29 Oct 2008
ح20: حديث أبي مسعود الأنصاري: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) خ
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
20- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقبةَ بنِ عَمْرٍو الأنصاريِّ الْبَدْريِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)). رواه البخاريُّ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث العشرون
عَنْ أَبيْ مَسْعُوْدٍ عُقبَة بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ البَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا أَدرَكَ النَاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذا لَم تَستَحْيِ فاصْنَعْ مَا شِئتَ)(1) رواه البخاري.
الشرح
"إِنَّ" أداة توكيد خبرها مقدم وهو قوله: "مِما أَدرَكَ الناسُ" واسم إن قوله: "إذا لَم تَستَحْيِ فَاصْنَع مَا شِئت" وهذه الجملة على الحكاية، فتكون الجملة كلها اسم إن، والتقدير: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى هذا القول.
وقوله: "إِنَّ مِما أَدرَكَ الناسُ" (من) هنا للتبعيض، أي إن بعض الذي أدركه الناس من كلام النبوة الأولى... الخ.
وقوله: النبوَةِ الأُولَى
يعني السابقة، فيشمل النبوة الأولى على الإطلاق، والنبوة الأولى بالنسبة
لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم فعليه نفسر : النبوَةِ الأُولَى أي السابقة
.
"إذا لَم تَستَحْيِ فَاصْنَع مَا شِئت" هذه الكلمة من كلام النبوة الأولى، والحياء هو عبارة عن انفعال يحدث للإنسان عند فعل ما لا يجمله ولا يزينه، فينكسر ويحصل الحياء.
وقوله: "إِذا لَم تَستَحْيِ" يحتمل معنيين:
المعنى الأول: إذا لم تكن ذا حياء صنعت ما تشاء، فيكون الأمر هنا بمعنى الخبر، لأنه لا حياء عنده، يفعل الذي يخل بالمروءة والذي لا يخل.
المعنى الثاني: إذا كان الفعل لا يُستَحَيى منه فاصنعه ولا تبالِ.
فالأول عائد على الفاعل، والثاني عائد على الفعل.
والمعنى: لا تترك شيئاً إذا كان لا يُستَحيى منه.
وقوله: "فاصنَع مَا شِئت" أي افعل، والأمر هنا للإباحة على المعنى الثاني، أي إذا كان الفعل مما لا يستحيى منه فلا حرج.
وهي للذم على المعنى الأول، أي أنك إذا لم يكن فيك حياء صنعت ما شئت.
من فوائد هذا الحديث :
1- أن الآثار عن الأمم السابقة قد تبقى إلى هذه الأمة، لقوله: إِنَّ مِمَا أَدرَكَ الناسُ مِن كَلاَمِ النُّبوَةِ الأُولَى وهذا هو الواقع.
وما سبق عن الأمم السابقة إما أن ينقل عن طريق الوحي في القرآن، أو في السنة ،أو يكون مما تناقله الناس.
فأما في القرآن ففي قوله عزّ وجل: (بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * والْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى *
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)[الأعلى:16-19] ، وما جاءت به السنة فكثير، كثيراً ما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل ما يذكر.
وأما ما يؤثر عن النبوة الأولى: فهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شهد شرعنا بصحته، فهو صحيح مقبول.
القسم الثاني: ما شهد شرعنا ببطلانه، فهو باطل مردود.
القسم الثالث: ما لم يرد شرعنا بتأييده ولا تفنيده،فهذا يتوقف فيه،وهذا هو العدل.
ولكن مع ذلك لا بأس أن يتحدث به الإنسان في المواعظ وشبهها إذا لم يخشَ أن يفهم المخاطَب أنه صحيح.
ومما نعلم أنه خطأ وباطل
ما يذكر عن داود عليه الصلاة والسلام حينما دخل محرابه- أي مكان صلاته -
وجعل يتعبد وأغلق الباب، وكان قد جعله الله تعالى خليفة في الأرض يحكم بين
الناس، فجاء الخصمان فلم يجدا الباب مفتوحاً، فتسورا الجدار فنزلا على
داود، ففزع منهم، كعادة البشر، قالوا:لا تخف، وهذا يدل على أنهم أكثر من
اثنين ،فقالوا (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى
بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) [ص:22-23]
هؤلاء خصوم ويقول: إن هذا أخي، وهذا أدب رفيع، لو كان في وقتنا هذا لقال إن هذا المجرم الظالم، لكن هذا قال:( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي شاة (وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [صّ:23] أي غلبني لأن عنده بياناً وفصاحة.
قال داود: (قَالَ
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ
أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ*
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) [ص:24-25].
زعم اليهود أن لداود عليه
الصلاة والسلام جندياً له امرأة جميلة، وأرادها داود، ولكي يتوصل إليها أمر
هذا الجندي أن يذهب في الغزو من أجل أن يقتل فيأخذ داود زوجته(2)
وهذا لا شك أنه منكر، فهذا لا يقع من عامة الناس فكيف يقع من نبي؟ !! لكنهم افتروا على الله كذباً وعلى رسله كذباً.
فإن قال قائل: ما وجه قوله: (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) [ص:24].
فالجواب: أن هذا الذي حصل من داود عليه السلام فيه شيء من المخالفات، منها:
أولاً:
أنه انحبس في محرابه عن الحكم بين الناس، وكان الله تعالى قد جعله خليفة
يحكم بين الناس، ولكنه آثر العبادة القاصرة على الحكم بين الناس.
ثانياً: أنه أغلق الباب مما اضطر الخصوم إلى أن يتسوروا الجدار، وربما يسقطون ويحصل في هذا ضرر.
ثالثاً: أنه عليه الصلاة والسلام حكم للخصم قبل أن يأخذ حجة الخصم الآخر، فقال: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) [ص:24] وهذا لا
يجوز، أي لا يجوز للحاكم أن يحكم بقول أحد الخصمين حتى يسمع كلام الخصم
الآخر، فعلم داود أن الله تعالى اختبره بهذه القصة فاستغفر ربه وخر راكعاً
وأناب.
فما أثر عن بني إسرائيل في هذا نعلم أنه كذب،لأنه ينافي عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخلاقهم، وما جاؤوا به من العدل.
2- أن هذه الجملة: إِذا لَم تَستَحْيِ فاصنَع مَا شِئت مأثورة عمن سبق من الأمم، لأنها كلمة توجه إلى كل خلق جميل.
3- الثناء على الحياء، سواء على الوجه الأول أو الثاني، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحَيَاءُ شُعبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ(3)
والحياء نوعان:
الأول:فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل.
الثاني:فيما يتعلق بحق المخلوق.
أما الحياء فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل فيجب أن تستحي من الله عزّ وجل أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك.
وأما الحياء من المخلوق فأن تكفَّ عن كل ما يخالف المروءة والأخلاق.
فمثلاً:في
المجلس العلمي لو أن إنساناً في الصف الأول مدَّ رجليه، فإنه لا يعتبر
حياءً لأن هذا يخالف المروءة، لكن لو كان مجلس بين أصحابه ومدَّ رجليه فإن
ذلك لا ينافي المروءة، ومع هذا فالأولى أن يستأذن ويقول: أتأذنون أن أمدَّ
رجلي؟.
ثم الحياء نوعان أيضاً من وجه آخر:
نوع غريزي طبيعي، ونوع آخر مكتسب.
النوع الأول:فإن
بعض الناس يهبه الله عزّ وجل حياءً، فتجده حيياً من حين الصغر، لا يتكلم
إلا عند الضرورة، ولا يفعل شيئاً إلا عند الضرورة، لأنه حيي.
النوع الثاني:مكتسب
يتمرن عليه الإنسان، بمعنى أن يكون الإنسان غير حيي ويكون فرهاً باللسان،
وفرهاً بالأفعال بالجوارح، فيصحب أناساً أهل حياء وخير فيكتسب منهم، والأول
أفضل وهو الحياء الغريزي.
ولكن اعلم أن الحياء خلق
محمود إلا إذا منع مما يجب، أو أوقع فيما يحرم ، فإذا منع مما يجب فإنه
مذموم كما لو منعه الحياء من أن ينكر المنكر مع وجوبه، فهذا حياء مذموم،
أنكر المنكر ولا تبالِ، ولكن بشرط أن يكون ذلك واجباً وعلى حسب المراتب
والشروط، وحياء ممدوح وهو الذي لا يوقع صاحبه في ترك واجب ولا في فعل محرم.
4-
أن من خلق الإنسان الذي لا يستحيي أن يفعل ما شاء ولا يبالي، ولذلك تجد
الناس إذا فعل هذا الرجل ما يستحيى منه يتحدثون فيه ويقولون: فلان لا
يستحيي فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا.
5- ومن فوائد الحديث على المعنى الثاني: أن ما لا يستحيى منه فالإنسان حل في فعله لقوله: إذَا لَم تَستَحْيِ فَاصنَع مَا شِئت.
6- فيه الرد على الجبرية، لإثبات المشيئة للعبد.
والله الموفق.
_____________________________________________________________________
(1)أخرجه البخاري كتاب: الأدب، باب: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، (6120)
(2) انظر الروايات في ذلك في الدر المنثور للسيوطي (7/155-163)
(3) سبق تخريجه صفحة (162)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1) تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَديثِ:
عُقْبَةُ
بنُ عمرِو بنِ ثَعْلَبَةَ الأَنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ النَّجَّارِيُّ
البَدْرِيُّ ؛ نِسْبَةً إلى بَدْرٍ سَكَنًا لاَ شُهُودًا مَعَ رسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلى الأَصَحِّ، شَهِدَ العَقَبَةَ
الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ أُحُدًا والمَوَاقِعَ كُلَّهَا بَعْدَهَا وَمَاتَ
بالمدينةِ سنةَ 42 هـ وَقِيلَ: بالكوفةِ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
الشَّرْحُ:
عَنْ أبي مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِمَّا))مِنَ الأشياءِ الَّتِي ((أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى))بيانٌ لِمَا قَالَ الأَوَّلُونَ والآخِرُونَ فيهِ عَلى مَنْهَجٍ وَاحِدٍ، ((إِذا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ))وهذَا إمَّا:
1-
تَهديدٌ وَتَوْبِيخٌ ؛ لأنَّ الحياءَ مِنَ اللهِ ومِنْ خَلْقِهِ هُوَ
الحاثُّ على الخيرِ، والزَّاجِرُ عَنِ الشَّرِّ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فيهِ
حَيَاءٌ يَفْعَلْ مَا يَشَاءُ، وَرُوِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا
أَرَادَ هَلاَكًا بِعَبْدٍ نَزَعَ منهُ الحيَاءَ، فإِذَا نَزَعَ مِنْهُ
الحَيَاءَ، لَمْ تَلْقَهُ إلاَّ مَقِيتًا مُمْقَتًا، وفي رِوَايةٍ: ((إلاَّ بَغِيضًا مُبْغَضًا))فإذَا
كَانَ مَقِيتًا مُمْقَتًا نَزَعَ اللهُ مِنْهُ الأمَانَةَ، فلَمْ تَلْقَهُ
إلاَّ خَائِنًا مُخَوَّنًا، وإذَا كانَ خَائِنًا مُخَوَّنًا، نَزَعَ منهُ
الرَّحْمَةَ، فلَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ فَظًّا غَلِيظًا، فإذَا كَانَ فَظًّا
غَلِيظًا نَزَعَ رِبْقَةَ الإيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ، فإذَا نَزَعَ رِبْقَةَ
الإيمانِ مِنْ عُنُقِهِ لَمْ تَلْقَهُ إلاَّ شَيْطَانًا لَعِينًا
مُلْعَنًا.
2- أو
بَيَانُ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ، يَعْنِي: إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْعَلَ
شَيْئًا أَوْ تَتْرُكَهُ فَانْظُرْ فإذَا كَانَ ذلِكَ يُوجِبُ الحَيَاءَ
مِنَ اللهِ -تَعَالَى- أو مِنْ خَلْقِهِ فَاتْرُكْهُ أَوِ افْعَلْهُ،
وَإِلاَّ فَأَقْدِمْ عَلى مَا أَرَدْتَ.
لَكِنْ
يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ القَانُونَ الشَّرْعِيَّ في الحياءِ فلاَ
يَتْرُكُ الْخَيْرَ، ولاَ يَقَعُ في الضَّيْرِ لأَِجْلِهِ، وهذهِ
المُرَاعَاةُ صَعْبَةٌ لا تَتَأَتَّى إلاَّ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ
الرَّاسِخِينَ في العِلمِ والعَمَلِ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحَدِيثُ العِشْرُونَ
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِي، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. الرَّاوِي: و((كَلامُ النُّبُوَّةِ الأُولَى)) أي: الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ الَّتِي جَاءَتْ بالفَضِيلَةِ ونَهَتْ عَن الرَّذِيلَةِ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الحَيَاءِ. (2) ((إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ))فِي مَعْنَاهُ قَوْلانِ:
هوأبو
مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بنُ عَمْرٍو الخَزْرَجِيُّ البَدْرِيُّ شَهِدَ
العَقَبَةَ وكَانَ أَصْغَرَهُمْ، تُوُفِّيَ فِي العَامِ الوَاحِدِ
والأَرْبَعِينَ مِنَ الهِجْرَةِ، ولَهُ مِائَةُ حَدِيثٍ واثْنَانِ.
مَوْضُوعُ الحَدِيثِ:
اتِّفَاقُ النُّبُوَّةِ عَلَى فَضْلِ الحَيَاءِ.
المُفْرَداتُ:
(1) ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى)) أي: مِمَّا أُثِرَ عَنِ الأَنْبِياءِ السَّابِقِينَ وتَدَاوَلَهُ النَّاسُ وتَوَارَثُوهُ قَرْناً بَعْدَ قَرْنٍ.
وهذا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الأَنْبِياءِ عَلَى هذا الأَمْرِ، ومَا اتِّفَاقُهُم إِلاَّ لفَضْلِ الحَيَاءِ وذَمِّ فَاقِدِه.
و(أَدْرَكُوهُ) أي: وَرِثُوهُ عَنِ الأَنْبِياءِ السَّابِقِينَ. و(النَّاسُ) أي: جَمِيعُ النَّاسِ.
الأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْرٌ بمَعْنَى التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ كقَوْلِهِ تعالَى: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ}.
أو
أَمْرٌ مَعْنَاهُ الخَبَرُ، أي: أَنَّه إِذَا لَمْ يَسْتَحِي صَنَعَ مَا
يَشَاءُ فَيَكُونُ تَحْذِيراً مِن عَدَمِ الحَيَاءِ وحَثًّا عَلَى
الحَيَاءِ.
الثَّانِي:
أَنَّهُ أَمْرٌ علَى ظَاهِرِه، أي: إِذَا كَانَ فِعْلُه مِمَّا لا يُوجِبُ
الحَياءَ فافْعَلْهُ كالطَّاعَاتِ والقُرُباتِ، فيَكُونُ طَلَبَ فِعْلَ
الطَّاعَاتِ الَّتِي لا يَمْنَعُ مِنْهَا الحَيَاءُ ولا تَمْنَعُ هِيَ مِنَ
الحَيَاءِ.
و((الحَيَاءُ))صِفَةٌ
تَقُومُ في النَّفْسِ فتَمْنَعُها مِنْ فِعْلِ مَا يُسْتَقْبَحُ. وَقَدْ
حَثَّ الإِسْلامُ عَلَيْهِ، يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))، وَقَالَ: ((الحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ))، وقَالَ: ((الحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ)).
وكَانَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ في
خِدْرِهَا، والحَيَاءُ مِن صِفَاتِ المَلائِكَةِ ومِن صِفَاتِ أَهْلِ
الإِيمانِ حَتَّى المَوْتِ.
والحَيَاءُ نَوْعَانِ:
أَوَّلاً:
ما كان جِبِلَّةً، وهي مِن أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى العَبْدِ إِذْ
يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ ويَدْعُوهُ لكُلِّ خُلُقٍ
حَسَنٍ.
ثانياً:
ما كان مُكْتَسَباً مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تعالَى ومَعْرِفَةِ
عَظَمَتِهِ وعِلْمِهِ بخَائِنَةِ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ،
وهَذَا هو المَطْلُوبُ في الحَدِيثِ؛ لأنَّهُ يَدْعُو إِلَى فِعْلِ
الوَاجِبَاتِ وتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، وكَانَ عُتْبَةُ الغُلامُ يَعْرَقُ
حَيَاءً مِن رَبِّهِ في اليَوْمِ البَارِدِ مِن ذَنْبٍ فَعَلَهُ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
مَنْزِلَةُ الحديثِ:
تَكْمُنُ
أهَمِّيَّةُ الحديثِ بدعوتِهِ إلى خُلُقِ الحياءِ، الَّذي هوَ من
الإيمانِ. والحياءُ لا يأتي منهُ إلاَّ الخيرُ، والحياءُ يدعو صاحبَهُ
للتَّحَلِّي بالفضائلِ، والبعدِ عن الرَّذائلِ. والحياءُ خُلُقُ أنبياءِ
اللهِ وإمامِهِم محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حيثُ كانَ أشدَّ
حياءً مِن العَذْراءِ في خِدْرِهَا. الحياءُ خُلُقُ ملائكةِ اللهِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ)). وخُلُقُ الحياءِ الدَّعوةُ إليهِ قديمةٌ. (2) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)). 1-
الحياءُ غيرُ المكتَسَبِ: وهوَ ما كانَ فِطرةً وجِبِلَّةً يَمُنُّ اللهُ
بهِ على مَنْ شاءَ مِنْ عبادِهِ، وهوَ مِنْ أعظمِ النِّعمِ الَّتي يَجودُ
بها الباري على مَنْ شاءَ مِنْ عِبادِهِ؛ لأنَّهُ لا يأتي إلاَّ بالخيرِ
للعبدِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ))
فنرى كثيرًا من النَّاسِ يَكُفُّ عن القبائحِ والمعاصي، وقدْ لا يكونُ
ذلكَ تَدَيُّنًا، قالَ بعضُهُم: (رَأَيْتُ المعاصِيَ نَذَالَةً
فَتَرَكْتُهَا مُروءةً، فاسْتَحَالَتْ دِيانةً). فقامَ موسى عليهِ السَّلامُ بالواجبِ وسقَى لهُمَا. ثمَّ تابعَ القرآنُ القصَّةَ: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}
بَيَّن لنا القرآنُ ما يَنْبَغِي أنْ تكونَ عليهِ المرأةُ مِنْ خُلُقٍ
وحياءٍ، فوَصَفَ لنا مِشْيَةَ هذهِ الْحُرَّةِ الشَّريفةِ؛ مِشيَةً
عُنْوَانُهَا الحياءُ والنَّقاءُ والطُّهرُ.
مِنْ إِرثِ أنبياءِ اللهِ:
(1) قولُهُ: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى))
يعني: أنَّ هذهِ الحكمةَ النَّبويَّةَ العظيمةَ، الدَّاعيَةَ إلى الحياءِ،
مِمَّا تَوَارَثَهُ النَّاسُ عنْ أنبيائِهِم جِيلاً بعدَ جيلٍ، حتَّى
وَصَلَتْ إلى أوَّلِ هذهِ الأمَّةِ المحمَّديَّةِ.
فممَّا
دعا إليهِ أنبياءُ اللهِ السَّابقونَ العبادَ التَّخلُّقُ بِخُلُقِ
الحياءِ، وهنا تَزدادُ أهمِّيَّةُ هذهِ الحكمةِ العظيمةِ الَّتي أمَرَنا
رسولُنَا أنْ نَتَخَلَّقَ بها.
معنى الأمرِ في الحديثِ:
للعلماءِ في مفهومِ أمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوالٌ؛ منها:
1-
الأمرُ للتَّهديدِ والوعيدِ، فيكونُ المعنى: إذا لمْ يكُنْ عندَكَ حياءٌ
فاعملْ ما شِئْتَ؛ فإنَّكَ مُعَاقَبٌ مُجازًى على صَنيعِكَ، وقدْ يكونُ في
الدُّنيا أو الآخرةِ أوْ في كِلاهُما.
وقدْ وَرَدَ في الذِّكْرِ الحكيمِ مثلُ هذا السِّياقِ، قالَ تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}.
2-
الأمرُ للإباحةِ، فيكونُ المعنى: إذا أَقْدَمْتَ على أمْرٍ فلمْ تَستحِ
مِنْ صَنيعِهِ من اللهِ ولا رسولِهِ ولا النَّاسِ فافْعَلْهُ؛ فإنَّهُ
يُباحُ لكَ ذلكَ.
قالَ
النَّوويُّ: (الأَمرُ فيهِ للإباحَةِ؛ أيْ: إذا أَرَدْتَ فعلَ شيءٍ فإنْ
كانَ ممَّا لا تَسْتَحِي إذا فَعَلْتَهُ مِن اللهِ ولا من النَّاسِ
فَافْعَلْهُ، وإلاَّ فلا).
3-
الأمرُ للإخبارِ، فيكونُ المعنى: أنَّ المانعَ مِنْ فعلِ ما يَشِينُ العبدَ
هوَ الحياءُ، فمَنْ فَقَدَهُ انْهَمَكَ في معاصي اللهِ عزَّ وجلَّ.
ومثلُ ذلكَ قولُهُ: ((فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))
فالأمرُ هنا؛ أيْ: تَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ نارِ جهنَّمَ. وهنا كلامٌ
جميلٌ للخَطَّابِيِّ، ونصُّهُ: (الحكمةُ في التَّعبيرِ بلفظِ الأمْرِ دونَ
الخبرِ في الحديثِ أَنَّ الَّذي يَكُفُّ الإنسانَ عنْ موافقةِ الشَّرِّ هوَ
الحياءُ، فإذا تَركَهُ صارَ كالمأمورِ طبعًا بارْتِكَابِ كلِّ شرٍّ).
الحياءُ ضَرْبانِ:
2 -
الحياءُ المُكْتَسَبُ منْ معرفةِ اللهِ وصفاتِهِ العظيمةِ الجليلةِ،
وأنَّهُ رقيبٌ على عبادِهِ لا تَخفى عليهِ خافيَةٌ، يعلمُ خائنةَ الأعينِ
وما تُخْفِي الصُّدورُ.
وهذا الحياءُ المكتَسَبُ مِنْ معرفةِ اللهِ هوَ مِنْ خصالِ الإيمانِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعـْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ)).
قالَ
الْقُرْطُبِيُّ: (الحياءُ المكتَسَبُ هوَ الَّذي جَعَلَهُ الشَّارِعُ من
الإيمانِ، وهوَ المُكَلَّفُ بهِ دونَ الغَرِيزِيِّ، غيرَ أنَّ مَنْ كانَ
فيهِ غريزةٌ منهُ فإنَّهَا تُعينُهُ على المكتَسَبِ، إذا سُلِبَ العبدُ
الحياءَ المكتسَبَ وغيرَ المكتسبِ لمْ يَبْقَ لهُ ما يَمنعُهُ مِن الوقوعِ
في القبائحِ والمعاصي، ويُصْبِحُ العبدُ شيطانًا رجيمًا يمشي على الأرضِ
بجُثَّةِ آدميٍّ، نسألُ اللهَ السَّلامَ).
الحياءُ المذمومُ:
قالَ
عِيَاضٌ وغيرُهُ: (والحياءُ الَّذي ينشأُ عنهُ الإخلالُ بالحقوقِ ليسَ
حياءً شرعيًّا، بلْ هوَ عَجْزٌ ومَهانةٌ، وإنَّما يُطْلَقُ عليهِ حياءٌ؛
لِمُشَابَهَتِهِ للحياءِ الشَّرعيِّ) فالحياءُ الَّذي يُؤَدِّي بصاحبِهِ
إلى التَّقصيرِ في حقوقِ اللهِ، فيعبدُ اللهَ على جهلٍ، ولا يَسألُ عنْ
دينِهِ، ويُقَصِّرُ في القيامِ بحقوقِهِ، وحقوقِ مَنْ يَعولُ، وحقوقِ
المسلمينَ، فهذا الحياءُ مذمومٌ؛ لأنَّهُ ضَعْفٌ وخَوَرٌ.
المرأةُ والحياءُ:
قالَ تعالى:{وَلَمَّا
وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا
قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ}. رأى موسى عليهِ السَّلامُ هاتَيْنِ البنتَيْنِ وهما على
مُسْتَوًى سَامٍ مِن الخُلُقِ القويمِ، فَهُنَّ لا يُزَاحِمْنَ الرِّجالَ،
ويُكَفْكِفْنَ غنمَهُمَا أنْ تَرِدَ معَ غنمِ الرِّعاءِ؛ لِئَلاَّ
يُؤْذَيَا.
كما
فيهِ دَلالةٌ على أنَّ هاتَيْنِ الفتاتَيْنِ خَرَجَتَا مِنْ بيتٍ ربَّاهما
فأَحْسَنَ تربيتَهُمَا، بيتٍ عظيمٍ يُعظِّمُ العِفَّةَ والحياءَ.
وعندَما
استفسرَ موسى عنْ وضعِهِمَا بيَّنَتَا لهُ سببَ خروجِهِمَا، وهوَ كِبَرُ
سنِّ والدِهمَا، وهذا هوَ سببُ الخروجِ مِن الْخِدْرِ.
قالَ أميرُ المؤمنينَ عُمَرُ: (كَانَتْ مُتَسَتِّرَةً بِكُمِّ دِرْعِهَا).
كما
بيَّنَ لنا كيفَ تُخاطِبُ المرأةُ الرِّجالَ الأجانبَ، فلا خُضوعَ بالقولِ
ولا رِقَّةَ ولا وَقَاحَةَ؛ لذلكَ اختارَ اللهُ لنبيِّهِ موسى إحداهُمَا
زوجةً لهُ، قالَ تعالى: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}.
وهكذا
يَجِبُ على وَلِيِّ الأمرِ، أنْ يُرَبِّيَ بناتِهِ على الحياءِ؛ لأنَّ
الحياءَ حُلِيُّ المرأةِ، فإذا خلَعَتْهُ خلَعَتْ معَهُ كلَّ فضيلةٍ.
لقدْ كانَت الصَّحابيَّاتُ القدوةَ في هذا الميدانِ، فيَنْبَغِي أنْ يُقتدَى بهنَّ.
عنْ
أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: (تَزَوَّجَني الزُّبيرُ
وما لَهُ في الأرضِ مِنْ مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيءٍ غيرَ ناضحٍ وغيرَ
فرسِهِ، فكنْتُ أَعْلِفُ فرسَهُ، وأَسْتَقِي الماءَ، وأَخْرِزُ غَرْبَهُ،
وأَعْجِنُ، ولمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، فكانَ يَخْبِزُ جاراتٌ لي مِن
الأنصارِ، وكُنَّ نِسوةَ صِدْقٍ، وكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أرضِ
الزُّبيرِ الَّتي أقطَعَهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَعلى
رأسِي، وهيَ مِنِّي على ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فجئْتُ يومًا والنَّوَى على
رأسِي، فلقِيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعَهُ نفرٌ
من الأنصارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قالَ: ((إِخْ إِخْ))
لِيَحْمِلَنِي خلفَهُ، فاستحيَيْتُ أنْ أَسِيرَ معَ الرِّجالِ وَذَكَرْتُ
الزُّبيرَ وغَيْرَتَهُ، وكانَ أَغْيَرَ النَّاسِ؛ فعَرَفَ رسولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنِّي قد استحيَيْتُ، فَمَضَى).
والشَّاهدُ
في هذا قولُ أسماءَ: (اسْتَحْيَـيْتُ أنْ أَسيرَ معَ الرِّجالِ).
اسْتَحَتْ أنْ تَسيرَ معَ هؤلاءِ الرِّجالِ الأطهارِ، وعندَما رأى رسولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا منها أقرَّهَا عليهِ وشجَّعَها
عليهِ، فيَجبُ على بناتِ المسلمينَ أنْ يَقتدِينَ بهؤلاءِ الصَّحابيَّاتِ؛
فهنَّ القدوةُ المُنْجِيَةُ منْ مَهَاوِي الرَّدَى.
فوائدُ من الحديثِ:
1-
يَدُلُّ الحديثُ على أنَّ الحياءَ كُلَّهُ خيرٌ، ومَنْ كَثُرَ حياؤُهُ
كَثُرَ خيرُهُ وعمَّ نَفْعُهُ، ومَنْ قلَّ حياؤُهُ قلَّ خيرُهُ.
2 - الحياءُ الَّذي يعوقُ مِن التَّعلُّمِ وطلبِ الحقِّ حياءٌ مذمومٌ.
3 - واجبٌ على وَلِيِّ الأمرِ أنْ يسعَى لِغَرْسِ خُلُقِ الحياءِ في أبنائِهِ.
4 - مِنْ فوائدِ الحياءِ العفَّةُ والوفاءُ.
5 -
يُقَابِلُ الحياءَ الوقاحةُ، وهيَ خَصْلةٌ مذمومةٌ تدعو صاحبَهَا إلى فعلِ
الشَّرِّ والانغماسِ فيهِ، والمجاهَرَةِ بالمعاصِي، قالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ)).
6 - والحياءُ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ الواجبةِ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1)
هذا الحديثُ خَرَّجَهُ البُخاريُّ مِن رِوَايةِ مَنصورِ بنِ
الْمُعْتَمِرِ، عن رِبْعيِّ بنِ حِراشٍ، عن أبي مسعودٍ، عن النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَظُنُّ أنَّ مُسْلِمًا لم
يُخَرِّجْه؛ لأنَّه قد رواه قومٌ، فقالُوا: عن رِبْعِيٍّ، عن حُذيفةَ، عن
النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختُلِفَ في إسنادِه، لكنَّ
أكثرَ الْحُفَّاظِ حَكَمُوا بأنَّ القولَ قولُ مَن قالَ: عن أبي مَسعودٍ،
منهم البخاريُّ، وأبو زُرعةَ الرَّازيُّ، والدَّارقُطنيُّ وغيرُهم،
ويَدُلُّ على صِحَّةِ ذلك أنه قد رُويَ مِن وجهٍ آخَرَ عن أبي مسعودٍ مِن
روايةِ مَسروقٍ عنه.
وخَرَّجَه الطَّبرانيُّ مِن حديثِ أبي الطُّفيلِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضًا.
(1) فقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى))
يُشيرُ إلى أنَّ هذا مأثورٌ عن الأنبياءِ المتقدِّمينَ، وأنَّ النَّاسَ
تَدَاوَلُوه بينَهم، وتَوارَثُوه عنهم قَرنًا بعدَ قَرنٍ، وهذا يَدُلُّ على
أنَّ النُّبُوَّاتِ المتقدِّمةَ جاءتْ بهذا الكلامِ، وأنه اشْتَهَرَ
بَيْنَ النَّاسِ حتى وَصَلَ إلى أوَّلِ هذه الأمَّةِ.
وفي بعضِ الرِّواياتِ قالَ: ((لَمْ يُدْرِكِ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِلا هَذَا)). خَرَّجَها حُمَيْدُ بنُ زنجوَيْهِ وغيرُه.
وقولُه: ((إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) في معناه قوْلانِ:
أحدُهما: أنه ليس بمعنى الأمرِ أن يَصنعَ ما شاءَ، ولكنَّه على معنى الذمِّ والنَّهيِ عنه، وأهلُ هذه الْمَقالَةِ لهم طريقانِ: [فصلت: 40]، وقولِه: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]، وقولِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ بَاعَ الْخَمْرَ، فَلْيُشَقِّصِ الْخَنَازِيرَ)) يعني: ليُقَطِّعْها إمَّا لبيعِها أو لأكْلِها، وأَمثلتُه مُتعدِّدةٌ، وهذا اختيارُ جماعةٍ منهم أبو العبَّاسِ ثعلبٌ. والطَّريقُ
الثَّاني: أنه أَمْرٌ، ومعناه: الخبرُ، والمعنى: أنَّ مَن لم يَسْتَحِ،
صنَعَ ما شاءَ، فإنَّ المانعَ مِن فعلِ القبائحِ هو الحياءُ، فمَن لم يكنْ
له حياءٌ، انْهَمَك في كلِّ فَحشاءَ ومُنكَرٍ، وما يَمتنعُ مِن مِثلِه مَن
له حياءٌ على حَدِّ قولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))
فإنَّ لفظَه لفظُ الأمرِ، ومعناه الخبرُ، وأنَّ مَن كَذَبَ عليه تَبَوَّأَ
مَقعدَه مِن النَّارِ، وهذا اختيارُ أبي عُبيدٍ القاسمِ بنِ سلامٍ رَحِمَه
اللَّهُ، وابنِ قُتيبةَ، ومحمَّدِ بنِ نصرٍ الْمَروزيِّ وغيرِهم، وروى أبو
داوُدَ عن الإمامِ أحمدَ ما يَدُلُّ على مِثلِ هذا القولِ.
أحدُهما: أنه أمرٌ بمعنى التَّهديدِ والوَعيدِ، والمعنى: إذا لم يكنْ لك حياءٌ، فاعمَلْ ما شئتَ؛ فإنَّ اللَّهَ يُجازيكَ عليه، كقولِه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
وروى ابنُ لَهِيعَةَ، عن أبي قَبيلٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((إِذَا
أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا، نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، فَإِذَا نَزَعَ
مِنْهُ الْحَيَاءَ، لَمْ تَلْقَهُ إِلا بَغِيضًا مُتَبَغِّضًا، وَنَزَعَ
مِنْهُ الأَمَانَةَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الأَمَانَةَ، نَزَعَ مِنْهُ
الرَّحْمَةَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الرَّحْمَةَ، نَزَعَ مِنْهُ رِبْقَةَ
الإِسْلاَمِ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ، لَمْ تَلْقَهُ
إِلا شَيْطانًا مَرِيدًا)). خَرَّجَه حُمَيْدُ بنُ زِنجويهِ، وخَرَّجَه ابنُ مَاجَه بمعناه بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ عمرَ مَرفوعًا أيضًا.
وعن
سَلمانَ الفارسيِّ، قالَ: (إنَّ اللَّهَ إذا أرادَ بعبدٍ هَلاكًا نَزَعَ
منه الحياءُ، فإذا نَزَعَ منه الحياءَ، لم تَلْقَه إلا مَقيتًا مُمَقَّتًا،
فإذا كان مَقيتًا مُمَقَّتًا، نَزَعَ منه الأمانةَ، فلم تَلْقَه إلا
خائنًا مُخَوَّنًا، فإذا كان خائنًا مُخَوَّنًا، نَزَعَ منه الرَّحمةَ، فلم
تَلْقَهُ إلا فَظًّا غَليظًا، فإذا كان فَظًّا غليظًا نَزَعَ رِبْقَ
الإيمانِ مِن عُنُقِه، فإذا نَزَعَ رِبْقَ الإيمانِ مِن عُنقِه لم تَلْقَه
إلا شيطانًا لَعِينًا مُلَعَّنًا).
وعن
ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (الحياءُ والإيمانُ في قَرَنٍ، فإذا نُزِعَ الحياءُ
تَبِعَه الآخَرُ) خَرَّجَه كلُّه حُميدُ بنُ زنجوَيْهِ في كتابِ (الأدبِ).
وقد
جَعلَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحياءَ مِنَ الإيمانِ
كما في (الصَّحِيحَيْنِ) عن ابنِ عمرَ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُو يُعاتِبُ أخاه في الحياءِ
يقولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحِي، كَأنَّه يَقولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقالَ
رسولُ اللَّه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عن أبي هُريرةَ قالَ: ((الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ) عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ)) وفي روايةٍ لمسلِمٍ، قالَ: ((الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ)) أو قالَ: ((الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ)).
والأمرُ
كما قالَه عِمرانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فإنَّ الحياءَ الممدوحَ في
كلامِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يُريدُ به
الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعلِ الجميلِ، وتَرْكِ القبيحِ، فأمَّا الضَّعفُ
والعجْزُ الذي يُوجِبُ التَّقصيرَ في شيءٍ مِن حقوقِ اللَّهِ أو حقوقِ
عِبادِه، فليس هو مِن الحياءِ، إنما هو ضعفٌ وخَوَرٌ، وعَجْزٌ ومَهانةٌ،
واللَّهُ أَعلمُ.
والقولُ الثَّاني في معنى قولِه: ((إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)). أنَّه أمَرَ بفعلِ ما يَشاءُ على ظاهرِ لفظِه، وأنَّ المعنى: إذا كان الذي تريدُ فِعلَه مما لا يُستَحْيَى مِن فعلِه، لا مِن اللَّهِ ولا مِن النَّاسِ، لكونِه مِن أفعالِ الطَّاعاتِ، أو مِن جميلِ الأخلاقِ والآدابِ المستحْسَنَةِ، فاصْنَعْ منه حينئذٍ ما شِئْتَ، وهذا قولُ جماعةٍ مِن الأئمَّةِ، منهم أبو إسحاقَ الْمَرْوَزيُّ الشَّافعيُّ، وحُكِيَ مِثلُه عن الإمامِ أحمدَ، ووَقَعَ كذلك في بعضِ نُسَخِ (مَسائلِ أبي داوُدَ) المختصَرَةِ عنه، ولكنَّ الذي في النُّسَخِ المعتمَدَةِ التَّامَّةِ كما حَكَيْناهُ عنه مِن قَبلُ.
قالَ: فَمَا شَرُّ مَا أُوتِي المُسْلِمُ؟
قالَ: ((إِذَا كَرِهْتَ أَنْ يُرَى عَلَيْكَ شَيْءٌ فِي نَادِي الْقَوْمِ، فَلاَ تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ)).
وفي (صحيحِ ابنِ حِبَّانَ) عن أسامةَ بنِ شَريكٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا كَرِهَ اللَّهُ مِنْكَ شَيْئًا، فَلاَ تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ)).
وخرَّج الطَّبرانيُّ مِن حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما تمامُ الْبِرِّ؟ قالَ: ((أَنْ تَعْمَلَ فِي السِّرِّ عَمَلَ الْعَلاَنِيَةِ)).
قالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُمَا أَمْرانِ لَمْ يَتْرُكا شَيئًا: إِتْيَانُ الْمَعْروفِ، وَاجْتِنَابُ الْمُنْكَرِ)
وخَرَّجَه ابنُ سعدٍ في (طَبقاتِه) بمعناه.
وحكى
أبو عُبيدٍ في معنى الحديثِ قولاً آخَرَ حكاهُ عن جَريرٍ، قالَ: معناه: (أن
يُريدَ الرجلُ أن يَعملَ الخيرَ، فيَدَعَهُ حياءً مِن النَّاسِ كأنه
يَخافُ الرِّياءَ، يقولُ: فلا يَمْنَعَنَّكَ الحياءُ مِنَ الْمُضِيِّ لِمَا
أَرَدْتَ، كما جاءَ في الحديثِ:((إِذَا جَاءَكَ الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَقالَ: إِنَّكَ تُرَائِي، فَزِدْهَا طُولاً)).
ثم قالَ أبو عُبيدٍ: (وهذا الحديثُ ليس يَجِيءُ سِياقُه ولا لفظُهُ على هذا التَّفسيرِ، ولا على هذا يَحْمِلُه النَّاسُ).
قلتُ: لو كان على ما قالَه جَريرٌ، لكان لفظُ الحديثِ: إذا اسْتَحْيَيْتَ مما لا يُسْتَحْيَى منه، فافعَلْ ما شئتَ، ولا يَخْفَى بُعْدُ هذا مِن لفظِ الحديثِ ومعناه، واللَّهُ أَعلمُ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
(وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري. و(النبوة
الأولى) المقصود بها: النبوات المتقدمة يعني أوائل الرسل، والأنبياء كنوح
عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام وهكذا، فإن نوحاً عليه السلام، له كلام
فشى في أتباعه فيما بعده. فالنبوة
الأولى المقصود بها: النبوات السابقة البعيدة عن إرث الناس لذلك الكلام،
فيكون مقتضى النبوة الأولى أن هناك نبوات متأخرة، وهذا صحيح لأنه إذا أُطلق
النبوات الأولى فإنما يعني به الرسل والأنبياء المتقدمون، أما موسى عليه
السلام وعيسى عليه السلام وهكذا أنبياء بني إسرائيل؛ داود وغيره هؤلاء من
النبوات المتأخرة، يعني من الأنبياء والرسل المتأخرين.
الشيخ:
هذا
الحديث فيه الكلام على شعبة من شعب الإيمان، ألا وهي الحياء، وقد أُسند
الكلام هنا إلى ما بقي للناس من النبوة الأولى، فقد قال عليه الصلاة
والسلام هنا: ((إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
وقوله- عليه الصلاة والسلام -هنا: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)) يقتضي أن هناك كلاماً أدركه الناس من كلام الأنبياء، ومعنى الإدراك أنه فشى في الناس وتناقلوه عن الأنبياء.
وقوله: ((مما أدرك الناس)) (من) هنا تبعيضية، فيكونُ هذا القول -وهو إذا لم تستحي فاصنع ما شئت- يكون بعض ما أُدرك من كلام النبوة الأولى.
وإبراهيم عليه السلام كذلك، في كلامٍ له، وكذلك مما أعطاه الله -جل وعلا- وأوحاه إليه فيما في صحفه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)) هذا يعني أن هذا الكلام كلام أنبياء وله تشريعه وله فائدته العظيمة، فهذا فيه لفت النظر إلى الاهتمام بهذا الكلام.
قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) تستحي أن الفعل استحى يستحي لأن هناك ياءين وتظهر هذه في قول الله -جل وعلا-: {إن الله لا يستحيي} فثمَّ ياءان، هنا لما أتت ((لم))
حذفت الياء التي هي من الفعل وبقيت الياء الأخرى الداخلة، وإذا قيل لم
تستح على كسر الحاء إشارةً إلى حذف الياء فلا بأس في نظائرها المعروفة في
النحو.
قوله هنا: ((لم تستحي فاصنع ما شئت)) هذا فيه ذكر الحياء، والحياء كما جاء في الحديث الآخر شعبة من الإيمان، وهو ملكةٌ باطنة.
والحياء
هذا يأتي تارةً بالجبلة والخُلق المطبوع عليه الإنسان وتارةً يأتي
بالاكتساب. أما بالجبلة والطبع فهذا يكونُ بعض الناس حييًّا كما جاء في
(الصحيح): أن رجلاً من الأنصار كان يعظ أخاه في الحياء، يعني يقول له لماذا
تستحي؟
فقال له النبي عليه السلام: ((دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)).
فالحياء
شعبة باطنة، ويكون جبليّاً طبعيّاً، ويكون مكتسباً، والمكتسب مأمور به وهو
أن يكون مستحيياً من الله -جل وعلا-، وأن يكون مبتعداً عن المحرمات، وما
يشينه عند ربه -جل وعلا-، ممتثلاً للأوامر، مقبلاً عليها لأن الله- جلا
وعلا- يحب ذلك ويرضاه، فالحياء المكتسب ما يكون في القلب من الخُلق الذي
يجعله آنفاً، أن يغشى الحرام، أو أن يترك الواجب، وهذا يكون بملازمة
الإيمان، وبالعلم والعمل الصالح حتى يكون ذلك ملَكَةً.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) العلماء اختلفوا فيه على قولين: ومجمل هذين القولين:أن هذا إما أمر.وإما ليس بأمر.
ومن
قال إنه أمر: قال معنى الحديث: إذا كان الأمر الذي تريد إتيانه مما لا
يستحى منه فاصنع ما شئت من تلك الأمور التي لا يستحى منها عند المؤمنين،
يعني إذا كان الأمر ليس حراماً، وليس مما يخرم مكارم الأخلاق، والمروءات،
ولم يكن فيه تفريط بواجب، ولم يكن مما يستحى منه في الشرع؛ فاصنعه ولا
تبالي، لأن هذا دليل أنه لا بأس به، وهذا قول إسحاق وأحمد وجماعة كثيرون.
والقول الثاني: أنه ليس بأمر. وأهل العلم في هذا أيضاً لهم توجيهان:
الأول:
قالوا إنه خرج عن معنى الأمر الذي هو الإلزام بالفعل إلى التهديد، يعني
إذا لم يكن لك حياء يمنعك من مقارفة الحرام، والمنكر، والتفريط في الواجبات
فاصنع ما شئت، فإن من لا حياء له لا خير فيه، وهذا يكون خرج للتهديد؛ لأن
صيغة (افعل) عند الأصوليين، وعند أهل اللغة، تأتي ويُراد بها التهديد كما
في قوله جل وعلا في سورة فصلت: {اعملوا ما شئتم} وهذا مخاطب به المشركون، يعني اعملوا ما شئتم من الأعمال، وليس هذا تخييراً لهم ولكنه تهديد. {ذق إنك أنت العزيز الكريم} هذا توبيخ ليس فيه الأمر الذي يوجب الامتثال، ولكن هذا من باب التهكم، والتوبيخ، والتخويف، وهكذا.
فإذاً صيغة (افعل) تخرج عن مرادها من أنه إلزامٌ بالفعل إلى صيغٍ أخرى بلاغية. منها التهديد والتوبيخ وأشباه ذلك، فهنا في قوله: ((فاصنع ما شئت))
هذا على جهة التهديد: إذا لم يكن لك مانعٌ من الحياء يمنعك عن مقارفة
المنكر فافعل ما شئت، وستلقى الحساب وستلقى سوء هذا الفعل الذي لم يمنعك
عنه الحياء.
والوجه
الثاني لهذا القول: أن طائفةً من أهل العلم قالوا: (هذا خرج مخرج الخبر)
يعني: أنَّ ما لا يُسْتحى منه فإن الناس يصنعونه، وهذا خبرٌ عن الناس وعما
يفعلونه، وهو أنَّ الأمور التي لا يستحيون منها يَصْنَعونها؛ إذا لم تستحِ
من ذلك الفعل فلك صنعه أو فالناس يَفعلونَه، فهو أمرٌ في ظاهره خبرٌ في
باطنه
وهذان
القولان ظاهران في الأول وفي الثاني يعني :أنه أمر، أو أنه ليس بأمر، خرج
على التهديد، أو على الخبر، كل هذا قريب، والحديث يحتمل القول الأول،
ويحتمل القول الثاني.
الكشاف التحليلي
حديث أبي مسعود -مرفوعاً-: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى..)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منـزلة الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة...)
معنى الإدراك
معنى (من)
المراد بالنبوة الأولى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)
فضل الحياء
أنواع الحياء باعتبار أصله:
النوع الأول: الحياء الجبلِّي
النوع الثاني: الحياء المكتسب
الخلاف في معنى الأمر في قوله: (فاصنع ما شئت):
القول الأول: أنه للتهديد، أي إذا لم تستحي فاصنع ما شئت فإنك مجزي به
اختار هذا المعنى أبو العباس ثعلب
نظيره قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير)
القول الثاني: أنه للإباحة، إذا لم يكن ما تريد فعله مما يستحيا منه فافعله
اختار هذا المعنى النووي
فيه أن الدين حياء كله
القول الثالث: أنه للإخبار وليس على ظاهر الأمر
اختار هذا المعنى القاسم بن سلام ومحمد بن نصر وابن قتيبة
نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: (...فليتبوأ مقعده من النار)
فيه أن الحياء هو الحامل على فعل الخير، وعدمه حامل على فعل الشر
مَنْ فقد الحياء فهو كالمأمور طبعاً بفعل الشر
الحياء خير كله
الحياء يبعث على كل عمل جميل
الحياء عصمة نافعة من الأعمال المشينة
الحياء من الله تعالى أصل كل خير
الحياء من الله تعالى في السر من المقامات العظيمة
الحياء من الكرام الكاتبين يوجب حفظ الجوارح
الحياء من الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب اتباع هديه
الحياء من الناس يوجب إيفاءهم حقوقهم واجتناب ظلمهم
الحياء من المؤمنين يستلزم مخالفة الكافرين وعدم التشبه بهم
الخجل من القيام بشعائر الدين عجز مذموم وليس من الحياء
حياء المرأة
من فوائد حديث أبي مسعود رضي الله عنه
الحث على الحياء
دلالة الحديث على أن الحياء خير كله
فضل التخلق بأخلاق الأنبياء
الحياء يعصم من الأفعال المشينة
ليس في شعائر الدين ما يخالف الحياء
ذم مخالفة مقتضى الحياء
وجوب كف الأذى عن الناس
العناصر
حديث أبي مسعود -مرفوعاً-: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى..)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منـزلة الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة...)
معنى الإدراك
معنى (من)
المراد بالنبوة الأولى
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)
فضل الحياء
أنواع الحياء باعتبار أصله:
النوع الأول: الحياء الجبلِّي
النوع الثاني: الحياء المكتسب
الخلاف في معنى الأمر في قوله: (فاصنع ما شئت)
الحياء خير كله
الحياء يبعث على كل عمل جميل
الحياء عصمة نافعة من الأعمال المشينة
الحياء من الله تعالى أصل كل خير
الحياء من الله تعالى في السر من المقامات العظيمة
الحياء من الكرام الكاتبين يوجب حفظ الجوارح
الحياء من الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب اتباع هديه
الحياء من الناس يوجب إيفاءهم حقوقهم واجتناب ظلمهم
الحياء من المؤمنين يستلزم مخالفة الكافرين وعدم التشبه بهم
الخجل من القيام بشعائر الدين عجز مذموم وليس من الحياء
حياء المرأة
من فوائد حديث أبي مسعود رضي الله عنه