22 Oct 2008
ح5: حديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (5- عَنْ أمِّ المُؤمِنينَ أمِّ عبْدِ اللهِ عائشةَ -رَضِي اللهُ عَنْهَا- قالَتْ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ:((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ)).
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الخامس
عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللهِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ : (مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)(1) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)
الشرح
كُنّيَتْ عائشة رضي الله
عنها بأم المؤمنين لأنها إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وجميع
أمهات المؤمنين تكنى بهذه الكنية، كما قال الله عزّ وجل: ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )[الأحزاب: الآية:6] فكل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين.
وقوله: أُمِّ عَبْدِ اللهِ هذه كنية، وهل وُلِدَ لها - رضي الله عنها- ولدٌ أم لا؟
والجواب:
أنه ذكر بعض أهل العلم أنه ولد لها ولد سقط لم يعش، وذكر آخرون أنه لم
يولد لها لا سقط ولا حي، ولكن هي تكنّت بهذه الكنية،لأن أحبُّ الأسماء إلى
الله: عبد الله، وعبد الرّحمن.(2)
وقوله: عَائِشَةَ
هذا اسم أُم المؤمنين وهي ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تزوجها النبي
صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين، وبنى بها ولها تسع سنين، وروت للأمة
علماً كثيراً وفقهاً غزيراً، فهي رضي الله عنها من المحدثات، ومن الفقيهات.
مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ
(من) شرطية. و: (أحدث) فعل الشرط، وجواب الشرط: (فهو رد) واقترن الجواب
بالفاء لأنه جملة اسمية، وكلما كان جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه
بالفاء، وعلى هذا قول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء:
اسمية طلبية وبجامد وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقوله: فَهُوَ رَدٌّ أي مردود. فـ: رَدٌّ مصدر بمعنى مفعول، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول، ومن إتيانه بمعنى المفعول قول الله تعالى:( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ ) [الطلاق: الآية6] أي محمول.
وقوله: مَنْ أَحْدَثَ أي أوجد شيئاً لم يكن .
فِيْ أَمْرِنَا أي في ديننا وشريعتنا.
مَا لَيْسَ مِنْهُ أي مالم يشرعه الله ورسوله.
فَهُوَ رَدٌّ فإنه مردود عليه حتى وإن صدر عن إخلاص، وذلك لقول الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ) [البينة:5] ولقوله تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85]
وفي روايةٍ لمسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ
وهذه الرواية أعم من رواية مَنْ أَحْدَثَ ومعنى هذه الرواية: أن من عمل أي
عمل سواء كان عبادة، أو كان معاملة، أو غير ذلك ليس عليه أمر الله ورسوله
فإنه مردود عليه.
* وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، دل عليه قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )[الأنعام: الآية153] وكذلك الآيات التي سقناها دالة على هذا الأصل العظيم.
وقد اتفق العلماء - رحمهم الله - أن العبادة لا تصح إلا إذا جمعت أمرين:
أولهما: الإخلاص .
والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمتابعة أخذت من هذا الحديث ومن الآية التي سقناها.
من فوائد هذا الحديث:
1. تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن قصد، ولو كان القلب يرق لذلك ويقبل عليه، لأن هذا من عمل الشيطان.
فإن قال قائل: لو أحدثت شيئاً أصله من الشريعة ولكن جعلته على صفة معينة لم يأتِ بها الدين، فهل يكون مردوداً أو لا .؟
والجواب: يكون مردوداً، مثل ما أحدثه بعض الناس من العبادات والأذكار والأخلاق وما أشبهها، فهي مردودة .
* وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمور ستة: سببه ، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.
فإذا لم توافق الشريعة في هذه الأمور الستة فهو باطل مردود، لأنه أحدث في دين الله ما ليس منه.
أولاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سبباً، مثل: أن يصلي ركعتين كلما دخل بيته ويتخذها سنة، فهذا مردود.
مع أن الصلاة أصلها مشروع، لكن لما قرنها بسبب لم يكن سبباً شرعياً صارت مردودة.
مثال آخر: لو أن أحداً أحدث عيداً لانتصار المسلمين في بدر، فإنه يرد عليه، لأنه ربطه بسبب لم يجعله الله ورسوله سبباً.
ثانياً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الجنس، فلو تعبّد لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة، مثال ذلك:
لو أن أحداً ضحى بفرس،فإن ذلك مردود عليه ولا يقبل منه، لأنه مخالف
للشريعة في الجنس، إذ إن الأضاحي إنما تكون من بهيمة الأنعام وهي: الإبل،
والبقر، والغنم.
أما لو ذبح فرساً ليتصدق بلحمها فهذا جائز، لأنه لم يتقرب إلى الله بذبحه وإنما ذبحه ليتصدق بلحمه.
ثالثاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في القدر: فلو تعبد شخص لله عزّ وجل بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه، ومثال ذلك:
رجل توضأ أربع مرات أي غسل كل عضو أربع مرات، فالرابعة لا تقبل، لأنها
زائدة على ما جاءت به الشريعة، بل قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم توضأ ثلاثاً وقال: ((مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ)) (3) .
رابعاً:
أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الكيفية: فلو عمل شخص عملاً، يتعبد به
لله وخالف الشريعة في كيفيته، لم يقبل منه، وعمله مردود عليه.
ومثاله: لو أن رجلاً صلى وسجد قبل أن يركع، فصلاته باطلة مردودة، لأنها لم توافق الشريعة في الكيفية.
وكذلك لو توضأ منكساً بأن بدأ بالرجل ثم الرأس ثم اليد ثم الوجه فوضوؤه باطل، لأنه مخالف للشريعة في الكيفية.
خامساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الزمان: فلو صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فالصلاة غير مقبولة لأنها في زمن غير ما حدده الشرع.
ولو ضحى قبل أن يصلي صلاة العيد لم تقبل لأنها لم توافق الشرع في الزمان.
ولو اعتكف في غير زمنه
فإنه ليس بمشروع لكنه جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمر ابن
الخطاب رضي الله عنه على الاعتكاف في المسجد الحرام حين نذره.
ولو أن أحداً أخّر العبادة
المؤقتة عن وقتها بلا عذر كأن صلى الفجر بعد طلوع الشمس غير معذور، فصلاته
مردودة، لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
سادساً:
أن يكون العمل موافقاً للشريعة في المكان: فلو أن أحداً اعتكف في غير
المساجد بأن يكون قد اعتكف في المدرسة أو في البيت، فإن اعتكافه لا يصح
لأنه لم يوافق الشرع في مكان الاعتكاف، فالاعتكاف محله المساجد.
فانتبه لهذه الأصول الستة وطبق عليها كل ما يرد عليك.
وهذه أمثلة على جملة من الأمور المردودة لأنها مخالفة لأمر الله ورسوله.
المثال الأول: من باع أو اشترى بعد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو ممن تجب عليه الجمعة فعقده باطل، لأنه مخالف لأمر الله ورسوله.
فلو وقع هذا وجب رد البيع،
فيرد الثمن إلى المشتري وترد السلعة إلى البائع، ولهذا لما أُخبِر النبي
صلى الله عليه وسلم بأن التمر الجيد يؤخذ منه الصاع بصاعين والصاعين بثلاثة
قال: رده، أي رد البيع لأنه على خلاف أمر الله ورسوله.
المثال الثاني: لو تزوج بلا ولي فالزواج باطل،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيّ)) (4).
المثال الثالث: لو طلق رجل امرأته وهي حائض فهل يقع الطلاق أو لا يقع؟.
والجواب فيه خلاف بين العلماء، ولما ذُكِر للإمام أحمد رحمه الله القول بأنه لا يقع الطلاق في الحيض قال: هذا قول سوء.
وهذا قول الإمام أحمد -رحمه الله- وناهيك به علماً في الحديث والفقه، وقد أنكر هذا القول .
وكذلك ينكرون القول بعدم وقع الطلاق في الحيض، ويرون أن الطلاق في الحيض يقع ويحسب طلقة.
لكن هناك من يقول: إنه لا
يقع كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والمسألة خلافية، لكني ذكرتها حتى
لا تتهاونوا في إفتاء الناس بعدم وقوع الطلاق في الحيض، بل الزموهم به
لأنهم التزموه،كما ألزم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس بالطلاق الثلاث
لما التزموه، مع أن طلاق ثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي
بكر وسنتين من خلافة عمر الثلاث واحدة، لكن لما تجرأ الناس على المحرم
ألزمهم به رضي الله عنه وقال: لا يمكن أن ترجع إلى زوجتك، فأنت الذي ألزمت
نفسك.
قلت هذا لأن الناس الآن
تلاعبوا، حيث يأتيك رجل عامي ويقول:إنه طلق زوجته في الحيض من عشر سنين،
فتقول له: فإنه قد وقع، فيقول لك: إنه طلاق في الحيض فيكون بدعياً، يقول
هذا وهو عامي لايعرف الكوع من الكرسوع لكن لأن له هوى.
فهل يمكن أن نفتي مثل هذا ونقول له:طلاقك لم يقع؟!
الجواب: لا يمكن، لأنه
أمامنا مسؤولية يوم القيامة، بل نقول: ألزمت نفسك فلزمك، أرأيت لو أنه حين
انتهت عدتها من تلك الطلقة وتزوجها رجل آخر فهل تأتي إليه وتقول:المرأة
امرأتي؟!!.
الجواب: لا يقول هذا، فإذا كان هو الذي ألزم نفسه بذلك فكيف نفتح له المجال.
على كل حال؛ الطلاق في
الحيض أكثر العلماء يقولون إنه يقع، والذين يقولون ليس بواقع قال الإمام
أحمد عن قولهم:إنه قول سوء، يعني: لا ينبغي أن يؤخذ به.
المثال الرابع: رجل باع أوقية ذهب بأوقية ونصف،فهذا البيع باطل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل سواء بسواء)) (5).
المثال الخامس:
رجل صلى في ثوب مغصوب فجمهور العلماء يقولون:تصح صلاته، لأن النهي ليس عن
الصلاة، وإنما النهي عن الثوب المغصوب سواء صليت أو لم تصل، فالنهي هنا لا
يعود إلى الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا تصلوا في الثوب
المغصوب، بل نهى عن الغصب وحرمه ولم يتعرض للصلاة.
المثال السادس: رجل صلى نفلاً بغير سبب في أوقات النهي،فعمله هذا مردود لأنه منهي عنه لنفسه.
المثال السابع: صام رجل عيد الفطر، فصومه هذا مردود لأنه منهي عنه لنفسه.
المثال الثامن: توضأ رجل بماء مغصوب، فإنه يصح لأن النّهي عن غصب الماء لا عن الوضوء بالماء المغصوب.
فإذا ورد النهي عن نفس العبادة فهي غير صحيحة، وإذا كان النهي عاماً فإنه لا يتعلق بصحة العبادة.
المثال التاسع:
رجل غش إنساناً بأن خدعه في البيع فالبيع صحيح، لأنّ النّهي عن الغش،
ولذلك إذا قبل المغشوش بهذا البيع صح البيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((لاَ تَلَقُّوا الجَلَبَ)) والجلب: هو الذي يأتي به الأعراب إلى البلد من المواشي والأطعمة وغير ذلك ((فَمَنْ تَلَقَّى فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوْقَ فَهُوَ بِالخَيَار)) (6) ولم يقل: فإن الشراء باطل، بل صحح الشراء وجعل الخيار لهذا المتلقى منه. وهو المغشوش المخدوع.
إذاً فرقٌ أن ينصبَّ
النّهي عن العمل نفسه أو عن أشياء خارجة عنه، فإذا كان عن العمل نفسه فلا
شك أنه مردود لأنك لو صححته لكان في ذلك محادّة لله ورسوله، أما إذا كان عن
أمر خارج فالعمل باق على الصحة، والإثم في العمل الذي فعلته وهو محرم .
المثال العاشر:
رجل حج بمال مغصوب بأن غصب بعيراً وحج عليها، فالحج صحيح، هذا هو قول
الجمهور وهو الصحيح، لكنه آثم بغصب هذه الناقة مثلاً - أو السيارة - لأن
هذا خارج عن العبادة، إذ قد يحج الإنسان بدون رحل .
وقال بعضهم: لا يصح الحج، وأنشد:
إذا حججتَ بمالٍ أصلُهُ سُحْتٌ .... ضفما حججتَ ولكنْ حجَّتِ العيرُ
رواية مسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ
منطوق الحديث: أنه إذا لم يكن عليه أمر الله ورسوله فهو مردود، وهذا في
العبادات لا شك فيه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على
مشروعيتها.
فلو أن رجلاً تعبد لله عزّ
وجل بشيءٍ وأنكر عليه إنسان، فقال: ما الدليل على أنه حرام؟ فالقول قول
المنكر فيقول: الدليل: هو أن الأصل في العبادات المنع والحظر حتى يقوم دليل
على أنها مشروعة.
أماغير العبادات فالأصل فيها الحل، سواء من الأعيان، أو من الأعمال فإن الأصل فيها الحل.
مثال الأعيان: رجل صاد طيراً ليأكله، فأُنكر عليه، فقال: ما الدليل على التحريم؟ فالقول قوله هو، لأن الأصل الحل كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) [البقرة: الآية29] .
ومثال الأعمال:
غير العبادات الأصل فيها الحل، مثال ذلك: رجل عمل عملاً في بيته، أو في
سيارته، أو في لباسه أو في أي شيء من أمور دنياه فأنكر عليه رجل آخر
فقال:أين الدليل على التحريم؟ فالقول قول الفاعل لأن الأصل الحل.
فهاتان قاعدتان مهمتان مفيدتان.
فعليه فنقول: الأقسام ثلاثة:
الأول: ما علمنا أن الشرع شرع من العبادات، فيكون مشروعاً.
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه، فهذا يكون ممنوعاً.
الثالث: ما لم نعلم عنه من العبادات، فهو ممنوع.
أما في المعاملات والأعيان: فنقول هي ثلاثة أقسام أيضاً:
الأول: ما علمنا أن الشرع أذن فيه، فهو مباح، مثل أكل النبي صلى الله عليه وسلم من حمر الوحش (7).
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه كذات الناب من السباع، فهذا ممنوع.
الثالث: ما لم نعلم عنه، فهذا مباح، لأن الأصل في غير العبادات الإباحة.
______________________________________________
(1) سبق تخريجه صفحة (13)
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء (2132).
(3)
-أخرجه الإمام أحمد- في مسند المكثرين، (6684) ، والنسائي – كتاب :
الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، (140، وابن ماجه، كتاب: الطهارة وسننها،
باب: ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه، (422)
(4)
- أخرجه أبو داود- كتاب: النكاح، باب: في الولي، (2083)، وابن ماجه -
كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، (1881)، والترمذي – كتاب: النكاح،
باب: ما جاء في استئمار البكر والثيب، (1108).
(5) - أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة، (2176)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا، (1584) (75)
(6) أخرجه مسلم، كتاب: البيوع، باب: تحريم تلقي الجلب، (1519) (17)
(7) أخرجه مسلم كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، (1941)،(37)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1)تَرْجَمَةُ الرَّاوِي:
أُمُّ المُؤْمِنِينَ في التكريمِ، أُمُّ عبدِ اللهِ، كَنَّاهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَتْهُ أَنْ يُكَنِّيَهَا بِابنِ أُختِهَا أَسْمَاءَ، عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ-رَضِيَ اللهُ عنه-ُ. عائِشَةُ بنتُ الصِّدِّيقِ الأكبرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، سَيِّدَةُ الأزوَاجِ بعدَ خَديجَةَ،
حَبِيبَةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفَقِيهَةُ
الكُبْرَى، مَاتَتْ سَنَةَ سبعٍ أَوْ ثمانٍ وخمسينَ عَنْ ستٍّ وستِّينَ
سنةً، ودُفِنَتْ بالبقيعِ مَعَ صُوَيْحِبَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ-. - وعَلى معرفةِ أقوالِ الرَّاسِخِينَ في العِلمِ، وكَمْ
مِنْ بِدَعٍ بالجَهْلِ تُجْعَلُ سُنَنًا، وكَمْ مِنْ سُنَنٍ بهِ
تُعْتَقَدُ بِدَعًا، وهيَ أَقبَحُ المَعَاصِي؛ لِمَا فيهَا مِنَ الإِدخَالِ
في الدينِ الذي لا يَجُوزُ إِدْخَالُ غَيْرِهِ فيهِ، وإيهامِ أنَّهُ
ناقِصٌ يَحْتَاجُ إلى الزيادةِ -وقدْ أَكْمَلَهُ اللهُ تَعَالَى-
واعْتِقَادِ البَاطِلِ حَقًّا.
الشرحُ:
قالَتْ عائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَحْدَثَ)) ابْتَدَعَ وأَدْخَلَ، ((في أَمْرِنَا))شَرْعِنَا((هذَا))الكَامِلِ الذي لا يُزادُ فيهِ ولا يُنْقَصُ، ((مَا لَيْسَ مِنْهُ))
بِوَجْهٍ من الوُجوهِ، بأَنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ كتابٌ ولاَ سُنَّةٌ،
ولَمْ يُؤْخَذْ مِنهُمَا أَخْذًا صَحِيحًا؛ إذِ المَأْخُوذُ مِنهُمَا
أَخْذًا مُعْتَبَرًا مَقْبُولٌ.
((فَهْوَ رَدٌّ)) مَرْدُودٌ عِندَ اللهِ تعالَى، أَوْ مَرْدُودٌ على وجهِ صاحِبِهِ.
رَوَاهُ البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ:((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا)) لا يَرْجِعُ إلى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ ((فَهُوَ رَدٌّ)).
البِدْعَةُ: مَا أُدْخِلَ في الدينِ ولَيْسَ مِنْهُ بِوَجْهٍ.
ومَعْرِفَةُ البِدْعَةِ من السُّنةِ والمَشروعِ مِنْ أَهمِّ الأُمورِ وأَصعَبِهَا.
وهيَ موقوفَةٌ على:
- معرفَةِ الكتَابِ والسنَّةِ والإجْمَاعِ، ومَا أُخِذَ مِنْ ذَلكَ بوجهٍ مُعْتَبَرٍ.
ولذا قَلَّمَا يُوَفَّقُ صَاحِبُهَا للتوبةِ
؛ لأنَّ مَنِ اعْتَقَدَ الشَّيْءَ حقًّا لا يَتُوبُ عَنْهُ، وهيَ في
الأُصُولِ والعقائِدِ أَقْبَحُ مِنْهَا في الفُروعِ، وأَبَى اللهُ أَنْ
يَقْبَلَ عَمَلَ صاحبِ البِدعَةِ حتَّى يَتُوبَ مِنْ بِدْعَتِهِ.
وقدْ ظَهَرَتْ في زَمَانِنَا البِدَعُ والفِتَنُ، وَمَاتَت السُّنَنُ ، فَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا خالِيًا عن دَنَسِهَا وَ اللهُ الْحَافِظُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
منزلةُ هذا الحديثِ:
قيلَ: هذا الحديثُ هوَ نصفُ الدِّينِ ؛ لأنَّهُ يُمَثِّلُ الأعمالَ الظاهرةَ، ويُمَثِّلُ الشرطَ الثانيَ مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ العملِ، وهوَ المُتَابَعَةُ. الرَّاوِي:
عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ ،
أَسْلَمَتْ وهيَ صغيرةٌ، وعَقَدَ عليها الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ وعُمُرُها سِتٌّ، ودَخَلَ بها وعُمُرُها تِسْعٌ، وكانتْ عَالِمَةً
فقيهةً، رَوَتْ ثلاثةَ آلافٍ ومِائتَيْنِ وعَشَرَةَ أحاديثَ وهيَ أحبُّ
الناسِ إلى الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
لَمْ
يَتَزَوَّجْ بِكْراً غَيْرَها، تُوُفِّيَ عنها وعُمُرُها ثمانيَةَ عَشَرَ
عاماً، وماتتْ في السنةِ السابعةِ والخمسينَ للْهِجْرَةِ المُباركةِ.
بيانُ موضوعِ الحديثِ:
وُجُوبُ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وتحريمُ البِدْعَةِ.
المُفْرَدَاتُ:
((مَنْ أَحْدَثَ)) أيْ: مَن ابْتَدَعَ واسْتَحْدَثَ شيئاً ليسَ لهُ أصلٌ، لا في كتابٍ ولا سُنَّةٍ.
وفي الحديثِ: ((كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ)) الحديثَ.
ويكونُ الإحداثُ:
- في الأقوالِ؛ كالتَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ.
- ويكونُ في الأفعالِ ؛
كاحتفالاتِ المَوَالِدِ، والذَّهابِ لِمَا يُسَمَّى المَزَارَاتِ،
والدُّعَاءِ بعدَ الصلواتِ بطريقةٍ جَمَاعِيَّةٍ، والصيامِ مِنْ مُنْتَصَفِ
الليلِ، وهَكَذا.
والبِدْعَةُ خطيرةٌ جِدًّا ؛ إذْ هيَ مرتبةٌ مِنْ مَراتبِ دعوةِ الشيطانِ، لا يَلِيهَا إلاَّ الدعوةُ إلى الشِّرْكِ، وهيَ انتقادٌ للشريعةِ الإسلامِيَّةِ.
والبِدْعَةُ:
هيَ التَّعَبُّدُ للَّهِ بما لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ، وبما ليسَ عليهِ
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولا خُلَفَاؤُهُ الراشدونَ، قالَ تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى: 21].
وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمُهْتَدِينَ الرَّاشِدِينَ))الحديثَ.
((في أَمْرِنَا)) أيْ: دِينِنَا الذي شَرَعَهُ اللَّهُ تعالى، أوْ ما أُمِرْنَا بهِ مِنْ عندِ اللَّهِ تعالى.
وقدْ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ، يَقُولُ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآيَةَ.
وما
تَرَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خيراً إلاَّ دَلَّ عليهِ، ولا
شَرًّا إلاَّ حَذَّرَ منهُ؛ فقدْ تَرَكَنَا على المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ
لَيْلُها كنَهَارِهَا.
(( فَهُوَ رَدٌّ)) أيْ:
مردودٌ عليهِ، وعليهِ إِثْمُهُ وإِثْمُ مَنْ تَبِعَهُ عليهِ؛ لأنَّهُ لا
مَكَانَ لهُ في الدِّينِ، ولوْ كانَ في وُجُودِهِ خَيْرٌ لَشَرَعَهُ
اللَّهُ تعالى وَلَجَاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وروايَةُ الإمامِ مُسْلِمٍ تُفِيدُ: أنَّ مَنْ عَمِلَ عملاً ليسَ من الشرعِ فهوَ ردٌّ، فلا بُدَّ مِن اتِّبَاعِ الكتابِ والسُّنَّةِ في العملِ.
الفوائدُ:
1- أنَّ نساءَ النبيِّ أُمَّهَاتُ المؤمنينَ.
2- جَوَازُ التَّكَنِّي ولوْ لمْ يَكُنْ وَلَدٌ.
3- حثُّ النساءِ على التَّفَقُّهِ في الدينِ.
4- ينبغي أنْ تكونَ المرأةُ دَاعِيَةَ خَيْرٍ.
5- إِكْمَالُ اللَّهِ تعالَى للشَّرِيعَةِ.
6- بيانُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للدِّينِ كُلِّهِ.
7- وُجُوبُ الاتِّبَاعِ.
8- تَحْرِيمُ الابتداعِ.
9- الرَّدُّ على أهلِ البِدَعِ.
10- مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ العملِ مُوَافَقَتُهُ للكتابِ والسُّنَّةِ.
11- إِبْطَالُ المُنْكَرَاتِ.
12- أنَّ هذا الحديثَ أَصْلٌ منِْ أُصُولِ الدِّينِ.
13- أنَّ الأصلَ في العِبَادَاتِ الحَظْرُ.
14- أنَّ الأصلَ في العاداتِ الإِبَاحَةُ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
- قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمَهُ اللَّهُ: (هَذَا الْحَدِيثُ معدودٌ مِن أُصولِ الإِسْلامِ، وقاعدةٌ مِن قواعدِ الدِّينِ).
- وقالَ الإمامُ النَّوويُّ رحمهُ اللَّهُ: (هَذَا الْحَدِيثُ ممَّا يَنْبَغِي حِفْظُهُ واستعمالُهُ فِي إبطالِ الْمُنْكَرَاتِ، وإشاعةُ الاسْتِدْلالِ بِهِ).
- وقالَ الطُّرَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (هَذَا
الْحَدِيثُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى: نِصفَ أَدِلَّةِ الشَّرعِ؛ لأنَّ
الْمَطْلُوبَ بالدَّليلِ إِثْبَاتُ حُكْمٍ أَو نفيُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ
مُقَدِّمَةٌ كُبْرَى فِي إِثْبَاتِ كلِّ حُكْمٍ شرعيٍّ أَو نفيِهِ).
- وقالَ ابنُ رجبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:(وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عظيمٌ مِن أُصولِ الإِسْلامِ، كَمَا أنَّ حديثَ ((الأعمالُ بالنِّيَّاتِ))مِيزانٌ للأعمالِ فِي باطنِهَا، وَهُو ميزانٌ للأعمالِ فِي ظاهرِهَا).
النَّهيُ عَن الإحداثِ فِي الدِّينِ:
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)). أي: مَن أَنْشَأَ واخْتَرَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، وشَرْعِهِ الَّذي رَضِيَهُ لَنَا مِن قِبَلِ هواهُ ونفسِهِ، ممَّا يُنافِي الدِّينَ ويُناقِضُهُ وَلا يَشْهَدُ لَه مِن أُصولِ الدِّينِ وقواعدِهِ العامَّةِ،
فهذا الَّذي اخْتَرَعَهُ وأَنشأَهُ مَردودٌ عَلَى صاحبِهِ، لا يَنتفعُ بِه
فِي دِينِهِ ودُنياهُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِك مَنْطُوقُ الْحَدِيثِ.
وَهَذَا
الْحَدِيثُ الَّذي يُؤَصِّلُ هَذِه القاعدةَ العظيمةَ يَشهدُ لَه مِن
الْكِتَابِ والسُّنَّةِ الكثيرُ، مَا يَطولُ بِه الْمَقامُ لَو
ذَكَرْنَاهُ.
الإحداثُ فِي العِباداتِ:
الأصلُ فِي العباداتِ التَّحريمُ ،
فكلُّ عبادةٍ لَم يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَلا رسولُهُ يحرُمُ عَلَى المسلمِ
أَنْ يَتقرَّبَ بِهَا، وَعَلَى ضوءِ هَذِه القاعدةِ الَّتي أصَّلَها
علماؤُنا فكلُّ مَن تقرَّبَ بعبادةٍ فعليهِ أَنْ يُثْبِتَ دَلِيلَ
مشروعيَّتِهَا لِمَن طَالَبَهُ بِذَلِك.
ولكنْ مِنْ حَيْثُ الردُّ وَعَدَمُ القَبولِ لا بدَّ مِن بَيَانِ الآتي:
1-ما كَانَ قُربةً فِي عِبادةٍ لا يَكُونُ قُربةً فِي كلِّ المواطنِ.
فمثلاً: كَشْفُ
الرَّأسِ أثناءَ الإحرامِ قُربةٌ مشروعةٌ، وَالْقِيَامُ قُربةٌ مشروعةٌ
أثناءَ الصَّلاةِ والآذانِ، وَلَكِنْ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَقَرَّبَ
بالقيامِ، أَو كَشْفِ الرَّأسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَم يَثْبُتْ بنَصٍّ؛
يَكُونُ بِذَلِك وَقَعَ فِي الابتداعِ الَّذي نَهَى عَنْه الدِّينُ،
وَيَكُونُ عملُهُ مَردودًا عَلَيْهِ غَيْرَ مَقبولٍ.
رأَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً قائمًا فِي الشَّمسِ، فسألَ عَنْه، فقيلَ: (إِنـَّهُ
نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَأَنْ يَصُومَ،
فَأَمرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْعُدَ
ويَسْتَظِلَّ، وَأَنْ يَصومَ)، فلم يَجعلِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القيامَ وبُروزَهُ للشَّمسِ قُربةً، يَجِبُ الإيفاءُ بِهَا.
2- ما كَانَ خارجًا عَن الشَّرعِ بالكُلِّيَّةِ:
العِباداتُ الخارجةُ عَن الشَّرعِ بالكلَّيَّةِ
مِثْلُ مَن تَقرَّبَ بسَماعِ الْمَلاهِي، أَو بالرَّقصِ أَو بغيرِهَا مِن
الْخُرافاتِ والبِدَعِ الَّتي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلطانٍ،
الَّتي عَمَّتْ وانْتَشَرَتْ فِي الْعَالَمِ الإسلاميِّ، وَأَصْبَحَتْ
دِينًا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، يَشِبُّ عَلَيْهَا الْمَرءُ ويَهْرَمُ؛ فهذه مَردودةٌ عَلَى صاحبِهَا، لا يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْه، بَل حَجَبَ اللَّهُ التَّوبةَ عَن صاحبِهَا حتَّى يَدَعَهَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ حَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ)) والقائمُ بِهَذِه البِدعةِ يَدْخُلُ تحتَ قولِهِ جلَّ وَعَلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.
3- الزِّيادةُ عَلَى الْعَمَلِ المشرُوعِ:
الزِّيادةُ فِي الْعَمَلِ الَّذي شرعهُ اللَّهُ سبحانَهُ مردودةٌ غَيْرُ مقبولةٍ، وَلَكِنْ مِن حَيْثُ بطلانُ الْعَمَلِ الَّذِي زِيدَ فِيهِ.
- تارةً: يَكُونُ الْعَمَلُ باطلاً، كمَنْ تعمَّدَ زِيَادَةَ ركعةٍ فِي الصَّلاةِ المفروضةِ.
- وتارةً: لا تُبْطِلُ الْعَمَلَ كمَن توضَّأَ أربعًا أربعًا.
لذلك
لا يَجوزُ الاسْتِدْلالُ بعمومِ هَذَا الْحَدِيثِ ببُطلانِ كلِّ عملٍ
مشروعٍ زِيدَ فِيهِ، وَلَكِنْ لا بدَّ مِن النَّظرِ فِي الْعَمَلِ الَّذي
زِيدَ فِيهِ، وتَتَبُّعِ أَدِلَّتِهِ، وتَقَصِّي أَقْوَالِ أَهْلِ
الْعِلْمِ فِيهِ، حتَّى لا نُبْطِلَ أعمالَ العِبادِ دُونَ بَيِّنَةٍ.
4- الإخلالُ بِشَيْءٍ مِن الْعَمَلِ المشروعِ:
مَنْ
قامَ بعملٍ يَتَقَرَّبُ بِه إِلَى ربِّهِ جلَّ وَعَلا، ثمَّ أَخَلَّ
بِبَعْضِ هَذَا الْعَمَلِ، فمِن حَيْثُ قَبولُ الْعَمَلِ وبُطلانُهُ لا
بدَّ مِن النَّظرِ بِمَا أَخَلَّ، فَإِنْ أَخَلَّ بشرطٍ مِن شُروطِ
الْعَمَلِ -كمَنْ تَرَكَ الطَّهارَةَ للصَّلاةِ- فهنا يُقالُ ببُطلانِ
عَمَلِهِ وعَدَمِ قَبولِهِ، وَكَذَلِك مَن أَخَلَّ بتَرْكِ رُكْنٍ يَكُونُ
باطلاً مَردُودًا عَلَى صاحبِهِ، كمَن تَرَكَ سَجْدَةً مِن الرَّكعةِ.
أمَّا مَن أَخَلَّ بِشَيْءٍ لا يُوجِبُ بُطلانَ الْعَمَلِ المشروعِ ،
فهنا لا يُقالُ ببُطلانِ الْعَمَلِ أَو رَدِّهِ، بَل يُقالُ بنُقصانِهِ،
كمَنْ تَرَكَ صَلاةَ الجماعةِ وصلَّى فِي بيتِهِ، فصلاتُهُ صَحِيحَةٌ
وَلَكِنْ عَلَيْهِ إثمُ تركِ صَلاةِ الجماعةِ عِنْدَ مَن يَرَى وُجوبَ
صَلاةِ الجماعةِ.
الإحداثُ فِي الْمُعاملاتِ:
الأصلُ فِي الْمُعَامَلاتِ الحِلُّ ، فمَنْ قَالَ بِحُرمةِ مُعَامَلَةٍ فعليهِ أَنْ يُقيمَ الدَّليلَ عَلَى ذَلِك.
والإحداثُ فِي الْمُعَامَلاتِ يَكُونُ عَلَى أَوْجُهٍ مِنْهَا:
1- ما كَانَ مِنْهَا بديلاً لعُقودٍ شَرْعِيَّةٍ:
فالعُقودُ
الَّتي وَضَعَها النَّاسُ كبديلٍ لعقودٍ شرعيَّةٍ فهذه لا شكَّ فِي
بُطلانِهَا، وَلا يَستفيدُ مِن بُنودِهَا كِلا الطَّرفينِ، ويَشْهَدُ
لِذَلِك: عَن
أَبِي هُرَيْرَةَ، وزيدِ بْنِ خالدٍ:
أنَّ رجلاً مِن الأعرابِ أتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فقالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ إلا قضيْتَ لِي
بكتابِ اللَّهِ، وَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ، وهو أَفْقَهُ مِنْه: نَعَم،
فاقْضِ بينَنا بكتابِ اللَّهِ، وائْذَنْ لِي.
فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ))
قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بامرأتِهِ، وإنِّي
أُخْبِرْتُ أنَّ عَلَى ابنِيَ الرَّجمَ فافْتَدَيْتُ مِنْه بمائةِ شاةٍ
ووَليدةٍ.
فسألْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فأَخْبَرُونِي أنَّ عَلَى ابنِي جَلْدَ مِائَةٍ وتغريبَ عامٍ، وإنَّ عَلَى امرأةِ هَذَا الرَّجمَ ؟
فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((وَالـَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لأََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الوَليدةُ
والْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ
عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ - إِلَى امْرَأَةِ
هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)).
قالَ: فغَدَا عَلَيْهَا فاعترفَتْ، فَأَمرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرُجِمَتْ.
2- العقودُ الَّتي نَهَى عَنْهَا الشَّرعُ:
أ- كَوْنُ المعقودِ عَلَيْهِ لَيْس مَحَلاًّ للعَقْدِ:
مثلُ نِكاحِ مَن يَحْرُمُ نِكاحُهُ بِسَبَبِ القَرابةِ أَو النَّسبِ أَو
للجَمْعِ، فهذا العَقْدُ باطلٌ؛ لأنَّ فِيهِ تَعَدِّيًا عَلَى حَقِّ
اللَّهِ، الَّذي حَرَّمَ علينا أَنْ نَنْكِحَ الْمَحَارِمَ بِسَبَبِ
النَّسبِ أَو القَرابةِ، أَو الرِّضاعةِ، أَو للجَمْعِ.
ب-فواتُ شرطٍ مِن العَقْدِ لا يَسقُطُ بالتَّراضي، مِثْلُ نِكاحِ الْمُعْتَدَّةِ، والنِّكاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَهَذَا العقدُ باطلٌ، رُوِيَ ((أنَّ
النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ رجلٍ وامرأةٍ
تَزَوَّجَها وَهِي حُبْلَى فَرَدَّ النِّكاحَ لوُقوعِهِ فِي الْعِدَّةِ)).
ج-عقودُ مَا حرَّمَ اللَّهُ سُبحانَهُ: كَبَيْعِ
الْخَمْرِ، والْمَيْتَةِ، والْخِنزيرِ، والأصنامِ، والكلبِ، والرِّبَا،
وَسَائِرِ مَا نُهِيَ عَن بيعِهِ، فهذه عُقودٌ باطلةٌ مَردودةٌ، لا تُفيدُ
الْمِلْكَ، ثَبَتَ عَنْه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّهُ أَمَرَ
مَنْ بَاعَ صَاعًا مِن تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ أَنْ يَرُدَّهُ.
3- العقودُ الَّتي يَحْصُلُ بِهَا ظُلْمٌ لأَحَدِ الطَّرفينِ :
مِثْلُ: إنكاحِ
الْوَلِيِّ دُونَ إِذْنِ البنتِ، فهذا مِن حَيْثُ الردُّ والقَبولُ
يَتَوَقَّفُ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِذَا تَنَازَلَ عَن حقِّهِ
فالعَقْدُ صحيحٌ، وَإِنْ لَم يَتَنَازَلْ فَهُو مَردودٌ باطلٌ، ثبَتَ عَن
النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدُّ نِكاحِ امرأةٍ ثَيِّبٍ
زُوِّجَتْ دُونَ إذنِهَا.
ورُوِيَ عَنْه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ خَيَّرَ امرأةً زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذنِهَا.
وكذلك: مَن
تُصُرِّفَ بمالِهِ دُونَ إذنِهِ بصَدَقَةٍ أَو بغيرِها، فتَتَوَقَّفُ
صِحَّةُ العقدِ عَلَى رِضا صَاحِبِ الحقِّ، فَإِنْ أَمْضَاهُ فَهُو صحيحٌ،
وَإِنْ لَم يُمْضِهِ فَهُو باطلٌ؛ لأنَّ النَّهيَ هُنَا كَمَا يَقُولُ
الْعُلَمَاءُ: لِحَقِّ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، ويَسْقُطُ برِضَاهُ إِذَا
تَنَازَلَ عَنْه.
الْخُلاصةُ:
يجبُ
عَلَى طالبِ الْعِلْمِ التَّريُّثُ وَعَدَمُ التَّسرُّعِ بالحكمِ عَلَى
الْعَمَلِ بالردِّ وَعَدَمِ الْقَبُولِ استدلالاً بِهَذَا الْحَدِيثِ،
ويجبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي
القضيَّةِ، ويَعِيَ الضَّوابطَ والأصولَ الَّتي مِن خلالِهَا يحكمُ عَلَى
الْعَمَلِ بالردِّ وَعَدَمِ الْقَبُولِ.
فوائدُ الْحَدِيثِ:
1- النَّهيُ يَقتضي الفسادَ.
-قَالَ النَّوويُّ:
(فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لَمِن يَقُولُ مِن الأصوليِّينَ: إنَّ النَّهيَ
يَقتضِي الفسادَ ومَن قَالَ: لا يَقتضي الفسادَ يَقُولُ: هَذَا خبرُ
وَاحِدٍ، وَلا يَكفي فِي إِثْبَاتِ هَذِه القاعدةِ الْمُهِمَّةِ، وَهَذَا
جَوَابٌ فاسدٌ).
- وَقَالَ الحافظُ: (وفيهِ أنَّ النَّهيَ يَقتضي الفسادَ).
2- فِي الْحَدِيثِ أنَّ الإِسْلامَ دينٌ كاملٌ لا نَقْصَ فِيهِ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1) هذا الحديثُ خَرَّجَاهُ فِي (الصَّحيحَيْنِ) مِنْ حديثِ القاسِمِ بنِ محمَّدٍ، عنْ عَمَّتِهِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا، وألفاظُ الحديثِ مُخْتَلِفَةٌ، ومعناهَا مُتَقَارِبٌ.
وفي بعضِ ألفاظِهِ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْس منه فَهُوَ رَدٌّ)).
وهَذا الحديثُ أصْلٌ عظيمٌ مِنْ أُصُولِ الإسلامِ ، وهوَ كالمِيزانِ للأعمالِ فِي ظاهِرِهَا، كما أنَّ حديثَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))ميزانٌ للأعمالِ فِي باطِنِهَا،
فكما أنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا يُرادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تعالى فلَيْسَ
لعامِلِهِ فيهِ ثوابٌ، فكذلكَ كُلُّ عَمَلٍ لا يكونُ عليهِ أمْرُ اللَّهِ
ورسولِهِ فهوَ مَرْدُودٌ على عامِلِهِ، وكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ
ما لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ورسولُهُ فليسَ مِن الدِّينِ فِي شيءٍ.
وسيأتِي حديثُ العِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَنْ
يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ
بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ
الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلالَةٌ)).
وكانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ فِي خُطْبَتِهِ: ((أَصْدَقُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا)).
وسَنُؤَخِّرُ الكلامَ على المُحْدَثاتِ إلى ذِكْرِ حديثِ العِرْبَاضِ المُشَارِ إليهِ، ونَتَكَلَّمُ هَا هُنَا على الأعمالِ التي ليسَ عليهَا أَمْرُ الشَّارِعِ وَرَدِّهَا. فهذا الحَدِيثُ يَدُلُّ بمَنْطُوقِهِ على أنَّ كُلَّ عَمَلٍ ليسَ عليهِ أَمْرُ الشَّارِعِ فهوَ مَرْدُودٌ. وإنْ ماتَ ولمْ يَفْعَلْ شيئًا مِنْ ذلكَ، فقالَ مُجَاهِدٌ: (هيَ مِيراثٌ). والجمهورُ على أنَّهَا لا تَبْطُلُ. وهلْ للوَرَثَةِ الرُّجُوعُ فيهَا أمْ لا؟
ويَدُلُّ بمفهومِهِ على أنَّ كلَّ عَمَلٍ عليهِ أَمْرُهُ فهوَ غيرُ مَرْدُودٍ.
والمُرادُ بأمرِهِ هَا هُنَا:
دِينُهُ وشَرْعُهُ، كالمرادِ بقولِهِ فِي الروايَةِ الأخرَى: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ)).
فالمعنَى إذًا: أنَّ مَنْ كانَ عَمَلُهُ خَارِجًا عن الشَّرْعِ ليسَ مُتَقَيِّدًا بالشَّرْعِ فهوَ مَرْدُودٌ.
وقولُهُ: ((لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا))
إِشَارَةٌ إلى أنَّ أعمالَ العامِلِينَ كُلِّهم يَنْبَغِي أنْ تكُونَ تحتَ
أحكامِ الشَّريعةِ، وتكونَ أحكامُ الشَّريعةِ حاكِمَةً عليهَا بأمرِهَا
ونَهْيِهَا، فمَنْ كانَ عَمَلُهُ جارِيًا تحتَ أحكامِ الشَّرعِ مُوَافِقًا
لهَا فهوَ مَقْبولٌ، ومَنْ كانَ خارِجًا عنْ ذلكَ فهوَ مَرْدُودٌ.
والأعمالُ قسمانِ:
عباداتٌ، ومُعَامَلاتٌ.
فأمَّا العباداتُ ، فمَا كانَ مِنهَا خارِجًا عنْ حُكْمِ اللَّهِ ورسولِهِ بالكُلِّيَّةِ فهوَ مَرْدودٌ على عامِلِهِ، وعامِلُهُ يَدْخُلُ تحتَ قولِهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشُّورَى: 21].
فمَنْ
تَقَرَّبَ إلى اللَّهِ بعَمَلٍ لمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ ورسولُهُ قُرْبَةً
إلى اللَّهِ، فَعَمَلُهُ باطِلٌ مَرْدُودٌ عليهِ، وهوَ شَبِيهٌ بحالِ
الذينَ كانَتْ صَلاتُهم عندَ البيتِ مُكَاءً وتَصْدِيَةً، وهذا كمَنْ
تَقَرَّبَ إلى اللَّهِ تعالَى بسَمَاعِ المَلاهِي، أوْ بالرَّقْصِ، أوْ
بكَشْفِ الرَّأسِ فِي غيرِ الإحرامِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ مِن المُحْدَثَاتِ
التي لمْ يُشَرِّع اللَّهُ ورسولُهُ التَّقرُّبَ بهَا بالكُلِّيَّةِ.
وليسَ ما كانَ قُرْبَةً فِي عبادَةٍ يكونُ قُرْبَةً فِي غيرِهَا مُطْلَقًا ، (فقدْ
رَأَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً قائِمًا فِي
الشمسِ، فسأَلَ عنهُ، فقيلَ: إنَّهُ نَذَرَ أنْ يَقُومَ ولا يَقْعُدَ ولا
يَسْتَظِلَّ وأنْ يَصُومَ ((فأَمَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَقْعُدَ ويَسْتَظِلَّ، وأنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ))).
فلَم يَجْعَلْ قيامَهُ وبُرُوزَهُ للشَّمسِ قُرْبَةً يُوفَى بنَذْرِهِمَا.
وقدْ
رُوِيَ أنَّ ذلكَ كانَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ عندَ سماعِ خُطْبَةِ النَّبيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهوَ على المِنْبَرِ، فنَذَرَ أنْ
يَقُومَ ولا يَقْعُدَ ولا يَسْتَظِلَّ ما دَامَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ؛ إِعْظَامًا لسماعِ خُطْبَةِ النَّبيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولمْ يَجْعَل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلكَ قُرْبَةً تُوَفِّي بنَذْرِهِ، معَ أنَّ القِيامَ
عِبادةٌ فِي مواضِعَ أُخَرَ، كالصلاةِ والأَذَانِ والدُّعاءِ بعَرَفَةَ،
والبُرُوزَ للشَّمسِ قُرْبَةٌ للْمُحْرِمِ.
فدَلَّ
على أنَّهُ ليسَ كُلُّ ما كانَ قُرْبَةً فِي مَوْطِنٍ يكونُ قُرْبَةً فِي
كلِّ المواطِنِ، وإنَّما يُتَّبَعُ فِي ذلكَ ما وَرَدَتْ بِهِ الشَّريعَةُ
فِي مواضِعِهَا.
وكذلكَ مَنْ تَقَرَّبَ بعبادَةٍ نُهِيَ عنهَا بِخُصُوصِهَا، كمَنْ صامَ يَوْمَ العِيدِ، أوْ صَلَّى فِي وَقْتِ النَّهْيِ.
- وأمَّا مَنْ عَمِلَ عملاً أصْلُهُ مَشْرُوعٌ وقُرْبَةٌ، ثمَّ أَدْخَلَ فيهِ ما ليسَ بمَشْرُوعٍ، أوْ أَخَلَّ فيهِ بمَشْرُوعٍ، فهذا مُخَالِفٌ أيضًا للشَّريعَةِ بقَدْرِ إخلالِهِ بما أَخَلَّ بِهِ، أوْ إِدْخَالِهِ ما أَدْخَلَ فيهِ.
وهلْ يكُونُ عَمَلُهُ منْ أَصْلِهِ مَرْدُودًا عليهِ أمْ لا؟
فهذا لا يُطْلَقُ القولُ فيهِ برَدٍّ ولا قَبُولٍ ، بلْ يُنْظَرُ فيهِ:
- فإنْ كانَ ما أَخَلَّ بِهِ مِنْ أجزاءِ العَمَلِ أوْ شُرُوطِهِ مُوجِبًا
لِبُطْلانِهِ فِي الشَّريعَةِ، كمَنْ أَخَلَّ بالطَّهَارَةِ للصَّلاةِ معَ
القُدْرَةِ عليهَا، أوْ كمَنْ أخَلَّ بالرُّكوعِ أوْ بِالسُّجُودِ أوْ
بالطُّمَأْنِينَةِ فيهما، فهذا عَمَلُهُ مَرْدُودٌ عليهِ، وعليهِ إعادَتُهُ
إنْ كانَ فَرْضًا.
- وإنْ كانَ ما أَخَلَّ بهِ لا يُوجِبُ بُطلانَ العَمَلِ، كَمَنْ
أخَلَّ بالجماعَةِ للصَّلاةِ المكتوبَةِ عندَ مَنْ يُوجِبُهَا ولا
يَجْعَلُهَا شَرْطًا، فَهَذَا لا يُقالُ: إنَّ عمَلَهُ مردودٌ مِنْ أصلِهِ،
بلْ هوَ ناقِصٌ.
- وإنْ كانَ قدْ زادَ فِي العمَلِ المشروعِ ما ليسَ بمشروعٍ، فَزِيَادَتُهُ مردودةٌ عليهِ، بمعنَى أنَّهَا لا تكونُ قُرْبَةً ولا يُثابُ عليهَا، ولكنْ:
- تارَةً: يَبْطُلُ بهَا العَمَلُ منْ أَصْلِهِ فيكونُ مردودًا، كمَنْ زادَ فِي صلاتِهِ رَكْعَةً عَمْدًا مثلاً.
- وتارَةً: لا يُبْطِلُهُ ولا يَرُدُّهُ مِنْ أصلِهِ، كمَنْ تَوَضَّأَ أرْبَعًا أربعًا، أوْ صامَ اللَّيلَ معَ النَّهارِ وواصَلَ فِي صيامِهِ.
وقدْ يُبَدِّلُ بَعْضَ ما يُؤْمَرُ بهِ فِي العبادَةِ بما هوَ مَنْهِيٌّ عنهُ ،
كمَنْ سَتَرَ عَوْرَتَهُ فِي الصَّلاةِ بثَوْبٍ مُحَرَّمٍ، أوْ تَوَضَّأَ
للصَّلاةِ بمَاءٍ مَغْصُوبٍ، أوْ صَلَّى فِي بُقْعَةٍ غَصْبٍ، فهذا قد اخْتَلَفَ العلماءُ فيهِ:
هلْ عَمَلُهُ مردودٌ مِنْ أصلِهِ، أوْ أنَّهُ غيْرُ مردودٍ وتَبْرَأُ بهِ الذِّمَّةُ مِنْ عُهْدَةِ الواجِبِ؟
وأكثرُ الفقهاءِ على أنَّهُ ليسَ بمردودٍ منْ أصلِهِ.
- وقدْ حَكَى عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ عنْ قومٍ مِنْ أصحابِ الكلامِ، يُقالُ لهم: الشِّمَرِيَّةُ، أصْحَابُ أبي شِمْرٍ، أنَّهم يقولونَ: (إنَّ مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ كانَ فِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ أنَّ عليهِ إعادَةَ صَلاتِهِ) وقالَ: (ما سَمِعْتُ قَوْلاً أَخْبَثَ مِنْ قولِهِم، نسألُ اللَّهَ العافِيَةَ).
وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ منْ
أكابِرِ فُقَهَاءِ أهلِ الحديثِ المُطَّلِعِينَ على مقالاتِ السَّلَفِ،
وقد اسْتَنْكَرَ هذا القولَ وجَعَلَهُ بِدْعَةً، فدَلَّ على أنَّهُ لمْ
يُعْلَمْ عنْ أحدٍ من السَّلَفِ القَوْلُ بإعادَةِ الصَّلاةِ فِي مثلِ هذا.
ويُشْبِهُ هذا الحَجُّ بمالٍ حَرَامٍ، وقدْ
وَرَدَ فِي حديثٍ أنَّهُ مَرْدُودٌ على صاحِبِهِ، ولكنَّهُ حديثٌ لا
يَثْبُتُ، وقد اخْتَلَفَ العلماءُ هلْ يَسْقُطُ بِهِ الفَرْضُ أمْ لا؟
- وقَرِيبٌ مِنْ ذلكَ الذَّبْحُ بآلَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أوْ ذَبْحُ مَنْ لا يَجُوزُ لَهُ الذَّبْحُ، كالسَّارِقِ.
فأكثرُ العلماءِ قالُوا: إنَّهُ تُبَاحُ الذَّبِيحَةُ بذلكَ.
ومِنهم مَنْ قالَ: هِي مُحَرَّمَةٌ.
وكذا الخِلافُ فِي ذَبْحِ المُحْرِمِ للصَّيْدِ، لكنَّ القوْلَ بالتَّحريمِ فيهِ أشْهَرُ وأَظْهَرُ؛ لأنَّهُ مَنْهِيٌّ عنهُ بعَيْنِهِ.
ولهذا
فَرَّقَ مَنْ فرَّقَ من العلماءِ بينَ أنْ يكونَ النَّهْيُ لمعنًى
يَخْتَصُّ بالعبادَةِ فيُبْطِلُهَا، وبينَ أنْ لا يكونَ مختَصًّا بِهَا فلا
يُبْطِلُهَا.
فالصَّلاةُ
بالنَّجاسَةِ، أوْ بغيرِ طَهَارَةٍ، أوْ بغيرِ سِتَارَةٍ، أوْ إلى غيرِ
القِبْلَةِ يُبْطِلُهَا؛ لاخْتِصَاصِ النَّهيِ بالصَّلاةِ، بخلافِ
الصَّلاةِ فِي الغَصْبِ.
ويَشْهَدُ
لهذا أنَّ الصِّيامَ لا يُبْطِلُهُ إلا ارْتِكَابُ ما نُهِيَ عنهُ فيهِ
بخُصُوصِهِ، وهوَ جِنْسُ الأَكْلِ والشُّرْبِ والجِمَاعِ، بخلافِ ما نُهِيَ
عنهُ الصَّائِمُ، لا بخُصُوصِ الصِّيامِ، كالكَذِبِ والغِيبَةِ عندَ
الجُمْهُورِ.
وكذلكَ الحَجُّ، لا
يُبْطِلُهُ إلا مَا نُهِيَ عنهُ فِي الإحْرامِ، وهوَ الجِمَاعُ، ولا
يُبْطِلُهُ ما لا يَخْتَصُّ بالإحرامِ مِن المُحَرَّمَاتِ، كالقَتْلِ
والسَّرِقَةِ وشُرْبِ الخَمْرِ.
- وكذلكَ الاعْتِكَافُ،
إنَّما يَبْطُلُ بما نُهِيَ عنهُ فيهِ بخُصُوصِهِ، وهوَ الجِمَاعُ،
وإنَّما يَبْطُلُ بالسُّكْرِ عنْدَنا وعندَ الأكثرينَ؛ لِنَهْيِ
السَّكْرَانِ عنْ قُرْبانِ المَسْجِدِ ودُخُولِهِ على أحدِ التَّأويلَيْنِ
فِي قولِهِ تعالَى:{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، أنَّ المُرادَ مواضِعُ الصلاةِ، فصارَ كالحائِضِ.
ولا
يَبْطُلُ الاعْتِكَافُ بغيرِهِ مِن ارْتِكَابِ الكبائِرِ عندَنا وعندَ
كثيرٍ مِن العُلَماءِ، وإنْ خالَفَ فِي ذلكَ طائِفَةٌ من السَّلَفِ؛ مِنهم عَطَاءٌ والزُّهْرِيُّ والثَّوْرِيُّ ومَالِكٌ، وحُكِيَ عَن غيرِهِم أيضًا.
وأمَّا المُعَامَلاتُ : كالعُقُودِ والفُسُوخِ ونَحْوِهما، فما كانَ مِنهَا تغييرًا للأَوْضَاعِ الشَّرعيَّةِ، كجَعْلِ
حدِّ الزِّنَى عُقُوبَةً مالِيَّةً، وما أشبَهَ ذلكَ، فإنَّهُ مَرْدُودٌ
مِنْ أصلِهِ، لا يَنْتَقِلُ بِهِ المِلْكُ؛ لأنَّ هذا غيرُ مَعْهُودٍ فِي
أحكامِ الإسلامِ.
ويَدُلُّ على ذلكَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ للَّذِي سأَلَهُ: (إنَّ ابْنِي كانَ عَسِيفًا على فُلانٍ، فَزَنَى بامْرَأَتِهِ، فافْتَدَيْتُ مِنهُ بمِائَةِ شاةٍ وخَادِمٍ) فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ)).
وما كانَ مِنهَا عَقْدًا مَنْهِيًّا عنهُ فِي الشَّرعِ:
- إمَّا لكَوْنِ المَعْقُودِ عليهِ ليسَ مَحَلاًّ للعَقْدِ.
- أوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ فيهِ.
- أوْ لِظُلْمٍ يَحْصُلُ بهِ للمَعْقُودِ معَهُ أوْ عليهِ.
- أوْ لكونِ العقدِ يُشْغِلُ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ الواجِبِ عندَ تَضَايُقِ وَقْتِهِ
- أوْ غيرِ ذلكَ.
فهذا العَقْدُ هلْ هوَ مَرْدُودٌ بالكُلِّيَّةِ لا يَنْتَقِلُ بِهِ المِلْكُ، أمْ لا؟
هذا
المَوْضِعُ قد اضْطَرَبَ النَّاسُ فيهِ اضْطِرَابًا كثيرًا؛ وذلكَ أنَّهُ
وَرَدَ فِي بعضِ الصُّوَرِ أنَّهُ مَرْدُودٌ لا يُفِيدُ المِلْكَ، وفي
بعضِهَا أنَّهُ يُفيدُهُ، فحَصَلَ الاضْطِرَابُ فيهِ بسبَبِ ذلكَ.
والأقربُ : إنْ شاءَ اللَّهُ تعالَى- أنَّهُ إنْ كانَ النَّهْيُ عنهُ لِحَقٍّ للَّهِ عزَّ وجلَّ، فإنَّهُ لا يُفِيدُ المِلْكَ بالكُلِّيَّةِ، ونَعْنِي بكونِ الحقِّ للَّهِ: أنَّهُ لا يَسْقُطُ برِضَا المُتَعَاقِدَيْنِ عليهِ، وإنْ كانَ النَّهيُ عنهُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، بحيثُ
يَسْقُطُ برِضَاهُ بِهِ، فإنَّهُ يَقِفُ على رِضاهُ بهِ، فإنْ رَضِيَ
لَزِمَ العَقْدُ واسْتَمَرَّ المِلْكُ، وإنْ لمْ يَرْضَ بهِ فلهُ الفَسْخُ،
فإنْ كانَ الذي يَلْحَقُهُ الضَّررُ لا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ بالكُلِّيَّةِ،
كالزوْجَةِ والعَبْدِ فِي الطلاقِ والعَتَاقِ، فلا عِبْرَةَ برِضَاهُ ولا
بسَخَطِهِ، وإنْ كانَ النَّهيُ رِفْقًا بالمَنْهِيِّ خاصَّةً لِمَا
يَلْحَقُهُ مِن المَشَقَّةِ، فخَالَفَ وارْتَكَبَ المَشَقَّةَ، لمْ
يَبْطُلْ بذلكَ عَمَلُهُ.
فأمَّا الأوَّلُ:
فلَهُ صُوَرٌ كثيرةٌ:
- مِنهَا:نِكَاحُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهُ:
- إمَّا لِعَيْنِهِ:كالمُحَرَّمَاتِ على التَّأْبِيدِ بسَبَبٍ أوْ نَسَبٍ، أوْ للجَمْعِ.
-أوْ لفواتِ شَرْطٍ لا يَسْقُطُ بالتَّرَاضِي بإِسْقَاطِهِ:
- كنِكَاحِ المُعْتَدَّةِ والمُحْرِمَةِ.
- والنِّكاحِ بغيرِ وَلِيٍّ ونَحْوِ ذلكَ.
وقدْ
رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ
رَجُلٍ وامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا وهيَ حُبْلَى، فَرَدَّ النِّكَاحَ
لِوُقُوعِهِ فِي العِدَّةِ.
ومِنهَا : عُقُودُ الرِّبا،
فلا تُفِيدُ المِلْكَ ويُؤْمَرُ برَدِّهَا، وقدْ أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ باعَ صَاعَ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ أنْ
يَرُدَّهُ.
ومِنهَا :
بَيْعُ الخَمْرِ والمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ والكَلْبِ وسائِرِ ما
نُهِيَ عنْ بَيْعِهِ مِمَّا لا يَجُوزُ التَّراضِي ببَيْعِهِ.
وأمَّا الثَّاني:فلَهُ صُوَرٌ عديدةٌ:
- مِنهَا: إِنْكَاحُ الوَلِيِّ مَنْ لا يَجُوزُ لهُ إِنْكَاحُهَا إلا بإِذْنِهَا بغيرِ إِذْنِهَا،
وقدْ رَدَّ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَ امْرأةٍ
ثَيِّبٍ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وهيَ كارِهَةٌ، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ خَيَّرَ
امرأةً زُوِّجَتْ بغيرِ إذنِهَا.
وفي بُطلانِ هذا النِّكَاحِ ووُقُوفِهِ على الإِجازَةِ روايتانِ عنْ أحمدَ.
وقدْ
ذَهَبَ طائِفَةٌ مِن العلماءِ إلى أنَّ مَنْ تَصَرَّفَ لغيرِهِ فِي مالِهِ
بغيرِ إذنِهِ، لمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ باطِلاً مِنْ أصلِهِ، بلْ يَقِفُ على
إجازَتِهِ، فإنْ أجازَهُ جازَ، وإنْ رَدَّهُ بَطَلَ، واسْتَدَلُّوا بحديثِ عُرْوَةَ بنِ الجَعْدِ فِي
شرائِهِ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاتَيْنِ، وإنَّما
كانَ أَمَرَهُ بشراءِ شَاةٍ واحِدَةٍ، ثمَّ باعَ إحدَاهُمَا، وقَبِلَ ذلكَ
النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وخَصَّ ذلكَ الإِمامُ أحمدُ فِي المشهورِ عنهُ بِمَنْ كانَ يَتَصَرَّفُ لغيرِهِ فِي مالِهِ بإذنٍ إذا خالَفَ الإِذْنَ.
- ومِنهَا: تَصَرُّفُ المريضِ فِي مالِهِ كُلِّهِ: هلْ يَقَعُ باطِلاً مِنْ أصلِهِ أمْ يَقِفُ تَصَرُّفُهُ فِي الثُّلُثَيْنِ على إِجَازَةِ الوَرَثَةِ؟
فيهِ اخْتِلافٌ مَشْهُورٌ للفقهاءِ .
والخلافُ فِي مَذْهَبِ أحمدَ وغيرِهِ، وقدْ صَحَّ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((رُفِعَ
إليهِ أنَّ رجلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لهُ عندَ مَوْتِهِ، لا
مالَ لهُ غَيْرُهم، فدعا بِهِم فجَزَّأَهُم ثلاثةَ أَجْزَاءٍ؛ فأعْتَقَ
اثْنَيْنِ وأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وقالَ لَهُ قولاً شَدِيدًا)) ولَعَلَّ الوَرَثَةَ لَمْ يُجِيزُوا عِتْقَ الجميعِ، واللَّهُ أعلَمُ.
- ومِنهَا: بَيْعُ المُدَلِّسِ ونحوِهِ: كالمُصَرَّاةِ، وبَيعِ النَّجْشِ، وتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، ونحْوُ ذلكَ.
وفي صِحَّتِهِ كُلِّهِ اختلافٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الإِمامِ أحمدَ.
وذَهَبَ طائِفَةٌ مِنْ أهلِ الحديثِ إلى بُطْلانِهِ ورَدِّهِ.
والصَّحيحُ أنَّهُ يَصِحُّ ويَقِفُ على إجازَةِ مَنْ حَصَلَ لهُ ظُلمٌ بذلكَ؛
فقدْ صَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ جَعَلَ
مُشْتَرِيَ المُصَرَّاةِ بالخِيَارِ، وأنَّهُ جَعَلَ للرُّكْبَانِ
الخِيَارَ إِذا هَبَطُوا السُّوقَ.
وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على أنَّهُ غيرُ مردودٍ مِنْ أصلِهِ.
وقدْ أُورِدَ على بَعْضِ مَنْ قالَ بالبُطلانِ حديثُ المُصَرَّاةِ، فلمْ يَذْكُرْ عنهُ جَوَابًا.
- وأمَّا بَيْعُ الحاضِرِ للْبَادِي،
فمَنْ صَحَّحَهُ جَعَلَهُ مِنْ هذا القَبيلِ، ومَنْ أبْطَلَهُ جعَلَ
الحقَّ فيهِ لأهلِ البَلَدِ كُلِّهم، وهُمْ غيرُ مُنْحَصِرِينَ، فلا
يُتَصَوَّرُ إِسْقَاطُ حُقُوقِهِم، فصارَ كَحَقِّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
- ومِنهَا:لوْ باعَ رَقِيقًا يَحْرُمُ التَّفريقُ بينَهم وفرَّقَ بينَهم،
كالأُمِّ وولدِهَا، فهلْ يَقَعُ باطِلاً مَرْدودًا، أمْ يَقِفُ على
رِضَاهم بذلكَ؟ وقدْ رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أمَرَ برَدِّ هذا البيْعِ.
ونصَّ أحمدُ على أنَّهُ لا يَجُوزُ التَّفريقُ بينَهم، ولوْ رَضُوا بذلكَ.
وذهَبَ طائِفَةٌ إلى جَوَازِ التَّفريقِ بينَهم برضَاهُم ؛ مِنهم النَّخَعِيُّوعُبَيْدُ اللَّهِ بنُ الحَسَنِ العَنْبَرِيُّ.
فَعَلَى هذا يَتَوَجَّهُ أنْ يَصِحَّ، ويَقِفُ على الرِّضَا.
وحُكِيَ عنْ أحمدَ نحوُهُ، وأنَّ العَطِيَّةَ تَبْطُلُ.
فيهِ قولانِ مشهورانِ، هما رِوايتانِ عنْ أحمدَ.
- ومِنهَا: الطَّلاقُ المَنْهِيُّ عنهُ؛
كالطَّلاقِ فِي زمَنِ الحَيْضِ؛ فإِنَّهُ قدْ قِيلَ: إنَّهُ قدْ نُهِيَ
عنهُ لِحَقِّ الزَّوجِ؛ حيثُ كانَ يُخْشَى عليهِ أنْ يَعْقُبَهُ فيهِ
النَّدَمُ.
ومَنْ
نُهِيَ عنْ شيءٍ رِفْقًا بهِ فلمْ يَنْتَهِ عنهُ، بلْ فعَلَهُ وتَجَشَّمَ
مَشَقَّتَهُ، فإنَّهُ لا يُحْكَمُ ببُطلانِ ما أتَى بهِ
-أوْ وَاصَلَ فِي الصِّيامِ.
-أوْ أَخْرَجَ مالَهُ كلَّهُ وجَلَسَ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ.
-أوْ صلَّى قائمًا معَ تَضَرُّرِهِ بالقِيامِ للمرَضِ.
-أو اغْتَسَلَ وهوَ يَخْشَى على نفسِهِ الضَّرَرَ أو التَّلَفَ ولمْ يَتَيَمَّمْ.
-أوْ صامَ الدَّهْرَ ولمْ يُفْطِرْ.
-أوْ قامَ اللَّيلَ ولمْ يَنَمْ.
-وكذلكَ إذا جَمَعَ الطَّلاقَ الثَّلاثَ على القولِ بتحريمِهِ.
وقيلَ: إنَّما نُهِيَ عنْ طلاقِ الحائِضِ لِحَقِّ المرأةِ؛
لِمَا فيهِ مِن الإِضرارِ بهَا بتَطْوِيلِ العِدَّةِ، ولوْ رَضِيَتْ بذلكَ
بأنْ سأَلَتْهُ الطَّلاقَ بِعِوَضٍ فِي الحَيْضِ، فهلْ يَزُولُ بذلكَ
تحريمُهُ؟
فيهِ قولانِ مشهورانِ للعُلماءِ، والمشهورُ مِنْ مذهَبِنَا ومذهبِ الشَّافِعِيِّ أنَّهُ يَزُولُ التَّحريمُ بذلكَ.
فإنْ قيلَ: إنَّ التحريمَ فيهِ لِحَقِّ الزوجِ خاصَّةً،
فإذا أَقْدَمَ عليهِ فقدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فسَقَطَ، وإنْ عُلِّلَ بأنَّهُ
لِحَقِّ المرأَةِ لمْ يُمْنَعْ نُفُوذُهُ ووقوعُهُ أيضًا؛ فإنَّ رِضَا
المرأةِ بالطَّلاقِ غيرُ مُعْتَبَرٍ؛ لوُقُوعِهِ عندَ جميعِ المسلمينَ، لمْ
يُخالِفْ فيهِ سِوَى شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ مِن الرَّوَافِضِ ونحوِهم، كما
أنَّ رِضَا الرَّقِيقِ بالعِتْقِ غيرُ مُعْتَبَرٍ، ولوْ تَضَرَّرَ بِهِ.
ولكنْ إذا تَضَرَّرَت المَرْأَةُ بذلكَ، وكانَ قدْ بَقِيَ شيءٌ مِنْ طَلاقِهَا، أُمِرَ الزَّوْجُ بارْتِجَاعِهَا، كما أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَ عُمَرَ بارْتِجَاعِ
زَوْجَتِهِ؛ تَلافِيًا مِنْهُ لضَرَرِهَا، وَتَلافِيًا لِمَا وَقَعَ مِنهُ
مِن الطلاقِ المُحَرَّمِ حتَّى لا تَصِيرَ بَيْنُونَتُهَا مِنهُ ناشِئَةً
عنْ طلاقٍ مُحَرَّمٍ، وَلِيَتَمَكَّنَ مِنْ طلاقِهَا على وَجْهٍ مُباحٍ،
فتَحْصُلَ إبانَتُهَا على هذا الوجهِ.
-وقدْ رُوِيَ عنْ أبي الزُّبَيْرِ، عن ابنِ عمرَ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا عليهِ ولمْ يَرَهَا شيئًا.
وهذا ممَّا تَفَرَّدَ بهِ أبو الزُّبَيْرِ عنْ أصحابِ ابنِ عمرَ كُلِّهِم؛ مِثْلِ ابنِهِ سالِمٍ، ومَوْلاهُ نَافِعٍ، وأَنَسٍ، وابنِ سِيرِينَ، وطَاوُوسٍ، ويُونُسَ بنِ جُبَيْرٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ دِينارٍ، وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، ومَيْمُونِ بنِ مِهْرَانَ وغيرِهم.
وقدْ أنكَرَ أَئِمَّةُ العلماءِ هذهِ اللَّفْظَةَ
-وفي روايَةِ أبي الزُّبَيْرِ زيادَةٌ أُخرى لمْ يُتَابَعْ عليهَا، وهيَ قولُهُ: ثمَّ تَلا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، ولمْ يَذْكُرْ ذلكَ أحدٌ مِن الرُّوَاةِ عن ابنِ عمرَ، وإنَّمَا رَوَى عبدُ اللَّهِ بنُ دِينارٍ عن ابنِ عمرَ، أنَّهُ كانَ يَتْلُو هذهِ الآيَةَ عندَ روايَتِهِ للحديثِ.
وهذا هوَ الصَّحيحُ.
وقدْ كانَ طوائِفُ مِن النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أنَّ طلاقَ ابنِ عمرَ كانَ ثلاثًا، وأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّما رَدَّهَا عليهِ؛ لأنَّهُ لمْ يُوقِع الطَّلاقَ فِي الحَيْضِ.
-وقدْ رُوِيَ ذلكَ عنْ أبي الزُّبَيْرِ أيضًا منْ روايَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عنهُ، فَلَعَلَّ أبا الزُّبَيْرِ اعْتَقَدَ هذا حَقًّا، فرَوَى تلكَ اللَّفْظَةَ بالمعنى الذي فهِمَهُ.
-ورَوَى ابنُ لَهِيعَةَ هذا الحديثَ عنْ أبي الزُّبَيْرِ فقالَ: عنْ جابِرٍ، أنَّ ابنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وهيَ حائِضٌ، فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِيُرَاجِعْهَا؛ فَإِنَّهَا امْرَأَتُهُ))، وأخْطَأَ فِي ذِكْرِ جابِرٍ فِي هذا الإِسنادِ، وتَفَرَّدَ بقولِهِ: ((فَإِنَّهَا امْرَأَتُهُ)).
وهيَ لا تَدُلُّ على عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلاقِ إلا على تقديرِ أنْ يكُونَ ثلاثًا، فقد اخْتُلِفَ فِي هذا الحديثِ على أبي الزُّبَيْرِ، وأصحابُ ابنِ عمرَ الثِّقاتُ الحُفَّاظُ العارِفُونَ بهِ المُلازِمُونَ لَهُ لمْ يُخْتَلَفْ عليهم فيهِ.
-ورَوَى أَيُّوبُ عن ابنِ سِيرينَ قالَ: (مَكَثْتُ
عشرينَ سَنَةً يُحَدِّثُنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ أنَّ ابنَ عُمَرَ طلَّقَ
امرأَتَهُ ثلاثًا وهيَ حائِضٌ، فأَمَرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُراجِعَهَا، فجَعَلْتُ لا أَتَّهِمُهُم ولا أعرِفُ
الحديثَ، حتَّى لَقِيتُ أبا غَلابٍ يُونُسَ بنَ جُبَيْرٍ وكانَ ذا ثَبَتٍ،
فحَدَّثَنِي أنَّهُ سأَلَ ابنَ عُمَرَ فحَدَّثَهُ أنَّهُ طَلَّقَهَا
واحِدَةً) خرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
-وفي روايَةٍ: قالَ ابنُسِيرِينَ: (فجَعَلْتُ لا أعرِفُ للحديثِ وَجْهًا ولا أَفْهَمُهُ).
وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ كانَ قدْ شاعَ بينَ الثِّقَاتِ مِنْ غيرِ أهلِ الفِقْهِ والعِلْمِ أنَّ طلاقَ ابنِ عُمَرَ كانَ ثلاثًا، ولعَلَّ أبا الزُّبَيْرِ مِنْ هذا القَبِيلِ.
ولِذَلِكَ كانَ نافِعٌ يُسْأَلُ كثيرًا عنْ طلاقِ ابنِ عمرَ: هلْ كانَ ثلاثًا أوْ واحِدَةً؟
ولمَّا قَدِمَ نافِعٌ مَكَّةَ، أَرْسَلُوا إليهِ مِنْ مَجْلِسِ عَطَاءٍ يَسْأَلُونَهُ عنْ ذلكَ لهذهِ الشُّبْهَةِ.
واسْتِنْكَارُ ابنِ سِيرِينَ
لِروايَةِ الثَّلاثِ يَدُلُّ على أنَّهُ لمْ يَعْرِفْ قائِلاً مُعْتَبَرًا
يقولُ: إنَّ الطلاقَ المُحَرَّمَ غيرُ واقِعٍ، وأنَّ هذا القولَ لا وَجْهَ
لهُ.
-قالَ الإِمامُ أحمدُ فِي روايَةِ أبي الحَارِثِ، وسُئِلَ عمَّنْ قالَ: لا يَقَعُ الطَّلاقُ المُحَرَّمُ؛ لأنَّهُ يُخَالِفُ ما أَمَرَ بِهِ، فقالَ: (هذا قَوْلُ سُوءٍ رَدِيءٌ) ثمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ ابنِ عُمَرَ وأنَّهُ احْتَسَبَ بطلاقِهِ فِي الحَيْضِ.
ومُرَادُهُ أنَّ تَغْيِيرَ وصيَّةِ المُوصِي إلى ما هوَ أحَبُّ إلى اللَّهِ وأنفَعُ جائِزٌ، وقدْ حُكِيَ هذا عنْ عَطَاءٍ وابنِ جُرَيْجٍ.
ورُبَّمَا يَسْتَدِلُّ بعضُ مَنْ ذَهَبَ إلى هذا بقولِهِ تعالَى: {فمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ولعَلَّهُ
أخَذَ هذا مِنْ جَمْعِ العِتْقِ؛ فإنَّهُ صَحَّ، أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ
سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَدَعَاهُم النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عليهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّأَهُمْ ثَلاثَةَ أَجْزاءٍ، فَأَعْتَقَ
اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
-وذهَبَ فقهاءُ الحديثِ إلى هذا الحديثِ؛
لأنَّ تكميلَ عِتْقِ العَبْدِ مَهْمَا أمْكَنَ أوْلَى مِنْ تَشْقِيصِهِ؛
ولهذا شُرِعَت السِّرَايَةُ والسِّعَايَةُ إذا أَعْتَقَ أَحَدُ
الشَّرِيكَيْنِ نصيبَهُ مِنْ عَبْدٍ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ)) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
الشيخ:
هذا
الحديث حديث عظيمٌ جداً، عظَّمهُ العلماء، وقالوا إنَّه أصل في رَدِّ كل
المحدثات والبدع والأوضاع المخالفة للشريعة، فهو أصلٌ في رَدِّ البدع في
العبادات، وفي رد العقود المحرمة، وفي رد الأوضاع المحدثة على خلاف الشريعة
في المعاملات وفي عقود النكاح وما أشبه ذلك، ولهذا جعل كثير من أهل العلم
هذا الحديث مستمسكاً في ردِّ كل بدعة من البدع التي أحدثت في الدين، ولهذا
ينبغي لطالب العلم أنْ يحرص على هذا الحديث حرصاً عظيماً وأن يحتج به في
كلِّ موْرد يُحتاج إليه فيه، في ردِّ البدع والمحدثات في الأقوال والأعمال
والاعتقادات فإنه أصلٌ في هذا كله.
قال رحمه الله تعالى: (عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). وفي رواية لمسلم -وقد علقها البخاري في (الصحيح) أيضاً- : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ).
قال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))
قال: (من أحدث) ولفظ (من) هذا للاشتراط وجوابه: (فهو رد) والحدث في قوله (أحدث) هو كل ما لم يكن على وفق الشريعة، على وفق ما جاء به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لهذا قال فيه: ((من أحدث في أمرنا)) والأمر هنا هو الدين كقوله -جل وعلا-: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم} فمن أحدث في الدين ما ليس منه فهو مردودٌ عليه، وقوله هنا: (ما ليس منه)
لأنه قد يحدث شيئاً -باعتبار الناس- ولكنهُ سُنّة مهجورة هجرها الناس، فهو
قد سنَّ سنَّةً من الدين وذكَّر بها الناس، كما جاء في الحديث أنه عليه
الصلاة والسلام قال، ((ومن سنَّ في الإسلام سنةً حسنة فله أجرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة)).
فإذاً قوله -أولاً-: (من أحدث) هذا فيه المحدثات في الدين ودل عليها قوله (في أمرنا هذا) يعني في ديننا هذا وما عليه أمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو شريعته. قال (ما ليس منه) وهذه هي الرواية المشتهرة في (الصحيحين) وفي غيرهما ورُوي في بعض كتب الحديث (ما ليس فيه فهو رد) يعني ما ليس في أمرنا، وهذه الرواية تدل على اشتراط العمل بذلك الشيء ولا يُكتفى بالكليات في الدِّلالة، قال: (فهو رد) يعني فهو مردود عليه كما قال علماء اللغة، (رد) هنا بمعنى مردود كسد بمعنى مَسْدود، و(فَعْل) تأتي بمعنى (مفعول). يعني
من أتى بشيءٍ محدثٍ في الدين لم يكن عليه أمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم-
فهو مردود عليه كائناً من كان، وهذا فسَّرته الرواية الأخرى: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))
فأرجعه إلى الأعمال والعمل هنا المراد به الدين أيضاً يعني من عمل عملاً
يتديَّنُ به من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات ليس عليه أمرنا فهو رد
يعني مردوداً عليه، وهذا فيه إبطال كل المحدثات وإبطال كل البدع وذم ذلك
وأنها مردودة على أصحابها، وهذا الحديث -كما ذكرت. والأعمال التي في الدين يعني: أمور الدين منقسمه: والمُحْدثات
تكون في العبادات وتكون في المعاملات، فهذا الحديث دلّ على إبطال المحدثات
وإبطال البدع؛ لأنّ كل محدثة في الدين بدعة والعلماء تكلموا كثيراً عن
البدع والمحدثات وجعلوا هذا الحديث دليلاً على رد المحدثات والبدع، فالبدع
مذمومة في الدين وهي شرٌّ من كبائر الذنوب العملية لأنَّ صاحبها يستحسنها
ويستقيمُ عليها تقرباً إلى الله -جل وعلا-. - وإلى محدثاتٍ وبدعٍ في الشرع. أما
المُحدث في اللغة فهو: كلُّ ما كان أُحدث سواء أكان في الدين أو لم يكن في
الدين، وإذا لم يكن في الدين فإن هذا معناهُ أنه لا يدخل في هذا الحديث،
وكذلك البدع. وقال -جل وعلا-: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} والآيات في هذا المعنى كثيرة، ويصلح أن يكون منها قوله -جل وعلا-: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. - وقد جاء أيضاً في الأحاديث ذم البدع والمحدثات كما كان عليه الصلاة والسلام يقول في الجمعة وفي غيرها: ((ألا وإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)). -وقد
جاء أيضاً في السنن من حديث العرباض ابن سارية -رضي الله عنه- أنه قال:
(وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يومٍ موعظةً بليغة وجلت منها
القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول كأنها موعظة مودع…) الحديث، وفيه
قال عليه الصلاة والسلام: ((إنه من يعش منكم فسيرى
اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي،
تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ فإن كل محدثة بدعة)). فالبدعة في الدين عُرفت بعدّة تعريفات، يهمنا منها تعريفان -لضيق المقام- لهذا
يتقرر من هذا التأصيل: أنَّ البدع ملتزم بها في الأقوال أو الأعمال أو
الاعتقادات، فلا يُقال إنَّه من أخطأ مرّةً في اعتقاد ولم يلتزم به أنّه
مبتدع، ولا يدخل فيمن فعل فعلاً على خلاف السنة إنه مبتدع إذا فعله مرَّة
أو مرَّتين أو نحو ذلك ولم يلتزمه. فوصف الالتزام ضابط مهم كما ذكر شيخ
الإسلام ابن تيميه في بعض كلامه (أنّ ضابط الالتزام مهم في الفرق بين
البدعة ومخالفة السنة). فنقول هذا خالف السنة في عمله ولا نقول إنه مبتدع إلا إذا التزم مخالفة السنة وجعل ذلك ديناً يلتزمه. فإذاً
من أخطأ في عمل من الأعمال في العبادات وخالف السنة فيه فإنه إن كان يتقرب
به إلى الله فنقول له هذا الفعل منك مخالف للسنة فإن التزمه بعد البيان أو
كان ملتزماً له، دائماً يفعل هذا الشيء فهذا يدخل في حيز البدع، وهذا ضابط
مهم في الفرق ما بين البدعة ومخالفة السنة. مما
يتصل أيضاً بهذا الحديث -والكلام على البدع والمحدثات يطول، لكن ننبه على
أصول الفرق بين مُحدثٍ ومُحدث- أنَّ هناك محدثات لم يجعلها الصحابة -رضوان
الله عليهم- من البدع بل أقَرّوها وجعلوها سائغة وعمل بها، وهذه هي التي
سمَّاها العلماء فيما بعد: (المصالح المرسلة). ومعنى المصالح المرسلة:
أنّ هذا العمل أرسل الشارع حُكْمه باعتبار المصلحة، فإذا رأى أهل العلم أن
فيه مصلحةً فإن لهم أن يأذنوا به؛ لأجل أنّ الشارع ما علَّق به حكماً،
وهذا يأتي بيان صفاته.
- إلى عبادات.
إذا تبَّين هذا الشرح العام للحديث فما المراد بالبدع، والمحدثات؟
هذه مما اختلف العلماء في تفسيرها.
والمحدثات والبدع منقسمة:
ولهذا قسَّم بعض أهل العلم المحدثات إلى قسمين:
- محدثات ليست في الدين، وهذه لا تذم.
- ومحدثات في الدين، وهذه تُذم.
مَثَل
المحدثات التي ليست من الدين: مثل ما حصل من تغيرٍ في طرقات المدينة،
وتوسعة عمر الطرقات أو تجصيص البيوت، أو استخدام أنواع من البُسُط فيها،
واتخاذ القصور في المزارع، وما أشبه ذلك مما كان في زمن الصحابة وما بعده
أو اتخاذ الدواوين أو ما أشبه ذلك، فهذه أُحْدِثت في حياة الناس، فهي
مُحْدَثةٌ ولكنها ليست بمذمومة؛ لأنَّها لم تتعلق بالدين.
كذلك البدع منها بدع في اللغة يصحُّ أن تُسمَّى بدعةً باعتبار أنها ليس لها مثال سابقٌ عليها في حال مًنْ وصفها بالبدعة.
وبدع في الدين وهذه البدع التي في الدين كانت الحال على خلافها ثم أُحدثت،
مثاله: قول عمر-رضي الله عنه- لما جمع الناس على إمام واحد وكانوا يُصلون
أشتاتاً في رمضان، في التراويح على إمام واحدٍ قال: (نعمت البدعةُ هذه)
فسماها: (بدعة) باعتبار اللغة لأنها في عهده بدعة يعني لم يكن لها مثالٌ
سابق في عهد عمر، فَتعلقت باللغة أولاً ثم بالمتكلم ثانياً.
إذا
تبينَّ هذا فالمقصود بهذا الحديث المحدثات والبدع في الدين، والبدعة في
الدين دلّ الحديث على ردها، ودلّ على ذلك آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، كما
قال -جل وعلا-: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} فسمّاهم شركاء لأنهم شرعوا من الدين شيئاً لم يأت به محمد عليه الصلاة والسلام، لم يأذن به الله شرعاً، قد قال -جل وعلا-: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.
أولها:التعريف
المشهورالذي ذكره الشاطبي في الاعتصام وحاصله: (أنّ البدعة طريقة في الدين
مخترعة يُراد بالسلوك عليها مضاهاة الطريقة الشرعية).
وهذا
التعريف جيِّد لأنه جعل البدعة طريقة ملتزمة، وأنَّ المقصود من السلوك
عليها مضاهاة الطريقة الشرعية، وشرح التعريف والكلام عليه يطول فتراجعونه
في مكانه، لكن يهمُّنا من هذا التعريف ثلاثة أشياء:
الأول: أنّ
البدعة ملتزمٌ بها؛ لأنه قال طريقة في الدين والطريقة هي الملتزم بها،
يعني أصبحت طريقة يطرقها الأول والثاني والثالث أو تتكرر، فهذه الطريقة
يعني ما التزم به من هذا الأمر.
والثاني: أنها مخترعة يعني أنها لم تكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والثالث:أنّ هذه الطريقة تضاهى بها الطريقة الشرعية من حيث إنّ الطريقة الشرعية لها وصف ولها أثر.
- أما الوصف: فمن جهة الزمان والمكان والعدد.
- وأما الأثر: فهو طلب الأجر من الله -جل وعلا-.
فتحصلّ لنا أن خلاصة ما يتصل بتعريف الشاطبي للبدعة يتعلق بثلاثة أشياء:
1-أنّ البدعة يُلتزم بها.
2-أنها مخترعة لم يكن عليها عمل سابق وهذه توافق الرواية الثانية ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
3-
أنَّه تضاهى بها الطريقة الشرعية من حيث الزمان والمكان والوصف والأثر يعني
العدد الذي هو الوصف مع الزمان والمكان والأثر وهو طلب الأجر من الله -جل
وعلا- بذلك العمل.
وعرّفها
غيره بتعريف أوضح وهو تعريف الشُمُنِّي حيث قال: (إنَّ البدعة ما أُحدث
على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو عملٍ
أو اعتقاد، وجُعل ذلك ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً) وهذا التعريف أيضاً
صحيح، ويتضح لنا منه أنّ البدعة أُحدثت على خلاف الحق فهي باطل، وأنها تكون
في الأقوال وفي الأعمال وفي الاعتقادات، وأنها ملتزمٌ بها؛ لأنه قال في
آخره: (جُعل ذلك ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً).
إذا تقرَّر ذلك: فمن المهمات في معرفة البدعة أنّ البدعة تكون في:
- الأقوال.
- والأعمال.
- والاعتقادات.
إذا
كان القول على غير وصف الشريعة يعني جُعل للقول طريقة من حيث الزمان
والمكان أو من حيث العدد تُعبد بقولٍ ليس على وفق الشريعة، وجُعل له وصف من
حيث المكان أو الزمان أو العدد، وطُلب به الأجر من الله -جل وعلا-.
أو الأعمال، يُحدثُ أعمالاً يتقرب بها إلى الله -جل وعلا-، ويجعل لها صفة تضاهى بها الصفة الشرعية، على نحو ما ذكرنا.
أو يعتقد اعتقادات على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذه
كُلها من أحدثها بمعنى: من أنشأها فهي مردودة عليه، ومن تبعه على ذلك فهو
أيضاً عمله مردودٌ عليه، ولو كان تابعاً؛ لأنَّ التابع أيضاً مُحدث بالنسبة
لأهل زمانه، وذاك مُحدث بالنسبة لأهل زمانه فكلُّ من عمل ببدعة فهو محدثٌ
لها.
و(المصالح المرسلة) للعلماء فيها وجهان من حيث التفسير.
قال
العلماء: (المصالح المرسلة) تكون في أمور الدنيا لا أمور العبادات، وفي
أمور الدنيا في الوسائل منها التي يُحقَّقُ بها أحدُ الضروريات الخمس، يعني
أن الشريعة قامت على حفظ الضروريات وهي: (الدين والنفس والمال والنسل
والعقل) هذه الخمس وسائل حِفظها من المصالح المرسلة؛ وسائل حفظ الدين مصلحة
مرسلة لك أن تحدث فيها ما يحفظ دين الناس مثل: تأليف الكتب؛ وتأليف الكتب
لم يكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع الحديث ما كان موجوداً؛ نهى
النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُكتب حديثه، ونهى عمر أن يُكتب حديث النبي
-صلى الله عليه وسلم- ثم كُتِب، هذه وسيلة لم يكن المقتضي لها في ذلك
الوقت قائماً ثم قام المقتضي لها فصارت وسيلة لحفظ الدين، صارت مصلحة مرسلة
وليست بدعة.
فإذاً من المهمات في هذا الباب أن تفرِّق بين البدعة وبين المصلحة المرسلة:
فالبدعة في الدين متجهة إلى الغاية وأمّا المصلحة المرسلة فهي متجهة إلى وسائل تحقيق الغايات هذا واحد.
الثاني:
أنَّ البدعة قام المقتضي لفعلها في زمن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولم
تُفعل، والمصلحة المرسلة لم يقم المقتضي لفعلها في زمن النبي -صلى الله
عليه وسلم-. _ فإذاً: إذا نظرنا مثلاً إلى جمع القرآن: جمع القرآن، جُمِع
بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي عهده عليه الصلاة والسلام لم يجمع
فهل نقول جمع القرآن بدعة ؟ العلماء أجمعوا من الصحابة فمن بعدهم أن جمع
القرآن من الواجبات العظيمة التي يجب أن تقوم بها الأمة، هنا في عهد النبي
-عليه الصلاة والسلام- ما قام المقتضي للفعل؛ لأنَّ الوحي يتنزل فلو نسخ
القرآن كاملاً لكان هناك إدخال للآيات في الهوامش أو بين السطور، وهذا
عُرضة لأشياء غير محمودة،
فكان من حكمة الله -جل وعلا- أنه ما أمر نبيه بجمع القرآن في كتابٍ واحد في حياته -عليه الصلاة والسلام- وإنما لمّا انتهى الوحي بوفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام جمعه أبو بكر ثم جُمع بعد ذلك، وفي أشياء شتى من إنشاء دواوين الجند ومن استخدام الآلات، ومن تأليف العلوم ومن الاهتمام بعلوم مختلفة، وأشباه ذلك من فتح الطرقات وتكوين البلديات والوزارات وأشباه هذا في عهد عمر -رضي الله عنه- وفي عهد أمراء المؤمنين فيما بعد ذلك.
إذاً فالحاصل من هذا أنَّ المصلحة المرسلة محدثة ولكن لا ينطبق عليها هذا الحديث ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) لأن هذه ليست في الأمر وإنما هي في وسيلة تحقيق الأمر فخرجت عن شمول هذا الحديث لها من هذه الجهة، ومن جهة ثانية أنها إحداث ليس في الدين وإنما هو في الدنيا لمصلحة شرعية تعلقت بهذا العمل، سمّاها العلماء مصالح مرسلة وجُعلت مطلوبة من باب تحقيق الوسائل؛ لأنَّ الوسائل لها أحكام الغايات، فهي واجبة ولا بد من عملها؛ لأنّ لها حكم الغاية.
العبادات قسم من الشريعة، والمعاملات قسم من الشريعة.
فالعبادات؛ إحداث أمر في عبادة على خلاف سنة المصطفى-صلى الله عليه وسلم- محدث وبدعة في الدين.
وكذلك في المعاملات؛ إحداث أوضاع في المعاملات على خلاف ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أيضاً مردود، لأنه محدث في الدين.
مثاله:
أن يحوَّل مثلاً عقد الربا من كونه عقداً محرّماً إلى عقد جائز فهذا تبديل
للحكم أو إحداث لتحليل عقد حرَّمه الشارع، أو يُبطل شرطاً من الشروط
الشرعية التي دلّ عليها الدليل.
فإبطاله
لهذا الشرط محدثٌ أيضاً فيعود عليه بالرد، أو أن يحوّل مثلاً عقوبة الزنا
من كونها رجماً للمحصن أو الجلد والتغريب لغير المحصن إلى عقوبة مالية،
فهذا ردّ على صاحبه ولو كانت في المعاملات؛ لأنها إحداث في الدين ما ليس
منه، وهذا يختلف عن القاعدة المعروفة (أنّ الأصل في العبادات التوقيف
والأصل في المعاملات الإباحة وعدم التوقيف)، هذا يعني فيما يكون في معاملات
الناس.
أمّا
إذا كان هناك شرط شرعي واشترطه الشارع أو عقد أبطله الشارع فلا يدخل في
جواز التغيير، وإنما جواز التغيير أو التجديد في المعاملات وأنها مبنية على
الإباحة والسَّعة، هذا فيما لم يدلّ الدليل على شرطيته أو على عقده أو على
إبطال ذلك العقد وما شابه ذلك.
وعلى هذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة المشهور: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)) فهذا
الحديث يأتي في جميع أبواب الدين، يأتي في الطهارة وفي الصلاة وفي الزكاة
والصيام والحج وفي البيوع والشركات والقرض والصرف والإجارة والنكاح والطلاق
وجميع أبواب الشريعة كما هو معروف في مواضعه من تفصيل الكلام عليه.
الكشاف التحليلي
حديث عائشة - رضي الله عنها- مرفوعاً: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
تخريج الحديث
الإشارة إلى اختلاف الروايات في الحديث
موضوع الحديث
ترجمة الراوي
بيان عِظَمِ منزلة هذا الحديث في الإسلام
حديث عائشة رضي الله عنها -كالميزان للأعمال في ظاهرها
المعنى الإجمالي للحديث
ما يدل عليه منطوق الحديث
ما يدل عليه مفهوم الحديث
معنى قوله: (أحدث)
الكلام عن المحدثات والبدع في العبادات والمعاملات
المراد بالبدع والمحدثات
المحدثات تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: محدثات في أمور الدنيا
القسم الثاني: محدثات في الدين
تعريف (البدعة)
البدع تكون في الأقوال والأعمال والاعتقادات
البدع في الاعتقاد أقبح من البدع في الفروع
أهمية معرفة السنن من البدع
بم تُعْرَف السنن من البدع
التريُّث في الحكم على عمل ما بأنه بدعة
الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة
التحذير من البدع
الأحاديث الواردة في ذم البدع
النهي عن الإحداث في الدين
الإجماع على إبطال البدع
كلام العلماء في التحذير من البدع
بيان قبح البدعة
قلة توفيق أهل البدع للتوبة
معنى قوله: (ما ليس منه)
الإشارة إلى الاختلاف في رواية (ما ليس منه)
معنى قوله: (ليس عليه أمرنا)
دلالة هذه الجملة على أن أعمال العاملين ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة
معنى قوله: (فهو رد)
الأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات
أقسام البدع:
القسم الأول: البدع في العبادات
الأصل في العبادات التوقيف
أقسام البدع في العبادات
القسم الأول: عبادات خارجة عن الشريعة بالكلية
حكمها: مردودة على صاحبها
من أمثلتها:
1- التقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي والرقص
2- التعبد لله تعالى بكشف الرأس في غير الإحرام
تنبيه: ليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها
3- التقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها كصيام يوم العيد
القسم الثاني: عبادات أصلها مشروع، ثم أخل بها
حكمها: ينقص من أجره بقدر ما أدخل فيها، وأخل بها وله حالان:
الأولى: أن يخل بما لا تصح العبادة إلا به فتبطل، كالإخلال بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها
الثانية: ألا يخل فيها بما لا تصح العبادة إلا به فينقص من أجره بقدر إخلاله
القسم الثالث: أن يزيد في العبادة ما ليس بمشروع
حكمها: زيادته مردودة عليه ولها أحوال:
الأولى: أن تبطل العمل من أصله: كزيادة ركعة في الصلاة عمداً
الثانية: أن تبطل الزيادة فقط كمن توضأ أربعاً أربعاً
مسائل تطبيقية
مسألة الحج بمال حرام
الخلاف في المسألة
القول الأول: حجه مردود ( )
استدل لهذا القول بحديث ضعيف لا يثبت
القول الثاني: حجه صحيح
مسألة الذبح بآلة محرمة:
الخلاف في هذه المسألة:
القول الأول: لا تجوز ذبيحته
القول بالتحريم أشهر وأظهر لأنه منهي عنه بعينه
القول الثاني: تجوز ذبيحته
فرق بعض العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها
مسائل وضوابط في العبادات من حيث القبول والرد
ضابط العبادات المردودة
أحوال الإخلال بالعمل المشروع:
الحالة الأولى: أن يزيد فِيه ما ليسَ بمشروع، فَزِيَادَتُهُ مردودةٌ عليهِ ولها حالتان:
الأولى: أن تبطل العمل من أصله فيكون مردوداً
وذلك إذا كانت البدعة في أمر يعود على ذلك العمل بالإبطال
الثانية: أن لا تبطل العمل من أصله
الحالة الثانية: أن يخلَّ بِما لا يصح العمل إلا به، فهذا عَمَلُهُ مَرْدُودٌ عليه
الحالة الثالثة: أن يخلَّ بِما لا يُوجِبُ بُطلانَ العَمَلِ، فيكون عمله ناقصاً
الخلاف في من بدّل بعض ما أمر به في العبادة بما هو منهي عنه
القول الأول: أن عمله غير مردود، وعليه أكثر الفقهاء
القول الثاني: أن عمله مردود من أصله
تغليظ عبد الرحمن بن مهدي على من قال بالقول الثاني
أنواع النهي من حيث اقتضاء بطلان العبادة بمخالفته:
الأول: نهي يبطل العبادة، وهو ما ورد لمعنى يختص بها
الثاني: نهي لا يبطل العبادة، وهو ما ورد لمعنى لا يختص بها
أمثلة على النوعين
قاعدة: ليس كل ما كان قربة في عبادة يكونُ قربةً في غيرها مطلقاً
قاعدة: من تقرَّب بعبادة نُهي عنها بخصوصها فعمله مردود
مسائل وضوابط في المعاملات من حيث القبول والرد
الأصل في المعاملات الحل، إلا إذا قام دليل على التحريمِ
مسألة: العقود والفسوخ المبنية على تغيير الحكم الشرعي مردودة
العقد المنهي عنه شرعاً هل هو مردودٌ بالكلية أم لا؟ فيه تفصيل:
أولاً: أن يكون النهي لحق الله عزّ وجل
صور ما كان النهي فيه لحق الله عزّ وجل
الصورة الأولى: نكاح من يحرم نكاحه
الصورة الثانية: عقود الربا
الصورة الثالثة: ما نهي عن بيعه
ثانيا: أن يكون النهي لحق الآدمي
صور ما كان النهي فيه لحق الآدمي
الصورة الأولى: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها بغير إذنها
الصورة الثانية: تصرُّف المريض في ماله كله
الصورة الثالثة: بيع المدلِّس ونحوه وبيع النجش وتلقي الركبان
الصورة الرابعة: لو باع رقيقاً يحرم التَّفريق بينهم وفرَّق بينهم
الصورة الخامسة: لو خصَّ بعض أولاده بالعطية دون بعض
الصورة السادسة: الطَّلاق المنهي عنه
مسألة: لو رضيت الزوجة بالطلاق في زمن الحيض بعوض فهل يزول تحريم الطلاق بذلك؟
تفرُّد أبي الزبير بلفظتين في حديث ابن عمر في طلاق الحائض
من فوائد حديث عائشة - رضي الله عنها-:
إِكْمَالُ اللَّهِ تعالَى للشَّرِيعَة وُجُوبُ الاتِّبَاعِ، وتَحْرِيمُ الابتداع مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ العملِ مُوَافَقَتُهُ للكتابِ والسُّنَّة
بيانُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للدِّينِ كُلِّه
أنَّ الأصلَ في العِبَادَاتِ الحَظْرُ وَ الأصلَ في العاداتِ الإِبَاحَةُ.
العناصر
حديث عائشة - رضي الله عنها- مرفوعاً: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
ترجمة الراوي
بيان عِظَمِ منزلة هذا الحديث في الإسلام
المعنى الإجمالي للحديث
ما يدل عليه منطوق الحديث
ما يدل عليه مفهوم الحديث
معنى قوله: (أحدث)
الكلام عن المحدثات والبدع في العبادات والمعاملات
المراد بالبدع والمحدثات
أقسام المحدثات
تعريف (البدعة)
موارد البدع
أهمية معرفة السنن من البدع
الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة
التحذير من البدع
الأحاديث الواردة في ذم البدع
الإجماع على إبطال البدع
كلام العلماء في التحذير من البدع
بيان قبح البدعة
قلة توفيق أهل البدع للتوبة
معنى قوله: (ما ليس منه)
معنى قوله: (ليس عليه أمرنا)
معنى قوله: (فهو رد)
أقسام البدع:
مسائل تطبيقية
مسألة الحج بمال حرام:
مسألة الذبح بآلة محرمة:
مسائل وضوابط في العبادات من حيث القبول والرد
ضابط العبادات المردودة
أحوال الإخلال بالعمل المشروع:
الخلاف في من بدّل بعض ما أمر به في العبادة بما هو منهي عنه
أنواع النهي من حيث اقتضاء بطلان العبادة بمخالفته:
قاعدة: ليس كل ما كان قربة في عبادة يكونُ قربةً في غيرها مطلقاً
قاعدة: من تقرَّب بعبادة نُهي عنها بخصوصها فعمله مردود
مسائل وضوابط في المعاملات من حيث القبول والرد
الأصل في المعاملات الحل، إلا إذا قام دليل على التحريمِ
مسألة: العقود والفسوخ المبنية على تغيير الحكم الشرعي مردودة
العقد المنهي عنه شرعاً هل هو مردودٌ بالكلية أم لا؟
مسألة: لو رضيت الزوجة بالطلاق في زمن الحيض بعوض فهل يزول تحريم الطلاق بذلك؟
من فوائد حديث عائشة - رضي الله عنها-: