: " لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " لأنّ الاتكالَ على رحمةِ الله يسبب مفسدةً عظيمةً، هي: الأمنُ مِن مكرِ الله.
(25) التاسعة عشرةَ: ( قولُ المسؤول عمّا لا يعلمُ: الله ورسوله أعلمُ) وذلك لإقرارِ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مُعاذًا لَمَّا قالها، ولم يُنكر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- على معاذٍ حيثُ عَطَفَ رسولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- على الله بالواو، وأنكرَ على مَن قال: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ ، وقال: " أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا، بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَه " ، فيقالُ: إنَّ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عنده عِلْمٌ من العلوم الشرعيةِ ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- على معاذٍ، بخلافِ العلوم الكونيةِ القدريةِ فالرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ليسَ عنده علمٌ منها.
فلو قيلَ: هل يحرُم صوْم العيدينِ؟ جاز أنْ نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أَشكلَتْ عليهم المسائل ذهبوا إلى رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فيبيِّنها لهم.
ولو قيلَ: هل يُتوقَّع نزول مطر في هذا الشهرِ؟ لم يَجُز أن نقولَ: الله ورسولُه أعلَم؛ لأنه مِن العلومِ الكونيةِ.
(26) العشرونَ: ( جوازُ تخصيص بعضِ الناسِ بالعلم دون بعضٍ) وذلكَ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خصَّ هذا العلم بمعاذ دونَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، فيجوزُ أنْ نخصِّص بعضَ الناس بالعلمِ دون بعضٍ، حيث إنَّ بعض الناس لو أخبرته بشيءٍ مِن العلم افتتن، قال ابن مسعودٍ: إِنَّكَ لَنْ تُحَدِّثَ قَوْمًا بِحَدِيثٍ لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ، وقال علي: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ. فيحدَّث كلُّ أحدٍ حسب مقدرتهِ وفهمهِ وعقلهِ.
(27) الحادية والعشرون: ( تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لركوبِ الحمار مع الإردافِ عليه) حيثُ ركِب الحمارَ وأردَفَ عليه، إذْ إنَّ عادة الكبراء عدَم الإردافِ، وركِب -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- الحمارَ، ولو شاء لركِب ما أراد، ولا منقصةَ في ذلك، إذْ إنَّ مَن تواضعَ لله -عزَّ وجلَّ- رفعهُ.
(28) الثانية والعشرون: ( جوازُ الإردافِ على الدابةِ) لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أردَف معاذًا، لكنْ يُشترط للإردافِ أنْ تكون الدَّابة قادرةً عليه، فإنْ لم تكن قادرةً لم يَجُزْ ذلكَ.
(29) الثالثة والعشرون: ( عِظمُ شأنِ هذه المسألة) حيثُ أخبرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- معاذًا، وجعلَها مِنَ الأمورِ التي يبشَّر بها.
الرابعة والعشرون: ( فضيلةُ معاذ) وذلكَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خصَّه بهذا العِلم، وأردَفه مَعه على الحمارِ.

هيئة الإشراف

#6

25 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 


قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (كتاب التوحيد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده، فأقاموا الحجة على العباد، واتفقوا من أولهم إلى آخرهم على أن لا معبود حق إلا الله، وعلى أن عبادة غيره باطلة، وأنه ما عُبِدَ غير الله؛ إلا بالبغي، والظلم، والعدوان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تأكيداً بعد تأكيد؛ لبيان مقام التوحيد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الكتاب، وهو كتاب التوحيد للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب، وهو غني عن التعريف؛ لما جعل الله -جل وعلا- لدعوته من أثر في شرق الأرض وفي غربها؛ وفي شمالها وفي جنوبها، ذلك أنها دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وكتاب التوحيد الذي نحن الآن بصددِ شَرْحه كتاب عظيم جدّاً، وأجمعت العلماء -أعني علماء التوحيد- على أنه لم يصنف في الإسلام في موضوعه مثله، فهو كتاب وحيد وفريد في بابه؛ لأنه -رحمه الله- طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة، وما يضاد ذلك التوحيد ؛ إما من أصله، وإما يضاد كماله، وهذا على نحو التفصيل الذي ساق به الشيخ -رحمه الله- تلك المسائل والأبواب، لم يوجد في كتاب على نحو سياقته مجموعاً ، ولهذا طالب العلم لا يستغني البتة عن هذا الكتاب، من جهة معرفته بمعانيه؛ لأنه مشتمل على الآي والحديث.
وقد شبه بعض العلماء هذا الكتاب؛ بأنه قطعة من صحيح البخاري رحمه الله، وهذا ظاهر في أن الشيخ -رحمه الله- جعل هذا الكتاب ككتاب البخاري من جهة أن الترجمة فيها آية وحديث، والحديث دال على الترجمة، والآية دالة على الترجمة، وما بعدها مفسر لها، وما ساق من كلام أهل العلم من الصحابة، أو من التابعين، أو من كلام أئمة الإسلام؛ فهو على نسق طريقة أبي عبد الله البخاري -رحمه الله- فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني.
هذا الكتاب صنفه إمام الدعوة ابتداءً في البصرة لما رحل إليها، وكان الداعي إلى تأليفه ما رأى من شيوع الشرك بالله -جل جلاله- ومن افتقاد التوحيد الحق في المسلمين، فرأى مظاهر الشرك الأكبر، والأصغر، والخفي، فابتدأ في البصرة جمع هذا الكتاب وتحرير الدلائل لمسائله، ذكر ذلك تلميذه وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في المقامات ، ثم حرره الشيخ -رحمه الله- وأكمله لما قدم نجداً، وصار هذا الكتابُ كتابَ دعوة، فهو يمثل الدعوة إلى التوحيد؛ لأن الشيخ رحمه الله:
- بيَّن فيه أصول دلائل التوحيد.
- بيّن فيه معناه وفضله، وبين ضده والخوف من ضده.
- بيّن أفراد توحيد العبادة وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالاً.
- وبين الشرك الأكبر وصوراً من الشرك الأكبر.
- وبيّن الشرك الأصغر وصوراً من الشرك الأصغر.
- وبيّن الوسائل.
- وبيّن حماية التوحيد وما يكون به.
- وبيّن أيضاً شيئاً من أفراد توحيد الربوبية.
فهذا الكتاب - كتاب التوحيد - كتاب عظيم جدّاً، ولهذا يَعْظُمُ أن تعتني به عنايةَ حفظ ودرس وتأمل؛ لأنك أينما كنت فأنت محتاج إليه؛ في نفسك، أو في تبليغ العلم لمن وراءك، سواءٌ كان ذلك في البيت، أم كان في المسجد، أم كان في العمل، أم في أي جهة، فمن فهم هذا الكتاب فهم أكثر مسائل توحيد العبادة، بل فهم جُلَّها وأغلبها.
نبتدئ الشرح، وقد كنت نظرت في كيفَ تكون طريقة شرح هذا الكتاب؟ والكتاب كما تعلمون طويل لا يمكن شرحه بتوسط، أو ببسط، في نحو ثمانية عشر درساً ، والعلماء الذين شرحوه وهم كُثُر، كانوا بين مطيل، ومتوسط، ومختصر، فنظرت في ذلك، فتقرر أن يكون الشرح فيه ذكرٌ للفوائد التي كثيراً ما تلتبس على طلبة العلم ، وفيه بيان مناسبة الآي والأحاديث للترجمة ، وفيه بيان وجه الاستدلال من الآية أو من الحديث على المقصود ، وفيه ذكر شيء من تقرير الحِجاج مع الخصوم في هذه المسائل ربما بما لا يطالعه كثير منكم في الشروح.
وهذه الطريقة التي سنسلكها طريقة مختصرة، سوف نأتي بها -إن شاء الله تعالى، ونسأله المدد منه والإعانة والتوفيق- سنأتي بها على الكتاب كله -بإذن الله- مع عدم الإخلال بإفهامه، وعدم الإخلال بمعانيه.

***

قَوْلُهُ: ( كِتَابُ التَّوْحِيدِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}) عادة المصنّفين والمؤلّفين أن يضَعُوا بعد البسملة والحمدلة خطبة للكتاب، يذكرون فيها طريقتهم في هذا الكتاب ومرادهم من تأليفه، وها هنا سؤال معروف، وهو أن الشيخ -رحمه الله- خالف طريقة المصنفين، فلم يجعل للكتاب خطبة يبين فيها طريقته، بل قال: (كِتَابُ التَّوْحِيدِ وَقَوْل اللهِ تَعَالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}) فأخلاهُ من الخطبة.
والسبب في ذلك والسرُّ فيه -فيما يظهر لي- أن التوحيد الذي سيبينه الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب هو توحيد الله -جل جلاله- وتوحيد الله بيَّنه في القرآن، فكان من الأدب في مقام التوحيد أن لا يجعل فاصلاً بين الحق والدالّ على الحق وكلام الدالّ عليه ؛ فالحق الذي لله هو التوحيد، والذي دلَّ على هذا الحق هو الله -جل جلاله- والدليل عليه هو كلامه وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهذا من لطائف أثر التوحيد على القلب؛كما صنع البخاري -رحمه الله- في صحيحه إذ لم يجعل لصحيحه خطبة، بل جعل صحيحه مُبتدَأً بالحديث، ذلك أن كتابه كتابُ سنة، ومن المعلوم أن الأدب أن لا يُتَقَدَّم بين يدي الله ورسوله، فلم يقدِّم كلامه على كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل البخاري صحيحه مفتتحاً بقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" .
وكتابه كتابُ سنَّة، فجعل كتابه في ابتدائه مبتدأً بكلام صاحب السنة عليه الصلاة والسلام، وهذا من لطيف المعاني التي يرعاها من نَوَّرَ الله قلوبهم لمعرفة حقه، وحق رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
( كِتَابُ التَّوْحِيدِ) التوحيد: مصدر وَحَّدَ يوحِّدُ توحيداً، وقد جاء هذا اللفظ -التوحيد- بِقِلَّةٍ، وجاء في السنة الدعوة إلى توحيد الله؛ كما جاء في صحيح البخاري أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَـمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ إِلى اليَمَنِ قَالَ: " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَاب،ٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ إِلى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ " ؛ " يوحِّدوا " مصدره التوحيد ، وفي الرواية الأخرى من حديث ابن عباس هذا؛ الذي فيه قصة بعث معاذ إلى اليمن وهي في الصحيحين قال: " فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ " فدلَّ على أن التوحيد هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتحقيق هاتين الشهادتين هو تحقيق التوحيد.
التوحيد: جعل الشيء واحداً، وحَّد: يعني جعله واحداً، تقول: وحَّدتُ المتكلم إذا جعلته واحداً، ووحَّدَ المسلمون الله، إذا جعلوا المعبود واحداً؛ وهو الله جل وعلا ، والتوحيد المطلوب يشمل ما أمر الله -جل وعلا- به في الكتاب من توحيده،وهو ثلاثةُ أنواع ؛ الأول توحيد الربوبية ، والثاني توحيد الألوهية ، والثالث توحيد الأسماء والصفات.
- توحيد الربوبية معناه توحيد الله بأفعاله، أفعال الله كثيرة: منها: الخلق، والرَّزق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الملك، والنفع، والضر، والشفاء، والإجارة {يُجِيُر وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} وإجابة دعوة المضطر، وإجابة دعوة الداعي، ونحوُ ذلك من أفراد الربوبية؛ فالمتفرد بذلك على الكمال هو الله -جل وعلا- فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله سبحانه.
- وتوحيد الألوهية مأخوذ من أَلَهَ يَأْلَهُ إلاهةً وأُلوهةً إذا عَبَدَ مع المحبة والتعظيم، يقال: تَأَلَّهَ، إذا عبد معظِّماً محبّاً، ففرق بين العبادة والألوهة ؛ فإن الألوهة عبادة فيها المحبة والتعظيم والرضى بالحال، والرجاء، والرغب، والرهب فمصدر أَلَهَ يَأْلَهُ: أُلوهة وإلاهةً، ولهذا قيل: توحيد الإلهية، وقيل: توحيد الألوهية، وهما مصدران لـ (أَلَهَ، يَأْلَهُ) ، ومعنى (أَلَهَ) في لغة العرب، يعني: عَبَدَ مع المحبة والتعظيم ، والتألُّه: العبادة على ذاك النحو ، قال الراجز:
لِلَّـهِ دَرُّ الغَانِيَـاتِ المُـدَّهِ=سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ منْ تَأَلُّهِي
يعني: من عبادتي ، فتوحيد الإلهية، أو توحيد الألوهية: هو توحيد العبادة، يعني: جعل العبادة لواحد وهو الله جل جلاله.
والعبادة أنواع، والعبادة يفعلها العبد ، والله -جل وعلا- هو المستحق للألوهة وللعبادة، يعني: هو ذو الألوهة، وهو ذو العبادة على خلقه أجمعين.
توحيد الألوهية هو توحيد الله بأفعال العبد ، أفعالك متنوعة -التي تفعلها تقرباً- فإذا توجهت بها لواحدٍ وهو الله -جل وعلا- كنت موحداً توحيد الإلهية، فإذا توجه العبد بها لله ولغيره، كان مشركاً في هذه العبادة.
والنوع الثالث من التوحيد: توحيد الأسماء والصفات ، ومعناه أن يعتقد العبد أن الله -جل جلاله- واحد في أسمائه وصفاته لا مماثل له فيهما، وإن شَرِك بعض العباد الله -جل وعلا- في أصل بعض الصفات، لكنهم لا يشركونه -جل وعلا- في كمال المعنى، بل الكمال فيها لله وحده دون من سواه ؛ فمثلاً: المخلوق قد يكون عزيزاً، والله -جل جلاله- هو العزيز، للمخلوق من صفة العزة ما يناسب ذاته الحقيرة الوضيعة الفقيرة، والله -جل وعلا- له من كمال هذه الصفة منتهى ذلك، ليس له فيها مثيل، وليس له فيها مشابه على الوجه التام، قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد ذكرها الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب، لكن لما كانت التصانيف قبله اعتنى فيها العلماء -أعني علماء السنة والعقيدة- ببيان النوعين الأول والثالث، وهما: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، لما اعتنى العلماء بهما لم يبسط الشيخ -رحمه الله- القول فيهما، وإنما بسط القول فيما الناس بحاجة إليه، ويفتقدون التصنيف فيه.
وهذه طريقة الإمام -رحمه الله- فإن كتاباته المختلفة، وإن مؤلفات الشيخ، إنما كانت للحاجة، ليست للتكاثر، أو الاستكثار، أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، لم يكتب، لأجل أن يكتب ولكن كتب لأجل أن يدعو، وبين الأمرين فرق.
فإذاً الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب بيَّن توحيد الإلهية والعبودية، وبيَّن أفراده من التوكل، والخوف، والمحبة، والرجاء، والرغبة، ونحو ذلك، والاستعانة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، كل هذه عبادات لله سبحانه دون من سواه.
والشيخ -رحمه الله- لما بسط ذلك بيَّن أيضاً ضدَّه وهو الشرك، فهذا الكتاب - (كتابُ التوحيد)- الذي فيه بيان توحيد العبادة، والربوبية، والأسماء والصفات، فيه أيضاً بيان ضد ذلك، وضد التوحيد الشرك ، والشرك اتخاذ الشريك ، يعني: أن يجعل واحداً شريكاً لآخر ، يقال: أشرك بينهما إذا جعلهما اثنين، أو أشرك في أمره غيره، إذا جعل ذلك الأمر لاثنين، فالشرك فيه تشريك، والله -جل وعلا- نهى عن الشرك كما سيأتي.
الشرك في كلام أهل العلم- مبينين ما دلت عليه النصوص- يُقسم إلى قسمين باعتبار، ويقسم إلى ثلاثة باعتبار آخر ، الشركُ يُقسم إلى شرك أكبر ، وإلى شرك أصغر ، ويقسم أيضاً باعتبار آخر إلى شرك أكبر ، وشرك أصغر ، وشرك خفي.
والشرك هو اتخاذ الشريك مع الله -جل وعلا- في الربوبية، أو في العبادة، أو في الأسماء والصفات، والمقصود هنا النهي عن اتخاذ الشريك مع الله -جل وعلا- في العبادة، والأمر بتوحيده سبحانه.
التقسيم الأول: أن يكون الشرك أكبر وأصغر.
الأكبر: هو المُخْرِج من الملَّة.
والأصغر: ما حَكم الشارع عليه بأنه شرك، وليس فيه تنديد كامل يُلحِقه بالشرك الأكبر ، وعبَّر عنه بعض العلماء بقوله: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر.
على هذا يكون الشرك الأكبر ثَمَّ منه ما هو ظاهر، وثَمَّ منه ما هو باطن خفي ؛ الظاهر من الشرك الأكبر كشرك عُبَّاد الأوثان والأصنام، وعُبَّاد القبور والأموات والغائبين ، والباطن كشرك المتوكلين على المشايخ، أو على الآلهة المختلفة، أو كشرك وكفر المنافقين؛ لأن المنافقين مشركون في الباطن، فشركهم خفي ولكنه أكبر، وفي الباطن وليس في الظاهر.
الشرك الأصغر على هذا التقسيم:
منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي ؛ الظاهر من الشرك الأصغر كَلُبْسِ الحَلْقَة والخَيْط، وكالتمائم،وكالحلف بغير الله، ونحو ذلك من الأعمال والأقوال ، والباطن من ذلك -الخفي- كيسير الرياء ونحو ذلك.
فيكون إذاً الرياء على هذا التقسيم: منه ما هو أكبر، كَرِيَاء المنافقين {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، ومنه رياء المؤمنين، رياء المسلمين، حيث يتصنع في صلاته، أو يحب التسميع، أو المراءاة.
التقسيم الثاني للشرك : أن يكون ثلاثة أقسام ؛ أكبر ، أصغر ، خفي.
وهذا التقسيم يُعنى به أن الأكبر ما هو مُخْرِجٌ من المِلَّة مما فيه صَرْفُ العِبَادَةِ لِغَيْرِ الله جل جلاله ، والأصغر ما كان وسيلة لذلك الشرك الأكبر، فيه تنديد لا يبلغ به من ندَّد أن يخرج من الإسلام، وقد حكم الشارع على فاعله بالشرك، أو حقيقة الحال أنه ندَّد وأشرك ، الشرك الخفي هو يسير الرياء، ونحو ذلك في هذا التقسيم.
من أهل العلم من يقول بالأول، ومنهم من يقول بالثاني، وهما متقابلان، وهما متساويان، أحدهما يوافق الآخر؛ ليس بينهما اختلاف ، فإذا سمعت من يقول: إن الشرك أكبر وأصغر فهذا صحيح ، وإذا سمعت -وهو قول أئمة الدعوة-: إن الشرك أكبر وأصغر وخفي فهذا أيضاً صحيح.
إذا تبيَّن ذلك فالشرك يعبر عنه بالتنديد، ولهذا قال جل وعلا: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} ، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما سُئل: أي الذنب أعظم؟ قال: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ " .
التنديد منه تنديد أعظم ، ومنه تنديد ليس فيه صرف العبادة لغير الله ، فإذا كان التنديد في جعل العبادة لغير الله، صار التنديد أكبر، صار شركاً أكبر ، وإذا كان التنديد فيه جعل غير الله -جل وعلا- ندّاً لله في عمل ولا يبلغ ذلك الشرك الأكبر، فإنه يكون تنديداً أصغر، وهو الشرك الأصغر.
هذه مقدمات وتعاريف مهمة بين يدي شرح هذا الكتاب العظيم.
قال إمام هذه الدعوة رحمه الله: ( كتاب التوحيد، وقول الله تعالى) (قول) هذه كما في صحيح البخاري تنطقها إما على العطف: (كتاب التوحيد وقولِ الله) يعني: وكتاب قولِ الله ، أو على الاستئناف: (وقولُ الله تعالى).
قال: (وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ) هذه الآية فيها بيان التوحيد ، وجه ذلك: أن السلف فسروا {إلا ليعبدون} يعني: إلا ليوحدوني ؛ دليل هذا الفهم: أن الرسل إنما بعثت لأجل التوحيد -توحيد العبادة- فقوله: {إلا ليعبدون} يعني: إلا ليوحدون.
قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ} هذا فيه حصر، ومعلوم أن (ما) النافية مع (إلاَّ) تفيد الحصر والقصر، معنى الكلام: خلقت الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها، ففيه قصر علة الخلق على العبادة.
وقوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: {إلاّ} هذه تسمى أداة استثناء مفرغ، مفرغ من أعم الأحوال كما يقول النحاة، يعني: وما خلقت الجن والإنس لشيء أو لغاية من الغايات أبداً إلا لغاية واحدة، وهي أن يعبدوني ، وقوله: {لِيَعْبُدُونِ} اللام هذه تسمى لام التعليل، ولام التعليل هذه، قد يكون المعنى: تعليل غاية، أو تعليل علة ؛ تعليل الغاية يكون ما بعدها مطلوباً، لكن قد يكون وقد لا يكون، يعني: هذه الغاية ، ويسميها بعض العلماء لام الحكمة، وفرق بين العلة والحكمة، يعني: ما الحكمة من خلق الجن والإنس؟ أن يعبدوا الله وحده دون ما سواه.
هذا التعليل بقوله: {لِيَعْبُدُونِ} قلنا: تعليل غاية، مثلاً: قلتُ لك: لم أحضرت الكتاب؟ قلتَ: (أحضرته لأقرأ) فيكون علة الإحضار أو الحكمة من الإحضار القراءة، قد تقرأ وقد لا تقرأ، بخلاف اللام التي يكون معناها العلة التي يترتب عليها معلولها، والتي يقول العلماء في نحوها: (الحكم دائر مع علته وجوداً وعدماً) تلك علة القياس التي لا يتخلف فيها المعلول عن العلة.
فهنا اللام هذه لام علة الغاية؛ لأن من الخلق من أوجد وخلقه الله -جل وعلا- لكن عبد غيره، ولام الحكمة شرعية، ما بعدها يكون مطلوباً شرعاً، قال -جل وعلا- هنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} نفهم من هذا أن هذه الآية دالة على التوحيد من جهة أن الغاية من الخلق هو التوحيد.
والعبادة هنا: هي التوحيد.
حقيقة العبادة: الخضوع والذل، فإذا انضاف إليها المحبة والانقياد صارت عبادة شرعية ، قال طرفة في وصف ناقة:
تباري عتاقاً ناجيات وأتبعت = وظـيفاً وظيفاً فوق مَوْرٍ مُعَبَّد
المَوْر: الطريق ، والمعبَّد: هو الذي ذُلِّل من كثرة وطء الأقدام عليه ، وقال أيضاً في معلقته:
إلى أَنْ تَحامَتْني العَشيرَةُ كُلُّها = وأُفْرِدتُ إفرادَ البَعيرِ المُعَبَّـدِ
يعني: الذي صار ذليلاً؛ لأنه أُصيب بالمرض، فجُعل بعيداً عن باقي الأبعرة، فصار ذليلاً لعدم المخالطة.
في الشرع، العبادة هي امتثال الأمر والنهي على جهة المحبة والرجاء والخوف ، قال بعض العلماء: إن العبادة هي ما أُمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اطرادٍ عرفي ، وهذا تعريف الأصوليين.
وقال شيخ الإسلام في بيان معناها في أول رسالة العبودية : العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
إذاً فيكون دلالة هذه الآية أن كل فرد من أفراد العبادة، يجب أن يكون لله وحده دون ما سواه؛ لأن الذي خلقهم، خلقهم لأجل أن يعبدوه، فكونهم يعبدون غيره وهو الذي خلقهم هذا من الاعتداء والظلم؛ لأنه ليس من يَخْلُق كمن لا يَخْلُق، قال جل وعلا: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}.
قال الشيخ رحمه الله: ( وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ}) هذه الآية تفسيرٌ للآية قبلها ، الآية قبلها فيها بيان معنى العبادة، فيها بيان الغرض من الخلق، وأنه لأجل العبادة ، هذه العبادة أُرسلت بها الرسل بدليل قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} بعثت الرسل بهاتين الكلمتين: {اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} ففي قوله: {اعْبُدُواْ اللَّهَ} إثبات، وفي قوله: {اجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} نفي ، وهذا معنى التوحيد، وهو أنه مشتمل على إثبات ونفي ؛ (لا إله إلا الله) {اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} لأن النفي فيه اجتناب الطاغوت، وهو كل إله عُبِدَ بالبغي، والظلم، والعدوان، والإثبات إثبات العبادة في الله وحده دون ما سواه ؛ ففي قوله: {اعْبُدُواْ اللَّهَ} التوحيد المثبت ، وفي قوله: {اجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} نفي الإشراك ، والطاغوت: فعلوت من الطغيان، وهو: كل ما جاوز به العبد حدَّه؛ من متبوع، أو معبود، أو مطاع.
قال: ( وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} {قضى} كما فسرها عدد من الصحابة، هنا بمعنى: أمر ووصّى، وأمر ووصى فيها معنى القول دون حروف القول، فتكون: {ألا تَعْبُدُوا} (أنْ): هنا تفسيرية، يعني: أمر، ووصّى، بماذا؟ بـ {لا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحساناً}.
قوله: {لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} هذا معنى (لا إله إلا الله) بالمطابقة؛ لأن (لا) نفي في الجملتين، وهناك {تعبدوا} وفي كلمة التوحيد (إله) والإله هو المعبود ، {أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} يعني احصروا العبادة فيه وحده دون ما سواه، أمر ووصى بهذا، وهذا معنى التوحيد، فإن دلالة الآية على التوحيد ظاهرة في أن التوحيد: إفرادُ العبادة في الله، أو تحقيق كلمة (لا إله إلا الله) وهذا الذي دلت عليه هذه الآية.
قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} يعني وأحسنوا بالوالدين إحساناً.
قال: ( وقوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}) هذا أيضاً فيه إثبات ونفي، فيه أمر ونهي ؛ أما الأمر ففي قوله: {اعْبُدُواْ اللَّهَ} ، والنهي في قوله: {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} ، وقد مر معك دلالة قوله: {اعْبُدُواْ اللَّهَ} مع النفي على توحيد الله.
قوله هنا: {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} لاحظ أن (لا) هنا نافية، ومن المتقرر في علم الأصول: أن النفي إذا تسلط على نكرة فإنه يفيد العموم، و(لا) بعدها نكرة وهو المصدر المستكن في الفعل؛ لأن الفعل المضارع مشتمل على مصدر وزمن ، {لاَ تُشْرِكُواْ} يعني لا إشراكاً به، فـ(تشركوا) متضمنة لمصدر، والمصدر نكرة، فيكون قوله: {لاَ تُشْرِكُواْ} يعني بأيّ نوع من الشرك ، {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} و{شيئاً} هنا أيضاً نكرة في سياق النهي {لاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} فدلت على عموم الأشياء.
فصار إذاً عندنا في قوله تعالى: {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} ثَمَّ عمومان:
الأول: دلت الآية على النهي عن جميع أنواع الشرك، وذلك لأن النهي تسلط على الفعل، والفعل فيه مصدرٌ مستكن، والمصدر نكرة.
والثاني:أن مفعول (تشرك) (شيئاً)، (وشيئاً) نكرة، والنكرة جاءت في سياق النهي، وذلك يدل على عموم الأشياء.
يعني لا الشرك الأصغر مأذون به، ولا الأكبر، ولا الخفي، بدلالة قوله: {لاَ تُشْرِكُواْ بِهِ} وكذلك ليس مأذوناً أن يشرك، لا بملك، ولا بنبي، ولابصالح، ولا بعالم، ولا بطالح، ولا بقريب، ولا ببعيد، بدلالة قوله: {شيئاً} ، وهذا استدلالٌ ظاهر الوضوح في الدلالة على التوحيد بالجمع بين النفي والإثبات.
قال: ( وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}) {قُلْ تَعَالَوْاْ} يعني يا من حرَّم بعض الأنعام وافترى على الله في ذلك {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}.
قال العلماء: (أنْ) هنا تفسيرية، متعلقة بمحذوف تقديره: وصاكم ، لأن (أنْ) التفسيرية تتعلق كما ذكرت لك بكلمة فيها معنى القول دون حروف القول، وحددوها بقوله: {وصاكم} لأنه في آخر الآي جاء: {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} في الآية الأولى، ثم {لعلكم تذكرون}في الآية الثانية، ثم {لعلكم تتقون} في الآية الثالثة، كلها فيها الوصية ؛ فإذاً يكون تقدير الكلام: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، وصاكم ألا تشركوا به شيئاً يعني: أمركم ، والوصية هنا شرعية،وإذا كانت الوصية من الله شرعية؛ فهي أمر واجب ، وقوله: {لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} دلالتها على التوحيد كدلالة آية النساء قبلها.
ثم ساق الشيخ -رحمه الله- أثر ابن مسعود، قال: (قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} التي عليها خاتمه) يعني: التي كانت من آخر ما وصى به، من آخر ما أمر به، يعني التي لو قدّر أنه وصى، وختم على هذه الوصية، وفتحت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، لكانت هذه الآيات التي فيها الوصايا العشر، هذا من ابن مسعود للدلالة على عِظَم شأن هذه الآيات التي افتتحت بالنهي عن الشرك.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابتدأ دعوته بالأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الشرك، واختتمها أيضاً -كما دلّ عليه كلام ابن مسعود هذا- بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، فدلّ على أن ذلك أولى المطالب، وأول المطالب، وأهم المطالب.
قال بعد ذلك: ( وعن معاذ بن جبل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ عَلَى حِمَارٍ فقَالَ لِي: " يَا مُعَاذ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ: " حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً " ؛ هذا موطن الشاهد: " حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " ،وهذا قد مرّ بيانُ معناهُ، لكن الشاهد من هذا الحديث ومناسبته ابتداء كتاب التوحيد، أنه أتى فيه بلفظ حق " أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ " ، ثم قال: " حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً " هذا الحق حق واجب لله جل وعلا؛ لأن الكتاب والسنة، بل ولأن المرسلين جميعاً أتوا بهذا الحق وببيانه، وأنه أوجب الواجبات على العباد.
ثم قال: وَ "حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ".(حق العباد على الله) هذا حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في بعض أقوالهم، كما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله.(حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ) هل هذا الحق واجب أم لا؟
نقول: نعم، هو حق واجب، لكن بإيجاب الله ذلك الحق على نفسه، والله - جل وعلا- يحرّم على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، ويوجب على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته ؛ " إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلاَ تَظَالَمُوا " حرَّم الله الظلم على نفسه، كذلك أوجب على نفسه أشياء.

بعض أهل العلم تحاشى لفظ الإيجاب على الله، وقال: (يعبر بأنه حق يتفضل به حق تفضل لا حق إيجاب) وهذا ليس بمتعين؛ لأن الحق الواجب أوجبه الله على نفسه، والعباد لا يوجبون على الله -جل وعلا- شيئاً من الحقوق، وهو -جل وعلا- أوجبه على نفسه؛ لأنه تفضل على عباده بذلك، والله -جل جلاله- لا يخلف الميعاد.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

25 Oct 2008

العناصر


* مقدمة :
- أهمية التوحيد .
- ذكر بعض مظاهر الشرك بالله تعالى .
- ذم الإعراض عن الكتاب والسنة .
* نبذة عن المصنف -رحمه الله- :
- ترجمة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
- أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في أهل نجد وغيرها .
- قصيدة للأميرالصنعاني، وكذلك ابن غنام في الثناء على الإمام محمد بن عبد الوهاب .
* نبذة عن كتاب التوحيد :
- مكانة كتاب التوحيد .
- موضوع كتاب التوحيد .
- بيان سبب عناية المؤلف رحمه الله تعالى بتوحيد الألوهية .
- سبب عدم وضع المؤلف خطبة لكتابه .
- مصطلحات الشارح: سليمان آل الشيخ .
* بيان معنى البسملة :
- سبب افتتاح المصنف كتابه بالبسملة .
- سبب اقتصار المصنف على البسملة دون الحمدلة [في بعض النسخ] .
- الخلاف في تقدير متعلق الجار والمجرور في (بسم الله) .
- فوائد حذف العامل في (بسم الله) .
- معنى الباء في البسملة .
- بيان اشتقاق (الاسم) .
- خصائص الاسم الشريف (الله) .
- بيان معنى (الرحمن الرحيم) والفرق بينهما .
- اعتراض حول مجيء (الرحمن) تابعاً وهو علم، وجواب الاعتراض .
* الفرق بين الحمد والشكر .
* معنى صلاة الله تعالى على عبده .
* المراد بالآل في قوله: (وعلى آله) .
* معنى كتاب .
* بيان معنى التوحيد وأركانه .
- التوحيد في اللغة .
- بيان معنى التوحيد .
- سبب تسمية الإسلام توحيداً .
- أركان التوحيد .
* أقسام التوحيد :
- التقسيم الأول : تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: (توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات) .
- التقسيم الثاني : تقسيم التوحيد إلى قسمين: (توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب) .
- بيان معنى توحيد الربوبية .
- بيان إقرار المشركين الأولين بتوحيد الربوبية .
- بيان خطأ من قصر معنى التوحيد على توحيد الربوبية .
- بيان معنى توحيد الألوهية .
- دلائل توحيد الألوهية .
- أهمية توحيد الألوهية .
- موقف المشركين من توحيد الألوهية وذكر بعض شركياتهم .
- بيان معنى توحيد الأسماء والصفات .
- موقف المشركين من توحيد الأسماء والصفات .
- ذكر بعض ما يقدح في توحيد الأسماء والصفات .
- الطوائف التي ضلت في باب الأسماء والصفات .
* معنى الشرك وأنواعه :
- بيان معنى الشرك .
- طرق أهل العلم في تقسيم الشرك .
- بيان أقسام الشرك على التقسيم الأول .
- بيان أقسام الشرك على التقسيم الثاني .
- بيان معنى التنديد وأن منه أصغر وأكبر .
* أقسام الشرك بالنسبة إلى أنواع التوحيد الثلاثة :
- أنواع الشرك في الربوبية والأدلة عليها .
- أنواع الشرك في الألوهية والأدلة عليها .
- أنواع الشرك في الأسماء والصفات والأدلة عليها .
* شرح قول المؤلف: (التوحيد وقول الله تعالى) .
* تفسير قوله -تعالى-: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .
- معنى قوله -تعالى-: {خلقت} .
- سبب تسمية {الجن} جناً، و{الإنس} إنساً .
- نوع الاستثناء واللام في قوله: {إلا ليعبدون} .
- أنواع العلة وتعريف كل نوع .
* الكلام على العبادة والعبودية :
- بيان معنى العبادة .
- أصل العبادة في اللغة ومعناها في الشرع .
- تعريف شيخ الإسلام للعبادة .
- إطلاقات العبادة .
- قواعد العبودية ومراتبها .
- ذكر بعض أنواع العبادة والأدلة عليها .
- قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} ليس فيه إثبات خالقٍ غير الله تعالى .
- بعض الفوائد من قوله -تعالى- {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .
* تفسير قول الله تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً} الآية :
- إطلاقات (الأمة) في القرآن ومعناها في قوله تعالى: {بعثنا في كل أمة} .
- معنى {أن} في قوله -تعالى-: {أن اعبدوا الله} .
- الأقوال في معنى الطاغوت .
- حكم تفسير (الإله) بالقادر على الاختراع .
- دين الأنبياء واحد وإن اختلفت شرائعهم .
* الحكمة من إرسال الرسل .
* الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية .
* تفسير قول الله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} الآية :
- معنى قوله-تعالى-: {ألا تعبدوا إلا إياه} .
- معنى قوله -تعالى-: {وبالوالدين إحسانا} .
- إيراد بعض النصوص في بر الوالدين .
* الكلام على معنى (قضاء الله) .
- معنى {قضى} في قوله -تعالى-: {وقضى ربك} .
- أقسام قضاء الله تعالى .
- كيف يقضي الله كوناً ما لا يحبه؟ .
- لِمَ لَمْ يذكر الله تعالى حق الرسول في قوله: {وقضى ربك..} الآية ؟
* تفسير قول الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} الآية :
- معنى قول الله -تعالى-: {واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً} .
- ما يستفاد من قوله -تعالى-: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا.. } وما قبلها .
* تفسير قول الله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية :
- معنى قوله -تعالى-: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} .
- معنى قوله -تعالى-: {ألا تشركوا به شيئاً} .
- معنى قوله -تعالى-: {وبالوالدين إحساناً} في قوله: {قل تعالوا.. } الآية .
- معنى قوله -تعالى-: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} ونظيره من السنة .
- معنى قوله -تعالى-: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} ونظائره من السنة .
- معنى قوله -تعالى-: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} .
- معنى (لعل) في قوله -تعالى-: {لعلكم تعقلون} .
- المراد بقرب مال اليتيم والإحسان في قوله -تعالى-: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} .
- معنى بلوغ الأشد في قوله -تعالى-: {حتى يبلغ أشده} .
- معنى قوله -تعالى-: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} .
- معنى قوله -تعالى-: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} .
- الحكمة في ذكر قوله -تعالى-: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} بعد قوله: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} .
- تفسير قوله -تعالى-: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} .
- المراد بعهد الله في قوله -تعالى-: {وبعهد الله أوفوا}، ونظائره في القرآن .
- معنى قول الله -تعالى-: {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} .
* تفسير قول الله -تعالى- {وأن هذا صراطي مستقيما ... } :
- مناسبة قوله -تعالى-: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} لما قبله .
- معاني مفردات قوله -تعالى-: {وأن هذا صراطي مستقيماً.. } في اللغة .
- بعض الأحاديث وأقوال السلف في معنى قوله -تعالى-: {وأن هذا صراطي مستقيماً} .
- معنى قوله: {ولا تتبعوا السبل .. } الآية .
- الحكمة في ذكره أولاً {تعقلون} ثم {تذَكَّرون} ثم {تتقون} .
* شرح أثر ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ...) :
- تخريج الأثر .
- ترجمة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- .
- معنى قول ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد) وذكر حديث في معناه .
- هل قول ابن مسعود: (وصية محمد) فيه مخالفة لقول الله -تعالى-: {لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} ؟
* شرح حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم...) :
- ترجمة معاذ بن جبل -رضي الله عنه- .
- شرح قول معاذ: (كنت رديف النبي على حمار) .
- معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أتدري ما حق الله على العباد " .
- مسألة إيجاب الله الحق على نفسه .
- فائدة من قول معاذ: (فقلت: الله ورسوله أعلم) .
- ما يستفاد من قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " وبعض الآثار في معناه .
- معنى قوله: " حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا " .
- الحكمة من الاقتصارعلى نفي الإشراك في قوله: " ألا يعذب من لا يشرك به شيئا " .
- تعريف ابن القيم للعبادة .
- فائدتان من قوله: (أفلا أبشر الناس) .
- معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبشرهم فيتكلوا " .
- هل النهي في قوله: " لا تبشرهم " عام لكل أحد ؟
- هل النهي للتحريم؟
- ترجمة الإمام البخاري -رحمه الله- .
- ترجمة الإمام مسلم -رحمه الله- .
- مناسبة حديث معاذ للباب .
- بعض الفوائد من حديث معاذ .
* شرح مسائل الباب :
- بيان الحكمة من خلق الجن والإنس .
- شرح قول المصنف: (العبادة هي التوحيد) .
* أركان التوحيد :
- العبادة لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت .
- بيان المراد بالطاغوت .
- الرسالة عمت كل أمة .
- دين الأنبياء واحد .
* عظم شأن آيات الإسراء، والأنعام، والنساء .
* فوائد نفيسة من نصوص الباب.