29 Oct 2008
ح19: حديث ابن عباس: (يا غلام إني أعلمك كلمات...) ت
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
19-
عَن أَبِي العبَّاسِ عبْدِ الله بنِ عَبّاسٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُما- قالَ:
كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا،
فَقَالَ:((يَا
غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ
اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا
اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ
اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ
بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ
يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ
عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)) .رواه التِّرمذيُّ، وقالَ: (حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ).
وفي روايةِ غيرِ التِّرمذيِّ: ((احْفَظِ
اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ
يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ
لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ
النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا)).
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
تَرْجَمَةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَديثِ:
أَبو العَبَّاسِ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، ابنُ
عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ دَعَا لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتَّفَقُّهِ في الدِّينِ،
فَكَانَ بَحْرًا في العُلُومِ، وهُوَ أَحَدُ المُكْثِرِينَ مِنَ
الصَّحَابةِ، وأَحَدُ العَبَادِلَةِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحابَةِ مَاتَ
بالطَّائِفِ سَنَةَ ثمانٍ وستِّينَ، عَنْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الشَّرْحُ:
عَنْ أبي العَبَّاسِ ((قَالَ: كُنْتُ)) رَاكِبًا عَلى الدَّابَّةِ ((خَلْفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا)) مِنَ الأَيَّامِ ((فَقالَ:)) ((يَا غُلاَمُ)) نَادَاهُ لِيُصْغِيَ إليهِ، وَيَأْخُذَ مَا يُلْقِي إليهِ بِاهْتِمَامٍ، ((إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ)) مُشْتَمِلَةً عَلى عُلُومٍ كَثيرةٍ، فَخُذْهَا مِنِّي وَاعْمَلْ بِهَا ولا تَنْسَهَا ((احْفَظْ))حُقُوقَ ((اللهِ)) الظَّاهِرَةَ والباطِنَةَ ((يَحْفَظْكَ))مِنْ كُلِّ سوءٍ في الدُّنيَا والعُقْبَى؛ لأنَّ الحافِظَ مَحْفُوظٌ.
((احْفَظِ اللهَ)) في قَلْبِكَ وعَلى لِسَانِكَ، ولاَ تَغْفُلْ عَنْ ذِكْرِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ.
((تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))يُهَيِّئْ لَكَ الخَيْرَ وَيَدْفَعْ عَنْكَ السُّوءَ: مَنْ كَانَ للهِ كَانَ اللهُ لَهُ.
((وَإِذَا سَأَلْتَ)) أَيْ: إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَ شَيْئًا، ((فَاسْأَلِ اللهَ))
الذي بِيَدِهِ الأُمورُ كُلُّهَا، ولَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهَا شَيْءٌ،
وهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ مِنْهُ، ويَكْرَهُ السُؤالَ مِنْ غَيْرِهِ، وَ
لَوْ كَانَ لإنسانٍ بَصِيرَةٌ لَعَلِمَ أَنَّ السؤالَ مِنْ غَيرِ
الغَنِيِّ قِلَّةُ حَيَاءٍ وجَهْلٌ وَسُوءُ أَدَبٍ.
((وَإِذَا اسْتَعَنْتَ)) فِي شَيءٍ ((فَاسْتَعِنْ بِاللهِ))فَإِنَّهُ
القَادِرُ عَلى كُلِّ شَيءٍ؛ لاَ بِغَيْرِهِ، إذْ هُوَ أَيْ: هَذَا
الغَيْرُ عاجِزٌ عَنْ أُمورِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُعِينُكَ على أُمُورِكَ.
حُجِبَ
الخَلْقُ عَنْ ربِّ الأرْبَابِ بالأسْبَابِ، و لَوْ كَشَفَ لهُمْ
لَعَلِمُوا وَعَايَنُوا أنَّهُ هُوَ المُتَصَرِّفُ في المُسَبَّبَاتِ، قالَ
اللهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}[سورة آل عمران: 154].
((اعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ)) أيْ: الخلائِقَ، ((لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ)) وذلكَ
حاصِلٌ لَكَ، اجْتَمَعُوا عَلى نَفْعِكَ بِهِ أَمْ لاَ، ولاَ يَقْدِرُونَ
أنْ يَنْفَعُوكَ بِمَا لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ لَكَ، فَاقْطَعْ طَمَعَكَ
مِنْهُمُ، فَإِنَّهُم لاَ يَقْدِرُونَ على شيءٍ إلاَّ بِإِذْنِهِ، والرجوعِ
إليهِ.
((وَإِن اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)) وذلِكَ واصلٌ إليكَ، اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ أَمْ لاَ، ولا يَقْدِرُونَ عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِمَا لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ.
فَاقْطَعْ
خَوْفَكَ مِنْهُم، إذْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلى شيءٍ إلاَّ بِإِذْنِ اللهِ،
وَارْجِعْ إليهِ - وَإِنِ اجْتَمَعُوا - وَخَفْ مِنْهُ.
((رُفِعَتُ الأَقْلاَمُ)) التي يُكْتَبُ بِهَا المَقَادِيرُ،((وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)) التي كُتِبَ فيهَا، هذِهِ كِنَايَةٌ أنَّ الأمرَ قَدْ قُدِّرَ وَكُتِبَ وفُرِغَ مِنهُ، فَلاَ يُزَادُ فيهِ، ولا يُنْقَصُ مِنْهُ.
قَالَ
بَعْضُ أَهْلِ اللهِ: (تَفَكَّرْتُ في الخَلْقِ فَوَجَدْتُهُمْ
نَوْعَيْنِ: أَعْدَاءٌ وَأَحِبَّاءُ، فَتَفَكَّرْتُ في الأعداءِ،
فَتَيَقَّنْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَضُرُّونَ بغيرِ المَقْدُورِ؛ فَأَيِسْتُ
مِنْهُم، وَتَفَكَّرْتُ فِيمَا عِنْدَ اللهِ، فَتَيَقَّنْتُ أَنَّهُ لا
يَكُونُ إِلاَّ مَا قَدَّرَ، فَتَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ، وَفَوَّضْتُ الأَمْرَ
إِليْهِ) أَوْ كَمَا قَالَ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: (حَدِيثٌ صَحِيحٌ).
وَفِي رِوَايَةِ غَيرِ التِّرْمِذِيِّ:((احْفَظِ اللهَ))بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ زَوَاجِرِهِ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ،((تَجِدْهُ أَمَامَكَ)) مُيَسِّرًا لَكَ الخيرَ، دَافِعًا عَنْكَ الضَّيْرَ. ((تَعَرَّفْ)) تَحَبَّبْ بالطَّاعةِ والشُّكْرِ إلى اللهِ ((في الرَّخَاءِ)) في أَوَانِ الصِّحَّةِ وَالغِنَى والخِصْبِ ونَحوِ ذلِكَ، ((يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ))بِتَفْرِيجِهَا
عَنْكَ، وَجَعْلِهِ لَكَ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، ومِنْ كُلِّ هَمٍّ
فَرَجًا، بِوَاسِطَةِ ما سَلَفَ مِنْكَ مِنَ التَّعَرُّفِ في زمانِ
الرَّخَاءِ، وَبِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ يَلْتَجِئُ إلى مَوْلاَهُ في
الشِّدَّةِ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ في الرَّخاءِ.
((وَاعْلَمْ)) عِلْمَ اليَقِينِ((أنَّ مَا)) الذي ((أَخْطَأَكَ)) من المَحْبُوبَاتِ والمَكْرُوهَاتِ ((لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ)) لأنَّ العَلِيمَ لمْ يُقَدِّرْهُ في حَقِّكَ، ((وَمَا أَصَابَكَ))من المَكْرُوهَاتِ والمَحْبُوبَاتِ((لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ)) لأنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ إِصَابَتَهُ إِيَّاكَ، ولاَ رَادَّ لِمَا أَرَادَ.
((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ)) على النفسِ الأَمَّارَةِ والشَّيْطَانِ وسائِرِ الأَعداءِ كائِنٌ ((مَعَ الصَّبْرِ))عَلى المُجَاهَدَةِ - مَعَ مَا تَقَدَّمَ - حَقَّ المُجَاهَدَةِ.
((وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ)) فلا تَيْأَسْ مِنْ فَرَجِهِ مَعَ كَمَالِ الشِّدَّةِ.
((وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا))
فَارْجُ يُسْرَهُ بعدَ العُسْرِ؛ فإنَّهُ لا دَوَامَ للعُسْرِ، وفي هذَا
إشارةٌ إلى تَهْوِينِ الأمْرِ الصَّعْبِ وإنْ عَظُمَ، فإنَّهُ لا دَوَامَ
لَهُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ
عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ
خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ يَوْماً فَقَال: ((يَا
غُلاَمُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ،
احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ،
وَإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ
اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ
بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ. وَإِنْ
اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ
بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ
الصُّحُفُ)) روَاهُ التِّرْمِذِيُّ وأَحْمَدُ والحَاكِمُ. (2) ((إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ))
العِلْمُ: هو إِدْراكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هو عليهِ إِدْراكاً جازماً،
والمُرادُ: أُفَهِّمُكَ وأُوَضِّحُ لَكَ وأُبَيِّنُ لَكَ لِتَعِيَها
وتَعْمَلَ بِهَا. ((يَحْفَظْكَ)) حِفْظُ اللَّهِ للعَبْدِ نَوْعَانِ: وآخَرُ
فَقَدَها وأَخَذَ يَسْأَلُ النَّاسَ فقَالَ: (ضَيَّعَ اللَّهَ فِي
صِغَرِهِ فضَيَّعَهُ اللَّهُ فِي كِبَرِهِ) ويُحْفَظُ مِنَ الدَّوَابِّ
المُهْلِكَةِ كَمَا حَفِظَ صلةَ بنَ أَشْيَمَ وأَبَا الحَارِثِ الأُولاسيَّ
مِنَ الأَسَدِ -وقِصَّتُهُمَا مَعْرُوفَةٌ في كُتُبِ السِّيَرِ-
وغَيْرَهُمْ، فهو حِفْظٌ للعَبْدِ في دُنْياهُ. الثَّانِي:
حِفْظُ اللَّهِ للعَبْدِ فِي دِينِهِ وإِيمَانِهِ، فيَحْفَظُهُ مِنَ
الشُّبُهاتِ المُضِلَّةِ والشَّهَواتِ المُحَرَّمَةِ، ويُثَبِّتُهُ عَلَى
الحَقِّ ويَتَوَفَّاهُ عَلَيْهِ، ويُثَبِّتُهُ في قَبْرِهِ بالجَوَابِ
الثَّابِتِ، ويَدْفَعُ عَنْهُ العَذَابَ.
الرَّاوِي:
عَبْدُ
اللَّهِ بنُ عَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، كَانَ عَالِماً عَابِداً
مُقَدَّماً مَعَ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، أَحَادِيثُهُ أَلْفٌ وسِتُّمِائَةٍ
وسِتُّونَ حَدِيثاً، تُوُفِّيَ عَامَ ثَمَانِيَةٍ وسِتِّينَ للهِجْرَةِ.
مَوْضُوعُ الحَدِيثِ:
غَرْسُ العَقَائِدِ في نُفُوسِ الصِّغَارِ، أو الوَصِيَّةُ الجَامِعَةُ.
المُفْرَدَاتُ:
(1) ((كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)) أي: كُنْتُ رَدِيفَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ ورَاكِباً مَعَه.
وفيهِ: تَواضُعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وفِيهِ: جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ.
وفِيهِ: الاهْتِمَامُ بالنَّاشِئَةِ.
وفيهِ: تَقْدِيمُ أُولِي الفَضْلِ مِن قَوْلِهِ: (خَلْفَ).
وفيهِ: حِفْظُ الوَقْتِ.
وفيهِ: التَّعْلِيمُ فِي السَّفَرِ.
((يَوْماً)) جُزْءٌ مِنَ الزَّمَنِ سَاعَةٌ أو بَعْضُ السَّاعَةِ أو أَكْثَرُ.
واليَوْمُ يُطْلَقُ عَلَى النَّهَارِ: كقَوْلِهِ تعالَى:{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184].
ويُطْلَقُ عَلَى اللَّيْلِ والنَّهَارِ:كقَوْلِهِ تعالَى:{يَوْمَ سَبْتِهِمْ}[الأعراف:163].
ويُطْلَقُ عَلَى الحِينِ: كقَوْلِهِ تعالَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا} [النازعات: 46] أي: حِينَ يَرَوْنَهَا.
ويُطْلَقُ علَى القِيامَةِ: كقولِهِ تعالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]
وَقَدْ جَعَلَهُ نَكِرَةً لعَدَمِ العِلْمِ بذَلِكَ اليَوْمِ؛ لأنَّهُ لا
فَائِدَةَ مِنَ العِلْمِ بِهِ، وإِنَّمَا الغَرَضُ مَعْرِفَةُ
النَّصِيحَةِ.
وفيهِ: أَنَّ النَّصِيحَةَ تُبْذَلُ كُلَّ حِينٍ.
((يَا غُلامُ)) فيهِ: التَّلَطُّفُ مَعَ الصِّغَارِ.
وفيهِ:
اغْتِنَامُ الوَقْتِ فِي الدَّعْوَةِ وحِفْظُ الأَوْقَاتِ، وأَنَّ
الدَّعْوَةَ لا تَخْتَصُّ بزَمَنٍ ولا بمِكَانٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ فِي كُلِّ
حِينٍ.
وفِيهِ:
الحِرْصُ عَلَى النَّاشِئَةِ، والغُلامُ: هُوَ الصَّبِيُّ مِن حَينِ
يُفْطَمُ حَتَّى يَبْلُغَ، والمُرَادُ بِهِ الذَّكَرُ، ويُقَابِلُه
الجَارِيَةُ مِنَ النِّسَاءِ.
والكَلِمَاتُ:جَمْعُ
كَلِمَةٍ، وهي الجَامِعَةُ لعِدَّةِ أَحْرُفٍ، أَقَلُّها اثْنَانِ،
وأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ أو أَكْثَرُ، ويَلِيهَاالجُمْلَةُ الـمُكَوَّنَةُ
مِن كَلِمَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، ثُمَّ المَسْأَلَةُ ثُمَّ الفَصْلُ ثُمَّ
البَابُ ثُمَّ الكِتَابُ وهكذا. وجُمِعَتْ للقِلَّةِ؛ لتَسْهِيلِ
حِفْظِهَا، ونُوِّنَتْ إِخْباراً بعَظِيمِ خَطَرِهَا، وهذِهِ دَعْوَةٌ
قَوْلِيَّةٌ، والدَّعْـوَةُ الفِعْلِيَّةُ كَمَا وَرَدَ في الحَدِيثِ: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)).
والدَّعْوَةُ
بالمُعَامَلَةِ كَمَا حَصَلَ مَعَ زَيْدِ بنِ سُعْنةَ اليَهُودِيِّ مِن
الحِلْمِ عَلَيْهِ عِنْدَما أَغْضَبَهُ زَيْدٌ اليَهُودِيُّ، وكَانَتْ
النَّتِيجَةُ إِسْلامَ زَيْدٍِ.
(3) ((احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ)) هَذِهِ الكَلِمَاتُ التي أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ إِيَّاها.
ومَعْنَى ((احْفَظِ اللَّهَ))
أي: احْفَظْ حُدُودَهُ وحُقُوقَهُ وأَوَامِرَهُ ونَوَاهِيَهُ، ومِنْ
أَعْظَمِ ذَلِكَ الصَّلاةُ، والطَّهَارَةُ، والإِيمانُ، وحِفْظُ الرَّأْسِ
وَمَا وَعَى، والبَّطْنِ وما حَوَى، وحِفْظُ الجَوَارِحِ جَمِيعاً، وحِفْظُ
حُقُوقِ الخَلْقِ مِن السلامِ، وعِيَادَةِ المَرِيضِ، وتَشْمِيتِ
العَاطِسِ، ونُصْرَةِ المَظْلُومِ، واتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وإِبْرَارِ
المُقْسِمِ، وغَيْرِها.
الأَوَّلُ:
أَنْ يَحْفَظَ لَهُ مَصَالِحَ دُنْياهُ، كحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وأَهْلِهِ
ومَالِهِ ودَوَامِ القُوَّةِ والبَرَكَةِ في الوَقْتِ والبَرَكَةِ فِي
العُمُرِ، ويُحْفَظُ فِي جِيرَانِهِ وفي مُجْتَمِعِه.
قَالَ: (حَفِظْنَاها مِنَ المَعَاصِي فِي الصِّغَرِ، فحَفِظَها اللَّهُ عَلَيْنَا في الكِبَرِ).
(4) ((احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)) أي: تَجِدْهُ أَمَامَكَ يَدُلُّكَ عَلَى الخَيْرِ وهو حَسْبُكَ وكَافِيكَ، وهو مَعَكَ في كُلِّ أَحْوَالِكَ يَحُوطُكَ ويَنْصُرُكَ ويَحْفَظُكَ ويُوَفِّقُكَ ويُسَدِّدُكَ، وهَذِهِ المَعِيَّةُ تَقْتَضِي النَّصْرَ والتَّأْيِيدَ والحِفْظَ والإِعَانَةَ، وهَذِهِ المَعِيَّةُ الخَاصَّةُ لأَوْلِيَائِهِ وأَحِبَّائِهِ وأَصْفِيائِهِ.
(5) ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ))
إِرْشَادٌ لِمَنْ يَكُونُ السُّؤالُ، وعلَى مَنْ يَكُونُ الاعْتِمَادُ؟
والمَعْنَى: تَوَجَّهْ بسُؤَالِكَ لمَنْ يَمْلِكُ الإِجَابَةَ، ويُعْطِي
السُّؤالَ، ولمَنْ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، ولِمَنْ تَزْدَادُ بدُعَائِهِ
قُرْبَةً وطَاعَةً؛ ولِذَا يَقولُ تعالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
وأَمَرَنا بالدُّعَاءِ ووَعَدَنَا بالإِجَابَةِ فالسُّؤَالُ سُؤالُ
عِبَادَةٍ وسُؤَالُ مَسْأَلَةٍ، وسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةٌ
وعِبَادَةٌ وقُرْبَةٌ وعِزٌّ، وسُؤالُ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ وذُلٌّ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ يَتَكَفَّلْ لِي أَنْ لاَ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً أَتَكَفَّلْ لَهُ بالجَنَّةِ...))الحَدِيثَ.
وكَانَ أبو بَكْرٍ وثَوْبَانُ لا يَسْأَلانِ أَحَداً شَيْئاً.
ثالثاً: مَن أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يُوسِرَ.
وفي سُؤالِ العَبْدِ لرَبِّهِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، واعْتِمَادُ القَلْبِ على اللَّهِ، وإِخْلاصُ العِبَادَةِ لَهُ، والتَّحَرُّرُ مِنْ رِقِّ المَسْأَلَةِ لغَيْرِهِ فيَسْأَلُه فِي الهِدَايَةِ وفي العِلْمِ وفي الوَلَدِ وفي الصِّحَّةِ وفي المَالِ وفي كُلِّ شَيْءٍ.(6) ((وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللَّهِ)) أي: إِذَا عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ وأَرَدْتَ الإِعَانَةَ فَاسْأَلِ اللَّهَ العَوْنَ لِيُعْطِيَكَ القُوَّةَ في بَدَنِكَ أو يُسَخِّرَ لَكَ مَنْ يُعِينُكَ. ولِذَا لَمَّا ضَاقَتْ عَلَى المُسْلِمِينَ في بَدْرٍ والأَحْزَابِ، اسْتَعَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ برَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ فأَعَانَهُ ونَصَرَه.
ويُطْلَبُ العَوْنُ مِمَّنْ يَمْلِكُ القُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ مِن غَيْرِ مَحْظُورٍ شَرْعِيٍّ، أَمَّا طَلَبُ العَوْنِ مِنَ السَّحَرَةِ والكَهَنَةِ والمُشَعْوِذِينَ فَشِرْكٌ.والاسْتِعَانَةُ نَوْعٌ مِن أَنْوَاعِ العِبَادَةِ؛ ولِذَا يَقُولُ تَعَالَى:{وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}،
وقِصَّةُ أَبِي مِعْلَقٍ عِنْدَما اسْتَعَانَ باللَّهِ أَعَانَهُ،
وكَفَاهُ شَرَّ عَدُوِّهِ، واسْتِعَانَةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ
برَبِّهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ فأَعَانَهُ.
(7) ((وَاعْلَمْ بأَنَّ الأُمَّةَ))
هذه حَقِيقَةُ الإيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ؛ إِذْ قَدْ قَضَى اللَّهُ
الأَشْيَاءَ وقَدَّرَهَا عِلْماً، وكِتَابَةً، ومَشِيئَةً، وخَلْقاً،
يَقُولُ تعالَى:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [الحديد:22] وهَذَا لا يُنَاقِضُ العَمَلَ؛ لأَنَّ العَمَلَ مَطْلُوبٌ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ))وفِي هَذَا الإيمانُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ، وتَفْوِيضُ الأُمُورِ إِلَى بَارِئِهَا.
و((الأُمَّةُ)) الجَمَاعَةُ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهَا: المِلَّةُ، كقَوْلِ اللَّهِ تعالَى: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22].
وقَدْ يُرَادُ بِهَا: الإِيمانُ، كقولِهِ تعالَى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}[النحل: 120].
وَقَدْ يُرَادُ بِهَا: الزَّمَنُ، كقَوْلِهِ تعالَى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45].
ويُرَادُ
بِهَا: أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، أي: جَمِيعُ النَّاسِ، فلا نَفْعَ عِنْدَهُم
ولا خَيْرَ إِلاَّ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(8) ((تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ))
أي: اعْرِفْ رَبَّكَ بدَوَامِ طَاعَتِهِ وَقْتَ الرَّخَاءِ والنِّعْمَةِ
والأَمْنِ والصِّحَّةِ يَعْرِفْكَ، ويُجِبْ دُعَاءَكَ وَقْتَ الشِّدَّةِ،
وأَدِمْ صِلَتَكَ برَبِّكَ، ودَاوِمِ العَمَلَ بطَاعَتِهِ، واعْلَمْ أَنَّ
دَوَامَ الطَّاعَةِ إِجَابَةُ دُعَاءٍ، وإِعْطَاءُ سُؤالٍ، ومَغْفِرَةُ
ذَنْبٍ، وتَنْفِيسُ كَرْبٍ، وتَيْسِيرُ عُسْرٍ.
ومَعْرِفَةُ العَبْدِ لرَبِّهِ نَوْعَانِ:
الأَوَّلُ: المَعْرِفَةُ العَامَّةُ وهِيَ مَعْرِفَةُ الإِقْرَارِ بِهِ والتَّصْدِيقِ والإِيمانِ، وهذه عَامَّةٌ للمُؤْمِنِينَ.
الثَّانِي:
المَعْرِفَةُ الخَاصَّةُ، وهي مَيْلُ القَلْبِ إِلَى اللَّهِ
بالكُلِّيَّةِ، والانْقِطَاعُ إِلَيْهِ، والاشْتِغَالُ بِهِ،
والطُّمَأْنِينَةُ بذِكْرِه، والحَيَاءُ منهُ، والهِبَةُ لَهُ.
ومَعْرِفَةُ اللَّهِ للعَبْدِ نَوْعَانِ:
وفِيهِ بَيَانُ أَسْبَابِ النَّصْرِ الأَعْظَمِ وهي:
1- الصَّبْرُ وهو مِفْتاحُ الفَوْزِ والفَلاحِ.
3- تَحَرِّي القِتَالِ في أَوْقاتِ البَرْدِ بَعْدَ الزَّوَالِ.
4- سُؤالُ اللَّهِ العَوْنَ والنَّصْرَ وخَذْلَ الأَعْدَاءِ.
5- اخْتِيارُ الوَقْتِ المُناسِبِ.
6- اخْتِيارُ الدُّعاءِ المُنَاسِبِ.
7- دَفْعُ الشَّرِّ بتَرْكِهِ والصَّبْرُ عِنْدَ حُلُولِهِ.
8- ذِكْرُ اللَّهِ تعالَى.
وفيهِ
بَيَانُ أَنَّ الأُمُورَ قَدْ تَتَحَقَّقُ بضِدِّهَا، فالفَرَجُ يَكُونُ
بوُجُودِ ضِدِّهِ وهو الكَرْبُ، واليُسْرُ يَكُونُ بوُجُودِ ضِدِّهِ وهو
العُسْرُ، فَيَثِقُ العَبْدُ بما عِنْدَ رَبِّهِ، ويَزْدَادُ مِن حُبِّهِ
ورَجَائِهِ ودُعَائِهِ، ويُحْسِنُ الظَّنَّ بهِ ويَقْطَعُ التَّعَلُّقَ
بغَيْرِه، فلا يَيْأَسُ وإِنَّمَا يَرْجُو.
فمَنْ صَبَرَ انْتَصَرَ، ومَنْ كُرِبَ جَاءَهُ الفَرَجُ، ومَنْ تَعَسَّرَ فِي أُمُورِهِ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
3- القِيَامُ بوَاجِبِ الدَّعْوَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
4- الاهْتِمَامُ بالنَّاشِئَةِ وتَعْلِيمُهم أُمُورَ الدِّينِ.6- الجَزَاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ.
7- الطَّاعَةُ حِفْظٌ لصَاحِبِهَا.
8- المَعْصِيَةُ ضَياعٌ لصَاحِبِهَا.
9- حِفْظُ اللَّهِ تعالَى لمَنْ حَفِظَهُ.
10- التَّوَجُّهُ إلى اللَّهِ تعالَى فِي الدُّعاءِ.
11- النَّهْيُ عَنْ سُؤالِ غَيْرِ اللَّهِ تعالَى إِلاَّ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ.
12- تَحْرِيمُ دُعَاءِ الأَمْواتِ والأولياءِ المَزْعُومِينَ ونَحْوِهِم.
13- الاسْتِعَانَةُ باللَّهِ وَحْدَهُ.
14- الإيمانُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ.
15- مُرَاقَبَةُ الرَّبِّ تعالَى.
16- دَوامُ العَمَلِ الصَّالِحِ حِفْظٌ للعَبْدِ.
17- انْقِطَاعُ العَمَلِ الصَّالِحِ ضَيَاعٌ للعَبْدِ.
18- بيانُ حَقِيقَةِ القَدَرِ.
19- بيانُ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ.
20- أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الصَّبْرَ.
21- تَحْرِيمُ اليَأْسِ والقُنُوطِ.
22- الثِّقَةُ بما عِنْدَ اللَّهِ تعالَى.
23- الأشياءُ تَتَبَيَّنُ بضِدِّهَا.
24- أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
25- البَدْءُ بالأَهَمِّ فالأَهَمِّ في الدَّعْوَةِ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
مَنْزِلَةُ الحديثِ:
قالَ
ابنُ رجبٍ: (هذا الحديثُ يَتضمَّنُ وَصايا عظيمَةً، وقواعدَ كُلِّيَّةً
مِنْ أهمِّ أمورِ الدِّينِ، حتَّى قالَ بعضُ العلماءِ: تَدَبَّرْتُ هذا
الحديثَ فأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَاأَسَفًا مِن الجهلِ بهذا
الحديثِ وقِلَّةِ التَّفهُّمِ لمَعْنَاهُ). احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ: ويكونُ
حِفْظُ اللهِ للعبدِ في الدُّنيَا بِحِفظِ مَصَالِحِهِ الدُّنيويَّةِ،
وحِفْظِ بَدَنِهِ وولدِهِ وأهلِهِ ومالِهِ، قالَ تَعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}،
قالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ: (فيهِ دليلٌ على أنَّ الرَّجُلَ الصَّالحَ
يُحْفَظُ في ذُرِّيَّتِهِ، وتَشملُ بَرَكَةُ عِبادتِهِ لَهُمْ في الدُّنيا
والآخِرةِ، بشَفاعتِهِ فيهم ورَفْعِ دَرَجَتِهِم إلى أعلى درجةٍ في
الجنَّةِ؛ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِمْ، كما جاءَ في القُرآنِ وَوَرَدَت
السُّنَّةُ بهِ). قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ: عن ابنِ عبَّاسٍ: (حُفِظَا
بِصَلاحِ أبيهِمَا). قالَ
سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ لابنِهِ: (لأَزِيدَنَّ في صَلاتي مِنْ أَجْلِكَ؛
رَجاءَ أنْ أُحْفَظَ فيكَ. ثمَّ تلا الآيَةَ السَّابقةَ).
(1) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ))
يعني: احْفَظْ أوامرَهُ ونَواهيَهُ وحدودَهُ وحقوقَهُ، ويكونُ ذلكَ
بامتثالِ ما أمرَ اللهُ بهِ ورسولُهُ منْ واجباتٍ، والابتعادِ عن
المَنْهِيَّاتِ.
فمَنْ قامَ بذلكَ مدحَهُ اللهُ في كتابِهِ قالَ تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}.
عن ابنِ عبَّاسٍ في تفسيرِ (حفيظٍ): (هوَ الحافظُ لأَمْرِ اللهِ).
ومِنْ أعظمِ ما أمرَ اللهُ بِحِفْظِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}، ومَدَحَ ربُّ العالمينَ مَنْ حافظَ عليهَا: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.
قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَحْفَظـْكَ))
مَنْ حَفِظَ أوامرَهُ، وقامَ بما أَوْجَبَ اللهُ عليهِ، وانتهى عمَّا
نَهَى عنهُ حَفِظَهُ اللهُ؛ فإنَّ الجزاءَ مِنْ جِنْسِ العملِ، قالَ تعالى: {أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، وقالَ: {اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، وقالَ: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ}.
ويكونُ
الحفظُ للعَبْدِ بِحِفْظِ دينِهِ وإيمانِهِ مِن الشُّبُهاتِ الْمُضِلَّةِ،
والشَّهواتِ الْمُحَرَّمةِ، حتَّى يَلْقَى اللهَ وهوَ على دِينٍ وخُلُقٍ
كما يُحِبُّ ربُّنَا ويَرْضَى. لذلكَ كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدعو ربَّهُ بأنْ يَحْفَظَهُ ((إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ)).
وحَفِظَ اللهُ دِينَ يُوسُفَ عليهِ، وصَرَفَ عنهُ الْفِتَنَ الْمُضِلَّةَ والشَّهواتِ الْمُحَرَّمَةَ، قالَ تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
(2) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))
مَنْ حَفـِظَ أَوامِرَ اللهِ في نفسِهِ وأَهلِهِ، واستقامَ وَفْقَ الكتابِ
والسُّنَّةِ، كانَ اللهُ معهُ في كلِّ أحوالِهِ، حيثُ تَوجَّهَ يَحوطُهُ
بعنايتِهِ ونصرِهِ وحِفْظِهِ وتوفيقِهِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
- وقالَ اللهُ مُخَاطِبًا موسى وهارونَ: {لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}.
- وقالَ مُخْبِرًا عنْ موسى عليهِ السَّلامُ: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
- وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصِّدِّيقِ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا)) وقالَ لهُ كذلكَ: ((لاَ تَحْزَنْ؛ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)).
وهذهِ
المعيَّةُ الخاصَّةُ الَّتي تَقْتَضِي النَّصرَ والتَّأييدَ والْحِفْظَ
والإعانةَ، كما بَيَّنَ أهلُ العلْمِ، وهيَ بِخِلافِ المَعِيَّةِ الَّتي
وَرَدَتْ بقولِهِ سبحانَهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ …}، وقولِهِ: {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ}، فهذهِ المعيَّةُ تَقتضِي عِلْمَهُ واطِّلاعَهُ ومُراقبَتَهُ لأعمالِهِم، فهيَ مُقْتَضِيَةٌ للتَّخويفِ والتَّهديدِ.
حُكْمُ السُّؤالِ:
(3) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِذَا سَأَلـْتَ فَاسْأَلِ اللهَ))المقصودُ بالسُّؤالِ هنا الدُّعاءُ، والدُّعاءُ هوَ العِبادةُ، قالَ تعالى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ}، وَعَدَّ اللهُ مَنْ لا يَدْعُوهُ مِن الْمُسْتَكْبِرِينَ: {وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
فيَجبُ
على المسلمِ أنْ لا يَتَوَجَّهَ لغيرِ اللهِ في الأمورِ الَّتي لا
يَقْدِرُ على تَحقيقِهَا إلاَّ اللهُ، ومَنْ وَقعَ في ذلكَ وَقعَ في
الشِّركِ الَّذي نَهَى اللهُ عِبادَهُ عنهُ، قالَ تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
قالَ
ابنُ رجبٍ:(واعلَمْ أنَّ سُؤَالَ اللهِ عزَّ وجلَّ دونَ خَلْقِهِ هوَ
الْمُتَعَيِّنُ؛ لأنَّ السُّؤالَ فيهِ إظهارٌ للذُّلِّ مِن السَّائلِ
وَالْمَسْكَنَةِ والحاجةِ والافتقارِ، وفيهِ الاعترافُ بقُدرةِ المَسْئُولِ
على رَفْعِ الضُّرِّ ونَيلِ المطلوبِ وجَلْبِ الْمَنافعِ ودَرْءِ
الْمَضَارِّ، ولا يَصْلُحُ الذُّلُّ والافتقارُ إلاَّ للهِ وَحْدَهُ؛
لأنَّهُ حقيقةُ العِبادَةِ).
أمَّا
مِنْ حيثُ سُؤالُ النَّاسِ في الأمورِ الَّتي يَقْدِرُونَ على تَحقيقِهَا
مِنْ أُمُورِ الدُّنيا وَحُطَامِهَا، فوَرَدَتْ أحاديثُ كثيرةٌ تَذُمُّ
المسألةَ في هذا، وتُرَغِّبُ بالتَّعفُّفِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ
تَحِلُّ إِلاَّ لأَِحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ
لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، أَوْ رَجُلٍ
أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ
حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ-
وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي
الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ
لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قالَ:
سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ
سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا)).
والنُّصوصُ
في هذا الْمَقامِ كثيرةٌ، فمِنْهَا ما يَنْهَى عن المسألةِ نَهْيَ تَحريمٍ
كما في الحديثِ السَّابقِ، ومِنها ما نَهَى نَهْيَ كَراهةٍ؛ مِثلُ سؤالِ
بعضِ النَّاسِ رُفَقَاءَهُم حاجاتِهِم الخاصَّةَ بهم مِنْ سَيَّارةٍ
وَأَوَانٍ وقَلَمٍ دُونَ حاجةٍ إلى ذلكَ.
وممَّا
وَرَدَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنَّهُ بايَعَ
جماعةً مِنْ أصحابِهِ على أنْ لا يَسألُوا النَّاسَ شيئًا، منهم أبو بكرٍ،
وأبو ذَرٍّ، وَثَوْبَانُ، وكانَ أحدُهُم يَسقطُ السَّوطُ أوْ خُطَامُ
ناقتِهِ، فلا يَسألُ أحدًا أنْ يُناوِلَهُ إيَّاهُ).
قالَ
بعضُ أهلِ العلمِ مُعَلِّقًا على ذلكَ الحديثِ: (فيهِ التـَّمسـُّكُ
بالعُمومِ ؛ لأنَّهم نُهُوا عن السُّؤالِ، فحَمَلُوهُ على العُمومِ.
وفيهِ التَّنزيهُ عنْ جميعِ ما يُسَمَّى سُؤالاً وإنْ كانَ حَقيرًا).
الاستعانةُ باللهِ وحدَهُ:
(4) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((وَإِذَا اسْتَعَنـْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ)) العَبدُ مهما أُوتِيَ مِنْ جاهٍ وقُوَّةٍ وسُلطانٍ، فهوَ لا يَزالُ فقيرًا عاجزًا عن الاستقلالِ بِجَلْبِ مَصالِحِهِ، ودَفْعِ مضارِّهِ؛ لذلكَ يَجِبُ على العبدِ أنْ يَستعينَ باللهِ وَحْدَهُ على مَصالِحِ دِينِهِ ودُنياهُ، فمَنْ أعانَهُ اللهُ فهوَ الْمُعَانُ الْمُوَفَّقُ، ومَنْ خَذَلَهُ وتَخلَّى عنهُ فهوَ الخاسرُ الْمُفْلِسُ؛ لذلكَ عَظُمَ الأَجْرُ على كَلمةِ (لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ)؛ فهيَ كَنْزٌ مِنْ كُنوزِ الجنَّةِ كما بَيَّنَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ فيها اعترافًا بأنَّهُ لا تَحوُّلَ للعبدِ منْ حالٍ إلى حالٍ، ولا قُوَّةَ لهُ على ذلكَ إلاَّ باللهِ وحدَهُ سبحانَهُ وتعالى.
قالَ تَعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلاَ تَعْجِزْ)).
الإيمانُ بالقضاءِ والقَدَرِ:
(5) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاعْلَمْ
أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ
يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا
عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ
كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))
في هذا الْمَقْطَعِ مِن الحديثِ يَدُورُ كلامُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ قَضِيَّةٍ مِنْ قَضايا القَضاءِ والقَدَرِ،
فيَجِبُ على العبدِ الإيمانُ بذلكَ. فاللهُ جلَّ جلالُهُ عَلِمَ عِلْمًا
شاملاً كاملاً ودَقيقًا لمْ يَسْبِقْهُ جَهْلٌ بما سيَكْسِبُ العبدُ مِن
الخيرِ والشَّرِّ، وبما سيُصيبُهُ مِنْ خيرٍ ونَفْعٍ، وكَتَبَ ذلكَ في
الكتابِ السَّابقِ.
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))، وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ؛ فَجَرَى فِي
تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
والعبدُ
لا يُصيبُهُ مِنْ خيرٍ ونَفْعٍ إلاَّ ما قُدِّرَ عليهِ، فمَنْ قَدَّرَ
اللهُ لهُ نَفْعًا لو اجْتَمَعَ أهلُ السَّماءِ والأرضِ على مَنْعِ
النَّفْعِ عنهُ لا يَستطيعونَ إلى ذلكَ سبيلاً. دلَّ كتابُ الْمَلِكِ
العلاَّمِ على مِثلِ ذلكَ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} وقالَ سُبحانَهُ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
لذلكَ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)).
هذهِ مِن الْحِكَمِ النَّبويَّةِ الَّتي يَنْبَغِي أنْ تُحْفَظَ وتُنْشَرَ، وهيَ تَدْعُو إلى مَعْرِفَةِ اللهِ في الرَّخاءِ والأمْنِ والصِّحَّةِ والغِنَى والقُوَّةِ، وتكونُ معرفتُهُ بالمحافَظةِ على الواجباتِ وتَرْكِ المنهيَّاتِ وزيادةِ التَّقرُّبِ إليهِ بالنَّوافلِ. فَمَنْ عَرَفَ اللهَ في هذا الْمَقامِ عَرَفَهُ عندَما تَحِلُّ بهِ الشِّدَّةُ والضِّيقُ والفقرُ والمرضُ، وما أكثرَ همومَ الدُّنيا ومصائبَهَا.
لقدْ
عَرَفَ حبيبُنَا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّهُ في
الرَّخاءِ، فعَرَفَهُ في الغارِ، وعَرَفَهُ يومَ بدرٍ ويومَ الأحزابِ
ونَصَرَهُ وثَبَّتَهُ وأَعْلَى رايَتَهُ.
وعَرَفَ يونسُ عليهِ السَّلامُ ربَّهُ في الرَّخاءِ فعَرَفَهُ في بَطْنِ الحوتِ ونَجَّاهُ وثَبَّتَهُ ونَصَرَهُ.
(6) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ)) يَشْهَدُ لهذا من القرآنِ قولُهُ تَبارَكَ وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
وقولُهُ: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}الصَّبرُ خَصْلةٌ عَظيمةٌ، يَحتاجُها المسلمُ حتَّى يَستطيعَ أنْ يقومَ بأمرِ اللهِ تَبارَكَ وتعالى، فالبلاءُ الَّذي يُجريهِ اللهُ على عِبادِهِ بحاجةٍ إلى صَبْرٍ، وما يُلاقِي المسلمُ في طريقِ الدَّعوةِ مِنْ مِحَنٍ وأذًى بحاجةٍ للصبرِ، وتَركُ الشَّهواتِ والمحارمِ بحاجةٍ إلى صبرٍ؛ لأنَّ الشَّهواتِ والمعَاصِيَ تَشُدُّ النُّفوسَ إليها، والمعصومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ، والمُحَافَظةُ على طاعةِ اللهِ بحاجةٍ إلى الصبرِ، ومُجاهدَةُ أعداءِ اللهُ بحاجةٍ إلى صبرٍ؛ لأنَّ الجهادَ فيهِ كثيرٌ من المشاقِّ والْمَكارِهِ؛ فالصَّبرُ عليها سببُ النَّصرِ وطريقُهُ، كما بيَّنَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.والنَّصرُ
الَّذي وَعَدَ بهِ رسولُنَا يَشملُ الجهادَيْنِ كما قالَ ابنُ رجبٍ:
(يَشْمَلُ النَّصرَ في الجهادَيْنِ؛ جِهادَ العدوِّ الظَّاهرِ وجهادَ
العدوِّ الباطنِ، فمَنْ صَبَرَ فيهما نُصِرَ وظَفِرَ بعَدُوِّهِ، ومَنْ لمْ
يَصْبِرْ فيهما وجَزَعَ قُهِرَ وصارَ أسيرًا لعَدُوِّهِ أوْ قَتيلاً لهُ).
قالَ
عُمَرُ لأشياخٍ مِنْ بني عَبْسٍ: (بِمَ قاتَلْتُم النَّاسَ؟ قالُوا:
بالصَّبرِ، لمْ نَلْقَ قومًا إلاَّ صَبَرْنَا لهم كما صَبَرُوا لنا).
(7) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ)) قدْ تَتوالَى الْمَصَائِبُ والفِتَنُ والْمِحَنُ على الْمُسْلِمِ، وتَشتدُّ عليهِ الأمورُ وتَضيقُ عليهِ الدُّنيا، ويَتمكَّنُ منهُ الْحُزْنُ والْغَمُّ، فإذا احْتَسَبَ وصَبَرَ وعَلِمَ أنَّ ما أَصابَهُ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، ولمْ يَيْأَسْ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تَدارَكَتْهُ عِنايَةُ اللهِ وعَفْوُهُ ومَغْفِرَتُهُ ورَحمتُهُ، وجاءَ الفَرَجُ، وإنَّكَ لَتَجِدُ كثيرًا مِن العِبَرِ في الكتابِ، قالَ تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}.
انْصَبَّ البلاءُ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبِهِ يومَ الأحزابِ صَبًّا، خوفٌ وجُوعٌ وبَرْدٌ ومشقَّةٌ، وصمَدَ الرِّجالُ، وعلى رَأْسِهِمْ سيِّدُ ولدِ آدمَ في مَيْدَانِ البلاءِ والمحنةِ كالصَّخرةِ الصَّمَّاءِ، ومِنْ خلالِ هذهِ المحنِ والكروبِ جاءَ نصرُ اللهِ وتأييدُهُ لهُمْ.أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا:
(8) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)) مأخوذٌ منْ قَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.
وقولِهِ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
العسرُ والكربُ والضِّيقُ والشَّدائدُ تَصْقُلُ المسلمَ وتُصَفِّيهِ مِن
الشَّوائبِ، وتُعَلِّقُ قلبَهُ بربِّهِ، ويَزدادُ هذا الرِّباطُ معَ
شِدَّةِ العُسْرِ، ويَجعلُ المسلمَ يَتَوَجَّهُ إلى ربِّهِ بصِدْقٍ
وإخلاصٍ، وهذا مِنْ أَعْظَمِ أسبابِ إزالةِ العُسْرِ.
يُرْوَى عن الإمامِ الشَّافعيِّ رَحِمَهُ اللهُ:
صبرًا جميلاً ما أَقْرَبَ الفَرَجَا = مـَنْ راقبَ اللهَ في الأمورِ نَجَا
مَنْصَدَّقَ الـلـهَ لمْ يَنـَلْهُ أذَى = ومَنْ رجَاهُ يكونُ حيثُ رَجَا
فوائدُ من الحديثِ:
1 - يَنْبَغِي للمُعَلِّمِ شَدُّ انتباهِ المتعلِّمِ وتهيئَتُهُ قبلَ إعطائِهِ المعلوماتِ، وهذا منْ قولِهِ: ((يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ)).
2 - كما فيهِ الحثُّ على تربيَةِ الأبناءِ وتعليمِهِم أُمورَ دِينِهِم.
3 -
كما فيهِ الحرصُ على الوقتِ واستغلالُهُ بما يعودُ بالنَّفعِ على
الْمُكَلَّفِ في الدُّنيا والآخِرةِ، فها هوَ رسولُ اللهِ يَستغلُّ وَقتَهُ
حتَّى أثناءَ تَنَقُّلِهِ منْ مكانٍ إلى آخَرَ؛ لأنَّ هذهِ الوصيَّةَ
قالَهَا لابنِ عبَّاسٍ عنْدَما كانَ رَدِيفَهُ على الدَّابَّةِ.
4 -
التَّخلُّقُ بالشَّجاعةِ والإقدامِ معَ التَّعقُّلِ وأخْذِ الأسبابِ، وذلكَ
مَنْ عَلِمَ أنَّ الضُّرَّ والنَّفعَ بيدِ اللهِ، وأنَّ الإنسانَ لا
يُصيبُهُ منْ ضرٍّ ولا نفعٍ إلاَّ ما قُدِّرَ عليهِ، يَدْفَعُهُ ذلكَ إلى
الشَّجاعةِ والإقدامِ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
هذا
الحديثُ خرَّجَهُ الترْمِذِيُّ مِنْ روايَةِ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ عن
ابنِ عبَّاسٍ، وخرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ حَنَشٍِ أيضًا مَعَ
إِسْنَادَيْنِ آخَرَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ، وَلَمْ يُمَيِّزْ لَفْظَ بعْضِهَا
مِنْ بَعْضٍ، ولَفْظُ حديثِهِ: ((يَا غُلامُ، أَوْ يَا غُلَيْمُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟))
فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ: ((احْفَظِ
اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى
اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ
فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، قَدْ جَفَّ
الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا
أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَمْ
يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ
يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ
فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ
مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا)).
وهذا
اللفظُ أَتَمُّ مِن اللفظِ الذي ذكَرَهُ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ وعَزَاهُ
إلى غيرِ التِّرمذيِّ، واللفظُ الذي ذكَرَهُ الشيخُ روَاهُ عَبْدُ بنُ
حُمَيْدٍ في (مُسْنَدِهِ) بإسنادٍ ضَعِيفٍ عنْ عَطَاءٍ عن ابنِ عبَّاسٍ،
وكذلكَ عزَاهُ ابنُ الصَّلاحِ في (الأحاديثِ الكُلِّيَّةِ) التي هيَ أصلُ
أربعينَ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى عَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ وغيرِهِ.
وقدْ
رُوِيَ هذا الحديثُ عن ابنِ عبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ كثيرةٍ مِنْ روايَةِ
ابنِهِ عَلِيٍّ، ومَوْلاهُ عِكْرِمَةَ، وعَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ،وعَمْرِو
بنِ دِينَارٍ، وعُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، وعُمَرَ مَوْلَى
غُفْرَةَ، وابنِ أبي مُلَيْكَةَ، وغيرِهم.
وأصحُّ الطُّرُقِ كُلِّها طريقُ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ التي خَرَّجَها الترْمِذِيُّ، كذا قالَهُ ابنُ مَنْدَهْ وغيرُهُ. وقدْ
رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ وَصَّى ابنَ
عبَّاسٍ بهذهِ الوَصِيَّةِ مِنْ حديثِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طالِبٍ، وأَبِي
سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وسَهْلِ بنِ سَعْدٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرٍ،
وفي أَسَانِيدِهَا كُلِّها ضَعْفٌ. وذَكَرَ
العُقَيْلِيُّ: (أنَّ أسانِيدَ الحديثِ كُلَّها لَيِّنَةٌ، وبَعْضَها
أَصْلَحُ مِنْ بعضٍ). وبكلِّ حالٍ، فطريقُ حَنَشٍ التي خَرَّجَها الترمذيُّ
حَسَنَةٌ جَيِّدَةٌ. (1) فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْفَظِ اللَّهَ)) يَعْنِي: احْفَظْ حُدُودَهُ وحُقُوقَهُ، وأوامِرَهُ ونواهِيَهُ.
وهذا
الحديثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً وقواعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أهمِّ
أُمُورِ الدينِ، حتَّى قالَ بعضُ العلماءِ: (تَدَبَّرْتُ هذا الحديثَ
فأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَاأَسَفَى مِن الجَهْلِ بهذا الحديثِ،
وقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لمعناهُ).
قُلْتُ:
وقدْ أَفْرَدْتُ لِشَرْحِهِ جُزْءًا كبِيرًا، ونَحنُ نَذْكُرُ هَا هُنا
مَقَاصِدَهُ على وَجْهِ الاختصارِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالَى.
ومِنْ أعظمِ ما يَجِبُ حِفظُهُ مِنْ أوامِرِ اللَّهِ: الصَّلاةُ، وقدْ أمَرَ اللَّهُ بالمُحَافَظَةِ عليها فقالَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، ومَدَحَ المُحَافِظِينَ عليها بقولِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المَعَارِج: 34].
وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ)).
- وفي حديثٍ آخَرَ: ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وكذلِكَ: الطهارةُ؛ فإنَّها مِفْتَاحُ الصلاةِ، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلا مُؤْمِنٌ)).
وممَّا يُؤْمَرُ بِحِفْظِهِ: الأَيْمَانُ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}[المائِدة: 89]؛ فإنَّ الأَيْمَانَ يَقَعُ الناسُ فيها كثيرًا، ويُهْمِلُ كثيرٌ مِنهم ما يَجِبُ بِهَا، فلا يَحْفَظُهُ ولا يَلْتَزِمُهُ.
ومِنْ ذلكَ حِفْظُ الرأسِ والبَطْنِ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ المرفوعِ: ((الاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَياءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى)). خرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ والترمِذِيُّ.
وحِفْظُ
الرأسِ وما وَعَى يَدْخُلُ فيهِ حِفْظُ السَّمْعِ، والبَصَرِ، واللسانِ
مِن المُحَرَّمَاتِ، وحِفْظُ البطنِ وما حَوَى يَتَضَمَّنُ حِفْظَ القَلْبِ
عَن الإصرارِ على مُحَرَّمٍ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}[البقرة: 235] وقدْ جَمَعَ اللَّهُ ذلكَ كُلَّهُ في قولِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإسْرَاء: 36].
ويَتَضَمَّنُ أيضًا حِفْظَ البَطْنِ،مِنْ إدخالِ الحرامِ إليهِ مِن المآكِلِ، المَشارِبِ.
ومِنْ
أعظمِ ما يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ نواهِي اللَّهِ عزَّ وجلّ َ: اللِّسَانُ
والفَرْجُ، وفي حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ)) خرَّجَهُ الحاكِمُ.
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ أبي موسَى، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فَقْمَيْهِ وَفَرْجِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
وأمَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بحفْظِ الفُرُوجِ، ومَدَحَ الحافِظِينَ لها فقالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور: 30].
- وقالَ: {وَالْحَافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا
وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35 ].
- وقالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قولِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المؤمنونَ: 1-6].
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَحْفَظْكَ)) يَعني: أنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللَّهِ، ورَاعَى حُقُوقَهُ، حَفِظَهُ اللَّهُ؛ فإنَّ الجزاءَ مِنْ جنسِ العَمَلِ، كما قالَ تعالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}[البقرة: 40]، وقالَ: {فَاذكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة: 152]. وقالَ: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [مُحَمَّد: 7].
أحدُهُما: حِفْظُهُ لهُ في مصالِحِ دُنْيَاهُ؛ كَحِفْظِهِ في بَدَنِهِ ووَلَدِهِ وأَهْلِهِ ومالِهِ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}[الرَّعْد: 11].
قالَ ابنُ عبَّاسٍ:(هم الملائِكَةُ يَحْفَظُونَهُ بأمْرِ اللَّهِ، فإِذا جاءَ القَدَرُ خَلَّوْا عنهُ).
وقالَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إنَّ معَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ
يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لمْ يُقَدَّرْ، فإِذا جاءَ القَدَرُ خَلَّيَا بينَهُ
وبينَهُ، وإنَّ الأجلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ).
وقالَ
مُجَاهِدٌ:(ما مِنْ عبدٍ إلا لهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ في نَوْمِهِ
ويَقَظَتِهِ مِن الجِنِّ والإِنْسِ والهَوَامِّ، فمَا مِنْ شيءٍ يَأْتِيهِ
إلا قالَ: وَرَاءَكَ، إلا شيئًا أَذِنَ اللَّهُ فيهِ فيُصِيبُهُ).
وخرَّجَ
الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ،والنَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عُمَرَ قالَ:
(لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ
هؤلاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ:((اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ
وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي، وَآمِنْ رَوْعَتِي،
وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي،
وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ
مِنْ تَحْتِي)).
كانَ
بعضُ العلماءِ قدْ جَاوَزَ المِائَةَ سَنَةٍ وهوَ مُمَتَّعٌ بقُوَّتِهِ
وعَقْلِهِ، فوَثَبَ يَوْمًا وَثْبَةً شَدِيدَةً، فَعُوتِبَ في ذلكَ، فقالَ:
(هذهِ جوارِحُ حَفِظْنَاهَا عَن المَعَاصِي في الصِّغَرِ، فحَفِظَها
اللَّهُ عَلَيْنَا في الكِبَرِ) وعَكْسُ هذا أنَّ بعضَ السلَفِ رأى شَيْخًا
يَسْأَلُ الناسَ، فقالَ: (إنَّ هذا ضَيَّعَ اللَّهَ في صِغَرِهِ،
فضَيَّعَهُ اللَّهُ في كِبَرِهِ).
وَقَدْ يَحْفَظُ اللَّهُ العَبْدَ بصَلاحِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ في ذُرِّيَّتِهِ،كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}[الكهف: 82]: إنَّهُمَا حُفِظَا بصَلاحِ أَبِيهِمَا.
وقَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: (ما مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إلا حَفِظَهُ اللَّهُ في عَقِبِهِ وعَقِبِ عَقِبِهِ).
وقَالَ
ابنُ المُنْكَدِرِ:(إِنَّ اللَّهَ ليَحْفَظُ بالرَّجُلِ الصَّالِحِ
وَلَدَهُ وَوَلَدَ ولَدِهِ والدُّوَيْرَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ، فَمَا
يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مِن اللَّهِ وسَتْرٍ).
ومَتَى كَانَ العَبْدُ مُشْتَغِلاً بطَاعَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهُ في تِلْكَ الحَالِ.
قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا رَبَّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا، وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا)).والصِّيصِيَةُ: هِيَ الصِّنَّارَةُ الَّتِي يُغْزَلُ بِهَا ويُنْسَجُ.
ومِنْ
عَجِيبِ حِفْظِ اللَّهِ لِمَنْ حَفِظَهُ، أَنْ يَجْعَلَ الحَيَوَانَاتِ
المُؤْذِيَةَ بالطَّبْعِ حافِظَةً لَهُ مِن الأَذَى، (كَمَا جَرَى
لِسَفِينَةِ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ
كُسِرَ بِهِ المَرْكِبُ، وخَرَجَ إلى جَزِيرَةٍ، فَرَأَى الأَسَدَ، فجَعَلَ
يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا أَوْقَفَهُ
عَلَيْهَا جَعَلَ يُهَمْهِمُ كَأَنَّهُ يُوَدِّعُهُ، ثمَّ رَجَعَ عنهُ).
ورُؤِيَ
إِبْرَاهِيمُ بنُ أَدْهَمَ نائِمًا في بُسْتَانٍ وعندَهُ حيَّةٌ في
فَمِهَا طَاقَةُ نَرْجِسٍ، فَمَا زَالَتْ تَذُبُّ عنهُ حتَّى اسْتَيْقَظَ.
وعَكْسُ
هَذَا أنَّ مَنْ ضَيَّعَ اللَّهَ ضيَّعَهُ اللَّهُ، فضَاعَ بَيْنَ
خَلْقِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ والأَذَى مِمَّنْ كَانَ
يَرْجُو نَفْعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وغَيْرِهِم، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:
(إِنِّي لأََعْصِي اللَّهَ، فأَعْرِفُ ذَلِكَ في خُلُقِ خَادِمِي
وَدَابَّتِي).
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (إِذَا حَضَرَ الرَّجُلَ الموتُ يُقَالُ للمَلَكِ: شُمَّ رَأْسَهُ، قَالَ: أَجِدُ في رَأْسِهِ القُرْآنَ.
قَالَ: شُمَّ قَلْبَهُ.
قَالَ: شُمَّ قَدَمَيْهِ.
قَالَ: أَجِدُ فِي قَدَمَيْهِ القِيَامَ.
قَالَ: حَفِظَ نَفْسَهُ، فحَفِظَهُ اللَّهُ).
وفي
(الصَّحِيحَيْنِ): عَن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ
مَنَامِهِ: ((إِنْ قَبَضْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ)).
وفِي حَدِيثِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ
احْفَظْنِي بِالإِسْلامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالإِسْلامِ قَاعِدًا،
وَاحْفَظْنِي بِالإِسْلامِ رَاقِدًا، وَلا تُطِعْ فِيَّ عَدُوًّا
حَاسِدًا)). خرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ).
وفي الجُمْلَةِ، فاللَّهُ عزَّ وجَلَّ يَحْفَظُ علَى المُؤْمِنِ الحَافِظِ لحُدُودِهِ دينَهُ، ويَحُولُ بينَهُ وبَيْنَ ما يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ بأَنْوَاعٍ مِن الحِفْظِ، وقَدْ لا يَشْعُرُ العَبْدُ ببعْضِهَا، وَقَدْ يَكُونُ كَارِهًا لَهُ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ}[يُوسُف: 24].
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، قَالَ: يَحُولُ بَيْنَ المُؤْمِنِ وبَيْنَ المَعْصِيَةِ الَّتِي تَجُرُّهُ إِلَى النَّارِ).وقَالَ الحَسَنُ، وذَكَرَ أَهْلَ المَعَاصِي: (هَانُوا عَلَيْهِ فعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لعَصَمَهُم).
وقَال َ ابنُ مَسْعُودٍ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَهُمُّ بالأَمْرِ مِن التِّجَارَةِ والإِمَارَةِ حَتَّى يُيَسَّرَ لَهُ، فيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ فيَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: اصْرِفُوهُ عَنْهُ؛ فإِنِّي إِنْ يَسَّرْتُهُ لَهُ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ. فيَصْرِفُهُ اللَّهُ عنهُ، فيَظَلُّ يَتَطَيَّرُ يَقُولُ: سَبَقَنِي فُلانٌ، دَهَانِي فُلانٌ. وَمَا هوَ إِلا فَضْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ).
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ.
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ.وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ.
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَطْلُبُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ؛ لِكَيْلا يَدْخُلَهُ الْعُجْبُ.
إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ)).
(2) وقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)) وفي رِوَايَةٍ: ((أَمَامَكَ)) مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللَّهِ، ورَاعَى حُقُوقَهُ، وجَدَ اللَّهَ معَهُ في كُلِّ أَحْوَالِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهُ يَحُوطُهُ ويَنْصُرُهُ ويَحْفَظُهُ ويُوَفِّقُهُ ويُسَدِّدُهُ، فَـ{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل: 128].
كتَبَ بعضُ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لهُ:( أمَّا بَعْدُ:فَإِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فمَنْ تَخَافُ؟وإِنْ كَانَ عَلَيْكَ فمَنْ تَرْجُو؟)
وهَذِهِ المَعِيَّةُ الخَاصَّةُ هيَ المَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وهَارُونَ: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقَوْلِ مُوسَى:{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشُّعَراء: 62]، وفي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي بَكْرٍ وَهُمَا فِي الغَارِ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)).فهَذِهِ
المَعِيَّةُ الخَاصَّةُ تَقْتَضِي النَّصْرَ والتَّأيِيدَ، والحِفْظَ
والإِعَانَةَ، بِخِلافِ المَعِيَّةِ العَامَّةِ المَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا
هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا}[المُجَادَلَة: 7].
وقولِهِ: {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]؛
فَإِنَّ هَذِهِ المَعِيَّةَ تَقْتَضِي عِلْمَهُ واطِّلاعَهُ
ومُرَاقَبَتَهُ لأَِعْمَالِهِم، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لتَخْوِيفِ العِبَادِ
مِنْهُ.
والْمَعيَّةُ
الأُولَى تَقْتَضِي حِفْظَ العَبْدِ وحِيَاطَتَهُ ونَصْرَهُ، فمَنْ حَفِظَ
اللَّهَ ورَاعَى حُقُوقَهُ وَجَدَهُ أَمَامَهُ وتُجَاهَهُ عَلَى كُلِّ
حَالٍ، فاسْتَأْنَسَ بِهِ، اسْتَغْنَى بِهِ عنْ خَلْقِهِ، كَمَا فِي
حَدِيثِ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)) وَقَدْ سَبَقَ.
ورُوِيَ
عنْ بُنَانٍ الحَمَّالِ، أنَّهُ دَخَلَ الْبَرِّيَّةَ وَحْدَهُ عَلَى
طَرِيقِ تَبُوكَ، وْحَشَ ، فهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ: لِمَ تَسْتَوْحِشُ؟
أَلَيْسَ حَبِيبُكَ مَعَكَ؟
وقِيلَ لبَعْضِهِم: (أَلا تَسْتَوْحِشُ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وهوَ يَقُولُ: ((أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)).
فَقَالَ: مَنْ يَكُن اللَّهُ مَعَهُ، كَيْفَ يَكُونُ وَحْدَهُ؟
وقِيلَ لآخَرَ: أَمَا مَعَكَ مُؤْنِسٌ؟
قَالَ: بَلَى.
قِيلَ لَهُ: أَيْنَ هوَ؟
قَالَ: أَمَامِي، ومَعِي، وخَلْفِي، وعنْ يَمِينِي، وعَنْ شِمَالِي، وفَوْقِي).
وكَانَ الشِّبْلِيُّ يُنْشِدُ:
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا ** كـَفَى لِمَطايَانَا بذِكـْرَاكَ هَادِيَا
وهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ العَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، ومَحَبَّتَهُ لَهُ، وإِجَابَتَهُ لدُعَائِهِ.
فمَعْرِفَةُ العَبْدِ لرَبِّهِ نَوْعَانِ:
والثَّانِي:
مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، تَقْتَضِي مَيْلَ القَلْبِ إِلَى اللَّهِ
بالكُلِّيَّةِ، والانْقِطَاعَ إِلَيْهِ، والأُنْسَ بِهِ، والطُّمَأْنِينَةَ
بذِكْرِهِ، والحَيَاءَ مِنْهُ، والْهَيْبَةَ لَهُ.
وهَذِهِ
المَعْرِفَةُ الخَاصَّةُ هيَ الَّتِي يَدُورُ حَوْلَهَا العَارِفُونَ،
كَمَا قَالَ بَعْضُهُم: (مَسَاكِينُ أَهْلُ الدُّنْيَا، خَرَجُوا مِنهَا
ومَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمَا هوَ؟ قَالَ:
مَعْرِفَةُ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ).
وقَالَ
أَحْمَدُ بنُ عاصِمٍ الأَنْطَاكِيُّ:(أُحِبُّ أَلا أَمُوتَ حَتَّى أعْرِفَ
مَوْلايَ، ولَيْسَ مَعْرِفَتُهُ الإِقْرَارَ بِهِ، ولكِنَّ المَعْرِفَةَ
الَّتِي إِذَا عَرَفْتُهُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ).
مَعْرِفَةٌ عامَّةٌ: وهيَ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ بعِبَادِهِ، واطِّلاعُهُ عَلَى ما أَسَرُّوهُ ومَا أَعْلَنُوهُ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، وقَالَ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}[النَّجْم: 32].
ولَمَّا
هَرَبَ الحَسَنُ مِن الحَجَّاجِ دَخَلَ إِلى بَيْتِ حَبِيبٍ أَبِي
مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: (يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَلَيْسَ بَيْنَكَ
وبَيْنَ رَبِّكَ مَا تَدْعُوهُ فَيَسْتُرَكَ مِنْ هؤلاءِ؟ ادْخُل
البَيْتَ)، فدَخَلَ، ودَخَلَ الشُّرَطُ عَلَى أَثَرِهِ، فَلَمْ يرَوْهُ،
فذُكِرَ ذَلِكَ للحَجَّاجِ، فَقَالَ: (بَلْ كَانَ فِي البَيْتِ، إِلا أَنَّ
اللَّهَ طَمَسَ أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَرَوْهُ).
واجْتَمَعَ
الفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ بِشَعْوانَةَ العَابِدَةِ، فسَأَلَهَا الدُّعَاءَ،
فقَالَتْ: (يَا فُضَيْلُ، وَمَا بَيْنَكَ وبَيْنَهُ مَا إِنْ دَعَوْتَهُ
أَجَابَكَ، فغُشِيَ علَى الفُضَيْلِ).
وقِيلَ
لِمَعْرُوفٍ: (ما الَّذِي هَيَّجَكَ إِلَى الانْقِطَاعِ والعِبَادَةِ؟
وذَكَرَ لَهُ المَوْتَ والبَرْزَخَ والجنَّةَ والنَّارَ).
وفي
الجُمْلَةِ، فمَنْ عَامَلَ اللَّهَ بالتَّقْوَى والطَّاعَةِ فِي حَالِ
رَخَائِهِ عَامَلَهُ اللَّهُ باللُّطْفِ والإِعَانَةِ في حَالِ شِدَّتِهِ.
وخرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ في الرَّخَاءِ)).
وخرَّجَ ابنُ أَبِي حاتِمٍ وغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أنَسٍ يَرْفَعُهُ:
((أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا دَعَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ،
قَالَتِ المَلائِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا صَوْتٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلادٍ
غَرِيبَةٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟
قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟
قَالُوا: عَبْدُكَ
يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالُوا: يَا رَبِّ، أَفَلا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيَهُ مِنَ الْبَلاءِ؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ)).
وقالَ
سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ: (إِذَا كَانَ الرَّجُلُ دَعَّاءً فِي
السَّرَّاءِ، فنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ، فدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، قَالَت
المَلائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ، فَشَفَعُوا لَهُ، وإِذَا كَانَ لَيْسَ
بدَعَّاءٍ فِي السَّرَّاءِ، فنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ، فَدَعا اللَّهَ
تعَالَى، قالَت المَلائِكَةُ: صَوْتٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، فَلا يَشْفَعُونَ
لَهُ).
وقَالَ
رَجُلٌ لأَِبِي الدَّرْدَاءِ:(أَوْصِنِي، فقَالَ: اذْكُر اللَّهَ فِي
السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِي الضرَّاءِ).
وأعْظَمُ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَنْزِلُ بالعَبْدِ فِي الدُّنْيَا المَوْتُ، وَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ منهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَصِيرُ العَبْدِ إِلَى خَيْرٍ، فالوَاجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ الاسْتِعْدَادُ للمَوْتِ ومَا بَعْدَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بالتَّقْوَى والأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحَشْر: 18-19].
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَبْلَ مَوْتِهِ: (كيفَ لا أَرْجُو رَبِّي وَقَدْ صُمْتُ لهُ ثَمَانِينَ رَمَضَانَ؟!).
وقالَ
أَبُو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ لابْنِهِ عندَ مَوْتِهِ: (أَتَرَى اللَّهَ
يُضَيِّعُ لأَِبِيكَ أَرْبعِينَ سَنَةً يَخْتِمُ القُرْآنَ كُلَّ
لَيْلَةٍ؟!)
وخَتَمَ
آدَمُ بنُ أَبِي إِياسٍ القُرْآنَ وهوَ مُسَجًّى للمَوْتِ، ثُمَّ قالَ:
(بِحُبِّي لَكَ إِلا رَفَقْتَ بِي فِي هذا المَصْرَعِ، كُنْتُ أُؤَمِّلُكَ
لِهَذَا اليَوْمِ، كُنْتُ أَرْجُوكَ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) ثُمَّ قَضَى.
ولَمَّا احْتُضِرَ زَكَرِيَّا بنُ عَدِيٍّ، رَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي إليكَ لَمُشْتَاقٌ).
وقَالَ
عبدُ الصَّمَدِ الزَّاهِدُ عندَ مَوْتِهِ: (سَيِّدِي لهذهِ السَّاعَةِ
خَبَّأْتُكَ، ولهذا اليومِ اقْتَنَيْتُكَ، حَقِّقْ حُسْنَ ظنِّي بِكَ).
وقالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَلْحَةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ فِي هذهِ الآيَةِ: (يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ).
وقال َ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ فِي قولِهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} الآيَةَ [فُصِّلَتْ: 30]، قالَ: (يُبَشَّرُ بذلكَ عندَ موتِهِ، وفي قَبْرِهِ، ويومَ يُبْعَثُ؛ فإِنَّهُ لَفِي الْجَنَّةِ وما ذَهَبَتْ فَرْحَةُ البِشَارَةِ مِنْ قَلْبِهِ).
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)). هذا مُنْتَزَعٌ مِنْ قولِهِ تعالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنَّ السؤالَ للَّهِ هوَ دُعاؤُهُ والرَّغْبَةُ إليهِ، والدُّعاءَ هوَ العِبَادَةُ، كذا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ، وتَلا قولَهُ تعالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[ غَافِر: 60 ] خَرَّجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ، وابنُ مَاجَهْ.
وخرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) فتَضَمَّنَ هذا الكَلامُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ، ولا يُسْأَلَ غَيْرُهُ، وأَنْ يُسْتَعَانَ باللَّهِ دونَ غَيْرِهِ.فأمَّا السؤالُ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ فقالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}[ النساء: 32 ].
وفي (التِّرْمِذِيِّ): عن ابنِ مسعودٍ مَرْفوعًا: ((سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ)).
وفيهِ أيضًا: عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((مَنْ لا يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)).
وفِي
النَّهْيِ عنْ مَسْأَلَةِ المَخْلُوقِينَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ،
وَقَدْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَصْحابِهِ علَى أَنْ لا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا؛ مِنهم أبو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وأَبُو ذَرٍّ، وثَوْبَانُ، وكَانَ أَحَدُهُم يَسْقُطُ
سَوْطُهُ أوْ خِطَامُ نَاقَتِهِ، فَلا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ
إيَّاهُ.
وخرَّجَ
ابنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ عبدِ اللَّهِ
بنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي فُلانٍ
أَغَارُوا عَلَيَّ فَذَهَبُوا بِابْنِي وَإِبِلِي.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ آلَ مُحَمَّدٍ كَذَا وَكَذَا أَهْلَ بَيْتٍ، مَا لَهُمْ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعٌ، فَاسْأَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ)).
فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: نِعْمَ مَا رَدَّ عَلَيْكَ.
فَمَا لَبِثَ أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَإِبِلَهُ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ.
فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَصَعِدَ
المِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ
بِمَسْأَلَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطَّلاق: 2]).
وقَدْ ثَبَتَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ): (عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ((هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟)).
وخَرَّجَ المَحَامِلِيُّ وغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي دَعَانِي فَلَمْ أُجِبْهُ؟
وَسَأَلَنِي فَلَمْ أُعْطِهِ؟ وَاسْتَغْفَرَنِي فَلَمْ أَغْفِرْ لَهُ
وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟)).
ولا يَصْلُحُ الذُّلُّ والافْتِقَارُ إلا للَّهِ وحْدَهُ؛ لأَِنَّهُ حَقِيقَةُ العِبَادَةِ.
وكانَ الإمامُ أحمدُ يَدْعُو ويقولُ: (اللَّهُمَّ كما صُنْتَ وَجْهِي عَن السُّجُودِ لغَيْرِكَ فَصُنْهُ عن المَسْأَلَةِ لغَيْرِكَ، ولا يَقْدِرُ علَى كَشْفِ الضُّرِّ وجَلْبِ النفْعِ سِوَاهُ، كما قالَ:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يُونُس: 107].وقالَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لهُ مِنْ بَعْدِهِ}[فاطِر: 2]).
واللَّهُ
سبحانَهُ يُحِبُّ أنْ يُسْأَلَ ويُرْغَبَ إليهِ فِي الحَوائِجِ، ويُلَحَّ
فِي سُؤالِهِ ودُعائِهِ، ويَغْضَبُ علَى مَنْ لا يَسْأَلُهُ، ويَسْتَدْعِي
مِنْ عِبَادِهِ سُؤَالَهُ، وهوَ قادِرٌ على إِعْطَاءِ خَلْقِهِ كُلِّهِم
سُؤْلَهُم مِنْ غيرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْءٌ.
والمَخْلُوقُ بِخِلافِ ذلكَ كُلِّهِ؛ يَكْرَهُ أنْ يُسْأَلَ، ويُحِبُّ أنْ لا يُسْأَلَ؛ لِعَجْزِهِ وفَقْرِهِ وحاجَتِهِ.
ولهذا
قالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ لرَجُلٍ كانَ يَأْتِي المُلُوكَ: (وَيْحَكَ،
تأتِي مَنْ يُغْلِقُ عنكَ بَابَهُ، ويُظْهِرُ لكَ فَقْرَهُ، ويُوَارِي عنكَ
غِنَاهُ، وتَدَعُ مَنْ يَفْتَحُ لكَ بَابَهُ بنِصْفِ اللَّيْلِ ونِصْفِ
النَّهَارِ، ويُظْهِرُ لَكَ غِناهُ ويَقُولُ: ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ؟!).
وقالَ
طَاوُوسٌ لعَطَاءٍ:(إيَّاكَ أَنْ تَطْلُبَ حَوَائِجَكَ إلى مَنْ أَغْلَقَ
دونَكَ بابَهُ وَيَجْعَلُ دُونَها حِجَابَهُ، وعليكَ بِمَنْ بابُهُ
مَفْتُوحٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، أَمَرَكَ أنْ تَسْأَلَهُ، وَوَعَدَكَ
أَنْ يُجِيبَكَ).
وأمَّا
الاسْتِعَانَةُ باللَّهِ عَزَّ وجلَّ دونَ غيرِهِ مِن الخَلْقِ؛ فَلأَِنَّ
العَبْدَ عاجِزٌ عن الاسْتِقْلالِ بِجَلْبِ مَصالِحِهِ، ودَفْعِ
مَضَارِّهِ، ولا مُعِينَ لهُ علَى مَصَالِحِ دِينِهِ ودُنياهُ إِلا اللَّهُ
عزَّ وجلَّ، فمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ فهوَ المُعَانُ، ومَنْ خَذَلَهُ فهوَ
المَخْذُولُ، وهذا تَحْقِيقُ مَعْنَى قولِ: (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا
بِاللَّهِ)؛ فَإِنَّ المَعْنَى: لا تَحَوُّلَ للعَبْدِ مِنْ حالٍ إلى حالٍ،
ولا قُوَّةَ لَهُ على ذلكَ إِلا باللَّهِ.
وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجِزْ)).
ومَنْ تَرَكَ الاسْتِعَانَةَ باللَّهِ، واسْتَعَانَ بغيرِهِ، وَكَلَهُ اللَّهُ إلى مَن اسْتَعَانَ بهِ فصَارَ مَخْذُولاً.كَتَبَ
الحَسَنُ إلَى عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ:(لا تَسْتَعِنْ بغيرِ اللَّهِ،
فَيَكِلَكَ اللَّهُ إليهِ. ومِنْ كَلامِ بَعْضِ السَّلَفِ: يا رَبِّ،
عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَرْجُو غَيْرَكَ، عَجِبْتُ لِمَنْ
يَعْرِفُكَ كيفَ يَسْتَعِينُ بغيرِكَ).
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ)) وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))
هوَ كِنايَةٌ عنْ تَقَدُّمِ كتابَةِ المَقَادِيرِ كُلِّها، والفَرَاغِ
مِنها مِنْ أَمَدٍ بَعِيدٍ؛ فَإِنَّ الكِتَابَ إذا فُرِغَ مِنْ
كِتَابَتِهِ، ورُفِعَت الأقْلامُ عنهُ، وطالَ عَهْدُهُ، فَقَدْ رُفِعَتْ
عنهُ الأَقْلامُ، وجَفَّت الأَقْلامُ الَّتِي كُتِبَ بِهَا مِنْ
مِدَادِهَا، وجَفَّت الصَّحِيفَةُ التِي كُتِبَ فيها بالمِدَادِ
المَكْتُوبِ بهِ فيها.
وهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الكِنَاياتِ وأبْلَغِهَا.
وَقَدْ دَلَّ الكِتَابُ والسُّنَنُ الصَّحِيحَةُ الكَثِيرةُ علَى مِثْلِ هذَا المَعْنَى، قالَ اللَّهُ تعالَى:
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي
كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ}[الحديد: 22].
وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)).
وفيهِ
أيضًا: عنْ جابِرٍ، أنَّ رَجُلاً قَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَ
العَمَلُ اليَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ، وَجَرَتْ بِهِ
المَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟
قالَ: فَفِيمَ العَمَلُ؟
قالَ: ((اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)).وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وأَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ)).
هذهِ رِوَايَةُ الإِمَامِ أَحْمَدَ، ورِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ بِهَذَا المَعْنَى أيضًا، والمُرَادُ: أَنَّ ما يُصِيبُ العبدَ فِي دُنْيَاهُ مِمَّا يَضُرُّهُ أوْ يَنْفَعُهُ، فَكُلُّهُ مُقَدَّرٌ عليهِ، ولا يُصِيبُ العبدَ إِلا مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الكِتابِ السَّابِقِ، وَلَو اجْتَهَدَ علَى ذلكَ الخَلْقُ كلُّهم جَمِيعًا.وقدْ دَلَّ القُرْآنُ علَى مِثْلِ هَذَا فِي قولِهِ عزَّ وجلَّ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].
- وقولِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22].
- وقولِهِ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عِمْرَانَ: 154].
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقيقَةَ الإِيمَانِ
حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ
مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ)).
وخرَّجَ
أَبُو دَاوُدَ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ عَن
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى ذلكَ أيضًا.
واعْلَمْ
أنَّ مَدَارَ جَمِيعِ هذهِ الوَصِيَّةِ علَى هذا الأصْلِ، وما ذُكِرَ
قَبْلَهُ وبعدَهُ فهوَ مُتَفَرِّعٌ عليهِ، وراجِعٌ إليهِ؛ فإنَّ العَبْدَ
إذا عَلِمَ أنَّهُ لنْ يُصِيبَهُ إِلا ما كَتَبَ اللَّهُ لهُ مِنْ خَيْرٍ
وشَرٍّ، ونَفْعٍ وضُرٍّ، وأنَّ اجْتِهَادَ الخَلْقِ كُلِّهِم علَى خِلافِ
المَقْدُورِ غيرُ مُفِيدٍ البَتَّةَ، عَلِمَ حِينَئذٍ أنَّ اللَّهَ وحْدَهُ
هوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، المُعْطِي المانِعُ، فأَوْجَبَ ذلكَ للعَبْدِ
تَوْحِيدَ ربِّهِ عزَّ وجلَّ، وإِفْرَادَهُ بالطَّاعَةِ، وحِفْظَ
حُدُودِهِ؛ فإنَّ المعَبْودَ إِنَّمَا يَقْصِدُ بعبادَتِهِ جَلْبَ
المَنَافِعِ ودَفْعَ المَضَارِّ؛ ولِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ مَنْ يَعْبُدُ
مَنْ لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ، وَلا يُغْنِي عنْ عابِدِهِ شَيْئًا، فمَنْ
عَلِمَ أنَّهُ لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ، ولا يُعْطِي ولا يَمْنَعُ غيرُ
اللَّهِ، أوْجَبَ لهُ ذلكَ إفْرَادَهُ بالخَوْفِ والرَّجَاءِ والمَحَبَّةِ
والسؤالِ والتَّضَرُّعِ والدُّعاءِ، وتَقْدِيمَ طاعَتِهِ علَى طَاعَةِ
الخَلْقِ جَمِيعًا، وأَنْ يَتَّقِيَ سَخَطَهُ، وَلَو كَانَ فيهِ سَخَطُ
الخَلْقِ جَمِيعًا، وإِفْرَادَهُ بالاسْتِعَانَةِ بهِ والسؤالِ لهُ وإخلاصِ
الدُّعَاءِ لَهُ فِي حالِ الشدَّةِ وحالِ الرخاءِ، بِخِلافِ مَا كَانَ
المُشْرِكُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِخْلاصِ الدُّعَاءِ لَهُ عندَ الشَّدَائِدِ،
ونِسْيَانِهِ فِي الرَّخَاءِ، ودُعَاءِ مَنْ يَرْجُونَ نَفْعَهُ مِنْ
دُونِهِ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:{قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ
هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزُّمَر: 38].
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا)) يَعْنِي:
أَنَّ مَا أَصَابَ العَبْدَ مِن المَصَائِبِ المُؤْلِمَةِ المَكْتُوبَةِ
عَلَيْهِ إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ فِي الصَّبْرِ خَيْرٌ
كَثِيرٌ.
وفي رِوَايَةِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ وغَيْرِهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ زِيَادَةٌ أُخْرَى قَبْلَ هَذَا الكَلامِ، وهيَ: ((فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ،
وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا
كَثِيرًا)).
وفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ
عَنْ أَبِيهِ -لَكِنَّ إِسْنَادَهَا ضَعِيفٌ- زِيَادَةٌ أُخْرَى بَعْدَ
هذا، وهيَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِاليَقِينِ؟
قَالَ: ((أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ
يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ،
فَإِذَا أَنْتَ أَحْكَمْتَ بَابَ الْيَقِينِ)). ومَعْنَى هَذَا
أَنَّ حُصُولَ اليَقِينِ للقَلْبِ بالقَضَاءِ السَّابِقِ والتَّقْدِيرِ
المَاضِي يُعِينُ العَبْدَ علَى أَنْ تَرْضَى نَفْسُهُ بِمَا أَصَابَهُ،
فمَن اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ فِي اليَقِينِ بالقَضَاءِ والقَدَرِ علَى
الرِّضَا بالمَقْدُورِ فلْيَفْعَلْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِع الرِّضَا
فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ علَى المَكْرُوهِ خَيْرًا كَثِيرًا.
فهاتَانِ دَرَجَتَانِ للمُؤْمِنِ بالقَضَاءِ والقَدَرِ فِي المَصَائِبِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْضَى بذَلِكَ.
قَالَ عَلْقَمَةُ: (هيَ المُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ، فيَعْلَمُ أنَّها مِنْ عندِ اللَّهِ، فيُسَلِّمُ لَهَا ويَرْضَى).
وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)). وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: ((أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ)).
وجَاءَ
رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ
أَنْ يُوصِيَهُ وَصِيَّةً جَامِعَةً مُوجَزةً، فَقَالَ: ((لا تَتَّهِمِ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ)).
قَال َ أَبُو الدَّرْدَاءِ: (إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرضَى بِهِ).
وقَالَ
ابنُ مَسْعُودٍ: (إِنَّ اللَّهَ بقِسْطِهِ وعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ
والفَرَحَ فِي اليَقِينِ والرِّضَا، وجَعَلَ الْهَمَّ والحَزَنَ فِي
الشَّكِّ والسَّخَطِ؛ فالرَّاضِي لا يَتَمَنَّى غَيْرَ مَا هوَ عَلَيْهِ
مِنْ شِدَّةٍ ورَخَاءٍ). كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وابنِ مَسْعُودٍ
وغَيْرِهِمَا.
وقَالَ
عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ:(أَصْبَحْتُ ومَا لِي سُرُورٌ إِلا فِي
مَوَاضِعِ القَضَاءِ والقَدَرِ. فَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ
كَانَ عَيْشُهُ كُلُّهُ فِي نَعِيمٍ وسُرُورٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]).
وقَالَ عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ زَيْدٍ: (الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الأَعْظَمُ، وجَنَّةُ الدُّنْيَا، ومُسْتَرَاحُ العَابِدِينَ).
وسُئِلَ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَنْ حَالِهِ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: (أَحَبُّهُ إليهِ أَحَبُّهُ إِلَيَّ).
وسُئِلَ السُّرِّيُّ:هَلْ يَجِدُ المُحِبُّ أَلَمَ البَلاءِ؟ فَقَالَ: (لا).وقَالَ بَعْضُهُم:
عـَذَابـُهُ فـِيـكَ عــَذْبُ = وبــُعــْدُهُ فــيــكَ قــُرْبُ
وأَنـْتَ عِندِي كَرُوحِي = بــَلْ أَنـْتَ مـِنــْهـَا أَحَبُّ
حَسْبِي مِن الْحُبِّ أنِّي = لـِمــَاتــُحــِبُّ أُحـِبُّ
والدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ
يَصْبِرَ علَى البَلاءِ، وهَذِهِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا
بالقَضَاءِ، فالرِّضَا فَضْلٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ، والصَّبْرُ
واجِبٌ علَى المُؤْمِنِ حَتْمٌ، وفِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، ووَعَدَ عَلَيْهِ جَزِيلَ الأَجْرِ، قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزُّمَر: 10]، وقَالَ:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155-157].
قَالَ الحَسَنُ: (الرِّضَا عَزِيزٌ، ولَكِنَّ الصَبْرَ مُعَوَّلُ المُؤْمِنِ).
والفَرْقُ بَيْنَ الرِّضَا والصَّبْرِ:
والرِّضَا: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بالقَضَاءِ، وتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ المُؤْلِمِ وإِنْ وُجِدَ الإِحْسَاسُ بالأَلَمِ، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ القَلْبَ مِنْ رُوحِ اليَقِينِ والمَعْرِفَةِ، وإِذَا قَوِيَ الرِّضَا فَقَدْ يُزِيلُ الإِحْسَاسَ بالأَلَمِ بالكُلِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
وقَالَ عُمَرُ لأَِشْيَاخٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ:(بِمَ قَاتَلْتُم النَّاسَ؟ قَالُوا: بالصَّبْرِ، لَمْ نَلْقَ قَوْمًا إِلا صَبَرْنَا لَهُم كَمَا صَبَرُوا لَنَا).
وقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (كُلُّنَا يَكْرَهُ المَوْتَ وأَلَمَ الجِرَاحِ، ولَكِنْ نَتَفَاضَلُ بالصَّبْرِ).وقَالَ البَطَّالُ:(الشَّجَاعَةُ صَبْرُ سَاعَةٍ).
وهَذَا
فِي جِهَادِ العَدُوِّ الظَّاهِرِ، وهوَ جِهَادُ الكُفَّارِ، وكذَلِكَ
جِهَادُ العَدُوِّ البَاطِنِ، وهوَ جِهَادُ النَّفْسِ والْهَوَى؛ فَإِنَّ
جِهَادَهُما مِنْ أَعْظَمِ الجِهَادِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ)).
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَن الجِهَادِ: (ابْدَأْ بنَفْسِكَ فجَاهِدْهَا، وابْدَأْ بنَفْسِكَ فاغْزُهَا).
وقَالَ
بَقِيَّةُ بنُ الوَلِيدِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ أَدْهَمَ،
حَدَّثَنَا الثِّقَةُ، عنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: (أَوَّلُ مَا
تُنْكِرُونَ مِنْ جِهَادِكُم جِهَادُكُم أَنْفُسَكُمْ).
وقَالَ
إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبِي عَبْلَةَ لقَوْمٍ جَاءُوا مِن الغَزْوِ: (قَدْ
جِئْتُم مِن الجِهَادِ الأَصْغَرِ، فَمَا فَعَلْتُم فِي الجِهَادِ
الأَكْبَرِ؟ قَالُوا: ومَا الْجِهَادُ الأَكْبَرُ؟ قَالَ: جِهَادُ
القَلْبِ).
ويُرْوَى هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، ولَفْظُهُ: ((قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ))، قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الأَكْبَرُ؟ قَالَ: ((مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ لِهَوَاهُ)).
ويُرْوَى مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَيْسَ
عَدُوُّكَ الَّذِي إِذَا قَتَلَكَ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ، وَإِذَا
قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُورًا، أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ
جَنْبَيْكَ)).
وقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُما حِينَ اسْتَخْلَفَهُ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا أُحذِّرُكَ نَفْسُكَ
الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ).
فهَذَا
الجِهَادُ يَحْتَاجُ أَيْضًا إَلَى صَبْرٍ، فمَنْ صَبَرَ عَلَى
مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وهَوَاهُ وشَيْطَانِهِ، غَلَبَهُ وحَصَلَ لَهُ
النَّصْرُ والظَّفْرُ، ومَلَكَ نَفْسَهُ، فَصَارَ عَزِيزًا مَلِكًا.
ومَنْ
جَزِعَ ولَمْ يَصْبِرْ عَلَى مُجَاهَدَةِ ذَلِكَ، غُلِبَ وقُهِرَ وأُسِرَ،
وصَارَ عَبْدًا ذَلِيلاً أَسِيرًا فِي يَدَيْ شَيْطَانِهِ وهَوَاهُ، كَمَا
قِيلَ:
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَغلِبْ هَوَاهُ أَقَامَهُ = بـِمـَنـْزِلـَةٍ فـِيـهَا الـعَزِيـزُ ذَلـِيـلُ
قَالَ ابنُ المُبَارَكِ:(مَنْ صَبَرَ فَمَا أَقَلَّ مَا يَصْبِرُ، ومَنْ جَزِعَ فَمَا أَقَلَّ مَا يَتَمَتَّعُ).
فقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ)) يَشْمَلُ النَّصْرَ فِي الجِهَادَيْنِ:
جهَادِ
العَدُوِّ الظَّاهِرِ، وجِهَادِ العَدُوِّ البَاطِنِ، فَمَنْ صَبَرَ
فِيهِمَا نُصِرَ وظَفِرَ بعَدُوِّهِ، ومَنْ لَمْ يَصْبِرْ فِيهِمَا وجَزِعَ
قُهِرَ وصَارَ أَسِيرًا لِعَدُوِّهِ أوْ قَتِيلاً لَهُ.
قَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ)) هَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28 ] وقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ)) خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وخَرَّجَهُ ابنُهُ عبدُ اللَّهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وفِيهِ:
((عَلِمَ اللَّهُ يَوْمَ الْغَيْثِ إِنَّهُ لَيُشْرِفُ عَلَيْكُمْ
أَزِلِينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، قَدْ عَلِمَ أَنَّ غِيَرَكُمْ
إِلَى قُرْبٍ)). والمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ
قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ القَطْرِ عَنْهُم وقُنُوطِهِم
ويَأْسِهِم مِن الرَّحْمَةِ، وَقَد اقْتَرَبَ وَقْتُ فَرَجِهِ ورَحْمَتِهِ
لعِبَادِهِ، بإِنْزَالِ الغَيْثِ عَلَيْهِم، وتَغْيِيرِهِ لحَالِهِم وَهُم
لا يَشْعُرُونَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا
أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمُبْلِسِينَ}[الرُّوم: 48، 49].
وقَالَ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَريبٌ} [البقرة: 214].
وقَالَ حَاكِيًا عنْ يَعْقُوبَ، أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}[يوسف: 87]، ثُمَّ قَصَّ قِصَّةَ اجْتِمَاعِهِمْ عَقِيبَ ذَلِكَ.
وَكَمْ
قَصَّ سُبْحَانَهُ مِنْ قَصَصِ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِ أَنْبِيَائِهِ عِندَ
تَنَاهِي الكَرْبِ؛ كَإِنْجَاءِ نُوحٍ ومَنْ مَعَهُ فِي الفُلْكِ،
وإِنْجَاءِ إِبْرَاهِيمَ مِن النَّارِ، وفِدَائِهِ لوَلَدِهِ الَّذِي
أُمِرَ بذَبْحِهِ، وإِنْجَاءِ مُوسَى وَقَوْمِهِ مِن اليَمِّ، وإِغْرَاقِ
عَدُوِّهِم، وقِصَّةِ أَيُّوبَ ويُونُسَ، وقَصَصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَعْدَائِهِ، وإِنْجَائِهِ مِنْهُم؛ كقِصَّتِهِ
فِي الغَارِ، ويَوْمِ بَدْرٍ، ويَوْمِ أُحُدٍ، ويَوْمِ الأَحْزَابِ،
ويَوْمِ حُنَيْنٍ، وغَيْرِ ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)) هوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق: 7]، وقَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5، 6].
وخَرَّجَ
البَزَّارُ فِي (مُسْنَدِهِ) وابنُ أَبِي حَاتِمٍ -واللَّفْظُ لَهُ- مِنْ
حَدِيثِ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَوْ جَاءَ الْعُسْرُ فَدَخَلَ هَذَا الْجُحْرَ، لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ)) فأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
ورَوَى
ابنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الحَسَنِ مُرْسَلاً نَحْوَهُ، وفِي
حَدِيثِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ)).
ورَوَى
ابنُ أَبِي الدُّنْيَا بإِسْنَادِهِ، عَن ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (لَوْ
أَنَّ العُسْرَ دَخَلَ فِي جُحْرٍ لَجَاءَ اليُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ
مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا})
وبإِسْنَادِهِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حُصِرَ، فكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ
يَقُولُ: (مَهْمَا يَنْزِلْ بامْرِئٍ شِدَّةٌ يَجْعَل اللَّهُ بَعْدَهَا
فَرَجًا، وإِنَّهُ لَنْ يَغلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وإِنَّهُ يَقُولُ: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمرانَ: 200]).
ومِنْ
لَطَائِفِ أَسْرَارِ اقْتِرَانِ الفَرَجِ بالكَرْبِ واليُسْرِ بالعُسْرِ:
أَنَّ الكَرْبَ إِذَا اشْتَدَّ وعَظُمَ وتَنَاهَى، حَصَلَ للعَبْدِ
الإِيَاسُ مِنْ كَشْفِهِ مِنْ جِهَةِ المَخْلُوقِينَ، وتَعَلَّقَ قَلْبُهُ
باللَّهِ وَحْدَهُ، وهَذَا هوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وهوَ
مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الَّتِي تُطْلَبُ بِهَا الحَوَائِجُ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: 3].
فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَكَبَّ عَوْفٌ يَقُولُ: لا حَوْلَ وَلا قوَّةَ إِلا باللَّهِ، وَكَانُوا قَدْ شَدُّوهُ بِالقِدِّ، فَسَقَطَ القِدُّ عَنْهُ، فَخَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِنَاقَةٍ لَهُمْ فَرَكِبَها، فَأَقْبَلَ فَإِذَا هُوَ بِسَرْحِ القَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا شَدُّوهُ، فَصَاحَ بِهِمْ، فَاتَّبَعَ آخِرُها أَوَّلَهَا، فَلَمْ يَفْجَأْ أَبَوَيْهِ إِلا وَهُوَ يُنادِي بِالبابِ، فَقالَ أَبُوهُ: عَوْفٌ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: وَاسَوْأَتَاهُ.
وَعَوْفٌ كَئِيبٌ يَأْلَمُ مَا هُوَ فِيهِ مِن القِدِّ، فَاسْتَبَقَ الأَبُ والخَادِمُ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَوْفٌ قَدْ مَلأََ الفِنَاءَ إِبِلاً.ونَزَلَ: {وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: 2-3] الآيَةَ.
قَالَ
الفُضَيْلُ:(واللَّهِ لَوْ يَئِسْتَ مِن الخَلْقِ حَتَّى لا تُرِيدَ
مِنْهُم شَيْئًا، لأََعْطَاكَ مَوْلاكَ كُلَّ مَا تُرِيدُ).
وذَكَرَ
إِبْرَاهِيمُ بنُ أَدْهَمَ عَن بَعْضِهِم قَالَ: (مَا سَأَلَ
السَّائِلُونَ مَسْأَلَةً هيَ أَلْحَفُ مِنْ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: مَا
شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: يَعْنِي بذَلِكَ التَّفْوِيضَ إِلَى اللَّهِ عزَّ
وَجَلَّ).
وأَيْضًا،
فَإِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الفَرَجَ، وأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ
كَثْرَةِ دُعَائِهِ وتَضَرُّعِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرُ
الإِجَابَةِ، يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ باللائِمَةِ، وقَالَ لَهَا: إِنَّمَا
أُتِيتُ مِنْ قِبَلِكَ، وَلَوْ كَانَ فِيكِ خَيْرٌ لأَُجِبْتِ، وهَذَا
اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِن الطَّاعَاتِ؛ فَإِنَّهُ
يُوجِبُ انْكِسَارَ العَبْدِ لمَوْلاهُ، واعْتِرَافَهُ لَهُ بأَنَّهُ
أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ بِهِ مِن البَلاءِ، وأَنَّهُ لَيْسَ بأَهْلٍ
لإَِّجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ فَلِذَلِكَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئذٍ إِجَابَةُ
الدُّعَاءِ وتَفْرِيجُ الكَرْبِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ
المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُم مِنْ أَجْلِهِ.
قَالَ
وَهْبٌ: (تَعَبَّدَ رَجُلٌ زَمَانًا، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ
حَاجَةٌ، فَصَامَ سَبْعِينَ سَبْتًا، يَأْكُلُ فِي كُلِّ سَبْتٍ إِحْدَى
عَشْرَةَ تَمْرَةً، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَلَمْ يُعْطَهَا،
فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: مِنْكِ أُتِيتُ، لَوْ كَانَ فِيكِ خَيْرٌ
أُعْطِيتِ حَاجَتَكِ.فَنَزَلَ إِلَيْهِ عندَ ذَلِكَ مَلَكٌ فَقَالَ: يَا
ابْنَ آدَمَ، سَاعَتُكَ هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَتِكَ الَّتِي مَضَتْ،
وَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَاجَتَكَ) خَرَّجَهُ ابنُ أَبِي الدُّنْيَا.
ولِبَعْضِ المُتَقَدِّمِينَ فِي هَذَا المَعْنَى:
عسَى مَا تَرَى أَنْ لا يَدُومَ وَأَنْ تَرَى = لــَهُ فـَرَجـًا مـِمَّا أَلـَحَّ بـِهِ الدَّهــْرُ
عــَســَى فـَرَجٌ يـَأْتـِي بـِهِ اللـَّهُ إِنَّهُ = لـَهُ كـُلــَّ يـَوْمٍ فـِي خـَلـِيقـَتِهِ أَمـْرُ
إِذَا لـَاحَ عـُسـْرٌ فـَارْجُ يـُســْرًا = فــَإِنَّهُ قـَضـَى الـلَّهُ أَنَّ العُسْرَ يَتْبَعُهُ اليُسْرُ
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
(وعن أبي العباس عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- قال: كُنت خلْف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: (يا
غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت
فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن
ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك
بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: (حديث حسن صحيح).
وفي رواية غير الترمذي: (احفظ
الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما
أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر، وأن
الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا).
الشيخ :
هذا حديث عظيم جدّاً من وصايا المصطفى -عليه الصلاة والسلام- خصَّ بها ابن عمِّه عبد اللهِ بن عباس -رضي الله عنهما-.
وهذه الوصية جمعت خيري الدنيا والآخرة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى عبد الله بن عباس وأمرهُ بقوله: ((يا غُلام إنِّي أُعلمك كلمات))
وهذا اللفظ فيه تودُّد المعلم، والأب والكبير إلى الصغار، وإلى من يريد أن
يوجه بالألفاظ الحسنة، فهو استعمل -عليه الصلاة والسلام-: لفظ التعليم ((إنّي أُعلمُكَ كلمات))
وهي أوامر، فلم يَقُل له عليه الصلاة والسلام: (إني آمرُك بكذا وكذا)
وإنما ذكر لفظ التعليم؛ لأنه من المعلوم أنَّ العاقل يُحب أن يستفيد علماً.
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((يا غلام إني أُعلمك كلمات)) والكلمات جمع كلمة، والمقصود بها هنا: الجُمل، لأنّ الكلمة في الكتاب والسنة غير الكلمة عند النحاة.
- فالكلمة عند النحاة:
- اسم.
- أو فعل. - أو حرْف. وحقوق الله جل جلاله نوعان: أما الأولى: فهو أن يحفظه في دنياه. - وفي أهله بأن يحفظ له أهْلَهُ وولده. والدرجة الثانية:
من حفظ الله -جل وعلا- للعبد وهي أعظمُ الدرجتين وأرْفعهما وأبلغهما عند
أهل الإيمان، وفي قلوب أهل العِرْفان، هي: أن يحفظ اللهُ -جل وعلا- العبد
في دينه: اشتدي أزمةُ تنفرجِي *** قد آذن ليلكِ بالبلجِ في
القصيدة المسماة بالمنفرجة ، وهذا يدلُّ على أن العبد إذا اشتد عليه
الأمر، وأَحْسَنَ الصَّبر، وأحسن الظنَّ بالله -جل وعلا-؛ فإنه يُؤذن لَه
بأن ينفرج كَرْبُه، وأن ييسَّرَ له عُسْرُه، والصَّبر أمر به هنا في قوله: ((واعلم أن النَّصر مع الصَّبر)) والنصر مطلوب فصار الصَّبر مطلوباً. ومعنى
الرِّضى بالمصيبة: أن يسْتأنس لها، ويعلم أنها خيرٌ لهُ، ويرضى بها في
داخله ويسلِّم لها، ولا يجد في قلبه تسَخُّطاً عليها، أو لا يجد في قلبه
رغبةً في ألا تكون جاءته، وهذه مرتبة خاصّة.
أمّا في الكتاب والسنة:
-فالكلمةُ هي الجُملة كما قال -جل وعلا-: {كلاَّ إنَّها كلمةٌ هو قائلها} يريد بها ما جاء في الآية قبلها: {ربِّ ارجعون} وثبت أيضاً في (مسلم): (أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((أصدْقُ كلمةٍ قالها شاعر قولُ لَبيد: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ)).
قال: ((أصدْقُ كلمة)) فإذاً الكلمة يُعنى بها: الجمل، فقوله عليه الصلاة والسلام: ((إني أُعلمك كلمات)) يعني إنّي أُعلمُك جُملاً ووصايا، فأَرْعها سمعك.
- حقوقٌ واجبة.
وحقوقٌ مستحبة.
((احفظ الله))
أن يأتي بالحقوق الواجبة والحقوق المستحبة، ونعبر بالحقوق تجوزاً
بالمقابلة، يعني: الحقوق الواجبة والمستحبات، فمن أتى بالواجبات
والمستحبات، فقد حفظ الله -جل وعلا-؛ لأنه يكون من السّابقين بالخيرات،
والمقتصد أيضاً قد حفظ الله -جل وعلا- إذ امتثل الأمر الواجب وانتهى عن
المحرم، فأدنى درجات حفظ الله -جل وعلا- أن يحفظ الله سبحانه وتعالى بعد
إتيانه بالتوحيد بامتثال الأمر، واجتناب النهي، والدرجة التي بعدها
المستحبات هذه يتنوع فيها الناس، وتتفاوتُ درجاتهم.
قال:((احفظ الله يحفظك)) وحفظ الله -جل وعلا- للعبد على درجتين أيضاً:
- أن يحفظ له مصالحه في بدنِه بأن يصحه.
- أو أن يوسع عليه في رزقه.
وأنواع الحفظ لمصالح العبد في الدنيا، فكلُّ ما للعبد فيه مصلحة في الدنيا؛ فإنه مَوْعودٌ بأن تُحفظَ لَهُ إذا حفظ الله -جل وعلا- بأداء حقوق الله جل جلاله واجتناب المحرمات.
- بأن يسلم له دينه بإخلاء القلب من تأْثير الشبهات فيه.
- وإخلاء الجوارح من تأثير الشهوات فيها.
- وأن يكون القلبُ معلقاً بالربِّ -جل وعلا-.
- وأن يكون أُنْسُهُ بالله ورَغَبهُ في الله.
- وإنابتُه إليه.
- وخَلْوتُه المحبوبة بالله جلّ جلاله.
كما جاء في حديث الولي المعروف الذي رواه البخاري في (الصحيح) وغيره أيضاً قال عليه الصلاة والسلام: ((قال الله تعالى:((ولا
يزال عبدي يتقرَّب إلي بالنوافلِ حتى أُحبّه، فإذا أحْببتُه كنت سمعه الذي
يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،
ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما تردّدت في شيءٍ أنا فاعلهُ
تردّدي في قبض نفسِ عبدٍمؤمن يكرهُ الموت وأكرهُ مساءتهُ، ولا بُد له من
ذلك)).
فحفظ
الله -جل وعلا- العبد في الدين، هذا أعظم المطالب ولهذا كان -عليه الصلاة
والسلام- يدعو الله كثيراً أن يُحفظ من الفتـن، وأن يحفظهُ اللهُ -جل وعلا-
من تقليب القلب: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)) ونحو ذلك.
وكان كثيراً ما يقسم: ((لا ومقلب القلوب))فالعبد
أعظم المطالب التي يحرص عليها: أن يسلم له دينه، والله -جل وعلا-، قد
يبتلي العبد بخللٍ في دينه، وشبهات تطرأ عليه لتفريطه في بعض ما يجب أن
يحفظ الله -جل وعلا- فيه، فلهذا العبد إذا حصل له إخلال في الدين؛ فإنه قد
أخلَّ بحفظ الله -جل وعلا-.
- فقد يعاقب بأن يُجعل غافلاً.
- وقد يعاقب بحرمانه البصيرة في العلم.
- وقد يُعاقب بأن تأتيه الشبهة ولا يُحسنُ كيف يتعامل معها، ولا كيف يردها.
- وقد يعاقب بأنه تأتيه الشبهة فتتمكن منهُ.
كما قال -جل وعلا-: {فلما زاغوا أزاغَ اللهُ قُلوبَهم}.
وكما قال: {نسوا الله فَنَسيهم}.
وكما قال -جل وعلا-: {فأمّا الذين في قلوبهم زيْغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}.
وكما قال -جل وعلا-: {إنْ هي إلا فتنتكَ تصيب بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا…}الآية في الأعراف.
وهكذا
في آيات أُخر، دَلت على أنّ العَبد قد يُخذل، وخُذْلانُه في أمر الدين هو
أعظم الخِذلان، ولهذا ينبغي للعبد أن يحرص تمام الحرص على أن يحفظ الله -جل
وعلا- في أمره سبحانه، وإن فاتَهُ الامتثال فلا يفتْهُ:
- الاستغفار.
- والإنابة.
- واعتقاد الحق.
- وعدم التردد.
- والسُّرْعة بإتباع السيئة بالحسنة لعلها أن تمحى.
لهذا
فإنَّ حفظ الله -جل وعلا- للعبد بأن يكون الحفظ في الدين أعظم من أن يُحفظ
في أمر دنياه، ولهذا في قول الله -جل وعلا- في سورة المائدة:
{فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجعلنا قلوبَهم قاسية يحرِّفون الكلم عن
مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذكِّروا به، فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى
يوم القيامة وسوف يُنبئهم اللهُ بما كانوا يصنعون}.
قال -جل وعلا-: {نسوا حظّاً مِمَّا ذُكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} قوله: {نسوا حظّاً مما ذكروا به} يعني: تركوا نصيباً ممّا أمِروا به، تركوهُ عن عمدٍ وعن علم، فلما علموهُ تركوه عن بصيرة، فعوقبوا بالفُرقة {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}
وهذا من أنواع العقوبات التي يبتلي الله -جل وعلا- بها العباد، ويُعاقب
بها المؤمنين، حيث يُعاقبهم بالفُرْقَة؛ لأنهم تركوا ما أوجب الله -جل
وعلا- عليهم، من مقتضى العلم، وهذا نوع من أنواع ترك حفظ الله -جل وعلا-
للعبد.
فالعبد بحاجة أن يحفظه الله سبحانه وتعالى:
- بتوفيقه له.
- ومعيته له.
- وتسديده إياه.
حفظُ الله -جل وعلا- للعبد في الدِّين، أو في الدنيا أيضاً راجعٌ إلى معية الله سبحانه وتعالى، والمراد بها المعية الخاصة التي مُقتضاها التوفيق والإلهام، والتسديد، والنصر، والإعانة.
قال: ((احفظ الله تجدهُ تجاهك)) يعني: احفظ الله على نحو ما وصفنا، تجدهُ دائماً على ما طلبت، تجده دائماً قريباً منك يُعْطيك ما سألت، كما ذكرت لك في حديث الولي: ((ولئن سألني لأعطينَّه ولَئن استعاذني لأعيذنّهُ)).
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) هذا مأخوذٌ من قول الله -جل وعلا-: {إياك نعبد وإياك نستعين} وفيه إفرادُ الله -جل وعلا- بالاستعانة وبالسؤال، وهذه على مرْتبتين:
الأولى: واجبة، وهي التوحيد.
- بأن يستعين بالله -جل وعلا- وحده دون ما سواه؛ فيما لا يقدرُ عليه إلا الله -جل وعلا-، فهذا واجب.
- وكذلك أن يسأل الله
-جل وعلا- وحْدَه فيما لا يقدرُ عليه إلا الله.
المرتبة الثانية:المستحبة
وهو أنه إذا أمكنه أن يقوم بالعمل فإنه لا يسألُ أحداً من الناس شيئاً،
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخذ العهد على عدد من الصحابة؛ ألا يسألوا
الناس شيئاً.
قال
الراوي: (فكان أحدهم يسقُطُ سوطهُ؛ فلا يسأل أحداً أن يناوله إيَّاهُ) وهذا
من المراتب التي يتفاوت فيها الناس، فإذا أمكنك أن تقوم بالشيء بنفسك؛
فالأفضل والمستحب ألا تسأل أحداً من الخلق في ذلك، إذا أمكنك يعني بلا
كُلْفَةٍ، ولا مشقة.
ومن
كانت عادته دائماً أن يطلب الأشياء فهذا مكروه، وينبغي للعبد أن يوطِّن
نفسه أن يعملَ بنفسه ما يحتاجه كثيراً، وإذا سأل في أثناء ذلك فإنه لا
يقدحُ حتى في الدرجة المستحبة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- رُبما أمر من
يأتيه بالشيء، وربما طلب من يفعل له الشيء، وهذا على بعض الأحوال.
قال: ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)).
وهذا
ظاهر في الوجوب، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، على القيد
الذي ذكرنا لكم من أنَّ هذا يتناول المرتبة الأولى على الوجوب، والمرتبة
الثانية على الاستحباب.
قال -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ((واعلم
أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله
لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،
رُفعت الأقلام وجفت الصحف)).
هذا
فيه بيان القَدَر السابق، وأنّ العباد لن يغيروا من قدر الله -جل وعلا-
الماضي شيئاً، وأنَّ من عَظُم توكلهُ بالله -جل وعلا-؛ فإنه لن يضرهُ
الخلق، ولو اجتمعوا عليه، كما قال -جل وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: {والله يعصِمُكَ من النّاس}
وجاء في عددٍ من الأحاديث بيان هذا الفضل؛ بأنّ العبد إذا أحسنَ توكلهُ
على الله تعالى وطاعتهُ لله -جل وعلا-؛ فإن الله يجعل له مخرجاً، ولو
كادَهُ من في السموات ومن في الأرض لجعل الله -جل وعلا- له من بينهن
مخرجاً، والتوكل على الله -جل وعلا- ظاهر من هذه الوصية حيث قال: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك..)) ثم قال: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك..)) إلى آخر الجملتين، وهذا فيه إعظام التوكل على الله -جل وعلا-.
والتوكل على الله سبحانه وتعالى من أعظم مقامات الإيمان، بل هو مقام الأنبياء والمرسلين في تحقيق عبوديتهم العظيمة للربّ -جل وعلا-.
والتوكل
على الله معناه: أن يفعل السبب الذي أُمِر به ثم يفوِّضُ أمرهُ إلى الله
-جل وعلا- في الانتفاع بالأسباب، وإذا كان ما لديه من الأمر لا يملكُ أن
يفعل له سبباً؛ فإنه يفوضُ أَمرهُ إلى الله -جل وعلا- كما قال سبحانه في
ذكر مؤمن آل فرعون: {وأُفوض أمري إلى الله إنَّ الله بصيرٌ بالعباد} وهذا
التفويض إلى الله -جل وعلا- عمل القلب خاصّة، يعني: أن يلتجيء بقلبه، وأن
يعتمد بقلبه على الله -جل وعلا- في تحصيل مرادهِ، أو دفع الشّر الذي
يخشاهُ، والعباد إذا تعامل معهم؛ فإنما يتعامل معهم على أنهم أسباب، والسبب
قد ينفع وقد لا ينفع، فإذا تعلّق القلب بالخلق، أُتيَ من هذه الجهة، ولم
يكن كاملاً في توكله، فتعلّق القلب بالخلق مذموم.
والذي
ينبغي أن يتوكل على الله، وأن يعلّق قَلبَه بالله -جل وعلا-، وألا يتعلق
بالخلق حتى ولو كانوا أسباباً، فينظر إليهم على أنهم أسباب، والذي يجعل
السَّبب سبباً وينفع به هو الله -جل وعلا-، إذا قام هذا في القلب؛ فإنّ
العبد يكون مع ربّه -جل وعلا-، ويعلم أنه لن يكون له؛ إلا ما قَدّرهُ الله
-جل وعلا- له، ولن يمضي عليه إلا ما كتبه الله -جل وعلا- عليه.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ((رُفعت الأقلام وجفَّت الصُحفُ)) يعني أنَّ الأمر مضى وانتهى، وهذا لا يدل على أنّ الأمر على الإجبار، بل إنّ القدر ماض، والعبد يمضي فيما قدّره الله -جل وعلا-.
- لأجلِ التوكل عليه.
- وحُسْنِ الظن به.
- وتفويض الأمر إليه.
- وإخلاء القلب من رؤية الخلق.
القارئ:
قال: وفي رواية غير الترمذي:
((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرّخاء يَعرفْك في الشِّدة،
واعلم أنّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك))
الشيخ:
قوله: ((تعرَّف إلى الله في الرّخاء يَعرفْك في الشِّدة)) تعرُّف العبد إلى ربه هو علْمه بما يستحقهُ -جل وعلا-، تعرّف إلى الله في الرّخاء، يعني تعلّم ما يستحقهُ -جل وعلا- عليك.
من توحيده، في ربوبيته، وإلهيته، وفي أسمائه وصفاته.
- ما يستحقه -جل وعلا- من طاعته في أوامره، وطاعته فيما نهى عنه باجتناب المنهيات.
- وما
يستحقهُ -جل وعلا- من إقبال القلب عليه، وإنابة القلب إليه، والتوكل عليه،
والرَّغَب فيما عنده، وإخلاء القلب من الأغيار، يعني من غيره -جل وعلا-،
واتِّباع ما يحبُ ويرضى من أعمال القلوب.
((تعرَّف إلى الله في الرّخاء))
يعني إذا كنت في رخاءٍ من أمْرِك، بحيث قد يأتي لبعض النفوس أنها غير
محتاجة لأحد، هنا تعرّف إلى الله في الرخاء، واطلب ما عنده، وتعلم ما
يستحقهُ -جل وعلا-، واتبع ذلك بالامتثال، فإنَّ هذا من أفضل الأعمال
الصالحة، بل هو لبُّ الدين وعمادُهُ، العلم بما يستحقهُ -جل وعلا- ثم العمل
بذلك.
إذا حصَل منك التعرُّف إلى الله، والتعرف على الله -جل وعلا-، عَرَفك الله في الشدة.
قال: ((يعْرفك في الشدة)). الشيخ: وكلمة ((يَعْرِفك))
هذه جاءت على جهة الفعل، ومعلوم في باب الصفات أن باب الأفعال أوسع من باب
الأسماء، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات، فهذا إذاً لا يقتضي أن يكون من
صفاته -جل وعلا- المعْرفَة، فإنه لا يوصَفُ الله -جل وعلا- بأنه ذو
معْرِفَة، بل يقيد هذا على جهة المقابلة، كما قال النبي -صلى الله عليه
وسلم- هنا: ((تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشدة)) فيجوز أن تستعمل لفظ يَعْرِف على الفعْلية، وفي مقابلة لفظ (يعْرف) آخر، كما في نظائره، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إنَّ الله لا يمل حتى تملوا)) وكما في قول الله -جل وعلا-: {ويمكرون ويمكرُ الله} وفي قوله: {مستهزءون*الله يستهزيء بهم} وقوله: {يخادعون الله وهو خادِعُهم}وأشباه ذلك من الألفاظ التي جاءت بصيغة الفعل.
ومجيئها
بلفظ الفعل لا يدلُّ على إطلاقها صفة؛ لأنّها جاءت على لفظ المقابلة،
ومجيء بعض الصفات على جهة الأفعال بالمقابلة، هذا يدلُّ على الكمال،
ومعلومٌ أن المعرفة غير العلم.
- العلمُ كمالٌ.
-
وأمّا المعرفة فإنها قد تشوبها شائبة النّقص؛ لأنَّ لفظ المعرفة، وصفة
المعرفة هذه قد يسبقها جَهل؛ لأن عرف الشيء يعني تعرَّف إليه بصفاته، وهذا
يقتضي أنَّه ربما كان جاهلاً به غير عالمٍ به، أمَّا العلم فهو صفةٌ لا
تقتضي، ولا يلزمُ منها سَبْقُ عَدم علمٍ، أو سَبْقُ جَهْلٍ وأشباه ذلك،
ولهذا كان من أسماءِ الله الحُسنى (العليم)، ولم يكن من أسمائه -جل وعلا-
(العارف) وأشباه ذلك.
إذا تَقَرَّر هذا فلفظ المعرفة جاء في القرآن على جهة الذّم، قال -جل وعلا-: {يَعْرفون نعمة الله ثم يُنكِرونها}.
- وقال -جل وعلا-: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خَسِروا أنفسهم فَهم لا يؤمنون}
والآية الأخرى أيضاً في الأنعام، والآية الأخرى أيضاً في البقرة في هذا،
فلفظ المعرفة جاء على جهة الذم في غالب ما جاء في الكتاب والسنة، وقد يأتي
على معنى العلم كما في هذا الحديث.
فإذاً قوله: ((تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) من جهة الصفات هذا بحْثهُ.
ما معنى معرفِةُ الله للعبد في الشدة؟
قال
العلماء: هذه معناها المعية، ومعْرِفةُ اللهِ -جل وعلا- للعبد في الشدة
يعني أن يكون معه بمعية النَّصر، والتأييد، والتوفيق، وأشباه ذلك.
القارئ:
قال: ((واعلم أنّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبك وما أصابك لم يُكن ليُخطئك)).
الشيخ:
وهذا في القَدَرِ ومضى بحثه.
القارئ:
قال: ((واعلم أنَّ النصر مع الصَّبر وأنَّ الفَرجَ مع الكرْب وأنَّ مع العُسْرِ يُسْرا)).
الشيخ:
هذا فيه الأمر بالصبر، وأنَّ مع الكرْب يأتي الفرج، وأن مع العُسْر يأتي اليُسْرِ كما قال -جل وعلا-: {فإنَّ مع العُسْر يُسرا(5) إنّ مع العُسِر يُسراً} وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: ((لَنْ يغلبَ عُسرٌ يُسْرين)) وهذا من فضل الله -جل وعلا-.
وقد قال الشاعر:
وإذا حَصَل كرْب ومصيبة كما قال: ((ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)) إذا حصلت مصيبة فإن الصبر واجب.
ومعنى
الصبر الواجب: أن يحبس اللسان عن الشكوى، ويحبس القلب عن التسخط، ويحبس
الجوارح عن التصرفِ بما لا يجوز من شَقٍّ أو نياحةٍ أو لطمٍ وأشباه ذلك من
الأفعال في غير مصيبة الموت.
قِيل للأمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (هذا رجلٌ ظلمه السلطان فأخذ يدعو عليه.
قال
أحمد: (هذا خلاف الصَّبر الذي أَمرَ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع
السلطان، لا يُدْعى عليه) وهذا لَهُ مأخذ آخر من جهة أنّ الكرْب الذي
رُبمَّا أتى من السلطان، إذا تشكَّى المؤمن منه؛ فإنه يخالف حبْس اللسان عن
التشكي.
ولهذا
لمَّا جاء أحدُ الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكرَ له ما يلقى
من المشركين من الشَّدة، غضِبَ النبي -عليه الصلاة والسلام- لأجل أنهم لم
يصبروا.
وقال: ((إنَّهُ
كان من كان قبلكم يؤْتى بالرجل فينشَر بالمنشار نصفين ما بين جلْده وعظمه
لا يردُّه ذلك عن دينه، فوالله ليُتمنّ الله هذا الأمر..))الحديث.
فدل هذا على أنَّ الصّبر واجب في جميع الحالات.
ولهذا أمر الله نبيه أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرُّسل: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} وكل مخالفة لهذا الواجب يأتي لها أضداداها في حياة العبد إمّا الخاصَّة أو العامة.
المرتبة الثانية:المستحبة:هي الرضى بما قدَّر الله -جل وعلا-، فالصَّبر واجب، وأما الرضى بالمصيبة فمستحب.
وهناك فرْقٌ ما بين الرِّضى الواجب، والرضى المُستحب في المصيبة.
فإن المصيبة إذا وَقعت تعلَّق بها نوعان من الرِّضى؛ رضى واجب ورضى مستحب.
- والرِّضى الواجب هو: الرِّضى بفعل الله -جل وعلا-.
هذا
واجب لأنه لا يجوز للعبد أن لا يرضى بتصرُّف الله في ملكوته، بل يرضى بما
فعل الله -جل وعلا- في ملكوته، ولا يكون في نفسه معارَضَة لله -جل وعلا- في
تصرفه في ملكوته، هذا القدْر واجب.
- وأما المستحب فهو: الرِّضى بالمصيبة، يعني الرضى بالمقضي، فهناك فرقٌ ما بين الرِّضى بالقضاء، والرِّضى بالمقضي.
- فالرِّضى بالقضاء الذي هو فعْلُ الله -جل وعلا- هذا واجب.
- والرِّضى بالمقضي، هذا مستحب.
الكشاف التحليلي
حديث ابن عباس رضي الله عنهما - مرفوعاً-: (احفظ الله يحفظك...)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
منزلة الحديث
موضوع الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
فائدة: أفرد الحافظ ابن رجب شرحاً كبيراً للحديث
شرح قوله رضي الله عنه: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا)
بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم
جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ
أهمية العناية بتعليم النَّاشِئَةِ
إطلاقات لفظ (اليوم):
يطلق لفظ (اليوم)على النهار، وعلى أكثره، وعلى النهار والليلة، وعلى الجزء من الزمن وهو المراد هنا)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام إني أعلمك كلمات)
المراد بقوله: (كلمات) أي: جمل
فائدة التَّلَطُّف مَعَ الصِّغَارِ
أهمية اغْتِنَامِ الوَقْتِ فِي الدَّعْوَةِ
شرح قوله صلى الله عليه وسلم:(احفظ الله يحفظك)
بم يكون حفظ العبد لربه جل وعلا؟
حفظ العبد لربه يكون بأداء حقوقه جل وعلا
حقوق الله تعالى نوعان: واجبة ومستحبة
حفظ الله تعالى للعبد على درجتين:
الدرجة الأولى: أن يحفظه في دنياه
الدرجة الثانية: أن يحفظه في دينه
حفظ الله تعالى للعبد في دينه أعظم المطالب
أعظم الخذلان خذلان العبد في أمر دينه
حفظُ الله تعالى لعبده من آثار معيته الخاصة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك)
معنى قوله: (تجده تجاهك)
ذكر رواية أخرى فيها (أمامك) بدل (تجاهك) والمعنى واحد
بيان معنى صفة المعية
بيان الفرق بين المعية العامة والمعية الخاصة
ذكر ما تقتضيه المعية الخاصة
ذكر ما تقتضيه المعية العامة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)
بيان معنى (التعرف)
بيان معنى (الرخاء) و(الشدة)
كيف يتعرف العبد إلى ربه؟
معرفة العبد لربه -جل وعلا- نوعان:
النوع الأول: معرفة عامة، وهي معرفة الإقرار والتصديق به
النوع الثاني: معرفة خاصة، وتقتضي الإقبال عليه وتعلق القلب به
معرفة الله تعالى لعبده نوعان:
النوع الأول: معرفة عامة، وهي علمه المحيط بهم
النوع الثاني: معرفة خاصة، وتقتضي محبته وحفظه وإجابة دعائه وإنجاءه من الشدائد...
آثار عن السلف في فضل معرفة الله تعالى في الرخاء
بيان معنى معرفة الله تعالى لعبده في الشدة
مسألة: هل يوصف الله تعالى بالمعرفة؟
وصف الله تعالى بالمعرفة ورد مقيداً في هذا الحديث على جهة المقابلة
لفظ (المعرفة) ورد في القرآن الكريم على جهة الذم
الله تعالى موصوف بالعلم
صفة (العلم) تشمل المعنى الحسن في صفة (المعرفة) وزيادة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا سألت فاسأل الله)
بيان معنى (السؤال)
آثار في النهي عن سؤال الخلق
ذم سؤال الناس
الأمر بالاستغناء عن سؤال الناس
الأمر بسؤال الله تعالى وحده
الله تعالى يحب أن يسأل
حالات جواز المسألة:
الحالة الأولى: مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً حلت له المٍسألة حَتَّى يَقْضِيَهَا
الحالة الثانية: مَنْ أُصِيبَ بجَائِحَةٍ أَذْهَبَتْ مَالَهُ فيُعْطَى مَا يُقِيمُ عَيْشَهُ
الحالة الثالثة: مَن أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يصيب قواماً من عيش
أحوال سؤال غير الله تعالى:
الحال الأولى: سؤال ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى
الحال الثانية: سؤال ما يقدرون عليه من أمور الدنيا
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا استعنت فاستعن بالله)
الأمر بالاستعانة للوجوب
أنواع الاستعانة:
النوع الأول: استعانة العبادة
استعانة العبادة يجب صرفها لله وحده دون ما سواه
من استعان بغير الله وكل إليه
النوع الثاني: استعانة التسبب
استعانة التسبب جائزة بشروطها
التحذير من تعلق القلب بالأسباب
استعانة التسبب تدور مع مقاصدها على الأحكام الخمسة
فضيلة الاستغناء عن الاستعانة بالخلق
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء...)
أهمية الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقدر لا ينافي بذل الأسباب
إطلاقات لفظ (الأمة)
يطلق على (الزمن، والقدوة في الخير، والجماعة من الناس، وأمة الإجابة، وأمة الدعوة وهي المرادة هنا)
بيان معنى (التوكل)
التوكل على الله تعالى من أعظم مقامات العبودية
من توكل على الله كفاه ووقاه ولو كاده من في السموات والأرض
التوكل الصحيح يقتضي فعل الأسباب المشروعة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك...)
هذه الزيادة وردت في بعض الروايات
بيان درجة هذه الزيادة
مراتب تلقي المقادير المؤلمة:
المرتبة الأولى: مرتبة الصبر والاحتساب
المرتبة الثانية: مرتبة الرضا والقبول
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر)
مراتب الصبر:
المرتبة الأولى: الصبر الواجب
المرتبة الثانية: الصبر المستحب، وهو الرضا بما قدَّر الله
معنى الرضا بالمصيبة
بيان الفرق بين الرضا الواجب والرضا المستحب
شمول معنى النصر لجهاد النفس وجهاد الكفار
ذكر بعض أسباب النصر
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الفرج مع الكرب)
بيان معنى (الفرج)
بيان معنى (الكرب)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن مع العسر يسراً)
التنبيه على لطائف اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (جف القلم بما هو كائن)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)
هذه الجملة لا تدل على الجبر
تفيد هذه الجملة التوكل على الله وبذل الأسباب
أهمية تعلق القلب بالله تعالى
من فوائد الحديث:
شدُّ المعلم انتباه المتعلم
تَواضُعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ
جَوَازُ الإِرْدَافِ علَى الدَّابَّةِ
الاهْتِمَامُ بالنَّاشِئَةِ وتَعْلِيمُهم أُمُورَ الدِّينِ
حفظ الله تعالى لمن حفظه
الحث على سؤال الله تعالى وحده
الإيمان بالقضاء والقدر
أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الصَّبْرَ
العناصر
حديث ابن عباس رضي الله عنهما - مرفوعاً-: (احفظ الله يحفظك...)
ترجمة الراوي
تخريج الحديث
منزلة الحديث
موضوع الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
فائدة: أفرد الحافظ ابن رجب شرحاً كبيراً للحديث
شرح قوله رضي الله عنه: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا)
بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم
جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ
أهمية العناية بتعليم النَّاشِئَةِ
إطلاقات لفظ (اليوم):
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام إني أعلمك كلمات)
المراد بقوله: (كلمات) أي: جمل
فائدة التَّلَطُّف مَعَ الصِّغَارِ
أهمية اغْتِنَامِ الوَقْتِ فِي الدَّعْوَةِ
شرح قوله صلى الله عليه وسلم:(احفظ الله يحفظك)
بم يكون حفظ العبد لربه جل وعلا؟
حفظ العبد لربه يكون بأداء حقوقه جل وعلا
حقوق الله تعالى نوعان: واجبة ومستحبة
حفظ الله تعالى للعبد على درجتين:
الدرجة الأولى: أن يحفظه في دنياه
الدرجة الثانية: أن يحفظه في دينه
حفظ الله تعالى للعبد في دينه أعظم المطالب
أعظم الخذلان خذلان العبد في أمر دينه
حفظُ الله تعالى لعبده من آثار معيته الخاصة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك)
معنى قوله: (تجده تجاهك)
ذكر رواية أخرى فيها (أمامك) بدل (تجاهك) والمعنى واحد
بيان معنى صفة المعية
بيان الفرق بين المعية العامة والمعية الخاصة
ذكر ما تقتضيه المعية الخاصة
ذكر ما تقتضيه المعية العامة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)
بيان معنى (التعرف)
بيان معنى (الرخاء) و(الشدة)
كيف يتعرف العبد إلى ربه؟
معرفة العبد لربه -جل وعلا- نوعان: عامة وخاصة
معرفة الله تعالى لعبده نوعان: عامة وخاصة
آثار عن السلف في فضل معرفة الله تعالى في الرخاء
بيان معنى معرفة الله تعالى لعبده في الشدة
مسألة: هل يوصف الله تعالى بالمعرفة؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا سألت فاسأل الله)
بيان معنى (السؤال)
آثار في النهي عن سؤال الخلق
ذم سؤال الناس
الأمر بالاستغناء عن سؤال الناس
الأمر بسؤال الله تعالى وحده
حالات جواز المسألة:
أحوال سؤال غير الله تعالى:
الحال الأولى: سؤال ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى
الحال الثانية: سؤال ما يقدرون عليه من أمور الدنيا
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا استعنت فاستعن بالله)
الأمر بالاستعانة للوجوب
أنواع الاستعانة:
فضيلة الاستغناء عن الاستعانة بالخلق
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء...)
أهمية الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقدر لا ينافي بذل الأسباب
إطلاقات لفظ (الأمة)
بيان معنى (التوكل)
التوكل على الله تعالى من أعظم مقامات العبودية
من توكل على الله كفاه ووقاه ولو كاده من في السموات والأرض
التوكل الصحيح يقتضي فعل الأسباب المشروعة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك...)
هذه الزيادة وردت في بعض الروايات
بيان درجة هذه الزيادة
مراتب تلقي المقادير المؤلمة:
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر)
مراتب الصبر:
معنى الرضا بالمصيبة
بيان الفرق بين الرضا الواجب والرضا المستحب
شمول معنى النصر لجهاد النفس وجهاد الكفار
ذكر بعض أسباب النصر
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن الفرج مع الكرب)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن مع العسر يسراً)
التنبيه على لطائف اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (جف القلم بما هو كائن)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)
هذه الجملة لا تدل على الجبر
تفيد هذه الجملة التوكل على الله وبذل الأسباب
أهمية تعلق القلب بالله تعالى
من فوائد حديث ابن عباس رضي الله عنهما
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث التاسع عشر
عَنْ أَبِي عَبَّاسٍ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم يَومَاً فَقَالَ: (يَا
غُلاَمُ إِنّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللهَ يَحفَظك، احْفَظِ
اللهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ، إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ
اسْتَعَنتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت
عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ
اللهُ لَك، وإِن اِجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا
بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفّتِ
الصُّحُفُ)(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح - وفي رواية - غير الترمذي: (اِحفظِ
اللهَ تَجٍدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْكَ في
الشّدةِ، وَاعْلَم أن مَا أَخطأكَ لَمْ يَكُن لِيُصيبكَ، وَمَا أَصَابَكَ
لَمْ يَكُن لِيُخطِئكَ، وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ
الفَرَجَ مَعَ الكَربِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً)(2) (1) أخرجه الترمذي كتاب: صفة القيامة، باب، (2516) والإمام أحمد- عن عبدالله بن عباس، ج1/ص293، (2669).
الشرح
قوله: "كُنْتُ خَلْفَ النبي" يحتمل أنه راكب معه ويحتمل أنه يمشي خلفه، وأياً كان فالمهم أنه أوصاه بهذه الوصايا العظيمة.
" يَا غُلامُ"
لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
توفي وابن عباس قد ناهز الاحتلام يعني من الخامسة عشر إلى السادسة عشر أو
أقل .
قال: "إني أُعَلمُكَ كَلِمَاتٍ" قال ذلك من أجل أن ينتبه لها "اِحْفَظِ اللهَ يَحفَظكَ"
هذه كلمة عظيمة جليلة واحفظ تعني احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب
نواهيه وكذلك بأن تتعلم من دينه ما تقوم به عبادتك ومعاملاتك وتدعو به إلى
الله عزّ وجل،واحفظ الله يحفظك في دينك وأهلك ومالك ونفسك لأن الله سبحانه
وتعالى يجزي المحسنين بإحسانه وأهم هذه الأشياء هو أن يحفظك في دينك ويسلمك
من الزيغ والضلال لأن الإنسان كلما اهتدى زاده الله عزّ وجل هدى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17] ، وعُلِمَ من هذا أن من لم يحفظ الله فإنه لا يستحق أن يحفظه الله عزّ وجل وفي هذا الترغيب على حفظ حدود الله عزّ وجل .
الكلمة الثانية قال: "احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تجَاهَكْ" ونقول في قوله: احْفَظِ اللهَ
كما قلنا في الأولى، ومعنى تجده تجاهك وأمامك معناهما واحد يعني تجد الله
عزّ وجل أمامك يدلك على كل خير ويقربك إليه ويهديك إليه ويذود عنك كل شر
ولا سيما إذا حفظت الله بالاستعانة به فإن الإنسان إذا استعان بالله عزّ
وجل وتوكل عليه كان الله حسبه ولا يحتاج إلى أحد بعد الله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64]
أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين فإذا كان الله حسب الإنسان فإنه لن يناله سوء ولهذا قال: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ" .
الكلمة الثالثة: "إذَا سَألْتَ فَاسْأَلِ"
إذا سالت حاجة فلا تسأل إلاالله عزّ وجل ولاتسأل المخلوق شيئاً وإذا قدر
أنك سألت المخلوق ما يقدر عليه فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو
الله عزّ وجل لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالك فاعتمد على الله تعالى.
الكلمة الرابعة: "وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ"
فإذا أردت العون وطلبت العون من أحد فلا تطلب العون إلا من الله عزّ وجل،
لأنه هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يعينك إذا شاء وإذا أخلصت
الاستعانة بالله وتوكلت عليه أعانك، وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه
فاعتقد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره لك. وفي هاتين الجملتين دليل على
أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله، ولهذا تكره المسألة لغير
الله عزّ وجل في قليل أو كثير، والله سبحانه وتعالى إذا أراد عونك يسر لك
العون سواء كان بأسباب معلومة أو غير معلومة، فقد يعينك الله بسبب غير
معلوم لك, فيدفع عنك من الشر ما لا طاقة لأحد به، وقد يعينك الله على يد
أحد من الخلق يسخره لك ويذلِّله لك حتى يعينك، ولكن مع ذلك لا يجوز لك إذا
أعانك الله على يد أحد أن تنسى المسبب وهو الله عزّ وجل.
الكلمة الخامسة: "وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك"
الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك
إلا بشيء قد كتبه الله لك, وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو
من الله في الحقيقة لأنه هو الذي كتبه له وهذا حث لنا على أن نعتمد على
الله عزّ وجل ونعلم أن الأمة لا يجلبون لنا خيراً إلا بإذن الله عزّ وجل.
الكلمة السادسة : "وإِن اِجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ"
وعلى هذا فإن نالك ضرر من أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك فارض بقضاء الله
وبقدره، ولا حرج أن تحاول أن تدفع الضر عنك، لأن الله تعالى يقول(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) [الشورى: الآية40] .
الكلمة السابعة: "رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفّت الصُّحُفُ" يعني أن ما كتبه الله عزّ وجل قد انتهى فالأقلام رفعت والصحف جفت ولا تبديل لكلمات الله .
قوله رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي: "اِحفظِ اللهَ تَجدهُ أَمَامَكَ" وهذا بمعنى "احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ"
"تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفُكَ في الشّدةِ"
يعني قم بحق الله عزّ وجل في حال الرخاء وفي حال الصحة وفي حال الغنى
يَعرِفكَ في الشّدةِ إذا زالت عنك الصحة وزال عنك الغنى واشتدت حاجتك عرفك
بما سبق لك أو بما سبق فعل الخير الذي تعرفت به إلى الله عزّ وجل.
"وَاعْلَم أَنَّ مَا أَخطَأَكَ لَمْ يَكُن ليُصيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَم يَكُن ليُخطِئُكَ"
أي ما وقع عليك فلن يمكن دفعه، وما لم يحصل لك فلا يمكن جلبه، ويحتمل أن
المعنى، يعني أن ما قدر الله عزّ وجل أن يصيبك فإنه لا يخطئك، بل لابد أن
يقع لأن الله قدره.
وأن ما كتب الله عزّ وجل
أن يخطئك رفعه عنك فلن يصيبك أبداً، فالأمر كله بيد الله، وهذا يؤدي إلى أن
يعتمد الإنسان على ربه اعتماداً كاملاً
ثم قال:"وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ"
فهذه الجملة فيها الحث على الصبر، لأنه إذا كان النصر مع الصبر فإن
الإنسان يصبر من أجل أن ينال النصر، والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله
وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، لأن العدو يصيب الإنسان من كل جهة فقد
يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه فيتحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد
ولكن إذا أصابه الأذى استحسر وتوقف، وقد يستمر ولكنه يصيبه الألم من عدوه
فهذا أيضاً يجب أن يصبر، قال الله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) [آل عمران: الآية140] وقال الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء:104] فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط فإن الله سبحانه ينصره.
وقوله: "وَاعْلَمْ أَن الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ" الفرج انكشاف الشدة والكرب، فكلما اكتربت الأمور فإن الفرج قريب، لأن الله عزّ وجل يقول في كتابه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء) [النمل: الآية62]فكل يسر بعد عسر بل إن العسر محفوف بيسرين، يسر سابق ويسر لاحق قال الله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6] ، قال ابن عباس رضي الله عنه "لَن يَغلُبَ عسرٌ يُسرَين" .
من فوائد الحديث :
1. ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو دونه حيث قال: "يَا غُلام إني أُعَلِمُكَ كَلِماتٍ".
2. أنه ينبغي لمن ألقي كلاماً ذا أهمية أن يقدم له ما يوجب لفت الانتباه، حيث قال:"يَا غُلاَمُ إني أُعَلِمُكَ كَلِماتٍ".
3. أن من حفظ الله حفظه الله لقوله: "احفَظ الله يَحفَظكَ".
4. أن من أضاع الله - أي أضاع دين الله - فإن الله يضيعه ولا يحفظه،قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19]
5. أن من حفظ الله عزّ وجل هداه ودله على ما فيه الخير، وأن من لازم حفظ الله له أن يمنع عنه الشر.
6.
أن الإنسان إذا احتاج إلى معونة فليستعن بالله، ولكن لا مانع أن يستعين
بغير الله ممن يمكنه أن يعينه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وتُعينَ الرجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحمِلَهُ عَليها أَو تَرْفَعَ لَهُ عَليها مَتَاعَهُ صَدَقَة".
7.
أن الأمة لن تستطيع أن تنفع أحداً إلا إذا كان الله قد كتبه له، ولن
يستطيعوا أن يضروا أحداً إلا أن يكون الله تعالى قد كتب ذلك عليه.
8. أنه يجب على المرء أن يكون معلقاً رجاءه بالله عزّ وجل وأن لايلتفت إلى المخلوقين، فإن المخلوقين لا يملكون له ضراً ولا نفعاً.
9.
أن كل شيء مكتوب منتهٍ منه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله
عزّ وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة(3).
10.
في الرواية الأخرى أن الإنسان إذا تعرف إلى الله عزّ وجل بطاعته في الصحة
والرخاء عرفه الله تعالى في حال الشدة فلطف به وأعانه وأزال شدته.
11. أن الإنسان إذا كان قد كتب الله عليه شيئاً فإنه لا يخطئه، وأن الله عزّ وجل إذا لم يكتب عليه شيئاً فإنه لا يصيبه.
12. البشارة العظيمة للصابرين، وأن النصر مقارن للصبر.
13. فيه البشارة العظيمة أيضاً بأن تفريج الكربات وإزالة الشدائد مقرون بالكرب، فكلما كرب الإنسان الأمر فرج الله عنه.
14. البشارة العظيمة أن الإنسان إذا أصابه العسر فلينتظر اليسر، وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، فقال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6] فإذا عسرت بك الأمور فالتجيء إلى الله عزّ وجل منتظراً تيسيره مصدقاً بوعده.
15. تسلية العبد عند حصول المصيبة، وفوات المحبوب على أحد المعنيين في قوله: "وَاعْلَم أن مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُن لِيُخطِئكَ ، وَمَا أخطأَكَ لَمْ يَكُن لِيصيبَك" فالجملة الأولى تسلية في حصول المكروه، والثانية تسلية في فوات المحبوب. والله الموفق.
______________________________________________________________
(2) الحاكم في المستدرك على الصحيحين – ج3/ ص624، كتاب معرفة الصحابة، (6304) وقال عنه الذهبي في التلخيص: ليس بمعتمد.
(3) أخرجه مسلم كتاب: القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام، (2653)