23 Oct 2008
ح9: حديث أبي هريرة: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه...) خ م
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
9- عَن أبي هُريرةَ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ صَخْرٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ واخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)) رواه البخاريُّ ومسلِمٌ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث التاسع
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ الله تَعَالَى
عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (مَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ
كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)(1) رواه البخاري ومسلم (1) -
أخرجه البخاري – كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، (6777) ومسلم – كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى
الله عليه وسلم، (1337).
الشرح
أكثر النّاس لايعرفون اسم
أبي هريرة رضي الله عنه، ولهذا وقع الخلاف في اسم راوي الحديث، وأصحّ
الأقوال وأقربها للصواب ما ذكره المؤلف رحمه الله أن اسمه:
عبد الرحمن بن صخر. وكنّي بأبي هريرة لأنه كان معه هرّة قد ألفها وألفته، فلمصاحبتها إيّاه كُنّي بها.
قوله: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ النهي: طلب الكفّ على وجه الاستعلاء، يعني أن يطلب منك من هو فوقك - ولو باعتقاده - أن تكفّ، فهذا نهي.
ولهذا قال أهل أصول الفقه: النهي طلب الكفّ على وجه الاستعلاء ولو حسب دعوى الناهي، يعني وإن لم يكن عالياً على المنهي.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى منّا حقيقة.
مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوْهُ
الجملة شرطية، فـ: (ما) اسم شرط، و: (نهيتكم) فعل الشرط، و: (فاجتنبوه)
جواب الشرط، وقرنت بالفاء لأنها إحدى الجمل المنظومة في قول القائل:
إسمية، طلبية، وبجامدٍ وبما وقد وبلن وبالتنفيس
والجملة التي معنا طلبية لأنها فعل أمر.
فَاجْتَنِبُوهُ أي ابتعدوا عنه، فكونوا في جانب وهو في جانب.
وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ
هذه الجملة أيضاً شرطية، فعل الشرط فيها: (أمرتكم به) وجوابه: (فأتوا منه
ما استطعتم) يعني افعلوا منه ما استطعتم، أي ما قدرتم عليه.
والفرق بين المنهيات والمأمورات: أن المنهيّات قال فيها: فَاجْتَنِبُوهُ ولم يقل ما استطعتم، ووجهه:
أن النهي كف وكل إنسان يستطيعه، وأما المأمورات فإنها إيجاد قد يستطاع وقد
لا يستطاع، ولهذا قال في الأمر: فأتُوا مِنْهُ مَا استَطَعتُمْ ويترتب على
هذا فوائد نذكرها إن شاء الله تعالى في الفوائد، لكن التعبير النبوي تعبير
دقيق.
فَإِنَّمَا
(إن) للتوكيد، و(ما) اسم موصول بدليل قوله: (كثرة) على أنها خبر (إن) أي
فإن الذي أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم. ويجوز أن تجعل (إنما) أداة
حصر، ويكون المعنى: ما أهلك الذين من قبلكم إلا كثرة مسائلهم.
وقوله: الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ يشمل اليهود والنصارى وغيرهم، والمتبادر أنهم اليهود والنصارى،كما قال الله عزّ وجل: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة: الآية5]
وذلك أن الأمم السابقة قبل اليهود والنصارى لا تكاد ترد على قلوب الصحابة،
فإن نظرنا إلى العموم قلنا المراد بقوله: مِنْ قَبْلِكُمْ جميع الأمم، وإن
نظرنا إلى قرينة الحال قلنا المراد بهم: اليهود والنصاري.
واليهود أشدّ في كثرة المساءلة التي يهلكون بها، ولذلك لما قال لهم نبيهم موسى عليه السلام: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) [البقرة: الآية67] جعلوا يسألون:ما هي؟ وما لونها؟ وما عملها ؟ .
وقوله: كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ جمع مسألة وهي: ما يُسأل عنه.
وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ يعني وأهلكهم اختلافهم، ويجوز فيها أن تكون مجرورة، أي وكثرة اختلافهم على أنبيائهم، وكلا الأمرين صحيح.
ولكن الإعراب الأول يقتضي أن مجرد الاختلاف سبب للهلاك، وأما على الاحتمال الثاني فإنه يقتضي أن سبب الهلاك هو كثرة الاختلاف.
وقوله: عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وذلك بالمعارضة والمخالفة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ(2)
ولم يقل: فلا تختلفوا عنه، وهكذا في هذا الحديث قال: اختلافهم على
أنبيائهم ولم يقل:عن أنبيائهم، لأن كلمة (على) تفيد أن هناك معارضة
للأنبياء.
من فوائد هذا الحديث:
1. وجوب الكفّ عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوله: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ.
2. أن المنهي عنه يشمل القليل والكثير، لأنه لا يتأتّى اجتنابه إلا باجتناب قليله وكثيره، فمثلاً: نهانا عن الرّبا فيشمل قليله وكثيره.
3. أن الكفّ أهون من الفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في المنهيات أن تُجتنب كلّها،لأن الكفّ سهل.
فإن قال قائل: يرد على هذا إباحة الميتة والخنزير للمضطر، وإذا كان مضطراً لم يجب الاجتناب؟
فالجواب عن
هذا أن نقول: إذا وجدت الضرورة ارتفع التّحريم، فلا تحريم أصلاً، ولهذا
كان من قواعد أصول الفقه: (لا محرم مع الضرورة، ولا واجب مع العجز) إذاً
هذا الإيراد غير وارد.
فلو قال لنا قائل: (فاجتنبوه) عام فيشمل اجتناب أكل الميتة عند الضرورة.
فنقول: لايشمل، لأنه إذا وجدت الضرورة ارتفع التحريم.
هل يجوز فعل المحرّم عند الضرورة أم لا؟
والجواب: أنه يجوز لقول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) [الأنعام: الآية119]
فمن اضطر إلى أكل الميتة جاز له أن يأكل منها، ومن اضطر إلى أن يأكل لحم
الخنزير جاز له أن يأكل لحم الخنزير وهكذا . ومن اضطر إلى شرب الخمر جاز له
شرب الخمر، ولكن الضرورة إلى شرب الخمر تصدق في صورة واحدة وهي: إذا غصّ
بلقمة وليس عنده إلا خمر فإنه يشربه لدفع اللقمة، وأما شرب الخمر للعطش فلا
يجوز، قال أهل العلم: لأن الخمر لايزيد العطشان إلا عطشاً فلا تندفع به
الضرورة.
وإذا اضطر شخص إلى محرّم
فهل له أن يزيد على قدر الضرورة؟ بمعنى: إذا حل له أكل الميتة فهل له أن
يشبع، أو نقول له: اقتصر على ماتبقى به الحياة فقط؟
والجواب:
ذكر بعض العلماء: أنه يجب أن يقتصر على ما تبقى به الحياة فقط، ولا يشبع.
والصحيح التفصيل في هذا: فإن كان يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيحصل على شيء
مباح قريباً فليس له أن يشبع إلا إذا كان معه شيء يحفظ به اللحم إن احتاجه
أكله فهنا لا حاجةللشبع، بل يكون بقدر ما تندفع به الضرورة.
* وما هي الضرورة إلى المحرّم؟
الضرورة إلى المحرم هي: أن
لا يجد سوى هذا المحرّم، وأن تندفع به الضرورة، وعلى هذا فإذا كان يجد غير
المحرّم فلا ضرورة، وإذا كان لاتندفع به الضرورة فلا يحلّ.
- فأكل الميتة عند الجوع إذا لم يجد غيرها تندفع به الضرورة.
- والدواء بالمحرّم لا يمكن أن يكون ضرورة لسببين:
أولاً: لأنه قد يبرأ المريض بدون دواء، وحينئذ لاضرورة.
ثانياً:
قد يتداوى به المريض ولايبرأ، وحينئذٍ لا تندفع الضرورة به، ولهذا قول
العوام: إنه يجوز التداوي بالمحرّم للضرورة قول لا صحّة له، وقد نص العلماء
- رحمهم الله - على أنه يحرم التداوي بالمحرّم.
4. -أنه لا يجب من فعل المأمور إلا ما كان مستطاعاً، لقوله: وَمَا أَمرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ
فإن قال قائل: هل هذه الجملة تفيد التسهيل، أو التشديد، ونظيرها قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [التغابن: الآية16]
فالجواب: لها وجهان: فقد يكون المعنى: لابد أن تقوموا بالواجب بقدر الاستطاعة وأن لا تتهاونوا مادمتم مستطيعين.
ويحتمل أن المعنى: لاوجوب إلا مع الاستطاعة، وهذا يؤيده قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: الآية286]
ولهذا لو أمرت إنساناً بأمر وقال: لا أستطيع، وهو يستطيع لم يسقط عنه الأمر.
5.
أن الإنسان له استطاعة وقدرة ، لقوله: مَا استَطَعْتُمْ فيكون فيه رد على
الجبرية الذين يقولون إن الإنسان لا استطاعة له، لأنه مجبر على عمله، حتى
الإنسان إذا حرّك يده عند الكلام، فيقولون تحريك اليد ليس باستطاعته ، بل
مجبر، ولا ريب أن هذا قول باطل يترتب عليه مفاسد عظيمة.
6.
أن الإنسان إذا لم يقدر على فعل الواجب كله فليفعل ما استطاع. ولهذا مثال:
يجب على الإنسان أن يصلي الفريضة قائماً، فإذا لم يستطع صلى جالساً.
وهنا سؤال:
لو كان يستطيع أن يصلي قائماً لكنه لا يستطيع أن يكمل القيام إلى الركوع،
بمعنى: أن يبقى قائماً دقيقة أو دقيقتين ثم يتعب ويجلس، فهل نقول: اجلس
وإذا قارب الركوع فقم، أونقول: ابدأ الصلاة قائماً وإذا تعبت اجلس؟
الجواب: هذا فيه تردد عندي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذه اللحم كان يصلي في الليل جالساً فإذا بقي عليه آيات قام وقرأ ثم ركع(3). وهذا يدلّ على أنك تقدم القعود أولاً ثم إذا قاربت الركوع فقم.
لكن يردّ على هذا أن النفل يجوز أن يصلي الإنسان فيه قاعداً، فقعد، فإذا قارب الركوع قام.
والفريضة الأصل أن يصلّي
قائماً، فنقول: ابدأها قائماً ثم إذا تعبت فاجلس، وربما تعتقد أنك لا
تستطيع القيام كله، ثم تقدر عليه، فنقول:ابدأ الآن بما تقدر عليه وهو
القيام، ثم إن عجزت فاجلس، وهذا أقرب.
لكني أرى عمل الناس الآن
في المساجد بالنسبة للشيوخ والمرضى، يصلي جالساً فإذا قارب الركوع قام، ولا
أنكر عليهم لأني ليس عندي جزم أو نص بأنه يبدأ أولاً بالقيام ثم إذا تعب
جلس، لكن مقتضى القواعد أنه يبدأ قائماً فإذا تعب جلس.
7. لاينبغي للإنسان إذا سمع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: هل هو واجب أم مستحبّ؟ لقوله: فَأْتُوا مِنْهُ مَا استَطَعْتُمْ ولا تستفصل، فأنت عبد منقاد لأمر الله عزّ وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن إذا وقع العبد وخالف فله أن يستفصل في أمره،لأنه إذا كان واجباً فإنه يجب عليه التوبة، وإذا كان غير واجب فالتوبة ليست واجبة.
8.
أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه فإنه شريعة، سواء كان
ذلك في القرآن أم لم يكن، فُيعمل بالسنة الزائدة على القرآن أمراً أو
نهياً.
هذا من حيث التفصيل،لأن في
السنة ما لا يوجد في القرآن على وجه التفصيل، لكن في القرآن ما يدل على
وجوب اتباع السنة،وإن لم يكن لها ذكر في القرآن مثل قول الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) [النساء: الآية80] ومثل قول الله تعالى: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ ) [الأعراف: الآية158]
فالقرآن دلّ على أن السنة شريعة يجب العمل بها،سواء ذكرت في القرآن أم لا.
9.
أن كثرة المسائل سبب للهلاك ولاسيّما في الأمور التي لايمكن الوصول إليها
مثل مسائل الغيب كأسماء الله وصفاته، وأحوال يوم القيامة، لاتكثر السؤال
فيها فتهلك، وتكون متنطّعاً متعمّقاً.
وأما مايحتاج الناس إليه
من المسائل الفقهية فلا حرج من السؤال عنها مع الحاجة لذلك، وأما إذا لم
يكن هناك حاجة. فإن كان طالب علم فليسأل وليبحث، لأن طالب العلم مستعدٌ
لإفتاء من يستفتيه. أما إذا كان غير طالب علم فلا يكثر السؤال.
10. أن الأمم السابقة هلكوا بكثرة المساءلة، وهلكوا بكثرة الاختلاف على أنبيائهم.
11.
التحذير من الاختلاف على الأنبياء، وأن الواجب على المسلم أن يوافق
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن يعتقدهم أئمة وأنهم عبيد من عباد الله،
أكرمهم الله تعالى بالرسالة،وأن خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرسله إلى جميع الناس،وشريعته هي دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى
لعباده، وأن الله لايقبل من أحدٍ ديناً سواه، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) [آل عمران: الآية19] .
والله الموفق.
___________________________________________________________
(2)
- أخرجه البخاري – كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب،
(378)، ومسلم – كتاب: الصلاة، باب: ائتمام والمأموم بالإمام، (411)، (77).
(3)
- أخرجه البخاري – كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب،
(378)، ومسلم – كتاب: الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، (411)،(77).
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1)ترجمةُ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الحَدِيثِ:
أَبو هُرَيْرَةَ عَبْدُ الرَّحمنِ بنُ صخرٍ الدَّوْسِيّ ُ، أَسْلَمَ عامَ خَيْبَرَ، وَلاَزَمَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكَانَ مِنْ أَحْفَظِ الصَّحَابةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهمُ- لحَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَلِّهِمْ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أو تِسْعٍ وخَمْسِينَ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بالبَقِيعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ: ((وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ)) فَافْعَلُوا ((مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))
مِنْهُ مَا أَطَقْتُم؛ إذْ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا،
وَأَمْرِي أَمْرُ اللهِ تَعَالَى، واللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَبٌّ
جليلٌ، يُحِبُّ امْتِثَالَ أَوَامِرِهِ، حَلِيمٌ لا يَأْمُرُ إلاَّ بِمَا
فيهِ خيرٌ، وإِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلِكَ.
ومِنْ فَوائِدِ امْتِثَالِ الأَوَامِرِ:
- التَّسَبُّبُ لإِرْضَاءِ الكريمِ {وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ}.
- ودخُولُ جَنَّاتِ النَّعيمِ.
- ونُورُ القَلْبِ وَتَطْهِيرُهُ.
- وَتَسَارُعُ الجَسَدِ إلى فِعْلِ الخَيْرَاتِ.
- وَتَثَاقُلُهُ عَنِ السَّيِّئَاتِ.
ولا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ آمُرْكُمْ بِهِ، ولاَ عَنْ قيودِ المُطْلَقِ، ولاَ عَنْ حُكْمِ المَأْمُورَاتِ والمَنْهِيَّاتِ، ((فَإِنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ))مِنَ الأُمَمِ ((كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ))الَّتِي لَيْسَتْ بِمُهِمَّةٍ.
((وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ)) لِمَا
في ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الأَدبِ، والتَّعَمُّقِ، والتَّعَنُّتِ
والتَّسَبُّبِ لِتَفْرِيقِ الكَلِمَةِ، ولَيْسَ وَظِيفَةُ العَبْدِ إلاَّ
التَّسْلِيمَ للرَّبِّ فيمَا أَمَرَ ونَهَى.
قالَ اللهُ تَعَالَى:{فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سُورَة النِّسَاءِ: 65].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[سُورة المائدة: 101].
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الرَّاوِي:
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ صَخْرٍ الدَّوْسِي،
أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، ولازَمَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ حَتَّى حَفِظَ أَكْثَرَ الأَحادِيثِ ببَرَكَةِ دَعْوَةِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَهُ، وشَهِدَ لَهُ بالحِرْصِ
عَلَى العِلْمِ والحَدِيثِ.
تُوُفِّيَ فِي العَامِ السَّابِعِ والخَمْسِينَ مِنَ الهِجْرَةِ.
ولَهُ خَمْسَةُ الآفٍ وثَلاثُمِائَةٍ وأَرْبَعَةٌ وسَبْعُونَ حَدِيثاً.
مَوْضُوعُ الحَدِيثِ: المُفْردَاتُ: (( مَانَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ)) (ما) اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ، أي: أشْتَرِطُ فِي النَّهْيِ الاجْتِنَابَ.
النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤالِ والتَّشَدُّدِ.
ويَشْمَلُ:
- ما جَاءَ بصِيغَةِ المُضَارِعِ المَقْرونِ بـ (لا) النَّاهِيَةِ.- أو الأَمْرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الكَفُّ، مِثْلَ: دَعْهُ واتْرُكْهُ.
والنَّهْيُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تعالَى؛ لأَنَّهُ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى.
والمُخَاطَبُونَ: هُمْ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنْ أُمَّتِهِ.
(فَاجْتَنِبُوهُ) الفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، أي: الشَّرْطِ الذي أشْتَرِطُهُ فِيمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ هو اجْتِنابُه.
ومعنى (اجْتَنِبُوهُ) أي: ابْتَعِدُوا عَنْهُ وبَالِغُوا في الابْتِعَادِ، فكَأَنَّهُ فِي جَانِبٍ بَعِيدٍ، وأَنْتُم فِي جَانِبٍ آخَرَ.
فكُلُّ
نَهْيٍ يَجِبُ تَرْكُهُ امْتِثَالاً لأَمْرِ الشَّارِعِ فِي التَّرْكِ
وللمَصَالِحِ العَظِيمَةِ في تَرْكِهِ وتَجَنُّبِ المَفَاسِدِ في فِعْلِهِ.
(( ومَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) سَبَقَ مَعْنَى الأَمْرِ:وهو طَلَبُ الفِعْلِ عَلَى وَجْهِ الاسْتِعْلاءِ، وسَواءٌ كَانَ :
- بفِعْلِ الأَمْرِ.
- أو اسْمِ فِعْلِ الأَمْرِ مِثْلِ: (حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ).
- أو المَصْدَرِ النَّائِبِ عنِ الفِعْلِ مثلِ: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}.
(فَأْتُوا مِنْهُ) أي: فافْعَلُوا الذي تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ واتْرُكُوا الذي لا تَسْتَطِيعُونَ فِعْلَهُ.
وَقَدْ عَبَّرَ بـ(عَنْ) في النَّهْيِ التي تَقْتَضِي التَّبَاعُدَ، وبـ(مِن) في الأَمْرِ التي تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ.
ويُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم}.
وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْرَعْ إِلاَّ المُسْتَطَاعَ.
- إذْ يَقُولُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
- ويَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
- ويَقُولُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
(( فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: إِنَّمَا ضَيَّقَ وعَسَّرَ عَلَيْهِمْ أَوْ أَمَاتَهُمْ أو أَبَادَهُمْ.
ومَنْ قَبْلَنَا هُمُ اليَهُودُ والنَّصَارَى وهم بَنُو إِسْرَائِيلَ.
(( كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيائِهِمْ)) أي:
كَثْرَةُ أَسْئِلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَسْأَلُونَها، ولَيْسَ لها
وَجْهٌ شَرْعِيٌّ ولا مُسَوِّغٌ حَقِيقِيٌّ فكَانَتْ أَسْئِلَتُهُمْ
لتَعْقِيدِ المَسَائلِ أو التَّعْجِيزِ أو للشُّبُهاتِ أو لإِثَارَةِ
الخَلافِ ونَحْوِها.
(واخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيائِهِمْ) أي: مِنْهُمْ المُؤَيِّدُ للرَّسُولِ ومِنْهُمْ المُخَالِفُ لَهُ والمُتَّهِمُ لَهُ والمُنْكِرُ لرِسَالَتِهِ، وَقَدْ حَصَلَ بذَلِك:
- التَّفَرُّقُ والقِتَالُ والضَّعْفُ.
- وتَسَلَّطَ الشَّيْطَانُ.
- وطَمِعَ الأَعْدَاءُ.
- وقَبْلَ ذَلِكَ غَضِبَ الرَّبُّ تعالَى.
ومِنْ أَضْرَارِ كَثْرَةِ السُّؤالِ أَنَّ اللَّهَ تعالَى نَهَى عَنْهُ؛ إِذْ يَقُولُ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى السَّائِلِ الَّذِي قَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ الحَجُّ؟
قَالَ: ((لا، وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ...)) الحَدِيثَ.
وقَدْ سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ البَقَرَةِ؛ عَنْ سِنِّهَا، ولَوْنِهَا، وطَوَاعِيَتِهَا، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِم.
وفي الحَدِيثِ: ((أَعْظَمُ النَّاسِ وِزْراً مَن سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَحُرِّمَ لِسَبَبِهِ...)).
الفَوَائِدُ:
1- وُجُوبُ الانْتِهَاءِ عَنِ النَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ.
10- النَّهْيُ عَنِ الأسْئِلَةِ الَّتِي تَفْتَحُ أَبْوابَ الخِلافِ والفِتَنِ.
11- الاقْتِدَاءُ بالأَنْبِياءِ والأَخْذُ عَنْهُم.
12- الرِّضا بأَحْكَامِ اللَّهِ وتَشْرِيعِهِ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
هذا الْحَدِيثُ مِن جوامعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فِيهِ وُجُوبُ اتِّباعِ أَمْرِهِ والتَّسليمِ لِمَا جَاءَ بِه مِنْ غَيْرِ
مُعارَضَةٍ، وأنَّ الطَّاعةَ بقَدْرِ الاستطاعةِ، وفيهِ التَّحذيرُ مِن
الوُقوعِ بِمَا وَقَعَتْ بِه الأُمَمُ السَّابقةُ، فأدَّى ذَلِك إِلَى
هَلاكِهَا.
قَالَ النَّوويُّ: هُو مِن قَوَاعِدِ الإِسْلامِ.
سببُ الْحَدِيثِ: عن أَبِي هُريرةَ قَالَ: (خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((أيُّها النَّاسُ، قَد فَرَضَ اللَّهُ عليكُمُ الْحَجَّ فحُجُّوا)). ثمَّ قَالَ: ((ذَرُونِي
مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ
سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ
بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ
شَيْءٍ فَدَعُوهُ)). السَّائِلُ: هُو الأقرعُ بْنُ حابسٍ، كَمَا أَوْرَدَ ابنُ ماجَةَ فِي سُنَنِهِ روايَةً نصَّتْ عَلَى ذَلِكَ.
فقالَ رجلٌ: أكلَّ عامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
فسَكَتَ حتَّى قالَهَا ثلاثًا.
فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)).
اجتنابُ الْمَنْهِيَّاتِ:
قولُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَا نَهَيْتُكمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبـُوهُ)).
فيَجبُ
عَلَى المسلمِ أَنْ يَجتنبَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْه ورسولُهُ جُملةً
وتَفصيلاً، وأَلا يَقعَ فِيهَا إِلا لضرورةٍ أَلْجَأَتْهُ إِلَى ذَلِك، ففي
هَذِه الْحَالَةِ يُباحُ لَه الوُقوعُ فِيهَا مُرَاعِيًا القيودَ
والشُّروطَ الَّتي بَيَّنَها الشَّرعُ فِي ذَلِك.
والنَّهيُ ضَرْبانِ:
1- نَهْيُ التَّحريمِ: وَهُو مَا يـُثابُ تارِكُهُ امتثالاً، ويُعاقَبُ فاعلُهُ، وَهُو مَا جَاءَ عَلَى سَبيلِ الْحَتْمِ والإلزامِ،
مِثْلَ: شُربِ الخمرِ، والزِّنَى، وأَكْلِ الرِّبَا، والتَّبرُّجِ،
والغِشِّ، والغِيبَةِ، والنَّميمَةِ، وغيرِهَا مِن الْمَنْهِيَّاتِ.
2- نَهْيُ الكراهةِ أَو التَّنزيهِ: وَهُو مَا يـُثابُ تاركُهُ امتثالاً، وَلا يُعاقَبُ فاعلُهُ، وَهُو مَا لَم يأتِ عَلَى سَبِيلِ الْحَتْمِ والإلزامِ، مِثْلَ: الْكَلامِ بَعْدَ العشاءِ، وأَكْلِ الثُّومِ والبَصَلِ.
والمكروهُ
يَجُوزُ للعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَهُ، سَوَاءٌ دَعَت الضَّرورَةُ إِلَى ذَلِك
أَمْ لا، ولكنَّ الأَلْيَقَ والأَكْمَلَ للمُسلمِ التَّقِيِّ أَنْ يَجتنبَ
المكروهاتِ حتَّى يَرْتَقِيَ فِي مَوازينِ ربِّ السَّماواتِ والأَرَضينَ.
فعلُ المأموراتِ:
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَا أَمَرْتـُكـُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
مَا طَلَبَ اللَّهُ مِنَّا فِعْلَهُ أَو قولَهُ ضَربانِ فمنهُ:
أ- أَمْرُ إيجابٍ وإلزامٍ: وَهُو مَا يُثابُ فاعلُهُ امتثالاً، ويُعاقَبُ تاركُهُ.
كإقامِ
الصَّلاةِ وباقي أركانِ الدِّينِ وطاعةِ الوالدَيْنِ، والعدلِ بالحُكْمِ
وإقامةِ الْحُدُودِ، والنَّفقةِ عَلَى مَن تَجِبُ عَلَيْهِم النَّفقةُ،
وغيرِها مِن الوَاجباتِ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا.
ب- أَمْرُ استحبابٍ: وَهُو مَا يُثابُ فاعلُهُ امتثالاً، وَلا يعاقَبُ تاركُهُ.
مِثْلَ: السُّننِ الرَّواتبِ، والسِّواكِ، والغُسلِ للإحرامِ، وغيرِهِ مِن المستحبَّاتِ.
فيجبُ
عَلَى المسلمِ أَنْ يحرصَ عَلَى أَدَاءِ الواجباتِ بجدٍّ وقوَّةٍ،
ويؤدِّيَها عَلَى الْوَجْهِ الأكملِ، ويجاهدَ نفسَهُ عَلَىذَلِك، فإِذَا
استقامَ عَلَيْهَا وطوَّعَ نفسَهُ عَلَى ذَلِك، فعليهِ أَنْ يقومَ بِمَا
يستطيعُ مِن المستحبَّاتِ، حتَّى يسموَ عِنْدَ ربِّهِ، ويَكْسِبَ الثَّوابَ
والأجرَ.
والمُطَّلِعُ
عَلَى سيرةِ سلفِ الأمَّةِ يَجِدُ أنَّ لَهُم فِي مَيْدانِ المستحبَّاتِ
باعًا طويلاً، وَكَانَ هَذَا مَيدانَ تَنافُسِهِم.
الْمَيسورُ لا يَسقطُ بالْمَعْسُورِ:
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) اسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِن قولِهِ هَذِه القاعدةَ: (الْمَيسورُ لا يَسقُطُ بالْمَعسورِ).
ولكنَّ هَذِه القاعدةَ
ليسَتْ عَلَى إطلاقِهَا، فَلا بدَّ مِن مُراعاةِ ضوابِطِهَا، فمَثلاً: مَن
زالَ عَنْه مَرَضٌ مَنَعَهُ عَن الصِّيامِ فِي نَهارِ رمضانَ لا يَجِبُ
عَلَيْهِ الإمساكُ لباقي الْيَوْمِ؛ لأنَّ صيامَ بَعْضِ الْيَوْمِ لَيْس
بقُرْبَةٍ فِي نفسِهِ، كَمَا بَيَّنَ العُلماءُ.
وممَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِن الْقُرْآنِ الكريمِ قولُهُ جلَّ وَعَلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
سببُ هلاكِ الأُممِ:
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)).
1- السُّؤالُ عمَّا سَكَتَ عَنْه الشَّرعُ وَلَم يُبَيِّنْهُ؛
لأنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ تَكَفَّلَ ببيانِ مَا يُسْعِدُ الإِنسانَ فِي
دُنياهُ وآخِرَتِهِ، فالعَجَلَةُ هُنَا مَذمومةٌ، وَقَد يَقَعُ بِسَبَبِ
السُّؤالِ تكليفٌ مَع التَّشديدِ، فبذلك يُوقِعُ المسلمين فِي حَرَجٍ
بِسَبَبِ مَسْأَلتِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ
شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ
مَسْأَلَتِهِ)).
قَالَ النَّوويُّ: (وَهَذَا
النـَّهيُ خاصٌّ بزمانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمَّا
بَعْدَ أَنِ استقرَّتِ الشَّريعةُ، وأُمِنَ مِن الزِّيادةِ فِيهَا، زالَ
النَّهيُ بزَوالِ سببِهِ).
2- السُّؤالُ فِيمَا لا فائدةَ فِيهِ وَلا حَاجَةَ لَه، وَقَدْ تَكُونُ الإِجَابَةُ تسوءُ السَّائلَ، كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ عَن أَبِي مُوسَى الأشعريِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (سُئِلَ
النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن أشياءَ كَرِهَهَا،
فلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثمَّ قَالَ للنَّاسِ: ((سَلـُونِي عَمـَّا شِئـْتـُمْ)).
فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ)).
فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ: ((أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ..))
فلمَّا رَأَى عمرُ مَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الْغَضَبِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَتوبُ إِلَى اللَّهِ).
4- كثرةُ السُّؤالِ فِي المسائلِ الَّتي لَم تَقَعْ، قَالَ الحافظُ: (وَفِي
الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى الاشتغالِ بالأهمِّ الْمُحتاجِ إِلَيْهِ
عاجلاً عمَّا لا يُحتاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ، فكأنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُم
بفِعْلِ الأوامرِ واجتنابِ النَّواهِي، فاجْعَلُوا اشتغالَكُم بِهَا
عِوَضًا عَن الاشتغالِ بالسُّؤالِ عمَّا لَم يَقَعْ.
فيَنْبَغِي
للمُسْلِمِ أَنْ يَبْحَثَ عمَّا جَاءَ عَن اللَّهِ ورسولِهِ، ثمَّ
يَجْتَهِدَ فِي تَفَهُّمِ ذَلِك والوقوفِ عَلَى الْمُرَادِ بِه، ثمَّ
يَتشاغلَ بِالْعَمَلِ بِهِ.
فَإِنْ كَانَ مِن العِلْمِيَّاتِ يَتشاغلُ بتَصديقِهِ واعتقادِ حقيقتِهِ.
وَإِنْ كَان مِن العَمَلِيَّاتِ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي القيامِ بِه فِعلاً وتَرْكًا.
فَإِنْ
وَجَدَ وَقتًا زائدًا عَلَى ذَلِك فَلا بأسَ بِأَن يَصْرِفَهُ فِي
الاشتغالِ بتَعَرُّفِ حُكْمِ مَا سَيَقعُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ بِه أَنْ
لَو وَقَعَ.
فأمَّا
إِنْ كانَت الْهِمَّةُ مَصروفةً عِنْدَ سَمَاعِ الأَمْرِ والنَّهيِ إِلَى
فَرْضِ أمورٍ قَد تَقَعُ وَقَد لا تَقَعُ مَعَ الإعراضِ عَن القيامِ
بِمُقْتضَى مَا سَمِعَ؛ فإنَّ هَذَا ممَّا يَدْخُلُ فِي النَّهيِ،
فالتَّفقُّهُ فِي الدِّينِ إنَّما يُحْمَدُ إِذَا كَانَ للعملِ لا للمِراءِ
والْجِدَالِ).
وممـَّا يَشْهَدُ لكلامِ الحافظِ عَن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أنَّهُ: (كَانَ إِذَا سُئِلَ عَن الشَّيءِ يَقُولُ: (كَانَ هَذَا ؟)
فَإِنْ قِيلَ: لا.
قَالَ: (دعُوهُ حتَّى يَكُونَ).
وَكَذَلِك عَن عمرَ: (أُحَرِّجُ عَلَيْكُم أَنْ تَسألُوا عمَّا لَم يَكُنْ، فإنَّ لَنَا فِيمَا كَان شُغْلاً).
5- السُّؤالُ عَلَى وَجْهِ التَّشدُّدِ والتَّعنُّتِ والتَّعمُّقِ؛ لأنَّهُ قَد تَكْثُرُ الإِجَابَةُ عَلَيْهِ ويَصْعُبُ امتثالُهُ، كَمَا وَقَعَ بنو إسرائيلَ فِي
ذَلِك عندَما أُمِرُوا بذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَلَو ذَبَحُوا أيَّ بقرةٍ
لأَجْزَأَتْ، ولكنَّهُم شَدَّدُوا عَلَى أنفسِهِم بكَثْرَةِ أسئلتِهِم،
فسَأَلُوا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُم:
قَالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ: (فلْيَحْذَرْ ولْيَخْشَ مَن خالَفَ شريعةَ الرَّسولِ باطنًا أَو ظاهرًا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ: فِي قلوبـِهـِمْ مِن كفرٍ أَو نِفاقٍ أَو بِدْعةٍ {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}أَيْ: فِي الدُّنيَا بقَتْلٍ، أَو حدٍّ، أَو حَبْسٍ، أَو نحوِ ذَلِك).
والنُّصوصُ الَّتي تُحَذِّرُ مِن مُخالَفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معلومةٌ يَطولُ ذِكْرُهَا.
اجتهادُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ قُلـْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ))
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَه أَنْ يَجتهدَ فِي الأَحْكَامِ، فَإِنْ أصابَ أَقرَّهُ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى ذَلِك، وَإِنْ أَخْطَأَ قَوَّمَهُ سبحانَهُ
وَتَعَالَى وَلَم يَتْرُكْهُ عَلَى خَطَئِهِ.
1- قالَ النَّوويُّ: (قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ))
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وأنَّهُ لا حُكْمَ
قَبْلَ وُرُودِ الشَّرعِ، وَهَذَا هُو الصَّحيحُ عِنْدَ مُحَقِّقِي
الأُصوليِّينَ لقولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}).
2- قالَ الحافظُ: (وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى الاشتغالِ بالأهمِّ المحتاجِ إِلَيْهِ عاجلاً عمَّا لا يُحتاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ).
3-وُجوبُ الحجِّ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الإجماعُ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1) هذا الحديثُ بهذا اللَّفْظِ خَرَّجَهُ مسلمٌ وَحْدَهُ منْ روايَةِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ وأبِي سَلَمَةَ، كِلاهُمَا عنْ أبِي هُرَيْرَةَ.
وخَرَّجَاهُ مِنْ روايَةِ أبي الزِّنَادِ عن الأَعْرَجِ، عنْ أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((دَعُونِي
مَا تَرَكْتُكُمْ؛ إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ
وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ
فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ)).
وخرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طريقيْنِ آخرَيْنِ عنْ أبي هريرةَ بمعناهُ.
وفي رِوَايَةٍ لهُ ذَكَرَ سَبَبَ هذا الحديثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ، عنْ أبي هريرةَ قالَ: (خَطَبَنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)).
فقالَ رَجُلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟
فَسَكَتَ، حتَّى قَالَها ثلاثًا. فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)).
ثمَّ قالَ: ((ذَرُونِي
مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا
أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ)).
وخرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا، وقالَ فيهِ: فَنَزَلَ قولُهُ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائِدة: 101].
وقدْ
رُوِيَ مِنْ غيرِ وَجْهٍ أنَّ هذهِ الآيَةَ نَزَلَتْ لَمَّا سَأَلُوا
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحَجِّ، وقالُوا: أفِي
كُلِّ عامٍ؟
وفي (الصَّحيحيْنِ) عنْ أَنَسٍ قالَ: (خَطَبَنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟
فقالَ: ((فُلاَنٌ)) فَنزلَتْ هذهِ الآيَةُ: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}).
وفيهما أيضًا: عنْ قَتَادَةَ، عنْ أَنَسٍ قالَ: (سَأَلُوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ في المَسْأَلةِ، فغَضِبَ، فصَعِدَ المِنْبَرَ فَقَالَ: ((لاَ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ)).
فَقَامَ رَجُلٌ كانَ إذا لاَحَى الرِّجَالَ دُعِيَ إِلى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ، مَنْ أَبي؟
قَالَ: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ)).
ثُمَّ
أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: (رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبالإِسْلاَمِ
دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، نَعُوذُ بِاللهِ مِن الْفِتَنِ).
وكانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عندَ هذا الحديثِ هذهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}.
وفي (صحيحِ البخاريِّ) عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (كانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟
وَيَقولُ الرَّجلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟
فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}).
وخرَّجَ ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيّ في (تفسيرِهِ) منْ حديثِ أبي هريرةَ قالَ: (خَرَجَ
رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانُ
مُحْمَارٌّ وَجْهُهُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ
رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟
فَقَالَ: ((فِي النَّارِ)).
فقام إِلَيْهِ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبي؟
قَالَ: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ)).
فَقَامَ
عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسلامِ دِينًا،
وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُولَ اللهِ
حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ مَنْ
آبَاؤُنا.
قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}).
ورَوَى أيضًا مِنْ طريقِ الْعَوْفِيِّ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ في النَّاسِ فَقالَ: ((يَا قَوْمُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ)).
فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَفِي كُلِّ عامٍ؟
فَأُغْضِبَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا فَقَالَ: ((وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَنْ لَكَفَرْتُمْ، فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ،
فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ
شَيْءٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ)).
فَأَنزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}،
نَهَاهُم عنْ أنْ يَسْأَلُوا مِثْلَ الذي سَأَلت النَّصارَى في
المائِدَةِ، فأَصْبَحُوا بها كافِرِينَ، فنَهَى اللهُ تعالى عنْ ذلكَ
وقالَ: لا تَسْأَلُوا عنْ أشياءَ إنْ نَزَلَ القرآنُ فيها بتغليظٍ ساءَكُم،
ولكن انْتَظِرُوا، فإذا نَزَلَ القرآنُ فإنَّكُم لا تَسْأَلُونَ عنْ
شَيْءٍ إلاَّ وَجَدْتُمْ تِبْيَانَهُ).
فدلَّتْ هذهِ الأحاديث ُ:
وفي (الصَّحيِحِ) عنْ سَعْدٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((إِنَّ
أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ
شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ)).
ولمَّا
سُئِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اللِّعَانِ كَرِهَ
المسائِلَ وَعَابَهَا، حتَّى ابْتُلِيَ السائِلُ عنهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ
بذلكَ في أهْلِهِ، ((وكانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عنْ: قِيلَ وقالَ، وكثْرَةِ السُّؤالِ، وإضاعةِ المَالِ)).
ولمْ
يَكُن النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ في المسائِلِ
إلاَّ للأعرابِ ونحوِهِم من الوُفُودِ القادِمِينَ عليهِ؛ يَتَأَلَّفُهُمْ
بذلكَ.
فأمَّا المُهاجِرُونَ والأنصارُ المُقِيمونَ بالمدينَةِ الذينَ رَسَخَ الإِيمانُ في قلوبِهِم، فَنُهُوا عَن المَسْأَلَةِ، كما في (صحيحِ مُسلمٍ) عن النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ قالَ:
أَقَمْتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالمدينةِ
سَنَةً مَا يَمْنَعُني مِن الهِجْرَةِ إِلاَّ المَسْأَلَةُ، كَانَ
أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وفيهِ أيضًا: عنْ أَنَسٍ قالَ: (نُهِينَا
أَنْ نسأَلَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ،
فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ
العَاقِلُ، فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ).
وفي (المُسْنَدِ) عنْ أبي أُمَامَةَ قالَ: (كانَ اللهُ قدْ أَنْزَلَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
قالَ:
فَكُنَّا قَدْ كَرِهْنا كَثِيرًا مِنْ مَسْأَلَتِهِ، واتَّقَيْنا ذَلِكَ
حِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَأَتَيْنَا أَعْرَابِيًّا، فَرَشَوْنَاهُ بُرْدًا، ثمَّ قُلْنا لَهُ: سَل النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَذَكَرَ حَدِيثًا.
وفي (مُسْنَدِ أبي يَعْلَى) عن البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قالَ: (إنْ
كانَ لَتَأْتِي عَلَيَّ السَّنَةُ أُرِيدُ أنْ أسألَ رسولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ شيءٍ، فَأَتَهَيَّبُ مِنهُ، وإنْ كُنَّا
لنَتَمَنَّى الأعرابَ).
وفي (مُسْنَدِ البَزَّارِ) عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (مَا
رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؛ مَا سَأَلُوهُ إِلاَّ عَن اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً،
كُلُّها فِي القُرْآنِ:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]) وذَكَرَ الحديثَ.
وقدْ كانَ أصحابُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يسْأَلُونَهُ عنْ حُكْمِ حوادِثَ قبلَ وُقُوعِهَا ، لكنْ للعَمَلِ بِهَا عندَ وُقُوعِهَا:
وهكذا
كانَ حالُ أصحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والتَّابِعينَ لهم بإِحْسَانٍ في طلَبِ العِلْمِ النَّافِعِ مِن الكتابِ
والسُّنَّةِ.
فأمَّا
إنْ كانَتْ هِمَّةُ السَّامِعِ مَصْرُوفَةً عندَ سَمَاعِ الأَمْرِ
والنَّهيِ إلى فرْضِ أُمُورٍ قدْ تَقَعُ وقدْ لا تَقَعُ، فإنَّ هذا مِمَّا
يَدْخُلُ في النَّهيِ، ويُثَبِّطُ عَن الْجِدِّ في مُتَابَعَةِ الأَمْرِ.
وقدْ (سَأَلَ رَجُلٌ ابنَ عُمَرَ عن اسْتِلامِ الحَجَرِ، فَقَالَ لَهُ: ((رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقبِّلُهُ)).
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: (أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ عَلَيْهِ؟
أَرَأَيْتَ إِنْ زُوحِمْتُ؟).
فَقَالَ
لَهُ ابنُ عُمَرَ: (اجْعَلْ (أَرَأَيْتَ) بِاليَمَنِ، رَأَيْتُ النَّبيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
ومُرَادُ ابنِ عمرَ
أنَّهُ لا يَكُنْ لكَ هَمٌّ إلاَّ في الاقْتِدَاءِ بالنَّبيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا حَاجَةَ إلى فَرْضِ العَجْزِ عنْ ذلكَ أوْ
تَعَسُّرِهِ قبلَ وُقُوعِهِ؛ فإنَّهُ قدْ يُفْتِرُ العَزْمَ عن
التَّصْمِيمِ على المُتَابَعَةِ؛ فإنَّ التَّفَقُّهُ في الدِّينِ
والسُّؤَالَ عن العِلْمِ إنَّمَا يُحْمَدُ إذا كانَ للعَمَلِ، لا للمِرَاءِ
والجِدَالِ.
وقدْ رُوِيَ عنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، (أنَّهُ ذَكَرَ فِتَنًا تكونُ في آخِرِ الزَّمانِ).
فقالَ لَهُ عُمَرُ: (متَى ذلكَ يا عَلِيُّ؟)
قَالَ:(إِذا تُفُقِّهَ لغيرِ الدِّينِ، وتُعُلِّمِ لغيرِ العَمَلِ، والْتُمِسَت الدُّنْيَا بغيرِ الآخِرَةِ).
قالَ عَمْرُو بنُ مُرَّةَ: خَرَجَ عُمَرُ على النَّاسِ فقالَ: (أُحَرِّجُ عليْكُم أنْ تَسْأَلُونا عنْ مَا لَمْ يَكُنْ؛ فإنَّ لنا فيمَا كانَ شُغُلاً).
وعن ابنِ عُمَرَ قالَ: (لا تَسْأَلُوا عمَّا لم يَكُنْ؛ فإِنِّي سَمِعْتُ عمرَ لعَنَ السَّائِلَ عمَّا لمْ يَكُنْ).
وكان زَيْدُ بنُ ثابِتٍ إذا سُئِلَ عن الشَّيءِ، يقولُ: (كانَ هذا؟)
فإنْ قالُوا: لا.
قالَ: (دَعُوهُ حتَّى يكُونَ).
وقالَ مَسْرُوقٌ: (سَأَلْت
أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ عنْ شيءٍ، فقالَ: (أَكَانَ بَعْدُ؟ فقُلْتُ: لا،
فقالَ: أَجِمَّنَا -يعنِي: أَرِحْنَا- حتَّى يكونَ، فإذا كانَ اجْتَهَدْنَا
لكَ رَأْيَنَا).
وقالَ الشَّعْبِيُّ: (سُئِلَ عَمَّارٌ عنْ مسألةٍ، فقالَ: هلْ كانَ هذا بَعْدُ؟
قالُوا: لا.
قالَ: فدَعُونَا حتَّى يكونَ، فإِذا كانَ تَجَشَّمْنَاهُ لَكُم).
وعن الصَّلْتِ بنِ رَاشِدٍ قالَ: (سَأَلْتُ طَاوُوسًا عنْ شيءٍ، فانْتَهَرَنِي.
وقالَ: أكانَ هذا؟
قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: آللَّهِ؟
قُلْتُ: آللَّهِ.
قالَ:
إنَّ أصحابَنَا أخْبَرُونا عنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ أنَّهُ قالَ: (أيُّها
النَّاسُ، لا تَعْجَلُوا بالبلاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ فيَذْهَبَ بِكُم هَا
هُنا وهَا هُنا؛ فإنَّكم إنْ لَمْ تَعْجَلُوا بالبلاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ
لمْ يَنْفَكَّ المُسْلِمُونَ أنْ يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئِلَ سُدِّدَ، أوْ
قالَ: وُفِّقَ).
وقدْ خَرَّجَهُ أبو دَاودَ في كتابِ (المَرَاسِيلِ) مرفوعًا منْ طريقِ ابنِ عَجْلاَنَ، عنْ طَاوُوسٍ، عنْ مُعَاذٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ
تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا قَالَ
سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنَّكُمْ إِنْ عَجِلْتُمْ تَشَتَّتُ بِكُمُ
السُّبُلُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا))ومعنَى إِرْسَالِهِ أنَّ طَاوُوسًا لمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ.
وخرَّجَهُ أيضًا منْ رِوَايَةِ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عنْ أبي سَلَمَةَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمَعْنَاهُ مُرْسَلاً.
ورَوَى حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ: حدَّثَنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ أنَّهُ قالَ: (سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ بنَ سَعِيدٍ، رَجُلاً مِنْ بنِي هاشِمٍ.
قالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يُحَدِّثُونَ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ
يَزَالُ فِي أُمَّتِي مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ، حَتَّى
يَتَسَاءَلُوا عَنْ مَا لَمْ يَنْزِلْ تَبْيِينُهُ، فَإِذا فَعَلُوا ذَلِكَ
ذُهِبَ بِهِمْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا)).
وقدْ رُوِيَ عن الصُّنَابِحِيِّ، عنْ مُعَاوِيَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((أنَّهُ نَهَى عَن الأُغْلُوطَاتِ)) خرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ.
وفسَّرَها الأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ: (هِيَ شِدَادُ المسَائِلِ).
وَقَالَ عِيسَى بنُ يُونُسَ: (هِيَ مَا لاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ كَيْفَ وَكَيْفَ).
وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((سَيَكُونُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يُغَلِّطُونَ فُقَهَاءَهُمْ بِعُضَلِ الْمَسَائِلِ، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي)).
وَقَالَ الحَسَنُ: (شِرَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ شِرَارَ المَسَائِلِ، يَغُمُّونَ بِهَا عِبَادَ اللهِ).
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: (إِنَّ
اللهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ العِلْمِ أَلْقَى
عَلَى لِسَانِهِ المَغَالِيطَ، فَلَقَد رَأَيْتُهُم أَقَلَّ النَّاسِ
عِلْمًا).
وَقَالَ ابنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: (أَدْرَكْتُ هَذِهِ البَلْدَةَ وَإِنَّهُم لَيَكْرَهُونَ هَذا الإِكْثَارَ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ اليَوْمَ) يُرِيدُ المَسَائِلَ.
وَقَالَ أَيْضًا: (سَمِعْتُ
مَالِكًا وهوَ يَعِيبُ كَثْرَةَ الكَلاَمِ وَكَثْرَةَ الفُتْيَا، ثُمَّ
قالَ: (يَتَكَلَّمُ كَأَنَّهُ جَمَلٌ مُغْتَلِمٌ، يقولُ: هوَ كذا، هوَ كذا،
يَهْدِرُ في كَلامِهِ).
وقالَ: (سَمِعْتُ مالِكًا يَكْرَهُ الجَوَابَ في كثرةِ المسائِلِ.
وقالَ: (قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإِسراء: 85]، فَلَمْ يَأْتِهِ في ذلكَ جَوَابٌ).
وكانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ المُجَادَلَةَ عن السُّنَنِ أيضًا.
قال الْهَيْثَمُ بنُ جَمِيلٍ: (قُلْتُ لمَالِكٍ: يا أبا عبدِ اللهِ، الرَّجُلُ يكونُ عالِمًا بالسُّنَنِ يُجَادِلُ عنها؟
قالَ: (لا، ولكنْ يُخْبِرُ بالسُّنَّةِ، فإنْ قُبِلَ منهُ وإلاَّ سَكَتَ).
قالَ إسحاقُ بنُ عِيسَى: كانَ مالِكٌ يَقولُ: (المِراءُ والجِدَالُ في العِلْمِ يَذْهَبُ بنُورِ العِلْمِ منْ قلبِ الرَّجُلِ).
وقالَ ابنُ وَهْبٍ: (سَمِعْتُ مَالِكًا يقولُ: المِرَاءُ في العِلْمِ يُقَسِّي القُلُوبَ، ويُوَرِّثُ الضَّغَنَ).
(وكانَ أبو
شُرَيْحٍ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ يَوْمًا في مَجْلِسِهِ، فكَثُرَث
المَسائِلُ، فقالَ: قدْ دَرِنَتْ قُلُوبُكم منذُ اليومَ، فقُومُوا إلى
أَبِي حُمَيْدٍ خالِدِ بنِ حُمَيْدٍ اصْقُلُوا قُلُوبَكم، وتَعَلَّمُوا
هذهِ الرَّغائِبَ؛ فإنَّها تُجَدِّدُ العِبَادَةَ، وتُورِثُ الزَّهَادَةَ،
وتَجُرُّ الصَّدَاقَةَ، وأقِلُّوا المسائِلَ إلاَّ مَا نَزَلَ؛ فإنَّها
تُقَسِّي القُلُوبَ، وتُوَرِّثُ العَدَاوَةَ)
وقد انْقَسَمَ النَّاسُ في هذا البابِ أقسامًا:
- فمِنْ أتباعِ أهلِ الحديثِ مَنْ
سَدَّ بابَ المسائِلِ، حتَّى قلَّ فِقْهُهُ وعِلْمُهُ بحُدُودِ ما
أَنْزَلَ اللهُ على رسولِهِ، وصارَ حامِلَ فِقْهٍ غيرَ فَقِيهٍ.
- ومِنْ فُقَهَاءِ أهلِ الرَّأْيِ مَنْ
تَوَسَّعَ في توليدِ المسائِلِ قبلَ وُقُوعِهَا، ما يَقَعُ في العادةِ
مِنها وما لا يَقَعُ، واشْتَغَلُوا بتَكَلُّفِ الجوابِ عَنْ ذلكَ،
وكَثْرَةِ الخُصُوماتِ فيهِ والجِدالِ عليهِ، حتَّى يَتَوَلَّدَ مِنْ ذلكَ
افْتِرَاقُ القُلُوبِ، ويَسْتَقِرَّ فيها بسَبَبِهِ الأهواءُ والشَّحناءُ
والعداوةُ والبَغْضَاءُ.
ويَقْتَرِنُ
ذلكَ كثيرًا بنِيَّةِ المُغَالَبَةِ، وطَلَبِ العُلُوِّ والمُبَاهَاةِ،
وصَرْفِ وُجُوهِ الناسِ، وهذا مِمَّا ذَمَّهُ العلماءُ الرَّبَّانِيُّونَ،
ودَلَّت السُّنَّةُ على قُبْحِهِ وتَحْرِيمِهِ.
وأمَّا فقهاءُ أهلِ الحديثِ العامِلُونَ
بهِ، فإنَّ مُعْظَمَ هَمِّهِم البحثُ عنْ معانِي كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ،
ومَا يُفَسِّرُهُ مِن السُّنَنِ الصَّحيحَةِ، وكلامِ الصَّحَابَةِ
والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، وعنْ سُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ومَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا وسَقِيمِها، ثمَّ التَّفَقُّهِ فيها
وتَفَهُّمِهَا، والوقوفِ على معانِيها.
ثمَّ
مَعْرِفَةِ كلامِ الصَّحَابَةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ في أنواعِ العلومِ
من التَّفسيرِ والحديثِ، ومسائِلِ الحلالِ والحرامِ، وأُصُولِ السُّنَّةِ
والزُّهْدِ والرَّقَائِقِ وغيرِ ذلكَ.
وهذا هوَ طريقَةُ الإِمامِ أحمدَ ومَنْ وَافَقَهُ مِنْ علماءِ الحديثِ الرَّبَّانِيِّينَ.
وفي
مَعْرِفَةِ هذا شُغُلٌ شَاغِلٌ عن التَّشَاغُلِ بما أُحْدِثَ مِن الرَّأْيِ
مِمَّا لا يُنْتَفَعُ بِهِ ولا يَقَعُ، وإنَّما يُورِثُ التَّجادُلُ فيهِ
الخُصُوماتِ والجدالَ وكَثْرَةَ القِيلِ والقالِ.
وكانَ الإِمامُ أحمدُ كثيرًا إذا سُئِلَ عنْ شيءٍ من المسائِلِ المُوَلَّدَاتِ التي لا تَقَعُ، يقولُ: (دَعُونا مِنْ هذهِ المسائِلِ المُحْدَثَةِ).
وما أحْسَنَ ما قالَهُ يُونُسُ بنُ سُلَيْمَانَ السَّقَطِيُّ: (نَظَرْتُ
في الأمْرِ، فإذا هوَ الحديثُ والرَّأيُ، فوجَدْتُ في الحديثِ ذِكْرَ
الرَّبِّ عزَّ وجلَّ ورُبُوبِيَّتِهِ وإجلالِهِ وعَظَمَتِهِ، وذِكْرَ
العَرْشِ وصِفَةِ الجنَّةِ والنَّارِ، وذِكْرَ النَّبِيِّينَ
والمُرْسَلِينَ، والحلالِ والحرامِ، والحثِّ على صِلَةِ الأرْحَامِ،
وجِمَاعُ الخيرِ فيهِ. ونَظَرْتُ في الرَّأْيِ، فإذا فيهِ المَكْرُ
والغَدْرُ والحِيَلُ وقطيعَةُ الأرحامِ، وجِمَاعُ الشَّرِّ فيهِ).
وقالَ أحمدُ بنُ شَبُّويَهْ: (مَنْ أَرَادَ عِلْمَ القَبرِ فعليهِ بالآثارِ، ومَنْ أرادَ عِلْمَ الخُبْزِ فعَلَيْهِ بالرَّأيِ).
ومَنْ
سَلَكَ طريقةَ طَلَبِ العِلْمِ على ما ذَكَرْنَاهُ، تَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ
جوابِ الحوادِثِ الواقِعَةِ غالبًا؛ لأنَّ أُصُولَها تُوجَدُ في تلكَ
الأصولِ المُشَارِ إليها، ولا بُدَّ أنْ يكُونَ سُلُوكُ هذا الطَّريقِ
خَلْفَ أَئِمَّةِ أهْلِهِ المُجْمَعِ على هِدَايَتِهِم ودِرَايَتِهِم، كالشَّافِعِيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي عُبَيْدٍ ومَنْ
سلَكَ مَسْلَكَهم، فإنَّ مَن ادَّعَى سُلُوكَ هذا الطَّريقِ على غيرِ
طريقِهِم وقَعَ في مَفَاوِزَ ومَهَالِكَ، وأخَذَ بما لا يَجُوزُ الأَخْذُ
بهِ، وتَرَكَ ما يَجِبُ العَمَلُ بهِ.
ومِلاكُ
الأمرِ كُلِّهِ أنْ يَقْصِدَ بذلكَ وَجْهَ اللهِ، والتقرُّبَ إليهِ
بِمَعْرِفَةِ ما أَنْزَلَ على رسولِهِ، وسُلُوكِ طَريقِهِ، والعَمَلِ
بذلكَ، ودُعَاءِ الخَلْقِ إليهِ.
ومَنْ
كانَ كذلكَ وَفَّقَهُ اللهُ وَسَدَّدَهُ، وأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ،
وعَلَّمَهُ ما لمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وكانَ مِن العُلَمَاءِ المَمْدُوحِينَ
في الكتابِ في قولِهِ تعالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فَاطِر: 28]، ومِن الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ؛ فقدْ خرَّجَ ابنُ أبي حاتِمٍ في (تفسيرِهِ) منْ حديثِ أبي الدَّرْدَاءِ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ، فقالَ: ((مَنْ
بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ
عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ)).
وقالَ نافِعُ بنُ يَزِيدَ: يُقالُ: (الرَّاسِخُونَ
في العِلْمِ: المُتَوَاضِعُونَ للهِ، وَالْمُتَذَلِّلُونَ للهِ في
مَرْضَاتِهِ، لا يَتَعَاطَوْنَ مَنْ فَوْقَهم، ولا يُحَقِّرُونَ مَنْ
دُونَهُم).
ويَشْهَدُ لهذا قَوْلُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَاكُمْ
أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَبَرُّ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً،
الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ)).
وهذا إشارةٌ مِنهُ إلى أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، ومَنْ كانَ على طريقِهِ مِنْ عُلَماءِ أهلِ اليَمَنِ، ثمَّ إلى مِثْلِ أبي مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيِّ، وأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، وطَاوُوسٍ، ووَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ، وغيرِهم مِنْ عُلماءِ أهْلِ اليَمَنِ.
وكلُّ
هؤلاءِ مِن العلماءِ الربَّانِيِّينَ الخائِفِينَ للهِ، فكُلُّهم علماءُ
باللهِ يَخْشَوْنَهُ ويَخَافُونَهُ، وبعضُهم أَوْسَعُ عِلْمًا بأحكامِ
اللهِ وشرائِعِ دينِهِ مِنْ بعضٍ، ولمْ يكُنْ تَمَيُّزُهم عن النَّاسِ
بكَثْرَةِ قِيلَ وقالَ، ولا بَحْثٍ ولا جِدَالٍ.
وكذلكَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَعْلَمُ النَّاسِ بالحلالِ والحرامِ، وهوَ الَّذِي
يُحْشَرُ يومَ القيامَةِ أمامَ العلماءِ بِرَتْوَةٍ، ولمْ يَكُنْ عِلْمُهُ
بتَوْسِعَةِ المسائِلِ وتَكْثِيرِهَا، بلْ قدْ سَبَقَ عنْهُ كَرَاهَةُ
الكلامِ فيما لا يَقَعُ، وإنَّما كانَ عَالِمًا باللهِ وعالِمًا بأُصُولِ
دينِهِ.
وقدْ قِيلَ للإِمامِ أحمدَ: (مَنْ نَسْأَلُ بعْدَكَ؟
قالَ: (عَبْدَ الْوَهَّابِ الوَرَّاقَ)
قيلَ لهُ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ اتِّسَاعٌ في العِلْمِ.
قالَ: (إنَّهُ رَجُلٌ صالِحٌ مِثْلُهُ يُوَفَّقُ لإِصابَةِ الحَقِّ).
(وسُئِلَ عنْ مَعْرُوفٍ الكَرْخِيِّ، فقالَ: (كانَ معَهُ أصلُ العِلْمِ: خَشْيَةُ اللهِ).
وهذا يَرْجِعُ إلى قولِ بعضِ السَّلَفِ: كَفَى بخشيَةِ اللهِ عِلمًا، وكفَى بالاغْتِرَارِ باللهِ جَهْلاً.
وهذا بابٌ واسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ.
ولْنَرْجِعْ إلى شَرْحِ حديثِ أبي هريرةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ، فنَقُولُ: مَنْ لمْ يَشْتَغِلْ بكَثْرَةِ المسائِلِ التي لا
يُوجَدُ مِثلُها في كِتَابٍ، ولا سُنَّةٍ، بل اشْتَغَلَ بفَهْمِ كلامِ
اللهِ ورسولِهِ، وقَصْدُهُ بذلكَ امتثالُ الأوامِرِ، واجتنابُ النَّواهِي،
فهوَ مِمَّن امْتَثَلَ أمْرَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في هذا الحديثِ، وعَمِلَ بمُقْتَضَاهُ.
ومَنْ
لمْ يكُن اهْتِمَامُهُ بفَهْمِ ما أنْزَلَ اللهُ على رسولِهِ، واشْتَغَلَ
بكثرةِ توليدِ المسائِلِ قدْ تَقَعُ وقدْ لا تَقَعُ، وتَكَلَّفَ
أَجْوِبَتَها بِمُجَرَّدِ الرَّأيِ، خُشِيَ عليهِ أنْ يَكونَ مُخَالِفًا
لهذا الحديثِ، مُرْتَكِبًا لِنَهْيِهِ، تارِكًا لأمْرِهِ.
واعْلَمْ أنَّ كثرةَ
وقوعِ الحوادثِ التي لا أَصْلَ لها في الكتابِ والسُّنَّةِ إنَّما هوَ
مِنْ تَرْكِ الاشْتِغَالِ بامتثالِ أوامِرِ اللهِ ورسولِهِ، واجْتِنَابِ
نواهِي اللهِ ورسولِهِ، فلوْ أنَّ مَنْ أرادَ أنْ يَعْمَلَ عملاً سأَلَ
عمَّا شَرَعَهُ اللهُ في ذلكَ العَمَلِ فامْتَثَلَهُ، وعمَّا نَهَى عنهُ
فاجْتَنَبَهُ، وَقَعَت الحوادِثُ مُقَيَّدَةً بالكتابِ والسُّنَّةِ.
وإنَّما
يَعْمَلُ العامِلُ بمُقْتَضَى رَأْيِهِ وهَوَاهُ، فتَقَعُ الحوادِثُ
عَامَّتُها مُخَالِفَةً لِمَا شرَعَهُ اللهُ، ورُبَّما عَسُرَ رَدُّها إلى
الأحكامِ المذكورةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لِبُعْدِهَا عنها.
وفي
الجُمْلَةِ، فمَن امْتَثَلَ ما أَمَرَ بِهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ، وانْتَهَى عمَّا نَهَى عنهُ، وكانَ
مُشْتَغِلاً بذلكَ عنْ غيرِهِ، حَصَلَ لهُ النَّجاةُ في الدُّنيا
والآخِرَةِ.
ومَنْ
خالَفَ ذلكَ واشْتَغَلَ بخَوَاطِرِهِ وما يَسْتَحْسِنُهُ وَقَعَ فيما
حَذَّرَ مِنهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حالِ أهلِ
الكتابِ الذينَ هَلَكُوا بكثرةِ مسائِلِهم واختلافِهِم على أنبيائِهِم،
وعَدَمِ انقيادِهِم وطاعَتِهِم لرُسُلِهِم.
وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
قالَ
بعضُ العلماءِ: هذا يُؤْخَذُ مِنهُ أنَّ النَّهْيَ أشَدُّ مِن الأمرِ؛
لأنَّ النَّهْيَ لمْ يُرَخَّصْ في ارْتِكابِ شيءٍ منهُ، والأَمْرُ قُيِّدَ
بحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ، ورُوِيَ هذا عن الإِمامِ أحمدَ.
ويُشْبِهُ هذا قولُ بعضِهم: أعمالُ البِرِّ يَعْمَلُها البَرُّ والفاجِرُ، وأمَّا المعاصِي فلا يَتْرُكُها إلاَّ صِدِّيقٌ.
ورُوِيَ عنْ أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ لَهُ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ)).
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْبِقَ الدَّائِبَ المُجْتَهِدَ فَلْيَكُفَّ عن الذنوبِ) ورُوِيَ عنها مَرْفُوعًا.
وقالَ الحَسَنُ: (ما عُبِّدَ العَابِدُونَ بشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِ ما نَهَاهُم اللهُ عنهُ).
والظَّاهِرُ أنَّ ما وَرَدَ مِنْ تفضيلِ ترْكِ المحرَّمَاتِ على فِعْلِ الطَّاعاتِ، إنَّما أُريدَ بهِ على نوافِلِ الطَّاعاتِ، وإلاَّ فجِنْسُ الأعمالِ الواجِبَاتِ أفْضَلُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ المحرَّماتِ؛
لأنَّ الأعمالَ مَقْصُودَةٌ لذاتِهَا، والمَحَارِمَ المطلوبُ عَدَمُها؛
ولذلكَ لا تَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ بخلافِ الأعمالِ؛ ولذلكَ كانَ جِنسُ
تَرْكِ الأعمالِ قدْ يكونُ كُفْرًا كَتَرْكِ التَّوحيدِ، وكتَرْكِ أركانِ
الإِسلامِ أوْ بَعْضِها على ما سَبَقَ.
بخلافِ ارْتِكَابِ المَنْهِيَّاتِ؛ فإنَّهُ لا يَقْتَضِي الكُفْرَ بنَفْسِهِ.
ويَشْهَدُ لذلكَ قولُ ابنِ عُمَرَ: (لَرَدُّ دَانِقٍ حرامٍ أفْضَلُ مِنْ مِائَةِ ألْفٍ تُنْفَقُ في سبيلِ اللهِ).
وعنْ بعضِ السَّلَفِ قالَ: (تَرْكُ دَانِقٍ مِمَّا يَكْرَهُ اللهُ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ خمسِمِائَةِ حَجَّةٍ).
وقالَ مَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ: (ذِكْرُ اللهِ باللِّسانِ حَسَنٌ، وأفضَلُ منهُ أنْ يَذْكُرَ اللهَ العبدُ عندَ المعصيَةِ فيُمْسِكَ عنها).
وقالَ ابنُ المُبَارَكِ: (لأَنْ
أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أَتَصَدَّقَ
بمِائَةِ ألْفٍ ومِائَةِ أَلْفٍ، حتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ ألف)ٍ.
وقالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ: (لَيْسَت
التَّقْوَى قيامَ اللَّيلِ، وصِيامَ النَّهارِ، والتَّخليطَ فيما بَيْنَ
ذلكَ، ولكنَّ التَّقْوَى أداءُ ما افْتَرَضَ اللهُ، وتَرْكُ ما حَرَّمَ
اللهُ، فإنْ كانَ معَ ذلكَ عَمَلٌ فهوَ خيرٌ إلى خيرٍ) أوْ كما قالَ.
وقالَ أيضًا: (وَدِدْتُ
أَنِّي لا أُصَلِّي غيرَ الصَّلَواتِ الخمسِ سِوَى الوِتْرِ، وأنْ
أُؤَدِّيَ الزَّكاةَ ولا أَتَصَدَّقَ بعدَها بدرْهَمٍ، وأنْ أَصُومَ رمضانَ
ولا أَصُومَ بعدَهُ يومًا أبدًا، وأنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الإِسلامِ ثمَّ لا
أَحُجَّ بعدَها أبدًا، ثمَّ أَعْمَدَ إلى فَضْلِ قُوتِي فأَجْعَلَهُ فيمَا
حَرَّمَ اللهُ عَلَيَّ، فَأُمْسِكَ عنهُ).
وحاصِلُ
كلامِهِم يدُلُّ على أنَّ اجْتِنَابَ المُحَرَّمَاتِ -وإنْ قَلَّتْ- أفضلُ
مِن الإِكثارِ منْ نوافِلِ الطَّاعاتِ؛ فإنَّ ذاكَ فَرْضٌ، وهذا نَفْلٌ.
وقالَتْ طائِفَةٌ من المُتَأَخِّرِينَ: إنَّما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))
لأنَّ امْتِثالَ الأَمْرِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بعَمَلٍ، والعمَلَ
يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ على شُرُوطٍ وأسبابٍ، وبعضُها قدْ لا يُسْتَطَاعُ؛
فلذلكَ قَيَّدَهُ بالاسْتِطَاعَةِ، كما قيَّدَ اللهُ الأمْرَ بالتَّقوَى
بالاستطاعَةِ، قالَ تعالَى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التَّغَابُن: 16].
وقالَ في الحَجِّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عِمرانَ: 97].
وأمَّا النَّهْيُ: فالمَطْلُوبُ
عَدَمُهُ، وذلكَ هوَ الأصلُ، والمقصودُ اسْتِمْرارُ العَدَمِ الأصلِيِّ،
وذلكَ مُمْكِنٌ، وليسَ فيهِ ما لا يُسْتَطَاعُ، وهذا أيضًا فيهِ نَظَرٌ؛
فإنَّ الدَّاعِيَ إلى فِعْلِ المَعَاصِي قدْ يكونُ قَوِيًّا، لا صَبْرَ
معَهُ للعَبْدِ على الامْتِنَاعِ معَ فِعْلِ المعصِيَةِ معَ القُدْرَةِ
عليها، فيَحْتَاجُ الكَفُّ عنها حينَئذٍ إلى مُجَاهَدَةٍ شديدةٍ، رُبَّما
كانَتْ أَشَقَّ على النُّفُوسِ مِنْ مُجَرَّدِ مُجَاهَدَةِ النفسِ على
فِعْلِ الطَّاعَةِ.
ولهذا يُوجَدُ كثيرًا مَنْ يَجْتَهِدُ فيفعلُ الطَّاعاتِ، ولا يقوَى على ترْكِ المحرَّمَاتِ.
وقدْ سُئِلَ عمرُ عنْ قومٍ يَشْتَهُونَ المعصيَةَ ولا يعملونَ بها، فقالَ: (أُولَئِكَ قَوْمٌ امْتَحَنَ اللهُ قلوبَهم للتَّقوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأَجْرٌ عظيمٌ).
وقالَ يَزِيدُ بن مَيْسَرَةَ: يقولُ اللهُ في بعضِ الكُتُبِ: (أيُّها الشَّابُّ التَّارِكُ شَهْوَتَهُ، المُتَبَذِّلُ شبَابَهُ لأَجْلِي، أنتَ عندِي كبعضِ ملائِكَتِي).
وقالَ: (ما أَشَدَّ الشَّهْوَةَ في الجَسَدِ؛ إنَّها مِثْلُ حريقِ النَّارِ، وكيفَ يَنْجُو مِنها الحَصُورِيُّونَ؟).
والتَّحقيقُ في هذا أنَّ
اللهَ لا يُكَلِّفُ العبادَ مِن الأعمالِ ما لا طاقَةَ لهم بهِ، وقدْ
أَسْقَطَ عنهم كثيرًا من الأعمالِ بمُجَرَّدِ المشقَّةِ؛ رُخْصَةً عليهم،
ورحمةً لهم.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) رواه البخاري ومسلم.
الشيخ: هذا
الحديث هو الحديث التاسع من هذه الأربعين النووية وهو حديث أبي هريرة
عبدالرحمن بن صخر الدوسي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) قال عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) فما نهى عنه فإنه يُجتنب وهذا عام في كلِّ منهيٍ عنه. والأصل
في المنهيات يعني: فيما نهى عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان في أمور
العبادات أنه للتحريم وإذا كان في أمور الآداب أنه للكراهة، يعني إذا جاء
النهي في أمرٍ من العبادات فهو للتحريم لأن الأصل في العبادات التوقيف وإذا
جاء النهي في أدب من الآداب فالأصل فيه أن يكون للكراهة، لهذا أجمع
العلماء على أنَّ النهي الوارد في بعض الآداب والأمر الوارد في بعض الآداب أنه: لكن الجمهور هنا قالوا هذا أدب (كل بيمينك) فلما كان أدباً صار الأصل فيه أنه للاستحباب. إذاً دلنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) أنّ الأوامر كثيرة وأنه لا واجب إلا مع القدرة، وإذا كنت عاجزاً وغير مستطيع فلا يجب عليك ذلك بنص النبي -عليه الصلاة والسلام-. - منها: هذا الحديث لأنه أمر بالانتهاء مطلقاً. وإنما ينبغي على طالب الحق ، وصاحب الدين والخير، أن يُقلّ المسائل ما استطاع، وقد قال جلّ وعلا: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تَسؤْكُمْ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تُبد لكم عفا الله عنها}. أما أن تكثر المسائل في أمورٍ ليس ورائها طائل، فهذا مما ينبغي تركه واجتنابه، وقد قال هنا عليه الصلاة والسلام: ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم))
وأنت تلحظ هذا، الذين يُكثرون السؤال يكثر عندهم الخلاف ولو أخذوا بما
عليه العمل وما تعلموه وعملوا به وازدادوا علماً بفقه الكتاب والسنة
لحَصَّلوا خيراً عظيماً.
والمنهيُّ عنه قسمان:
- منهيٌ عنه للتحريم.
-
ومنهيٌ عنه للأفضلية يعني: يكون النهي فيه للكراهة، وما كان للتحريم يجب
فيه الاجتناب وما كان للكراهة يستحب فيه الاجتناب، إذاً قوله عليه الصلاة
والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) هذا كقول الله جل وعلا: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فالذي نهى عنه -عليه الصلاة والسلام- نحنُ مَأمورون بالانتهاء عنه:
- فإن كان محرماً: فالأمر بالانتهاء عنه أمر إيجاب.
- وإن كان مكروهاً: فالأمر بالانتهاء عنه أمر استحباب.
إذا
تقررّ هذا، فالمنهي عنه خلاف الأصل؛ لأنَّ الأصل في الشريعة ليس هو النهي
وإنما الأصل فيها الأمر، والمنهيات بالنسبة للأوامر قليلة وما نُهي عنه
لأجل أنه خلاف الأصل لم يجعل الله جلّ وعلا النفوس محتاجةً إليه في حياتها
بل هي مستغنيةٌ عما نُهي عنه.
فإذا نظرت في باب الأطعمة:
- فإن ما أهل لغير الله به ليس محتاجاً إليه.
- الميتة ليس محتاجاً إليها.
- والأشربة المسكرة ليس المرءُ محتاجاً إليها.
- والألبسة المحرمة ليس المرءُ محتاجاً إليها.
وإنما
في الحلال كثير كثير غنية عن هذه المحرمات، فتكون هذه المحرمات في كل باب
كالاستثناء من ذلك الباب، فالمحرمات من الأشربة استثناء مما أَبيح وهو
الكثرة في باب الأشربة، والمحرمات من الأطعمة استثناء مما أبيحَ وهو الكثرة
في باب الأطعمة، وهكذا في باب الألبسة وهكذا في البيوعات والعقود وأشباه
ذلك.
وهذا
من لطفِ الله جلّ وعلا بالعباد؛ فإنه جلّ وعلا ما جعل شيئاً منهيّاً عنه
فيه إقامة الحياة، بل كل المنهيات عنها إنما ابتلى الله جل وعلا العباد
بها، وما أمر به فإنه خير سواءٌ:
- أفعله المرء رغبة في الأجر بإخلاص؟
- أو فعله لغير مرضاة الله؟
هذا التفصيل يذكره العلماء عند قول الله جل وعلا في سورة النساء: فقال: {لاخير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس} هذه المأمورات فيها خيرٌ ولو فعلها بغير نية صالحة لأنها متعدية النفع، متعديه الأثر.
- وإذا فعلها بنية صالحه فإنه يُؤجر مع بقاء الخير.
- وإن فعلها بغير نية فإنه لا يُؤْجر مع بقاء خيرية هذه الأفعال.
ولهذا وصفها بالخيرية وقال بعد ذاك: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}
فمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس بلا نية فقد أتى خيراً ولو
كانت نيته غير صالحة؛ لأنّ هذه أفعال متعدية، وإذا أتاها بنية صالحة فإنه
يؤجر عليها.
بخلاف
المحرمات فما حُرِّم ونُهِي عنه فإنه يجب اجتنابه فلا خير فيه البتة يعني
من حيث تعدّي الخير أو تعدي المصلحة وقد يكون فيه منفعة دنيوية لكنها
مقابلة بالمضرة كما قال جل وعلا في الخمر والميسر: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافعُ للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما} ففيها نفعٌ باعتبار المعين، لكن باعتبار الضرر فيها إثم كبير، وهذا بخلاف الأوامر التي فيها خير.
والمنهي عنه:
- إما أن يكون محرماً.
- وإما أن يكون مكروهاً، كما ذكرت لك.
- للاستحباب في الأوامر.
- وللكراهة في النواهي.
ومنه
أخذ طائفة من أهل العلم أن النهي في الآداب الأصل فيه للكراهة إلا إذا جاءت
قرينة تدل على أن النهي للتحريم مثلاً: الحديث الذي رواه البخاري: ((وألا أكف ثوباً ولا شعراً في الصلاة)) هل هذا متصل بالعبادة؟ يعني هل هو عبادة أو هو أدبٌ لشرط من شرائط العبادة؛ وهو اللباس؟
هو
أدبٌ، ألا يكف ثوباً في اللباس ألا يكف شعراً هذا أدب، ولهذا ذهب عامة أهل
العلم إلا عدداً قليلاً إلى أن النهي هنا للكراهة، فلو صلى وهو كافٌ ثوبه
أو وهو عاقصٌ شعره فالصلاة صحيحة ولا إثم عليه؛ ولو كان النهي للتحريم
لصارت الصلاة فاسدة كنظائرها.
(وكل مما يليك)
الأصل فيه أنه للاستحباب ولهذا ترى في كثيرٍ من كتب أهل العلم يقول: النهي
هذا للكراهة لأنه من الآداب، والأمر للاستحباب لأنه من الآداب فيجعلون من
الصوارف كون الشي من الآداب وهذا مهم.
قال عليه الصلاة والسلام هنا ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه))
ولم يُقيدهُ بالاستطاعة بل أوجب الاجتناب بلا قيد كما قلنا لأنّ الانتهاء
عن المنهيات ليس فيه تحميل فوق الطاقة بل المنهيات لا حاجة للعبد بها لا
تقوم حياته بها بل إذا استغنى عنها تقوم حياته فليس محتاجاً ولا مضطراً
إليها، أمّا إذا احتاج إلى بعض المنهيات فهنا الحاجة يكون لها ترخيص
بحسبها.
- وقد قال جل وعلا: {لا
يكلف الله نفساً إلا وُسْعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا
تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين
من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}.
- وقال جلّ وعلا: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
- وقال جلّ وعلا: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} إلى آخر الأدلة على تعليق الوجوب بالقدرة والاستطاعه.
هنا اختلف العلماء في مسألة يطول الكلام عليها، هل منزلة النهي أعظم أو منزلة الأمر؟
تنازع العلماء في هذا على قولين:
القول الأول: أنّ الانتهاء عن المنهيات أفضل من فعل الأوامر.
واستدلوا عليه بأدلة:
- وقالوا: الانتهاء فيه كَلَفَة لأنها أشياء تتعلق بشهوة المرء وحفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فالانتهاء عن المنهيات أفضل.
وقال جماعة: بل الأمر أفضل يعني امتثال الأمر أفضل وأعظم منزلة.
واستدلوا عليه بإدلة:
-
منها: أنّ آدم -عليه السلام- أُمرت الملائكة بالسجود له فلم يسجد إبليس
يعني لم يمتثل الأمر فخسر الدنيا والآخرة فصار ملعوناً إلى يوم يبعثون ثم
هو في النار أبد الآبدين، وهذا لعظم الأمر، قالوا: وآدم أكل من الشجرة التي
نُهي عنها فَغُفر له بذلك؛ فهذا أمر بالأمر فلم يمتثل فخسِر، وذاك فعل
المنهى عنه ثم أعقبته توبة.
وهذا القول الثاني:
هو الأرجح والأظهر، لأن فعل الأوامر أعظمُ درجة وأمّا المنهيات ارتكابها
فإنه على رجاء الغفران، أما التفريط في الأوامر يعني الواجبات الشرعية
الفرائض والأركان ونحو ذلك فهذا أعظم مما نهى الله جل وعلا عنه مع ارتباطٍ
عظيم بين هذا وهذا.
وهذا
يُفيدنا في تعظيم مسألة الأمر، وأن الأمر في تعليق العباد به أعظم من
تعليقهم بترك المنهي، خلاف ما عليه كثيرون مثلاً من الدعاة وغيرهم والوعاظ
في أنهم يعظمون جانب المنهي عنه في نفوس الناس وينهونهم عنه ويُفصِّلون في
ذلك ولا يفصلون لهم في المأمورات ولا يحضونهم عليها، وهذا ليس بجيد، بل
أمرُ الناس بما أمر الله جلّ وعلا به وحضهم على ذلك هذا أولى يعني أرفع
درجة مع وجوب كلِّ من الأمرين في البيان على الكفاية.
قال: ((فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) هذا لأن السؤال عن أشياء لم تُحَرّم لزيادة معرفةٍ أو لتنطعٍ أو ما أشبه ذلك هذا محرّم.
قد جاء في الحديث: ((إنَّ الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً؛ فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان؛ فلا تسألوا عنها)).
وجاء أيضاً في (صحيح مسلم) أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْماً رجُل سأل عن شيء لم يُحرم فحرم لأجل مسألته))
فكثرة المسائل لا تجوز، قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يسألون
النبي -عليه الصلاة والسلام- وكانت مسائلهم قليلة، كلها في القرآن وكانوا
يفرحون بالرجل يأتي من البادية ليسأل وليستفيدوا، وهذا من الأدب المهم الذي
يُلتزم به، فإن كثرة المسائل ليست دالة على دين، ولا على ورع، ولا على طلب
علم.
فالسؤال
عن أشياء لم يأت فيها تنزيل هذا ليس من فعل أهل الاتّباع بل يُسألُ عما
جاء فيه التنزيل، لأن الله جل وعلا في هذه الآية قال: {لاتسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تُبد لكم} فدّل على أنّ السؤال إذا كان متعلقاً بفهم القرآن ويتبعه فهم السنة فإن هذا لا بأسَ به.
كثرة
الأسئلة تؤدي إلى كثرة الخلاف، فلهذا ما يُسكت عنه ينبغي أن يظل مسكوتا عنه
وألا يحرّك إلا فيما كان فيه نص أو تتعلق به مصلحة عظيمة للمسلمين فيُسكت
لا يحرك عن شيء لأنه رُبمَّا لو حُرك بالسؤال لاختلف الناس ووقعت مصيبة
الاختلاف والافتراق. وهذا ظاهر في بعض الأحوال والوقائع في التاريخ القديم
والحديث، نقف عند هذا وأسال الله الكريم لي ولكم العلم النافع والعمل
الصالح نعوذ بالله أن نَزِلَّ أونُزَل أونَضِل أو نُضَل أو نَجْهل أو
يُجْهل علينا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الكشاف التحليلي
تخريج الحديث
ذكر بعض روايات الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
سبب ورود الحديث
ترجمة الراوي
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)
بيان معنى النهي
النهي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: نهي التحريم
تعريف نهي التحريم
مثال نهي التحريم
القسم الثاني: نهي الكراهة والتنزيه
تعريف نهي الكراهة والتنزيه
مثال نهي الكراهة والتنزيه
المنهيات قليلة بالنسبة للأوامر
النهي أشد من الأمر
بيان معنى الاجتناب
المنهيات لم تقيد بالاستطاعة
كلام السلف عن فضل ترك المعاصي
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)
بيان معنى الأمر
ذكر بعض صيغ الأمر
الأمر ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أمر إيجاب وإلزام
تعريف أمر الإيجاب
مثال أمر الإيجاب
القسم الثاني: أمر استحباب وإرشاد
تعريف أمر الاستحباب
مثال أمر الاستحباب
فوائد امتثال الأمر
بيان معنى (من) في قوله: (فأتوا منه)
الوجوب متعلق بالقدرة
قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) مأخوذة من قوله: (فأتوا منه ما استطعتم)
شرح قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)
الخلاف: أيهما أفضل اجتناب النهي أو امتثال الأمر؟
القول الأول: اجتناب النهي أفضل
أدلة أصحاب القول الأول
القول الثاني: امتثال الأمر أفضل
أدلة أصحاب القول الثاني
بيان القول الراجح
الأصل في الشريعة الأمر لا النهي
المحرمات استثناءات في أبواب الشريعة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم...)
بيان المراد بالإهلاك في الحديث
بيان معنى الفاء في قوله: (فإنما)
بيان ما تفيده صيغة الحصر (إنما)
ذم كثرة المسائل
بيان معنى المسائل المذمومة في الحديث
أمثلة للمسائل المذمومة
الأسئلة التي هي سبب هلاك الأمم
1- السؤال عما سكت عنه الشرع
2- السؤال عما لا فائدة فيه
3- السؤال على وجه الاستهزاء والسخرية والعبث
4- كثرة السؤال عن المسائل التي لم تقع
5- السؤال على وجه التعمق والتشدد
6- السؤال عما استأثر الله بعلمه
تعليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة المسائل
علة النهي حتى لا ينزل فيها وحي بالتشديد كما شدد على الأمم السابقة
هل النهي مخصوص بحياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
هدي الصحابة في السؤال
سؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور قبل وقوعها للعمل بها
نهي الصحابة عن طرح المسائل الافتراضية
النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه
ذكر أمثلة لذلك
كراهة السلف السؤال عما لم يقع
ينبغي للمسلم أن يشتغل بامتثال الأمر عن تكلف السؤال عما لم يقع
النجاة في الدنيا والآخرة تكون بالاشتغال بالأمر والنهي عن غيرهما
الحث على اتباع آثار السلف الصالح
حكم الجدال عن السنة
تنبيه: من الأسئلة ما هو مطلوب شرعا وجوباً أو استحباباً
أمثلة لبعض الأسئلة المطلوبة شرعاً
أنواع المسائل
النوع الأول: المسائل المذمومة
أمثلة للمسائل المذمومة
النوع الثاني: المسائل المحمودة
أمثلة للمسائل المحمودة
معنى الاختلاف على الأنبياء
الاختلاف على الأنبياء يؤدي إلى مخالفة أمرهم
الاختلاف سبب للنزاع والشقاق
الانقياد للشرع سبيل النجاة
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية
ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في بعض المسائل الشرعية
النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يقر على خلاف الصواب
المنهيات لا تعلق لها بالقدرة
امتثال الأوامر بحسب الاستطاعة
التَّحْذِيرُ مِن أسباب الهلاك
حُرْمَةُ السُّؤالِ عَمَّا لا مَصْلَحَةَ فِيهِ
تحريم الاختلاف على الأنبياء
العناصر
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
سبب ورود الحديث
ترجمة الراوي
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)
بيان معنى النهي
أقسام النهي
المنهيات قليلة بالنسبة للأوامر
النهي أشد من الأمر
بيان معنى الاجتناب
المنهيات لم تقيد بالاستطاعة
كلام السلف عن فضل ترك المعاصي
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)
بيان معنى الأمر
ذكر بعض صيغ الأمر
أقسام الأمر
فوائد امتثال الأمر
بيان معنى (من) في قوله: (فأتوا منه)
الوجوب متعلق بالقدرة
قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) مأخوذة من قوله: (فأتوا منه ما استطعتم)
شرح قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)
الخلاف: أيهما أفضل اجتناب النهي أو امتثال الأمر؟
الأصل في الشريعة الأمر لا النهي
المحرمات استثناءات في أبواب الشريعة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم...) بيان المراد بالإهلاك في الحديث
بيان معنى الفاء في قوله: (فإنما)
بيان ما تفيده صيغة الحصر (إنما)
ذم كثرة المسائل
بيان معنى المسائل المذمومة في الحديث
أمثلة للمسائل المذمومة
ذكر بعض الأسئلة التي هي سبب هلاك الأمم
تعليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة المسائل
هدي الصحابة في السؤال
كراهة السلف السؤال عما لم يقع
الحث على اتباع آثار السلف الصالح
حكم الجدال عن السنة
تنبيه: من الأسئلة ما هو مطلوب شرعا وجوباً أو استحباباً
أنواع المسائل
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (... واختلافهم على أنبيائهم)
معنى الاختلاف على الأنبياء
التحذير من مخالفة الرسل
الانقياد للشرع سبيل النجاة
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية
ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في بعض المسائل الشرعية
النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يقر على خلاف الصواب
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه