22 Oct 2008
ح4: حديث ابن مسعودٍ: (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خلْقُهُ في بَطْن أمه..)
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
4: عنْ أبي عبدِ الرَّحمنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: حدَّثنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصَّادِقُ المصْدُوقُ: (( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً
مِثْلَ ذلِكَ، ثمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيهِ الرُّوحَ،
وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ
وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ.
فَوَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فيَسْبِقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا)) رواه البخاريُّ ومسلِمٌ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الرابع
عَنْ
عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا
رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ: (إِنَّ
أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً
نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً
مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنفُخُ فِيْهِ
الرٌّوْحَ،وَيَؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ
وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ. فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ
إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا
يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ
فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَايَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) (1) رواه البخاري ومسلم.
الشرح
قوله: حَدَّثَنَا
حدث وأخبر في اللغة العربية بمعنى واحد، وهي كذلك عند قدماء المحدثين، لكن
عند المتأخرين من صاروا يفرقون بين: (حدثنا) و:(أخبرنا)، وعلم ذلك مذكور
في مصطلح الحديث.
وقوله: وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْق الجملة هذه مؤكدة لقوله: رَسُولُ اللهِ لأن من اعترف بأنه رسول اعترف بأنه صادق مصدوق.
وقوله: وَهُوَ الصَّادِقُ
أي الصادق فيما أَخْبَر به المَصْدُوْقُ فيما أُخبِر به، فإذا قلت: قدم
زيد، وكان قادماً، فهذا يقال للمخبر:إنه صادق. وإذا حدثني إنسانٌ وقال: قدم
زيد وهو صادق فإنه يقال لي مصدوق، أي مخبر بالصدق.
والنبي صلى الله عليه وسلم وصفه كذلك تماماً، فهو صادق فيما أخبر به، ومصدوق فيما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.
وإنما ذكر ابن مسعود رضي
الله عنه هذه الجملة، لأن التحدث عن هذا المقام من أمور الغيب التي تخفى،
وليس في ذلك الوقت تقدم طبٍّ حتى يُعرف ما يحصل.
وهناك ماهو فوق علم الطب
وهو كتابة الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد، فلذلك من فقه عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه أن أتى بهذه الجملة المؤكدة لخبر النبي صلى الله عليه
وسلم .
قال: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ
وذلك أن الإنسان إذا أتى أهله فهذا الماء المتفرق يُجمع، وكيفية الجمع لم
يذكر في الحديث، وقيل: إن الطبّ توصّل إلى معرفة بعض الشيء عن تكون الأجنة
والله أعلم.
أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَة أي قطرة من المني.
ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ وهل ينتقل فجأة من النطفة إلى العلقة؟
الجواب: لا، بل يتكون شيئاً فشيئاً، فيحمّارُ حتى يصل إلى الغاية في الحُمرةِ فيكون علقة.
والعلقة هي: قطعة الدم الغليظ، وهي دودة معروفة ترى في المياه الراكدة.
ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِك أي أربعين يوماً، والمضغة: هي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان.
وهذه المضغة تتطور شيئاً فشيئاً،ولهذا قال الله تعالى: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج: الآية5] .
فالجميع يكون مائة وعشرين، أي أربعة أشهر.
ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ والمرسِل هو الله رب العالمين عزّ وجل، فيرسل الملك إلى هذا الجنين، وهو واحد الملائكة، والمراد به الجنس لا ملك معين.
فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ الروح ما به يحيا الجسم، وكيفية النفخ الله أعلم بها، ولكنه ينفخ في هذا الجنين الروح ويتقبلها الجسم.
والروح سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأمره الله أن يقول: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الاسراء: الآية85] فالروح من أمر الله أي من شأنه، فهو الذي يخلقها عزّ وجل: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الاسراء: الآية85] وهذا فيه نوع
من التوبيخ،كأنه قال:ما بقي عليكم من العلم إلاالروح حتى تسألوا عنها،
ولهذا قال الخضر لموسى عليه السلام لما شرب الطائر من البحر: (ما نقص علمي
وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. أي أنه لم
ينقص شيئاً).
وَيُؤْمَرُ أي الملك بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمر هو الله عزّ وجل بِكْتبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ .
رِزْقه، الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.
والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.
والرزق الذي يقوم به الدين:هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث.
وَأَجَله أي
مدة بقائه في هذه الدنيا، والناس يختلفون في الأجل اختلافاً متبايناً، فمن
الناس من يموت حين الولادة، ومنهم من يعمر إلى مائةسنة من هذه الأمة ، أما
من قبلنا من الأمم فيعمرون إلى أكثر من هذا، فلبث نوح عليه السلام في قومه
ألف سنة إلا خمسين عاماً.
واختيار طول الأجل أو قصر
الأجل ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن ،إذ قد يحصل الموت بحادث
والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عزّ
وجل.
وهذا الأجل لا يتقدم لحظة
ولا يتأخر، فإذا تم الأجل انتهت الحياة ،وأذكر لكم قصة وقعت في عنيزة: مر
دباب أي دراجة نارية بتقاطع، وإذا بسيارة تريد أن تقطع، فوقف صاحب الدباب
ينتظر عبور السيارة، والسيارة وقفت تنتظر عبور الدباب، ثم انطلقا جميعاً
فصُدم الدباب ومات الراكب الرديف الذي وراء السائق، فتأمل الآن، وقف هذه
الدقيقة من أجل استكمال الأجل (سبحان الله) . قال الله تعالى: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون:11]
وقال صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا)) (2) .
وهنا مسألة: هل الأجل وراثي؟
الجواب: الأجل ليس وراثياً، فكم من شاب مات من قبيلة أعمارهم طويلة، وكم من شاب عمَّر في قبيلة أعمارها قصيرة.
وَعَمَله أي ما يكتسبه من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، فمكتوب على الإنسان العمل .
وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ هذه النهاية، والسعيد هو الذي تم له الفرح والسرور، والشقي بالعكس، قال الله تعالى:
(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:105-108] فالنهاية إما شقاء وإما سعادة ، فنسأله سبحانه أن يجعلنا من أهل السعادة.
قال: فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ هذه الجملة قيل إنها مدرجة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذا اختلف المحدثون في
جملة من الحديث أمدرجة هي أم من أصل الحديث؟ فالأصل أنها من أصل الحديث،
فلا يقبل الإدراج إلابدليل لا يمكن أن يجمع به بين الأصل والإدراج
وعلى هذا فالصواب أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ
هذا قسم مؤكد بالتوحيد، القسم: فَوَاللهِ، والتوكيد بالتوحيد: الَّذِيْ
لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أي لا إله حق غير الله، وإن كان توجد آلهة تعبد من دون
الله لكنها ليست حقاً،كما قال الله عزّ وجل:( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) [الانبياء:43] وقال عزّ وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل) [لقمان: الآية30].
إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ أي حتى يقرب أجله تماماً. وليس المعنى حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع في مرتبة العمل، لأن عمله الذي عمله ليس عملاً صالحاً،كما جاء في الحديث: إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيما يبدو للناس وهو من أهل النار؛
لأنه أشكل على بعض الناس:كيف يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها
إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
فنقول:
عمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولم يتقدم ولم يسبق، ولكن حتى ما
يكون بينه وبينها إلا ذراع أي بدنو أجله ، أي أنه قريب من الموت، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيدع العمل الأول الذي كان يعمله، وذلك لوجود دسيسة في قلبه ( والعياذ بالله) هوت به إلى هاوية.
أقول هذا لئلاّ يظن بالله ظن السوء: فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبداً.
فالله عزّ وجل أكرم من عبده، لكن لابد من بلاء في القلب.
واذكروا قصة الرجل الذي
كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته عليه الصلاة والسلام،
وكان هذا الرجل لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها، فتعجب الناس منه
وقالوا: هذا الذي كسب المعركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ مِنْ
أَهْلِ النَّارِ فعظم ذلك على الصحابة رضي الله عنهم كيف يكون هذا الرجل
من أهل النار؟ فقال رجل: لألزمنه، أي أتابعه، فتابعه، فأصيب هذا الرجل
الشجاع المقدام بسهم من العدو فجزع، فلما جزع سل سيفه (والعياذ بالله) ثم
وضع ذبابة سيفه على صدره ومقبضه على الأرض، ثم اتّكأ عليه حتى خرج من ظهره،
فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: أشهد
أنك رسول الله، قال: بِمَ قال: إن الرجل الذي قلت فيه إنه من أهل النار حصل
منه كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيْمَا يَبْدُو للِنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)) .
واذكروا قصة الأصيرم من
بني عبد الأشهل من الأنصار،كان منابذاً للدعوة الإسلامية عدواً لها، ولما
خرج الناس إلى غزوة أحد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان فآمن وخرج في
الجهاد وقتل شهيداً، فجاء الناس بعد المعركة يتفقدون قتلاهم وإذا الرجل،
فقالوا: ما الذي جاء بك يا فلان، أجئت حدباً على قومك، أم رغبة في الإسلام،
قال: بل رغبةفي الإسلام، ثم طلب منهم أن يقرؤوا على النبي صلى الله عليه
وسلم السلام، فصار هذا ختامه أن قتل شهيداً مع أنه كان منابذاً للدعوة.
من فوائد هذا الحديث:
1. حسن أسلوب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،وهو كلماته كأنما تخرج من مشكاة النبوة، كلمات عذبة مهذبة، وانظر إلى الأثر المروي عنه: من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن (3). إلى آخر الأثر كأنما يخرج من مشكاة النبوّة.
2. أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد الخبر الذي يحتاج الناس إلى تأكيده بأي نوع من أنواع التأكيدات.
3. تأكيد الخبر بما يدل على صدقه، لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ.
4. أن الإنسان في بطن أمه يُجمع خلقه على هذا الوجه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
5. أنه يبقى نطفة لمدة أربعين يوماً.
وقد يقول قائل: هذه النطفة هل يجوز إلقاؤها أولا يجوز؟
والجواب: ذكر الفقهاء (رحمهم الله) أنه يجوز إلقاؤها بدواء مباح، قالوا: لأنه لم يتكون إنساناً، ولم يوجد فيه أصل الإنسان وهو الدم.
وقال آخرون: لا يجوز،لأن الله تعالى قال: (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) [المرسلات:21-22]
فلا يجوز أن نتجاسر على هذا القرار المكين ونخرج الجنين منه، وهذا أقرب
إلى الصواب أنه حرام، لكنه ليس كتحريم ما بعده من بلوغه أربعة أشهر.
فإذا قدر أن المرأة مرضت وخيف عليها، فهل يجوز إلقاء هذه النطفة؟
الجواب: نعم يجوز، لأن إلقاءها الآن صار ضروريّاً.
6. حكمة الله عزّ وجل في أطوار الجنين من النطفة إلى العلقة.
7. أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان، وجهه: أن أصل بني آدم بعد النطفة العلقة، والعلقة دم، ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.
8. أن الطور الثالث هي المضغة، هذه المضغة تكون مخلقة وغير مخلقة بنص القرآن،كما قال الله تعالى: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ )[الحج: الآية5]
لكن ما الذي يترتب على كونها مخلقة أو غير مخلقة ؟
الجواب: يترتب عليها مسائل:
1- لو سقطت هذه المضغة غير مخلقة لم يكن الدم الذي يخرج نفاساً، بل دم فساد.
2-
ولو سقطت هذه المضغة قبل أن تخلق وكانت المرأة في عدة لم تنقض العدة، لأنه
لابد في انقضاء العدة أن يكون الحمل مخلقاً، ولابد لثبوت النفاس من أن
يكون الحمل مخلقاً، لأنه قبل التخليق يحتمل أن تكون قطعة لحم فقط وليست
آدمياً، فلذلك لا نعدل إلى إثبات هذه الأحكام إلا بيقين بأن يتبين فيه خلق
إنسان.
9. أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر، لقوله: ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ.
وينبني على هذا:
أ-
أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر
المسلمين ويسمى ويعق عنه، لأنه صار آدمياً إنساناً فيثبت له حكم الكبير.
ب.
أنه بعد نفخ الروح فيه يحرم إسقاطه بكل حال، فإذا نفخت فيه الروح فلا يمكن
إسقاطه، لأن إسقاطه حينئذ يكون سبباً لهلاكه، ولايجوز قتله وهو إنسان.
فإن قال قائل: أرأيتم لو كان إبقاؤه سبباً لموت أمه، أفيلقى وتبقى حياة الأم، أو يبقى وتهلك الأم ثم يهلك الجنين؟
فالجواب: نقول ربما أهل الاستحسان يقولون بالأول، ولكن لااستحسان في مقابلة الشرع.
فنقول: الثاني هو المتعيّن
بمعنى أنه لا يجوز إسقاطه،حتى لو قال الأطباء: إنه إن بقي هلكت الأم. وقد
يحتج من يقول بإسقاط الجنين بأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين فيهلك نفسان،
وإذا أخرجناه هلك الجنين لكن الأم تسلم.
والجواب على هذا الرأي الفاسد أن نقول:
أولاً:
قتل النفس لإحياء نفس أخرى لا يجوز، ولذلك لو فرض أن رجلين كانا في سفر في
أرض فلاة ولا زاد معهما، وكان أحدهما كبيراً والآخر عشر سنين أو تسع سنين
فجاع الكبير جداً بحيث لو لم يأكل لهلك، فلا يجوز للكبير أبداً أن يذبح
الصغير ليأكله ويعيش بإجماع المسلمين .
ولو قدر أن الصبي مات من الجوع وبقي الكبير وهو إما أن يأكله فيبقى أو يتركه فيهلك، فهل يجوز له الأكل من جسد الصغير؟
والجواب: مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- في المشهور عنه أنه لايجوز أكله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كَسْرُ عَظْمِ الميِّتِ كَكَسْرِهِ حَيَّاً)) (4) وذبح الميت كذبحه حياً.
والقول الثاني في هذه المسألة: أنه يجوز أن يأكل منه ما يسد رمقه،لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت.
أولاً:
فنقول: أننا لو أسقطنا الجنين فهلك فنحن الذين قتلناه، ولو أبقيناه فهلكت
الأم ثم هلك هو،فالذي أهلكهما هو الله عزّ وجل أي ليس من فعلنا.
ثانياً:
لا يلزم من هلاك الأم أن يهلك الجنين لا سيما في وقتنا الحاضر، إذ من
الممكن إجراء عملية سريعة لإخراج الجنين فيحيى، ولهذا بعض البيطريين في
الغنم وشبهها يستطيع إذا ماتت الأم أن يخرج حملها قبل أن يموت .
وأيضاً نقول: لو أنه مات هذا الجنين في بطن أمه من عند الله عزّ وجل لايلزم أن تموت هي، فيُخرج لأنه ميت وتبقى الأم.
الخلاصة: أنه إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إسقاطه بأي حال من الأحوال.
ومن فوائد هذا الحديث:
10.
عناية الله تعالى بالخلق حيث وكل بهم وهم في بطون أمهاتهم ملائكة يعتنون
بهم، ووكل بهم ملائكة إذا خرجوا إلى الدنيا، وملائكة إذا ماتوا، كل هذا
دليل على عناية الله تعالى بنا.
11. أن الروح في الجسد تنفخ نفخاً ولكن لا نعلم الكيفية، وهذا كقوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)[التحريم: الآية12]
لكن لا ندري كيف هذا؟ لأن هذا من أمور الغيب.
12. أن الروح جسم، لأنه ينفخ فيحل في البدن.
ولكن هل هذا الجسم من جنس أجسامنا الكثيفة المكونة من عظام ولحم وعصب وجلود؟
الجواب: لا علم للبشر بها، بل نقول كما قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الاسراء: الآية85]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : ولما لم يكن عند المتكلمين
والفلاسفة علم شرعي بحال الروح تخبطوا فيها، فقال بعضهم: إن الروح عرض أي
صفة للبدن كالطول والقصر والبياض والسواد، وقال بعضهم: إن الروح هي الدم
وقال بعضهم: إن الروح جزء من الإنسان كيده ورجله، فتخبطوا فيها.
وأما أهل السنة فيقولون: الروح من أمر الله عزّ وجل، ولكننا نؤمن بما علمنا من أوصافها في الكتاب والسنة، فمن ذلك:
قول الله تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) [السجدة: الآية11]
أي يقبضكم، وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) [الأنعام: الآية61]
أي قبضته، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة إذا
قبضوا الروح من الجسد إذا كان من أهل الجنة - اللهم اجعلنا منهم - فإذا مع
الملائكة كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فأخذوها من يد ملك الموت ولم
يدعوها طرفة عين ثم جعلوها في ذلك الكفن وصعدوا بها إلى السماء (5) .
إذاً هي جسم لكن مخالف
للأجسام الكثيفة التي هي أجسادنا، والله أعلم بكيفيتها. والروح عجيبة، لها
حال في المنام فتخرج من البدن لكن ليس خروجاً تامّاً، فتجد نفسك تجوب
الفيافي، ربما وصلت إلى الصين أو إلى أقصى المغرب وربما طرت بالطائرة وربما
ركبت السيارة، وأنت في مكانك واللحاف قد غطّى جسمك، ومع ذلك تتجول في
الأرض، لكنها لا تفارق الجسم في حال النوم مفارقة تامة، فالروح أمرها
غريب،ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنة، وما لانعلمه نَكِلُ
علمهُ لله سبحانه وتعالى.
فإذا كنت لا تدري عن نفسك التي بين جنبيك فكيف تحاول أن تعرف كيفية صفات الله عزّ وجل الذي هو أعظم وأجل من أن تحيط به.
فإذا عرفت نفسك وأنك غير
قادر على إدراك كيفية صفات الله مهما كنت، فلا تحاول إدراك الكيفية ولا
السؤال عنها، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله في السؤال عن كيفية
الاستواء: بدعة.
وهذا المثال - أعني مثال
الروح- حجة مقنعة لمن يبحث عن كيفية صفات الله، فإذا كان العبد لا يعلم عن
روحه التي هي قوام بدنه فكيف بكيفية صفات الله عزّ وجل.
13. أن الملائكة عليهم السلام عبيد يؤمرون وينهون، لقوله: فَيُؤمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمرُ له هو الله عزّ وجل.
14. أن هذه الأربع مكتوبة على الإنسان: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. ولكن هل معنى ذلك أن لا نفعل الأسباب التي يحصل بها الرزق؟
الجواب: بلى نفعل، وما نفعله من أسباب تابع للرزق.
15. أن الملائكة يكتبون.
فلو قال لنا قائل: بأي حرف يكتبون، هل يكتبون باللغة العربية، أم باللغة السريانية، أو العبرية، أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب: السؤال عن هذا بدعة، علينا أن نؤمن بأنهم يكتبون، أما بأي لغة فلانقول شيئاً.
هذه الكتابة هل هي في صحيفة، أو تكتب على جبين الجنين؟
الجواب:
هناك آثار تدل على أنها تكتب على جبين الجنين، وآثار على أنها تكتب في
صحيفة، والجمع بينهما سهل: إذ يمكن أن تكتب في صحيفة ويأخذها الملك إلى ما
شاء الله، ويمكن أن تكتب على جبين الإنسان.
16.
أن الإنسان لا يدري ماذا كتب له، ولذلك أمر بالسعي لتحصيل ما ينفعه، وهذا
أمر مسلّم، فكلنا لا يدري ما كتب له، ولكننا مأمورون أن نسعى لتحصيل ما
ينفعنا وأن ندع ما يضرنا.
17. أن نهايةبني آدم أحد أمرين:
إما الشقاء وإما السعادة، قال الله تعال: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود: الآية105]
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ )[التغابن: الآية2]
نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل السعادة إنه سميع قريب.
______________________________________________
(1)
- أخرجه البخاري- كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، (3208)، ومسلم-
كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله
وشقاوته وسعادته، (2643)،(1)
(2) - أخرجه ابن ماجه- كتاب: التجارات، باب: الحث على المكاسب، (2144)،
(3) أخرجه مسلم- كتاب: المساجد، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى، (654)،(257)
(4)
- أخرجه الإمام أحمد- مسند النساء، ج6/ص 105، (25246)، وأبو داود –
الجنائز، باب: في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان، (3207)، وابن ماجه
– كتاب الجنائز، باب: النهي عن كسر عظام الميت، (1616).
(5) - أخرجه الإمام أحمد- في مسند الكوفيين، ج4/ص287، (18733)
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الرَّاوِي:
هوَ أبو
عبدِ الرَّحْمنِ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودِ بنِ غَافِلٍ الهُذَلِيُّ،
أَسْلَمَ قديماً، وهوَ أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بالقرآنِ بعدَ الرسولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ودَعَا لهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ بقَوْلِهِ: ((أَنْتَ غُلامٌ مُعَلَّمٌ)).
يُكَنَّى بِابْنِ أُمِّ عَبْدٍ كما في الحديثِ.
أَخَذَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أكثرَ مِنْ سبعينَ سورةً.
مَنَاقِبُهُ كثيرةٌ، تُوُفِّيَ في السنةِ الثانيَةِ والثلاثينَ لِلْهِجْرَةِ.
موضوعُ الحديثِ:
بَيَانُ مَرَاحِلِ خَلْقِ الإنسانِ.
المُفْرَدَاتُ:
(حَدَّثَنَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ) يُسَمَّى هذا مُسَلْسَلٌ في الروايَةِ؛ لاتِّفَاقِ الرواةِ على كَلِمَةِ حَدَّثَنَا.
(وهوَ الصادقُ المصدوقُ)(الصَّادِقُ)؛
أي: الذي يَأْتِي بما يُطَابِقُ الواقعَ، فهوَ صادقٌ في قولِهِ لا
يَكْذِبُ، وما كَذَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الجَاهِلِيَّةِ
فكيفَ يَكْذِبُ في الإسلامِ؟! والصِّدْقُ صفةُ المؤمنِ.
و(المَصْدُوقُ)؛ أي: الذي يُصَدِّقُهُ غَيْرُهُ، فهوَ مُصَدَّقٌ مِنْ غَيْرِهِ، وقدْ كانَ كذلكَ عندَ المؤمنِ والكافرِ.
((إِنَّ أَحَدَكُم)) الخِطَابُ لجميعِ الناسِ وليسَ لأحدٍ دُونَ أحدٍ؛ لأنَّ هذا الأمرَ يَسْرِي على الجميعِ بقضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ.
((يُجْمَعُ))
أيْ: يَتَّفِقُ بعدَ التَّفَرُّقِ؛ لأنَّهُ كانَ مُتَفَرِّقاً في الجسمِ
كُلِّهِ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ ومنْ قِبَلِ المُرْأَةِ، ولذلكَ تَجِدُ
الولدَ يُشْبِهُ أَبَاهُ أوْ أُمَّهُ في جميعِ أوْ غالبِ الجسدِ. فإذا
أرادَ اللَّهُ أنْ يجعلَ الجنينَ ذَكَراً سبقَ القِسْمُ الثاني مِن
الذَّكَرِ معَ قِسْمِ المرأةِ، وإذا أرادَ اللَّهُ أنْ يجعلَ الجنينَ
أُنْثَى سبقَ القسمُ الأَوَّلُ مِن الذَّكَرِ معَ قِسْمِ المرأةِ.
((يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ))
((خَلْقُهُ)) أيْ: تَكْوِينُهُ الذي يَتَكَوَّنُ منهُ، والفاعلُ لذلكَ هوَ اللَّهُ تعالى ولا خَالِقَ سِوَاهُ.
ولو اجتمعَ الخَلْقُ على خَلْقِ ذُبابةٍ أوْ أصغرَ ما اسْتَطَاعُوا.
((في بَطْنِ أُمِّهِ))
هذا هوَ المكانُ اللائقُ لتكوينِ الجنينِ؛ لأنَّهُ مُعَدٌّ لذلكَ. وكأنَّ
الحديثَ يَرُدُّ ما يُقَالُ عنْ طِفْلِ الأنابيبِ والاسْتِنْسَاخِ
وغَيْرِها مِمَّا لا يكونُ في بَطْنِ الأُمِّ؛ لِعَدَمِ وجودِ المُناخِ
المناسبِ للولدِ ولعدمِ اليقينِ بأنَّهُ مِن الأبِ والأُمِّ.
((أَرْبَعِينَ يوماً)) هذهِ المرحلةُ الأُولَى مِنْ مراحلِ خلقِ الإنسانِ، وهيَ الأربعينَ الأُولَى مِنْ حَيَاتِهِ، ولَيْسَتْ مُتَحَقِّقَةً إلاَّ بأَمْرَيْنِ:
الأَوَّلُ: انقطاعُ دمِ الحَيْضِ مِن الأُمِّ؛ ليكونَ غِذَاءً للطفلِ.
والثاني: تَحَوُّلُهُ مِن النُّطْفَةِ إلى العَلَقَةِ.
((نُطْفَةً))النُّطْفَةُ: هيَ الماءُ اليسيرُ الصافي المسلولُ مِنْ جميعِ الجَسَدِ.
وسُمِّيَتْ نُطْفَةً؛
لأنَّها مِنْ ماءٍ يَنْطُفُ؛ أيْ: يَسِيلُ، والذي في هذا الماءِ هوَ
المَنَوِيُّ مِن الرَّجُلِ يَلْتَقِي بالبُوَيْضَةِ مِن المرأةِ، فيكونُ
منها الولدُ.
وقدْ قيلَ: المَنَوِيُّ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ، والبُوَيْضَةُ من التَّرَائِبِ.
وذِكْرُ النُّطْفَةِ يَدُلُّ على وُجُوبِ التواضعِ وتحريمِ التَّكَبُّرِ، وَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ مُتَعَالِياً مُتَكَبِّراً: أَتَعْرِفُنِي؟ قالَ: نَعَمْ، أَوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وتَحْمِلُ في أَحْشَائِكَ العَذِرَةَ، وآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ.
وفي أَضْوَاءِ البيانِ:(أنَّ خَلِيَّةَ التلقيحِ عندَ المرأةِ مُكَوَّنَةٌ منْ ثَمَانِيَةٍ وأربعينَ جُزْءاً، وتنقسمُ إلى قِسْمَيْنِ:
كلُّ قسمٍ أربعةٌ وعِشْرونَ جُزْءاً.
وخَلِيَّةُ الذَّكَرِ تنقسمُ إلى قِسْمَيْنِ:
في الأَوَّلِ: (أَرْبَعَةٌ وعشرونَ).
وفي الثاني: (ثلاثةٌ وعشرونَ).
وقيلَ: بل الأقسامُ ثلاثةٌ وعشرونَ منْ كُلِّ جِنْسٍ.
وكَيْفِيَّةُ
الشَّبَهِ بينَ الوَلَدِ وأبيهِ أوْ أُمِّهِ وَرَدَتْ في حديثِ عبدِ
اللَّهِ بنِ سَلامٍ، وهوَ أنْ يَكُونَ الشَّبَهُ لِمَنْ سَبَقَ مَاؤُهُ
مِنْهُمَا).
((ثمَّ يكونُ علقةً مثلَ ذلكَ)) هذا هوَ الطورُ الثاني أو المرحلةُ الثانيَةُ مِنْ خَلْقِ الإنسانِ، وهيَ العلقةُ.
والعلقةُ: قطعةٌ مِن الدَّمِ الجامدةِ، وبها يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الجنينِ في الرَّحِمِ.
وقدْ أشارَ لذلكَ القرآنُ في قولِ اللَّهِ تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق: 2].
ومِنْ حكمةِ اللَّهِ تعالى وقُدْرَتِهِ أنَّ النطفةَ تَقْوَى حتَّى تكونَ علقةً؛ لِتَكُونَ مَنْبِتاً لِلَّحْمِ.
وسُمِّيَتْ عَلَقةً؛
لأنَّها تَعْلَقُ بالرَّحِمِ، ولذا لا يَسْتَغْنِي الجسمُ عن الدمِ بلْ
إذا فَقَدَهُ ماتَ صَاحِبُهُ أوْ ماتَ العضوُ الذي فَقَدَهُ.
ومعنى ((مِثْلَ ذَلِكَ)) أيْ: أربعينَ يوماً كالأُولَى.
((ثمَّ يكونُ مُضْغَةً مثلَ ذلكَ)) هذهِ المرحلةُ الثالثةُ مِنْ مراحلِ التكوينِ والخلقِ.
والمراد بالمُضْغَةِ: قِطْعَةُ اللحمِ الصغيرةُ التي تَكُونُ على مقدارِ المُضْغَةِ الواحدةِ؛ لصِغَرِهَا وعدمِ وجودِ عَظْمٍ فيها، فهيَ لَحْمٌ مَحْضٌ.
وفي هذهِ المرحلةِ يبدأُ التخليقُ والتخطيطُ في الإنسانِ، وتتميزُ أعضَاؤُهُ، ويُعْرَفُ مكانُ الأنفِ والعينِ والأُذُنِ وهكذا.
وبهذهِ المرحلةِ يَتِمُّ للجَنِينِ أربعةُ أشهرٍ؛ أيْ: مائةٌ وعشرونَ يوماً.
ويَتَرَتَّبُ على هذهِ المرحلةِ مِن الأحكامِ:
أنَّ الجنينَ يُعْتَبَرُ إنساناً:
- تنتهي بهِ العِدَّةُ.
- وتُعْتَقُ بهِ أُمُّ الولدِ.
- وتَأْخُذُ المرأةُ أحكامَ النُّفَسَاءِ.
وهذهِ الأحكامُ:
- قِيلَ: بمُجَرَّدِ الدخولِ فيها؛ أيْ: واحدٌ وثمانونَ يوماً.
- وقيل: بل التَّخْلِيقُ، وكأنَّ التَّخْلِيقَ يكونُ مِنْ بِدَايَتِهَا، فَعَلَى هذا لا إِشْكَالَ.
((ثمَّ يُرْسَلُ إليهِ مَلَكٌ)) أيْ: بعدَ مائةٍ وعشرينَ يوماً وتَخَلُّقِهِ يُرْسِلُ اللَّهُ تعالى إليهِ المَلَكَ؛ لِيَنْفُخَ فيهِ الرُّوحَ.
والمَلَكُ: هوَ المُوَكَّلُ بالرَّحِمِ والنفخِ في الأَجِنَّةِ، وهوَ أحدُ الملائكةِ.
((فَيَنْفُخُ فيهِ الروحَ)) أيْ: بأمرِ اللَّهِ تعالى لهُ، فلا حياةَ ولا موتَ عندَ المَلَكِ.
و(الرُّوحُ)ما لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللَّهُ تعالى.
وقدْ سألَ عنها اليهودُ، فَرَدَّ اللَّهُ تعالى عليهم بقَوْلِهِ: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآيَةَ [الإسراء: 85].
والإنسانُ يَتَكَوَّنُ مِنْ جسدٍ ورُوحٍ، وهوَ برُوحِهِ لا بجَسَدِهِ، وحَيَاتُهُ بوجودِ رُوحِهِ، ومَوْتُهُ بفَقْدِ رُوحِهِ.
وقدْ يُطْلَقُ الرُّوحُ على جبريلَ عليهِ السلامُ، يقولُ تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراءُ: 193]
وقدْ يُرَادُ به ِالوحيُ؛ كَقَوْلِهِ تعالى:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15].
وقيلَ عن الوحيِ: رُوحٌ؛ لأنَّ القلوبَ تَحْيَى بهِ كما تَحْيَى الأبدانُ بالرُّوحِ.
(( ويُؤْمَرُ بأربعِ كَلِمَاتٍ)) أيْ: يُؤْمَرُ الملكُ بأنْ يَكْتُبَ أربعَ كلماتٍ على هذا الجنينِ؛ لتكونَ مُبَيِّنَةً لِحَيَاتِهِ مِنْ أَوَّلِهَا إلى آخِرِهَا.
(( بِكَتْبِ رِزْقِهِ وأَجَلِهِ وعَمَلِهِ وشقيٌّ أوْ سعيدٌ)) أي: الكلمةُ الأُولَى الرزقُ الذي يكونُ لهُ، وقدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ تعالى لهُ فقالَ تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].
قالَ بعضُ السَّلَفِ: بَنَيْتُ
التَّوَكُّلَ على عِلْمِي أنَّ اللَّهَ نَاظِرٌ إِلَيَّ، فَأَنَا
أُرَاقِبُهُ، وعلى أنَّ عَمَلِي لا يَعْمَلُهُ غَيْرِي، فَأَنَا مَشْغُولٌ
بهِ، وعَلَى أنَّ رِزْقِي لا يَأْخُذُهُ غَيْرِي فَأَنَا مُطْمَئِنٌّ، وعلى
أنَّ الموتَ يَطْلُبُنِي فَأَنَا مُسْتَعِدٌّ لهُ.
والرِّزْقُ رِزْقَانِ:
- رِزْقٌ عَامٌّ، وهوَ ما يَحْتَاجُهُ الجسدُ.
- ورزقٌ خاصٌّ، وهوَ ما تَحْتَاجُهُ الروحُ.
(وَأَجَلِهِ) هيَ الكلمةُ الثانيَةُ، والمرادُ بذلكَ عُمُرُ الإنسانِ؛ بِدَايَتُهُ ونِهَايَتُهُ مِن الدُّنْيَا.
(وَعَمَلِهِ) وهيَ الكلمةُ الثالثةُ؛ أي: العملِ الذي يَعْمَلُهُ، هلْ هوَ مِن العملِ الصالحِ أوْ مِن العملِ السَّيِّئِ.
(وشقيٌّ أوْ سعيدٌ) هيَ الكلمةُ الرابعةُ، هلْ هوَ مِن الأشقياءِ أوْ مِن السُّعَداءِ.
ومعَ كَتْبِ هذهِ الأمورِ فإنَّهُ لا بُدَّ من العملِ؛ لأنَّها أُمُورٌ غائبةٌ عَنَّا لا نَدْرِي عنها.
والأمرُ الآخَرُ يقولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:((اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) ولأنَّ بَذْلَ السببِ مطلوبٌ.
(( فَوَاللَّهِ الَّذِي لا إلهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُم)) هذا الكلامُ مُدْرَجٌ مِنْ كلامِ ابنِ مسعودٍ وليسَ مِنْ كلامِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وقدْ أَقْسَمَ ابنُ مسعودٍ أنَّ الأعمالَ بالخواتيمِ.
وهذهِ حقيقةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)).
وقِصَّةِ الذي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ في الحَجِّ يُبْعَثُ يومَ القيامةِ مُلَبِّياً، وقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)) الحديثَ.
والمرادُ
أنَّ الإنسانَ يعملُ في الظاهرِ بعملِ أهلِ الجَنَّةِ أوْ بعملِ أهلِ
النارِ، وتكونُ خَاتِمَتُهُ بما في باطنِهِ لا بِمَا في ظَاهِرِهِ؛ إذْ
وَرَدَ في بعضِ الرواياتِ: ((فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ)).
(( ذِرَاعٌ)) الذراعُ: هوَ ما بينَ رُؤُوسِ أصابعِ اليدِ وبينَ المِرْفَقِ.
وقدْ قيلَ بأنَّهُ حوالي أربعٌ وعشرونَ أُصْبُعاً، والمرادُ قُرْبُ دُخُولِهِ الجَنَّةَ أو النارَ.
(( الكتابُ)) أي: المكتوبُ عليهِ عندَ اللَّهِ تعالَى.
- قالَ تعالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد: 22].
- وقالَ تعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].
- وقالَ تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
- وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ اكْتُبْ)) الحديثَ.
الفوائدُ:
1- ضَبْطُ الرُّوَاةِ في أخذِ بَعْضِهِم منْ بَعْضٍ.
2- تَوْقِيرُ الصحابةِ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
3- بيانُ بناءِ الجسدِ بعدَ بناءِ الدِّينِ.
4- أنَّ الخالقَ هوَ اللَّهُ وحْدَهُ.
6- قدرةُ اللَّهِ تعالى على كلِّ شيءٍ.
7- بيانُ مراحلِ تكوينِ الإنسانِ.
8- أنَّ المرحلةَ الأُولَى هيَ النُّطْفَةُ.
9- وُجُوبُ التَّوَاضُعِ وتحريمُ الكِبْرِ.
10-التَّحْذِيرُ مِمَّا يُسَمَّى الأنابيبَ والاسْتِنْسَاخَ.
11-أنَّ المرحلةَ الثانيَةَ هيَ العَلَقَةُ.
12-يَثْبُتُ وُجُودُ الجنينِ بالعلقةِ.
13-أنَّ المرحلةَ الثالثةَ هيَ المُضْغَةُ.
14-ثبوتُ أحكامِ العِدَّةِ والنِّفَاسِ ونَحْوِها بالمُضْغَةِ المُخَلَّقَةِ.
15-تَقَوِّي جسمِ الجنينِ في كلِّ مَرْحَلَةٍ.
16-أنَّ مِن الملائكةِ مَنْ هوَ مُوَكَّلٌ بالنفخِ في الأجِنَّةِ.
17- عنايَةُ اللَّهِ تعالى بخَلْقِهِ.
18- أنَّ النفخَ لا يكونُ إلاَّ بعدَ أربعةِ أشهرٍ.
19- سَرَيَانُ أحكامِ المولودِ على مَنْ ماتَ بعدَ نفخِ الروحِ.
20- الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ.
21- أنَّ حياةَ الأجسادِ بالأرواحِ.
22- التَّوَكُّلُ على اللَّهِ.
23- الإيمانُ بالآجالِ والاستعدادُ لها.
24- اغتنامُ العمرِ في العملِ الصالحِ.
25- الخوفُ منْ سُوءِ الخاتمةِ.
26- الدعاءُ بتثبيتِ القلبِ على الإيمانِ.
27- الأعمالُ بالخواتيمِ.
28- طهارةُ المَنِيِّ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
الحديثُ
لَه أهميَّةٌ عَظِيمَةٌ؛ لأنَّهُ تَعَرَّضَ لكيفيَّةِ خَلْقِ الإِنْسَانِ
الَّذي كَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى باقي مخلوقاتِهِ، كَمَا فِيهِ الْكَلامُ
حولَ القضاءِ والقَدَرِ، الَّذِي هُو الرُّكنُ السَّادسُ مِن أركانِ
الإيمانِ، الَّذي لا يَتِمُّ إيمانُ الْعَبْدِ إِلا بِهِ، كَمَا فِيهِ
فوائدُ كَثِيرَةٌ عَظِيمَةٌ، استنْبَطَها العُلماءُ مِنْهُ.
كيفيَّةُ تَكوينِ الإِنْسَانِ:
بَيَّنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كيفيَّةَ تكوينِ الإِنْسَانِ، فقالَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)) وَالْمُرَادُ بالْجَمْعِ: ضمُّ بعضِهِ إِلَى بَعْضٍ بَعْدَ الانتشارِ، وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ((الْمُرَادُ
أنَّ الْمَنِيَّ يَقَعُ فِي الرَّحِمِ حِينَ انزعاجِهِ بالْقوَّةِ
الشَّهوانيَّةِ الدافعةِ مَبْثُوثًا مُتَفَرِّقًا، فيَجْمَعُهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي مَحَلِّ الوِلادةِ مِن الرَّحمِ)) اهـ وقولُ القُرطبيِّ
مُوافقٌ لِمَا أثبتَهُ الْعِلْمُ الْحَدِيثُ، فالحيواناتُ الْمَنَوِيَّةُ
الَّتي يَقْذِفُهَا الرَّجلُ كَثِيرَةٌ، وتَكونُ مُنْتَشِرَةً فِي رَحِمِ
المرأةِ بَعْدَ القَذْفِ، وَلَكِنْ لا يَجْتَمِعُ مِنْهَا مَعَ
الْبُوَيْضَةِ إِلا وَاحِدٌ:
1- النُّطفَةُ: وَهِي الطَّوْرُ الأوَّلُ الَّذي يَمُرُّ بِهِ الجنينُ بَعْدَ التقاءِ الحيوانِ المنوِيِّ مَعَ البُوَيْضَةِ، والنُّطفةُ أصلُهَا الْمَاءُ الصَّافِي، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمَنِيُّ، وتمتدُّ مُدَّةُ هَذَا الطَّوْرِ أربعينَ يومًا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً)).
وهذا الْعِلْمُ لا يَرْفَعُ عَن الْعَبْدِ الاختيارَ والقَصْدَ ؛
لأنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ غَيْرُ مؤثِّرةٍ، كَمَا أنَّ النُّصوصَ الكثيرةَ
فِي الْكِتَابِ والسُّنَّةِ، تُثْبِتُ أنَّ للإنسانِ قَصْدًا وإرادةً
وحُرِّيَّةَ اخْتِيَارٍ. وكذلكَ
مَنْ كُتِبَ مِن أَهْلِ النَّارِ لا بدَّ أَنْ يعملَ بِمَا يوجِبُ لَه
النَّارَ، وَلَو عمِلَ فترةً مِن حياتِهِ بأعمالِ أَهْلِ الجنَّةِ. لذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَوَاللَّهِ
الَّذي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ،
فَيَسْبِقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ
فَيَدْخُلَهَا، وَإنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ....
إلخ)).
2- العَلَقَةُ:
وَهِي الطَّورُ الثَّاني الَّذي يَمُرُّ بِهِ الْجَنينُ، والعَلَقَةُ هِي
الدَّمُ الجامدُ الغليظُ وسُمِّيَ بِذَلِك لتَعَلُّقِهِ بِمَا مَرَّ بِه،
ويَمتَدُّ هَذَا الطَّورُ أربعينَ يومًا، كَمَا بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ)) وممـَّا يَشْهَدُ لِذَلِك مِن الذِّكْرِ الحكيمِ قولُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}.
3- الْمُضْغَةُ: وَهِي الطَّوْرُ الثَّالثُ الَّذي يَمُرُّ بِه الْجَنينُ، والْمُضْغَةُ هِي: قِطعةٌ مِن لحمٍ.
وسُمِّيَتْ بِذَلِك ؛ لأنَّها قَدْرُ مَا يَمْضُغُ الماضغُ، ويَمْتَدُّ هَذَا الطَّورُ أربعينَ يومًا، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ)).
4- نفخُ الرُّوحِ: وَيَكُونُ ذَلِك بَعْدَ مُضِيِّ مِائَةٍ وعِشرينَ يومًا مِن اجتماعِ الزَّوجينِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ)) وَهَذَا مُلاحَظٌ بالمشاهَدَةِ، والرُّوحُ مَا يَحْيَى بِه الْعَبْدُ، وَهِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً}.
وعَرَّفَها بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: (جِسمٌ لطيفٌ سارٍ فِي الْبَدَنِ، مُشْتَبِكٌ بِه اشتباكَ الْمَاءِ بالعُودِ الأَخْضَرِ).
وعرَّفَها آخرونَ: (جوهرٌ مُجَرَّدٌ مُتَصَرِّفٌ فِي الْبَدَنِ).
وُجوبُ الإيمانِ بالقَدَرِقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَيـُؤْمـَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بكَتْبِ رِزْقِهِ، وأَجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وشَقِيٌّ أَو سَعيدٌ))
فِي هَذَا المقطعِ مِن هَذَا الْحَدِيثِ تَعَرَّضَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقضيَّةٍ مِن القضاءِ والقَدَرِ، وَهِي تَتَعَلَّقُ
بعِلْمِ اللَّهِ الْكَامِلِ، الَّذي يَعْلَمُ مَا كَانَ، وَمَا سيكونُ،
وَكَيْف يَكُونُ، وبِناءً عَلَى هَذَا العلْمِ الْكَامِلِ، كَتَبَ سبحانَهُ
فِي الْكِتَابِ رِزْقَ الإِنْسَانِ الَّذي سيَحْصُلُ عَلَيْهِ أثناءَ
حياتِهِ حتَّى يَموتَ، وَالْعَمَلَ الَّذي سيقومُ بِه مِن خَيْرٍ وشرٍّ،
وهل هُو مِن أَهْلِ الشَّقاءِ أَمِ السَّعادةِ.
الأعمالُ بالخواتيمِ
وأعمالُ
عبادِ اللَّهِ الَّتي تصدُرُ مِنْهُم فِي الدُّنْيَا لا بُدَّ أن تَكُونَ
مُوَافِقَةً لِمَا كتبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِم فِي الْكِتَابِ السَّابقِ،
فَمَن كُتِبَ أنَّهُ مِن أَهْلِ الجنَّةِ لا بدَّ أَنْ يُوَفَّقَ للأعمالِ
الَّتي تَدْخِلُهُ الجنَّةَ، وَلَو عَمِلَ فترةً مِن حياتِهِ بأعمالِ
أَهْلِ النَّارِ.
فوائدُ الْحَدِيثِ:
اسْتَنْبَطَ
عُلماؤُنا مِن هَذَا الْحَدِيثِ فوائدَ كَثِيرَةً سأَذْكُرُ بعضًا منهَا،
وَالْمُتَأَمِّلُ لِهَذِهِ الاستنباطاتِ يَلْحَظُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِه
عَلَى هَؤُلاءِ العُلماءِ مِن نِعمةِ الفَهْمِ والفقهِ الدَّقيقِ لأحاديثِ
خَيْرِ الأنامِ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ قَالَ: ((نَضـَّرَ
اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا،
فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فِقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ
هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)) وَذَلِك لأنَّ الْعَبْدَ قَد يَحْفَظُ
الكثيرَ مِن الْكِتَابِ والسُّنَّةِ، وَلَكِنْ لا فَهْمَ وَلا فِقهَ لَه
فِي النُّصوصِ، فقد يَسْتَدِلُّ بنصٍّ بِغَيْرِ موضعِهِ، وَقَد يَمُرُّ
عَلَى مَوْضِعِ الدَّلالةِ بالنَّصِّ، وَلا يَعِي ذَلِك وَلا يُلاحِظُهُ.
أَسْأَلُ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَمُنَّ علينا، وَعَلَى عُلَمَائِنَا
بنِعمةِ الفِقهِ والْفَهْمِ لدِينِهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((مـَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
ممَّا يُؤخَذُ مِن هَذَا الْحَدِيثِ مِن الفوائدِ الآتِي:
1- الحثُّ عَلَى الدُّعاءِ بالثَّباتِ عَلَى الدِّينِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ بالثَّباتِ عَلَى الدِّينِ، حتَّى يَلقاهُ عَلَى ذَلِك، عَن أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مُقَلـِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ)).
2- الحثُّ عَلَى الاستعاذةِ مِن سوءِ الْخَاتِمَةِ، لِذَلِك كَانَ سلَفُ الأمَّةِ يَخافونَ مِن سوءِ الخاتِمةِ، حتَّى قَالَ بعضُهُم: (مَا أَبْكَى العيونَ، مَا أبكاها الْكِتَابُ السَّابقُ)، ونَقَلَ ابنُ رجبٍ أقوالاً كَثِيرَةً لَهُم تُبَيِّنُ خَوفَهم وجَزَعَهُم مِن سوءِ الخاتِمَةِ.
فيَجبُ عَلَى العَبْدِ أَلا يَغْتَرَّ بعَمَلِهِ وصَلاحِهِ ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ جَنَاحَيِ الخوفِ والرَّجاءِ.
3- أنَّ الأعمالَ سَبَبُ دخولِ الجنَّةِ أَو النَّار ِ.
4- أنَّ عَلَى مَن عَلِمَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ وإيجادِهِ أَنْ يَشْكُرَ مَنْ أَوْجَدَهُ، وخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَنْ يُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ، ويَنْتَهِيَ عمَّا نَهَى عَنْه وَزَجَرَ.
5- أنَّ الشَّقاءَ والسَّعادةَ لا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
6- القَسَمُ عَلَى الخبَرِ الصِّدْقِ تأكيدًا فِي نَفْسِ السَّامعِ.
7 - الاطمئنانُ عَلَى الرِّزقِ، والقناعةُ مَعَ أَخْذِ الأسبابِ، وعَدمُ الحرصِ عَلَيْهِ وبيعُ الدِّينِ والضَّميرِ مِن أَجْلِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْبَعْضُ.
8- الْحَيَاةُ بيدِ اللَّهِ، ولن يموتَ عَبْدٌ حتَّى يَستكملَ عُمُرَهُ، وَهَذَا يَدْعُو العَبْدَ أَنْ لا يَهابَ أحدًا فِي اللَّهِ، وَيَكُونَ شُجاعًا.
9- الأعمالُ سَيِّئُها وحَسَنُها عَلاماتٌ وَلَيْس بموجِباتٍ.
10- قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ والحكمةِ: فِي هَذِه الأطوارِ رِفقٌ بالأمِّ؛ لأنَّهُ قادرٌ عَلَى خَلْقِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
11- رخَّصَ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إسقاطِ الجنينِ مَا لَم تُنْفَخْ فِيهِ
الرُّوحُ، وقاسوا ذَلِك عَلَى الْعَزْلِ، ولكنَّ هَذَا يُرَدُّ بأنَّ
تَخَلُّقَ الجنينِ يَبدأُ فِي النُّطفةِ بَعْدَ أَنْ تَستقرَّ فِي الرَّحمِ
كَمَا يَشهدُ لِذَلِك قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا
مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً -وَفِي روايَةٍ:
بِضعٌ وأربعونَ لَيْلَةً- بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَصَوَّرَها، وَخَلَقَ
سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا، وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا)) وَهَذَا مَا يَشهدُ لَه الْعِلْمُ الْحَدِيثُ.
قالَ ابنُ رجبٍ: (وَقَد
رَخَّصَ طائفةٌ مِن الفقهاءِ للمرأةِ فِي إسقاطِ مَا فِي بَطْنِهَا مَا
لَم يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، وجَعَلُوهُ كالعَزْلِ، وَهُو قَوْلٌ ضعيفٌ؛
لأنَّ الجنينَ وَلَدٌ انْعَقَدَ وربَّما تَصَوَّرَ، وَفِي العَزْلِ لَم
يُوجَدْ وَلَدٌ بالكلِّيَّةِ، وإنَّما تَسَبَّبَ إِلَى مَنْعِ انعقادِهِ،
وَقَد لا يَمْتَنِعُ بالْعَزْلِ إِذَا أرادَ اللَّهُ خَلْقَهُ).
12- وفيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أنَّ البعثَ حقٌّ؛ لأنَّ مَن قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الإِنْسَانِ مِن مَاءٍ مهينٍ، قادرٌ عَلَى إعادتِهِ.
13-استدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بأنَّهُ إِذَا أُسْقِطَ الجنينُ بَعْدَ أربعةِ أشهرٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لأنَّهُ قَد نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ، وَهَذَا مَا ذهبَ إِلَيْهِ الإمامُ أَحْمَدُ، وحُكِيَ ذَلِك عَن سَعِيدِ بْنِ المسيِّبِ، كَمَا هُو أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافعيِّ وإسحاقَ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1)
هذا الحديثُ مُتَّفَقٌ على صِحَّتِهِ، وتَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبُولِ،
رَوَاهُ الأَعْمَشُ عنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ
طريقِهِ خرَّجَهُ الشَّيْخَانِ فِي (صحيحَيْهِمَا).
وقدْ
رُوِيَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ يَزِيدَ الأَسْفَاطِيِّ قالَ: رَأَيْتُ النَّبيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يَرَى النَّائِمُ، فَقُلْتُ: يا
رسولَ اللَّهِ، حَدِيثُ ابنِ مَسْعُودٍ الَّذِي حَدَّثَ عَنْكَ فقالَ:
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ
الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ حَدَّثْتُهُ بِهِ أَنَا))،
يَقُولُهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ: غَفَرَ اللَّهُ للأَعْمَشِ كما حَدَّثَ
بِهِ، وغَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ حدَّثَ بِهِ قَبْلَ الأَعْمَشِ، ولِمَنْ
حَدَّثَ بِهِ بعْدَهُ.
وقدْ رُوِيَ عن ابنِ مسعوِدٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً))
قدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ عن ابنِ مسعودٍ، رَوَى الأَعْمَشُ عنْ خَيْثَمَةَ،
عن ابنِ مسعودٍ قالَ: (إنَّ النُّطْفَةَ إذا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ
طارَتْ فِي كُلِّ شَعَرٍ وظُفْرٍ، فتَمْكُثُ أربعينَ يَوْمًا، ثُمَّ
تَنْحَدِرُ فِي الرَّحِمِ، فتَكُونُ عَلَقَةً. قالَ: فذلكَ جَمْعُهَا)
خَرَّجَهُ ابنُ أبِي حاتِمٍ وغيرُهُ.
وَرُوِيَ
تَفْسِيرُ الجَمْعِ مَرْفُوعًا بمَعْنًى آخَرَ، فَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ
وابنُ مَنْدَهْ فِي كتابِ (التوحيدِ) مِنْ حديثِ مالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ،
أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ خَلْقَ عَبْدٍ، فَجَامَعَ الرَّجُلُ
الْمَرْأَةَ، طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذا
كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلَّ عِرْقٍ
لَهُ دُونَ آدَمَ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ})) وقالَ ابنُ مَنْدَهْ: إِسْنَادُهُ مُتَّصِلٌ مَشْهُورٌ على رَسْمِأبِي عِيسَى والنَّسَائِيِّ وغيرِهِمَا.
وخرَّجَ
ابنُ جَرِيرٍ، وابنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرَانِيُّ منْ رِوَايَةِ
مُطَهَّرِ بنِ الهَيْثَمِ، عنْ مُوسَى بنِ عُلَيِّ بنِ رَبَاحٍ، عنْ
أبِيهِ، عنْ جَدِّهِ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قالَ لِجَدِّهِ: ((يَا فُلانُ، مَا وُلِدَ لَكَ؟)).
قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما عَسَى أَنْ يُولَدَ لِي؟ إمَّا غُلامٌ وإمَّا جارِيَةٌ.
قالَ: ((فَمَنْ يُشْبِهُ؟)).
قالَ: مَنْ عَسَى أَنْ يُشْبِهَ؟ يُشْبِهُ أُمَّهُ أَوْ أَبَاهُ.
قَالَ: فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا
تَقُولَنَّ كَذَا؛ إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ
أَحْضَرَهَا اللَّهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ، أَمَا
قَرَأْتَ هَذِهِ الآيَةَ: {فِي أَيَّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانْفِطَار: 8]، قالَ: سَلَكَكَ)).
وهذا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، ومُطَهَّرُ بنُ الهَيْثَمِ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وقالَ
البُخَارِيُّ: هوَ حديثٌ لمْ يَصِحَّ، وذَكَرَ بإِسْنَادِهِ عنْ مُوسَى
بنِ عُلَيٍّ، عنْ أَبِيهِ، أنَّ أَبَاهُ لمْ يُسْلِمْ إلا فِي عَهْدِ أبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، يَعْنِي: أنَّهُ لا صُحْبَةَ لَهُ.
ويَشْهَدُ
لِهَذا المَعْنَى قولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
للَّذِي قالَ لَهُ: وَلَدَت امْرَأَتِي غُلامًا أَسْوَدَ: ((لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ)).
وقولُهُ: ((ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ)) يَعْنِي: أربعينَ يَوْمًا، والعَلَقَةُ: قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ.
(( ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ)) يعنِي: أربعينَ يَوْمًا.
والمُضْغَةُ: قِطْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ.
((
ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ،
وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ،
وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)).
فهذا
الحَدِيثُ يَدُلُّ على أنَّهُ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَةٍ وعِشرينَ يَوْمًا،
فِي ثلاثَةِ أَطْوَارٍ، فِي كُلِّ أربعينَ مِنهَا يكونُ فِي طَوْرٍ، فيكونُ
فِي الأربعينَ الأُولَى نُطْفَةً، ثُمَّ فِي الأربعينَ الثَّانِيَةِ
عَلَقَةً، ثُم فِي الأربعينَ الثَّالِثَةِ مُضْغَةً، ثُم بعدَ المِائَةِ
وعشرينَ يَوْمًا يَنْفُخُ المَلَكُ فيهِ الرُّوحَ، ويَكْتُبُ لَهُ هذهِ
الأَرْبَعَ كَلِمَاتٍ.
وقدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي القرآنِ فِي مواضِعَ كثيرةٍ تَقَلُّبَ الجَنِينِ فِي هذِهِ الأطوارِ، كقولِهِ تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحَجِّ: 5]
وذَكَرَ
هذهِ الأطوارَ الثَّلاثةَ؛ النُّطْفَةَ والعَلَقَةَ والمُضْغَةَ، فِي
مواضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِن القرآنِ، وفي موضِعٍ آخَرَ ذَكَرَ زِيَادَةً
عليهَا، فقالَ فِي سورةِ المؤمنينَ [12-14]: {ولَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.
فهذهِ سَبْعُ تَارَاتٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هذهِ الآيَةِ لِخَلْقِ ابنِ آدَمَ قبلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ.
وكانَ ابنُ عبَّاسٍ يقولُ: (خُلِقَ ابنُ آدَمَ مِنْ سَبْعٍ) ثُمَّ يَتْلُو هذهِ الآيَةَ.
وسُئِلَ عن العَزْلِ، فقرَأَ هذهِ الآيَةَ، ثُمَّ قالَ: (فَهَلْ يَخْلَقُ أحَدٌ حتَّى تَجْرِيَ فيهِ هذهِ الصِّفَةُ؟)
وفي رِوَايَةٍ عنهُ قالَ: (فَهَلْ تَمُوتُ نَفْسٌ حتَّى تَمُرَّ على هذا الْخَلْقِ؟)
ورُوِيَ
عنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ قالَ: جَلَسَ إلَيَّ عُمَرُ وعَلِيٌّ
والزُّبَيْرُ وسَعْدٌ فِي نَفَرٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتَذَاكَرُوا العَزْلَ، فقالُوا: لا بأْسَ بِهِ.
فقالَ
رَجُلٌ: إنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّهَا المَوْؤودَةُ الصُّغْرَى، فقال
عَلِيٌّ: (لا تكونُ مَوْؤودَةً حتَّى تَمُرَّ على التَّارَاتِ السَّبْعِ؛
تكونُ سُلالَةً مِنْ طينٍ، ثُمَّ تكونُ نُطْفَةً، ثمَّ تَكُونُ عَلَقَةً،
ثمَّ تكونُ مُضْغَةً، ثمَّ تَكُونُ عِظامًا، ثمَّ تكونُ لَحْمًا، ثمَّ
تكونُ خَلْقًا آخَرَ).
فقالَ عمرُ: (صَدَقْتَ، أطَالَ اللَّهُ بقاءَكَ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي (المُؤْتَلَفِ والمُخْتَلَفِ).
وقدْ رَخَّصَ طائِفَةٌ مِن الفُقَهاءِ للمرأَةِ فِي إسقاطِ ما فِي بطنِهَا ما لمْ يُنْفَخْ فيهِ الرُّوحُ ، وجَعَلُوهُ كالعَزْلِ.
وهوَ
قَوْلٌ ضعِيفٌ ؛ لأنَّ الجنينَ وَلَدٌ انْعَقَدَ، ورُبَّما تُصُوِّرَ، وفىِ
العَزْلِ لمْ يُوجَدْ وَلَدٌ بالكُلِّيَّةِ، وإنَّما تَسَبَّبَ إلى مَنْعِ
انعقادِهِ، وقدْ لا يَمْتَنِعُ انْعِقَادُهُ بالعَزْلِ إذا أرَادَ اللَّهُ
خَلْقَهُ، كما قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
سُئِلَ عن العَزْلِ: ((لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَعْزِلُوا؛ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا اللَّهُ خَالِقُهَا)).
وقدْ
صَرَّحَ أصحابُنَا بأنَّهُ إِذا صارَ الوَلَدُ عَلَقَةً لمْ يَجُزْ
للمَرْأَةِ إِسْقَاطُهُ؛ لأنَّهُ وَلَدٌ انْعَقَدَ، بخلافِ النُّطْفَةِ؛
فإنَّهَا لمْ تَنْعَقِدْ بَعْدُ، وقدْ لا تَنْعَقِدُ وَلَدًا.
وقدْ
وَرَدَ فِي بعضِرِوَايَاتِ حديثِ ابنِ مسعودٍ ذِكْرُ العِظَامِ، وأنَّهُ
يكونُ عَظْمًا أربعينَ يَوْمًا، فخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ روايَةِ
عَلِيِّ بنِ زيدٍ، سَمِعْتُ أبا عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ قالَ: قالَ عبدُ
اللَّهِ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى حَالِهَا لا
تُغَيَّرُ، فَإِذَا مَضَتِ الأَرْبَعُونَ صَارَتْ عَلَقَةً، ثُمَّ
مُضْغَةً كَذَلِكَ، ثُمَّ عِظَامًا كَذَلِكَ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يُسَوِّيَ خَلْقَهُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا)) وذكَرَ بَقِيَّةَ الحديثِ.
ويُرْوَى مِنْ حديثِ عاصِمٍ، عنْ أبي وائِلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((إِنَّ
النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ تَكُونُ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ
عِظَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكْسُو اللَّهُ الْعِظَامَ
لَحْمًا)).
وروايَةُ
الإمامِ أحمدَ تَدُلُّ على أنَّ الجَنِينَ لا يُكْسَى اللَّحْمَ إلا
بَعْدَ مِائَةٍ وسِتَّينَ يَوْمًا، وهذا غَلَطٌ بلا رَيْبٍ؛ فإنَّهُ بعْدَ
مِائَةٍ وعشرينَ يومًا يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ بلا رَيْبٍ كما سيأتِي
ذِكْرُهُ.
وعَلِيُّ بنُ زيدٍ : هوَ ابنُ جُدْعَانَ، لا يُحْتَجُّ بِهِ.
وقدْ
وَرَدَ فِي حديثِ حُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ ما يَدُلُّ على خَلْقِ اللَّحْمِ
والعِظَامِ فِي أوَّلِ الأربعينَ الثَّانِيَةِ؛ ففي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ
حُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قالَ: ((إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ
وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا
وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا،
ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا
شَاءَ، وَيَكَتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَجَلُهُ؟
فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا
رَبِّ، رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ،
ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلا يَزِيدَ عَلَى
مَا أُمِرَ وَلا يَنْقُصُ)).
وظاهِرُ
هذا الحديثِ يَدُلُّ على أنَّ تَصْوِيرَ الجَنِينِ وخَلْقَ سَمْعِهِ
وبَصَرِهِ وجِلْدِهِ ولَحْمِهِ وعِظَامِهِ يَكونُ فِي أوَّلِ الأربعينَ
الثَّانِيَةِ، فيَلْزَمُ مِنْ ذلكَ أنَّهُ يكونُ فِي الأربعِينَ
الثَّانِيَةِ لَحْمًا وعِظَامًا.
وقدْ
تَأَوَّلَ بَعْضُهم ذلكَ على أنَّ المَلَكَ يَقْسِمُ النُّطْفَةَ إذا
صارَتْ عَلَقَةً إلى أجزاءٍ، فيَجْعَلُ بَعْضَهَا للجِلْدِ، وبعضَهَا
لِلَّحْمِ، وبعضَهَا للعِظَامِ، فيُقَدِّرُ ذلكَ كُلَّهُ قَبْلَ وُجُودِهِ.
وهذا
خلافُ ظاهِرِ الحديثِ ، بلْ ظاهِرُهُ أنَّهُ يُصَوِّرُهَا ويَخْلُقُ هذهِ
الأجزاءَ كُلَّهَا، وقدْ يكونُ خَلْقُ ذلكَ بتَصْوِيرِهِ وتَقْسيمِهِ قبلَ
وُجُودِ اللَّحْمِ والعِظَامِ، وقدْ يكونُ هذا فِي بَعْضِ الأَجِنَّةِ
دُونَ بَعْضٍ.
وحديثُ
مالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ المُتَقَدِّمُ يَدُلُّ على أنَّ التَّصْوِيرَ
يكونُ للنُّطْفَةِ أيضًا فِي اليومِ السَّابِعِ، وقدْ قالَ اللَّهُ عزَّ
وجَلَّ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإِنسان: 2].
وفَسَّرَ طائِفَةٌ مِن السَّلَفِ أَمْشَاجَ النُّطْفَةِ بالعُرُوقِ الَّتي فيهَا، قالَ ابنُ مَسْعُودٍ: (أَمْشَاجُهَا: عُرُوقُهَا).
وقدْ
ذَكَرَ علماءُ أهلِ الطِّبِّ ما يُوافِقُ ذلكَ، وقالُوا: إنَّ الْمَنِيَّ
إذا وَقَعَ فِي الرَّحِمِ حَصَلَ لَهُ زَبَدِيَّةٌ ورَغْوَةٌ سِتَّةَ
أيَّامٍ أوْ سَبْعَةً، وفي هذهِ الأيَّامِ تُصَوَّرُ النُّطْفَةُ مِنْ غيرِ
اسْتِمْدَادٍ مِن الرَّحِمِ، ثُمَّ بعْدَ ذلكَ تَسْتَمِدُّ منهُ،
وابْتِدَاءُ الخُطُوطِ والنُّقَطِ بعدَ هذا بثلاثَةِ أيَّامٍ، وقدْ
يَتَقَدَّمُ يَوْمًا ويَتَأَخَّرُ يَوْمًا، ثُم بَعْدَ سِتَّةِ أيَّامٍ
-وهوَ الخامِسَ عَشَرَ مِنْ وقْتِ العُلُوقِ- يَنْفُذُ الدَّمُ إلى الجميعِ
فيَصِيرُ عَلَقَةً، ثُمَّ تَتَمَيَّزُ الأعْضَاءُ تَمَيُّزًا ظاهِرًا،
ويَتَنَحَّى بعضُهَا عنْ مُمَاسَّةِ بَعْضٍ، وتَمْتَدُّ رُطُوبَةُ
النُّخَاعِ، ثمَّ بعدَ تِسعةِ أيَّامٍ يَنْفَصِلُ الرَّأسُ عن
المَنْكِبَيْنِ، والأَطْرَافُ عن الأصابِعِ، تَمَيُّزًا يَتَبَيَّنُ فِي
بعضٍ، ويَخْفَى فِي بَعْضٍ.
قالُوا:
وأقَلُّ مُدَّةٍ يَتَصَوَّرُ الذَّكَرُ فيهَا ثلاثونَ يَوْمًا، والزَّمانُ
المُعْتَدِلُ فِي تَصَوُّرِ الجَنِينِ خَمْسَةٌ وثلاثونَ يَوْمًا، وقدْ
يَتَصَوَّرُ فيِ خمسةٍ وأربعينَ يومًا.
قالُوا:
ولمْ يُوجَدْ فِي الأَسْقَاطِ ذَكَرٌ تَمَّ قبلَ ثلاثينَ يومًا، ولا
أُنْثَى قبلَ أربعينَ يَوْمًا، فهذا يُوَافِقُ ما دَلَّ عليهِ حَدِيثُ
حُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ فِي التَّخْلِيقِ فِي الأربعينَ الثَّانِيَةِ،
ومَصِيرُهُ لَحْمًا فيهَا أيضًا.
وقدْ
حَمَلَ بعضُهم حديثَ ابنِ مَسْعُودٍ على أنَّ الجَنِينَ يَغْلِبُ عليهِ فِي
الأربعِينَ الأولى وَصْفُ الْمَنِيِّ، وفي الأربعينَ الثَّانِيَةِ وَصْفُ
العَلَقَةِ، وفي الأربعينَ الثَّالِثَةِ وَصْفُ المُضْغَةِ، وإنْ كانَتْ
خِلْقَتُهُ قدْ تَمَّتْ وتَمَّ تَصْويرُهُ، وليسَ فِي حديثِ ابنِ مسعودٍ
ذِكْرُ وَقْتِ تَصْويرِ الجَنِينِ.
وقدْ
رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ نفسِهِ ما يَدُلُّ على أنَّ تصويرَهُ قدْ يَقَعُ
قبلَ الأربعينَ الثَّالِثَةِ أيضًا، فرَوَى الشَّعْبِيُّ، عنْ عَلْقَمَةَ،
عن ابنِ مسعودٍ قالَ: (النُّطْفَةُ إذا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ جاءَهَا
مَلَكٌ فأَخَذَهَا بِكَفِّهِ فقالَ: أيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أمْ غَيْرُ
مُخَلَّقَةٍ؟ فإنْ قيلَ: غيرُ مُخَلَّقَةٍ، لمْ تكُنْ نَسَمَةً،
وقَذَفَتْهَا الأَرْحَامُ، وإِنْ قيلَ: مُخَلَّقَةٌ، قالَ: أيْ رَبِّ،
أَذَكَرٌ أمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أمْ سعيدٌ؟ ما الأَجَلُ؟ وما الأَثَرُ؟
وبأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ؟ قالَ: فيُقَالُ للنُّطْفَةِ: مَنْ رَبُّكِ؟ فتقولُ:
اللَّهُ، فَيُقَالُ: مَنْ رَازِقُكِ؟ فتقولُ: اللَّهُ، فيُقَالُ: اذْهَبْ
إلى الكِتَابِ؛ فإنَّكَ سَتَجِدُ فيهِ قِصَّةَ هذهِ النُّطْفَةِ. قالَ:
فَتُخْلَقُ، فتَعِيشُ فِي أَجَلِهَا، وتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وتَطَأُ فِي
أَثَرِهَا، حتَّى إذا جاءَ أجلُهَا ماتَتْ ودُفِنَتْ فِي ذلكَ).
ثمَّ تَلا الشَّعْبِيُّ هذهِ الآيَةَ: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحَجِّ: 5].
فإِذا
بَلَغَتْ مُضْغَةً نُكِسَتْ فِي الخَلْقِ الرَّابِعِ فكانَتْ نَسَمَةً،
فإنْ كانَتْ غيرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الأَرْحَامُ دَمًا، وإنْ كانَتْ
مُخَلَّقَةً نُكِسَتْ نَسَمَةً) خَرَّجَهُ ابنُ أبِي حاتِمٍ وغيرُهُ.
وقدْ
رُوِيَ منْ وَجْهٍ آخَرَ عن ابنِ مسعودٍ، أنْ لا تَصْوِيرَ قبلَ ثمانِينَ
يَوْمًا، فَرَوَى السُّدِّيُّ عنْ أبي مالِكٍ وعنْ أبِي صالِحٍ عن ابنِ
عبَّاسٍ، وعنْ مُرَّةَ الهَمْدَانِيِّ عن ابنِ مسعودٍ، وعنْ ناسٍ مِنْ
أصحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قولِهِ عزَّ
وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عِمْرَانَ: 6] قالَ: ((إِذَا
وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الأَرْحَامِ طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ
مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا بَلَغَ أَنْ تُخْلَقَ بَعَثَ
اللَّهُ مَلَكًا يُصَوِّرُهَا، فَيَأْتِي الْمَلَكُ بِتُرَابٍ بَيْنَ
أُصْبُعَيْهِ، فَيَخْلِطُهُ فِي الْمُضْغَةِ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِهَا،
ثُمَّ يُصَوِّرُهَا كَمَا يُؤْمَرُ، فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟
أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ وَمَا رِزْقُهُ؟ وَمَا عُمُرُهُ؟ وَمَا أَثَرُهُ؟
وَمَا مَصَائِبُهُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيَكْتُبُ
الْمَلَكُ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْجَسَدُ دُفِنَ حَيْثُ أُخِذَ ذَلِكَ
التُّرَابُ)). خَرَّجَهُ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي (تفسيرِهِ)،
ولكنَّ السُّدِّيَّ مُخْتَلَفٌ فِي أمْرِهِ، وكانَ الإِمامُ أحمدُ
يُنْكِرُ عليهِ جَمْعَهُ الأسانِيدَ المُتَعَدِّدَةَ للتفسيرِ الواحِدِ،
كما كانَ هوَ وغيْرُهُ يُنْكِرُونَ على الواقِدِيِّ جَمْعَهُ الأسانِيدَ
المُتَعَدِّدَةَ للحدِيثِ الواحِدِ.
وقدْ
أَخَذَ طوائِفُ مِن الفُقَهَاءِ بظاهِرِ هذهِ الرِّوَايَةِ ، وتَأَوَّلُوا
حديثَ ابنِ مَسْعُودٍ المَرْفُوعَ عليهَا، وقالُوا: أَقَلُّ ما يَتَبَيَّنُ
خَلْقُ الوَلَدِ أَحَدٌ وثَمَانونَ يَوْمًا؛ لأنَّهُ لا يَكُونُ مُضْغَةً
إِلا فِي الأربعينَ الثَّالِثَةِ، ولا يَتَخَلَّقُ قَبلَ أنْ يكونَ
مُضْغَةً.
وقالَ أَصْحَابُنا وأصحابُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً على هذا الأصلِ:
إنَّهُ
لا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ، ولا تُعْتَقُ أُمُّ الوَلَدِ إلا بالمُضْغَةِ
المُخَلَّقَةِ، وأَقَلُّ ما يُمْكِنُ أنْ يَتَخَلَّقَ ويَتَصَوَّرَ فِي
أَحَدٍ وثمانينَ يَوْمًا.
وقالَ
أَحْمَدُ فِي العَلَقَةِ: هيَ دَمٌ لا يَسْتَبِينُ فيهَا الخَلْقُ، فإنْ
كانَت المُضَغْةُ غيرَ مُخَلَّقَةٍ، فهلْ تَنْقَضِي بِهَا العِدَّةُ،
وتَصِيرُ أُمُّ الوَلَدِ بِهَا مُسْتَوْلَدَةً؟
على قولَيْنِ ، هُما رِوَايتانِ عنْ أحمدَ.
وإنْ
لمْ يَظْهَرْ فيهَا التَّخْطِيطُ، ولكنْ كانَ خَفِيًّا لا يَعْرِفُهُ إلا
أَهْلُ الخِبْرَةِ مِن النِّسَاءِ، فشَهِدْنَ بذلكَ، قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُنَّ، ولا فَرْقَ بينَ أنْ يكونَ بعدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ أوْ قَبْلَهَا عندَ أكثرِ العُلَمَاءِ.
ونَصَّ
على ذلكَ الإِمامُ أحمدُ فِي رِوَايَةِ خَلْقٍ مِنْ أصحابِهِ، ونَقَلَ
عنهُ ابْنُهُ صالِحٌ فِي الطِّفلِ فِي الأربَعَةِ يَتَبَيَّنُ خَلْقُهُ.
ونَقَلَ عنهُ جَمَاعَةٌ أَيْضًا فِي العَلَقَةِ إِذَا تَبَيَّنَ أنَّهَا وَلَدٌ: أنَّ الأَمَةَ تُعْتَقُ بِهَا. -فإِمَّا أنْ يكونَ هذا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّواةِ برِوَايَاتِهِم بالمَعْنَى الذي يَفْهَمُونَهُ. -وإمَّا أنْ يكونَ المُرادُ تَرْتِيبَ الإِخْبارِ فَقَطْ، لا تَرْتِيبَ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وبكُلِّ
حالٍ، فحديثُ ابنِ مسعودٍ يَدُلُّ على تَأَخُّرِ نَفْخِ الرُّوحِ فِي
الجَنِينِ وكِتَابَةِ المَلَكِ لأمْرِهِ إلى بَعْدِ أربعةِ أَشْهُرٍ حتَّى
تَتِمَّ الأربعونَ الثَّالِثَةُ. فأمَّا
نَفْخُ الرُّوحِ، فقدْ رُوِيَ صَرِيحًا عن الصَّحَابَةِ أنَّهُ إِنَّما
يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ بعدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كما دَلَّ عليهِ ظاهِرُ
حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ. فرَوَى
زَيْدُ بنُ عَلِيٍّ عنْ أبيهِ، عنْ عَلِيٍّ قالَ: (إِذَا تَمَّت
النُّطْفَةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بُعِثَ إليهَا مَلَكٌ، فَنَفَخَ فيهَا
الرُّوحَ فِي الظُّلُمَاتِ، فذَلِكَ قولُهُ تعالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنونَ: 14])، خَرَّجَهُ ابنُ أبِي حاتِمٍ، وهوَ إِسْنَادٌ مُنْقَطِعٌ. وخَرَّجَ
اللالَكَائِيُّ بإسنادِهِ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (إذا وَقَعَت النُّطْفَةُ
فِي الرَّحِمِ مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، ثمَّ نُفِخَ فيهَا
الرُّوحُ، ثُمَّ مَكثَتْ أربعينَ ليلةً، ثمَّ بُعِثَ إليهَا مَلَكٌ
فنَقَفَهَا فِي نُقْرَةِ الْقَفَا، وكَتَبَ شَقِيًّا أوْ سَعِيدًا) وفي
إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وفيهِ أنَّ نَفْخَ الرُّوحِ يَتَأَخَّرُ عن الأربَعَةِ
أَشْهُرٍ بعَشَرَةِ أيَّامٍ. وإذا
كانَ التَّصويرُ فِي خمسةٍ وأربعينَ يومًا تَحَرَّكَ فِي تسعينَ يومًا،
وَوُلِدَ فِي مِائَتَيْنِ وسبعينَ يومًا، وذلكَ تِسعةُ أَشْهُرٍ، واللَّهُ
أعْلَمُ. وأمَّا كتابَةُ المَلَكِ، فحديثُ ابنِ مسعودٍ يَدُلُّ على أنَّهَا تكونُ بعدَ الأربَعَةِ أَشْهُرٍ أيضًا على ما سبَقَ. وفي (الصَّحيحَيْنِ) عنْ أنَسٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقًا، قَالَ: يَا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ
أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟
فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)). والأظهَرُ
-واللَّهُ أعلمُ- أنَّهَا مَرَّةٌ واحِدَةٌ، ولَعَلَّ ذلكَ يَخْتَلِفُ
باختلافِ الأجِنَّةِ؛ فبعضُهم يُكْتَبُ لهُ ذلكَ بعدَ الأربعينَ الأولى،
وبعضُهم بعدَ الأربعينَ الثَّالِثَةِ. وقدْ
يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَةَ (ثُمَّ) فِي حديثِ ابنِ مسعودٍ إنَّما أُرِيدَ
بِهِ تَرْتِيبُ الإِخْبَارِ، لا تَرْتِيبُ المُخْبَرِ عنهُ فِي نفسِهِ،
واللَّهُ أعلمُ.
قالَ
الشَّعْبِيُّ: (إِذَا نُكِسَ فِي الخَلْقِ الرَّابِعِ كانَ مُخَلَّقًا،
انْقَضَتْ بِهِ العِدَّةُ، وعُتِقَتْ بِهِ الأَمَةُ إذا كانَ لأَرْبَعَةِ
أَشْهُر)ٍ، وكذا نَقَلَ عنهُ حَنْبَلٌ: (إِذا أَسْقَطَتْ أمُّ الوَلَدِ،
فإنْ كانَ خِلْقَةً تامَّةً عُتِقَتْ، وانْقَضَتْ بِهِ العِدَّةُ إِذا
دَخَلَ فِي الخَلْقِ الرَّابِعِ، فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُنْفَخُ فيهِ
الرُّوحُ).
وهذا
يُخَالِفُ رِوَايَةَ الجَمَاعَةِ عنهُ، وقدْ قالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ
عنهُ: إَذَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ، ليسَ فيهِ اخْتِلافٌ أَنَّهَا تُعْتَقُ
بذلكَ إِذا كانت أَمَةً.
وهوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وحُكِيَ قَوْلاً للشَّافِعِيِّ.
ومِنْ
أَصْحابِنَا مَنْ طَرَّدَ هذهِ الروايَةَ عنْ أحمدَ فِي انْقِضَاءِ
العِدَّةِ بِهِ أيضًا، وهذا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ
التَّخْلِيقُ فِي العَلَقَةِ، كما قدْ يُسْتَدَلُّ على ذلكَ بحديثِ
حُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ المُتَقَدِّمِ، إلا أنْ يُقالَ: حديثُ حُذَيْفَةَ
إنَّما يَدُلُّ على أنَّهُ يَتَخَلَّقُ إذا صارَ لَحْمًا وعَظْمًا، وأنَّ
ذلكَ قدْ يَقَعُ فِي الأربعينَ الثَّانِيَةِ، لا فِي حالِ كَوْنِهِ
عَلَقَةً، وفي ذلكَ نَظَرٌ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وما ذَكَرَهُ الأَطِبَّاءُ
يَدُلُّ على أنَّ العَلَقَةَ تَتَخَلَّقُ وتَتَخَطَّطُ، وكذلِكَ
القَوَابِلُ مِن النِّسْوَةِ يَشْهَدْنَ بذلكَ، وحديثُ مالِكِ بنِ
الحُوَيْرِثِ يَشْهَدُ بالتَّصويرِ فِي حالِ كونِ الجنينِ نُطْفَةً أيضًا،
واللَّهُ تعالَى أَعْلَمُ.
وبَقِيَ فِي حديثِ ابنِ
مسعودٍ أنَّ بَعْدَ مَصِيرِهِ مُضْغَةً أنَّهُ يُبْعَثُ إِلَيْهِ المَلَكُ،
فيَكْتُبُ الكَلِمَاتِ الأرْبَعَ، ويَنفُخُ فيهِ الرُّوحَ، وذلكَ كلُّهُ
بعدَ مِائَةٍ وعِشْرِينَ يَوْمًا.
واخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ رِوَايَاتِ هذا الحديثِ فِي تَرْتِيبِ الكِتَابَةِ والنَّفْخِ:
ففِي روايَةِ البُخَارِيِّ فِي (صحيحِهِ): ((وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِماتٍ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ)).
ففي هذهِ الرِّوايَةِ تَصْرِيحٌ بتَأَخُّرِ نَفْخِ الرُّوحِ عن الكتابَةِ.
وفي روايَةٍ خَرَّجَهَا البَيْهَقِيُّ فِي كتابِ (القَدَرِ): ((ثُمَّ يُبْعَثُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ)).
وبَنَى الإِمامُ أحمدُ
مَذهَبَهُ المشهورَ عنهُ على ظاهِرِ حديثِ ابنِ مسعودٍ، وأنَّ الطِّفْلَ
يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ بعدَ الأربَعَةِ أشهُرٍ، وأنَّهُ إذا سَقَطَ بعدَ
تمامِ أربَعَةِ أشْهُرٍ صُلِّيَ عليهِ؛ حيثُ كانَ قدْ نُفِخَ فيهِ الرُّوحُ
ثُمَّ ماتَ.
وحُكِيَ ذلكَ أيضًا عنْ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وهوَ أحدُ أقوالِ الشَّافِعِيِّ وإِسحَاقَ.
ونَقَلَ غيرُ واحِدٍ عنْ
أحمدَ أنَّهُ قالَ: إذا بَلَغَ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا ففي تلكَ
العَشْرِ يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ، ويُصَلَّى عليهِ.
وقالَ فِي روايَةِ أبي
الحارِثِ عنهُ: تكونُ النَّسَمَةُ نُطْفَةً أرْبَعِينَ لَيْلَةً، وعَلَقَةً
أربعينَ ليلَةً، ومُضْغَةً أربعينَ ليلةً، ثمَّ تكُونُ عَظْمًا ولَحْمًا،
فإذا تَمَّ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا نُفِخَ فيهِ الرُّوحُ.
فظاهِرُ هذهِ الروايَةِ أنَّهُ لا يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ إلا بعدَ تَمَامِ أربَعَةِ أَشْهُرٍ وعَشْرٍ، كما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ.
والرِّواياتُ التي قَبْلَ
هذهِ عنْ أحمدَ إنَّما تَدُلُّ على أنَّهُ يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ فِي
مُدَّةِ العَشْرِ بعدَ تمامِ الأربعةِ، وهذا هوَ المعروفُ عنهُ.
وكذا قالَ ابنُ
المُسَيِّبِ لَمَّا سُئِلَ عنْ عِدَّةِ الوَفَاةِ حيثُ جُعِلَتْ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وعَشْرًا: ما بَالُ العَشْرِ؟ قالَ: يُنْفَخُ فيهَا الرُّوحُ.
وأمَّا أهْلُ الطِّبِّ ،
فذَكَرُوا أنَّ الجَنِينَ إنْ تَصَوَّرَ فِي خَمْسَةٍ وثلاثينَ يومًا
تَحَرَّكَ فِي سبعينَ يَوْمًا، وَوُلِدَ فِي مِائَتَيْنِ وعَشَرَةِ
أيَّامٍ، وذلكَ سَبْعَةُ أشْهُرٍ، ورُبَّما تَقَدَّمَ أيَّامًا، وتَأَخَّرَ
فِي التَّصويرِ والوِلادَةِ.
وظاهِرُ هذا يُوَافِقُ
حديثَ ابنِ مسعودٍ، لكنْ ليسَ فيهِ تَقْدِيرُ مُدَّةٍ، وحديثُ حُذَيْفَةَ
بنِ أَسِيدٍ الذي تَقَدَّمَ يَدُلُّ على أنَّ الكِتَابَةَ تكونُ فِي أوَّلِ
الأربعينَ الثَّانيَةِ، وخَرَّجَهُ مُسلِمٌ أيضًا بلفظٍ آخَرَ مِنْ حديثِ
حُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قالَ: ((يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى
النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ
خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَشَقِيُّ أَوْ
سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟
فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ،
ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ)).
وفي روايَةٍ أُخْرَى لمُسْلِمٍ أيضًا:
((إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ
يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ
أُنْثَى؟)) وذَكَرَ الحديثَ.
وفي روايَةٍ أُخرَى لمُسْلِمٍ أيضًا: ((لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً)).
وفي (مُسْنَدِ) الإِمامِ أحمدَ مِنْ حديثِ جابِرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا
اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، بُعِثَ إِلَيْهَا مَلَكٌ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ،
شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيُعْلَمُ)).
وقدْ سَبَقَ ما رَوَاهُ
الشَّعْبِيُّ عنْ عَلْقَمَةَ، عن ابنِ مَسْعُودٍ مِنْ قولِهِ، وظاهِرُهُ
يَدُلُّ على أنَّ الْمَلَكَ يُبْعَثُ إليهِ وهوَ نُطْفَةٌ.
وقدْ رُوِيَ عن ابنِ
مسعودٍ منْ وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أنَّهُ قالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
تُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ، فَيَنْظُرُ فِيهَا
ثَلاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالأَرْحَامِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلاثَ
سَاعَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عِمْرَانَ: 6]، وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشُّورَى: 49]
الآيَةَ، ويُؤْتَى بِالأَرْزَاقِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلاثَ سَاعَاتٍ،
وَتُسَبِّحُهُ الْمَلائِكَةُ ثَلاثَ سَاعَاتٍ)، قَالَ: (فَهَذَا مِنْ
شَأْنِكُمْ وَشْأَنِ رَبِّكُمْ).
ولَكِنْ ليسَ فِي هذا تَوْقِيتُ مَا يُنْظَرُ فيهِ مِن الأرْحَامِ بِمُدَّةٍ.
وقدْ رُوِيَ عنْ جماعةٍ
مِن الصَّحابةِ أنَّ الكتابةَ تكونُ فِي الأربعينَ الثَّانيَةِ؛ فخَرَّجَ
اللالَكَائِيُّ بإسنادِهِ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قالَ:
(إذا مَكَثَت النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ المرأةِ أربعينَ ليلةً، جاءَهَا
مَلَكٌ فاخْتَلَجَهَا، ثمَّ عَرَجَ بهَا إلى الرَّحمنِ عزَّ وجلَّ،
فيَقُولُ: اخْلُقْ يَا أَحْسَنَ الخالِقِينَ.
فيَقْضِي اللَّهُ فيهَا ما
يَشَاءُ مِنْ أمْرِهِ، ثمَّ تُدْفَعُ إلى المَلَكِ عندَ ذلِكَ، فيَقُولُ:
يا رَبِّ أَسَقْطٌ أمْ تَامٌّ؟ فيُبَيِّنُ لهُ.
ثمَّ يقولُ: يا ربِّ أَنَاقِصُ الأجلِ أمْ تامُّ الأجلِ؟ فيُبَيِّنُ لهُ.
ويقولُ: يا ربِّ أواحِدٌ أمْ تَوْأَمٌ؟ فيُبَيِّنُ لهُ.
فيقولُ: يا ربِّ أَذَكَرٌ أمْ أُنْثَى؟ فيُبَيِّنُ لهُ.
ثمَّ يقولُ: يا ربِّ، أشَقِيٌّ أمْ سعيدٌ؟ فيُبَيِّنُ لَهُ.
ثمَّ يقولُ: يا ربِّ اقْطَعْ لهُ رِزْقَهُ، فيَقْطَعُ لهُ رِزْقَهُ معَ أَجَلِهِ، فيَهْبِطُ بِهِمَا جميعًا.
فَوَالَّذِي نفسِي بيدِهِ، لا يَنَالُ مِن الدُّنْيَا إِلا ما قُسِمَ لَهُ).
وخَرَّجَ ابنُ أبي حاتِمٍ
بإسنادِهِ عنْ أبي ذَرٍّ قالَ: (إنَّ الْمَنِيَّ يَمْكُثُ فِي الرَّحِمِ
أربعينَ ليلَةً، فَيَأْتِيهِ مَلَكُ النُّفُوسِ، فيَعْرُجُ بِهِ إلى
الجَبَّارِ عزَّ وجلَّ فيَقُولُ: يا رَبِّ أذَكَرٌ أمْ أُنْثَى؟ فيَقْضِي
اللَّهُ عزَّ وجلَّ ما هوَ قاضٍ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ، أشَقِيٌّ أمْ سعيدٌ؟
فيَكْتُبُ ما هوَ لاقٍ بينَ يَدَيْهِ.
ثُم تَلا أَبُو ذَرٍّ مِنْ فاتِحَةِ سُورَةِ التَّغَابُنِ إلى قولِهِ: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصَيرُ} [التغابُن: 3]).
وهذا كُلُّهُ يُوافِقُ ما فِي حديثِ حُذَيْفَةَ بنِ أَسِيدٍ.
وقدْ تَقَدَّمَ عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ كِتَابَةَ المَلَكِ تكونُ بعدَ نَفْخِ الرُّوحِ بأربعينَ ليلةً، وأنَّ إسنادَهُ فيهِ نَظَرٌ.
وقدْ جَمَعَ بعْضُهم بينَ
هذهِ الأحاديثِ والآثارِ، وبينَ حديثِ ابنِ مسعودٍ، فأثْبَتَ الكِتَابَةَ
مرَّتيْنِ، وقدْ يُقالُ معَ ذلكَ: إنَّ إحدَاهُمَا فِي السَّماءِ،
والأُخرَى فِي بَطْنِ الأُمِّ.
ومِن المُتَأَخِّرِينَ
مَنْ رَجَّحَ أنَّ الكِتابةَ تكونُ فِي أوَّلِ الأربعينَ الثَّانيَةِ، كما
دَلَّ عليهِ حديثُ حُذَيْفَةَ بن أَسِيدٍ، وقالَ: إنَّما أَخَّرَ ذِكْرَهَا
فِي حديثِ ابنِ مسعودٍ إلى ما بَعْدَ ذِكْرِ المُضْغَةِ وإنْ ذُكِرَتْ
بلَفْظِ (ثُمَّ)؛ لِئَلا يَنْقَطِعَ ذِكْرُ الأطوارِ الثَّلاثةِ التي
يَتَقَلَّبُ فيهَا الجَنِينُ، وهيَ كونُهُ نُطْفَةً وعَلَقَةً ومُضْغَةً،
فإنَّ ذِكْرَ هذهِ الثَّلاثَةِ على نَسَقٍ واحِدٍ أعْجَبُ وأحْسَنُ؛
فَلِذَلِكَ أَخَّرَ المعطوفَ عليهَا، وإنْ كانَ المعطوفُ مُتَقَدِّمًا على
بعضِهَا فِي التَّرتيبِ، واسْتَشْهَدَ لذلكَ بقولِهِ تعالَى: {وَبَدَأَ
خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السَّجْدَة: 7-9]،
والمُرادُ بالإِنسانِ آدَمُ عليهِ السلامُ، ومَعْلُومٌ أنَّ تَسْوِيَتَهُ
ونَفْخَ الرُّوحِ فيهِ كانَ قَبْلَ جَعْلِ نَسْلِهِ منْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ
مَهِينٍ، لَكِنْ لَمَّا كانَ المقصودُ ذِكْرَ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي مَبْدَأِ خَلْقِ آدَمَ وخَلْقِ نَسْلِهِ عَطَفَ ذِكْرَ
أحَدِهِمَا على الآخَرِ، وأَخَّرَ ذِكْرَ تَسْوِيَةِ آدَمَ ونَفْخِ
الرُّوحِ فيهِ، وإنْ كانَ ذلكَ مُتَوَسِّطًا بينَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ طينٍ
وبينَ خَلْقِ نَسْلِهِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وقدْ وَرَدَ أنَّ هذهِ
الكِتَابَةَ تُكْتَبُ بينَ عَيْنَي الجَنِينِ، ففي (مُسْنَدِ البَزَّارِ):
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهُما، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا خَلَقَ اللَّهُ
النَّسَمَةَ قَالَ مَلَكُ الأَرْحَامِ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟
قَالَ: فَيَقْضِي اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ
أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، ثُمَّ
يَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا هُوَ لاقٍ حَتَّى النَّكْبَةَ
يُنْكَبُهَا)).
وقدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا على ابنِ عُمَرَ غيرَ مرفوعٍ.
وحديثُ حُذَيْفَةَ بنِ
أَسِيدٍ المُتَقَدِّمُ صَرِيحٌ فِي أنَّ المَلَكَ يَكْتُبُ ذلكَ فِي
صَحِيفَةٍ، ولعَلَّهُ يَكْتُبُ فِي صحيفَةٍ، ويَكْتُبُ بينَ عَيْنَي
الوَلَدِ.
وقدْ رُوِيَ أنَّهُ
يَقْتَرِنُ بهذهِ الكِتَابَةِ أنَّهُ يُخْلَقُ معَ الجنينِ ما
تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صفاتِهِ القائِمَةِ بهِ، فرُوِيَ عنْ عائِشَةَ، عن
النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بَعَثَ مَلَكًا، فَدَخَلَ
الرَّحِمَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، مَاذَا؟ فَيَقُولُ: غُلامٌ أَوْ
جَارِيَةٌ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ فِي الرَّحِمِ، فَيَقُولُ:
أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ مَا شَاءَ، فَيَقُولُ: يَا
رَبِّ، مَا أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا خُلُقُهُ؟
مَا خَلائِقُهُ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا. فَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلا وَهُوَ
يُخْلَقُ مَعَهُ فِي الرَّحِمِ)).
خَرَّجَهُ أبو داودَ فِي كتابِ (الْقَدَرِ)، والبَزَّارُ فِي (مُسْنَدِهِ).
وبكُلِّ حَالٍ، فهذهِ
الكِتَابَةُ التي تُكْتَبُ للجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ غيرُ كِتَابَةِ
المَقَادِيرِ السَّابِقَةِ لخَلْقِ الخلائِقِ المَذْكُورَةِ فِي قولِهِ
تعالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، كمَا فِي (صحيحِ مسلمٍ) عنْ عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)).
وفي حديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
وقدْ سَبَقَ ذِكْرُ ما
رُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، أنَّ المَلَكَ إذا سَأَلَ
عنْ حالِ النُّطْفَةِ، أُمِرَ أنْ يَذْهَبَ إلى الكِتَابِ السَّابِقِ،
ويُقالُ لَهُ: إنَّكَ تَجِدُ فيهِ قِصَّةَ هذهِ النُّطْفَةِ.
وقدْ تَكَاثَرَت النُّصوصُ
بذِكْرِ الكتابِ السَّابِقِ بالسَّعَادَةِ والشَّقَاوَةِ، فَفِي
(الصَّحيحَيْنِ): عنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَا مِنْ نَفْسٍ
مَنْفُوسَةٍ إِلا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ
النَّارِ، وَإِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ))
فقالَ رَجُلٌ: يَا رَسولَ اللَّهِ، أَفَلا نَمْكُثُ عَلَى كِتابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟
فَقَالَ: ((اعْمَلُوا؛
فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ
فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ
الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ)) ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}الآيتَيْنِ [اللَّيْل: 5] )).
ففي هذا الحديثِ أنَّ
السَّعادَةَ والشَّقَاوَةَ قدْ سَبَقَ الكتابُ بِهِمَا، وأنَّ ذلكَ
مُقَدَّرٌ بحَسَبِ الأعمالِ، وأَنَّ كُلاًّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ
مِن الأعمالِ التي هيَ سَبَبٌ للسَّعادَةِ أو الشَّقاوَةِ.
وفي (الصَّحيحَيْنِ): عنْ
عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسولَ اللَّهِ،
أَيُعْرَفُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
قالَ: ((نَعَمْ))
قالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟
قَالَ: ((كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُيَسَّرُ لَهُ)).
وقدْ رُوِيَ هذا المعنَى
عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كثيرةٍ،
وحديثُ ابنِ مسعودٍ فيهِ أنَّ السَّعادَةَ والشَّقاوَةَ بحَسَبِ خَوَاتِيمِ
الأعمالِ.
وقدْ قيلَ: إنَّ قولَهُ فِي آخِرِ الحديثِ: ((فَوَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ)) إلى آخِرِ الحديثِ، مُدْرَجٌ مِنْ كلامِ ابنِ مسعودٍ.
كذلكَ رَوَاهُ سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ، عنْ زيدِ بنِ وَهْبٍ، عن ابنِ مسعودٍ مِنْ قولِهِ.
وقدْ رُوِيَ هذا المعنَى عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أيضًا.
وفي (صحيحِ البُخَارِيِّ): عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)).
وفي (صَحيحِ ابنِ حِبَّانَ) عنْ عائِشَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)).
وفيهِ أيضًا: عنْ مُعَاوِيَةَ قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّمَا
الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، كَالْوِعَاءِ، فَإِذَا طَابَ أَعْلاهُ طَابَ
أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ)).
وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ،
ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ
يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
وخرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ أَنَس، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا
عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ
لَهُ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ بُرْهَةً
مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ،
ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ
لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ لَوْ مَاتَ
عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً
صَالِحًا)).
وخرَّجَ أيضًا منْ حديثِ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي
الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ
فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ، وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي
الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ
تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمَاتَ فَدَخَلَهَا)).
وخرَّجَ أحمدُ،
والنَّسَائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ:
خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي
يدِهِ كِتَابانِ، فقالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟))
فَقُلْنا: لا يا رَسولَ اللَّهِ، إِلا أَنْ تُخْبِرَنَا.
فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ اليُمْنَى: ((هَذَا
كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ،
فَلا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا)).
ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: ((هَذَا
كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ
وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ،
فَلا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا)).
فقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ العَمَلُ يَا رَسولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ((سَدِّدُوا
وَقَارِبُوا؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ
لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ)).
ثمَّ قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: ((فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)).
وقدْ رُوِيَ هذا الحديثُ
عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ
مُتَعَدِّدَةٍ، وخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ عَلِيِّ بنِ أبي
طالِبٍ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزادَ فيهِ: ((صَاحِبُ
الْجَنَّةِ مَخْتُومٌ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَصَاحِبُ
النَّارِ مَخْتُومٌ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ
عَمَلٍ.
وَقَدْ
يُسْلَكُ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاءِ حَتَّى
يُقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ، بَلْ هُمْ مِنْهُمْ، وَتُدْرِكُهُمُ
السَّعَادَةُ فَتَسْتَنْقِذُهُمْ.
وَقَدْ
يُسْلَكُ بِأَهْلِ الشَّقَاءِ طَرِيقَ أَهْلِ السَّعَادَةِ حَتَّى
يُقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ، بَلْ هُمْ مِنْهُمْ، وَيُدْرِكُهُمُ
الشَّقَاءُ.
مَنْ
كَتَبَهُ اللَّهُ سَعِيدًا فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ
الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ بِعَمَلٍ يُسْعِدُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَلَوْ بِفَوَاقِ نَاقَةٍ)) ثُمَّ قَالَ: ((الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا)).
وخرَّجَهُ البَزَّارُ فِي
(مُسْنَدِهِ) بهذا المَعْنَى أيضًا مِنْ حديثِ ابنِ عُمَرَ عن النَّبيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي (الصَّحيحَيْنِ): عنْ
سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْتَقَى هُوَ والمُشْرِكُونَ وفي أَصْحابِهِ رَجُلٌ لا يَدَعُ شَاذَّةً
ولا فَاذَّةً إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا
أَجْزَأَ مِنَّا اليَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلانٌ، فَقَالَ رسولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ))
فقالَ رَجُلٌ مِن القَوْمِ: أَنَا صاحِبُهُ.
فاتَّبَعَهُ، فَجُرِحَ
الرَّجُلُ جُرْحًا شَديدًا، فَاسْتَعْجَلَ الموْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ
سَيْفِهِ عَلَى الأَرْضِ وَذُبابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ
عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسولُ اللَّهِ.
وَقَصَّ عَلَيْهِ القِصَّةَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ
وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ
النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
زَادَ البُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)).
وقولُهُ: ((فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ))
إشارةٌ إلى أنَّ باطِنَ الأمْرِ يكونُ بخلافِ ذلكَ، وأنَّ خاتِمَةَ
السُّوءِ تكونُ بسببِ دَسِيسَةٍ باطِنَةٍ للعبدِ لا يَطَّلِعُ عليهَا
النَّاسُ، إمَّا مِنْ جِهَةِ عَمَلٍ سَيِّئٍ ونحوِ ذلكَ، فَتِلْكَ
الخَصْلَةُ الخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الخَاتِمَةِ عندَ الموتِ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصَّادق المصدوق: ((إنَّ
أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم
يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلك، فينفخ فيه الروح ويُؤمر بأربع
كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن
أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى
ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل الجنة
فيدخلها)) رواه البخاري ومسلم.
الشيخ:
هذا
الحديث هو الرابع من هذه الأحاديث المباركة، وهو حديث ابن مسعود -رضي الله
عنه- فيه ذِكرُ القَدَرِ وذِكرُ جمع الخلْق في رحم الأم، وهذا الحديث أصلٌ
في باب القَدَرِ والعناية بذلك، والخوف من السوابق والخوف من الخواتيم وكما
قيل: قلوب الأبرار معلَّقة بالخواتيم، يقولون: ماذا يُختمُ لنا؟ وقلوب
السابقين أو المقربين معلقةٌ بالسوابق، يقولون ماذا سبق لنا؟
وهذا
-وهو الإيمان بالقدر والخوف من الكتاب السابق والخوف من الخاتمة- هذا من
آثار الإيمان بالقدر خيره وشرِّه، فإنّ هذا الحديث دلَّ على أنَّ هناك
تقديراً عمرياً لكل إنسان، وهذا التقدير العُمري يكتبه الملك بأمر الله -جل
وعلا-، كما جاء في هذا الحديث.
إذاً:
هذا الحديث مسوقٌ لبيان التقدير العُمري لكل إنسان، وليخاف المرء
السَّوابق والخواتيم وليؤمن بأنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم
يكن ليصيبه، والسوابق في عمل العبد والخواتيم متصلة، كما قيل: (الخواتيم
ميراث السوابق) فالخاتمة تَرثُها لأجل السوابق، فما من خاتمة إلا وسببها
-بلطف الله -جل وعلا- وبرحمته، أو بعدله وحكمته- سوابق المرء في عمله، وهي
جميعاً متعلقة بسوابق القدر.
هذا الحديث قال فيه ابن مسعود -رضي الله عنه-: (حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق).
قوله: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)
هذا فيه استعمال لفظ التحديث من ابن مسعود -رضي الله عنه- وهو أحد ألفاظ
التَّحَمُّل المعروفة عند المحدثين ولهذا استعملها العلماء كثيراً في صيغ
التحديث واستعملوا أيضاً لفظ (أخبرنا)، وقد رواها الصحابة عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-.
فالمحدثون
اختاروا من ألفاظ التحمل (حدثنا) وهي أعلاها؛ لأجل قول الصحابة: (حدثنا)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الحديث مثال لذلك واختاروا (أخبرنا)
أيضاً لقول الصحابة: (أخبرنا) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أخبرني
النبي -صلى الله عليه وسلم- بكذا …، وزادوا عليها ألفاظاً من ألفاظ التحمل.
قوله: (وهو الصادق المصدوق) (هو الصادق) يعني: الذي يأتي بالصدق، والصدق حقيقته: الإخبار بما هو موافق للواقع، والكذب ضِدُّهُ وهو الإخبار بما يخالف الواقع، و(المصدوق): هو المُصَدَّق، يعني: الذي لا يقول شيئاً إلا صُدِّق.
وقول ابن مسعود هنا: (وهو الصادق المصدوق)
هذه تهيئة، وهذه فيها أدب للمعلِّم: أن يهيئ العلم لمن يعلِّمُه ومن
يُخبرهُ بالعلم؛ لأنَّ هذا الحديث فيه شيء غيبي لا يُدرك، بالحسِّ ولا
بالتجربة، وإنما يدرك بالتسليم والعلم بالخبر؛ لصدق المُخبِرِ به -عليه
الصلاة والسلام- ففيه ذكر تنوع الحمل، ومعلوم
أن الصحابة في ذلك الوقت وكذلك الناس في ذلك الزمان لم يكونوا يعلمون تطور
هذه المراحل بعلم تجريبي أو برؤية أو نحو ذلك، وإنما هو الخبر الذي
يصدِّقونه فكانوا علماء لا بالتجريب وإنما بخبر الوحي على النبي صلى الله
عليه وسلم.
قال: (وهو الصادق المصدوق)
يعني: الذي لا يخبر بشيء على خلاف الواقع، وهو الذي إذا أخبر بشيء صُدِّق،
مهما كان. وهذا من جراء التسليم له عليه الصلاة والسلام بالرسالة.
قال ((إنَّ أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة)) لفظ (يُجمع) كأنه كان قبل ذلك متفرقاً فجُمع نُطفةً.
و(النطفة) معروفة، وهي: ماء الرجل وماء المرأة أو ما شابه ذلك قبل أن يتحول إلى دم.
و(العلقة): قطعة الدم التي تَعلقُ بالشيء، وهي تعلق بالرحم.
و(المضغة) هي: قطعة اللحم.
قال: ((ثم يكون مضغة مثل ذلك))
يعني يتحول إلى مضغة، وهي: قطعة اللحم -أيضاً- أربعين يوماً أخرى، وهذا
التحول من الدم إلى اللحم… إلخ، قال فيها عليه الصلاة والسلام: (ثم) وكلمة (ثم) تفيد التراخي، والتراخي -كما هو معلوم- في كلِّ شيء بحسبه، - ومنهم-وهو الصحيح- من يقيد الاختصاص بما قبل ثنتين وأربعين ليلة، كما دلّ عليه الحديث الصحيح الذي ذكرت لك. هنا نظر العلماء في ذلك فقالوا:
هذا الحديث يدل على أنَّ نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، وعلى هذا
بنى الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم، قولهم: إنّ الجنين إذا سقط لأربعة
أشهر غُسِّل وصُلي عليه؛ لأنه قد نُفخ فيه الروح بدلالة هذا الحديث. هذا الحديث ليس فيه دلالة وإنما فيه ترتب الكتابة على الروح بـ(الواو) فقال: ((ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بنفخ الروح ويؤمر بأربع كلمات))
والواو لا تقتضي ترتيباً وإنما تقتضي اشتراكاً فمعنى ذلك أنه قد تتقدم
الكتابة وقد يتقدم نفخ الروح والأظهر تقدم الكتابة على نفخ الروح كما دلت
عليه أحاديث كثيرة.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه- هنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة)) يعني:
أنه يكون ماءً لمدة أربعين يوماً، لا يتحول إلى دم هذه المدة، يعني: من
بداية وضع النطفة في الرحم تستمر أربعين يوماً على هذا النحو.
وهل يعني استمرارها هذه المدة: أنها في هذه المدة لا يكون فيها أي نوع من التصوير أو الخلق أو نحو ذلك؟
لا
يدل هذا الحديث على ذلك وإنما يدل على أنّ هذه المدة تكون نطفة أما مسألة
التصوير ومتى تكون؛ فهذه لم يُعرض لها في هذا الحديث وإنما في أحاديث أخر.
قال: ((ثم يكون علقة مثل ذلك)) يعني يكون دماً متجمداً في رحم الأم أربعين يوماً أخرى.
والتصوير يكون في أثناء هذه المدة وقد جاء في (صحيح مسلم) من حديث حذيفة
ابن أَسِيد -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا
بلغت النطفة ثنتين وأربعين ليلة أُرسل إليها الملك فيأمرهُ الله -جل وعلا-
بتصويرها، ثم يقول: أي ربِّ أذكر أم أنثى؟ فيأمر الله ما شاء، ويكتب
الملك، ثم يقول: أي ربِّ شقيٌ أم سعيد؟ فيأمر الله بما شاء، ثم يكتب الملك،
ثم يقول: أي ربِّ رزقه؟ فيقول الله ما شاء ثم يكتب الملك)).
فهذا يدل على أنَّ التصوير سابق لتمام هذه المدة وأنّ التصوير يكون بعد ثنتين وأربعين ليلة، قد قال الله -جل وعلا-: {في أي صورةٍ ما شاء ركبك} وهذا التصوير معناه: التخطيط فإن هناك ثلاثة ألفاظ: ألفاظ -تكوين المخلوق- هي:
- التصوير.
- والخلق.
- والبَرْء.
{هو الله الخالق البارئ المصوِّر}.
فالمصور معناه: الذي يجعل الشيء على هيئة صورة مخططة.
والخلْقُ -خلقُ الجنين-: أن يجعل لها مقاديرها من الأطراف والأعضاء ونحو ذلك.
والبرْء: أن تتم وتكون تامة يعني: أن يبرأ ما سبق وهذا في الجنين واضح.
فإن
الجنين يصوَّرُ أولاً قبل أن تُخلق له الأعضاء، بعض الأجنة إذا سقط مثلاً
في تسعين يوماً أو في أكثر من ثمانين يوماً ونُظر إليه، وجد أنَّه كلوحةٍ
عليها خطوط، يعني العين مرسومة رسماً{تبارك الله أحسن الخالقين}.
وتجد أنّه كالتخطيط في شيء شفَّاف، لم تتكون الأعضاء، وإنما هذا التصوير
وهذا كما جاء في حديث حذيفة: يفعله الملك بأمر الله جل جلاله، والملائكة
موكَّلون بما يريد الله -جل وعلا- منهم كما قال سبحانه: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكِّل بكم} فالملائكة موكولون بما شاء الله -جل وعلا- أن يفعلوه: {لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون مايؤمرن}.
نستفيد أيضاً من هذا: أنَّ
في هذه المدة يُكتب: هل هو ذكر أم أنثى ؟ كما جاء في حديث حذيفة الذي ذكرت
لك في (مسلم): أنه بعد الثنتين والأربعين ليلة يسأل الملك فيقول: أي ربي
ذكر أم أنثى؟ فيأمر الله بما شاء، فيكتب الملك.
قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه
بذلك يعني: بعد الثنتين والأربعين يخرج علمُ نوع الجنين -من كونه ذكراً أو
أنثى- عن اختصاص الله جل وعلا به؛ لأنَّ الله -جل وعلا- اختصَّ بخمسة من
علم الغيب، لا يعلمها إلا الله، ومنها: أنه -جل وعلا- يعلم ما في الأرحام،
وما في الأرحام يشمل من في الرحم ، ويشمل ما في الرحم: {الله يعلمُ ما تحملُ كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزدادُ وكلُّ شيء عنده بمقدار} وهذا
العلم الشمولي بتطور الجنين في رحم أمه لحظة فلحظة لا أحد يعلمها إلا الله
جل جلاله، أما العلم بكون الجنين ذكراً أم أنثى فهذا من اختصاص علم الله
-جل وعلا- قبل الثنتين وأربعين ليلة، فإذا أعلم المَلكَ بذلك؛ فدّل الحديث
على خروجه عن العلم الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا-.
ولهذا
-في بعض الأعصُر المتقدمة- كان بعض أهل التجريب -كما ذكر ذلك ابن العربي
في تفسيره: (أحكام القرآن) كان ينظر إلى رحم المرأة الحامل ويقول: في بطنها
ذكر أم أنثى إذا عظم بطنها، وذكر العلماء أنَّ هذا ليس فيه ادعاء علم
الغيب؛ لأن الاختصاص فيما قبل ذلك.
- منهم من يقيد الاختصاص بما قبل نفخ الروح.
وفي
الزمن هذا يُعرف أيضاً هل هو ذكر أم أنثى بالوسائل الحديثة وليس في هذا
ادعاء علم الغيب؛ لأنهم لا يعلمونه قطعاً ولا يستطيعون أن يعلموه إلا بعد
هذه المدة التي ذكرنا؛ وأما قبلها فإنها من اختصاص علم الله -جل وعلا-، مع
أنهم لا يعلمونه إلا بعد أن تتميز آلة الذكر من آلة الأنثى، يعني فرج الذكر
من فرج الأنثى، وهذا إنما يكون بعد مُدة.
قال عليه الصلاة والسلام هنا: ((ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك)) وهذه مائة وعشرون يوماً، يعني أربعة أشهر.
قال: ((ثم يُرسل إليه الملك)) هذا مَلَك آخر مُوكَّل بنفخ الروح، أو هو الملك الأول، ولكن هذا إرسال آخر.
قال: ((فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)).
وأحاديث أخر دلت على أنه يُكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد قبل ذلك.
فكيف
نوِّفق بين الأحاديث التي فيها ذكر الكتابة قبل هذه المدة، وذكر الكتابة
بعد تمام المائة وعشرين يوماً، يعني بعد تمام الأربعة أشهر؟
للعلماء أقوال في ذلك، وأظهرها عندي:
أنَّ هذا الذي جاء في هذا الحديث على وجه التقديم والتأخير، وذلك أنّ
إدخال الكتابة في أثناء ذكر تدرج الحمل هذا من حيث اللغة غير مناسب، بل
المراد أولاً أن يُذكر التدرج ثم بعد ذلك ذكر نفخ الروح؛ لتعلقه بما قبله.
وأمّا الكتابة:فإنها وإن كانت في أثناء تلك المائة والعشرون يوماً؛ فأخرَّت
لأجل أنه لا يناسب إدخالها؛ لترتب تلك الأطوار بعضها على بعض فالمقصود هنا
ذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة ثم العلقة ثم المضغة فذِكرُ الكتابة في
أثنائها يقطع الوصل، وهذا له نظائر في اللغة، ومنه قول الله -جلّ وعلا- في
سورة السجدة: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسلَه من سُلالة من ماءٍ مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه…} الآية، فهنا كان الترتيب: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} مع أن النّسل هذا ليس لآدم هنا، يعني: نفخ الروح سبق وجود النَّسل، لـ{بدء خلق الإنسان من طين} ثم نُفخت الروح ثم جُعل النسّلُ من ماءٍ مهين، فهنا أخرَّ نفخ الرّوح، مع أنه بينهما؛ لأجل أن يتناسب الطين مع الماء، قال: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين…}.
وبهذا
تتفق الأحاديث، ولا يحسن في مثل هذه المجالس المختصرة أن نعرض اختلاف
الروايات في هذا وكثرة الاعتراضات أو الإشكالات فيها لكن هذا هو أوْلى
الأقوال في هذه المسألة وأقربها من حيث اللغة، ومن حيث جمع الأحاديث.
إذا تقرَّر هذا.. فنفخ الروح؛ هل هو متعلِّقٌ بالكتابة أو هو بعد المائة وعشرين يوماً؟
اختلف العلماء أيضاً في ذلك، فقالت طائفة من أهل العلم: لا يكون نفخ الروح إلا بعد الأربعة أشهر؛ لأنه قال هنا: ((ثم يُرسلُ إليه الملك فينفخ فيه الروح)) و(ثم)
تقتضى التراخي الزمني، ولهذا قال طائفة من الصحابة واختاره الإمام أحمد
وجماعة: أنه ينُفخ فيه الروح في العشرة أيام التي تلي الأربعة أشهر.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه يُنفخ فيه الروح بعد تمام أربعة أشهر وعشراً؛ لروايات رُويت عن الصحابة في ذلك.
وقال آخرون: إنّ نفخ الروح هنا جُعل مقترناً به الكتابة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات)) فجُعل الأمر بأربع كلمات مع نفخ الروح.
ونعلم
بالأحاديث الأخر أن كتابة هذه الكلمات كانت قبل ذلك وأحاديث النبي -صلى
الله عليه وسلم- لا تتعارض، بل تتفق؛ لأنّ الحق لا يعارضُ الحق وكلُّها
يصدِّق بعضها بعضاً فلهذا قالوا: هذا بناءً على الأغلب، وقد تنفخ الروح
وتوجد الحركة قبل ذلك لأنها -هنا- قُرِنَ نفخ الروح بالكتابة، والكتابة؛
دلت أحاديث على سبقها فمعنى ذلك: أنه يمكن أنْ يكون نفخ الروح في أثناء
المائة وعشرين يوماً.
هل تكون الكتابة بعد نفخ الروح؟
فإذاً
نخلص من هذا في خلاف طويل لأهل العلم لكن ذكرت لكم لُبَّهُ وخُلاصتهُ أنّ
الغالب أنْ يكون نفخ الروح كما جاء في هذا الحديث بعد مائةٍ وعشرين يوماً
وقد يتحرك الجنين وينفخ قبل ذلك وهذا مشاهد فإنه كثير ما تحصل الحركة
والإحساس بالجنين من قبل الأم وتنقله في رحمها قبل تمام الأربعة الأشهر،
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى} وكلماته وأحاديثه يصدقُ بعضها بعضاً.
قال هنا: ((فينفخ فيه الروح)).
الروح: مخلوق من مخلوقات الله -جل وعلا-، لا نعلم كيفية هذا النفخ، ولا
كيف تتلبس الروح بالبدن، والروح أضيفت إلى الله -جل وعلا- تشريفاً لها
وتعظيماً لشأْنها؛ قال: -جل وعلا-: {فإذا سوّيتهُ ونفختُ فيه من روحي} الإضافة هنا إضافة خلق وإضافة تشريف، ليست هي صفة لله -جل وعلا-.
والروح
هي سِرُّ الحياة كما هومعلوم، وتعلق الروح ببدن الجنين في رحم الأم تعلق
ضعيف، لأنَّ الروح لم تكتسب شيئاً ولم تقوَ فتبدأ الروح بالقوة في تعلقها
بالبدن كلما تقدم بالجنين الزمن في رحم الأم، حتى إذا خرج صار التعلق
تعلُّقاً آخر.
يقول العلماء: إن تعلُّق الروح بالبدن أربعة أنواع: قال: ((ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) هذه الكتابة تُسَمَّى القَدَر العُمري، أو التقدير العُمري. وهذا
القدر ليس معناه أنه إجبار، يعني يؤمر الملك بكتب أربع كلمات، يؤمر بكتب
رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، هذه الأربع كلمات ليست إجباراً، يعني لا
يكون العبد بها مجبراً، وإنما هي إخبار للملك بأن يكتب ما كتبهُ الله -جل
وعلا- ليظهر موافقة علم الله -جل وعلا- في العباد، ليظهر علمُ الله فيهم،
-جل وعلا-. قال: ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع))
يعني عن القُرب أن الأجل قريب لكن يسبق عليه الكتاب فيكون أمره في آخر
أمرهِ على الردَّة والعياذُ بالله، وعمله بعمل أهل الجنة هذا فيما يظهر
للناس وما في قلبه الله أعلم به، ما ندري ماذا كان في قلوب الذين زاغوا
فأزاغ الله قلوبهم، لكن نعلم على اليقين أنَّ الله -جل وعلا- حَكَم عَدْل
لا يظلمُ الناس شيئاً ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون.
1- تعلقٌ في رحم الأم، هذا النوع الأول، وهو تعلُّق ضعيف، الحياة فيه للبدن، والروح تعلقها بالبدن ضعيف.
2- في الحياة الدنيا، والحياةُ فيه للبدن، والروح تبع، وتعلُّقها بالبدن تعلُّق مناسب لبقاء البدن في الدنيا.
3- والنوع الثالث: من التعلق بعد الموت، والحياة فيه للروح، والبدن تبع.
4-
والنوع الرابع: تعلق الروح بالبدن بعد قيام الناس لرب العالمين يوم
القيامة، وهذا التعلق أكمل التعلقات، فتكون الحياة للبدن وللروح جميعاً في
أعظم أنواع التعلق.
والتقديرات أنواع:
- منها:القدر اليومي.
- ومنها: القدر والتقدير العُمرْي.
- ومنها: التقدير أو القَدَر السابق الذي في اللوح المحفوظ.
والقدر السابق الذي في اللوح المحفوظ هذا الذي يعم الخلائق جميعاً كما جاء ذلك في قول الله جلا وعلا: {ألم تعلم أنَّ الله يعلم ما في السماء والأرض إنّ ذلك في كتاب إنّ ذلك على الله يسير} {إنَّا كلَّ شيء خلقناه بقدر} قال عليه الصلاة والسلام: ((قدَّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)) قدّر مقادير الخلائق يعني كتبها، أمّا العلم فإنه أول، ليس محصوراً بقبل خلق السموات والأرض بخميسن ألف سنة.
فتحصّل
من هذا أنّ هذا التقدير اسمُه التقدير العمْري، وهو بعض القدر السابق،
يعني أنَّك إذا تصَورت التقدير العمْري للناس جميعاً، فإنّ هذا يوافق
التقدير الذي في اللوح المحفوظ، كلُّ أحدٍ بحسبهِ، فالتقدير الذي في اللوح
المحفوظ عام وخاص أيضاً، وأما هذا التقدير فهو تقدير عمْري يخص كلَّ إنسان.
وهذا
التقدير لا يمكن لأحدٍ أن يخالفه، مَنْ كُتب عليه أنه شقي فإنه سيكون
شقياً؛ لأنّ علم الله -جل وعلا- نافذ، بمعنى أن الله -جل وعلا- يعلم ما
سيكون عليه العباد وسيكون عليه ما خلق إلى قيام الساعة وما بعد ذلك أيضاً.
هذا
التقدير العمْري كتابةً فتكون بيد الملك، وهو يختلف عن التقدير الذي في
اللوح المحفوظ بشيء وهو أنه يقبلُ التغيير، وأما الذي في اللوح المحفوظ
فإنه لا يَقبلُ التغيير بمعنى أنَّ ما كتبه الله -جل وعلا- في أم الكتاب لا
يقبلُ المحو ولا التغيير، وغيرهُ من أنواع التقديرات -يعني السنوية أو
العمرية- فإنها تقبل التغيير قال -جل وعلا-: {يمحو الله ما يشاء ويُثبِتُ وعندهُ أمُّ الكتاب} قال ابن عباس: (يمحو الله ما يشاء ويثبت: -يعني فيما في صُحف الملائكة-، وعنده أمُّ الكتاب عنده اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل).
ولهذا
كان عمر -رضي الله عنه- يقول في دعائه (اللهم إن كنت كتبتني شقيّاً
فاكتبني سعيداً) وهذا يعني به الكتابة في صُحف الملائكة لا الذي في اللوح
المحفوظ، فإن الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل، وهذا له حكمة
بالغة وهو أن ينشط العبد فيما فيه صلاحُه وأن يُعظم الرَّغب إلى الله -جل
وعلا- وأنَّ الله سبحانه يعلم ما العباد عاملون، وممّا يعلم دعاؤهم ورجاؤهم
في الله -جل وعلا- ووسائلهُم إليه سبحانه في تحقيق ما به صلاحهم في
الآخرة.
((بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد…))
هذه ليس فيها إجبار، والعبد -عند أهل السنة- مخير، وفي اختياره لا يخرج عن
قدر الله -جل وعلا- السابق وليس بِمُجْبر على ما يفعل، وليس أيضاً خالقاً
لفعل نفسه بل الله -جل وعلا- هو الذي يخلق فعل العبد.
هنا
قال: ((فوالله الذي لا إله غيره)) هذه الكلمة مُدرجة من كلام ابن مسعود رضي
الله عنه كتعليق على ما سبق من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(فوالله الذي لا إله غيره إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنه حتى ما يكون
بينه وبينها إلا ذراع فيسبقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)؛
لأنّ الكتاب فيه ذكرُ الخاتمة شقي أو سعيد، وهذا باعتبار الخاتمة سار طول
عمره في الطاعة ثم بعد ذلك اختار الشقاء فوافق ما كتبه الملك أنه شقي، وليس
معنى ذلك أنه مُجبر ولكن وافق ذلك.
قال
جماعة من السلف: (الخواتيم ميراث السوابق)، ولهذا يبعث هذا الحديث وكلام
ابن مسعود هذا على الخوف الشديد من الخاتمة؛ لأنّ العبد لا يدري بم يُختمُ
له، والسوابق هي التي تكون وسائل للخواتيم، والعبد بين خوْف عظيم في أمر
خاتمته وما بين رجاءٍ عظيم، وإذا جاهد في الله حق الجهاد واستقام على
الطاعة فإنه يُرجى له أن يُختم له بخاتمةِ السّعادة.
قال: ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه البخاري ومسلم.
وهذا من فضل الله العظيم على بعض عباده أن يختم له بخاتمة السعادة.
وإنّ
المرء أحياناً لينظر إلى السوابق فلا يدري ماذا كُتب له فيبكي، كما قال بعض
السلف من الأئمة، قال: (ما أبكى العيون ما أبكاها الكتابُ السَّابق)
فالمرء يود أنه لو اطلع على ما كتبه الملك هل الملك كتبه شقياً أم كتبه سعيداً ؟
فإن كان كتبه سعيداً فهي سعادة له وطمأنينة وإن كان كتبه شقياً فيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُكتب من الأتقياء.
ولكنَّ
الله -جل وعلا- بحكمته غيب هذا عن العباد ليبقى الجد في العمل ولتبقى حكمة
التكليف، وأن يكون الناس متفاضلين في البرِّ والتقوى فليس سواءً حازم
ومضيِّع، ليس سواءً من هو مجاهد يجاهد نفسه ويجاهد عدُوَّه إبليس ومن هو
مضيِّع ويُتبع نفسه هواها.
وقال
بعضهم: (قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يُختم لنا وقلوب
السابقين أو قال المُقربين معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا).
وهذا
مثال للخوف الشديد الذي يكون في قلوب أهل الإيمان، وإذا كان هذا الخوف فإنه
لا يعني أن يكون متردداً ليس على طاعة ولكن يبعثه هذا الخوف على الأخذ
بالحزم وأن يُعد العُدَّة للقاء الله -جل وعلا-؛ فالإيمان بالقدر له ثمراته
العظيمة في العمل واليقين وصلاح قلوب العباد.
فالأتقياء
هم الذين آمنوا بالقدر، والمضيعون هم الذين اعترضوا على القدر، ولكلٍ
درجات عند الله -جل وعلا- من الفضل والنعمة يعني من المقربين والسابقين
وأصحاب اليمين.. إلخ.
ولأهل الشقاء دركات في النار نعوذ بالله من الخذلان.
الكشاف التحليلي
حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه -مرفوعاً-: (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خلْقُهُ في بَطْنِ أمِّهِ...)
تخريج الحديث
درجة الحديث
متفق عليه وتلقته الأمة بالقبول
منزلة الحديث
ترجمة الراوي
موضوع الحديث
شرح الحديث إجمالاً
شرح قوله: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق...)
معنى قوله: (حدثنا)
التحديث أعلى صيغ التحمل
معنى قوله:(الصادق المصدوق)
مناسبة قول ابن مسعود: (الصادق المصدوق)
بيان أطوار تقلب الجنين في بطن أمه، ودلالتها من الكتاب والسنة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه...)
ما يفيده قوله: (يجمع)
تفسير ابن مسعود لمعنى (الجمع)
دلالة أثر ابن مسعود على أن جمع النطفة يكون في أربعين يوماً
دلالة حديث مالك بن الحويرث على أن الجمع يكون في اليوم السابع
بيان درجة حديث مالك بن الحويرث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً)
الكلام عن مرحلة النطفة
تعريف (النطفة)
سبب تسمية (النطفة) بذلك
تفسير قول الله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج)
قال ابن مسعود: (أمشاجها: عروقها)
فائدة: ذكر خلق الإنسان من نطفة يبعث على التواضع
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يكون علقة مثل ذلك)
الكلام عن مرحلة العلقة
تعريف (العلقة)
سبب تسمية العلقة بذلك
المراد بالمثلية في قوله: (مثل ذلك):مثلية العدد
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يكون مضغة مثل ذلك)
الكلام عن مرحلة المضغة
تعريف (المضغة)
المضغة: قطعة لحم
ذكر رواية عند الإمام أحمد فيها أن الجنين يكون عظاماً أربعين يوماً
تضعيف هذه الرواية سنداً ومتناً
ذكر رواية عند الإمام أحمد فيها أن العظام لا تكسى لحماً إلا بعد مائة وستين يوما
تضعيف ابن رجب لهذه الرواية
تضعيفها من جهة السند لأجل ضعف علي بن زيد ابن جدعان
تضعيفها من جهة المتن لشذوذها؛ حيث تقتضي تأخر نفخ الروح بعد مائة وستين يوماً
ذكر حديث يدل على أن خلق اللحم والعظام يكون في أول الأربعين الثانية
وهو حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم
ظاهر حديث حذيفة يدل على أن تصوير الجنين في أول الأربعين الثانية
التنبيه على غلط من فهم من الحديث أنَّ المَلَك يقسِمُ النُّطفةَ إذا صارت علقةً إلى أجزاء (جلد ولحم وعظام)
الخلق في حديث حذيفة بمعنى التقدير
علم الأجنة من العلوم التي اختص الله تعالى بها
لا يمكن للبشر معرفة كون الجنين ذكراً أو أنثى قبل ثنتين وأربعين ليلة
حديث ابن مسعود يدل على أن الجنين يمكث مائة وعشرين يوما قبل نفخ الروح
التنبيه على فهم آخر لحديث ابن مسعود وهو أن الوصف المرحلي أغلبي
الأربعون الأولى يغلب عليها وصف النطفة، والثانية يغلب عليها وصف العلقة...
الفائدة من تفكر الإنسان في مراحل خلقه
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات...)
متى يرسل الملك؟
لفظ الحديث يدل صراحة على أن الملك يرسل إليه بعد الأربعين الثالثة
معنى نفخ الروح
تعريف (الروح)
تعلق الروح بالبدن أربعة أنواع:
النوع الأول: تعلق في رحم الأم
النوع الثاني: تعلق في الحياة الدنيا
النوع الثالث: تعلق بعد الموت (في البرزخ)
النوع الرابع: تعلق في الحياة الآخرة بعد قيام الناس لرب العالمين
مسائل مهمة في الكتابة
الكتابة ليس فيها إجبار للعبد
الكتابة التي في حال التخليق غير كتابة المقادير
يُخْلَقُ معَ الجنينِ ما تَضَمَّنَتْهُ الكتابة مِنْ صفاتِهِ القائِمَةِ بهِ
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره...)
قوله: (فوالذي لا إله غيره...) روي مرفوعاً وموقوفاً على ابن مسعود.
بيان معنى (المدرج)
معنى قوله: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة)
معنى قوله: (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع...)
معنى قوله: (فيسبق عليه الكتاب)
المراد بالكتاب في قوله: (فيسبق عليه الكتاب)
معنى قوله: (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)
السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما
كثرة الآثار في ذكر الكتاب السابق بـالسعادة والشقاوة
السعادة والشقاوة مقدرتان بحسب الأعمال
هذا الحديث تفسره النصوص الأخرى
في حديث سهل بن سعد مرفوعا: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس...)
الله تعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً
مسائل في السوابق والخواتيم
أولاً: السوابق
المراد بالسوابق: ما يسبق للعبد من القضاء السابق
قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم وقلوب المقربين معلقة بالسوابق
آثار عن السلف في الخوف من السوابق
شدة خوف السلف الصالح من الوقوع في الكفر والنفاق
ثانياً: الخواتيم
ذكر بعض الأدلة على عظم شأن الخواتيم
إنما الأعمال بالخواتيم
الخواتيم ميراث السوابق
خوف السلف الصالح من سوء الخاتمة
الخوف من سوء الخاتمة من آثار الإيمان بالقدر
جهل الإنسان بخاتمته يقطع الاعتماد على العمل ويعين على الخوف والرجاء
كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من سؤال الله تعالى الثبات على الدين
أسباب سوء الخاتمة
أسباب حسن الخاتمة
مسائل متفرقة
مسألة: متى يكون تصوير الجنين
بيان معنى (التصوير)
التصوير: هو جعل الجنين على هيئة صورة مخططة.
تنبيه: ليس في حديث الباب ذكر لتصوير الجنين
يصور الجنين قبل خلق أعضائه
هذا التصوير كالتخطيط في جسم شفاف
هل التصوير درجات؟
التصوير أحد مراحل الخلق
الفرق بين التخليق والتصوير
تفسير قول الله تعالى:(هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء)
حديث حذيفة بن أسيد يدل على أن تصوير الجنين في أول الأربعين الثانية
ذكر ابن رجب روايتين عن ابن مسعود في توقيت تصوير الجنين
الرواية الأولى: أن تصوير الجنين قد يكون قبل الأربعين الثالثة
هذه الرواية ليس فيها تصريح بذكر التصوير
الرواية الثانية: أنه لا تصوير لخلق الجنين قبل ثمانين يوما
الكلام على سند هذه الرواية
ذهب ابن رجب إلى أن تصوير النطفة يكون في اليوم السابع
استدل ابن رجب بحديث مالك بن الحويرث، وبكلام الأطباء
فوائد من كلام الأطباء:
1- أقل مدة يتصور فيها الذكر: خمسة وثلاثون يوماً
2- أقل مدة تتصور فيها الأنثى: أربعون يوماً
مسألة: أقل مدة يتبين فيها خلق الولد
الخلاف في هذه المسألة:
القول الأول: أقل ما يتبين خلق الولد في واحد وثمانين يوماً
مأخذ هذا القول: أن التخليق راجع إلى المضغة ولا يكون ذلك إلا في الأربعين الثالثة
استدل أصحاب هذا القول بحديث ابن مسعود (حديث الباب)
القول الثاني: قد يتبين خلق الجنين في الأربعين الثانية
استدل أصحاب هذا القول بحديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، وبكلام الأطباء
هل يقع التخليق في مرحلة العلقة؟
الترجيح بين القولين:
التخليق المذكور في حديث حذيفة بن أسيد معناه: التقدير والتصوير
ثمرة الخلاف في المسألة
لا تنقضي العدة ولا تعتق أم الولد إلا بتبين خلق الجنين
مأخذ هذا القول أن العبرة بتبين خلق الإنسان
مسألة: إذا كانت المضغة غير مخلقة فهل تنقضي العدة وتعتق أم الولد بها؟
مسألة: متى يكون نفخ الروح في الجنين؟
القول الأول: أنه بعد الأربعين الثالثة (بعد تمام أربعة أشهر):
ظاهر حديث ابن مسعود يدل على أن نفخ الروح بعد الأربعين الثالثة
هذا القول مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب
ذهب إلى هذا القول: أحمد في المشهور عنه، وإسحاق وهو أحد أقوال الشافعي
القول الثاني: أنه بعد أربعة أشهر وعشر
وهو رواية عن أحمد
القول الثالث: أنه في أول الأربعين الثانية لاقترانه بالكتابة
ذكر أهل الطب: أن الجنين قد يتحرك إذا بلغ سبعين يوما
تحرك الجنين قبل نفخ الروح لأجل اتصال روح أمه به
مسألة متى تكون الكتابة؟
القول الأول: أن الكتابة بعد الأربعين الثالثة
استدلّ أصحاب هذا القول بحديث ابن مسعود
القول الثاني: أن الكتابة في أول الأربعين الثانية
استدل أصحاب هذا القول بحديث حذيفة بن أسيد
جوابهم عن حديث ابن مسعود
القول الثالث: أن الكتابة وقعت مرتين
مسألة: هل الكتابة قبل نفخ الروح أو بعده؟
اختلاف روايات الحديث في ترتيب الكتابة والنفخ
مذاهب العلماء في هذا الاختلاف:
المذهب الأول: مذهب الترجيح
في رواية في صحيح البخاري: (ويبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، ثم ينفخ فيه الروح)
في رواية عند البيهقي: (ثم يبعث الملك، فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات)
المذهب الثاني: مذهب الجمع، واختلفوا فيه على أقوال:
القول الأول: أن الكتابة وقعت مرتين
القول الثاني: أن الكتابة تختلف باختلاف الأجنة
القول الثالث: أن (ثم) في الحديث إنما أريد بها ترتيب الإخبار لا ترتيب المخبر عنه
مسألة: أين تكون الكتابة ؟
الخلاف في هذه المسألة:
القول الأول: أن الكتابة في صحيفة الملك
استدل له بحديث حذيفة بن أسيد، وهو صحيح صريح
القول الثاني: أن الكتابة تكون بين عيني الجنين
استدل له بحديث ابن عمر في مسند البزار وغيره وفيه: (ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق)
القول الثالث: أن الكتابة تكون في صحيفة الملك، وبين عيني الولد
جمع هذا القول بين القولين السابقين
تنبيه: هذه الكتابة التي تكتب للجنين في بطن أمه غير كتابة المقادير السابقة
مسألة: هل نفخ الروح متعلِّقٌ بالكتابة أو بانقضاء الأربعين الثالثة؟
القول الأول: لا يكون نفخ الروح إلا بعد أربعة أشهر
القول الثاني: بعد أربعة أشهر وعشر
مسألة: حكم إسقاط الجنين
الخلاف في هذه المسألة:
القول الأول: جواز إسقاط الجنين ما لم تنفخ فيه الروح
استدلوا بحديث ابن مسعود وبالقياس على العزل
القول الثاني: إذا صار الجنين علقة لم يجز إسقاطه
قالوا: لأنه ولدٌ انعقد بخلاف النطفة
بيان الفرق في الحكم بين العزل والإسقاط
مسألة: متى يصلى على السقط؟
القول الأول: إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر
وهو قول الإمام أحمد المشهور عنه وأحد أقوال الشافعي وإسحاق وروي عن ابن المسيب
القول الثاني: إذا بلغ أربعة أشهر وعشراً
وهو رواية عن أحمد
مسألة: شبه الجنين
بيان مم يشبه الطفل أباه ومم يشبه أمه
يكون الشبه لمن سبق ماؤه منهما
كتابة المقادير
أنواع التقديرات النسبية:
التقدير الأول: في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
هذا التقدير لا يقبل التغيير لأنه مكتوب بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء
التقدير الثاني: قبل خلق آدم عليه السلام بأربعين سنة
التقدير الثالث: عند مسح ظهر آدم عليه السلام
التقدير الرابع: التقدير العمري، وهو كتابة المقادير للجنين في بطن أمه
الكتابة الأولى: في أول الأربعين الثانية
الكتابة الثانية: عند نفخ الروح بعد تمام الأربعين الثالثة
التقدير العمري يقبل التغيير بإذن الله تعالى
التقدير الخامس: في ليلة القدر
التقدير السادس: التقدير اليومي
مسألة تغيير القدر
التقدير في اللوح المحفوظ لا يقبل التغيير لأنه مبني على علم الله تعالى المحيط بكل شيء
التقدير العمري وردت النصوص بأنه يغير فيه حتى يكون على وفق ما في اللوح المحفوظ
هذا التغيير لحكم عظيمة يعلمها الله تعالى
على هذا التغيير يحمل دعاء عمر: (اللهم إن كنت كتبتني شقياً فاكتبني سعيداً)
من فوائد حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -
تَوْقِيرُ الصحابةِ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ
بيانُ مراحلِ تكوينِ الإنسان
الحث على التواضع
عناية الله تعالى بخلقه
الأعمال بالخواتيم
الإيمان بالقضاء والقدر
أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار
العناصر
حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه -مرفوعاً-: (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خلْقُهُ في بَطْنِ أمِّهِ...)
تخريج الحديث
درجة الحديث
منزلة الحديث
ترجمة الراوي
موضوع الحديث
شرح الحديث إجمالاً
شرح قوله:(حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق...)
مناسبة قول ابن مسعود: (الصادق المصدوق)
بيان أطوار تقلب الجنين في بطن أمه، ودلالتها من الكتاب والسنة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه...)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً)
الكلام عن مرحلة النطفة
معنى (النطفة)
سبب تسمية (النطفة) بذلك
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يكون علقة مثل ذلك)
الكلام عن مرحلة العلقة
معنى (العلقة)
سبب تسمية العلقة بذلك
المراد بالمثلية في قوله: (مثل ذلك):مثلية العدد
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يكون مضغة مثل ذلك)
الكلام عن مرحلة المضغة
معنى (المضغة)
ذكر رواية عند الإمام أحمد فيها أن الجنين يكون عظاماً أربعين يوماً
تضعيف هذه الرواية سنداً ومتناً
ذكر رواية عند الإمام أحمد فيها أن العظام لا تكسى لحماً إلا بعد مائة وستين يوما
تضعيف ابن رجب لهذه الرواية
ذكر حديث يدل على أن خلق اللحم والعظام يكون في أول الأربعين الثانية
حديث ابن مسعود يدل على أن الجنين يمكث مائة وعشرين يوما قبل نفخ الروح
التنبيه على فهم آخر لحديث ابن مسعود وهو أن الوصف المرحلي أغلبي
الفائدة من تفكر الإنسان في مراحل خلقه
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات...)
متى يرسل الملك؟
معنى نفخ الروح
تعريف (الروح)
أنواع تعلق الروح بالبدن
مسائل مهمة في الكتابة
الكتابة ليس فيها إجبار للعبد
الكتابة التي في حال التخليق غير كتابة المقادير
يُخْلَقُ معَ الجنينِ ما تَضَمَّنَتْهُ الكتابة مِنْ صفاتِهِ القائِمَةِ بهِ
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره...)
بيان معنى (المدرج)
معنى قوله: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة......)
المراد بالكتاب في قوله: (فيسبق عليه الكتاب)
معنى قوله: (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)
السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما
السعادة والشقاوة مقدرتان بحسب الأعمال
معنى السوابق والخواتيم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من سؤال الله تعالى الثبات على الدين
أسباب سوء الخاتمة
أسباب حسن الخاتمة
مسائل متفرقة
مسألة: متى يكون تصوير الجنين
بيان معنى (التصوير)
الفرق بين التخليق والتصوير
مسألة: أقل مدة يتبين فيها خلق الولد
ثمرة الخلاف في المسألة
مسألة: متى يكون نفخ الروح في الجنين؟
مسألة متى تكون الكتابة؟
مسألة: هل الكتابة قبل نفخ الروح أو بعده؟
مسألة: أين تكون الكتابة ؟
مسألة: هل نفخ الروح متعلِّقٌ بالكتابة أو بانقضاء الأربعين الثالثة؟
مسألة: حكم إسقاط الجنين
مسألة: متى يصلى على السقط؟
مسألة: شبه الجنين
أنواع كتابة المقادير
مسألة: تغيير القدر
ذكر بعض فوائد حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1) ترجمةُ الصحَابيِّ رَاوِي الحديثِ:
عبدُ
اللهِ بنُ مَسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ-، الهُذَلِيُّ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ
قَدِيمًا، وَهَاجَرَ هِجْرَتَيْنِ وَشَهِدَ بَدْرًا وغيرَها، وكانَ صاحبَ
الوِسَادَةِ والنَّعْلَيْنِ والسِّوَاكِ، وكَثِيرَ الدُّخُولِ عَليهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ طَرِيقًا بهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ماتَ
بالمدينةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ أو ثلاَثٍ وثَلاثِينَ، عَنْ بِضْعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ماتَ بالكوفةِ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
الشرحُ:
قالَ أَبُو عَبدِ الرَّحمنِ: (حدَّثَنَا رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ الصَّادقُ) في جَميعِ مَا يَقُولُ، (المَصْدُوقُ) فيمَا يُوحَى إليهِ؛ لأنَّهُ مِن اللهِ، ومَا يَكونُ مِنْهُ لا يكونُ إلاَّ صِدْقًا، ((إِنَّ أَحَدَكُمْ)) يا بَنِي آدمَ ((يُجْمَعُ)) يَبْقَى مَادَّةً، ((خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً))أَيْ: مَنِيًّا.
رُوِيَ
عنِ ابنِ مسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ-: أنَّ النُّطْفةَ إذا وَقَعَتْ في
الرَّحِمِ، فَأَرَادَ اللهُ تعَالى أَنْ يَخلُقَ مِنهَا بَشَرًا، طَارَتْ
في بَشَرَةِ المرأةِ، تَحْتَ كلِّ ظُفْرٍ وَشَعْرَةٍ، فَتَمْكُثُ
أَرْبَعِينَ يومًا، ثمَّ تَنْحَدِرُ في الرَّحِمِ.
((ثُمَّ يَكُونُ)) بالتَّدْرِيجِ أو بِدُونِهِ((عَلَقَةً)) قِطْعَةَ دمٍ جامدةً ((مِثْلَ ذَلِكَ))الَّذِي هُوَ أَرْبعونَ يَوْمًا.
(( ثُمَّ يكونُ مُضْغَةً))
قِطْعَةً، أَيْ: قِطْعَةَ لحمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ فِي الزَّمَنِ
المذكُورِ، وفِيهَا أَوْ بعدَهَا، يُصَوِّرُهَا بِأَيِّ صورةٍ شَاءَ.
((ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ المَلَكَ)) المُوَكَّلَ بالرَّحمِ ((فَيَنْفُخُ فيهِ الرُّوحَ))، فَيَصِيرُ حَيًّا، بعدَ أَنْ كانَ جَمَادًا، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ.
ويَنْبَغِي
للعاقلِ أَنْ يَتَدَبَّرَ في أَصْلِهِ، وَتَطَوُّرِهِ في أَطْوَارٍ شَتَّى
، لِيَنْكَشِفَ لهُ ضَعْفُ حَالِهِ، واحْتِقَارُهُ واحْتِيَاجُهُ إلى
بارئِهِ، وَيَظْهَرَ لَهُ جلالُ خَلْقِهِ وَحُسْنُ عِنَايَتِهِ بهِ، ومَا
يَجِبُ عليهِ مِنْ شُكْرِهِ.
((ويُؤْمَرُ)) المَلَكُ ((بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ))، أَيْ: يَكْتُبُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ:
(( بِكَتْبِ رِزْقِهِ)) مَعَ مَقَادِيرِهِ، وَأَوْقَاتِهِ، وَأَوْصَافِهِ، وَأَسْبَابِهِ، مِنْ مأكُولٍ ومشرُوبٍ وملبُوسٍ وغيرِهَا.
((وَ)) بِكَتْبِ((أَجَلِهِ)) مقدارِ مُدَّةِ حياتِهِ.
((وَ)) بِكَتْبِ((عَمَلِهِ)) بمقدارِهِ وَوَقْتِهِ، وأَوْصَافِهِ وأحوالِهِ وأسبَابِهِ.
((وَ)) يَكْتُبُ أنَّهُ ((شَقِيٌّ)) إنْ كَانَ في عِلْمِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الأشقياءِ.
((أَوْ)) يَكْتُبُ أنَّهُ ((سَعِيدٌ))، إنْ كانَ في عِلَمِ اللهِ مِنَ السُّعَدَاءِ.
((فوَاللهِ الَّذِي)) أَيْ: أُقسِمُ باللهِ الذي ((لاَ إلهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنَّةِ)) بامْتِثالِ الأوَامِرِ واجْتِنَابِ المَنَاهِي فيمَا يَبْدُو للنَّاسِ، ((حتَّى مَا يَكونَ بَيْنَهُ وبَيْنَها إلاَّ ذِرَاعٌ))، تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ قُرْبِهِ منهَا، كَأنَّهُ لَمْ يَبْقَ بينَهُ وبينَهَا إلاَّ الموتُ، ((فَيَسْبِقَ علَيْهِ))، ما كُتِبَ مِنَ الشَّقَاوَةِ و((الكِتَابُ))المَسْطُورُ في بَطْنِ أُمِّهِ((فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ)) في آخِرِ أَمْرِهِ مِنَ المَعَاصِي، وَيَمُوتَ على ذلكَ ((فَيَدْخُلَهَا)) بعدَ الموْتِ أَوْ يومَ القيامَةِ.
((وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ)) من المعاصِي والمُنْكَرَاتِ، فيمَا يَظْهَرُ للنَّاسِ ((حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبيْنَها إلاَّ ذِراعٌ فَيَسْبِقَ عَلَيْهِ)) ما كُتِبَ لَهُ مِنَ السَّعادَةِ في((الكِتابِ)) المكتوبِ في بطنِ أُمِّهِ، ((فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا))،
وَلَعَلَّ هذا يكونُ تَارَةً كمَا وَقَعَ لإبليسَ، وإلاَّ فَكَلٌّ
مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
العَامِلِينَ.
وانقلابُ
الحالِ منَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ كثيرٌ ، وغَالِبُ النَّاسِ يَمُوتُونَ
على مَا يَعِيشُونَ، وهذا الإبهامُ هُوَ الَّذِي قَطَعَ الاعتمادَ على
الأعمالِ، وَأَقْلَقَ قلوبَ الأَخيارِ، فلا يَزَالُونَ بينَ الخَوفِ
والرَّجاءِ، حتَّى يُجَاوِزُوا عَقَبَةَ الموتِ، وحينئذٍ يَعْلَمُ الإنسانُ
بماذَا خَتَمَ اللهُ لَهُ.
اللهُمَّ أَحْيِنَا على مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَأَمِتْنَا عَلى ذَلِكَ بِفَضْلِكَ.