29 Oct 2008
ح21: حديث سفيان الثقفي: (قل: آمنت بالله ثم استقم) م
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
21- عَن أبي عمرٍو- وَقِيلَ: أَبي عَمْرةَ- سُفيانَ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاً لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قالَ :((قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)).رواه مسلِمٌ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الحادي والعشرين (1) أخرجه مسلم كتاب: الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، (38)،(62)
عَنِ
أَبيْ عَمْرٍو، وَقِيْلَ،أَبيْ عمْرَةَ سُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي
الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَارَسُوْلَ اللهِ قُلْ لِيْ فِي الإِسْلامِ
قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ؟ قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"(1).
الشرح
قوله: "قل لي في الإسلام " أي في الشريعة.
قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك يعني قولاً يكون حداً فاصلاً جامعاً مانعاً.
فقال له: "قُل آمَنْتُ بِاللهِ" وهذا في القلب "ثُمَّ استَقِم" على طاعته، وهذا في الجوارح.
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كلمتين: "آمَنْتُ بِاللهِ" محل الإيمان القلب "ثُمَّ استَقِم" وهذا في عمل الجوارح.
وهذا حديث جامع، من أجمع الأحاديث.
فقوله: قُل آمَنْتُ يشمل قول اللسان وقول القلب.
قال أهل العلم: قول القلب: هو إقراره واعترافه.
"آمَنْتُ بِاللهِ" أي أقررت به على حسب ما يجب علي من الإيمان بوحدانيته في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ثم بعد الإيمان "اِستَقِم" أي سر على صراط مستقيم، فلا تخرج عن الشريعة لا يميناً ولا شمالاً.
هاتان الكلمتان جمعتا الدين كله.
فلننظر: الإيمان بالله
يتضمن الإخلاص له في العبادة، والاستقامة تتضمن التمشي على شريعته عزّ وجل،
فيكون جامعاً لشرطي العبادة وهما: الإخلاص والمتابعة.
من فوائد هذا الحديث:
1. حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، وذلك لما يرد على النبي صلى الله عليه وسلم منهم من الأسئلة.
2. عقل أبي عمرو أو أبي عمرة رضي الله عنه حيث سأل هذا السؤال العظيم الذي فيه النهاية، ويستغنى عن سؤال أي أحد.
3. أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عن العلم السؤال الجامع المانع حتى لا تشتبه عليه العلوم وتختلط، لقوله: "قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك"،وفي هذا إشكال وهو قوله: "لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك" فهل يمكن أن يسأل الصحابة رضي الله عنهم أحداً غير رسول الله في أمور الدين؟
فالجواب:
نعم ، يمكن أن يسأل أحدهم مَنْ يفوقه في العلم، وهذا وارد، ثم هذه الكلمة
تقال حتى وإن لم يكن يسأل ، لكن تقال من أجل أن يهتم المسؤول بالجواب.
4. أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم حيث جمع كل الدين في كلمتين:"آمَنتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِم" وهذا يشهد له قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الاحقاف:13] وقوله تبارك وتعالى: (إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30] وقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) [هود:112] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
5.
التعبير بكلمة الاستقامة دون التعبير المشهور عند الناس الآن بكلمة
الالتزام، فإن الناس اليوم إذا أرادوا أن يثنوا على شخص بالتمسك بالدين
قالوا: فلان ملتزم، والصواب أن يقال: فلان مستقيم كما جاء في القرآن والسنة
.
6. أن من قصر في الواجبات فما استقام، بل حصل عنده انحراف، والانحراف تكون شدته بقدر ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات.
7.
أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد نفسه دائماً: هل هو مستقيم أو غير مستقيم؟ فإن
كان مستقيماً حمد الله وأثنى عليه وسأل الله الثبات، وإن كان غير مستقيم
وجب عليه الاستقامة وأن يعدل سيره إلى الله عزّ وجل.
فمن أخر الصلاة عن وقتها فهو غير مستقيم ، لأنه أضاع الصلاة.
ومن منع الزكاة فهو غير مستقيم لأنه أضاع الزكاة.
ورجل يعتدي على الناس في أعراضهم فغير مستقيم، لفعل المحرم.
ورجل يغش الناس ويخادعهم في البيع والشراء والإجارة والتأجير وغير ذلك فهذا غير مستقيم.
فالاستقامة وصف عام شامل لجميع الأعمال ، والله الموفق.
_________________________________________
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(2) تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَدِيثِ:
سُفْيَانُ
بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ ربيعِ بنِ الحارثِ الثَّقَفِيُّ الطَّائِفِيّ ُ
صَحَابِيٌّ، وكَانَ عامِلَ عُمَرَ عَلى الطَّائِفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
الشَّرْحُ:
قالَ سُفْيَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ((قُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي فيْ)) بَيَانِ ((الإِسْلاَمِ))الذِي أَتَيْتَ بِهِ((قَوْلاً)) شَافِيًا كَافِيًا، ((لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ غَيْرَكَ)) بَل أكْتَفِي بِمَا أَتَعَلَّمُ في بَيَانِهِ مِنْكَ.
(( قالَ)) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ))بِلسَانِكَ مَعَ تَصْدِيقِ قَلْبِكَ: ((آمَنْتُ بِاللهِ))بأَنَّهُ
الإِلَهُ المُنْفَرِدُ بِالأُلُوهِيَّةِ، المَوْصُوفُ بالْكَمَالاَتِ
العَلِيَّةِ، المُنَزَّهُ عَنِ الأَوْصَافِ الرَّدِيَّةِ، وَأَنَّ مَا
جَعَلَهُ حَقًّا فَهُوَ حَقٌّ، وَأَنَّ مَا جَعَلَهُ بَاطِلاً فهُوَ
بَاطِلٌ.((ثُمَّ اسْتَقِمْ))عَلى مُقْتَضَى
هَذَا القولِ، مِنَ التَّحَبُّبِ إِليهِ تَعَالى بِمَا يُوجِبُ إِرْضَاءَهُ
وَحُبَّهُ، وَالتَّجَنُّبِ مِنْ سَخَطِهِ بِتَرْكِ مَا يُوجِبُ غَضَبَهُ.
وهذِهِ
كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، والعملُ بِهَا يَحْتَاجُ إلى معرفةِ المُقَرِّبَاتِ
إلى اللهِ -تَعَالَى-، والمُبْعِدَاتِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، وَإِعْطَاءِ
كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، واللهُ المُوَفِّقُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحَدِيثُ الحَادِي والعِشْرُونَ
عَنْ
أَبِي سُفْيانَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ:
يَارَسُولَ اللَّهِ! قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لا أَسْأَلُ عَنْهُ
أَحَداً غَيْرَكَ. قَالَ: ((قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. والإسلامُ: هو الانْقِيادُ للَّهِ ظَاهِراً وبَاطناً بفِعْلِ أَوَامِرِه وتَرْكِ نَوَاهِيهِ. والاسْتِقَامَةُ
تَشْمَلُ اسْتِقَامَةَ القَلْبِ واسْتِقَامَةَ الجَوَارِحِ واسْتِقَامَةَ
العَمَلِ واسْتِقَامَةَ التَّعَامُلِ والاسْتِقَامَةَ عَلَى الأَمْرِ
والنَّهْيِ والعِبَادَةِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَ الاسْتِقَامَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:
13]. فالاسْتِقَامَةُ هِيَ مُدَاوَمَةُ العَمَلِ الصَّالِحِ واسْتِبَاقُ
الخَيْرَاتِ والإِخْلاصُ للَّهِ تَعَالَى والاقْتِدَاءُ بالسُّنَّةِ.
الرَّاوِي:
سُفْيانُ
بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّّقَفِيُّ، كَانَ عَامِلاً
لعُمَرَ عَلَى الطَّائِفِ، أَسْلَمَ مَعَ وَفْدِ ثَقِيفٍ.
مَوْضُوعُ الحَدِيثِ:
الحَثُّ عَلَى الاسْتِقَامَةِ.
مَنْزِلَتُهُ:
مِن
جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ إِذْ جَمَعَ
قَوَاعِدَ الدِّينِ بهَاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ، وهُمَا الإِيمانُ
والاسْتِقَامَةُ.
المُفْرَدَاتُ:
(4) ((آمَنْتُ باللَّهِ))
أي: الإيمانَ الكَامِلَ الَّذِي يَشْمَلُ اعْتِقَادَ القَلْبِ وقَوْلَ
اللِّسَانِ وعَمَلَ الجَوَارِحِ، فهو انْقِيادٌ بالظَّاهِرِ وانْقِيادٌ
بالبَاطِنِ. وبالإِيمَانِ الكَامِلِ يَأْمَنُ النَّاسُ ويَأْمَنُ
المُجْتَمَعُ كُلُّه، وبذَلِكَ يَكْثُرُ الخَيْرُ ويَقِلُّ الشَّرُّ.
(5) ((ثُمَّ اسْتَقِمْ))
الاسْتِقَامَةُ: هِيَ مُلازَمَةُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، والْتِزَامُ
مَنْهَجِ الإسْلامِ، وعَدَمُ الزَّيْغِ عَنْهُ، والطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ
لا يُسَمَّى مُسْتَقِيماً إِلاَّ بخَمْسَةِ شُرُوطٍ:
1- إِذَا كَانَ وَاحِداً.
2- إِذَا كَانَ مُسْتَقِيماً.
3- إِذَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
4- يُوصِلُ للمَقْصُودِ.
5- يَتَّسِعُ للسَّالِكينَ عَلَيْهِ.
قَالَ
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الاسْتِقَامَةُ أَنْ
تَقُومَ علَى الأَمْرِ والنَّهْيِ، ولا تَرُوغَ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ).
وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (الاسْتِقَامَةُ هي الدَّوَامُ عَلَى أَدَاءِ الفَرَائِضِ).
وقَالَ عِياضٌ: (أي: وَحَّدُوا اللَّهَ وآمَنُوا بِهِ ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
وقَالَ القُرْطُبِيُّ: (أي: اعْتَدَلُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهَ عَقْداً وقَوْلاً وفِعْلاً ودَاوَمُوا عَلَى ذَلِكَ).
وللاسْتِقَامَةِ ثَمَرَاتٌ مِنْهَا:
1- مُدَاوَمَةُ العَمَلِ الصَّالِحِ.
2- اتِّصَالُ القَلْبِ برَبِّهِ.
3- السَّلامَةُ مِنَ الغَفْلَةِ.
4- الظَّفَرُ بمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
5- تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ.
6- ارْتِفَاعُ الدَّرَجاتِ.
7- الخَاتِمَةُ الحَسَنَةُ.
8- النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
9- الخَوْفُ مِنَ الجَلِيلِ.
10- العَمَلُ بالتَّنْزِيلِ.
11- مُصَاحَبَةُ الصَّالِحِينَ.
12- حِفْظُ الوَقْتِ.
13- القِيامُ بالأَوَامِرِ وتَرْكُ النَّواهِي.
14- الثَّبَاتُ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ.
15- التَّأْيِيدُ بالمَلائِكَةِ.
16- عَدَمُ الخَوْفِ والحُزْنِ.
17- دُخُولُ الجَنَّةِ.
18- إِجَابَةُ الدُّعَاءِ.
19- بَسْطُ الرِّزْقِ.
الفَوَائِدُ:
1- حِرْصُ الصَّحَابَةِ عَلَى الخَيْرِ.
2- بَلاغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
3- حُبُّ الصَّحَابَةِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
4- فَضْلُ الإِيمانِ باللَّهِ تَعَالَى.
5- الإِيمانُ قَوْلٌ وعَمَلٌ.
6- الرَّدُّ عَلَى المُرْجِئَةِ.
7- وُجُوبُ الاسْتِقَامَةِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ.
8- الاسْتِقَامَةُ حِفْظٌ مِنَ الشَّيْطانِ.
9- وُجُوبُ الْتِزَامِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ.
10- أَهْلُ الأَمْنِ هُم أَهْلُ الاستقامَةِ.
11- المُسْتَقِيمُ لا يَخَافُ ولا يَحْزَنُ.
12- الاسْتِقَامَةُ حِفْظٌ للنَّفْسِ.
13- أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الاسْتِقَامَةُ.
14- الحَثُّ عَلَى مُصَاحَبَةِ أَهْلِ الاسْتِقَامَةِ.
15- ذَمُّ الانْحِرَافِ واتِّبَاعِ الهَوَى.
16- لا يَكُونُ الإِيمَانُ إِلاَّ بالاستقامَةِ.
17- وُجوبُ المداومَةِ علَى العملِ الصَّالحِ.
18- طَرِيقُ الجَنَّةِ هو الاستقامَةُ على دِينِ اللَّهِ تعالى.
19- كَثْرَةُ ثَمَرَاتِ الاستقامةِ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
مَنْزِلَةُ الحديثِ:
هذا
الحديثُ العظيمُ مِنْ بديعِ جوامعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَدْ جَمَعَ للسَّائلِ بهاتَيْنِ الكلمتَيْنِ قواعدَ
الدِّينِ، فأمرَهُ بالإيمانِ والاستقامةِ وَفْقَ مَنهجِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
معنى الاستقامةِ:
(3) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))والاستقامةُ: الاعتدالُ، نقولُ: أقامَ الشَّيءُ واستقامَ: اعتدلَ واسْتَوى.
وهناكَ أقوالٌ كثيرةٌ للصَّحابَةِ والتَّابعينَ وغيرِهِم في معنَى الاستقامةِ:
قالَ ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ: (أي: استقامُوا على أداءِ فرائضِهِ).
وقالَ
القاضي عِيَاضٌ: (أيْ: وحَّدُوا اللهَ وآمَنُوا بهِ، ثمَّ استقامُوا فلم
يَحِيدُوا عن التَّوحيدِ، والتزَمُوا طاعتَهُ سبحانَهُ وتَعَالى إلى أنْ
تُوُفُّوا على ذلِكَ).
وقالَ ابنُ كثيرٍ: (أَخْلَصُوا العملَ للهِ، وعَجِلُوا بطاعةِ اللهِ تعالى على ما شَرَعَ اللهُ لهم). وقالَ
القُرْطبيُّ: (وهذهِ الأقوالُ وإنْ تَدَاخَلَتْ فتَلْخِيصُهَا:
اعْتَدَلُوا على طاعةِ اللهِ عَقْدًا وقَوْلاً وفِعْلاً ودَاوَمُوا على
ذلكَ). الاستقامةُ سلوكُ الصِّراطِ المستقيمِ: أَمرَ
اللهُ رسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعَهُ بالاستقامةِ
وَفْقَ الشَّرعِ الحكيمِ؛ لأنَّ هذا هوَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ
بالتَّعبُّدِ بهِ، وما سِوَى ذلكَ مِنْ أقوالِ الرِّجالِ العاريَةِ عن
الدَّليلِ فليسَ بدِينٍ وليسَ بِحُجَّةٍ، قالَ تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقالَ تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. 1- قالَ تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
في الآيَةِ بيانٌ أنَّ كلامَ الإنسانِ محسوبٌ عليهِ، فكلُّ قولٍ منهُ لهُ
مَنْ يَرْقُبُهُ ويُسجِّلُهُ عليهِ إنْ كانَ خيرًا أوْ شرًّا.
وممَّا يَشهدُ للحديثِ من القرآنِ قولُهُ تَعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا}، وقولُهُ سبحانَهُ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
فضلُ الاستقامةِ:
الاستقامةُ سببٌ لبَسطِ الرِّزقِ والتَّوسيعِ في الدُّنيا، قالَ تَعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}.
قالَ القرطبيُّ:(أيْ: لوْ آمَنَ هؤلاءِ الكفَّارُ لَوَسَّعْنَا عليهم في الدُّنيا، وبَسَطْنَا لهم في الرِّزقِ).
وقالَ تَعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي
أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ} فالآيَةُ تَدُلُّ على نُزُولِ الملائكةِ على المستقيمينَ
عندَ الموتِ وفي القبرِ وعندَ البعثِ، تُؤَمِّنُهُم مِن الخوفِ عندَ
الموتِ، وتُزيلُ عنهم الحزنَ على فِراقِ الأولادِ؛ فإنَّ اللهَ خَليفَتُهُم
في ذلِكَ، وتُبشِّرُ بمغفرةِ الذُّنوبِ والخطايا، وقَبولِ الأعمالِ،
والبُشرَى بالجنَّةِ الَّتي فيها ما لا عَيْنٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ،
ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ.
استقامةُ القلبِ:
أعظمُ
عُضْوٍ يَنْبَغِي للعبدِ أنْ يَجتهدَ على استقامتِهِ هوَ القلبُ؛ لأنَّهُ
مَلِكُ الجوارحِ، وباستقامتِهِ تَستقيمُ جميعُ الْجَوارحِ.
استقامةُ اللسانِ:
وأَعظمُ
ما يَنْبَغِي الاهتمامُ بهِ بعدَ القلبِ اللسانُ؛ لأنَّهُ المُعَبِّرُ عنْ
مَكنوناتِ القلبِ، وقدْ تَخرجُ منهُ كلمةٌ لا يَزِنُهَا صاحبُهَا تكونُ
سببًا في هلاكِهِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وأكثرُ ما يُورِدُ النَّاسَ
النَّارَ هوَ اللسانُ.
ووَردَت
النُّصوصُ الكثيرةُ الَّتي تُرَهِّبُ مِنْ إطلاقِ عِنانِهِ، كما وَردَت
النُّصوصُ الكثيرةُ الَّتي تُرَغِّبُ في حِفْظِ اللسانِ وإقامتِهِ وَفْقَ
أَمْرِ اللهِ بالأَجْرِ والثَّوابِ الْجَزيلِ.
أَذْكُرُ بعضًا منها:
2- قالَ تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} الآيَةُ
تَدلُّ على أنَّ الإنسانَ سوفَ يَسألُهُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى عمَّا
حَوَاهُ سمعُهُ وبصرُهُ وفُؤَادُهُ، فإذا استعملَ هذهِ الجوارحَ فيما
يُرْضِي اللهَ فَلَحَ، وإن استعمَلَها خِلافَ ذلكَ هَلَكَ.
3- عنْ أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوانِ اللهِ لاَ يُلْقِي
لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ
لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً
يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).
4- عنْ سَهْلِ بنِ سعدٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يَضْمَنَ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ)).
فوائدُ مِن الحديثِ:
1- حِرْصُ الأصحابِ عليهم رِضْوَانُ اللهِ على النُّصحِ وتَعلُّمِ الدِّينِ.
2- كما فيهِ الأمرُ بالاستقامةِ على الإيمانِ ومُسْتَلْزَمَاتِهِ حتَّى الموتِ.
3- كما فيهِ ما أُعْطِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جوامِعِ الكَلِمِ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(2)
هذا الحديثُ خَرَّجَه مسلِمٌ مِن روايةِ هشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، عن
سُفيانَ، وسُفيانُ: هو ابنُ عبدِ اللَّهِ الثَّقفيُّ الطَّائفيُّ له
صُحبةٌ، وكان عاملاً لعمرَ بنِ الْخَطَّابِ على الطَّائفِ.
وقد
رُوِيَ عن سُفيانَ بنِ عبدِ اللَّهِ مِن وُجوهٍ أُخَرَ بزِياداتٍ،
فخَرَّجَه الإمامُ أحمدُ، والتِّرمذيُّوابنُ مَاجَه مِن روايةِ الزُّهريِّ،
عن مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ ماعِزٍ، وعندَ التِّرمذيِّ:عبدُ
الرَّحمنِ بنُ ماعزٍ، عن سُفيانَ بنِ عبدِ اللَّهِ، قالَ: قلتُ: يا رسولَ
اللَّهِ، حَدِّثْني بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ.
قالَ: ((قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)) قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، مَا أَخْوَفُ مَا تَخافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قالَ: ((هَذَا)) وقالَ التِّرمِذيُّ: (حسَنٌ صحيحٌ).
وخَرَّجَه
الإمامُ أحمدُ، والنَّسائيُّ مِن روايةِ عبدِ اللَّهِ بنِ سُفيانَ
الثَّقفيِّ، عن أبيه، أنَّ رجلاً قالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي
بِأَمْرٍ فِي الإِسْلاَمِ لا أَسْألُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قالَ: ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)) قلتُ: فما أتَّقِي؟ فَأَوْمَأَ إِلَى لِسَانِهِ)). قولُ
سُفيانَ بنِ عبدِ اللَّهِ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَك).
طَلَبَ منه أن يُعَلِّمَه كلامًا جامعًا لأمرِ الإسلامِ كافيًا حتى لا
يَحتاجَ بعدَه إلى غيرِه، فقالَ له النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).
وفي الرِّوايةِ الأُخرى: ((قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)). هذا مُنتزَعٌ مِن قولِه عزَّ وجلَّ: {إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِروا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: 30]، وقولِه عزَّ وجلَّ: {إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ
عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(13) أُولئِكَ أصْحَابُ الْجَنَّةِ
خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِما كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف: 13].
وخَرَّجَ
النَّسائيُّ في (تفسيرِه) مِن روايةِ سُهيلِ بنِ أبي حَزْمٍ: حَدَّثَنا
ثابتٌ، عن أَنَسٍ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقالَ: ((قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرُوا، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الاسْتِقامَةِ)) وخَرَّجَه التِّرمذيُّ، ولفظُه: فقالَ: ((قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا، فَهُو مِمَّنِ اسْتَقامَ))، وقالَ: (حسَنٌ غريبٌ، وسُهيلٌ تُكُلِّمَ فيه مِن قِبَلِ حِفْظِه).
وقالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ في تفسيرِ: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}
قالَ: (لم يُشْرِكُوا باللَّهِ شيئًا) وعنه قالَ: (لم يلْتَفِتُوا إلى
إلهٍ غيرِه) وعنه قالَ: (ثم اسْتقامُوا على أنَّ اللَّهَ رَبُّهم).
وعن ابنِ عبَّاسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ، قالَ: (هذه أَرْخَصُ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ{قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}على شَهادةِ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ).
ورُوِيَ نحوُه عن أَنَسٍ ومُجاهِدٍ والأسودِ بنِ هِلالٍ، وزيدِ بنِ أَسْلَمَ، والسُّدِّيِّ، وعِكرمةَ، وغيرِهم.
ورُويَ عن عمرَ بنِ الْخَطَّابِ أنه قَرأَ هذه الآيةَ على الْمِنبَرِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، فقالَ: (لم يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعلبِ).
وروى عليُّ بنُ أبي طَلحةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه تعالى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قالَ: (استقاموا على أداءِ فرائضِه).
وعن أبي العَاليةِ قالَ: (ثمَّ أَخْلَصُوا له الدِّينَ والعملَ).
وعن
قَتادةَ قالَ: (استقاموا على طاعةِ اللَّهِ) وكان الحسَنُ إذا قرأَ هذه
الآيةَ، قالَ: (اللَّهمَّ أنتَ ربُّنا فارْزُقْنَا الاستقامةَ).
ولعلَّ
مَن قالَ: إنَّ المرادَ الاستقامةُ على التَّوحيدِ إنما أرادَ التَّوحيدَ
الكاملَ الذي يُحَرِّمُ صاحبَه على النَّارِ، وهو تحقيقُ معنى لا إلهَ إلا
اللَّهُ؛ فإنَّ الإلهَ هو الذي يُطاعُ، فلا يُعْصَى خَشيةً وإجلالاً
ومَهابةً ومَحَبَّةً ورَجاءً وتَوَكُّلاً ودُعاءً، والمعاصي كلُّها قادحةٌ
في هذا التَّوحيدِ؛ لأنها إجابةٌ لداعِي الْهَوَى وهو الشَّيطانُ، قالَ
اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قالَ الحسَنُ وغيرُه: (هو الذي لا يَهْوَى شيئًا إلا رَكِبَه)، فهذا يُنافِي الاستقامةَ على التَّوحيدِ.
وأمَّا على روايةِ مَن رَوَى: ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ))، فالمعنى أَظهرُ؛ لأنَّ الإيمانَ يَدخلُ فيه الأعمالُ الصَّالحةُ عندَ السَّلَفِ ومَن تابَعَهم مِن أهلِ الحديثِ.
وقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[هود:
112]، فأَمَرَه أن يَستقيمَ هو ومَن تابَ معه، وأن لاَ يُجاوِزُوا ما
أُمِرُوا به، وهو الطُّغيانُ، وأَخْبَرَ أنه بصيرٌ بأعمالِهم، مُطَّلِعٌ
عليها، وقالَ تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15].
قالَ قَتادةُ: (أُمِرَ محمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَستقيمَ على أَمْرِ اللَّهِ).
وقالَ الثَّوريُّ: (على القرآنِ).
وذَكَرَ القُشَيْريُّ وغيرُه عن بعضِهم: (أنه رأى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْمَنامِ، فقالَ له: يا رسولَ اللَّهِ قلتَ:((شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَواتُهَا))، فما شَيَّبكَ منها؟ قالَ: قولُه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
وقالَ عزَّ وجلَّ:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: 6].
وقد أَمَرَ اللَّهُ تعالى بإقامةِ الدِّينِ عُمومًا كما قالَ:
{شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وأَمَرَ بإقامِ الصَّلاةِ في غيرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِه، كما أَمَرَ بالاستقامةِ على التَّوحيدِ في تلك الآيتينِ.
والاستقامةُ:
هي سلوكُ الصِّراطِ المستقيمِ، وهو الدِّينُ القَيِّمُ مِن غيرِ تَعريجٍ
عنه يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، ويَشملُ ذلك فِعلَ الطَّاعاتِ كلِّها،
الظَّاهرةِ والباطنةِ، وتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ كلِّها كذلك، فصارتْ هذه
الوَصِيَّةُ جامعةً لخِصالِ الدِّينِ كُلِّها.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
(وعن
أبي عمروٍ وقيل أبي عمرةَ سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قلت يا
رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال: (قل آمنت بالله ثم استقم) رواه مسلم.
الشيخ:
هذا
الحديث أيضاً من أحاديث الوصايا، وهو الحديث الواحد والعشرون، حديث سفيان
بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه قال: قلت يا رسول الله! قل لي في الإسلام
قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟
قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم)).
هذا طلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يوصيه.
وقوله: ((قل لي في الإسلام)) يعني:
قل لي وصيةً في شأن الإسلام، في دين الإسلام لا يحوجني معه أن أسأل أحداً
عن أمرٍ آخر، فقال عليه الصلاة والسلام -وهو من جوامع كلمه عليه الصلاة
والسلام-: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) وهذا مأخوذ من قول الله -جل وعلا-: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا..} الآية.
فقوله في الآية -جل وعلا-: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} هو كقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ((قل آمنت بالله ثم استقم)).
وفي رواية: ((قل آمنت بالله فاستقم))
وهذا الحديث في معنى الآية، ومعنى الإيمان بالله: هو معنى أن تقول: ربي
الله؛ لأن قول العبد: ربي الله، معناها: معبودي الله، وحده لا شريك له؛ لأن
الابتلاء في القبر يكون بمسألة العبودية.
التوحيد الذي هو توحيد الإلهية، ويأتي بصيغة الربوبية؛ لأن العبد يُسأل في قبره.
من ربك؟ من نبيك؟ما دينك؟
فمن
ربك يعني: من معبودك، فالرب يطلق ويُراد به المعبود؛ لأن المعبود لازم،
يعني توحيد المعبود لازم عن توحيد الرب، فتوحيد الإلهية لازم لتوحيد
الربوبية، فمن أيقن بتوحيد الربوبية لزم عنه أن يوحد الله في الإلهية، وفي
أسمائه وصفاته.
لهذا كان الاحتجاج في القرآن على المشركين بتوحيد الربوبية في توحيد الإلهية كما في قوله -جل وعلا-: {قل
من يرزقكم من السماء والأرض أمَّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من
الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون
فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال}.
- وكقوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}.
- وكقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ خلقهن العزيز العليم}، والآيات في هذا كثيرة، فطريقة القرآن أنه يحتجُّ على المشركين بما يقرون به وهو توحيد الربوبية على ما ينكرونه وهو توحيد الإلهية.
إذاً
قول القائل: آمنت بالله، أو قوله: ربي الله، هو التوحيد الذي يشمل توحيد
الربوبية والإلهية والأسماء والصفات؛ لأن أحدَ هذه الأشياء يلزم منه البقية
أو أنَّ بعضها يتضمن البعض الآخر.
قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: ((قل آمنت بالله)) كما تقدم معنا أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، فإذا قال: ((آمنت بالله))
يعني: أنه اعتقد الاعتقاد الصحيح، وعمل العمل الصحيح الصالح الذي وافق فيه
السنة، وكان مخلصاً فيه لله -جل وعلا- وأيضاً تكلم وتلفظ بما يحب الله -جل
وعلا- ويرضى؛ فإذاً قول: ((آمنت بالله)) هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات فدخل في هذه الوصية الدين كله؛ لأنه قال: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك) وفي لفظ: (لا أسأل عنه أحداً بعدك) فقال: (قل آمنت بالله)،
المقصود
به: الإيمان الشرعي لأنه هو الذي يتعدى بـ(الباء) فالإيمان إذا تعدى
بالباء في نصوص الكتاب والسنة، فيعنى به الإيمان الشرعي الذي هو:
- قول.
- و عمل.
- واعتقاد.
وكما
ذكرنا لكم سلفاً في شرح حديث جبريل أنّ الإيمان مشتق من الأمن، وأصله أن من
آمن بشيءٍ أمن الغائلة، يعني من صدق به تصديقاً جازماً، وعمل بما يقتضيه
ذلك التصديق، فإنه يأمن غائلة التكذيب؛ لأنِّ تكذيب المُخْبِر له غائلة
يعني له أثر سيئ على المكذب فَمن كذّب لم يأمن، فالإيمان والأمن متلازمان
من حيث الأثر، والإيمان مشتقٌ من الأمن من جهة الاشتقاق اللغوي البعيد،
والإيمان معناه: التصديق الجازم الذي لا ريب معهُ ولا تردد فيه.
((ثم استقم))
(ثم) هذه لتراخي الجُمَل، وإلا فإنَّ الاستقامة من الإيمان فلا يفصَل بين
الاستقامة والإيمان، كما تقول: (آمن بالله ثم اعمل من الصالحات) فهذا تراخي
جُملة عن جُملة وتراخي الجُمل بـ((ثُمَّ)) له فائدة من جهة علم المعاني في البلاغة مَحلُّ الكلام عليها هناك.
وقوله: ((ثم استقم))
فيه الأمرُ بالاستقامة، والاستقامة لفظها (استفعل) استقام فيها معنى
الطلب، ولكن هذا ليس بظاهر؛ لأنَّ الفعل استفعل، أو هذه الصيغة (استفعل)
تأتي ويُرادُ بها الطلب، وتأتي ويُراد بها لزومُ الشِّيء، وكثرةُ الاتصاف
به.
فمن
الأول: وهو أنَّ استفعل تأتي ويراد بها الطلب، كقولك: (استسقى فُلان) يعني
طلب السُقيا، واستغاث طلب الإغاثة، واستعان طلب الإعانة وهكذا في أشباهها.
ومن الثاني: وهو أنَّ استفعل تأتي ويُراد منها لزومُ الوصف، وكثرةُ الاتصاف به، وعظم الاتصاف به، كقوله جلّ وعلا -مثلاً-: {واستغنى الله} -في سورة التغابن- يعني: غَني، {استغنى} ليس معناه طلب الغنى، ولكنه غَنِي بغنى لازم لذاته، وكثر وعظم جداً.
فإذاً:
(استفعل) هذه إذا تغيرت أو إذالم تُستعمل في الطلب فيُعنى بها لزوم الصفة
للذات، وكثرةُ الاتصاف وعظم الاتصاف بها، بحسب ما يُناسب الذات.
فإذاً {إنّ الذين قالوا رَبُّنا الله ثم استقاموا}{فاستقم كما أُمِرْت ومن تاب معك} {فاستقيموا إليه واستغفروهُ} وهكذا، استقيموا ليس معناها طلَب الشيء، ولكن معناهُ:
- الإقامة على هذا الدين.
- الإقامة على الإيمان.
- أنْ يَعْظُم وَصْفُ الالتزام به.
- أن يَعظُم وصفُ الإقامة عليه.
ولهذا كلمة الاستقامة تشمل -كما فسَّرها طائفة من أهل العلم-: الثبات على الدين.
-
واستقام قالوا: بمعنى: عمل الطاعات، وابتعد عن مساخط الله، وعن المحرمات،
وهذا معناهُ: الأخذ في وسائل الثبات، الاستقامة بالجهاد بأنواعه، وهذا
وسيلة من الوسائل، الاستقامة بلزوم السنة، والإخلاص لله -جل وعلا-، وهذا هو
حقيقة الدين.
إذاً:
فلفظ (استقام) يعني: صار لهُ وصْفُ الإقامة مبالغاً فيه، يعني: كثيراً،
بحيثُ إنهُ لزمَهُ ولم يتغير عنه ولم يتبدّل عنه، وهذا هو المقصود هنا.
إذاً: قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((قُلْ آمنت بالله، ثم استقم))
يعني لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة، بحيث يكون وصف
الإقامة لك ملازماً، وهذا تعظمُ معهُ هذه الوصية، لهذا أثنى الله -جل
وعلا- على عباده المستقيمين بقوله -جل وعلا-: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}.
فإذاً: هذا الحديث شَمل:
- أمور الاعتقاد.
- وأمور الظاهر والباطن.
- أعمال الجوارح.
- وأعمال القلوب.
- وشَمل الحث على الثبات على هذه الطاعات.
فهذه الوصية صارت إذاً وصية جامعة، وما أعظمها من وصية:
الكشاف التحليلي
حديث سفيان بن عبد الله -مرفوعاً-: (قل آمنت بالله ثم استقم)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منـزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قول الراوي: (قل لي في الإسلام قولاً...)
حرص الصحابة على العلم
تعريف الإسلام
الإسلامُ: هو الانْقِيادُ للَّهِ تعالى ظَاهِراً وبَاطناً بفِعْلِ أَوَامِرِه وتَرْكِ نَوَاهِيهِ
معنى قوله: (قل لي في الإسلام) أي في شأن الإسلام
شرح قوله: (لا أسأل عنه أحداً غيرك)
أي لا أحتاج معه إلى سؤال أحد غيرك
العناية بجوامع الكلم
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنت بالله)
الأمر في قوله: (قل) للوجوب
القول في الحديث يشمل قول القلب وقول اللسان
قول القلب هو التصديق
معنى الإيمان إذا تعدى بـ(الباء) في نصوص الكتاب والسنة
معنى الإيمان بالله تعالى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم استقم)
معنى (ثم)
الأمر في قوله: (استقم) للوجوب
أدلة الأمر بالاستقامة
أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد
استقامة القلب أصل استقامة الجوارح
أهمية استقامة اللسان
أعظم ما يراعى في الاستقامة - بعد القلب - اللسان
معنى الاستقامة
أقوال السلف في معنى الاستقامة
معنى الصراط المستقيم
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم مجيء الناس بالاستقامة على وجهها
التقصير في الاستقامة يجبره الاستغفار
حقيقة الاستقامة: السداد
معنى السداد
معنى المقاربة
شرط المقاربة
فضل الاستقامة
ثمرات الاستقامة
ورد في معنى الحديث قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا...)
(ربنا) أي معبودنا
نظيره سؤال المقبور: (من ربك؟) أي من معبودك؟
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (ثم استقاموا)
مراد من فسر الاستقامة بالتوحيد
من حقق التوحيد استقام على الشريعة
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستقامة
من فوائد حديث سفيان بن عبد الله:
حرص الصحابة على العلم
الإيمان قول وعمل
وُجُوبُ الاسْتِقَامَةِ عَلَى أَمْرِ اللَّه
التحذير من الانحراف واتباع الهوى
فيه شاهد لما أعطيه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم
النصيحة لمن استنصحك
الأمر بالإيمان بالله تعالى يتضمن الأمر بالإيمان ببقية أركان الإيمان
عموم تعلَّق الاستقامة بالقلب واللسان والجوارح
العناصر
حديث سفيان بن عبد الله -مرفوعاً-: (قل آمنت بالله ثم استقم)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منـزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قول الراوي: (قل لي في الإسلام قولاً...)
حرص الصحابة على العلم
تعريف الإسلام
معنى قوله: (قل لي في الإسلام) أي في شأن الإسلام
شرح قوله: (لا أسأل عنه أحداً غيرك)
أي لا أحتاج معه إلى سؤال أحد غيرك
العناية بجوامع الكلم
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنت بالله)
الأمر في قوله: (قل) للوجوب
القول في الحديث يشمل قول القلب وقول اللسان
معنى الإيمان إذا تعدى بـ(الباء) في نصوص الكتاب والسنة
معنى الإيمان بالله تعالى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم استقم)
معنى (ثم)
الأمر في قوله: (استقم) للوجوب
أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد
استقامة القلب أصل استقامة الجوارح
أهمية استقامة اللسان
معنى الاستقامة
أقوال السلف في معنى الاستقامة
معنى الصراط المستقيم
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم مجيء الناس بالاستقامة على وجهها
التقصير في الاستقامة يجبره الاستغفار
حقيقة الاستقامة: السداد
فضل الاستقامة
ثمرات الاستقامة
أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: (ثم استقاموا)
من حقق التوحيد استقام على الشريعة
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستقامة
من فوائد حديث سفيان بن عبد الله