22 Oct 2008
ح6: حديث النعمان بن بشير: (إنَّ الحَلالَ بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيّن..)
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
6- عن أبي عبدِ اللهِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُـهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُكُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وهِيَ الْقَلْبُ)) رواه البخاريُّ ومسلِمٌ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث السادس
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (إِنَّ
الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ
مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس،ِ فَمَنِ اتَّقَى
الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي
الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى
يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً . أَلا
وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا
صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ
أَلا وَهيَ القَلْبُ)(1) رواه البخاري ومسلم .
الشرح
قوله: إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ في هذا الحديث تقسيم للأحكام إلى ثلاثة أقسام:
1. حلال بيّن كلٌّ يعرفه. كالثمر، والبر، واللباس غير المحرم وأشياء ليس لها حصر.
2. حرامٌ بيّن كلٌّ يعرفه. كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر وما أشبه ذلك.
3. مشتبه لا يعرف هل هو حلال أوحرام؟ وسبب الاشتباه
فيها إما: الاشتباه في الدليل، وإما الاشتباه في انطباق الدليل على
المسألة، فتارةً يكون الاشتباه في الحكم، وتارةً يكون في محل الحكم.
* الاشتباه في الدليل: بأن يكون الحديث:
أولاً: هل صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يصحّ؟
ثانياً: هل يدل على هذا الحكم أو لا يدل؟
وهذا يقع كثيراً، فما أكثر ما يُشكِلُ الحديث: هل ثبت أم لم يثبت؟ وهل يدل على هذا أو لا يدل؟
* وأما الاشتباه في محل الحكم: فهل ينطبق هذا الحديث على هذه المسألة بعينها أو لا ينطبق؟
فالأول عند الأصوليين يسمى تخريج المناط، والثاني يسمى تحقيق المناط.
لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ
يعني هذه المشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ويعلمهن كثير، فكثير لا يعلم
وكثير يعلم، ولم يقل : لايعلمهن أكثر الناس، فلو قال:لا يعلمهن أكثر الناس
لصار الذين يعلمون قليلاً.
إذاً فقوله لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ إما لقلة علمهم، وإما لقلة فهمهم، وإما لتقصيرهم في المعرفة.
فَمَن اِتَّقَى الشُّبُهَاتِ أي تجنبها.
فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ أي أخذ البراءة.
لِدِيْنِهِ فيما بينه وبين الله تعالى.
وَعِرْضِهِ
فيما بينه وبين الناس، لأن الأمور المشتبهة إذا ارتكبها الإنسان صار عرضة
للناس يتكلمون في عرضه بقولهم: هذا رجل يفعل كذا ويفعل كذا، وكذلك فيما
بينه وبين الله تعالى.
وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فَي الحَرَامِ هذه جملة شرطية.
وَمَنْ وَقَعَ فَي الشُّبُهَاتِ أي فعلها وَقَعَ في الحَرَامِ هذا الجملة تحتمل معنيين:
الأول:أن ممارسة المشتبهات حرام.
الثاني:أنه ذريعة إلى الوقوع في المحرم، وبالنظر في المثال الذي ضربه صلى الله عليه وسلم يتضح لنا أي المعنيين أصح.
والمثال المضروب:كَالرَّاعِي أي راعي الإبل أو البقر أو الغنم.
يَرْعَى حَوْلَ الِحمَى أي حول المكان المحمي، لأنه قد يُتخذ مكانٌ يُحمَى فلا يُرعَى فيه إما بحق أو بغير حق، والراعي حول هذه القطعةيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ
أي يقرب أن يقع فيه،لأن البهائم إذا رأت هذه الأرض المحمية مخضرة مملوءة
من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية، ويصعب منعها، كذلك المشتبهات إذا
حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها.
وبهذا المثال يقرب أن معنى
قوله مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ أي أوشك أن يقع
في الحرام، لأن المثال يوضح المعنى.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أَلاَ أداة استفتاح، فائدتها:التنبيه على ما سيأتي.
وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى
أي كل ملك له حمى، والنبي صلى الله عليه وسلم لايريد أن يبين حكم حمى
الملك: هل هو حلال أو هو محرم؟ لأن من الحمى ما يكون حلالاً، وما يكون
حراماً، فالمراد بالحمى في الحديث الواقع، ومسألة الحمى على نوعين:
1. إذا حماه لنفسه وبهائمه فهو حرام.
2. إذا حماه لدواب المسلمين كإبل الصدقة وإبل الجهاد فهو حلال، لأنه لم يختصه لنفسه، فرسول الله قال: ((المُسْلِمُونَ شُرَكَاْءُ فِي ثَلاثَة: فِي الكَلأِ وَالمَاءِ وَالنَّارِ))(2) رواه أبو داود والإمام أحمد.
أَلاَ وإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارمُهُ
هذه جملة مؤكدة بـ (إن) وأداة الاستفتاح (ألا) والمعنى: ألا وإن حمى الله
محارم الله، فإياك أن تقربها، لأن محارم الله كالأرض المحمية للملك لا
يدخلها أحد.
أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةٌ
هذه أيضاً جملة مؤكدةبـ (ألا) و(إنَّ) والمعنى:ألا وإن في جسد الإنسان
مضغة، أي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان عند الأكل، وهي بمقدار الشيء
الصغير.
إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ رتب النبي صلى الله عليه وسلم الجزاء على الشرط، فمتى صلح القلب صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وقد مثل بعض العلماء هذا بالملك، إذا صلح صلُحت رعيته، وإذا فسد فسدت.
لكن نظر فيه العلماء
المحققون وقالوا:هذا المثال لا يستقيم، لأن الملك ربما يأمر ولا يُطاع،
والقلب إذا أمر الجوارح أطاعته ولابد، فهو أبلغ من أن يقول: كالملك يأمر
الرعية، فإذا صلح القلب فلابد أن يصلح الجسد، وإذا فسد القلب فلابد أن يفسد
الجسد.
وهذا الحديث في الحقيقة حديث عظيم، لو تكلم الإنسان عنه لبلغ صفحات لكن نشير إن شاء الله إلى جوامع الفوائد في هذا الحديث.
فوائد هذا الحديث:
1. أن الأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال بيّن، حرام بيّن، مشتبه، وحكم كل نوع ومثاله أن نقول:
* الحلال البين لا يلام أحد على فعله، ومثاله التمتع بما أحل الله من الحبوب والثمار،فهذا حلال بين ولا معارض له.
* الحرام البيّن وهذا يلام كل إنسان على فعله،ومثاله كالخمر والميتة والخنزير وما أشبه ذلك،فهذا حكمه ظاهر معروف.
* وهناك أمور مشتبهة: وهذه محل الخلاف بين الناس، فتجد الناس يختلفون فيها فمنهم من يحرم، ومنهم من يحلل، ومنهم من يتوقف، ومنهم من يفصّل.
مثال المشتبه:شرب الدخان
كان من المشتبه في أول ظهوره، لكن تبين الآن بعد تقدم الطب، وبعد أن درس
الناس حال هذا الدخان قطعاً بأنه حرام، ولا إشكال عندنا في ذلك، وعلى هذا
فالدخان عند أول ظهوره كان من الأمور المشتبهة ولم يكن من الأمور البينة،
ثم تحقق تحريمه والمنع منه.
2. أسباب الاشتباه أربعة:
1- قلة العلم: فقلة العلم توجب الاشتباه، لأن واسع العلم يعرف أشياء لا يعرفها الآخرون.
2- قلة الفهم: أي ضعف الفهم، وذلك بأن يكون صاحب علمٍ واسعٍ كثير، ولكنه لا يفهم، فهذا تشتبه عليه الأمور.
3- التقصير في التدبر: بأن لا يتعب نفسه في التدبر والبحث ومعرفة المعاني بحجة عدم لزوم ذلك.
4- وهو أعظمها: سوء القصد:
بأن لا يقصد الإنسان إلا نصر قوله فقط بقطع النظر عن كونه صواباً أو خطأً،
فمن هذه نيته فإنه يحرم الوصول إلى العلم، نسأل الله العافية، لأنه يقصد
من العلم اتباع الهوى.
وهذا الاشتباه لا يكون على جميع الناس بدليلين: أحدهما من النص وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ يعني كثيراً يعلمهن، والثاني من المعنى فلو كانت النصوص مشتبهة على جميع الناس، لم يكن القرآن بياناً ولبقي شيء من الشريعة مجهولاً، وهذا متعذر وممتنع.
3. الثالثة من فوائد الحديث حكمة الله عزّ وجل في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص.
4. الرابعة من فوائد الحديث: أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة مالا يعلمه الناس كلهم، لقوله:لاَ يعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ .
5.
الحث على اتقاء الشبهات، لكن هذا مشروط بما إذا قام الدليل على الشبهة،أما
إذا لم يقم الدليل على وجود شبهة اتقاء الشبهات كان ذلك وسواساً وتعمقاً،
لكن إذا وجد ما يوجب الاشتباه فإن الإنسان مأمور بالورع وترك المشتبه، أما
مالا أصل له فإن تركه تعمّق.
مثال ذلك:
ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنه أن قوماً أتوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وقالوا:يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري
أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ((سَمُّوْا أَنْتُمْ وَكُلُوا)) قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر(3)
فهنا هل نتّقي هذا اللحم لأنه يُخشى أنهم لم يذكروا اسم الله عليه؟
والجواب: لا نتقيه، لأنه ليس هناك ما يوجب الاتقاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( سَمُّوْا أَنْتُمْ وَكُلُوا))
فكأن في هذا نوعاً من اللوم عليهم، كأنه عليه الصلاة والسلام يقول: ليس
لكم شأن فيما يفعله غيركم، بل الشأن فيما تفعلونه أنتم، فسمّوا أنتم وكلوا.
ومن هذا ما لو قدّم إليك
يهودي أو نصراني ذبيحة ذبحها، فلا تسأل أذبحتها على طريقة إسلاميةأو لا،
لأن هذا السؤال لا وجه له، وهو من التعمّق.
ومن ذلك أيضاً: أن يقع على ثوب الإنسان أثر ولا يدري أنجاسة هو أم لا؟ فهل يتقي هذا الثوب أو لا يتقيه؟
الجواب:
ينظر: إذا كان هناك احتمال أن تكون نجاسة فإنه يتجنبه، وكلما قوي الاحتمال
قوي طلب الاجتناب، وإذا لم يكن احتمال فلا يلتفت إليها، ولهذا قطع النبي
صلى الله عليه وسلم هذا بقوله حين سُئل عن الرجل يشكل عليه أحدث أم لا وهو
في الصلاة فقال: ((لاَ يَنْصَرِفَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتَاً أَوْ يجِدَ رِيْحَاً))(4) .
فالقاعدة:
أنه إذا وجد احتمال الاشتباه فهنا إن قوي قوي تركه، وإن ضعف ضعف تركه،
ومتى لم يوجد احتمال أصلاً فإن تركه من التعمّق في الدين المنهي عنه.
6. أن الواقع في الشبهات واقع في الحرام، لقوله: مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ (5).
7.
حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بضرب الأمثال المحسوسة لتتبين
بها المعاني المعقولة، وهذا هو طريقة القرآن الكريم،قال الله تعالى: ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت:43]
فمن حسن التعليم أن المعلم يقرب الأشياء المعقولة بالأشياء المحسوسة، لقوله: كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ .
8. هل يؤخذ من قوله: يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى إقراره بالحمى؟
والجواب: أن هذا من باب الإخبار والوقوع، ولايدل على حكم شرعي. والنبي صلى الله عليه وسلم قد يذكر الأشياء لوقوعها لا لبيان حكمها.
ولهذا أمثلة أخرى:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَتَركبُنّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ))(6) فلا يعني ذلك أن ركوبنا سنن من كان قبلنا جائز، بل هو إخبار عن الواقع.
وأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم بأن الظعينة أي المرأة تسير من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله، فلا
يعني هذا أنه يجوز لها أن تسافر بلا محرم، لكن هذا ضرب مثل.
إذاً نقول: هذا الحديث لا يدل على جواز الحمى لأنه ضرب مثل لواقع. ولكن لا بأس أن نقول الحمى نوعان:
الأول: حمى لمصالح المسلمين، فهذا جائز
الثاني: حمى يختصّ به الحامي، فهذا حرام، لأنه ليس له أن يختص فيما كان عاماً.
- مثال الأول:
أن تحمي هذه الأرض من أجل أن يُركز فيها أنابيب لإخراج الماء، فهذا جائز
بلا شك، أو تُحَمى أرض خصبة لدواب المسلمين، كدواب الزكاة والخيل للجهاد في
سبيل الله وما أشبه ذلك.
- مثال الثاني: إذا حماه لنفسه.
9. ومن فوائد هذا الحديث:
سد الذرائع، أي أن كل ذريعة توصل إلى محرم يجب أن تغلق لئلا يقع في
المحرّم. وسد الذرائع دليل شرعي، فقد جاءت به الشريعة، ومن ذلك قول الله
تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)[الأنعام: من الآية108]
فنهى عن سبّ آلهة المشركين لأنها ذريعة إلى سبّ الله تعالى، مع أن سبّ آلهة المشركين سبٌّ بحق، وسب الله تعالى عدوٌ بغير علم.
10. أن من عادة الملوك أن يحموا، لقوله: أَلاَ وَإِنَّ لَكُلِّ مَلِكٍ حِمىً وقد سبق حكم ا لحمى آنفاً.
11.
تأكيد الجمل بأنواع المؤكدات إذا دعت الحاجة إلى هذا، فإذا قال قائل: إن
التأكيد فيه تطويل، فنقول: التوكيد تطويل، ولكن إذا دعت الحاجة صار من
البلاغة، لقوله: ألا. .. ألا .
12. أن المدار في الصلاح والفساد على القلب، إذا صلح صلح الجسد كلّه، وإذا فسد فسد الجسد كله.
ويتفرّع على هذه الفائدة:
أنه يجب العناية بالقلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، لأن القلب عليه مدار
الأعمال، والقلب هو الذي يُمتحن عليه الإنسان يوم القيامة، كما قال الله
تعالى: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) [العاديات:9-10] وقال تعالى: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ* يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق:8-9]
فطهّر قلبك من الشرك والبدع والحقد على المسلمين والبغضاء، وغير ذلك من الأخلاق أو العقائد المنافية للشريعة، فإن القلب هو الأصل.
13.
في الحديث ردٌّ على العصاة الذين إذا نهوا عن المعاصي قالوا: التقوى هاهنا
وضرب أحدهم على صدره، فاستدل بحق على باطل، لأن الذي قال: ((التَّقْوَى هَاهُنَا))(7) هو
النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه في الحديث: إذا اتقى ما هاهنا اتّقت
الجوارح، لكن هذا يقول: التقوى هاهنا يعني أنه سيعصي الله، والتقوى تكون في
القلب.
والجواب عن هذا التشبيه والتلبيس سهل جداً بأن نقول:
لو صلح ما هاهنا، صلح ما هناك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ)) .
14. أن تدبير أفعال الإنسان عائد إلى القلب، لقوله: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ.
وهل في هذا دليل على أن العقل في القلب؟
والجواب: نعم، فيه إشارة إلى أن العقل في القلب، وأن المدبر هو القلب مع أن القرآن شاهد بهذا.
قال الله تعالى: (أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]
ولكن كيف تعلقه بالقلب؟
الجواب:
هذا شيء لا يُعلم، إنما نحن نؤمن بأن العقل في القلب كما جاء في القرآن،
لكننا لا نعلم كيف ارتباطه به،فلا يرد علينا لو رُكِب قلب كافر برجل مسلم،
أيكون هذا المسلم كافراً أولا، لأننا لا ندري كيف تعلق العقل بالقلب والله
أعلم.
____________________________________________________
(1)
أخرجه البخاري كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، (52)، ومسلم –
كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599)، (107).
(2)
أخرجه أبو داود كتاب: البيوع، أبواب الإجارة، باب: في تفسير الجائحة،
(3477)، وابن ماجه، كتاب الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث، (2472)
والإمام أحمد (5/364)، والبيهقي في سننه الكبرى (6/150) ح (11612) (11613)
(3) أخرجه البخاري كتاب البيوع، باب: من لم ير الوساوس ونحوها من المشتبهات، (2057)
(4)
أخرجه البخاري كتاب: الوضوء، باب: من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، (137)،
ومسلم – كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث
فله أن يصلي بطهارته تلك، (3619، (98)
(5) سبق تخريجه صفحة (105)
(6)
أخرجه البخاري كتاب: قصص الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (3456)،
ومسلم- كتاب: العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى، (2669)، (6)
(7) أخرجه مسلم كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، (2564)، (32)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1) ترجمةُ الصحابيِّ راوِي الحدِيثِ:
النعمانُ بنُ بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيّ ُ، قُتِلَ في بعضِ قُرَى حِمْصَ سِنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
الشرحُ:
(قالَ)أبو عبدِ اللهِ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ)) ظاهرٌ حُكْمُهُ، وهُوَ أنَّهُ لا مُؤَاخَذَةَ في فِعْلِهِ وَتَنَاوُلِهِ أوِ غالِبِ أَفْرَادِهِ عندَ أهلِ العلمِ. ((والحَرامَ بَيِّنٌ)) حُكْمُهُ، وهُوَ أنَّهُ في فِعْلِهِ وَتَنَاوُلِهِ مُؤَاخَذَةٌ، أو غَالِبِ أفرادِهِ عندَ أهلِ العلمِ. ((كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ)) لِخَفَاءِ حُكْمِهِنَّ، فالورعُ تَرْكُهَا؛ إذْ في تَنَاوُلِهَا وَتَعَاطِيهَا احتمالُ ارْتِكَابِ الحرامِ. ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ)) أَيْ: اجْتَنَبَهَا. ((وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهاتِ)) بِتَعَاطِيهَا. مثالُ وَاقِعِهَا((كالرَّاعِي يَرْعَى)) المَاشِيَةَ ((حَوْلَ الحِمَى))
وهُوَ مَا يَحْمِيهِ بعضُ الرُّؤَسَاءِ والأمراءِ لِمَوَاشِيهِ،
وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنِ الرَّعْيِ فيهِ، وَيُعَاقِبُ مَنْ رَعَى فيهِ. ((يُوشِكُ)) يَقْرُبُ ((مَحَارِمُهُ))؛ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ولا تَرْتَكِبُوهَا؛ لِئَلاَّ تَسْتَحِقُّوا العِتَابَ والعِقَابَ، وهذَا مِنْ بابِ تَشْبِيهِ المجموعِ بالمجموعِ، وهُوَ أَبْلَغُ تَشْبِيهٍ، شَبَّهَ
الحقَّ جلَّ وعَلاَ بالمَلِكِ، والعَبْدَ المُكَلَّفَ بالرَّاعِي،
والذُّنُوبَ بالحِمَى، والمُشْتَبِهَاتِ بِمَا قَارَبَ الحِمَى، ومَنْعَ
اللهِ تَعَالَى مِن الذنوبِ بِمَنْعِ المَلِكِ عَنِ الحِمَى، وَعِقَابَهُ
وَغَضَبَهُ عَلَيْهَا بعقابِهِ وَغَضَبِهِ على الراعِي فيهِ. ((إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ))فبإصْلاَحِهِ فَاهْتَمُّوا، وَبِتَطْهِيرِهِ فَاعْتَنُوا، ((وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ)) فَإِفْسَادَهُ اجْتَنِبُوا. قالَ العُلَمَاءُ: (إنَّ هذَا الحديثَ أَحدُ الأحاديثِ التي عَلَيْهَا مَدَارُ الإِسْلاَمِ).
((مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ)) حُكْمَهُنَّ أو ذَوَاتِهِنَّ.
((لِدِينِهِ)) من الذَّمِّ.
((وعِرْضِهِ)) من الوقوعِ فيهِ بالغِيبَةِ ونحوِهَا؛ لأنَّ صاحبَ الشُّبُهَاتِ يَجْعَلُ نَفْسَهُ عَرَضًا لوقُوعِ الناسِ فيهِ.
كمَا أَنَّ المُحَافَظَةَ على أَدْنَى الطاعاتِ يُؤَدِّي إلى أَعْلاَهَا.
((أَنْ يَرْتَعَ فيهِ)) أي: تَأْكُلَ مَاشِيَتُهُ مِنهُ فَيُعَاقَبَ.
((ألاَ)) تَنَبَّهُوا يَا أيُّها الغافلونَ الوَاقِعُونَ في الشُّبُهَاتِ
((وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى)) يَحْمِيهِ لِدَوَابِّهِ، وَيَمْنَعُ غَيْرَهُنَّ وَيُعَاقِبُ الرَّاعِيَ فيهِ.
((ألاَ وَإِنَّ في الْجَسَدِ مُضْغَةً)) قِطْعَةَ لَحْمٍ
ومَنْ
دَنَّسَ قَلْبَهُ بالأَخْلاَقِ القبيحةِ، والأعمالِ الرَّدِيَّةِ، فَقَدْ
أَفْسَدَهُ، وَبِفَسَادِهِ يَفْسُدُ الجسَدُ، فلاَ تَرَى صَاحِبَهُ إلاَّ
مُبْتَلًى بِمَا يُسْخِطُ سَيِّدَهُ، وهذَا هُوَ الخاسِرُ، واللهُ
المُعِينُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الرَّاوِي:
هوَ أبو عبدِ اللَّهِ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ، هوَ وأَبُوهُ وأُمُّهُ صَحَابَةٌ، سَكَنَ الشامَ ووَلِيَ إِمْرَةَ الكوفةِ.
قُتِلَ في حِمْصَ سنةَ أربعٍ وسِتُّونَ مِن الهجرةِ، ولهُ مائةٌ وأربعةُ أحاديثَ.
موضوعُ الحديثِ
الورعُ وتركُ الشُّبُهَاتِ.
المفرداتُ:
(( إِنَّ الحلالَ بَيِّنٌ)) (الحلالُ) هوَ المأذونُ بهِ
والذي أَذِنَ فيهِ الشرعُ، وليسَ الهَوَى ولا العُرْفَ، وسُمِّيَ حَلالاً
مِنْ حَلَّ الشيءَ إذا فَكَّ قَيْدَهُ وأَطْلَقَهُ؛ لأنَّ الشَّرْعَ قدْ
أَطْلَقَ لهُ التَّصَرُّفَ في ذلكَ. ومِنْ
ذلكَ المأكولاتُ الحرامُ؛ كأكلِ الميتةِ والدمِ ولحمِ الخنزيرِ وشُرْبِ
الخَمْرِ، والمَلْبُوساتِ المُحَرَّمَةِ كالحريرِ والذهبِ للرَّجُلِ،
وكالزِّنا والغِيبَةِ والنميمةِ والحِقْدِ والحسدِ وما شَابَهَ ذلكَ. العِلْمُ:هوَ إِدْرَاكُ الشيءِ على ما هوَ عليهِ إِدْرَاكاً جَازِماً. (( أَلا وَإِنَّ لكلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)) (ألا) أداةُ استفتاحٍ للتنبيهِ على ما يُلْقَى بَعْدَهَا. (وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ) ارتكابُ مَعَاصِيهِ، فَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَهُ ووقعَ في مَعَاصِيهِ اسْتَحَقَّ العقابَ.
وَمِنْ
ذلكَ المَأْكُولاتُ الحلالُ كَالْخُبْزِ والفواكهِ والعسلِ، والمشروباتِ
الحلالِ كالماءِ واللبنِ، والملابسِ المُتَنَوِّعَةِ مِن الأقمشةِ والصوفِ
والقُطْنِ والمُعَامَلاتِ مِنْ بَيْعٍ وقَرْضٍ وإِجَارَةٍ ومِنْ نِكَاحٍ،
وما شَابَهَ ذلكَ.
(بَيِّنٌ): أيْ:
ظاهرٌ واضحٌ جَلِيٌّ، لا إشكالَ فيهِ ولا غموضَ؛ إذْ هوَ معلومٌ لِكُلِّ
أحدٍ من العلماءِ والعَامَّةِ وَغَيْرِهِم؛ لأنَّ حُكْمَهُ بَيِّنٌ،
وأَمْرُهُ واضحٌ، وَحِلُّهُ جَلِيٌّ.
(( وإنَّ الحرامَ بَيِّنٌ)) (الحرامُ) هوَ المَنْهِيُّ عَنْهُ والمَمْنُوعُ منهُ، والَّذِي نَهَى عنهُ وَحَذَّرَ منهُ هوَ الشرعُ الحكيمُ، وسُمِّيَ حَرَاماً مِنْ حُرْمَتِهِ؛ أيْ: مَنْعَتِهِ.
(( وبَيْنَهُمَا أمورٌ مُشْتَبِهَاتٌ)) أيْ: بَيْنَ الحلالِ والحرامِ أمورٌ مُشْكِلاتٌ لا يُدْرَى هلْ هيَ حلالٌ فَتُفْعَلَ أمْ حرامٌ فَتُتْرَكَ.
والمشتبهاتُ أنواعٌ؛ منها:
أَوَّلاً: تَعَارُضُ الأَدِلَّةِكَأَكْلِ لحمِ الجَزُورِ هلْ يَنْقُضُ الوضوءَ أمْ لا؟ لِقَوْلِ جابرٍ: (كانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ تَرْكَ الوضوءِ مِمَّا مَسَّت النارُ).
ومسُّ الذَّكَرِ كذلكَ هلْ يَنْقُضُ أمْ لا...؟ وغَيْرُها.
ثانياً: اختلافُ العلماءِ ؛ مثلُ الاختلافِ في التَّوَرُّقِ والاختلافِ في جَمْعِيَّةِ المُوَظَّفِينَ، ونَحْوِهَا.
ثالثاً: ما كانَ مَكْرُوهاً ؛ مثلُ النومِ قبلَ العشاءِ والحديثِ بعْدَها.
رابعاً: ما كانَ مُبَاحاً؛ مثلُ فُضُولِ المُبَاحَاتِ، ونَحْوِهَا.
والمُرَادُ
بِهَؤُلاءِ النَّاسِ العَامَّةُ الذينَ لا فِقْهَ عِنْدَهُم ولا عِلْمَ،
أوْ مَنْ عِنْدَهُ علمٌ قليلٌ، أوْ مَنْ عِلْمُهُ في فَنٍّ مِن الفُنُونِ
الأُخْرَى، ولا عِلْمَ لهُ بالشريعةِ.
أمَّا الراسخونَ في العلمِ فإنَّهُم يعرفونَ ذلك
الرسوخُ في العلمِ بأربعةِ أشياءَ:
1- التقوى فيما بَيْنَ العبدِ وبينَ رَبِّهِ.
2- التواضعُ فيما بينَ العبدِ والناسِ.
3- الزهدُ في الدُّنْيَا؛ حتَّى لا تَشْغَلَهُ عن الآخرةِ.
4- المُجَاهَدَةُ للنفسِ فيما بَيْنَهُ وبينَ نَفْسِهِ.
(( فَمَن اتَّقَى الشُّبُهَاتِ)) (اتَّقَى)
ابتعدَ عن المشكِلاتِ واحترزَ منها، وجعَلَ بَيْنَهُ وبَيْنَها وِقايَةً
مِن الوَرَعِ، وذلكَ بِتَرْكِهَا، فيكونُ المرادُ: فَمَنْ تَرَكَ
المُشْتَبِهَاتِ وتَوَقَّى المشكلاتِ ولَمْ يَقَعْ فيها تَوَرُّعاً
وبُعْداً عن الإثمِ.
(( فقد اسْتَبْرَأَ لدِينِهِ وعِرْضِهِ)) أيْ:
حصلَ لهُ البراءةُ مِن الذَّمِّ الشرعيِّ وهوَ الاستبراءُ للدِّينِ، وصانَ
عِرْضَهُ عنْ ذمِّ الناسِ، وهوَ الاستبراءُ للعِرْضِ، فيكونُ بَرِيئاً في
دِينِهِ ودُنْيَاهُ، وسليماً في ظَاهِرِهِ وبَاطِنِهِ.
(( وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحرامِ)) أيْ:
مَنْ تَجَرَّأَ على اللَّهِ وَوَقَعَ في المُخْتَلَفِ فيهِ بلا عِلْمٍ أوْ
في المَشْكُوكِ فيهِ وقعَ في الإثمِ؛ لِعَدَمِ وَرَعِهِ وتَقْوَاهُ
ولِعَدَمِ عِلْمِهِ ولاتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ، فالوقوعُ في المُخْتَلَفِ
فيهِ يُؤَدِّي إلى الوقوعِ في الإثمِ ويَدْعُو إلى التَّسَاهُلِ في
الأحكامِ.
(( كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى)) هذا
مَثَلٌ ضَرَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للمُحَرَّمَاتِ
بالمكانِ المَحْمِيِّ مِن الدخولِ إليهِ لوُجُودِ كلأٍ فيهِ ورَعْيٍ وثمارٍ
مَنَعَهُ الإمامُ عن الناسِ وجَعَلَهُ لدَوَابِّهِ.
فالراعي
إذا رَعَى حَوْلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَمْنَعَ غَنَمَهُ ودَابَّتَهُ
مِن الوقوعِ فيهِ؛ إذْ يَغْفُلُ أوْ تَغْلِبُهُ الدَّابَّةُ أوْ
يَتَسَاهَلُ، فَتَرْعَى مِنْ حِمَى المَلِكِ، ويَتَعَرَّضُ للعقوبةِ
لوُقُوعِهِ في المنهيِّ عنهُ.
(( أَلا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً)) تَنْبِيهٌ
على أَهَمِّيَّةِ صلاحِ القُلُوبِ؛ لأنَّ صَلاحَهَا معرفةٌ للحلالِ
والقناعةُ بهِ، ومَعْرِفَةٌ للحرامِ وبُعْدٌ عنهُ واتِّقَاءٌ للشُّبُهَاتِ.
والمُضْغَةُ: القطعةُ الصغيرةُ مِن اللَّحْمِ على قَدْرِ ما يُمْضَغُ.
(( إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ)) أَيْ: صَلاحُها صلاحٌ للجسدِ كُلِّهِ؛ لأنَّ الجسدَ كُلَّهُ يأخُذُ عن القلبِ؛ إذ القَلْبُ مَلِكُ الجَسَدِ.
(( وإذا فَسَدَتْ فسدَ الجسدُ كُلُّهُ)) فيهِ
ردٌّ على مَنْ خَالفَ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ كَمَنْ يتَكَلَّمُ بالإثمِ أوْ
يَنْظُرُ للمعصيَةِ أوْ يسمعُ الحرامَ أوْ يُخَالِفُ السُّنَّةَ ويَدَّعِي
سلامةَ قَلْبِهِ؛ لأنَّ الجوارحَ تَغْرُفُ مِن القلبِ.
وخصَّ القلبَ؛ لأنَّهُ مَلِكُ الجسدِ، فإذا صَلَحَ الراعي صَلَحَت الرَّعِيَّةُ، وإذا فسدَ فَسَدَت الرَّعِيَّةُ.
وسُمِّيَ قَلْباً:
- لِتَقَلُّبِهِ في الساعةِ الواحدةِ.
- أوْ لأنَّهُ لُبُّ البدن.
- أوْ لأنَّهُ مقلوبٌ، والأَوَّلُ أَوْلَى
وفيهِ الاهتمامُ بالقلبِ في زَادِهِ ولِبَاسِهِ ودَوَائِهِ وانْشِرَاحِهِ.
وقدْ مدَحَ اللَّهُ أهلَ القلوبِ السليمةِ، قالَ تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء: 88، 89].
وَبَشَّرَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ سليمَ القلبِ بالجَنَّةِ ثلاثَ مَرَّاتٍ، وفَرِحَ أَبُو دُجَانَةَ عندَ مَوْتِهِ بِسَلامَةِ صَدْرِهِ.
الفوائدُ:
1- وُضُوحُ الحلالِ.
2- القناعةُ بالحلالِ.
3- اجتنابُ الحرامِ.
4- حكمةُ اللَّهِ تعالى في حِلِّ الحلالِ وتحريمِ الحرامِ.
5- تَوَقِّي الشُّبُهَاتِ.
6- فَضْلُ الورعِ.
7- الحَثُّ على الرسوخِ في العلمِ.
8- العملُ بالأحوطِ.
9- الاحتياطُ براءةٌ للدِّينِ والعِرْضِ.
10- العملُ على سدِّ الذرائعِ.
11- تَرْكُ المشكوكِ فيهِ.
12- حُسْنُ بَيَانِهِ وتَعْلِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
13- ضرْبُ الأمثالِ في التعليمِ؛ فبالمثالِ يَتَّضِحُ المقالُ.
14- العملُ بالقياسِ.
15- الحرصُ على سلامةِ القلب.
16- أنَّ سلامةَ القلبِ سلامةٌ للبدنِ، وفَسَادَهُ فسادٌ للبدنِ.
17- أنَّ القلبَ مَلِكُ الأعضاءِ.
18- الرَّدُّ على المُرْجِئَةِ الذينَ يقولونَ: لا يَضُرُّ معَ الإيمانِ مَعْصِيَةٌ.
فائدةٌ
الورعُ ثلاثةُ أقسامٍ:
أَوَّلاً: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ ، وَهُوَ تَرْكُ ما لا يكونُ عِبَادةً؛ كَتَرْكِ بعضِ المُبَاحَاتِ كالمأكولِ المُبَاحِ.
ثانياً: ورعُ المُتَّقِينَ، وهوَ تَرْكُ ما لا شُبْهَةَ فيهِ؛ كالتَّوَضُّؤِ لكلِّ صلاةٍ بدونِ انتقاضِ الوضوءِ السابقِ.
ثالثاً: وَرَعُ الصالحينَ، وهوَ تركُ ما يُخْشَى بهِ الوقوعُ في الحرامِ، كتَرْكِ المُشْتَبِهَاتِ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
الحديثُ قاعدةٌ عَظِيمَةٌ مِن قَواعِدِ الشَّريعةِ ، قَالَ عَنْه أَبُو داوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الإِسْلامُ يَدورُ عَلَى أربعةِ أحاديثَ، ثمَّ ذَكَرَ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَالَ بَعْضُ العُلماءِ:
عُمدةُ الدِّينِ عندَنـا كَلِمَـاتٌ مُسنـداتٌمِــن قَــوْلِ خَـيْــرِ الْـبَـرِيَّـهْ
اتْــرُكِ المشْبَـهـاتِ وازْهَـــد وَدَعْمَـا لَيْـس يَعنِيـكَ واعْمَـلَـنَّ بنِـيَّـهْ
الحلالُ والحرامُ الْمَحْضُ بَيِّنٌ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ)).
قالَ الحافظُ: (أَيْ: فِي عَيْنِهِما ووَضْعِهِما بأَدِلَّتِهِما الظَّاهِرَةِ).
فالحلالُ المحضُ بيِّنٌ لا شُبْهَةَ فِيهِ: كالزَّواجِ وأَكْلِ الطَّيِّباتِ، ولُبْسِ مَا يُحتاجُ إِلَيْهِ مِن القُطْنِ والصُّوفِ.
وَكَذَلِك الحرامُ الْمَحْضُ بَيِّنٌ: كشُرْبِ الْخَمْرِ، ونِكاحِ الْمَحَارمِ، ولِباسِ الحريرِ عَلَى الرِّجالِ، والزِّنَى والرِّبَا.
ولم
يَمُتْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتَّى بَيَّنَ لأُمَّتِهِ مَا
أَحلَّهُ اللَّهُ لَهُم وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِم، قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلا هَالِكٌ)).
والبيانُ فِي الحلالِ والحرامِ بعضُهُ أَظْهَرُ مِن بَعْضٍ ،
فَهُنَاك أمورٌ معلومةٌ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، وَذَلِك لظُهورِهَا
واشتهارِهَا، وَهَذَا لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهْلِهِ يَعيشُ بَيْنَ
ظَهْرَانَيِ المسلمينَ.
وهناكَ أمورٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا حَمَلَةُ الشَّريعَةِ ، وتَخْفَى عَلَى أَغْلَبِ عَوَامِّ المسلمينَ، وَهُنَاك أمورٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا الْعُلَمَاءُ الرَّاسخونَ فِي العِلْمِ.
الأمورُ الْمُشتَبِهاتُ:
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((وَبَيْنَهـُمـَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))
يَعْنِي: أنَّ بَيْنَ الحلالِ الْبَيِّنِ الظَّاهرِ والحرامِ البيِّنِ
أُمورًا تَشْتَبِهُ عَلَى كثيرٍ مِن النَّاسِ: هَل هِي مِن الحلالِ أَمْ
مِن الحرامِ.
أمَّا
العُلماءُ الرَّاسخونَ فَلا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِم إِلا مَا نَدَرَ وَذَلِك
عندَما لا يَظهرُ لَهُم تَرجيحُ أَحَدِ الدَّليلينِ.
معنَى المُشْتَبَهَاتِ الْمُشْتَبِهاتُ: جَمْعُ مُشْتَبِهٍ، وَهُو مُشْكِلٌ، لِمَا فِيهِ مِن عَدَمِ الوُضوحِ فِي الْحِلِّ والْحُرْمَةِ.
- قَالَ النَّوَوِيُّ: (الْمـُشتَبِهاتُ
معناهُ أنَّها لَيْسَتْ بواضحةِ الحِلِّ والْحُرمةِ، وَلِهَذَا لا
يَعْرِفُهَا كثيرٌ مِن النَّاسِ، وأمَّا الْعُلَمَاءُ فيَعرِفونَ حُكْمَهَا
بِنَصٍّ أَو قِياسٍ، فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيءُ بَيْنَ الحِلِّ
والْحُرمةِ، وَلَم يَكُنْ نصٌّ وَلا إِجْمَاعٌ اجْتَهَدَ فِيهِ
الْمُجْتَهِدُ، فأَلْحَقَهُ بأحدِهِما بالدَّليلِ الشَّرْعِيِّ).
- وأمَّا إمامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَحْمَدُ
بْنُ حنبلٍ، فقد فسَّرَ المشتَبِهاتِ بأنَّها مَنْزِلةٌ بَيْنَ الحلالِ
والحرامِ الْمَحْضِ، وفَسَّرَهَا تارةً باختلاطِ الحلالِ والحرامِ، مِثْلَ
مَن اخْتَلَطَ مالُهُ بحرامٍ؛ لذلك أَفْتَى: (إِذَا كَثُرَ الحرامُ
عَلَى الحلالِ؛ فيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَهُ، وَإِذَا كَان الحلالُ
أَكْثَرَ والحرامُ يَسيرًا جازَ استعمالُهُ).
وخلاصةُ مَا فَسَّرَ عُلماؤُنَا الشُّبُهاتِ، كَمَا قَالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ
فِي (الفتحِ):
1- تَعَارُضُ الأَدِلَّةِ ظَاهِرِيًّا، كَمَا فِي بَعْضِ قَضَايَا العِباداتِ، والمعاملاتِ وغيرِهَا، وَهَذَا الَّذِي يُرَجِّحُهُ الحافظُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
2- اختلافُ العُلماءِ: وَهَذَا يَنْدَرِجُ تحتَ الأَوَّلِ.
3- مُسمَّى المكروهِ؛ لأنَّهُ يَجْتَذِبُهُ جانبَا الفعلِ والتَّركِ، ويَرَى الحافظُ أنَّ هَذَا التَّفسيرَ مُحتَمَلٌ وخاصَّةً فِي حقِّ العُلماءِ، لِذَلِك قَالَ: (فالعالِمُ
الفَطِنُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ تَمَيُّزُ الْحُكمِ، فَلا يَقعُ لَه ذَلِك
إِلا فِي الاستكثارِ مِن الْمُباحِ أَو الْمَكروهِ، كَمَا تَقرَّرَ قَبْلُ،
ودُونَهُ تقعُ لَه الشُّبهَةُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ بِحَسَبِ اختلافِ
الأَحْوَالِ، وَلا يَخْفَى أنَّ الْمُسْتَكْثِرَ مِن الْمَكروهِ تَصيرُ
فِيهِ جُرأةٌ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ فِي الجملةِ، أَو يَحْمِلُهُ
اعتيادُهُ ارْتِكَابَ الْمَنْهيِّ غَيْرِ المحرَّمِ عَلَى ارْتِكَابِ
الْمَنهيِّ الْمُحَرَّمِ إِذَا كَان مِن جنسِهِ، أَو يَكُونُ ذَلِك لشُبهةٍ
فِيهِ، وَهُو إِنْ تَعاطَى مَا نُهِيَ عَنْه يَصيرُ مُظْلِمَ القلبِ
لفُقدانِ نُورِ الوَرَعِ فيَقعُ فِي الحرامِ، وَلَو لَم يَخْتَرِ الوُقوعَ
فِيهِ).
ووَقَعَ عِنْدَ الْمُصنِّفِ فِي البُيوعِ، مِن روايَةِ أَبِي فَرْوَةَ، عَن الشَّعبيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((فَمَنْ
تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ لَهُ
أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثمِ أَوْشَكَ
أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ)).
وَهَذَا يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الأوَّلَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
4- الْمُبَاحُ:
وَلا يُمْكِنُ لقائلِ هَذَا أَنْ يحملَهُ عَلَى متساوي الطَّرفينِ مِن
كلِّ وَجْهٍ، بَلْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَكُونُ مِن قِسمِ خِلافِ
الأَوْلَى، بِأَنْ يَكُونَ مُتساويَ الطَّرفينِ بِاعْتِبَارِ ذاتِهِ، راجحَ
الفعلِ أَو التَّرْكِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ.
قَالَ القباريُّ: (والمباحُ عَقَبَةٌ بَيْنَ المكروهِ، فمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْه تَطرَّقَ إِلَى المكروهِ).
والمعنَى:
أنَّ الحلالَ حَيْثُ يُخْشَى أَنْ يَؤُولَ فِعْلُهُ مُطْلَقًا إِلَى
مكروهٍ أَو مُحَرَّمٍ يَنْبَغِي اجتنابُهُ: كالإكثارِ مَثَلاً مِن
الطَّيبِّاتِ فإنَّهُ يُحْوِجُ إِلَى كَثْرَةِ الاكتسابِ الْمُوقِعِ فِي
أَخْذِ مَا لا يَسْتَحِقُّ، أَو يُفْضِي إِلَى بَطَرِ النَّفسِ، وأَقَلُّ
مَا فِيهِ: الاشتغالُ عَن مَواقِفِ العُبُودِيَّة.ِ
والَّذي أَمِيلُ إِلَيْهِ مَا رَجَّحَهُ الحافِظُ ؛
لأنَّهُ مُوافقٌ لمفهومِ الْمُشْتَبِهاتِ، أمَّا الأقوالُ الأُخْرَى
فالَّذي يَظْهَرُ لِي أنَّها بَعيدةٌ عَن الْمُرادِ، وَاللَّهُ أعلمُ.
موقفُ النَّاسِ مِن الْمُتَشابِهِ
النَّاسُ أمامَ الْمُتَشَابِهِ ضَرْبَانِ:
1- فمِنهُمْ مَن يَتْرُكُهُ ابتغاءَ مَرضاةِ اللَّهِ،
وَتَحَرُّزًا مِن الإثمِ، وَذَلِك لاشتباهِهِ عَلَيْهِم، وعدَمِ وُضوحِ
الْحُكْمِ فِيهِ، وهؤلاءِ بتَرْكِهِم الْمُتَشَابِهَ طَلَبُوا السَّلامةَ
لدِينِهِم، والبَرَاءَ لأعراضِهِمْ مِن الطَّعْنِ.
والعِرْضُ:كما قَالَ عُلماؤُنا هُو مَوْضِعُ الْمَدْحِ والذمِّ مِن الإِنْسَانِ، وَمَا يَحْصُلُ لَه بذِكرِهِ بالجميلِ مَدْحٌ، وبِذِكرِهِ بالقبيحِ قَدْحٌ.
وَقَد يَكُونُ:
- تارةً:فِي نَفْسِ الإِنْسَانِ.
- وتارةً: فِي سَلَفِهِ أَو أهلِهِ.
وَهَذَا مَعْنَى قولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((فَمَنِ اتـَّقَى الشـُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)).
2- ومنهم: مَن يَقَعُ فِي الْمُتشابِهِ مِن حَيْثُ هُو مُتشابِهٌ عِنْدَ النَّاسِ لا عندَهُ،
وَذَلِك لاتِّضاحِ الْحُكْمِ لَه فِي القضيَّةِ فهذا لا حَرَجَ عَلَيْهِ
فِي وُقوعِهِ، وَلَكِنْ إِنْ تَرَكَهُ حِفاظًا لعِرْضِهِ مِن النَّاسِ فهذا
حَسَنٌ ومَمْدُوحٌ، فالمسلمُ مطالَبٌ بالحفاظِ عَلَى سَلامةِ عِرْضِهِ،
ويَشْهَدُ لِذَلِك قولُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِمَن رآه واقِفًا
مَع صَفِيَّةَ: ((إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ)).
ومنهم: مَنْ يَقَعُ فِي الْمُتشابِهِ -مَع أنَّهُ مُشْتَبِهٌ عَلَيْهِ- اتِّباعًا لهواهُ، فهذا حُكْمُهُ أنَّهُ وَقَعَ فِي الحرامِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)).
وفَسـَّرَ الْعُلَمَاءُ الوُقوعَ فِي الحرامِ بِمَعْنَيَيْنِ:
1- أنْ يَكُونَ ارتكابُهُ للشُّبَهِ -مَع اعتقادِهِ أَنَّهَا شُبَهٌ- ذريعةً للوُقوعِ فِي الحرامِ، وَذَلِك بالتَّدرُّجِ والتَّسامحِ.
وهذا يَشْهَدُ لَه قولُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ((مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثمِ أوْشَكَ أَنْ يُواقِعَ مَا اسْتَبَانَ)).
2- أنَّ
مَن أَقْدَمَ عَلَى مَا هُو مُشْتَبِهٌ عندَهُ، لا يَدْرِي أهو حلالٌ أَو
حرامٌ، فإنَّهُ لا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ حرامًا فِي نَفْسِ الأَمْرِ فيُصادِفُ الحرامَ وَهُو لا يَدْرِي أنَّهُ حرامٌ.
حُكْمُ الْمُتَشَابِهِ:
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمهُ اللَّهُ: (واخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الشُّبهاتِ:
فقيلَ: التَّحريمُ، وَهُو مردودٌ.
وقيلَ: الكراهةُ.
وقيلَ: الوقفُ).
تَرْكُ
الشُّبُهاتِ مِن الوَرَعِ الَّذي رَغَّبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحثَّ عَلَيْهِ؛ لِذَلِك أَوْرَدَ البخاريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي (صحيحِهِ) فِي كِتَابِ الإيمانِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (بابُ فَضْلِ مَن اسْتَبْرَأَ لدينِهِ)، وَسَبَبُ إيرادِهِ فِي كِتَابِ الإيمانِ كيْ يُبَيِّنَ أنَّ الوَرَعَ مِن مُكَمِّلاتِ الإيمانِ.
فالقولُ بأنَّ الْمُتَشَابِهَ مكروهٌ كَمَا نَقَلَ الحافظُ عَن بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَوْلٌ قريبٌ مِن الصَّوابِ، وَاللَّهُ أعلمُ.
الْبُعْدُ عَن مَحَارِمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ:
(( كالرَّاعي يَرْعَى حولَ الحِمَى يوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وإنَّ لكلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وإنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ))
يَضْرِبُ بَعْضُ السَّلاطينِ حِمًى لَهُم، ويَمنعون غيرَهُم مِن الوُقوعِ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ بوجهِ حقٍّ أَو بِغَيْرِ حقٍّ.
فمَنْ
يَرْعَى أغنامَهُ بالقُرْبِ مِن هَذَا الحمَى المضروبِ فإنَّهُ لا
يَأْمَنُ أَنْ تَأْكُلَ ماشيتُهُ مِنْه، وبهذا يُعَرِّضُ نفسَهُ
للمسؤوليَّةِ أمامَ سلاطينِ الأَرْضِ.
وهذا
مَثَلٌ ضَرَبَهُ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ لِمَن يَقعُ فِي
الشُّبُهاتِ، فإنَّهُ يَقْرُبُ مِن الوُقوعِ فِي الحرامِ، وبهذا يُعَرِّضُ
نفسَهُ لعِقابِ مَلِكِ الْمُلوكِ.
قالَ ابنُ رجبٍ:(وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أنَّهُ يَنْبَغِي التَّبَاعُدُ عَن المحرَّماتِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الإِنْسَانُ بينَهُ وبينَها حاجزًا).
القلبُ أميرُ الْبَدَنِ: قولُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أَلا
وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ،
وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِي الْقَلْبُ)).
1- سببُ تسميَةِ القلبِ: قالَ الحافظُ:(سُمـِّيَ
القلبُ قَلبًا لتقلُّبِهِ فِي الأُمُورِ، أَو لأنَّهُ خالِصُ مَا فِي
الْبَدَنِ، وخالصُ كلِّ شَيْءٍ قلبُهُ، أَو لأنَّهُ وُضِعَ فِي الجسدِ
مَقْلُوبًا) والـَّذي يَظهرُ أنَّ الْمَعْنَى الأوَّلَ والثَّانِيَ قَريبانِ مِن الصَّوابِ، أمَّا الأخيرُ فبَعيدٌ.
2-سببُ الاهتمامِ بالقلبِ: لأنَّ الإِنْسَانَ يَفْقَهُ الأُمُورَ بِهِ، ويَشهدُ لِهَذَا قولُهُ جلَّ وَعَلا: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}.
وقولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}.
قالَ المفسِّرُونَ: أَيْ: عقلٌ وعبَّرَ عَنْه بالقلبِ؛ لأنَّهُ محلُّ استقرارِهِ.
- قَالَ الحافظُ: ( يُسْتَدَلُّ -أي: بالحديثِ- عَلَى أنَّ العقلَ فِي القلبِ)
وَهَذَا مَا ذهبَ إِلَيْهِ الشَّافعيَّةُ؛ لأنَّ بصلاحِ القلبِ -وَذَلِك
باستقرارِ الإيمانِ بِهِ- تَصْلُحُ جَمِيعُ الْجَوَارِحِ، وتَستقيمُ وَفْقَ
أوامرِ الدِّينِ، وبفسادِ القلبِ تَفْسُدُ باقي الْجَوَارِحِ.
- قَالَ الحافظُ: (وخُصَّ القلبُ بِذَلِك؛ لأنَّهُ أميرُ البَدَنِ، وبصلاحِ الأميرِ تَصْلُحُ الرَّعيَّةُ، وبفسادِهِ تَفْسُدُ).
هل القلبُ يَمْرَضُ ؟
قالَ تَعَالَى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا}.
وَقَالَ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}.
وقالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}.
فهذه
الآيَاتُ الكريماتُ وَغَيْرُ ذَلِك، تُجيبُ بأنَّ القلوبَ قَد تُصابُ
بالمرضِ، وَالْمَقْصُودُ بأمراضِ القلوبِ مَا تُصابُ بِه مِن نِفاقٍ وشكٍّ
وكُفْرٍ، وقَسوةٍ وكِبْرٍ، وحِقدٍ وحَسَدٍ.
فيَجبُ
عَلَى المسلمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى سَلامَةِ قلبِهِ مِن هَذِه الأمراضِ،
وَأَنْ يُجاهِدَ نفسَهُ عَلَى سُلوكِ مَنْهَجِ اللَّهِ، وَاللَّهُ وَعَدَ
مَنْ سَلَكَ طَريقَهُ وجاهَدَ نفسَهُ عَلَى ذَلِك بالهدايَةِ والاستقامةِ،
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
فوائدُ مِن الحدِيثِ:
1- يُستنبطُ
مِن الْحَدِيثِ: أنَّهُ يَنْبَغِي للمسلمِ أَنْ يَبْعُدَ عَن مَحَارِمِ
اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويَجعلَ بينَهُ وَبَيْنَ مَحارِمِ اللَّهِ سبحانَهُ
حاجزًا.
2- يَنْبَغِي للمسلمِ أَنْ يَسعَى لِحِفْظِ عِرْضِهِ، وَأَنْ يَبْعُدَ عَن كلِّ مَا يَشِينُهُ ويُعَرِّضُهُ للطَّعْنِ.
3-في الْحَدِيثِ دَلالةٌ لِمَن قَالَ بقاعدةِ سَدِّ الذَّرائِعِ إِلَى المحرَّماتِ ،
وتحريمِ الوسائلِ إِلَيْهَا، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِك قواعدُ
الإِسْلامِ، فحَرَّمَ قَلِيلَ الْمُسْكِرِ، وحَرَّمَ الْخَلْوَةَ
بالأجنبيَّةِ، والأدلَّةُ عَلَى ذَلِك كثيرٌ.
4- كما
اسْتُدِلَّ بالحديثِ أنَّ مَن سَيَّبَ دَابَّتَهُ تَرْعَى قُرْبَ زَرْعِ
غيرِهِ فإنَّهُ ضامنٌ لِمَا أفْسَدَتْهُ مِن الزَّرعِ، وَكَذَلِك مَن
أَرسلَ مَا يَصيدُ لَه مِن كلبٍ أَو غيرِهِ قُرْبَ الْحَرَمِ، فصادَ
دَاخِلَ الْحَرَمِ، فَهُو ضامنٌ لِمَا صادَ، كَمَا أَفْتَى بِذَلِك الإمامُ
أَحْمَدُ رحمَهُ اللَّهُ.
5 - في الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تعظيمِ القلبِ، والحثُّ عَلَى بذلِ الجهدِ لإصلاحِهِ؛ لأنَّهُ أميرُ الْجَوَارِحِ، فبصلاحِهِ تَصْلُحُ، وبفسادِهِ تَفْسُدُ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1) هَذَا الحديثُ صَحِيحٌ مُتَّفقٌ على صِحَّتِهِ مِن رِوايةِ الشَّعْبِيِّ عن النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ، وفي ألفاظِهِ بعضُ الزِّيادةِ والنَّقْصِ، والمَعْنى واحدٌ أو مُتَقارِبٌ.
وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن حديثِ ابْنِ عُمَرَ، وعَمَّارِ بنِ ياسرٍ، وجَابِرٍ، وابنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبَّاسٍ، وحديثُ النُّعْمانِ أَصَحُّ أحاديثِ البابِ.
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))
معناه:
أَنَّ الحلالَ المَحْضَ بَيِّنٌ لا اشتباهَ فيه، وكذلك الحرامُ المَحْضُ،
ولكنْ بينَ الأمرَيْنِ أُمورٌ تَشْتَبِهُ على كثيرٍ من النَّاسِ، هل هي مِن
الحلالِ أَمْ مِن الحرامِ ؟.
وأَمَّا الرَّاسخونَ في العِلْمِ، فلا يَشْتَبِهُ عليهم ذلك، ويَعْلَمُونَ مِن أَيِّ القِسْمَيْنِ هي.
-فأمَّا الحلالُ المحضُ: فمِثْلُ
أَكْلِ الطَّيِّباتِ مِن الزُّروعِ، والثِّمارِ، وبَهِيمةِ الأَنْعامِ،
وشُرْبِ الأَشْربةِ الطَّيِّبةِ، ولِباسِ ما يُحْتاجُ إليه مِن القُطْنِ
والكَتَّانِ، أو الصُّوفِ أو الشَّعَرِ، وكَالنِّكاحِ، والتَّسَرِّيِ،
وغَيْرِ ذلك إذا كان اكْتِسابُهُ بِعَقدٍ صَحِيحٍ، كالبَيْعِ، أو
بِمِيراثٍ، أو هِبةٍ، أو غَنِيمةٍ.
- والحرامُ المحضُ: مِثلُ
أَكْلِ المَيْتةِ، والدَّمِ، ولَحْمِ الخِنْزِيرِ، وشُرْبِ الخَمْرِ،
ونِكاحِ المَحارِمِ، ولِباسِ الحَريرِ للرِّجالِ، ومِثلُ الأَكْسابِ
المُحَرَّمةِ، كالرِّبا والمَيْسِرِ وثَمَنِ ما لا يَحِلُّ بَيْعُهُ،
وأَخْذِ الأَمْوالِ المَغْصُوبَةِ بِسرقةٍ أو غَصْبٍ أو تَدْلِيسٍ أو
نَحْوِ ذلك.
- وأمَّا المُشْتَبَهُ: فمِثلُ أَكْلِ بَعْضِ ما اخْتُلِفَ في حِلِّهِ أو تَحْرِيمِه.
- إمَّا مِن الأَعْيانِ:
كالخَيْلِ والبِغالِ والحَميرِ والضَّبِّ، وشُرْبِ ما اخْتُلِفَ في
تحريمِهِ مِن الأَنْبِذةِ التي يُسْكِرُ كثيرُها، ولُبْسِ ما اخْتُلِفَ في
إبَاحةِ لُبْسِهِ مِن جُلودِ السِّباعِ ونحوِها.
- وإمَّا مِن المَكاسِبِ المُخْتَلَفِ فيها ، كَمَسائِلِ العِينةِ والتَّوَرُّقِ ونحوِ ذلك، وبنحوِ هذا المعنى فَسَّرَ المُشْتَبِهاتِ أحمدُ وإسحاقُ وغيرُهما مِن الأئمَّةِ.
-وحاصلُ الأمرِ: أنَّ اللَّهَ تعالى أَنْزَلَ على نبيِّهِ الكتابَ، وبَيَّنَ فيه للأُمَّةِ ما يُحْتاجُ إليه مِن حلالٍ وحرامٍ، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل: 69].
- قال مُجاهدٌ وغيرُه: (لِكلِّ شيءٍ أُمِرُوا به أو نُهُوا عنه).
- وقال تعالى في آخِرِ سورةِ النِّساءِ [ الآيةَ: 176] التي بَيَّنَ اللَّهُ فيها كثيرًا مِن أحكامِ الأموالِ والأَبْضاعِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
- وقال تعالى: {وَمَا
لَكُمْ أَنْ لا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعام: 119].
- وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}[التوبة: 115]
وَوَكَّلَ بيانَ ما أُشْكِلَ من التنزيلِ إلى الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسَ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
- وما
قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتَّى أَكْمَلَ له ولأُمَّتِهِ
الدِّينَ، ولِهذا أُنْزِلَ عليه بِعَرَفَةَ قَبْلَ موتِهِ بمدَّةٍ يسيرةٍ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة: 3].
- وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَرَكْتُكُمْ عَلَى بَيْضَاءَ نَقِيَّةٍ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلا هَالِكٌ)).
- وقال أَبُو ذَرٍّ: (تُوُفِّيَ
رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما طائِرٌ يُحَرِّكُ
جَناحَيْهِ في السَّماءِ إلا وقدْ ذَكَرَ لنا منه عِلْمًا).
ولمَّا شَكَّ النَّاسُ في موتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عَمُّه العَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (واللَّهِ
ما ماتَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَرَكَ
السَّبِيلَ نَهْجًا واضِحًا، وأَحَلَّ الحلالَ وحَرَّمَ الحرامَ، ونَكَحَ
وطَلَّقَ، وحَارَبَ وسَالَمَ، وما كان رَاعِي غَنَمٍ يَتْبَعُ بها رُءوسَ
الجبالِ يَخْبِطُ عليها العِضاهَ بمِخْبَطِهِ، ويَمْدُرُ حَوْضَها بِيَدِهِ
بِأَنْصَبَ ولا أَدْأَبَ مِن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كانَ فِيكُم).
وفي الجملةِ: فما تَرَكَ اللَّهُ ورسولُه حلالاً إلا مُبيَّنًا، ولا حرامًا إلا مُبيَّنًا، لكنَّ بعضَه كْانَ أَظْهَرَ بَيانًا مِن بعضٍ.
فما
ظَهَرَ بيانُه، واشْتَهَرَ، وعُلِمَ مِن الدِّينِ بالضَّرورة مِن ذلك لم
يَبْقَ فيه شَكٌّ، ولا يُعْذَرُ أحدٌ بجهلِهِ في بلدٍ يَظْهَرُ فيه
الإسلامُ.
وما كان بيانُه دونَ ذلك:
فمِنه
ما اشْتَهَرَ بينَ حَمَلةِ الشَّريعةِ خاصَّةً، فأَجْمَعَ العلماءُ على
حِلِّهِ أو حُرْمَتِهِ، وقد يَخْفَى على بعضِ مَن ليس مِنهم.
ومنه ما لم يَشْتَهِرْ بينَ حملةِ الشَّريعةِ أيضًا، فاخْتَلَفُوا في تَحْلِيلِهِ وتحريمِهِ وذلك لأَسبابٍ:
- منها: أنَّه قد يَكونُ النَّصُّ عليه خَفِيًّا لم يَنْقُلْه إلا قليلٌ مِن النَّاسِ، فلم يَبْلُغْ جميعَ حملةِ العِلمِ.
- ومنها: أَنَّه قد يُنْقَلُ فيه نصَّانِ؛ أَحدُهما بالتَّحليلِ، والآخَرُ بالتَّحريمِ:
- فيَبْلُغُ طائفةً أَحدُ النَّصَّيْنِ دونَ الآخَرِينَ، فيَتَمَسَّكُونَ بما بَلَغَهم.
-أو يَبْلُغُ النَّصَّانِ معًا مَن لم يَبْلُغْه التَّاريخُ، فيَقِفُ لِعدمِ معرفَتِهِ بالنَّاسخِ.
- ومنها: ما ليس فيه نَصٌّ صريحٌ، وإنَّما يُؤْخَذُ مِن عُمومٍ أو مَفْهومٍ أو قِياسٍ، فتَخْتَلِفُ أفهامُ العلماءِ في هذا كثيرًا.
- ومنها: ما
يكونُ فيه أمرٌ، أو نَهْيٌ، فتَخْتَلِفُ العلماءُ في حَمْلِ الأمرِ على
الوُجوبِ أو النَّدْبِ، وفي حَمْلِ النَّهْيِ على التَّحريمِ أو
التَّنْزِيهِ، وأسبابُ الاختلافِ أَكْثرُ مِمَّا ذَكَرْنَا.
ومَعَ هذا فلا بُدَّ في الأُمَّةِ مِن عالمٍ يُوافِقُ قولُه الحقَّ،
فيكونُ هو العالِمَ بهذا الحُكْمِ، وغيرُه يَكونُ الأمرُ مُشْتَبِهًا
عليه، ولا يكونُ عالِمًا بهذا؛ فإنَّ هذه الأمَّةَ لا تَجْتَمِعُ على
ضَلالةٍ، ولا يَظْهَرُ أهلُ باطِلِها على أَهْلِ حَقِّهَا، فلا يَكونُ
الحقُّ مَهْجُورًا غيرَ مَعْمولٍ به في جميعِ الأَمْصارِ والأَعْصارِ.
ولهذا قال رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المُشْتَبِهاتِ: ((لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))
فدَلَّ على أَنَّ مِن النَّاسِ مَن يَعْلَمُها، وإنَّما هي مُشْتَبِهةٌ
على مَن لم يَعْلَمْهَا، وليست مُشْتَبِهَةً في نفسِ الأمرِ، فهذا هو
السَّببُ المُقْتَضِي لاشْتباهِ بعضِ الأشياءِ على كثيرٍ مِن العلماءِ.
وقد يَقَعُ الاشتباهُ في الحلالِ والحرامِ بالنِّسبةِ إلى العُلماءِ وغيرِهم مِن وجهٍ آخَرَ، وهو أنَّ:
- مِن الأشياءِ ما يُعْلَمُ سببُ حِلِّه وهو المِلْكُ المُتَيَقَّنُ.
-ومنها ما يُعْلَمُ سببُ تحريمِهِ وهو ثُبوتُ مِلْكِ الغيرِ عليه.
فالأوَّلُ: لا تَزُولُ إباحَتُه إلا بيقينِ زَوالِ المِلْكِ عنه، اللَّهُمَّ إلا في الأَبْضاعِ عندَ مَن يُوْقِعُ الطَّلاقَ بالشَّكِّ فيه كـ مَالِكٍ، أو إِذا غَلَبَ على الظَّنِّ وقوعُهُ كـ إسحاقَ بنِ رَاهُويَهْ.
والثَّاني: لا يَزُولُ تحريمُه إِلا بيقينِ العِلْمِ بانْتِقالِ المِلْكِ فيه.
وأمَّا ما لا يُعْلَمُ له أصلُ مِلْكٍ كما يَجِدُه الإنسانُ في بَيْتِه ولا يَدْرِي: هل هو له أو لِغيرِه؟
فهذا
مُشْتَبِهٌ، ولا يَحْرُمُ عليه تَناوُلُه؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ ما في بيتِهِ
مِلْكُه لِثُبوتِ يَدِهِ عليه، والوَرَعُ اجْتِنابُهُ، فقد قال النبيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي
لأََنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى
فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً
فَأُلْقِيَهَا)) خَرَّجاه في (الصَّحيحَيْنِ).
فإنْ كان هناك مِن جِنْسِ المَحْظورِ، وشكَّ هل هو مِنْه أم لا؟ قَوِيَت الشُّبْهَةُ.
وفي حديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ،
عن أَبِيه، عن جَدِّه، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصَابَهُ أَرَقٌ مِن الليلِ، فقال له بعضُ نِسائِهِ: يا رسولَ اللَّهِ،
أَرِقْتَ الليلةَ.
فقال: ((إِنِّي
كُنْتُ أَصَبْتُ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِي، فَأَكَلْتُهَا وَكَانَ
عِنْدَنَا تَمْرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ)).
ومن هذا أيضًا ما أصلُهُ الإِباحةُ كَطهارةِ الماءِ، والثَّوبِ، والأَرْضِ إذا لم يُتَيَقَّنْ زوالُ أصلِهِ، فيَجُوزُ استعمالُه.
وما
أصلُهُ الحَظْرُ كالأَبْضاعِ ولُحومِ الحيوانِ، فلا يَحِلُّ إلا بِيقينِ
حِلِّهِ مِن التَّذْكِيَةِ والعَقْدِ، فإنْ تَرَدَّدَ في شيءٍ من ذلك
لِظُهورِ سَبَبٍ آخَرَ رَجَعَ إلى الأَصْلِ فبَنَى عَلَيْهِ، فيَبْنِي فيما
أصلُهُ الحُرْمَةُ على التَّحريمِ.
ولهذا نَهَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أَكْلِ الصَّيْدِ الذي يَجِدُ فيه الصَّائدُ:
-أَثَرَ سَهْمٍ غيرِ سَهْمِهِ.
-أو كَلْبٍ غيرِ كَلْبِهِ.
-أو يَجِدُه قد وَقَعَ في ماءٍ.
وعَلَّلَ بأنَّه لا يُدْرَى: هل ماتَ مِن السَّببِ المُبِيحِ له أو مِن غَيْرِهِ.
ويَرْجِعُ
فيما أَصْلُهُ الحِلُّ إلى الحِلِّ، فلا يُنَجَّسُ الماءُ والأرضُ
والثَّوبُ بمَجَرَّدِ ظَنِّ النَّجاسةِ، وكذلك البَدَنُ إذا تَحَقَّقَ
طَهارَتُه، وشَكَّ: هل انْتَقَضَتْ بالحَدثِ، عندَ جمهورِ العلماءِ خِلافًا
لِمالِكٍ رَحِمَه اللَّهُ إذا لم يَكُنْ قد دَخَلَ في الصَّلاةِ.
وقد صَحَّ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّهُ شُكِيَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ: لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا)) وفي بعضِ الرواياتِ: ((فِي المَسْجِدِ)) بدلَ الصَّلاةِ.
وهذا يَعُمُّ حالَ الصَّلاةِ وغيرِها.
فإنْ
وُجِدَ سَببٌ قَوِيٌّ يَغْلِبُ معَه على الظَّنِّ نَجاسةُ ما أصلُه
الطَّهارةُ، مِثلُ أن يكونَ الثَّوبُ يَلْبَسُه كافرٌ لا يَتَحَرَّزُ من
النَّجاساتِ، فهذا مَحَلُّ اشْتِباهٍ:
- فمِن العُلماءِ مَنْ رخَّصَ فيه أَخْذًا بالأَصْلِ.
- ومِنْهُم مَن كَرِهَهُ تَنْزِيهًا.
- ومِنْهُمْ مَن
حَرَّمَهُ إذا قَوِيَ ظَنُّ النَّجاسةِ، مِثلَ أن يكونَ الكافرُ مِمَّنْ
لا تُباحُ ذَبِيحتُه أو يكونَ مُلاقِيًا لعَوْرِتِه كالسَّرَاوِيلِ
والقَمِيصِ.
وتَرْجِعُ هذه المسائلُ وشَبَهُها إلى قاعدةِ (تَعارُضِ الأَصْلِ والظَّاهرِ) فإنَّ الأصلَ الطَّهارةُ، والظَّاهرَ النَّجاسةُ.
وقد تَعارَضَتِ الأدلَّةُ في ذلكَ.
فالقائلونَ بالطَّهارةِ يستدلُّون:
- بأنَّ اللَّهَ أَحلَّ طَعامَ أَهْلِ الكِتابِ، وطعامُهم إنَّما يَصْنَعُونَه بأَيْدِيهِم في أَوَانِيهم.
- وقد أَجَابَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ.
- وكان هو وأصحابُه يَلْبَسُون ويَسْتَعْمِلُون ما يُجْلَبُ إليهم مِمَّا نَسَجَه الكفَّارُ من الثِّيابِ والأَوَاني.
- وكانوا في المَغازِي يَقْتَسِمُون ما وَقَعَ لهم مِن الأَوْعِيةِ والثِّيابِ، ويَسْتَعْمِلُونَها.
- وصَحَّ عنهم أنَّهم اسْتَعْمَلُوا الماءَ مِن مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ.
والقائلون بالنَّجاسةِ يَسْتَدِلُّون:
- بأنَّه
صَحَّ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه سُئِلَ عن
آنيةِ أَهْلِ الكتابِ الَّذينَ يَأْكُلُون الخِنْزِيرَ، ويَشْرَبُونَ
الخَمْرَ، فقال: ((إن لم تَجِدُوا غيرَها، فاغْسِلُوهَا بالماءِ ثُمَّ كُلُوا فِيهَا)).
وقد فَسَّر الإِمامُ أحمدُ الشُّبهةَ بأنَّها: (مَنْزِلَةٌ بينَ الحَلالِ والحرامِ) يَعْنِي: الحلالَ المَحْضَ والحرامَ المحضَ، وقال: (مَنِ اتَّقاها، فقد اسْتَبْرَأَ لِدينِهِ).
وفَسَّرَها تارةً:(باخْتَلاطِ الحلالِ والحرامِ).
- ويَتَفَرَّعُ على هذا مُعاملةُ مَن في مالِهِ حَلالٌ وحرامٌ مُخْتَلِطٌ:
فإنْ كان أَكْثَرُ مَالِهِ الحرامَ.
فقال أحمدُ: (يَنْبَغِي أنْ يَجْتَنِبَه إلا أنْ يكونَ شَيْئًا يسيرًا، أو شيئًا لا يُعْرَفُ).
- واخْتَلَفَ أصحابُنَا:هل هو مَكْروهٌ أو مُحَرَّمٌ ؟
على وَجْهَيْنِ.
وإن كان أكثرُ مالِهِ الحلالَ، جازَت مُعاملتُهُ والأَكْلُ مِن مالِهِ.
- وقد رَوَى الحارثُ عن عَلِيٍّ، أنَّه قال في جَوَائزِ السَّلْطانِ: (لا بَأْسَ بها، ما يُعْطِيكُم مِن الحلالِ أكثرُ مِمَّا يُعْطِيكُم مِن الحرامِ).
-
وكان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُهُ يُعامِلونَ
المُشْرِكِينَ وأهلَ الكتابِ مع عِلْمِهم بَأْنَّهم لا يَجْتَنِبُون
الحرامَ كُلَّه.
وإن اشْتَبَهَ الأمرُ فهو شُبْهَةٌ، والوَرَعُ تركُه.
قال سُفْيانُ: (لا يُعْجِبُني ذلك، وتركُه أَعْجَبُ إِليَّ).
وقال الزُّهْرِيُّ ومَكْحُولٌ: (لا
بأسَ أن يُؤْكَلَ منه ما لم يُعْرَفْ أنَّه حرامٌ بِعَيْنِه، فإن لم
يُعْلَمْ في مالِهِ حرامٌ بعينِه، ولكنَّه عُلِمَ أنَّ فيه شُبْهةً؛ فلا
بأسَ بالأكلِ منه، نَصَّ عليه أحمدُ في روايةِ حَنْبَلٍ).
وذهَبَ إِسْحاقُ بنُ رَاهُويَهْ إلى ما رُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ وسَلْمانَ وغيرِهِما مِن الرُّخْصةِ، وإلى ما رُوِيَ عَن الحَسَنِ وابنِ سِيرِينَ في إباحةِ الأَخْذِ مِمَّا يَقْضِي مِن الرِّبا والقِمارِ، نَقَلَه عنه ابنُ مَنْصورٍ.
وقال الإِمامُ أحمدُ في المالِ المُشْتَبِهِ حلالُه بحرامِهِ: (إنْ كان المالُ كثيرًا، أَخْرَجَ منه قَدْرَ الحرامِ، وتَصَرَّفَ في الباقي، وإن كان المالُ قليلاً، اجْتَنَبَه كُلَّه)
وهذا لأنَّ القليلَ إذا تَناوَلَ منه شيئًا، فإنَّه تَبْعُدُ معه
السَّلامةُ مِن الحرامِ بِخِلافِ الكثيرِ، ومِن أصحابِنَا مَنْ حَمَل ذلك
على الوَرَعِ دُونَ التَّحريمِ، وأَبَاحَ التَّصَرُّفَ في القليلِ والكثيرِ
بعدَ إخراجِ قَدْرِ الحرامِ منه، وهو قولُ الحَنَفِيَّةِ وغيرِهم، وأَخَذ
به قَوْمٌ مِن أهلِ الوَرَعِ منهم بِشْرٌ الحافي.
ورَخَّص قومٌ مِن السَّلفِ في الأكلِ مِمَّن يُعْلَمُ في مالِهِ حرامٌ ما لم يُعْلَمْ أنَّه مِن الحرامِ بعينِهِ، كما تَقَدَّمَ عن مَكْحولٍ والزُّهْريِّ، ورُوِيَ مثلُه عن الفُضَيْلِ بنِ عِياضٍ.
ورُوِيَ في ذلك آثارٌ عن السَّلفِ، فصَحَّ عن ابنِ مَسْعودٍ أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يَأْكُلُ الرِّبا عَلانيةً ولا يَتَحَرَّجُ من مالٍ خبيثٍ يَأْخُذُه يَدْعُوه إلى طَعامِهِ، قال: (أَجِيبُوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْرُ عليه).
وفي رِوايةٍ أنَّه قال: (لا أَعْلَمُ له شَيْئًا إلا خَبِيثًا أو حرامًا) فقال: (أَجِيبُوَه).
وقد صَحَّحَ الإِمامُ أحمدُ هذا عن ابنِ مَسْعُودٍ، ولكنَّه عارَضَه بما رُوِيَ عنه أنَّه قال: (الإِثْمُ حَوَازُّ القُلوبِ).
ورُوِيَ عن سَلْمانَ مِثْلُ قَوْلِ ابنِ مَسْعُودٍ الأوَّلِ، وعن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، والحَسَنِ البَصْرِيِّ، ومُوَرِّقٍ العِجْلِيِّ، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ، وابنِ سِيرِينَ وغيرِهم.
والآثارُ بِذلك مَوجودةٌ في كِتابِ(الأَدَبِ)لحُمَيْدِ بنِ زَنْجُويَه، وبَعْضُها في كِتابِ (الجامعِ)للخَلالِ، وفي (مُصَنَّفَيْ)عَبْدِ الرَّزَّاقِ وابنِ أَبِي شَيْبَةَ وغيرِهم.
ومتى عُلِمَ أنَّ عَيْنَ الشَّيءِ حرامٌ، أُخِذَ بوجهٍ مُحَرَّمٍ، فإنَّه يَحْرُمُ تنَاوُلُه.
وقد حَكَى الإِجْماعَ على ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ وغيرُه.
وقد رُوِيَ عن ابنِ سِيرِينَ في الرَّجلِ يُقْضَى مِن الرِّبَا، قال: (لا بأسَ به)، وعن الرَّجلِ يُقْضَى مِن القِمارِ قال: (لا بأسَ به) خَرَّجَه الخَلالُ بإسنادٍ صحيحٍ.
ورُوِيَ عن الحَسَنِ خِلافُ هذا، وأنَّه قال: (إنَّ هذه المَكاسِبَ قد فَسَدَت، فخُذُوا مِنها شُبَهَ المُضْطَرِّ).
وعارَضَ المَرْوِيَّ عن ابنِ مَسْعُودٍ وسَلْمانَ، ما رُوِيَ عن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أنَّه أَكَل طَعامًا ثُمَّ أُخْبِرَ أنَّه مِن حَرَامٍ، فاسْتَقَاءَهُ.
وقد يَقَعُ الاشتباهُ في الحُكْمِ، لِكَوْنِ الفَرْعِ مُتَرَدِّدًا بينَ أُصولٍ تَجْتَذِبُه،
كتَحْرِيمِ الرَّجلِ زَوْجَتَه؛ فإنَّ هذا مُتَرَدِّدٌ بينَ تحريمِ
الظِّهارِ الذي تَرْفَعُه الكَفَّارةُ الكُبْرَى، وبينَ تحريمِ الطَّلْقةِ
الوَاحدةِ بانْقِضاءِ عِدَّتِها الذي تُباحُ معه الزَّوْجةُ بعَقْدٍ
جَدِيدٍ، وبينَ تَحْريمِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ الذي لا تُباحُ معه الزَّوجةُ
بِدونِ زَوْجٍ وإِصابةٍ وبينَ تَحْريمِ الرَّجلِ عليه ما أَحَلَّه اللَّهُ
له مِن الطَّعامِ والشَّرابِ الذي لا يُحَرِّمُه، وإنَّما يُوجِبُ
الكَفَّارةَ الصُّغْرَى، أو لا يُوجِبُ شيئًا على الاخْتِلافِ في ذلك، فمِن
ههنا كَثُرَ الاخْتلافُ في هذه المسألةِ مِن زَمَنِ الصَّحابةِ فمَن
بَعْدَهم.
وبكُلِّ
حَالٍ، فالأُمورُ المُشْتَبِهةُ التي لا يَتَبَيَّنُ أنَّها حَلالٌ ولا
حرامٌ لِكثيرٍ مِن النَّاسِ، كما أَخْبَرَ به النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد يَتَبيَّنُ لبعضِ النَّاسِ أنَّها حلالٌ أو حرامٌ؛
لِمَا عِندَه مِن ذلك مِن مَزِيدِ عِلْمٍ، وكلامُ النَّبيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ على أنَّ هذه المُشْتَبِهاتِ مِن
النَّاس مَن يَعْلَمُها، وكثيرٌ منهم لا يَعْلَمُها، فدَخَلَ فيمَن لا يَعْلَمُها نوعان:
أحدُهما: مَن يَتَوَقَّفُ فيها؛ لاشتباهِهَا عليه.
والثَّاني: مَن يَعْتَقِدُها على غيرِ ما هي عليه.
ودَلَّ
كلامُه على أنَّ غيرَ هؤلاءِ يَعْلَمُها، ومُرادُه أنَّه يَعْلَمُها على
ما هي عليه في نَفْسِ الأَمْرِ مِن تَحْلِيلٍ أو تَحْرِيمٍ، وهذا مِن
أَظْهَرِ الأَدَلَّةِ على أنَّ المُصِيبَ عِندَ اللَّهِ في مَسائلِ
الحَلالِ والحرامِ المُشْتَبِهةِ المُخْتَلَفِ فيها واحدٌ عِندَ اللَّهِ
عَزَّ وجَلَّ، وغيرُه ليس بِعالمٍ بها، بمعنى أنَّه غيرُ مُصِيبٍ
لِحُكْمِ اللَّهِ فيها في نَفْسِ الأَمْرِ، وإنْ كان يَعْتَقِدُ فيها
اعتقادًا يَسْتَنِدُ فيه إلى شُبْهَةٍ يَظُنُّها دَلِيلاً، ويَكُونُ
مَأْجُورًا على اجتهادِهِ، ومَغْفُورًا له خَطَؤُهُ لِعَدَمِ اعْتِمادِهِ.
وقَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ))
قَسَّمَ النَّاسَ في الأُمورِ المُشْتَبِهةِ إلى قِسْمَيْنِ، وهذا إنَّما
هو بالنِّسبةِ إلى مَن هي مُشْتَبِهةٌ عليه، وهو مَن لا يَعْلَمُها.
فأمَّا مَنْ كان عالِمًا بها، واتَّبَعَ ما دَلَّه عِلْمُهُ عليها، فذلك قِسْمٌ ثالثٌ، لم يَذْكُرْه لِظُهورِ حُكْمِهِ، فإنَّ هذا القِسْمَ أفْضَلُ الأَقْسامِ الثَّلاثَةِ؛ لأنَّه عَلِمَ حُكْمَ اللَّهِ في هذه الأمورِ المشتبهةِ على النَّاسِ، واتَّبَعَ عِلْمَه في ذلك.
وأمَّا مَن لَمْ يَعْلَمْ حُكْمَ اللَّهِ فيها، فَهُمْ قِسْمانِ:
أحدُهما: مَن يَتَّقِي هذه الشُّبهاتِ، لاشتباهِهَا عليه، فهذا قد اسْتَبْرَأَ لِدينِه وعِرْضِهِ.
ومعنى اسْتَبْرَأَ: طَلَبَ البَراءَةَ لِدينِهِ وعِرْضِهِ مِن النَّقْصِ والشَّيْنِ.
والعِرْضُ: هو مَوْضِعُ المَدْحِ والذَّمِّ مِن الإِنسانِ، وما يَحْصُلُ له بِذِكْرِهِ بالجَمِيلِ مَدْحٌ، وبِذِكْرِهِ بالقَبِيحِ قَدْحٌ.
وقد يَكُونُ ذلك:
- تارَةً:في نَفْسِ الإنسانِ.
- وتارةً:في سَلَفِهِ، أو في أَهْلِهِ.
فمَن
اتَّقَى الأُمورَ المُشْتَبِهةَ واجْتَنَبَهَا، فقد حَصَّنَ عِرْضَه مِن
القَدْحِ والشَّيْنِ الدَّاخلِ على مَن لا يَجْتَنِبُها، وفي هذا دَلِيلٌ
على أنَّ مَن ارْتَكَبَ الشُّبُهاتِ، فقد عَرَّضَ نَفْسَه لِلقَدْحِ فيه
والطَّعْنِ، كما قال بعضُ السَّلفِ: (مَن عَرَّضَ نفسَه للتُّهَمِ، فلا يَلُومَنَّ مَن أَساءَ به الظَّنَّ).
وفي رِوايةٍ لِلتَّرْمِذِيِّ في هذا الحديثِ: ((فَمَنْ تَرَكَهَا؛ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، فَقَدْ سَلِمَ)).
والمعنى: أنَّه يَتْرُكُها بهذا القَصْدِ-وهو بَراءةُ دِينِهِ وعِرْضِهِ مِن النَّقْصِ- لا لِغَرَضٍ آخَرَ فَاسِدٍ مِن رِياءٍ ونَحْوِه.
وفيه دليلٌ على أنَّ طَلَبَ البَراءةِ لِلعِرْضِ مَمْدُوحٌ كطَلَبِ البَراءةِ للدِّينِ، ولهذا وَرَدَ: ((إنَّ مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ، فَهُوَ صَدَقَةٌ)).
وفي رِوايةٍ في (الصَّحيحَيْنِ) في هذا الحديثِ: ((فَمَنْ تَرَكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ))
يَعْنِي:
أنَّ مَن تَرَكَ الإِثمَ مع اشتباهِهِ عليه، وعَدَمِ تَحَقُّقِه، فهو
أَوْلَى بِتَرْكِهِ إذا اسْتَبَانَ له أنَّه إثمٌ، وهذا إذا كان تَرَكَه
تَحَرُّزًا مِن الإِثم.
فأمَّا مَن يَقصِدُ التَّصَنُّعَ لِلنَّاسِ، فإنَّه لا يَتْرُكُ إلا ما يَظُنُّ أنَّه مَمْدُوحٌ عِندَهم تَرْكُه.
القسمُ الثَّاني: مَن يَقَعُ في الشُّبُهاتِ مع كَوْنِها مُشْتَبِهةً عندَه.
فأمَّا
مَنْ أَتَى شيئًا مِمَّا يَظُنُّه النَّاسُ شُبْهةً، لِعِلْمِهِ بأَنَّه
حلالٌ في نَفْسِ الأَمْرِ، فلا حَرَجَ عليه مِن اللَّهِ في ذلك، لكنْ إذا
خَشِيَ مِن طَعْنِ النَّاسِ عليه بذلك، كان تَرْكُها حينَئِذٍ اسْتِبْراءً
لِعِرْضِهِ، فيَكُونُ حَسَنًا، وهذا كما قال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَن رَآه وَاقِفًا مع صَفِيَّةَ: ((إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ)).
وخَرَجَ أَنَسٌ إلى الجُمُعةِ، فرَأَى النَّاسَ قد صَلَّوا ورَجَعُوا، فاسْتَحْيَى، ودَخَلَ مَوْضِعًا لا يَراهُ النَّاسُ فيه، وقال: ((مَن لا يَسْتَحِي مِن النَّاسِ لا يَسْتَحِي مِن اللَّهِ))وخَرَّجَه الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا، ولا يَصِحُّ.
وإنْ أَتَى ذلك لاعتقادِهِ أنَّه حلالٌ:
- إمَّا باجتهادٍ سائغٍ.
- أو تقليدٍ سائغٍ.
وكان
مُخْطِئًا في اعتقادِهِ، فحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذي قَبْلَه، فإن كان
الاجتهادُ ضَعِيفًا، أو التَّقِليدُ غيرَ سائغٍ، وإنَّما حَمَلَ عليه
مُجَرَّدُ اتِّباعِ الهَوَى، فحُكْمُهُ حُكْمُ مَن أَتَاه مع اشتباهِهِ
عليه، والذي يَأْتِي الشُّبُهاتِ مع اشتباهِهَا عليه، فقد أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه وَقَعَ في الحَرامِ، وهذا يُفَسَّرُ بمعنيَيْنِ:
أحدُهما: أنَّه
يَكُونُ ارْتِكابُهُ للشُّبْهةِ مع اعتقادِهِ أنَّها شبُهْةٌ ذَرِيعةً إلى
ارْتِكابِهِ الحرامَ الذي يَعْتَقِدُ أنَّه حرامٌ بالتَّدْرِيجِ
والتَّسامُحِ.
وفىِ رِوايةٍ في (الصَّحيحَيْنِ) لهذا الحديثِ: ((وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يُشَكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ)).
وفي رِوايةٍ: ((وَمَنْ يُخَالِطِ الرِّيبَةَ، يُوشِكْ أَنْ يَجْسُرَ)) أي: يَقْرَبْ أنْ يَقْدَمَ على الحرامِ المَحْضِ.
والجَسُورُ: المِقْدامُ الذي لا يَهابُ شَيْئًا، ولا يُراقِبُ أَحَدًا.
ورَوَاه بعضُهم: ((يَجْشُرُ)) بالشِّينِ المعجمةِ، أي: يَرْتَعُ، والجَشْرُ: الرَّعْيُ، وجَشَرْتُ الدَّابَّةَ:إذا رَعَيْتَها.
وفي مَرَاسِيلِ أَبِي المُتَوَكِّلِ النَّاجِي عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ
يَرْعَ بِجَنَبَاتِ الْحَرَامِ، يُوشِكْ أَنْ يُخَالِطَهُ، وَمَنْ
تَهَاوَنَ بِالْمُحَقِّرَاتِ، يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْكَبَائِرَ)).
والمعنى الثَّاني: أنَّ
مَن أَقْدَمَ على ما هو مُشْتَبِهٌ عندَه، لا يَدْرِي: أَهُوَ حلالٌ أو
حرامٌ، فإنَّه لا يَأْمَنُ أن يَكُونَ حَرامًا في نَفْسِ الأَمْرِ،
فيُصادِفَ الحرامَ وهو لا يَدْرِي أنَّه حرامٌ.
وقد رُوِيَ من حديثِ ابنِ عُمَرَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((الْحَلالُ
بَيِّنٌ وَالْحَرامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، فَمَنِ
اتَّقَاهَا، كَانَ أَنْزَهَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي
الشُّبُهَاتِ أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرامِ، كَالْمُرْتِعِ حَوْلَ
الْحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَ الْحِمَى وَهُوَ لا يَشْعُرُ)) خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وغيرُه.
واخْتَلَفَ العُلماءُ: هل يُطِيعُ والدَيْهِ في الدُّخولِ في شيءٍ مِن الشُّبهةِ أم لا يُطِيعُهُمَا؟ وعن مُحَمَّدِ بنِ مُقاتِلٍ العَبَّادَانِيِّ قال: (يُطِيعُهُمَا).
فرُوِيَ عن بِشْرِ بنِ الحَارِثِ، قال: (لا طَاعةَ لَهُمَا في الشُّبهةِ).
وتَوَقَّفَ أحمد في هذه المسألةِ، وقال: (يُدارِيهِمَا)، وأَبَى أنْ يُجِيبَ فيها.
وقال أحمدُ : (لا
يَشْبَعُ الرَّجلُ مِن الشُّبهةِ، ولا يَشْتَرِي الثَّوْبَ للتَّجَمُّلِ
مِن الشُّبهةِ، وتَوَقَّفَ في حَدِّ ما يُؤْكَلُ وما يُلْبَسُ منها)
وقال في التَّمْرةِ يُلْقِيها الطَّيْرُ: (لا يَأْكُلُها، ولا يَأْخُذُها، ولا يَتَعَرَّضُ لها).
وقال الثَّوْرِيُّ في الرَّجُلِ يَجِدُ في بَيْتِهِ الأَفْلُسَ أو الدَّراهِمَ:(أَحَبُّ إليَّ أنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهَا)يَعْنِي: إذا لَمْ يَدْرِ مِن أينَ هي.
وكان بَعْضُ السَّلفِ لا يَأْكُلُ إلا شَيْئًا يَعْلَمُ مِن أينَ هو، ويَسْأَلُ عنه حتَّى يَقِفَ على أَصْلِهِ، وقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ مرفوعٌ، إلا أنَّ فيه ضَعْفًا.
وقَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَالرَّاعِي
يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ
لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ))
هذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَن
وَقَع في الشُّبهاتِ، وأنَّه يَقْرُبُ وُقوعُهُ في الحرامِ المَحْضِ.
وفي بعضِ الرِّواياتِ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((وَسَأَضْرِبُ لِذَلِكَ مَثَلاً))
ثُمَّ ذَكَرَ هذا الكلامَ، فجَعَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَثَلَ المُحَرَّماتِ كالحِمَى الذي تَحْمِيه المُلُوكُ،
ويَمْنَعُون غيرَهم مِن قُرْبانِهِ.
وقد
جَعَل النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ مَدِينَتِهِ
اثْنَيْ عَشَرَ مِيلاً حِمًى مُحَرَّمًا لا يُقْطَعُ شَجَرُه ولا يُصادُ
صَيْدُه، وحَمَى عُمَرُ وعُثْمانُ أَماكِنَ يَنْبُتُ فيها الكَلأُ لأَجْلِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ.
واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ حَمَى هذه المحرَّماتِ، ومَنَع عِبادَه مِن قُرْبانِها وسَمَّاها حُدودَه، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة: 187]،
وهذا فيه بَيانُ أنَّه حَدَّ لهم ما أَحَلَّ لهم وما حَرَّمَ عليهم، فلا
يَقْرَبُوا الحرامَ، ولا يَتَعَدَّوُا الحلالَ، ولذلك قال في آيةٍ أُخْرَى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة: 229]،
وجَعَلَ مَن يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى وقَرِيبًا مِنْه جَدِيرًا بأنْ
يَدْخُلَ الحِمَى ويَرْتَعَ فيه، فكذلك مَن تَعَدَّى الحلالَ، ووَقَع في
الشُّبهاتِ، فإنَّه قد قارَبَ الحرامَ غايةَ المُقارَبةِ، فما أَخْلَقَهُ
بأنْ يُخالِطَ الحرامَ المحضَ، ويَقَعَ فيه، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه يَنْبَغِي التَّباعُدُ عن المُحَرَّماتِ، وأنْ يَجْعَلَ الإِنسانُ بينَه وبينَها حاجزًا.
وقد خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَةَ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ يَزِيدَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ)).
وقال أَبُو الدَّرْدَاءِ: (تَمامُ
التَّقْوَى أن يَتَّقِيَ اللَّهَ العَبْدُ، حتَّى يَتَّقِيَه مِن مِثْقالِ
ذَرَّةٍ، وحتَّى يَتْرُكَ بعضَ ما يَرَى أنَّه حَلالٌٌ، خَشْيَةَ أنْ
يَكُونَ حرامًا، حِجابًا بينَه وبينَ الحرامِ).
وقال الحسنُ: (ما زالَت التَّقْوَى بالمُتَّقِينَ حتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا من الحلالِ مَخافَةَ الحرامِ).
وقال الثَّوْريُّ: (إنَّما سُمُّوا المُتَّقِينَ؛ لأنَّهم اتَّقَوْا ما لا يُتَّقَى).
ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ، قال: (إنِّي لأُحِبُّ أَنْ أدَعَ بيني وبينَ الحرامِ سُتْرةً مِن الحلالِ لا أَخْرِقُها).
وقال مَيْمُونُ بنُ مِهْرانَ: (لا يَسْلَمُ للرَّجُلِ الحلالُ حتَّى يَجْعَلَ بينَه وبينَ الحرامِ حاجِزًا مِن الحلالِ).
وقال سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: (لا
يُصِيبُ عَبْدٌ حقيقةَ الإِيمانِ حتَّى يَجْعَلَ بينَه وبينَ الحرامِ
حاجزًا من الحلالِ، وحتَّى يَدَعَ الإثمَ وما تَشَابَهَ منه).
ويَسْتَدِلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يَذْهَبُ إلى سَدِّ الذَّرَائعِ إلى المُحَرَّماتِ وتَحْرِيمِ الوَسَائلِ إليها.
ويَدُلُّ على ذلك أيضًا مِن قواعدِ الشَّرِيعةِ:
-تَحْرِيمُ قليلِ ما يُسْكِرُ كثيرُه.
-وتحريمُ الخَلْوَةِ بالأَجْنَبِيَّةِ.
-وتحريمُ الصَّلاةِ بعدَ الصُّبْحِ وبعدَ العَصْرِ سَدًّا لذَرِيعةِ الصَّلاةِ عندَ طُلوعِ الشَّمْسِ وعندَ غروبِها.
-ومَنْعُ الصَّائمِ مِن المُبَاشرةِ إذا كانَتْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَه.
-ومَنَعَ كَثِيرٌ مِن العُلماءِ مُباشرةَ الحائِضِ فيما بينَ سُرَّتِها ورُكْبَتِها إلا مِنْ وَرَاءِ حائلٍ،
كما كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ امْرَأتَه
إذا كانَتْ حائِضًا أن تَتَّزِرَ، فيُباشِرَها مِن فَوْقِ الإِزارِ.
ومِن أمثلةِ ذلك وهو شَبِيهٌ بالمَثَلِ الذي ضَرَبَه النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَن سَيَّبَ دابَّتَه تَرْعَى بِقُرْبِ زَرْعِ غَيْرِه، فإنَّه ضامِنٌ لِمَا أَفْسَدَتْهُ مِن الزَّرْعِ، ولو كان ذلك نَهَارًا، هذا هو الصَّحيحُ؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ بإِرْسالِها في هذه الحالِ.
وكذا الخَلافُ لو أَرْسَلَ كَلْبَ الصَّيْدِ قريبًا مِن الحَرَمِ، فدَخَلَ الحَرَمَ فصَادَ فيه، ففِي ضَمانِهِ رِوايتانِ عن أَحْمَدَ.
وقيلَ:يَضْمَنُه بِكُلِّ حالٍ.
- وقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلا
وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ
كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ
الْقَلْبُ))
فيه
إشارةٌ إلى أنَّ صَلاحَ حَرَكَاتِ العَبْدِ بجَوَارِحِهِ، واجتنابَهُ
للمُحَرَّماتِ واتِّقاءَهُ للشُّبهاتِ بِحَسَبِ صَلاحِ حَركةِ قَلْبِهِ.
فإنْ
كان قلبُه سَلِيمًا، ليس فيه إلا مَحَبَّةُ اللَّهِ ومَحَبَّةُ ما يُحِبُّه
اللَّهُ، وخَشْيَةُ اللَّهِ، وخَشْيَةُ الوُقوعِ فيما يَكْرَهُهُ، صَلَحَت
حَركاتُ الجوَارِحِ كُلِّها، ونَشَأَ عن ذلك اجْتِنابُ المُحَرَّماتِ
كُلِّها، وتَوَقِّي الشُّبُهاتِ حَذَرًا مِن الوُقوعِ في المحرَّماتِ.
وإنْ
كان القَلْبُ فاسدًا، قد اسْتَوْلَى عليه اتِّباعُ هَوَاهُ، وطَلَبُ ما
يُحِبُّه، ولو كَرِهَهُ اللَّهُ، فَسَدَت حركاتُ الجوارحِ كُلِّها،
وانْبَعَثَت إلى كُلِّ المَعاصِي والمُشْتَبِهاتِ بِحَسَبِ اتِّباعِ هَوَى
القَلْبِ.
ولهذا يُقالُ: القلبُ مَلِكُ الأَعْضاءِ،
وبَقِيَّةُ الأعضاءِ جُنودُه، وهم مع هذا جُنودٌ طائِعون له، مُنْبَعِثُون
في طاعَتِهِ، وتَنْفِيذِ أَوَامرِهِ، لا يُخَالِفُونَه في شيءٍ من ذلك،
فإن كان المَلِكُ صالحًا كانَتْ هذه الجُنودُ صالِحَةً، وإن كان فاسدًا
كانت جُنودُه بهذه المَثابَةِ فاسدةً، ولا يَنْفَعُ عندَ اللَّهِ إِلا
القَلْبُ السَّلِيمُ، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء: 88-89].
وكان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ في دُعائِهِ: ((أَسْألُكَ قَلْبًا سَلِيمًا)).
فالقلبُ السَّليمُ: هو
السَّالمُ مِن الآفاتِ والمَكْرُوهاتِ كُلِّها، وهو القلبُ الذي ليس فيه
سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وما يُحِبُّه اللَّهُ، وخَشْيَةِ اللَّهِ،
وخَشْيَةِ ما يُباعِدُ منه.
وفي (مُسْنَدِ) الإِمامِ أحمدَ، عن أَنَسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ)).
والمُرادُ باستقامةِ إيمانِهِ: استقامةُ أَعْمالِ جوارحِهِ؛ فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تَسْتَقِيمُ إلا باستقامةِ القَلْبِ.
ومعنى استقامةِ القلبِ: أن يَكُونَ مُمْتَلِئًا مِن مَحَبَّةِ اللَّهِ، ومحبَّةِ طاعتِهِ، وكَراهةِ مَعْصِيَتِهِ.
قال الحَسَنُ لِرَجُلٍ: (دَاوِ قَلْبَكَ؛ فإنَّ حاجةَ اللَّهِ إلى العِبادِ صَلاحُ قلوبِهم).
يَعْنِي:
أنَّ مُرادَه مِنْهم ومَطْلُوبَه صَلاحُ قُلوبِهِم، فلا صَلاحَ للقلوبِ
حتَّى تَسْتَقِرَّ فيها معرفةُ اللَّهِ وعَظَمتُه ومحبَّتُه وخَشْيَتُهُ
ومَهابَتُه ورَجاؤُهُ والتَّوَكُّلُ عليه، وتَمْتَلِئَ مِنْ ذلك، وهذا هو حقيقةُ التَّوحيدِ، وهو معنى (لا إلهَ إلا اللَّهُ).
فلا
صلاحَ للقلوبِ حتَّى يَكونَ إلَهُهَا الذي تَأْلَهُهُ وتَعْرِفُهُ
وتُحِبُّه وتَخْشَاه هو اللَّهَ وَحْدَه لا شَرِيكَ له، ولو كان في
السَّماواتِ والأَرْضِ إلهٌ يُؤَلَّهُ سِوَى اللَّهِ، لَفَسَدَت بذلك
السَّماواتُ والأرضُ، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء: 22].
فعُلِمَ
بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ مَعًا حتَّى
تَكُونَ حَركاتُ أَهْلِهَا كُلُّها لِلهِ، وحركاتُ الجَسَدِ تابعةً لحركةِ
القلبِ وإرادَتِهِ.
-فإن كانت حَرَكتُه وإرادتُه لِلَّهِ وحدَه، فقد صَلَحَ وصَلَحَتْ حركاتُ الجسدِ كُلِّه.
-وإن كانت حَرَكةُ القلبِ وإرادتُهُ لغيرِ اللَّهِ تعالى، فَسَدَ، وفَسَدَت حركاتُ الجَسَدِ بحَسَبِ فَسادِ حركةِ القلبِ.
ورَوَى اللَّيْثُ عن مُجاهِدٍ في قولِهِ تعالى: {لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[الأنعام: 151] قال: (لا تُحِبُّوا غَيْرِي).
وفي (صحيحِ الحاكمِ) عن عائشةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ((الشِّرْكُ
أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ
الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الجَوْرِ،
وَأَنْ تُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلا
الْحُبُّ وَالْبُغْضُ؟))
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31]
فهذا يَدُلُّ على أنَّ مَحَبَّةَ ما يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وبُغْضَ ما
يُحِبُّه مُتَابعةٌ لِلهَوَى، والمُوَالاةُ على ذلك والمُعاداةُ عليه مِن
الشِّرْكِ الخَفِيِّ، ويَدُلُّ على ذلك قولُهُ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجَعَلَ
اللَّهُ عَلامةَ الصِّدْقِ في مَحبَّتِهِ اتِّباعَ رسولِهِ، فدَلَّ على
أَنَّ المحبَّةَ لا تَتِمُّ بدونِ الطَّاعةِ والموافقةِ.
قال الحَسَنُ: (قال
أصحابُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسولَ اللَّهِ،
إنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا حُبًّا شَدِيدًا، فأَحَبَّ اللَّهُ أنْ يَجْعَلَ
لِحُبِّهِ عَلَمًا، فأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيةَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}).
ومِن هنا قال الحَسَنُ: (اعْلَمْ أنَّك لن تُحِبَّ اللَّهَ حتَّى تُحِبَّ طاعَتَهُ).
وسُئِلَ ذُو النُّونِ: (متى أُحِبُّ رَبِّي؟) قال: (إذا كان ما يُبْغِضُهُ عندَك أَمَرَّ من الصَّبرِ).
وقال بِشْرُ بنُ السَّرِيِّ: (ليس مِن أَعْلامِ الحُبِّ أن تُحِبَّ ما يُبغِضُه حبيبُكَ).
وقال أبو يَعْقُوبَ النَّهْرُجُورِيُّ: (كلُّ مَن ادَّعَى محبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولم يُوافِق اللَّهَ في أَمْرِهِ، فدَعْوَاه باطلٌ).
وقال رُوَيْمٌ: (المحبَّةُ: الموافَقَةُ في كُلِّ الأحوالِ).
وقال يَحْيَى بنُ مُعاذٍ: (ليس بصادقٍ مَن ادَّعَى محبَّةَ اللَّهِ ولم يَحْفَظْ حُدودَه).
وعن بعضِ السَّلفِ قال: (قَرَأْتُ
في بعضِ الكُتُبِ السَّالفةِ: مَن أَحَبَّ اللَّهَ لم يَكُنْ عندَه شيءٌ
آثرَ مِن رِضاه، ومَن أحَبَّ الدُّنْيا لم يَكُنْ عندَه شيءٌ آثرَ مِن
هَوَى نَفْسِهِ).
وفي (السُّنَنِ) عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ))
ومعنى هذا أنَّ حَركاتِ القَلْبِ والجوارحِ إذا كانت كُلُّها لِلَّهِ فقد كَمُلَ إيمانُ العَبْدِ بذلك ظاهِرًا وباطنًا،
ويَلْزَمُ مِن صلاحِ حركاتِ القلبِ صَلاحُ حركاتِ الجوارحِ، فإذا كان
القلبُ صالحًا ليس فيه إلا إرادةُ اللَّهِ وإرادةُ ما يُرِيدُه لم
تَنْبَعِث الجوارحُ إلا فيما يُرِيدُه اللَّهُ، فسَارَعَت إلى ما فيه
رِضاه، وكَفَّتْ عمَّا يَكْرَهُهُ، وعمَّا يَخْشَى أن يَكُونَ مِمَّا
يَكْرَهُهُ وإن لم يَتَيَقَّنْ ذلك.
قال الحَسَنُ: (ما
نَظَرْتُ بِبَصَرِي، ولا نَطَقْتُ بلِساني، ولا بَطَشْتُ بيدِي، ولا
نَهَضْتُ على قَدَمِي حتَّى أَنْظُرَ على طاعةٍ أو على مَعْصيةٍ؟ فإن كانت
طاعةً تَقَدَّمْتُ، وإن كانت معصيةً تَأَخَّرْتُ).
وقال محمدُ بنُ الفَضْلِ البَلْخِيُّ: (ما خَطَوْتُ منذُ أربعين سَنَةً خُطْوَةً لغيرِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ).
وقِيلَ لدَاوُدَ الطَّائِيِّ: (لو تَنَحَّيْتَ مِن الظِّلِّ إلى الشَّمسِ) فقال:(هذه خُطًا لا أَدْرِي كيف تُكْتَبُ).
فهؤلاء
القومُ لَمَّا صَلَحَت قلوبُهم، فلَمْ يَبْقَ فيها إرادةٌ لِغيرِ اللَّهِ
عزَّ وجلَّ، صَلَحَت جوارحُهُم، فلَمْ تَتَحَرَّكْ إلا لِلَّهِ عزَّ
وجَلَّ، وبما فيه رِضاه، واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
الحديث السادس
وعن أبي عبد الله النعمان ابن بشير-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن
الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من
الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع
في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى،
ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله،
وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم. هذا الحديث حديث النعمان ابن بشير -رضي الله عنه- عدّهُ العلماء ثلث الدين أو رُبع الدين. وحديث النعمان بن بشير). -حلال بين واضح لا اشتباه فيه. - ومن وقع فيه فهو مأزور. - المحكم ما كان واضحاً بيناً. الإمام
أحمد رحمه الله وإسحاق وجماعة من أهل العلم فسَّروا المشتبهات بما اختلف
الصحابة في حله وحرمته، أو اختلف العلماء في حلِّه وحرمته، فقالوا مثلاً:
-(أكل الضبّ اختلفوا فيه فيكون من قبيل المشتبه). فالاستبراء: أن يتوقف حتى تكون حلال بيناً أو حراماً بيناً. قوله: (وقع في الحرام)فسِّرت بتفسيرين: قال: ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه))
فحمى الله محارمه بها فهذا الحديث واضح الدلالة في أن من قارب الحمى، من
قارب المحارم، من قارب الحرمات؛ فإنه يوشك أن يقع في المحرم من جراء
تساهله. وجملتهم
على دخولها من جهة الورع وليس على دخولها من جهة أنه من أكل فقد أكل
حراماً، مع أنّ عدداً من المحققين رجحوا قول ابن مسعود -وهو ترجيح ظاهر من
حيث الدليل- كابن عبد البر في (التمهيد) وكغيره من أهل العلم في تفاصيل
يطول الكلام عليها.
فإن الإمام أحمد قال: (أحاديث الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث:
حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات)).
وحديث عائشة -السابق-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
وذلك أن حديث النعمان دلّ على أن الأشياء منقسمة:
-إلى حلال بين.
-وإلى حرام بين وإلى مشتبه.
فالحلال البين والحرام البين واضح حكمها.
والمشتبه جاء حكمه في هذا الحديث.
والحلال
يحتاج إلى نية وإلى متابعة وعدم إحداث فيه من أمور العبادات والمعاملات،
وكذلك الحرام يحتاج إلى نية في تركه حتى يُؤْجر عليه إلى أخر ذلك، فصار هذا
الحديث ثلث الإسلام.
وأبو داود صاحب (السُّنن) جعل الأحاديث أربعة وزاد عليها حديث ((الدين النصيحة)) الذي سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
هذا يدلك على أنّ هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة فهو ثلث الدين لمن فهمه، ففيه أن الأحكام ثلاثة:
-وحرام بين واضح لا اشتباه فيه.
-وثالث مشتبه لا يعلمه كثير من الناس ولكن يعلمه بعضهم.
فالحلال البين الواضح من أتاه فهذا على بينة.
والحرام البين الواضح أيضاً بُين للناس لا اشتباه فيه:
- فمن انتهى عنه فهو مأجور.
وهناك ما هو مشتبهٌ؛ ومن أجل هذا المشتبه جاء هذا الحديث من الرؤوف الرحيم عليه الصلاة والسلام، فقال: ((الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات)).
الحلال البين مثاله:
-أنواع المأكولات المباحة؛ تأكل اللحم والخبز وتشرب الماء إلى آخره..
-أنواع
العلاقات المالية المباحة؛ البيع الواضح، الصرف الواضح إلى آخره.. أنواع
الإجارة الواضحة، الزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا
شبهة فيه، فهذا بين يعلمه الناس وأيضاً هو درجات.
((والحرام بِّين)) أيضاً
واضح مثل حرمة الخمر وحرمة السرقة وحرمة الزنا وحرمة قذف الغافلات
المؤمنات وحرمة الرشوة، وأشباه ذلك مما الكلام فيها واضح لا اشتباه فيه.
القسم الثالث: قال: ((وبينهما أمورٌ مشتبهات)) قال عليه الصلاة والسلام (وبينهما) فجعل هذا القسم بين الحلال والحرام، وذلك لأنَّه:
-يجتذبه
الحلال تارة ويجتذبه الحرام تارة عند من اشتبه عليه، فالذي اشتبه عليه هذا
الأمر يكون عنده بين الحلال والحرام لا يدري هل هو حرام أو هوحلال، إن نظر
فيه من جهة قال هو حلال، وإن نظر فيه من جهة جعله حراماً، وهذا عند كثير
من الناس.
وأمّا الراسخون في العلم فيعلمون حكمه هل هو حلال أو حرام، فقال عليه الصلاة والسلام ((وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) فدلّ قوله لا يعلمهن كثير على أنّ هناك كثيراً من الناس يعلمون الحكم.
هذه المشتبهات اختلف العلماء في تفسيرها ما هي المشتبهات؟
في
أقوال كثيرة جداً وصنفت فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة
طويل أيضاً في تفسير المشتبهات، ووضوحها ينبني على فهم معنى المشتبه في
اللغة وفي القرآن أيضا.
أمّا في اللغة: فاشتبه
الشيء بمعنى اختلط يعني صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطاً على
الناظر أو على السامع، واشتبهت الأشياء عند عينه بمعنى اختلطت ما يميز هذا
من هذا واشتبهت الأصوات عليه يعني تداخلت فلم يميز هذا من هذا.
فالمشتبهات
في اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثير من الناس لضعف قوته فكما أنَّ
الناظر لضعف بصره اشتبه عليه والسامع لضعف سمعه اشتبه عليه، فكذلك المسائل
التي تدرك بالقلب وتدرك بالبصيرة تشتبه من جهة ضعف البصيرة؛ ضعف العلم.
أما في القرآن فجعل الله -جل وعلا- المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المحكمات في آية سورة آل عمران وهي قوله -جل وعلا-: {هو
الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأُخَر متشابهات
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء
تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من
عند ربنا}.
فدلت الآية على أنَّ:
-والمشتبه ما يشتبه علمه على الناظر فيه.
وما في الحديث غير ما في الآية من جهة أن ما في الآية: من جهة معاني الآيات؛ لأنه قال: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أمُ الكتاب وأُخرُ متشابهات}،
فمعنى الآية يشتبه، والحديث من جهة العمل من جهة الحكم: هل هذه من الحلال
أو هي من الحرام، فإذاً من جهة الاشتباه الأمرُ واحد وهو أنَّ المشتبه فيما
دلت عليه آية آل عمران: هو غير الواضح.
وهذا
نستمسك به في تفسير المشتبه في هذا الحديث؛ لأنَّ الكلمة إذا اشتبه معناها
أو اختلف العلماء في معناها فإرجاعها إلى ما كان عليه استعمال الشارع في
القرآن؛ يُريحنا من إشكال تفسير الكلمة.
فنظرنا
في هذه الكلمة (مشتبهات) فجعلها بعض العلماء بمعنى اختلاط المال المباح مع
المال الحرام، وجعلها بعضهم فيما اختلف فيه العلماء، في أقوال ربما يأتي
بعضها، فتفسيرها الصحيح أن نجعلها مثل آية آل عمران، يعني ما لم يتضح
للمرءِ، حكمه فهو مشتبه وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه
من الحرام فهو حرام؛ وهذه محكمات، وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح من
المتشابهات أو المشتبهات أو المشبِّهات كما هي روايات في هذا الحديث.
- وقالوا: (أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء فيكون من قبيل المشتبه).
- أو لبس بعض الملابس اختلفوا فيها فيكون من قبيل المشتبه.
- وجعلوا اختلاط المال من حلال وحرام هذا من قبيل المشتبه، في أشياء.
- وشرب ما يسكر كثيره من قبيل المشتبه من جهة الناظر فيه.
وهذا في الحقيقة ليس واضحاً، وهذه إذا جُعلت من المشتبهات فهذا من جهة التأويل لا من جهة كونها مشتبهات بينة.
فالإمام أحمد واسحاق وجماعة إذا قالوا عن هذه الأشياء: (إنها مشتبهات) فيعنون أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول المبيح أن يستبرئ:
- من ذهب إلى القول المبيح في المسكر لا بد له أن يستبرئ لدينه ويذهب إلى القول الأخر.
- في أكل الضب: السنة فيه واضحة؛ فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح.
يعني قالوا: (إنها من المشتبهات) باعتبار الخلاف، وهذا ليس هو المقصود بالحديث، وإنما هم نظروا في اختلاف العلماء في ذلك.
والذي
ينبغي حمل الحديث عليه ما ذكرت لك من أنّ (المشبهات) أو (المشتبهات) أو
(المتشابهات) هي: ما اشتبه حكمه على من يحتاج إليه؛ فإذا اشتبه عليه حكم
هذا البيع فاستبراؤه له حمايةٌ لعلمه، حمايةٌ لدينه.
إذا اشتبهت عليه هذه المرأة هل هي مباحة له أم غير مباحه؟
إذا تقرّر ذلك فإن المشتبهات هذه لها حالان:
الحال الأولى:
ما يتوقف فيه العلماء فيتوقف العالم في حكم المسألة يقول: أنا متوقف فيها
مثل بعض المسائل الحادثة الآن تأتي مسألة من مسائل البيوعات أو مسائل المال
الجديدة التي يحدثها الناس، والعلماء حتى ينظروا فيها لا بد أن يتوقفوا،
في بعض المسائل الطبية مثلاً توقف العلماء.
والعلماء
توقفهم ليس عن عجز ولكن حمايةً لدينهم هم؛ لأنهم سيفتُون الأمة وإذا أفتوا
الأمة فالحلال الذي صار في الأمة حلالاً منسوباً إليهم وهم وقَّعوا عن رب
العالمين -جل وعلا- يعني أفتوا عن الله سبحانه فينبغي أن يتوقفوا حتى تتبين
لهم، فإذا توقف العلماء في مسألة فإذاً هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها
للعالم هذا النوع الأول.
النوع الثاني: من المشتبهات، ما تشتبه على غير العالم فينبغي أن لا يواقعها حتى يردّها إلى العالم، وجوباً؛ لأنّه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((وبينهما)) -يعني بين الحلال والحرام- ((أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) في قوله: (لا يعلمهنّ كثير من الناس) إرشاد إلى أنَّ هناك من يعلم فتسأل من يعلم عن حكم هذه المسألة.
قال: ((فمن اتقى الشبهات)) يعني قبل أن يصل إليه العلم أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم، ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)).
أمّا استبراءُ الدين:
فهو
من جهة الله عز وجل حيث إنه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه؛ لأنها ربما
كانت حراماً والمؤمن مكلف فينبغي عليه وجوباً أن لا يأتي شيئاً إلا وهو
يعلم أنه حلال، وإذا أراد أن يقدم على شيء يقدم على شيء يعلم أنه غير حرام،
فمن توقف عن الحلال المشتبه أو الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه
ربما واقع فصار حراماً وهو لا يدري.
هل يقال هنا: هو لا يدري، معذور؟
لا،
غير معذور؛ لأنه يجب عليه أن يتوقف، حتى يتبين له حكم هذه المسألة، يأتيها
على أي أساس! هو مكلف لا يعمل بعمل إلا بأمر من الشرع لهذا قال: (فقد استبرأ لدينه).
قال: (وعرْضِه)
وعرضه لأنَّه في أهل الإيمان من أقدم على الأمور المشتبهات فإنه قد يوقَع
فيه بأنه قليل الدِّيانة، بأنه لم يستبرئ لدينه، فإنه إذا ترك مواقعة
المشتبهات استبرأ لعرضه، وفي هذا حث على أنَّ المرء لا يأتي ما يُعابُ عليه
في عِرْضِه.
فالمؤمن
يرعى حال إخوانه المؤمنين ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي شيئاً
ويقول: أنا لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم
بقول طلبة العلم، فإنَّ استبراء العرض حتى لا يوقَع فيه هذا أمرٌ مطلوب،
وقد جاء في الأثر: (إياك وما يشار إليه بالأصابع) يعني من أهل الإيمان حيث
ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة.
قال: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))
الحرام: الذي هو أحد جانبي الشبهات فيما بينهما لأن جانباً منها حلال وجانباً حرام فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام الذي هو أحد الجهتين.
وفُسر
الحرام: بأنه وقع في أمرٍ محرم حيث لم يستبرئ لدينه حيث وقع في شيء لم
يعلم حكمه، فمسألة واقعتها بلا علم منك أنها جائزة؛ فلا شك أنّ هذا إقدام
على أمر دون حُجة، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، وهذا في المسائل التي
تتنازعها الأمور بوضوح، هناك مسائل من الورع يستحب تركها ليست هي المقصودة
بهذه الكلمة، لأنه قال: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
ثم مثل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه))الراعي
يكون معه شيء من الماشية، والماشية من طبيعتها أنها بعض الأحيان تخرج عن
مجموع الماشية وتذهب بعيداً، فإذا قارب حمىً محمياً، مثلاً أرض محمية
للصدقة، أو محمية لملك فلان أو ما أشبه ذلك، فإنَّ مقاربته بماشيته للحمى
لا بد أن يحصل منه أن بعضها ينِدُّ ويأخذ من حق غيره.
وهذا
تمثيل عظيم في أنَّ حمى الله محارمه، وما هو داخل هذا الحمى هو الدين، وهذه
المحارم حمى فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرَّة أن يتوسع فيدخل في الحرام
حتى من الأمور التي يكون عنده فيها بعض التردد لا كل التردد، فلهذا مثَّل
عليه الصلاة والسلام بهذا المثال العظيم، فقال: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)) لأنه قارب.
نفهم
من هذا الحديث أنّ الحلال البيِّن واضح، والحرام البين واضح، والمشبهات
المشتبهات عرفنا تعريفها، وحكمها وتقسيمات الكلام عليها وأنه يجب على
المسلم أن لا يأتي شيئاً إلا وهو يعلم حكمه، إذا لم يعلم فليسأل، فتكون
إذاً المسألة مشتبهة عليه ويزول الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة
على أهل العلم فإنه يتوقف معهم حتى يحكموا فيها.
هناك مسائل ليست مشتبهة يعني في الأحكام لكونها تبع الأصل، جريان القواعد عليها، دخولها ضمن دليل.
-
فإذاً المسائل التي اختلف فيها العلماء لا تدخل ضمن هذا الحديث من جهة
كونها مشتبهة فلا نقول هذه مسألة اختلف فيها العلماء فإذاً يخرج منها
بتاتاً على جهة أن من وقع فيها وقع في الحرام، لا ولكن هذا على جهة
الاستحباب، وهذا هو الذي فهمه العلماء من الحديث أنّ الخروج من خلاف
العلماء مستحب.
يعني
أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة فالخروج من خلافهم إلى متيقَّن، هذا
مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي بعض تطبيقاته قد لا يكون صحيحاً في تفاصيل
معلومة.
مثاله
مثلاً: قصر الصلاة في السفر. جمهور الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد
حَدُّوا المدة بنية إقامة أربعة أيام فصاعداً بأنه إذا نوى إقامة أربعة
أيام فصاعداً لم يترخص برخصة السفر.
-
وهناك قول ثان للحنفية بأن له أن يترخص ما لم يزمع إقامة أكثرمن خمسة عشر
يوما وهناك قول ثالث لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم بأن له أن
يترخص حتى يرجع إلى بلده.
فهذه أقوال ثلاثه:
القول الأول:
وهو كونها أربعة أيام رُجِّح على غيره من جهة أنّ المسألة من حيث الدليل
مشتبهة وإذا كان كذلك فالأخذ فيها باليقين استبراءٌ للدين لأن الصلاة ركن
الإسلام الثاني فأخذ اليقين في أمر الصلاة هذا ممَّا دلّ عليه هذا الحديث؛
لأنه استبراء للدين، لأنّ الأربعة أيام هذه بالاتفاق أنه يترخص فيها وأما
ما عداها فهو مختلف فيه، فإذا كان كذلك فالخروج من الخلاف هنا مستحب فنأخذ
بالأحوط، ولهذا
رجحَّ كثير من المحققين هذا القول باعتبار الاستبراء وأن في الأخذ به
اليقين في أمر الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام وأعظم الأركان
العملية.
من المسائل التي يتعرض لها العلماء أيضاً في هذا الحديث:
الأكل من مال من اختلط في ماله الحلال والحرام يعني رجلاً مثلاً في ماله حرام نعلم أنه يكتسب من مكاسب محرَّمة:
- إما إنه يرتشي.
- أو عنده مكاسب من الربا.
- أو ما أشبه ذلك.
وعنده مكاسب حلال فما الحكم في شأنه؟
- جعله بعض العلماء داخلاً في هذا الحديث وأنّ الورع: الترك على سبيل الاستحباب لأنه استبراء.
-وطائفة
من أهل العلم قالوا بحسب ما يغلب، فإن كان الغالب عليه الحرام فإنه
يستبرئ، وإن كان الغالب عليه الحلال فإنه يجوز أن تأكل منه مالم تعلم أنَّ
عين ما قدّم لك من الحرام.
-وقال
آخرون منهم ابن مسعود -رضي الله عنه- لك أن تأكل، والحرام عليه لتغير
الجهة، فهو اكتسبه من حرام وحين قدّم لك قدّمه على أنه هدية أو على أنه
ضيافة أو هبة أو ما أشبه ذلك، وتغير الجهة يغير الحكم، كما في حديث بريرة
قالوا يا رسول الله -في اللحم-: (إنّه تُصدق به على بريرة، (والنبي -عليه
الصلاة والسلام- لا يأكل الصدقة) فقال عليه الصلاة والسلام: (هو عليها صدقة
ولنا هدية) لاختلاف الجهة مع أنه عين المهدى وهو اللحم.
- فقال جماعة من الصحابة ومن أهل العلم:
إنه يأكل والحرام على صاحبه، على من قدمه وأما هذا فقدمه على أنه هدية فلا بأس بذلك.
-
وقال آخرون في هذه المسألة: إنه يأكل منه ما لم يعلم أنّ هذا المال بعينه
حرام يعني أن عين ما قدم حرام فإذا علم أنَّ عين ما قدم حرام فلا يجوز له
أكل هذا المعين ويجوز أكل ما سواه.
واستدلوا
على ذلك: بأنّ اليهود كانوا يقدِّمون الطعام للنبي -عليه الصلاة والسلام-
وكانوا يأكلون الربا، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- ربمّا أكل من
طعامهم، وفيه تفاصيل.
المقصود من هذا كمثال لاختلاف العلماء في التنازع في هذه المسألة؛ هل تدخل في هذا الحديث أم لا؟
قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
فهذا
فيه أن صلاح القلب الذي هو معدن الإيمان به يكون التورع، به يكون التوقف عن
الشبهات، به يكون الإقدام على المحرمات؛ هذا راجع إلى القلب. والقلب إذا
صلح صلح الجسد كله في تصرفاته، وإذا فسد فسد الجسد كله.
قال: (ألا وإن في الجسد مضغة)
والقلب من حيث إدراك المعلومات هو الذي يدرك، فعند المحققين من أهل العلم
والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة أنّ هذا معلق بالقلب يعني حصول
الإدراكات وحصول العلوم والصلاح والفساد والنيات إلى آخره هذا معلق بالقلب.
إذا كان كذلك؛ فما وظيفة الدماغ أو المخ؟
وظيفته الإمداد هذا على قول المحققين من أهل العلم.
فاختلفوا في العقل هل هو في القلب أم هو في الرأس؟
والصحيح أنه في القلب، والعقل ليس جُرْماً وإنما المقصود به إدراك المعقولات والدماغ وما في الرأس هذه وسيلة تمد القلب بالإدراكات.
القلب هل يدرك من جهة كونه مضغة؟
لا، يدرك من جهة كونه بيت الروح.
قوله -عليه الصلاة والسلام- ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
- أنه
لشدة مقاربته للحرام فإنه صوِّر كأنه واقع فيه فإن الذي يقع في الشبهات
يؤدي به ذلك إلى مواقعة الحرام كما مثل له عليه الصلاة والسلام بقوله: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)).
والقول الثاني:أنّ
الوقوع في الحرام أنّه لاشتباه الأمر عليه وعدم دخوله فيه بحجة أنه ربما
وقع في الحرام، يعني في أنَّ هذا الأمر حكمه الحرمة فوقع فيه من غير علم
وكان وقوعه فيه نتيجة لعدم استبرائه وبعده عن المشتبهات، وهذان توجيهان وجه
بهما جماعة من الشراح.
الكشاف التحليلي
تخريج الحديث
الإشارة إلى ألفاظ أخرى للحديث
درجة الحديث
ترجمة راوي الحديث: النعمان بن بشير رضي الله عنه
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
بيان كمال دين الإسلام وشموله
شرح قوله صلى الله عليه وسلم:(الحلال بيّن)
أمثلة على الحلال البيّن
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (الحرام بيّن)
أمثلة على الحرام البيّن
فائدة: من علم مثمناً أخذ بوجه محرم حرم عليه تناوله كابتياع المغصوب
البيان في الحلال والحرام متفاوت
قاعدة (الحلال بيّن والحرام بيّن)
مسألة: قد يقع الاشتباه في الحل والحرمة لأمرين:
الأمر الأول: تفاوت العلم واشتباه الأدلة على الناظر
الأمر الثاني: ورود الشك وله أحوال:
الأولى: أن يتيقن الأصل في حله أو حرمته أو يتيقن سبب ذلك، فيطرأ عليه الشك.
الثانية: ما لا يعلم له أصل ملك، وشك هل هو له أو لغيره؟
الثالثة: ما لا يعلم له أصل ملك، ومعه آخر من جنس المحظور فشك هل هو من المحظور أم لا؟
أسباب اختلاف العلماء في التحليل والتحريم:
السبب الأول: أن يخفى النص على العالم.
السبب الثاني: أن ينقل فيه نصَّان، أحدهما بالتحليل والآخر بالتحريم.
السبب الثالث: أن لا يكون فيه نَصٌّ صريحٌ فيؤخذ من مفهوم أو دلالة عموم.
السبب الرابع: أن يختلف في دلالة الأمر على الإيجاب أو الندب، والنهي على التحريم أو الكراهة.
تنبيه: لا بد أن يكون في الأمة من يوافق قوله الحق .
شرح قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)
اختلاف العلماء في تفسير المشتبهات
تفسير الإمام أحمد للشبهة
تفسير الإمام النووي للشبهة
خلاصة تعاريف (المشتبهات)
المسائل التي فيها خلاف لا تدخل في المشتبهات
أمثلة على المشتبهات
حكم المتشابه
أحوال المشتبهات
أقسام الناس في العلم بالمشتبهات
القسم الأول: مَن يَتَوَقَّفُ فيها؛ لاشتباهِهَا عليه.
القسم الثًّاني: مَن يَعْتَقِدُها على غيرِ ما هي عليه.
الأمور المشتبهة قد تتبين لبعض الناس دون بعض لمزيد علمٍ
أقسام الناس في الوقوع في المشتبهات مع عدم علمهم بحكم الله فيها:
القسم الأول: من يتقي هذه الشبهات.
القسمُ الثَّاني: مَن يَقَعُ في الشُّبُهات.
الاشتباه قد يكون في الحكم لكون الفرع متردداً بين أصول تتجاذبه
مسألة: هل يطيع الإنسان والديه في الشبهة؟
كلام السلف في ترك الشبهات
مسألة: من كان ماله مختلطاً حلالاً وحراماً فما حكمه؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فقد استبرأ لدينه وعرضه)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام)
للعلماء في معنى الوقوع في الحرام - هنا- توجيهان:
الأول: أن ذلك ذريعة إلى ارتكاب الحرام.
الثاني: أن المقدم على الشبهة لا يؤمن وقوعه في الحرام.
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)
معنى قوله:(أَلا
وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ،
وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِي القَلْبُ)
سبب تسمية القلب بذلك
سبب عناية الشريعة بالقلب
بيان منزلة القلب
هل القلب يمرض؟
معنى القلب السليم
بيان وظيفة القلب والدماغ
بيان محل العقل
كلام السلف عن أعمال القلب ومحبة الله تعالى
لا صلاح للعالم إلا بالإخلاص لله
دلالة الحديث على أن القول الحق في المسائل الاجتهادية واحد
الحديث دليل لقاعدة سد الذرائع
فوائد من الحديث:
الفائدة الأولى: أن الحلال بين والحرام بين.
الفائدة الثانية: الحث على القناعةِ بالحلال.
الفائدة الثالثة: أن العلم في الناس عزيز.
الفائدة الرابعة: الحث على تَوَقِّي الشُّبُهَات.
الفائدة الخامسة: الحَثُّ على طلب العلمِ.
الفائدة السادسة: الاحتياطُ براءةٌ للدِّينِ والعِرْض .
الفائدة السابعة: ضرْبُ الأمثالِ في التعليمِ.
العناصر
حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما -مرفوعاً-: (إنَّ الحَلالَ بيِّنٌ، وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ...)
تخريج الحديث
درجة الحديث
ترجمة راوي الحديث: النعمان بن بشير رضي الله عنه
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم:(الحلال بيّن)
أمثلة على الحلال البيّن
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (الحرام بيّن)
أمثلة على الحرام البيّن
فائدة: من علم مثمناً أخذ بوجه محرم حرم عليه تناوله كابتياع المغصوب
البيان في الحلال والحرام متفاوت
قاعدة (الحلال بيّن والحرام بيّن)
بيان أسباب الاشتباه في الحل والحرمة
أسباب اختلاف العلماء في التحليل والتحريم:
شرح قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)
اختلاف العلماء في تفسير المشتبهات
المسائل التي فيها خلاف لا تدخل في المشتبهات
أمثلة على المشتبهات
حكم المتشابه
أحوال المشتبهات
أقسام الناس في العلم بالمشتبهات
الأمور المشتبهة قد تتبين لبعض الناس دون بعض لمزيد علمٍ
أقسام الناس في الوقوع في المشتبهات مع عدم علمهم بحكم الله فيها:
الاشتباه قد يكون في الحكم لكون الفرع متردداً بين أصول تتجاذبه
مسألة: هل يطيع الإنسان والديه في الشبهة؟
كلام السلف في ترك الشبهات
مسألة: من كان ماله مختلطاً حلالاً وحراماً فما حكمه؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فقد استبرأ لدينه وعرضه)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)
معنى قوله:(أَلا
وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ،
وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِي القَلْبُ)
سبب تسمية القلب بذلك
سبب عناية الشريعة بالقلب
بيان منزلة القلب
هل القلب يمرض؟
معنى القلب السليم
بيان وظيفة القلب والدماغ
بيان محل العقل
كلام السلف عن أعمال القلب ومحبة الله تعالى
لا صلاح للعالم إلا بالإخلاص لله تعالى
دلالة الحديث على أن القول الحق في المسائل الاجتهادية واحد
الحديث دليل لقاعدة سد الذرائع
بيان بعض فوائد حديث ابن مسعود رضي الله عنه