22 Oct 2008
ح2: حديث جبريل الطويل (2/2)
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
2- عن عُمرَ
-رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: بَينَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يَوْمٍ إذْ طلَعَ عَلَيْنا رَجُلٌ
شَديدُ بَيَاضِ الثِّيابِ، شَديدُ سَوادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ
أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حتَّى جَلَسَ إلى
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلى
رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ.
قالَ: يا محمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإسْلامِ.
فَقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الإِسْلاَمُ
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ،
وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلاً)).
قالَ: صَدَقْتَ.
قالَ: فَعَجِبْنا لَهُ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإيمانِ.
قالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِِ)).
قالَ: صَدَقْتَ.
قالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ الإحسانِ؟
قالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإِنَّهُ يَرَاكَ)).
قالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ السَّاعةِ.
قالَ: ((مَا الْمَسْؤُولُ عَنْها بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)).
قالَ: فَأخْبِرْني عَنْ أَمَاراتِها.
قالَ: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)).
قالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا.
ثُمَّ قالَ لي: ((يا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟)).
قُلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قالَ: ((فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)) رواه مسلِمٌ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
قَالَ: صَدَقْتَ القائل جبريل عليه السلام
ثم قال: أخْبِرْني عَنِ الإِحْسَانِ الإحسان مصدر أحسن يحسن، وهو بذل الخير والإحسان في حق الخالق: بأن تبني عبادتك على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلما كنت أخلص وأتبع كنت أحسن. وأما الإحسان للخلق: فهو بذل الخير لهم من مال أوجاه أو غير ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الإحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وعبادة الله لا تتحقق إلا بأمرين وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
، أي عبادة الإنسان ربه سبحانه كأنه يراه، عبادة طلب وشوق وعبادة الطلب
والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو
يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرّب إليه سبحانه وتعالى.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ
أي: اعبده على وجه الخوف ولا تخالفه، لأنك إن خالفته فإنه يراك فتعبده
عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى
من الدرجة الأولى.
فصار للإحسان مرتبتان: مرتبة الطلب، ومرتبة الهرب.
مرتبة الطلب: أن تعبد الله كأنك تراه.
ومرتبة الهرب: أن تعبد الله وهو يراك عزّ وجل فاحذره، كما قال عزّ وجل: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) [آل عمران: الآية30]، وبهذا نعرف أن الجملتين متباينتان والأكمل الأول، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثاني في مرتبة ثانية متأخرة.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ لم يُعِد قوله صدقت اكتفاءً بالأولى.
والساعة هي: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، يعني البعث، وسميت ساعة لأنها داهية عظيمة، قال الله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج:1] .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا المَسْؤُوْلُ عَنْهَا يعني نفسه صلى الله عليه وسلم بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ
يعني جبريل عليه السلام، والمعنى: إذا كنت تجهلها فأنا أجهلها ولا أستطيع
أن أخبرك به، لأن علم الساعة مما اختص الله به عزّ وجل ، قال الله تعالى: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب:63] ، وقال عزّ وجل: (يَسْأَلونَكَ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ
رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ) [الأعراف: الآية187] ولهذا يجب علينا أن نكذب كل من حدد عمر الدنيا في المستقبل، ومن قال به أو صدق به فهو كافر.
وما
نسمع عن بعض أهل الشعوذة أن عمر الدنيا كذا وكذا قياساً على ما مضى منها
فإنه يجب علينا أن نقول بألسنتنا وقلوبنا كذبتم، ومن صدّق بذلك فهو كافر،
لأنه إذا كان أعلم الرسل البشرية وأعظم الرسل الملكية كلاهما لا يعرفان متى
تكون فمن دونهما من باب أولى بلا شك.
ولَمَا قال ما السؤول عنها بأعلم من السائل، ثم قال: أخْبِرْنِي عَنِ أَمَارَاتِهَا أي علامات قربها، لأن الأمارة بمعنى العلامة، والمراد أمارات قربها وهو ما يعرف بالأشراط، قال الله عزّ وجل: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) [محمد: الآية18]
وأشراط الساعة قسّمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
أشراط مضت وانتهت
أشراط لم تزل تتجدد وهي الوسطى
أشراط كبرى تكون عند قرب قيام الساعة
ومن علامات الساعة ماذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله:
أَنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبّتَهَا وفي لفظ: ربَّهَا والمعنى: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ أي الرقيقة المملوكة رَبَّهَا أي سيدها، أو: ربَّتَهَا هل المراد العين أو الجنس؟
والجواب:
اختلف في هذا العلماء. فمنهم من قال: المراد أن تلد الأمة ربها،يعني أن
تلد الأمة من يكون سيداً لغيرها لا لها، فيكون المراد بالأمة: الأمة
بالجنس.
وقيل
المعنى:إن الأمة بالعين تلد سيدها أو سيدتها، بحيث يكون الملك قد أولد
أمته، ومعنى أولدها أي أنجب منها، فيكون هذا الولد الذي أنجبته سيداً لها:
إما لأن أباه سيدها، وإما لأنه سوف يخلف أباه فيكون سيداً لها.
ولكن
المعنى الأول أقوى، أن الإماء يلدن -من يكونوا أسياداً ومالكين، فهي كانت
مملوكة في الأول، وتلد من يكونوا أسياداً مالكين. وهو كناية عن تغير الحال
بسرعة، ويدل لهذا ما ذكره بعد حيث قال:
وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ، الحفاة: يعني ليس لهم نعال،والعراة: أي ليس لهم ثياب تكسوهم وتكفيهم،العالة: أي ليس عندهم ما يأكلون من النفقة أو السكنى أو ما أشبه ذلك، عالة أي فقراء.
يَتَطَاوَلُوْنَ في البُنْيَانِ أي يكونون أغنياء حتى يتطاولون في البنيان أيهم أطول.
وهل المراد بالتطاول ارتفاعاً، أو جمالاً، أو كلاهما؟
الجواب:
كلاهما، أي يتطاولون في البنيان أيهم أعلى، ويتطاولون في البنيان أيهم
أحسن، وهم في الأول فقراء لا يجدون شيئاً، لكن تغير الحال بسرعة مما يدل
على قرب الساعة.
وهنا مسألة: هل وجد التطاول في البنيان أم لا؟
والجواب:
الله أعلم فإنه قد يوجد ما هو أعظم مما في هذا الزمان، لكن كل أناس وكل
جيل يحدث فيه من التطاول والتعالي في البنيان، وكل زمن يقول أهله: هذا من
أشراط الساعة، والله أعلم، لكن هذه علامة واضحة.
ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَليّاً يعني بقيت ملياً أي مدة طويلة كما في قوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) [مريم: الآية46] أي مدة طويلة، قيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر، وقيل: أقل ولكن المعروف أن الملي يعني الزمن الطويل.
ثُمَّ قَالَ: يَاعُمَرُ والقائل النبي صلى الله عليه وسلم أتَدْرِيْ من السَّائِل؟ قُلتُ: اللهُ وَرَسُوْله أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم وجده فيما بعد وسأله: أتدري من السائل؟ أي
أتعلم من هو؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ وَرَسُوْلهُ أَعْلَمُ وهذا يدل على أن
عمر رضي الله عنه لاعلم له من هذا السائل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ الإشارة هنا إلى شيء معلوم بالذهن، أي هذا جبريل أتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكَمُ لكنه جاء بهذه الصيغة أي صيغة السؤال والجواب لأنه أمكن في النفس وأقوى في التأثير.
من فوائد هذا الحديث:
هذا
الحديث فيه فوائد كثيرة، فلو أراد الإنسان أن يستنبط مافيه من الفوائد
منطوقاً ومفهوماً وإشارة لكتب مجلداً، لكن نشير إشارة قليلة إلى ما يحضرنا
إن شاء الله تعالى، فمنها:
1-بيان
حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يجلس مع أصحابه ويجلسون إليه،وليس
ينفرد ويرى نفسه فوقهم، بل إن الجارية تأخذ بيده حتى توصله إلى بيتها ليحلب
لها الشاة من تواضعه صلى الله عليه وسلم (1)
واعلم أنك كلما تواضعت لله ازددت بذلك رفعة، لأن من تواضع لله رفعه الله عزّ وجل .
2-جواز
جلوس الأصحاب إلى شيخهم ومن يفوقهم،لكن هذا بشرط:إذا لم يكن فيه إضاعة وقت
على الشيخ ومن يفوقه علماً. لأن بعض الناس يأتي إلى من يحافظ على وقته
ويستغله في العلم، فيجلس عنده ويطيل الحديث، فالمحافظ على وقته يتململ
ويوري مثلاً بقصر الليل أو ما أشبه ذلك، ولكن الآخر لشدة محبته له والتحدث
إليه يبقى.
3-إن الملائكة عليهم السلام يمكن أن يتشكلوا بأشكال غير أشكال الملائكة، لأن جبريل أتى بصورة هذا الرجل كما جاء في الحديث.
فإن قال قائل:وهل هذا إليهم، أو إلى الله عزّ وجل ؟
فالجواب: هذا إلى الله عزّ وجل ، بمعنى: أنه لايستطيع الملك أن يتزيَّى بزيّ الغير إلا بإذن الله عزّ وجل .
4-الأدب مع المعلم كما فعل جبريل عليه السلام، حيث جلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم جلسة المتأدب ليأخذ منه.
5-جواز
التورية لقوله: (يامُحَمَّد) وهذه العبارة عبارة الأعراب، فيوري بها كأنه
أعرابي،وإلا فأهل المدن المتخلقون بالأخلاق الفاضلة لاينادون الرسول صلى
الله عليه وسلم بمثل هذا.
6-فضيلة
الإسلام،وأنه ينبغي أن يكون أول ما يسأل عنه، ولهذا كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا أرسل الرسل للدعوة إلى الله أمرهم أن يبدؤوا قبل كل شيء
بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
7-إن أركان الإسلام هي هذه الخمسة، ويؤيده حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْس)) (2) وسيأتي شرحه.
8-فضل الصلاة وأنها مقدمة على غيرها بعد الشهادتين.
9-الحث على إقامة الصلاة، وفعلها قويمة مستقيمة، وأنها ركن من أركان الإسلام.
10-إن إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من أركان الإسلام، وكذلك بقية الأركان.
ولو قائل قال: إذا ترك الإنسان واحداً من هذه الأركان هل يكفر أم لا؟
فالجواب:
أن نقول: إذا لم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فهوكافر
بالإجماع، ولا خلاف في هذا، وأما إذا ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج أو
واحداً منها ففي ذلك خلاف، فعن الإمام أحمد - رحمه الله - رواية: أن من ترك
واحداً منها فهو كافر، يعني: من لم يصلِّ فهو كافر، ومن لم يزكِّ فهو
كافر، ومن لم يصم فهو كافر، ومن لم يحج فهو كافر.
لكن هذه الرواية من حيث الدليل ضعيفة.
والصواب: أن هذه الأربعة لا يكفر تاركها إلا الصلاة، لقول عبد الله بن شقيق - رحمه الله -: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لايرون شيئاً من الأعمال تركه كفرٌ إلا الصلاة ولذلك أدلة معروفة (3).
وكذا لو أنكر وجوبها وهو يفعلها فإنه يكفر ،لأن وجوبها أمرٌ معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وإذا تركها عمداً فهل يقضيها أو لا ؟
نقول: الموقت لا يقضى، فلو ترك الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر قلنا لا تقضها، لأنه لو قضاها لم تنفعه لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: الآية229] والظالم لا يمكن أن يقبل منه، ومن أخرج الصلاة عن وقتها بلاعذر فهو ظالم.ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ)) (4) .
وكذلك يقال في الصوم: فلو ترك الإنسان صوم يوم عمداً بلا عذر ثم ندم بعد أن دخل شوال وأراد أن يقضيه، فإننا نقول له: لا تقضه، لأنك لو قضيته لم ينفعك، لكونك تعديت حدود الله، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ))
وعلى
من ترك الصلاة بلا عذر حتى خرج الوقت، أوترك الصوم بلا عذر حتى خرج الوقت
أن يكثر من الطاعات والاستغفار والعمل الصالح والتوبة إلى الله توبة
نصوحاً.
أما الزكاة: إذا تركها الإنسان ثم تاب فإنه يزكي، نقول: زكِّ لأنه ليس للزكاة وقت محدد يقال فيه لاتزكي إلا في الشهر الفلاني.
ومن مات وهو لم يزكِّ تهاوناً، فهل تخرج الزكاة من ماله، أم لا؟
والجواب: الأحوط -والله أعلم- أن الزكاة تخرج، لأنه يتعلق بها حق أهل الزكاة فلا تسقط، لكن لاتبرأ ذمته، لأن الرجل مات على عدم الزكاة.
والحج كذلك، لوتركه الإنسان القادر المستطيع تفريطاً حتى مات، فإنه لايحج عنه، لأنه لايريد الحج فكيف تُحج عنه وهو لايريد الحج.
وهنا مسألة: هل يجب على ورثته أن يخرجوا الحج عنه من تركته؟
والجواب:
لا، لأنه لاينفعه ولم يتعلق به حق الغير كالزكاة، قال ابن القيم في تهذيب
السنن: هذا هو الذي ندين الله به أو كلمة نحوها، وهو الذي تدل عليه الأدلة.
فيجب على الإنسان أن يتقي الله عزّ وجل لأنه إذا مات ولم يحج مع قدرته على الحج فإنه لوحُجَّ عنه ألف مرة لم تبرأ ذمته.
11- الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فالإسلام بالنسبة للإيمان أدنى، لأن كل إنسان يمكن أن يسلم ظاهراً،كما قال الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) [الحجرات: الآية14] لكن الإيمان - اللهم حقق إيماننا- ليس بالأمر الهين فمحله القلب والاتصاف به صعب.
12- أن الإسلام غير الإيمان،لأن جبريل عليه السلام قال: أخبرني عن الإسلام وقال: أخبرني عن الإيمان وهذا يدل على التغاير.
وهذه المسالة نقول فيها ما قال السلف:-
إن ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإن ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، فقوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [المائدة: الآية3] يشمل الإيمان، وقوله تعالى: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) [آل عمران: الآية20] يشمل الإيمان.
كذلك الإيمان إذا ذكر وحده دخل فيه الإسلام، قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف: الآية13] بعد أن ذكر (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف: الآية11]قال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[الصف:13].
-
أما إذا ذكرا جميعاً فيفترقان ،ويكون الإسلام بالأعمال الظاهرة من أقوال
اللسان وعمل الجوارح، والإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب
وأعمالها. مثاله: هذا الحديث الذي معنا، ويدل على التفريق قول الله عزّ
وجل: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) [الحجرات: الآية14] .
فإن قال قائل: يرد على قولنا: إذا اجتمعا افترقا إشكال، وهو قول الله تعالى في قوم لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذّاريات:35-36] فعبر بالإسلام عن الإيمان؟
فالجواب: أن هذا الفهم خطأ، وأن قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يخص المؤمنين وقوله: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
يعم كل من كان في بيت لوط، وفي بيت لوط من ليس بمؤمن، وهي امرأته التي
خانته وأظهرت أنها معه وليست كذلك، فالبيت بيت مسلمين، لأن المرأة لم تظهر
العداوة والفرقة، لكن الناجي هم المؤمنون خاصة، ولهذا قال: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم ما عدا هذه المرأة، أما البيت فهو بيت مسلم.
ويؤخذ
من هذه الآية فائدة هي: أن البلد إذا كان المسيطر عليه هم المسلمون فهو
بلد إسلامي وإن كان فيه نصارى أو يهود أو مشركون أو شيوعيون، لأن الله
تعالى جعل بيت لوط بيت إسلام مع أن امرأته كافرة، هذا هو التفصيل في مسألة
الإيمان والإسلام.
والحاصل
أنه إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإن ذكر الإيمان وحده دخل فيه
الإسلام، وإن ذكرا جميعاً افترقا، فصار الأمر كما قال بعضهم: إن اجتمعا
افترقا، إن افترقا اجتمعا ولهذا نظائر: كالمسكين والفقير، والبر والتقوى،
فهذه الألفاظ إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت.
13- أن أركان الإيمان ستة كما سبق، وهذه الأركان تورث للإنسان قوة الطلب في الطاعة والخوف من الله عزّ وجل .
14- أن من أنكر واحداً من هذه الأركان الستة فهو كافر، لأنه مكذّب لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
15- إثبات الملائكة وأنه يجب الإيمان بهم.
وهنا مسألة: هل الملائكة أجسام، أم عقول، أم قوى؟
والجواب: الملائكة أجسام بلا شك،كما قال الله عزّ وجل: (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) [فاطر: الآية1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أطت السماء)) والأطيط: صرير الرحل،أي إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صريراً من ثقل الحمل،فيقول عليه الصلاة والسلام: ((وحق لها أن تئط، مَا مِنْ مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابِع إِلاَّ وَفِيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ للهِ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِد)) (5) ويدل لهذا حديث جبريل عليه السلام: أنه له ستمائة جناح قد سد الأفق، والأدلة على هذا كثيرة.
وأما
من قال: إنهم أرواح لا أجسام لهم، فقوله منكر وضلال، وأشد منه نكارةً من
قال: إن الملائكة كناية عن قوى الخير التي في نفس الإنسان، والشياطين كناية
عن قوى الشر، فهذا من أبطل الأقوال.
16- أنه لابد من الإيمان بجميع الرسل، فلو آمن أحد برسوله وأنكر من سواه فإنه لم يؤمن برسوله، بل هو كافر، واقرأ قول الله عزّ وجل: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء:105]
مع
أنهم إنما كذبوا نوحاً ولم يكن قبله رسول، لكن تكذيب واحد من الرسل تكذيب
للجميع. وكذلك تكذيب واحد من الكتب في أنه نزل من عند الله تكذيب للجميع.
17-
إثبات اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب
والجزاء، حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم.
وقد أنكر البعث كل المشركين، قال الله عزّ وجل: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يّـس:78] أي يتفتت، فأجاب الله عزّ وجل بأن أمر نبيه أن يقول: ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يّـس:79] فهذا دليل، ووجه كونه دليلاً: أن القادر على الإيجاد قادر على الإعادة، وقال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه)[الروم: الآية27]
فإذا كان ابتداء الخلق هيناً وأنتم أيها المشركون تقرون به فإعادته أهون،
والكل هين على الله عزّ وجل وهذا الدليل الأول في الرد على منكري البعث.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يعلم كيف يخلق عزّ وجل ويقدر على خلقه، فكيف تقولون إن هذا ممتنع؟ ثم قال تعالى: (الذي جعل لكم) [يس:80] أي جعل لكم أيها المنكرون ولغيركم، (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً )[يّـس: الآية80] معنى
الآية: أن في بلاد الحجاز شجراً يقال له المرخ والعفار يضربونه بالزند ثم
يشتعل ناراً، مع أ نه أخضر ورطب وبارد أبعد ما يكون عن النار، ومع ذلك تخلق
منه ا لنار، فالقادر على أن يخلق من الشيء ضده قادر على أن يعيد الشيء
نفسه، ثم قال سبحانه وتعالى: (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [يّـس: الآية80] وهذا إلزام لهم، وليس أمراً غريباً عليكم بل أنتم تستعملونه.
الدليل الثالث: من الأدلة في الرد على منكري البعث قول الله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يّـس:81]
فالجواب: (بَلَى) [يس:81] وقد أجاب سبحانه وتعالى نفسه، لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس:81] أي ذو الخلق التام مع القدرة التامة : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يّـس:82] من كان أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلا يعجزه شيء، فإن أمر موجوداً أن يعدم عدِم، أو معدوماً أن يوجد وُجِد مهما كان.
وفي
قصة موسى عليه السلام لما وقف على البحر العميق أمره الله تعالى أن يضرب
البحر فضربه مرة واحدة فانفلق وصار اثني عشر طريقاً يبساً في الحال، فمن
يقدر على أن يمايز بين الماء؟ لا يقدر أحد إلا الله عزّ وجل لأنه إذا أراد
شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وبهذه
المناسبة أودّ أن أنبّه على كلمة دارجة عند العوام، حيث يقولون (يا من
أمره بين الكاف والنون) وهذا غلط عظيم، والصواب: (يا من أمره بعد الكاف
والنون) لأن ما بين الكاف والنون ليس أمراً، فالأمر لا يتم إلا إذا جاءت
الكاف والنون لأن الكاف المضمومة ليست أمراً والنون كذلك، لكن باجتماعهما
تكون أمراً.
فالصواب أن تقول: (يا من أمره -أي مأموره- بعد الكاف والنون) كما قال تعالى: (إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ*
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) [يس:82-83]
المهم أنه يجب علينا أن نؤمن باليوم الآخر وإن كانت العقول الضعيفة تستبعده،لأن الله تعالى إذا أمر حصل هذا فوراً،كما قال تعالى: (إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً )[يّـس: الآية53] فبصيحة واحدة تأتي الخلائق كلها.
18- أن تؤمن بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر معترك عظيم من زمن الصحابة إلى زماننا هذا، وسبق لنا أن له مراتب أربع وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فلنتكلم عن كل واحد منها تفصيلاً،وذلك لأهميته:-
المرتبة الأولى : العلم
بأن
تؤمن بأن الله عزّ وجل عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً مما يتعلق بفعله بنفسه
كالخلق والإحياء أو بفعل عباده، والأدلة على هذا كثيرة، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: الآية282] وقال عزّ وجل:(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]
والجواب: بلى.
وأما التفصيل ففي آية الأنعام قوله: (وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي
كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]
فإن قال قائل:لدينا إشكال : مثل قول الله تعالى:(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]
وقال الله عزّ وجل: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْب) [المائدة: الآية94] وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142]
وأمثال هذه الآيات مشكلة، لأن ظاهرها تجدد علم الله عزّ وجل بعد وقوع الفعل؟
والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين:
الوجه الأول:
إن علم الله عزّ وجل بعد وقوعه غير علمه به قبل وقوعه، لأن علمه به قبل
وقوعه علم بأنه سيقع، وعلمه به بعد وقوعه علم بأنه واقع، نظير هذا من بعض
الوجوه: الله عزّ وجل مريد لكل شيء حتى المستقبل الذي لانهاية له،مريد له
لاشك، لكن الإرادة المقارنة تكون عند الفعل: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يّـس:82]
فهاهنا
إرادتان: إرادة سابقة، وإرادة مقارنة للفعل، فإذا أراد الله تعالى أن يخلق
شيئاً فإنه يريده عند خلقه، لكن كونه أراد أن يخلق في المستقبل فهذا غير
الإرادة المقارنة، كذلك العلم.
الوجه الثاني: (حَتَّى نَعْلَمَ) [محمد:31]
أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، لأن علم الله الأزلي السابق لا يترتب
عليه ثواب ولا عقاب، فالثواب والعقاب يكون بعد الامتحان والابتلاء،كما قال
تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]
وحينئذ قد زال الإشكال ولله الحمد.
وقد
قال غلاة القدرية: إن علم الله تعالى بأفعال العباد مستأنف حيث يقولون:
الأمر أنف يعني مستأنف، فيقولون: إن الله لا يعلم الشيء، إلا بعد وقوعه،
فهؤلاء كفرة بلا شك لإنكارهم ما دلّ الكتاب والسنة عليه دلالة قطعية، وأجمع
عليه المسلمون.
المرتبة الثانية : الكتابة وهي أنواع :
1-الكتابة العامة في اللوح المحفوظ، كتب الله تعالى كل شيء.
2-الكتابة العُمريّة،
وهي أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر بعث الله إليه الملك
الموكل بالأرحام، وأمرَ أن يكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. فهذه
كتابة عمرية لأنها مقيدة بالعمر،أي تكتب مرة واحدة، ولا يعاد كتابتها.
3- الكتابة الحولية، وهي التي تكون ليلة القدر، كما قال الله عزّ وجل: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:4]
يعني يبيّن ويفصل (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وليس أمر من أمر الله إلا وهو حكيم.
وذكر بعضهم: كتابة يومية،واستدل لذلك بقوله عزّ وجل: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29]
ولكن الآية ليست واضحة في هذا المعنى.
وهنا مسألة: هل الكتابة تتغير أو لاتتغير؟
الجواب: يقول رب العالمين عزّ وجل: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39]
أي
اللوح المحفوظ ليس فيه محو ولا كتاب، فما كتب في اللوح المحفوظ فهو كائن
ولا تغيير فيه، لكن ما كتب في الصحف التي في أيدي الملائكة فهذا: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) قال عزّ وجل: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: الآية114].
وفي
هذا المقام يُنكَرُ على من يقولون: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن
أسألك اللطف فيه) فهذا دعاء بدعي باطل، فإذا قال: (اللهم إني لا أسألك رد
القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) معناه أنه مستغن، أي افعل ما شئت ولكن خفف
وهذا غلط، فالإنسان يسأل الله عزّ وجل رفع البلاء نهائياً فيقول مثلاً:
اللهم عافني، اللهم ارزقني وما أشبه ذلك.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهَمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ)) (6) فقولك: (لا أسألك رد القضاء،ولكن أسألك اللّطف فيه) أشد.
واعلم أن الدعاء قد يرد القضاء،كما جاء في الحديث: ((لاً يَرُدُّ القَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ)) (7)
وكم من إنسانٍ افتقر غاية الافتقار حتى كاد يهلك،فإذا دعا أجاب الله
دعاءه، وكم من إنسان مرض حتى أيس من الحياة فيدعو فيستجيب الله دعاءه.
قال الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83]
فذكر حاله يريدُ أنّ اللهَ يكشفُ عنهُ الضُّرَّ، قال الله :(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) [الأنبياء: الآية84]
المرتبة الثالثة : المشيئة :
ومعناها:
أن تؤمن بأن كل كائن وجوداً أو عدماً فهو بمشيئة الله، كالمطر، والجفاف،
ونبات الأرض، والإحياء، والإماتة، وهذا لا إشكال فيه، وهو مشيئة الله عزّ
وجل لفعله ،وكذلك ما كان من فعل المخلوق فهو أيضاً بمشيئة الله،ودليل ذلك
قوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:28-29] وقال الله عزّ وجل: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ) [البقرة:253] وأجمع المسلمون على هذه الكلمة: (ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.)
ففعل
العبد بمشيئة الله، ويرد إشكال وهو إذا كان فعل العبد بمشيئة الله صار
الإنسان مجبراً على العمل، لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيؤدي
هذا الاعتقاد إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب الجهمية.
* والجهمية: لهم ثلاث جيمات كلها فساد:
الجهم: وهذا يتعلق بالصفات، والجبر: يتعلق بالقدر، الإرجاء: يتعلق بالإيمان، ثلاث جيمات كلها لا خير فيها.
ولهذا
قول القائل: إذا كان كل شيء بمشيئة الله وبكتابة الله،فنحن مجبرين على
أعمالنا؛ قولٌ لايخفى مافيه من الفساد، لأنه إذا كان الإنسان مجبراً وفعل
الفعل ثم عُذب عليه، ولهذا لو حدث من بشر لصاح الناس به، فكيف بالخالق عزّ
وجل ؟
ولذلك يعتبر هذا القول من أبطل الأقوال، ونحن نشعر بأنهم لا يجبرون على الفعل ولا على الترك، وأننا نفعل ذلك باختيارنا التام.
وبهذا التقرير يبطل هذا الاستفهام الحادث المحدث، هل الإنسان مسير أو مخير ؟
وهذا
سؤال غير وارد وعلى من يسأل هذا السؤال أن يسأل نفسه:هل أجبره أحد على أن
يسأل هذا السؤال؟ وكلٌّ يعرف أن الإنسان مخير لا أحد يجبره، فعندما أحضر من
بيتي إلى المسجد هل أشعر بأن أحداً أجبرني؟ لا، وكذا عندما أتأخر باختياري
لا أشعر بأن أحداً أجبرني، فالإنسان مخيّر لا شك، لكن ما يفعله الإنسان
نعلم أنه مكتوب من قبل، ولهذا نستدل على كتابة الله عزّ وجل لأفعالنا
وإرادته لها وخلقه لها بعد وقوعها، أما قبل الوقوع فلا ندري، ولهذا قال
الله عزّ وجل: ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إن الله عليم خبير) [لقمان: الآية34] فإذا كان
هذا هو الواقع بالنسبة للمشيئة: أن الله تعالى يشاء كل شيء لكن لا يجبر
العباد، بل العباد مختارون فلا ظلم حينئذ، ولهذا إذا وقع فعل العبد من غير
اختيار رُفِع عنه الإثم، إن كان جاهلاً أو مكرهاً أو ناسياً،فإنه يُرفع عنه
الإثم لأنه لم يختره.
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّار))
قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَفَلا نَدَعُ العَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى مَا كُتِبَ، قَالَ: ((لا،
اعْمَلُوْا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ
السَّعَادَةِ -اللهم اجعلنا منهم- فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ
السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَة)) ثُمَّ قَرَأَ النبي صلى الله عليه وسلم - مستدلاً ومقرراً لما قال- قول الله عزّ وجل: (فَأَمَّا
مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:5-10] (8)
إذاً نعمل .الرّزق مكتوب ومراد لله، ومع ذلك الإنسان يسعى للرزق.
وكذا
الولد مكتوب أي أن الإنسان سيولد له مكتوب، ومع ذلك فالإنسان يسعى لهذا
ويطلب الأولاد بالنكاح، ولا يقول: سأنام على الفراش وإن كان الله مقدراً لي
الولد سيأتي به، فلو قال أحد هذا الكلام لقالوا: إنه مجنون.
كذلك العمل الصالح: اعمل عملاً صالحاً من أجل أن تدخل الجنة، ولا أحد يمنعك من الطاعة، ولا أحد يكرهك على المعصية.
وقد احتجّ المشركون بالقدر على شركهم،كما قال الله عنهم: ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:148].
والجواب: قال الله تعالى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) [الأنعام:148] فلم تقبل منهم هذه الحجة، لأن الله تعالى جعل ذلك تكذيباً وجعل له عقوبة: (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) .
فإن
قال قائل: إن لدينا حديثاً أقرّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم الاحتجاج
بالقدر،وهو أن آدم وموسى تحاجا -أي تخاصما- فقال موسى لآدم: أنت أبونا
خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة -لأن خروج آدم من الجنة من أجل أنه أكل من
الشجرة التي نُهِيَ عن الأكل منها -فقال له آدم: أتلومني على شيء قد كتبه
الله عليَّ قبل أ ن يخلقني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حَجَّ آدَمُ
مُوْسَى مرتين أو ثلاثاً وفي لفظ: فَحَجَّهُ آدَمُ (9) يعني غلبه في الحجة.
هذا يتمسّك به من يحتجّ بالقدر على فعل المعاصي.
ولكن كيف المخرج من هذا والحديث في الصحيحين؟
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بجواب، وأجاب تلميذه ابن القيم - رحمه الله - بجواب آخر.
شيخ الإسلام قال:
إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب، وصار ذنبه سبباً لخروجه من الجنة،
لكنه تاب من الذنب، وبعد توبته اجتباه الله وتاب عليه وهداه، والتائب من
الذنب كمن لاذنب له،ومن المحال أن موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أحد أولي
العزم من الرسل- يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه
وهداه، وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله، وهي إخراج الناس ونفسه من
الجنة، فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم، على أن آدم عليه الصلاة والسلام
لاشك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام، فكيف يلومه موسى؟
وهذا
وجه ظاهر في أن موسى عليه السلام لم يرد لوم آدم على فعل المعصية، إنما
على المصيبة التي هي من قدر الله وحينئذ يتبين أنه لاحجة في الحديث لمن
يستدل على فعل المعاصي.
إذاً
احتج على المصيبة وهي الإخراج من الجنة،ولهذا قال:أخرجتنا ونفسك من الجنة
ولم يقل: عصيت ربك، فهنا كلام موسى مع أبيه آدم على المصيبة التي حصلت، وهي
الإخراج من الجنة،وإن كان السبب هو فعل آدم. وقال رحمه الله: اللوم على
المصائب وعلى المعائب إن استمر الإنسان فيها.
أما تلميذه ابن القيم - رحمه الله - فأجاب بجواب آخر قال:
إن اللوم على فعل المعصية بعد التوبة منها غلط، وإن احتجاج الإنسان بالقدر
بعد التوبة من المعصية صحيح، فلو أن إنساناً شرب الخمر، فجعلت تلومه وهو
قد تاب توبة صحيحة وقال: هذا أمر مقدر عليَّ وإلا لست من أهل شرب الخمر،
وتجد عنده من الحزن والندم على المعصية، فهذا يقول ابن القيم: لابأس به.
وأما الاحتجاج بالقدر الممنوع فهو:
أن يحتج بالقدر ليستمر على معصيته،كما فعل المشركون، أما إنسان يحتج
بالقدر لدفع اللوم عنه مع أن اللوم قد اندفع بتوبته فهذا لابأس به.
وهذا
الجواب جواب واضح يتصوره الإنسان بقرب، وإن كان كلام شيخ الإسلام - رحمه
الله - أسد وأصوب، لكن لا مانع بأن يُجاب بما أجاب به العلامة ابن القيم .
وقال
ابن القيم: نظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين طرق ابنته فاطمة
وابن عمه عليَّاً رضي الله عنهما ليلاً فوجدهما نائمين، فقال: ((أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟))
فكأنه عاب عليهما، أي لماذا لم تقوما لصلاة التهجّد فقال علي رضي الله عنه
: يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّ أَنْفُسَنَا بِيَدِ اللهِ عزّ وجل فَإِذَا
شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا؛ بَعَثَنَا، فَخَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم
وَهُوَ يَضْرِبُ عَلَى فَخِذِهِ وَيَقُوْلُ: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً) (10) ؛ لأن عليّاً رضي الله عنه دافع عن نفسه بأمرٍ انتهى وانقضى.
ولو
أن إنساناً فعل معصية وأردنا أن نقيم عليه العقوبة حدّاً أو تعزيراً وقال:
أنا مكتوب عليَّ هذا. ولنفرض أنه زنا وقلنا: اجلدوه مائة جلدة وغربوه
عاماً عن البلد، فقال: مهلاً، هذا شيء مكتوب عليَّ، أتنكرون هذا؟ فسنقول:
لا ننكره، فيقول: لالوم عليّ، فنقول: ونحن سنجلدك ونقول هذا مكتوب علينا.
وذكر
أن سارقاً رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر بقطع
يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت إلا بقدر الله، وهذا
جواب صحيح، فقال عمر: ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله، فغلبه عمر رضي الله
عنه، بل نقول: إننا نقطع يده بقدر الله وشرع الله، فالسارق سرق بقدر الله،
لكن لم يسرق بشرع الله، ونحن نقطع يده بقدر الله وشرع الله، ولكن عمر رضي
الله عنه سكت عن مسألة الشرع من أجل أن يقابل هذا المحتج بمثل حجته.
فتبين
الآن أن الاحتجاج بالقدر على المعاصي باطل، والاحتجاج بالقدر على فوات
المطلوب باطل أيضاً، ولذلك نرى الناس الآن يتسابقون إلى الوظائف باختيارهم
ولا يفوتونها، ولو أن الإنسان تقاعس ولم يتقدم لامه الناس على هذا، مما يدل
دلالة واضحة على أن الإنسان له إرادة وله اختيار.
فبطل
بذلك احتجاج العاصي بقدر الله على معاصي الله، ونقول له: أنت قدرت الآن أن
الله قد كتب عليك المعصية فعصيت، فلماذا لم تقدر أن الله كتب لك الطاعة
وأطعت، لأن القدر سر مكتوم لا يعلمه إلا الله، ولا نعلم ماذا قضى الله وقدر
إلا بعد الوقوع، فإذا كنت أقدمت على المعصية فلماذا لم تقدم على الطاعة
وتقول إنها بقضاء الله وقدره.
والأمر
والحمد لله واضح، ولولا ما أثير حول القضاء والقدر لكان لا حاجة إلى البحث
فيه لأنه واضح جداً، وأنه لا حجة بالقدر على المعاصي ولا على ترك
الواجبات.
المرتبة الرابعة: الخلق :
فكل
مافي الكون فهو مخلوق لله عزّ وجل، بالنسبة لما يحدثه الله تعالى من فعله
فهو واضح: كالمطر وإنبات الأرض وما أشبه ذلك، فهو مخلوق لله تعالى لا شك.
لكن بالنسبة لفعل العبد ، هل هو مخلوق لله أم لا؟
الجواب: نعم مخلوق لله، فحركات الإنسان وسكناته كلها مخلوقة لله، ووجه ذلك:
أولاً:
أن الله عزّ وجل خلق الإنسان وأعطاه إرادة وقدرة بهما يفعل، فسبب إيجاد
العبد لما يوجده الإرادة الجازمة والقدرة التامة، وهاتان الصفتان مخلوقتان
لله، وخالق السبب خالق للمسبب.
ثانياً:
أن الإنسان إنسان بجسمه ووصفه، فكما أنه مخلوق لله بجسمه فهو مخلوق له
بوصفه، ففعله مخلوق لله عزّ وجل،كما أن الطول والقصر والبياض والسواد
والسمن والنحافة كلها مخلوقة لله فهكذا أيضاً أفعال الإنسان مخلوقة
لله،لأنها صفة من أوصافه، وخالق الأصل خالق للصفة.
ويدل لهذا قول إبراهيم عليه السلام لقومه: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:95-96] تحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن تكون (ما) مصدرية والمعنى: خلقكم وخلق عملكم، وهذا نص في أن عمل الإنسان مخلوق لله تعالى.
والمعنى الثاني:
أن تكون (ما) اسماً موصولاً، ويكون المعنى: خلقكم وخلق الذي تعملونه؟ فكيف
يمكن أن نقول:إن الآية دليل على خلق أفعال العباد على هذا التقدير ؟
والجواب:
أنه إذا كان المعمول مخلوقاً لله، لزم أن يكون عمل الإنسان مخلوقاً، لأن
المعمول كان بعمل الإنسان،فالإنسان هو الذي باشر العمل في المعمول، فإذا
كان المعمول مخلوقاً لله، وهو فعل العبد، لزم أن يكون فعل العبد مخلوقاً
فيكون في الآية دليل على خلق أفعال العباد على كلا الاحتمالين.
ومن فوائد هذا الحديث:
19-
أن القدر ليس فيه شر، وإنما الشر في المقدور، وتوضيح ذلك بأن القدر
بالنسبة لفعل الله كله خير، ويدل لهذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((وَالشّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) (11)
أي لاينسب إليك،فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شرٌّ أبداً، لأنه صادر عن
رحمة وحكمة، لأن الشر المحض لا يقع إلا من الشرير ،والله تعالى خير وأبقى.
إذاً كيف نوجّه وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ؟
الجواب:
أن نقول :المفعولات والمخلوقات هي التي فيها الخير والشر، أما أصل فعل
الله تعالى وهو القدر فلا شرّ فيه، مثال ذلك: قول الله عزّ وجل:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) [الروم: الآية41] هذا بيان سبب فساد الأرض ،وأما الحكمة فقال: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: الآية41] إذن
هذه مصائب من جدب في الأرض ومرض أو فقر،ولكن مآلها إلى خير، فصار الشرّ
لايضاف إلى الرب، لكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات مع أنها شر من وجه
وخير من وجه آخر، فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية، ولكنها
خير بما يحصل منها من العاقبة الحميدة (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
ومن
الحكمة أن يكون في المخلوق خير وشر، لأنه لولا الشر ما عُرف الخير،كما
قيل: (وبضدها تتبين الأشياء) فلو كان الناس كلهم على خير ما عرفنا الشر،
ولو كانوا كلهم على شر ما عرفنا الخير، كما أنه لا يعرف الجمال إلا بوجود
القبيح، فلو كانت الأشياء كلها جمالاً ما عرفنا القبيح.
إذا
إيجاد الشر لنعرف به الخير، لكن كون الله تعالى يوجد هذا الشر ليس شراً،
فهنا فرق بين الفعل والمفعول، ففعل الله الذي هو تقديره لا شر فيه، ومفعوله
الذي هو مُقدرهُ ينقسم إلى خير وشر، وهذا الشر الموجود في المخلوق لحكمة
عظيمة.
فإذا قال قائل: لماذا قدر الله الشر؟
فالجواب: أولاً: ليُعرف به ا لخير.
ثانياً: من أجل أن يلجأ الناس إلى الله عزّ وجل.
ثالثاً: من أجل أن يتوبوا إلى الله.
فكم
من إنسان لا يحمله على الورد ليلاً أو نهاراً إلا مخافة شرور الخلق، فتجده
يحافظ على الأوراد لتحفظه من الشرور، فهذه الشرور في المخلوقات لتحمل
الإنسان على الأذكار والأوراد وما أشبهها، فهي خير.
ولنضرب
مثلاً في رجل له ابن مشفق عليه تماماً، وأصيب الابن بمرض وكان من المقرر
أن يكوى هذا الابن بالنار، ولا شك أن النار مؤلمة للابن، لكن الأب يكويه
لما يرجو من المصلحة بهذا الكي، مع أن الكي في نفسه شر، لكن نتيجته خير.
وإذا علمت أن فعل الله عزّ وجل الذي هو فعله كله خير اطمأننت إلى مقدور الله عزّ وجل واستسلمت تماماً،وكنت كما قال الله عزّ وجل: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) [التغابن: الآية11] قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
والإنسان إذا رضي بالقدر حقاً استراح من الحزن والهم، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المُؤْمِنُ
القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ،
وَفِيْ كُلٍّ خَيْر، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وِاسْتَعِنْ بِاللهِ
وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّيْ فَعَلْتُ
كَذَا لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ - لَوْ - تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)) (12) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفع، ثم إذا اختلفت الأمور فقل: هذا قدر الله وما شاء فعل.
وليس المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ))
قوي العضلات، بل المراد: المؤمن القوي في إيمانه لا في جسمه، فكم من إنسان
قوي الجسم لكن لا خير فيه، وبالعكس. وبهذه المناسبة لو كتبت هذه الجملة
المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ
الضَّعِيْفِ على لوحة كبيرة فوق ملعب رياضي، على أن المراد بالمؤمن القوي
قوي العضلات فإن هذا لايجوز
فالمهم أن الشر لاينسب إلى الله تعالى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) (13) وإنما ينسب الشر إلى المخلوقات، قال الله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق:1-2] فالشرّ ينسب إلى المخلوقات.
وهنا مسألة: هل في تقدير المخلوقات الشريرة حكمة ؟
والجواب:
نعم، حكمة عظيمة، ولولا هذه المخلوقات الشريرة ما عرفنا قدر المخلوقات
الخيّرة، فالذئب مثلاً صغير الجسم بالنسبة للبعير، ومع ذلك الذئب يأكل
الإنسان كما قال الله تعالى في سورة يوسف على لسان يعقوب عليه السلام: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ) [يوسف: الآية13] ومعلوم أن البعير لا يأكل الإنسان، بل إن البعير القوي الكبير الجسم ينقاد للصبي الصغير، قال الله عزّ وجل: (أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً
فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ*وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ
وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) [يس:71-72] فتأمل الحكمة البالغة أن الله تعالى خلق الإبل،وهي أجسام كبيرة،وأمرنا الله تعالى أن نتدبر حيث قال: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية:17]
وخلق الذئاب وأشباهها مما يؤذي بني آدم حتى يعلم الناس بذلك قدرة الله عزّ وجل ،وأن الأمور كلها بيده.
20- أن الساعة لا يعلمها أحد إلا الله عز وجل ،لأن أفضل الرسل من الملائكة سأل أفضل الرسل من البشر عنها، فقال:ما المَسْؤولُ عَنْهَا بَأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ.
ويترتب
على هذه الفائدة أنه لو صدَّق أحد من الناس شخصاً ادعى أن الساعة تقوم في
الوقت الفلاني، فإنه يكون كافراً، لأنه مكذب للقرآن والسنة.
21-عظم الساعة، ولهذا جاءت لها أمارات وعلامات حتى يستعد الناس لها - رزقنا الله وإياكم الاستعداد لها -.
22-أننا إذا كنا لانعلم الشيء فإننا نطلب ما يكون من علاماته، لأن جبريل عليه السلام قال: أخبرني عن أماراتها
23-ضرب المثل بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : أن تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وفي لفظ: ربَّهَا، والعلامة الثانية: أنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رُعَاءَ الشَّاءِ يَتْطَاوَلُوْنَ فَي البُنْيَانِ.
فإن قال قائل: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمارات أخرى أوضح من هذا؟
فالجواب: أن العلامات الأخرى بيّنة واضحة لا يحتاج السؤال عنها، ولذلك عدل النبي صلى الله عليه وسلم عنها إلى ذكر هذه الصورة.
24-أن الملائكة يمشون إذا تحولوا إلى بشر، لقوله: ثم انْطَلَقَ
وهل يمشون إذا كانوا على صفة الخلق الذي خلقوا عليه؟
الجواب: قال الله عزّ وجل: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء:95]
ولهم
أجنحة يطيرون بها، كما قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [فاطر:1]
25-إلقاء العالم على طلبته ما يخفى عليهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أَتَدْرُوْنَ مَنِ السَّائِل
26-أن السائل عن العلم يكون معلماً لمن سمع الجواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإنه جبريل أَتَاكُم يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ مع أن الذي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما كان سؤال جبريل هو السبب جعله هو المعلم.
ويتفرع
على هذا: أنه ينبغي لطالب العلم إذا كان يعلم المسألة وكان من المهم
معرفتها أن يسأل عنها وإن كان يعلمها، وإذا سأل عنها وأجيب صار هو المعلم.
27-أن السبب إذا بني عليه الحكم صار الحكم للسبب، ولهذا ذكر العلماء لهذه القاعدة مسائل كثيرة منها:
لو
شهد رجلان على شخص بما يوجب قتله من ردة أو حرابة، ثم حكم القاضي بذلك ثم
رجعوا وقالوا: تعمدنا قتله، فإن هؤلاء الشهود يقتلون، لأن الحكم مبني على
شهادتهم وهم السبب.
ولكن إذا اجتمع متسبب ومباشر فالضمان على المباشر إلا إذا تعذرت إحالة الضمان عليه،فيكون على المتسبب، مثال ذلك:
رجل حفر حفرة في الطريق فوقف عليها رجل فجاء رجل ثالث فدفع الرجل وسقط في الحفرة ومات، فالضمان على الدافع، لأنه هو المباشر.
مثال
آخر: رجل ألقى بشخص بين يدي الأسد فأكله، فالمباشر هنا هو الأسد، والمتسبب
الرجل الذي ألقى الآخر بين يدي الأسد، فالضمان على الرجل لتعذر إحالة
الضمان على الأسد.
28-أن ما ذكر في هذا الحديث هو الدين، لقوله: يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ ولكن ليس على سبيل التفصيل، بل على سبيل الإجمال.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ ثلاث مرات: للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُوله، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ)) (14) ؟
فالجواب: بلى، لكن هذه النصيحة لا تخرج عما في حديث جبريل،لأنها من الإسلام.
__________________________________________________________________________
(1)
ورد في معناه في حديث الهجرة عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيمة أم
معبد الخزاعية ولم يجد عندها طعاماً ولا شراباً فحلب لها الشاة الضعيفة
الهزيلة التي لا لبن لها بيديه الشريفتين بعد أن مسح على ضرعها، رواه
الحاكم في المستدرك، كتاب: الهجرة، (4274)
(2)
أخرجه البخاري- كتاب: الإيمان، باب: (دعاؤكم إيمانكم) لقوله عز وجل: (قل
ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) (8). ومسلم – كتاب : الإيمان، باب: بيان
أركان الإسلام ودعائمه العظام، (16)،(21)
(3) فصل شيخنا- غفر الله له- مسألة حكم تارك الصلاة في مجموع الفتاوى المجلد الثاني عشر.
(4) سبق تخريجه صفحة (13)
(5)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده- باب: الأنصار عن أبي ذر الغفاري، (21848)،
والترمذي – كتاب: الزهد، باب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لو تعلمون
ما أعلم لضحكتم قليلاً، (2312). وابن ماجه –كتاب: الزهد، باب: الحزن
والبكاء، (4190).
(6)
أخرجه البخاري – كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة، (7477)، ومسلم –
كتاب: الذكر والدعاء، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2697)،
(8).
(7)
أخرجه البخاري- كتاب: القدر، باب: ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء،
(2139)، وابن ماجه – كتاب: المقدمة، باب: في القدر، (90)، والإمام أحمد –
في مسند الأنصار عن ثوبان، (22745).
(8)
أخرجه البخاري- كتاب: التفسير، باب: قوله: (فأمام من أعطى
واتقى)(الليل:5)، (4945)، ومسلم- كتاب: القدر، باب: خلق الآدمي في بطن أمه
وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، (2647)، (6).
(9)
أخرجه البخاري- كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، (3409)، ومسلم –
كتاب: القدر، باب: حجاج موسى وآدم عليهما السلام، (2652)،(13)
(10)
أخرجه البخاري- أبواب: التهجد، باب: ترك القيام للمريض، (1127)، ومسلم –
كتاب : صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما روى فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح،
(775)،(206).
(11) أخرجه مسلم – كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (771)،(201).
(12) أخرجه مسلم – كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، (2664)،(34)
(13) أخرجه مسلم – كتاب: صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (771)،(201).
(14)
أخرجه البخاري تعليقاً- كتاب: الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم
: ((الدين النصيحة))، ص (35) طبعة بيت الأفكار الدولية. وأخرجه مسلم-
كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، (55)، (95)
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(قالَ) جبريلُ: (صَدَقْتَ) فيمَا ذكَرْتَ؛ فإنَّ الأمرَ كمَا فَسَّرْتَ.
(قالَ) جِبْريلُ: (فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإحسَانِ)المرادُ
بالإحسَانِ هُنَا: الإخْلاَصُ، وهُوَ شَرطٌ في صِحَّةِ الإيمانِ
والإسْلامِ مَعًا؛ وذلكَ لأنَّ مَنْ يَلْفِظْ بالكلمةِ وجَاءَ بالعَمَلِ
بغيرِ نِيَّةٍ لمْ يَكُنْ مُحْسِنًا.
الإحسانَ المَذْكُورَ في القرآنِ في قولِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الْحُسْنَى}، {وَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}[سورة الرحمن: 60].
مَا هُوَ؟
قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ))الذي
خَلَقَ الجِنَّ والإِنْسَ لعبَادَتِهِ عَمَلاً وَتَرْكًا وَقَوْلاً
وفِعْلاً وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ كمالِ حُضُورِ القَلْبِ وخُشُوعِ
الجَوَارحِ، والإقبالِ إليهِ ((كَأَنَّكَ تَرَاهُ))بِعَيْنِكَ،
ولو قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يُعَايِنَ رَبَّهُ في عِبَادَتِهِ لَمْ يَتْرُكْ
شَيْئًا ممَّا يَقْدِرُ عليهِ منَ الخُضُوعِ والخُشُوعِ ومِنَ السَّمْتِ
واجْتِمَاعِهِ بظاهِرِهِ وباطِنِهِ على الاعتناءِ بِتَتْمِيمِهَا على أحسنِ
الوجوهِ.
((فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ)) لأَنَّ رُؤْيَتَهُ بالعينِ في الدُّنيا مُحَالٌ؛ لأِنَّهُ {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}.
((فَإِنَّهُ يَرَاكَ))
إِذْ لا تَخْفَى عليهِ خَافِيَةٌ، سَوَاءٌ لَدَيْهِ الدَّانِيَةُ
والقَاصِيَةُ، يَرَى الضَّمائرَ كمَا يَرَى الظَّاهِرَ، وَرُؤْيَتُهُ
إيَّاكَ تَكْفِي في مُرَاعَاةِ الحُضُورِ والخشُوعِ في عِبَادَتِهِ.
ولا
بُدَّ للإِنسانِ من التَّخَلِّي والتَّحَلِّي، حتَّى يكونَ أَهْلَ
التَّجَلِّي، فالتَّخَلِّي أنْ يُطَهِّرَ ظَاهِرَهُ وباطِنَهُ عنْ
قاذُورَاتِ الذنوبِ، والأخلاَقِ الذميمةِ بالتوبةِ الصادقةِ. وحرامٌ
على مَنْ كانَ مُتَدَنِّسًا بِدَنَسِ المعاصِي والأخلاقِ القَبيحةِ أَنْ
يُؤْذَنَ لهُ بالدُّخُولِ في الحضرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ؛ إذْ لا
يَدْخُلُهَا إلاَّ المُطَهَّرونَ. حتَّى يكونَ السَّاداتُ والآباءُ والأُمَّهاتُ كالمَمْلُوكِينَ والمَمْلُوكَاتِ في الحكمِ عليهِم والجرأةِ وقلَّةِ الأدَبِ مَعَهمُ.
قَالَ جبريلُ : صَدَقْتَ فِيمَا ذَكَرْتَ، وَيَنْبَغِي لأهلِ الإسلامِ أَنْ يَتَّصِفُوا بالإسلامِ والإيمانِ.
(قَالَ: فأَخْبِرْنِي عَنْ) وقْتِ قِيَامِ (السَّاعَةِ).
(قالَ)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجوابِ نَافِيًا عَنْ نفسِهِ العلمَ
بوجهٍ خاصٍّ، تَلْخِيصُهُ: أَنْتَ وَأَنَا مُتَسَاوِيَانِ في أنَّا لا
نَعْلَمُ أنَّ السَّاعةَ مَجِيئُهَا في وقتٍ منَ الأوقاتِ، ولا مَزِيدَ في
تَعَدُّدِ العلمِ حتَّى يَتَيَقَّنَ عِندَهُ المسؤولُ عنهُ، وهُوَ الوقتُ
المُعَيَّنُ الذي يَتَحَقَّقُ مَجِيئُهَا، واللهُ أَعْلَمُ بالصَّوابِ.
((مَا المَسْؤُولُ عَنْها)) يُرِيدُ نَفْسَهُ الكريمةَ، أَوْ كَلَّ مسؤولٍ عَنهَا، ((بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ))أيْ:
مِنْكَ، أَوْ مِنْ كُلِّ سَائلٍ، بَلِ الكلُّ سَوَاءٌ في عدمِ علمِ زمنِ
وقوعِهَا؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعةِ، لا عِنْدَ
غيرِهِ، وأَشارَ جبريلُ بهذِهِ المسألةِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بالأَجْوِبَةِ، أنَّهُ يَنْبَغِي للسائلِ أنْ يَسْأَلَ عَمَّا
يَنْبَغِي السؤالُ عَنْهُ، ولاَ يَسْأَلَ عَمَّا لا يَلِيقُ السُّؤَالُ
عَنْهُ، وَيَنْبَغِي للمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ بِمَا يَعْلَمُ وَيُفَوِّضَ
العِلمَ أو يقولَ: لا أَعْلَمُ، ومِنَ العلمِ عِلْمُ الإنسانِ بِجَهْلِهِ.
(قالَ) جبريلُ:(فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) أيْ: علاماتِ قُرْبِ وُقُوعِهَا.
(قالَ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)) أَيْ: سَيِّدَتَهَا:
قِيلَ: هذَا إشارةٌ إلى كَثْرةِ أَوْلاَدِ المَمْلُوكَاتِ.
وقيلَ: هذَا كنايةٌ عنْ كثرةِ العُقُوقِ في الأَولادِ
(ثمَّ انْطَلَقَ) جبريلُ (فَلَبِثْتُ)زَمَنًا (مَلِيًّا) كَثِيرًا، وقدْ بَيَّنَ ذلكَ بثلاثِ ليالٍ،(ثمَّ قالَ)صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي: ((يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ)) عَنْ تِلْكَ المسْألةِ؟
(قُلْتُ: اللهُ ورسُولُهُ أَعْلَمُ) مِنَّا، ولاَ عِلْمَ لي بِهِ، (قالَ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ))ظَهَرَ في صورةِ رَجُلٍ ((أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ))أَمْرَ ((دِينِكُمْ))
فَإِنَّ تَحْصِيلَهُ مِنْ أهَمِّ المَهَمَّاتِ؛ إذْ لاَ بُدَّ مِنْ
سُلُوكِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، ولاَ يَتَأَتَّى إلاَّ بالعلمِ بهِ؛ إذِ
العِلْمُ قَائِدٌ إلى العَمَلِ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
(قال: فَأَخْبِرْنِي عن الإحسانِ)
(الإحسانُ)
لغةً: الإتقانُ، وقدْ يُرادُ بهِ الإنعامُ.
وشَرْعاً: ما وَرَدَ في الحديثِ.
(قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كأَنَّكَ تراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).
العبادةُ: اسمٌ جامعٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ويَرْضَاهُ مِن الأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ والباطنةِ.
وشُرُوطُها:
-الإخلاصُ.
- والمُتَابَعَةُ.
وأَرْكَانُها:
-المَحَبَّةُ.
-والخوفُ.
-والرجاءُ.
وأَقْسَامُهَا:
-عُبُودِيَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وهيَ عَامَّةٌ.
-وعُبُودِيَّةُ الأُلُوهِيَّةِ، وهيَ خَاصَّةٌ.
ومَعْنَى (تَعْبُدَ اللَّهَ)؛ أيْ: تُتْقِنَ هذا العملَ وتُكْمِلَهُ حتَّى كَأَنَّما ترَى اللَّهَ وأنتَ تَفْعَلُهُ.
وفي هذا مراقبةُ العبدِ لرَبِّهِ، والعبدُ لا يرَى اللَّهَ في الدُّنْيَا ولا يَقْدِرُ على ذلكَ.
ويَرَاهُ المؤمنُ في الآخرةِ.
ومِمَّا يُعِينُ على المُرَاقَبَةِ:
أنْ تَعْلَمَ أنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ قَوْلَكَ، ويرَى فِعْلَكَ، ويَطَّلِعُ
على ما في صَدْرِكَ، وتُوقِنَ بلِقَائِهِ وتُوقِنَ بأنَّ عليكَ شُهُوداً،
منهم الملائكةُ والجوارحُ والخَلْقُ.
ومَنْ أحْسَنَ في الدُّنيا وجدَ ثوابَ الإحسانِ في الآخرةِ، يقولُ تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآيَةَ [يونس: 26].
(قال: فَأَخْبِرْنِي عن الساعةِ)
أي: القيامةِ، سُمِّيَتْ بذلكَ: لسرعةِ الحسابِ؛ ولأنَّها تَفْجَأُ الناسَ ولقُرْبِهَا.
وأَقْسَامُها هيَ أقسامُ القيامةِ:
- صُغْرَى.
- وكُبْرَى.
- ووُسْطَى.
قال: ((ما المَسْؤُولُ عنها بأعلمَ مِن السائلِ))
أيْ: لوْ أنَّ مَخْلُوقاً يَعْلَمُها لَعَلِمَتْهَا الملائكةُ؛ لقُرْبِهم
مِن اللَّهِ تعالى، إذْ همْ أَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُونَ كلامَ اللَّهِ تعالى،
وأَوَّلُ مَنْ يَمْتَثِلُونَ الأمرَ ويَتْرُكُونَ النهيَ، ولكنَّ الساعةَ
مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تعالى الخاصِّ بهِ فلا يَعْلَمُها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ،
ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
(قال: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) (أَمَارَاتُهَا)
أيْ: عَلامَاتُها التي تَدُلُّ عليها أوْ على قُرْبِهَا.
وهيَ:
- علاماتٌ صُغْرَى: سَبَقَتْ؛ كَمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، والفتنةِ في عهدِ عثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ ونَحْوِها.
- وَوُسْطَى: كالحديثِ.
- وكُبْرَى: كالدَّابَّةِ وعِيسَى ويَأْجُوجَ ومأجوجَ وغَيْرِها.
قالَ:((أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)) أيْ: تَكْثُرُ الفتوحاتُ ويَكْثُرُ الإِمَاءُ؛ حتَّى تَلِدَ الأَمَةُ سَيِّدَهَا، وهيَ ما تُسَمَّى بأُمِّ الوَلَدِ، وهذهِ علامةٌ.
((وأنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ))
هذهِ
العلامةُ الثانيَةُ، وهيَ انْفِتَاحُ الدُّنيا على الناسِ حتَّى تَرَى
الفقيرَ غَنِيًّا، وكأنَّ فيهِ إسنادَ الأمرِ إلى غيرِ أهْلِهِ.
الفَوَائدُ:
1- حِرْصُ الصحابةِ على العِلْمِ.
2- مُلازَمَتُهُم لمَجالسِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ.
3- قُدْرَةُ المَلَكِ على التَّشَكُّلِ.
4- بيانُ نوعٍ مِنْ أنواعِ الوَحْيِ.
5- مِنْ أدبِ طالبِ العلمِ نظافةُ ظاهرِهِ وبَاطِنِهِ.
6- مَشْرُوعِيَّةُ السفرِ لطلبِ العلمِ.
7- مِنْ صفاتِ طالبِ العلمِ التواضعُ.
8- القُرْبُ مِن العَالِمِ والدُّنُوُّ منهُ. 10- البدءُ بالأَهَمِّ فالأهَمِّ عندَ طلبِ العلمِ.
9- مِنْ أسبابِ تحصيلِ العلمِ السؤالُ.
11- أنَّ الإسلامَ هوَ الأعمالُ الظاهرةُ عندَ وجودِ الإيمانِ.
12- بيانُ أركانِ الإسلامِ.
13- لا يَتِمُّ الإسلامُ إلاَّ بأَرْكَانِهِ.
14- بيانُ معنى الإيمانِ.
15- أنَّ الإيمانَ هوَ الأعمالُ الباطنةُ عندَ وجودِ الإسلامِ.
16- معرفةُ أركانِ الإيمانِ.
17- فضلُ الإحسانِ.
18- وُجُوبُ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تعالى.
19- أنَّ الساعةَ مِن الغيبِ الذي لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللَّهُ تعالى.
20- وجودُ علاماتِ الساعةِ.
21- الحَذرُ من الاغترارِ بالدُّنيا.
22- تعليمُ الملائكةِ للبَشَرِ.
23- فضلُ تعليمِ الناسِ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
أَماراتُ السَّاعةِ:
ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن علاماتِ السَّاعةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلامتينِ:
1-((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا))وَالْمُرَادُ: برَبَّتـِها: سَيـِّدَتُها ومَالِكَتُهَا.
وللعُلماءِ فِي هَذَا أَقْوَالٌ مِنْهَا:
أ-
قِيلَ: يَكْثُرُ العُقوقُ فِي الأَوْلادِ، فيُعامِلُ الْوَلَدُ أمَّهُ
معامَلَةَ السيِّدِ أَمَتَهُ، مِن حَيْثُ السَّبُّ، والضَّربُ،
والاستخدامُ، والاستهانةُ، وَهَذَا مَا يَميلُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ
إِلَيْهِ.
ب-
وَقَالَ ابنُ رجبٍ:(وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ البلادِ وكثرةِ جَلْبِ
الرَّقيقِ، حتَّى تَكْثُرَ السَّرَارِيُّ، وتَكْثُرَ أولادُهُنَّ،
فَتَكُونُ الأَمَةُ رَقيقةً لسيِّدِهَا، وأولادُهُ مِنْهَا بِمَنْزِلَتِهِ،
فإنَّ وَلَدَ السَّيِّدِ بِمَنْزِلَةِ السَّيِّدِ فيَصيرُ ولدُ الأَمَةِ
بِمَنْزِلَةِ ربِّهَا وسيِّدِها).
ج-
ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْقَوْلِ بأنَّ أمَّ الْوَلَدِ تُعتَقُ
بموتِ سيِّدِها، فكأنَّ ولدَهَا هُو الَّذي أَعْتَقَها، فصارَ عِتْقُهَا
مَنسوبًا إِلَيْهِ، وبهذا صَارَ كأنَّهُ مَولاها وسَيِّدُهَا.
2- ((وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)).
الحافِي:
هُو مَن لا نَعْلَ فِي قَدَمَيْهِ.
والعارِي:
هُو مَن لا ثِيابَ عَلَى بَدَنِهِ.
والعائلُ:
هُو الْفَقِيرُ.
والمرادُ:
أنَّ أَسافِلَ النَّاسِ يَصيرونَ رؤساءَ، وتَكْثُرُ أموالُهُم،
ويُشَيِّدُونَ الْمَبَانِيَ العاليَةَ مُباهاةً وتَفاخُرًا عَلَى عِبادِ
اللَّهِ. هُو الرُّوحُ الأمينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}ووَصْفُهُ بالأمانةِ تزكيَةٌ عَظِيمَةٌ لَه مِن ربِّهِ جلَّ وَعَلا. مرَّةً بَعْدَ بَعْثتِهِ بثلاثِ سنواتٍ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَيْنَمَا
أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ
بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى
كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ،
فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي)). 5- كَمَا
أنَّ فِي الْحَدِيثِ دلالةً عَلَى استحبابِ تحسينِ الثِّيابِ، والهيئةِ
والنَّظافةِ عِنْدَ الدُّخولِ عَلَى الْعُلَمَاءِ والفضلاءِ والملوكِ. - وَقَالَ سبحانَهُ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ}. دِينُ الإِسْلامِ:
قالَ
القرطبِيُّ:(الْمَقْصُودُ الإخبارُ عَن تَبَدُّلِ الْحَالِ بِأَنْ
يَسْتَوْلِيَ أَهْلُ الباديَةِ عَلَى الأَمْرِ، ويَتَمَلَّكوا البلادَ
بالقَهْرِ، فتَكْثُرَ أموالُهم وتَنْصَرِفَ هُمومُهُم إِلَى تَشييدِ
البُنيانِ والتَّفاخُرِ بِهِ، وَقَد شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي هَذِه
الأَزْمَانِ).
صفاتُ جِبريلَ عَلَيْهِ السَّلامُ:
فوَصَفَهُ
بِحُسْنِ الخُلُقِ، وبَهاءِ الْمَنظرِ، والقوَّةِ وشدَّةِ البطشِ والفعلِ،
وبأنَّ لَه مَكانةً ومَنْزِلةً عِنْدَ اللَّهِ، فَهُو سيِّدُ
الْمَلائِكَةِ، مُطاعٌ أَمْرُهُ فِي السَّماواتِ.
رآه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صورتِهِ الحقيقيَّةِ مرَّتينِ؛
ويَشهدُ لِذَلِك قولُهُ جلَّ وَعَلا:{عَلَّمَهُ
شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}، ورآهُ مَرّةً ثانيَةً لَيْلَةَ الإسراءِ والْمِعراجِ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}،
يَصِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعِظَمِ الْخَلْقِ، عَن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعودٍ قَالَ: (رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبريلَ فِي صورتِهِ، ولهُ سِتُّمِائَةِ جَناحٍ، كلُّ
جَناحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ: يَسْقُطُ مِن جَناحِهِ التَّهاويلُ
(الأَشْيَاءُ المختلِفةُ الألوَانِ) مِن الدُّرِّ واليَوَاقِيتِ).
وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَأَيْتـُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).
مِن فوائدِ الْحَدِيثِ:
1- أنَّ
العالِمَ إِذَا سُئلَ عَن شَيْءٍ وَلَم يَعْلَمْهُ أَنْ يَقُولَ: لا
أَعْلَمُهُ، وأنَّ هَذَا لا يَنْقُصُ مِن مَكَانتِهِ، بَلْ هَذَا دَلالةٌ
عَلَى مَتَانَةِ دِينِهِ، وخَوْضُ الْعَالِمِ بِكُلِّ جوانبِ الْعُلُومِ
دُونَ التَّمكُّنِ بِهَا دَلالةٌ عَلَى رِقَّةِ الدِّينِ، كَمَا قَالَ
بَعْضُ العُلماءِ المعاصرينَ عَن الْحَدِيثِ الآتي: عَن سَعِيدِ بْنِ أَبِي
مَريمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ بِهِ
بَلاؤُهُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ
إِلا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ)).
فيقولُ هَذَا المعاصرُ عَن هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحيحِ:
كَذِبٌ
وافتراءٌ عَلَى دَاوُدَ دُونَ النَّظرِ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا
مِن الخوضِ بِمَا لا يَعْلَمُ، نَسأَلُ اللَّهَ السَّلامةَ.
2- كَمَا
فِي الْحَدِيثِ دَلالةٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مِن طُرُقِ التَّعليمِ، وَهِي
السُّؤالُ والجوابُ، وَهَكَذَا يَنبغِي للدَّاعيَةِ أَنْ يَتَفنَّنَ فِي
عَرْضِ مَا لَدَيْهِ مِن مَادَّةٍ، وَلا يَجْمُدَ عَلَى أسلوبٍ وَاحِدٍ،
فيُؤَدِّيَ ذَلِك إِلَى مَلَلِ سامعِيهِ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَستفيدَ مِن
كلِّ جديدٍ فِيهِ خَيْرٌ للأُمَّةِ، أَقُولُ هَذَا؛ لأنَّ البعضَ عندَهُ
عُقَدٌ مِن كلِّ جديدٍ، وَهَذِه الطَّريقةُ مِن أحدثِ وأَجودِ الطُّرقِ فِي
العَمَلِيَّةِ التَّعليميَّةِ عِنْدَ الْمُرَبِّينَ.
3- فِي
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الْمَلائِكَةَ يَتَشَكَّلونَ عَلَى صُورَةِ
البَشَرِ، ويَشْهَدُ لِذَلِك نصوصٌ مِن الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانَا
شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا
رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}، وَالْمَقْصُودُ بروحِنَا: جبريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
كما أَخْبَرَ سبحانَهُ بأنَّ الْمَلائِكَةَ جَاءَتْ إبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ،
وَلَم يَعْرِفْهُمْ عَلَيْهِ السَّلامُ حتَّى أَخْبَرُوهُ، وَكَذَلِك
جَاءَتِ الْمَلائِكَةُ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَةِ شَبابٍ
حِسانِ الوُجوهِ، والأدلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
4- كَمَا أنَّ فِي الْحَدِيثِ دلالةً عَلَى كَراهةِ مَا لا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِن الْبِناءِ ومِن تطويلِ البناءِ وتشييدِهِ،
ولعلَّ
قائلاً يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلالةٌ وَاضِحَةٌ جليَّةٌ عَلَى
ذَمِّ تطويلِ البناءِ، إنَّما فِيهِ إخبارٌ عَن عَلامةٍ مِن علاماتِ قُرْبِ
السَّاعةِ، ولكنَّ هَذَا يُرَدُّ بأنَّ هُنَاكَ أحاديثَ تَشْهَدُ لِمَا
قُلْتُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ نَفَقَةٍ يُنْفِقُهَا الْعَبْدُ يُؤْجَرُ فِيهَا إِلا الْبُنْيَانَ)).
6- فِي
الْحَدِيثِ بَيَانُ آدابِ الجلوسِ فِي حِلَقِ الْعِلْمِ، فجبريلُ عَلَيْهِ
السَّلامُ جَلَسَ قريبًا مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لطالبِ الْعِلْمِ حتَّى يأخذَ الْعِلْمَ
بدِقَّةٍ وتَثَبُّتٍ مِن أفواهِ الْعُلَمَاءِ.
كما فِيهِ بَيَانُ كيفيَّةِ الجلوسِ فِي حِلَقِ الْعِلْمِ ،
فجبريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ جَلَسَ جِلْسَةَ التَّشهُّدِ، ووَضَعَ كفَّيهِ
عَلَى فَخِذَيْهِ، فعلَى طالبِ الْعِلْمِ أَنْ يُفرِّغَ ذِهنَهُ وحواسَّهُ
أثناءَ ذَلِك حتَّى يَستفيدَ مِن مُجالستِهِ للعلماءِ.
7- فِي الْحَدِيثِ دَلالةٌ أنَّ الْغَيْبَ لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، ويَشْهَدُ لِهَذِه الْحَقِيقَةِ نصوصٌ كَثِيرَةٌ مِن الذِّكرِ الحكيمِ.
مِنْهَا: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {قُلْ
لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى
إِلَيَّ}.
- وَقَالَ سبحانَهُ: {قُلْ
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
(أنَّ الأئمَّةَ عَلَيْهِم السَّلامُ إِذَا شاؤا أَنْ يَعْلَموا عَلِمُوا).
وفي صفحةِ (26) (أنَّ الأئمَّةَ يَعلمونَ عِلْمَ مَا كَانَ، وَمَا يَكُونُ، وأنَّهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِمُ الشَّيءُ).
بيَّنَ
صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ بأنَّ هَذِه الأسئلةَ الَّتي سألهَا
جبريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وإجابَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَيْهَا هِي أصولُ وقواعدُ الدِّينِ، يَنْدَرِجُ تحتَهَا باقي أمورِ
الدِّينِ مِن:
- عقائدَ.
- وعباداتٍ.
- وآدابٍ، وغيرِهَا.
ومِن
هَذَا تَتَّضِحُ أَهَمِّيَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ العظيمِ، وبأنَّ النَّوويَّ
رحمَهُ اللَّهُ وُفِّقَ فِي اِخْتِيَارِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أربعينِهِ؛
لأنَّهُ هَدَفَ مِن ذَلِك جَمْعَ الأَحَادِيثِ الجامعةِ لأمورِ الدِّينِ.
جامع العلوم والحكم للحافظ : عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
فَصْلٌ وأمَّا الإِحْسَانُ ، فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي القُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ:
تَارَةً: مَقْرُونًا بالإِيمانِ.
وتارَةً: مَقْرونًا بالإِسلامِ.
وتارَةً:مَقْرونًا بالتَّقْوَى أوْ بالعَمَلِ.
فالمَقْرونُ بالإِيمانِ:كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ
اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ}[المائدة: 93].
وكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}[الكهف: 30].
والمَقْرُونُ بالإِسْلامِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[البقرة: 112].
وكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآيَةَ [لقمان: 22].
والمَقْرُونُ بالتَّقْوَى: كقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل: 128].
وقَدْ يُذْكَرُ مُفْرَدًا: كقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وقَدْ
ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ تَفْسِيرُ الزِّيَادَةِ بالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ
وجَلَّ فِي الجَنَّةِ، وهَذَا مُنَاسِبٌ لِجَعْلِهِ جَزَاءً لأَِهْلِ
الإِحْسَانِ؛ لأَِنَّ الإِحْسَانَ هوَ أنْ يَعْبُدَ المُؤْمِنُ رَبَّهُ فِي
الدُّنيا عَلَى وَجْهِ الحُضُورِ والمُرَاقَبَةِ، كَأَنَّهُ يَرَاهُ
بقَلْبِهِ ويَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِ، فَكَانَ جَزَاءُ
ذَلِكَ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ عِيَانًا فِي الآخِرَةِ.
وعَكْسُ هَذَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ جَزَاءِ الكُفَّارِ فِي الآخِرَةِ: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المُطَفِّفِينَ: 15]،
وجَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءً لحَالِهِم فِي الدُّنيا، وهوَ تَرَاكُمُ الرَّانِ
عَلَى قُلُوبِهِم، حَتَّى حُجِبَتْ عنْ مَعْرِفَتِهِ ومُرَاقَبَتِهِ فِي
الدُّنيا، فَكَانَ جَزَاؤُهُم عَلَى ذَلِكَ أَنْ حُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ
فِي الآخِرَةِ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الإِحْسَانِ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ...)) إلخ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ العَبْدَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وهيَ اسْتِحْضَارُ قُرْبِهِ، وأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وذَلِكَ يُوجِبُ:
ورُوِيَ عَن ابنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ: ((اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)) خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ. قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا. قَالَ: ((انْظُرْ مَا تَقُولُ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً)). فَإِذَا حَقَّقَ هَذَا المَقَامَ سَهُلَ عَلَيْهِ الانْتِقَالُ إِلَى المَقَامِ الثَّانِي ، وهوَ دَوَامُ التَّحْدِيقِ بالبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ ومَعِيَّتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ. فَأَشَارَتْ إِلَى المَقَامَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُما: وهَذَا هوَ حَقِيقَةُ مَقَامِ الإِحْسَانِ المُشَارِ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قَالَ: ((أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)). وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((ثَلاثَةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ)) وذَكَرَ الحَدِيثَ. - وقَوْلِهِ: {مَا
يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا
هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ
مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا}[المُجَادَلَة: 7 ]. قَالَ: اخْلُوا بِمُنَاجَاتِهِ، اخْلُوا بدُعَائِهِ) خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ. وقَالَ
أَبُو أُسَامَةَ: (دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ النَّضْرِ الحَارِثِيِّ،
فَرَأَيْتُهُ كَأَنَّهُ مُنْقَبِضٌ، فَقُلْتُ: كَأَنَّكَ تَكْرَهُ أَنْ
تُؤْتَى؟ وقِيلَ لِمَالِكِ بنِ مِغْوَلٍ وهوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ وحْدَهُ: (أَلا تَسْتَوْحِشُ؟ فقَالَ: أَوَيَسْتَوْحِشُ مَعَ اللَّهِ أَحَدٌ؟ فَمَنْ
تَأَمَّلَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِمَّا دلَّ عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيثُ
العَظِيمُ، عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ العُلُومِ والمَعَارِفِ تَرْجِعُ إِلَى
هَذَا الحَدِيثِ وتَدْخُلُ تَحْتَهُ، وأَنَّ جَمِيعَ العُلَمَاءِ مِنْ
فِرَقِ هَذِهِ الأُمَّة لا تَخْرُجُ عُلُومُهم الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ
فِيهَا عَن هَذَا الحَدِيثِ ومَا دَلَّ عَلَيْهِ مُجْمَلاً ومُفَصَّلاً؛
فَإِنَّ الفُقَهَاءَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي العِبَادَاتِ التي هيَ
مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الإِسْلامِ، ويُضِيفُونَ إِلَى ذَلِكَ الكَلامَ فِي
أَحْكَامِ الأَمْوَالِ والأَبْضَاعِ والدِّمَاءِ، وكُلُّ ذَلِكَ مِنْ
عِلْمِ الإِسْلامِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. والَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، يَتَكَلَّمُونَ
عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وعَلَى الإِيمَانِ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ،
وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، والإِيمَانِ بالقَدَرِ. وقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ
رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً}[الأعراف: 187]. قَوْلُهُ: (فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) يَعْنِي: عَنْ عَلامَاتِهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا)) وهيَ عَلامَاتُهَا أَيْضًا. الأُولَى: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)) ، والمُرَادُ بِرَبَّتِهَا سيِّدَتُهَا ومَالِكَتُهَا. وذَكَرَ
الخَطَّابِيُّ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّ
الْوَلَدِ إِنَّمَا تُعْتَقُ عَلَى وَلَدِهَا مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ مِيرَاثِ
وَالِدِهِ، وإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى أَوْلادِهَا بالمِيرَاثِ
فَتُعْتَقُ عَلَيْهِم، وَإِنَّهَا قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهَا تُبَاعُ. وقَد
اسْتَدَلَّ بِهَذَا الإِمَامُ أَحْمَدُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ
مُحَمَّدِ بنِ الحَكَمِ عَنْهُ: (تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا: تَكْثُرُ
أُمَّهَاتُ الأَوْلادِ، يَقُولُ: إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ عُتِقَتْ
لِوَلَدِهَا، وقَالَ: فِيهِ حُجَّةُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ لا
يُبَعْنَ). وقَالَ وَكِيعٌ: مَعْنَاهُ: (تَلِدُ الْعَجَمُ العَرَبَ، والعَرَبُ مُلُوكُ العَجَمِ وأَرْبَابٌ لَهُم). والمُرَادُ بالعَالَةِ : الفُقَرَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}[الضُّحى-8]. وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ ثَلاثَ عَلامَاتٍ: وكَذَا رَوَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ الأَخِيرَةَ عَلِيُّ بنُ زَيْدٍ عنْ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ عن ابنِ عُمَرَ. وَأَمَّا الأَلْفَاظُ الأُوَلُ، فَهِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهَا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَن السَّاعَةِ: ((إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ))؛
فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ الحُفَاةُ العُرَاةُ رِعَاءُ الشَّاءِ -وهُمْ
أَهْلُ الجَهْلِ والجَفَاءِ- رُءُوسَ النَّاسِ، وأَصْحَابَ الثَّرْوَةِ
والأَمْوَالِ، حَتَّى يَتَطَاوَلُوا فِي البُنْيَانِ؛ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ
بذَلِكَ نِظَامُ الدِّينِ والدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا رَأَسَ النَّاسَ
مَنْ كَانَ فَقِيرًا عَائِلاً، فَصَارَ مَلِكًا عَلَى النَّاسِ، سَوَاءٌ
كَانَ مُلْكُهُ عَامًّا أَو خَاصًّا فِي بَعْضِ الأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ لا
يَكَادُ يُعْطِي النَّاسَ حُقُوقَهُم، بَلْ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِم بِمَا
اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِن المَالِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (لَئِنْ
تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى فَمِ التِّنِّينَ فَيَقْضِمُهَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ
أَنْ تَمُدَّهَا إِلَى يَدِ غَنِيٍّ قَدْ عَالَجَ الْفَقْرَ). وفي حَدِيثٍ آخَرَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا)). وهَذَا كُلُّهُ مِن انْقِلابِ الحَقَائِقِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وانْعِكَاسِ الأُمُورِ. وفِي (صَحِيحِ الحَاكِمِ): عِنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُوضَعَ الأَخْيَارُ، وَيُرْفَعَ الأَشْرَارُ)). قَالَ: (كَأَنَّكَ كُنْتَ فِي نَفْسِي). وخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ)). ومِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((أَرَاكُمْ
سَتُشَرِّفُونَ مَسَاجِدَكُمْ بَعْدِي كَمَا شَرَّفَتِ الْيَهُودُ
كَنَائِسَهَا، وَكَمَا شَرَّفَتِ النَّصَارَى بِيَعَهَا)).
- الخَشْيَةَ والخَوْفَ والهَيْبَةَ والتَّعْظِيمَ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)).
- ويُوجِبُ أيضًا النُّصْحَ فِي العِبَادَةِ ، وبَذْلَ الجُهْدِ فِي تَحْسِينِهَا وإِتْمَامِهَا وإِكْمَالِهَا.
- وقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ ،
كَمَا رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْهَجَرِيُّ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ قَالَ: (أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ
أَخْشَى اللَّهَ كَأَنِّي أَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَرَاهُ فَإِنَّهُ
يَرَانِي).
وخَرَّجَ
الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ واجْعَلْهُ مُوجَزًا، فَقَالَ: ((صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ؛ فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
وفي
حَدِيثِ حَارِثَةَ المَشْهُورِ -وقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلَةٍ،
وَرُوِيَ مُتَّصِلاً، والمُرْسَلُ أَصَحُّ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)).
قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَن الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ
لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي
بارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ
كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ
كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا، قَالَ: ((أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ)).
ويُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَصَّى رَجُلاً فَقَالَ لَهُ: ((اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَكَ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي عَشِيرَتِكَ لا يُفَارِقَانِكَ)).
ويُرْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلاً.
ويُرْوَى عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَصَّاهُ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ فَقَالَ: ((اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحِي رَجُلاً ذَا هَيْبَةٍ مِنْ أَهْلِكَ)).
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ كَشْفِ العَوْرَةِ خَاليًا، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ)).
ووَصَّى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَجُلاً فَقَالَ لَهُ: (اعْبُد اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ).
وخَطَبَ
عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ إِلَى ابنِ عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهُمَا فِي
الطَّوَافِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ لَقِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَاعْتَذَرَ
إِلَيْهِ وَقَالَ: (كُنَّا فِي الطَّوَافِ نَتَخَايَلُ اللَّهَ بَيْنَ
أَعْيُنِنَا). أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
قِيلَ: إِنَّهُ تَعْلِيلٌ للأَوَّلِ ؛
فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا أُمِرَ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ فِي العِبَادَةِ،
واسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْ عَبْدِهِ، حَتَّى كَأَنَّ العَبْدَ يَرَاهُ،
فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ
بِإِيمَانِهِ بأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، ويَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ
وعَلانِيَتِهِ، وبَاطِنِهِ وظَاهِرِهِ، وَلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
أَمْرِهِ.
وقِيلَ: بَلْ هوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ ،
فَلْيَعْبُد اللَّهَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ ويَطَّلِعُ عَلَيْهِ،
فَلْيَسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ العَارِفِينَ:
(اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ).
وقَالَ بَعْضُهُم: (خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، واسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ).
أَحَدُهُمَا: مَقَامُ الإِخْلاصِ، وهوَ أَنْ يَعْمَلَ العَبْدُ عَلَى اسْتِحْضَارِ مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، واطِّلاعِهِ عَلَيْهِ، وقُرْبِهِ مِنْهُ.
فَإِذَا
اسْتَحْضَرَ العَبْدُ هَذَا فِي عَمَلِهِ، وعَمِلَ عَلَيْهِ، فَهُو
مُخْلِصٌ لِلَّهِ؛ لأَِنَّ اسْتِحْضَارَهُ ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ يَمْنَعُهُ
مِن الالتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وإِرَادَتِهِ بالعَمَلِ.
ويَتَفَاوَتُ أَهْلُ هَذَا المَقَامِ فِيهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ نُفُوذِ البَصَائِرِ.
وَقَدْ فَسَّرَ طَائِفَةٌ مِن العُلَمَاءِ المَثَلَ الأَعْلَى المَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرُّوم: 27]، بِهَذَا المَعْنَى.
ومِثْلُهُ قولُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}[النور: 35]، والمُرَادُ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ.
وقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتَ)).
وحَدِيثُ: مَا تَزْكِيَةُ المَرْءِ نَفْسَهُ؟
وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلَى هَذَا المَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ:
- كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186].
- وقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}.
- وَقَوْلِهِ: {وَمَا
تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يُونُس: 61].
- وقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
- وقَوْلِهِ: {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108].
وقَدْ وَرَدَت الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بالنَّدْبِ إِلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا القُرْبِ فِي حَالِ العِبَادَاتِ :
- كقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)).
- وقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى)).
- وقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ)).
- وقَوْلِهِ للَّذِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُم بالذِّكْرِ: ((إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا)).
- وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)).
- وَفِي رِوَايَةٍ: ((هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)).
- وقَوْلِهِ: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ)).
- وقَوْلِهِ: ((يَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا مَعَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ
حَيْثُ ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي،
وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ
تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ
مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي
أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).
ومَنْ
فَهِمَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ تَشْبِيهًا أوْ حُلُولاً أو
اتِّحَادًا، فَإِنَّما أُتِيَ مِنْ جَهْلِهِ وسُوءِ فَهْمِهِ عَن اللَّهِ
ورَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، واللَّهُ ورَسُولُهُ
بَرِيئَانِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ،
فَسُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وهوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
قَالَ
بَكْرٌ المُزَنِيُّ: (مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ آدَمَ: خُلِّيَ بَيْنَكَ
وبَيْنَ المِحْرَابِ والمَاءِ، كُلَّمَا شِئْتَ دَخَلْتَ عَلَى اللَّهِ
عَزَّ وجَلَّ، لَيْسَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ).
قَالَ
ثَوْرُ بنُ يَزِيدَ: (قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلامُ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الحَوَارِيِّينَ، كَلِّمُوا اللَّهَ
كَثِيرًا، وكَلِّمُوا النَّاسَ قَلِيلاً.
قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ اللَّهَ كَثِيرًا؟
وخَرَّجَ أَيْضًا بإِسْنَادِهِ عنْ رِيَاحٍ
قَالَ: (كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ أَلْفَ
رَكْعَةٍ، حَتَّى أُقْعِدَ مِنْ رِجْلَيْهِ، فكَانَ يُصَلِّي جَالِسًا
أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَإِذَا صَلَّى العَصْرَ احْتَبَى فاسْتَقْبَلَ
القِبْلَةَ ويَقُولُ: عَجِبْتُ للخَلِيقَةِ كَيْفَ أَنِسَتْ بسِوَاكَ؟!
بَلْ عَجِبْتُ للخَلِيقَةِ كَيْف اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهَا بِذِكْرِ
سِوَاكَ؟!)
فَقُلْتُ: أَوَمَا تَسْتَوْحِشُ؟
فَقَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وهوَ يَقُولُ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي).
وكَانَ
حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ يَخْلُو فِي بَيْتِهِ ويَقُولُ: (مَنْ لَمْ
تَقَرَّ عَيْنُهُ بِكَ فَلا قَرَّتْ عَيْنُهُ، ومَنْ لَمْ يَأْنَسْ بِكَ
فَلا أَنِسَ).
وقَالَ غَزْوَانُ: (إِنِّي أَصَبْتُ رَاحَةَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ مَنْ لَدَيْهِ حَاجَتِي).
وقَالَ مُسْلِمُ بنُ يَسَارٍ: (مَا تَلَذَّذَ المُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلّ)َ.
وقَالَ مُسْلِمٌ العَابِدُ: (لَوْلا الجَمَاعَةُ مَا خَرَجْتُ مِنْ بَابِي أَبَدًا حَتَّى أَمُوتَ).
وقَالَ:
(مَا يَجِدُ المُطِيعُونَ لِلَّهِ لَذَّةً فِي الدُّنْيَا أَحْلَى مِن
الخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ سَيِّدِهِم، وَلا أَحْسَبُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ
مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ أَكْبَرَ فِي صُدُورِهِم وألَذَّ فِي قُلُوبِهِم
مِن النَّظَرِ إِلَيْهِ)، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ.
وعنْ
إِبْرَاهِيمَ بنِ أَدْهَمَ قَالَ: (أَعْلَى الدَّرَجَاتِ أَنْ تَنْقَطِعَ
إِلَى رَبِّكَ، وتَسْتَأْنِسَ إِلَيْهِ بقَلْبِكَ وعَقْلِكَ وجَمِيعِ
جَوَارِحِكَ، حَتَّى لا تَرْجُوَ إلا رَبَّكَ، وَلا تَخَافَ إلا ذَنْبَكَ،
وتَرْسَخَ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِكَ حَتَّى لا تُؤْثِرَ عَلَيْهَا شَيْئًا،
فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تُبالِ فِي بَرٍّ كُنْتَ أوْ فِي بَحْرٍ،
أوْ فِي سَهْلٍ أوْ فِي جَبَلٍ، وكَانَ شَوْقُكَ إِلَى لِقَاءِ الحَبِيبِ
شَوْقَ الظَّمْآنِ إِلَى الْمَاءِ البَارِدِ، وشَوْقَ الجَائِعِ إِلَى
الطَّعَامِ الطَّيِّبِ، ويَكُونُ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَكَ أَحْلَى مِن
العَسَلِ، وأَحْلَى مِن المَاءِ العَذْبِ الصَّافِي عِنْدَ العَطْشَانِ فِي
اليَوْمِ الصَّائِفِ).
وقَالَ الفُضَيْلُ: (طُوبَى لِمَن اسْتَوْحَشَ مِنَ النَّاسِ وَكَانَ اللَّهُ جَلِيسَهُ).
وقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: (لا آنَسَنِي اللَّهُ إلا بِهِ أَبَدًا).
وقَالَ مَعْرُوفٌ لِرَجُلٍ: (تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ؛ حَتَّى يَكُونَ جَلِيسَكَ وأَنِيسَكَ ومَوْضِعَ شَكْوَاكَ).
وقَالَ ذُو النُّونِ: (مِنْ عَلامَةِ المُحِبِّينَ لِلَّهِ أَنْ لا يَأْنَسُوا بِسَوَاهُ، وَلا يَسْتَوْحِشُوا مَعَهُ).
ثُمَّ
قَالَ: (إِذَا سَكَنَ القَلْبَ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى أَنِسَ باللَّهِ؛
لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَلُّ فيِ صُدُورِ العَارِفِينَ أنْ يُحِبُّوا
سِوَاهُ).
وكَلامُ القَوْمِ فِي هَذَا البَابِ يَطُولُ ذِكْرُهُ جِدًّا ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
والَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى عِلْمِ المَعَارِفِ والمُعَامَلاتِ يَتَكَلَّمُونَ
عَلَى مَقَامِ الإِحْسَانِ، وعَلَى الأَعْمَالِ البَاطِنَةِ التِي
تَدْخُلُ فِي الإِيمَانِ أَيْضًا، َالْخَشْيَةِ، والمَحَبَّةِ،
والتَّوَكُّلِ، والرِّضا، والصَّبْرِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
فانْحَصَرَت العُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ التي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِرَقُ المُسْلِمِينَ فِي هَذَا الحَدِيثِ ، ورَجَعَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ. فَفِي هَذَا الحَدِيثِ وَحْدَهُ كِفَايَةٌ، ولِلَّهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ.
وبَقِيَ الكَلامُ عَلَى ذِكْرِ السَّاعَةِ مِن الحَدِيثِ:
فَقَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: (أَخْبِرْنِي عَن السَّاعَةِ).
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)) يَعْنِي: أَنَّ عِلْمَ الخَلْقِ كُلِّهِم فِي وَقْتِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ.
وخَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، ولَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ إِلا الْخَمْسَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}الآيَةَ)).
وخَرَّجَ أَيْضًا بإِسْنَادِهِ عَن ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ خَمْسٍ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ})الآيَةَ.
وقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للسَّاعَةِ عَلامَتَيْنِ:
وفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((رَبَّهَا)).
قُلْتُ:
قَد اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُم عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وعَلَى أَنَّ أُمَّ
الوَلَدِ لا تُبَاعُ، وأَنَّهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا بِكُلِّ
حَالٍ؛ لأَِنَّهُ جَعَلَ وَلَدَ الأَمَةِ رَبَّهَا، فَكَأَنَّ وَلَدَهَا
هوَ الذِي أَعْتَقَهَا فَصَارَ عِتْقُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ
سَبَبُ عِتْقِهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَوْلاهَا.
وهَذَا
كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ فِي أُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَةَ لَمَّا وَلَدَتْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلامُ: ((أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا)).
وقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: ((تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا))
بِأَنَّهُ يَكْثُرُ جَلْبُ الرَّقِيقِ، حَتَّى تُجْلَبَ البِنْتُ
فَتُعْتَقَ، ثُمَّ تُجْلَبَ الأُمُّ فتَشْتَرِيَهَا البِنْتُ
وتَسْتَخْدِمَهَا جَاهِلَةً بأَنَّهَا أُمُّهَا، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي
الإِسْلامِ.
وقِيلَ:مَعْنَاهُ أَنَّ الإِمَاءَ يَلِدْنَ المُلُوكَ.
- مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْحُفَاةُ العُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ.
- ومِنْهَا: أَنْ يَتَطَاوَلَ رِعَاءُ البَهْمِ فِي البُنْيَانِ.
ورَوَى هَذَا الحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَطَاءٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، فَقَالَ فِيهِ: ((وَأَنْ تَرَى الصُّمَّ الْبُكْمَ الْعُمْيَ الْحُفَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فيِ الْبُنْيَانِ مُلُوكَ النَّاسِ)).
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ نَعَتَّ؟
قَالَ: ((هُمُ الْعُرَيْبُ)).
وقَوْلُهُ: ((الصُّمَّ الْبُكْمَ الْعُمْيَ))، إِشَارَةٌ إِلَى جَهْلِهِم وعَدَمِ عِلْمِهِم وفَهْمِهِم.
وفي
هَذَا المَعْنَى أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ، فَخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ
والتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنيَا لُكَعَ بْنَ لُكَعٍ)).
وفِي (صَحِيحِ ابنِ حِبَّانَ): عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ لُكَعِ بْنِ لُكَعٍ)).
وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعٍ)).
وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُوالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((بَيْنَ
يَدَيِ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُتَّهَمُ فِيهَا الأَمِينُ،
وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْمُتَّهَمُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ)).
قَالُوا: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟
قَالَ: ((السَّفِيهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).
وفِي رِوَايَةٍ: ((الْفَاسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).
وفِي رِوَايَةٍ للإِمَامِ أَحْمَدَ:((إِنَّ
بَيْنَ يَدَيِ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا
الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ،
وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ)) وذَكَرَ بَاقِيَهُ.
ومَضْمُونُ
مَا ذُكِرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فِي هَذَا الحَدِيثِ يَرْجِعُ إِلَى
أَنَّ الأُمُورَ تُوَسَّدُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا.
وأَخْبَرَ: ((أَنَّهُ
يُقْبَضُ الْعِلْمُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ
عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا
بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَصِيرَ العِلْمُ جَهْلاً، والجَهْلُ عِلْمًا).
وفِي قَوْلِهِ: ((يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)) دَلِيلٌ عَلَى ذَمِّ التَّبَاهِي والتَّفَاخُرِ، خُصُوصًا بالتَّطَاوُلِ فِي البُنْيَانِ.
ولَمْ
يَكُنْ إِطَالَةُ البِنَاءِ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، بَلْ كَانَ بُنْيَانُهم قَصِيرًا
بِقَدْرِ الحَاجَةِ.
ورَوَى أَبُو الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ)) خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ.
وخَرَّجَ
أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً، فَقَالَ: ((مَا هَذِهِ؟))
قَالُوا: هَذِهِ لِفُلانٍ، رَجُلٍ مِن الأَنْصَارِ.
فَجَاءَ
صَاحِبُهَا، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَهَدَمَهَا
الرَّجُلُ.
وخَرَّجَهُ
الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، وعِنْدَهُ:
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((كُلُّ بِنَاءٍ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ هَكَذَا عَلَى رَأْسِهِ- أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَهُوَ وَبَالٌ)).
وقَالَ
حُرَيْثُ بنُ السَّائِبِ: عَن الْحَسَنِ: كُنْتُ أَدْخُلُ بُيُوتَ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي خِلافَةِ
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَنَاوَلُ سَقْفَهَا بِيَدِي.
ورُوِيَ عَن عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ: (لا تُطِيلُوا بِنَاءَكُم؛ فَإِنَّهُ شَرُّ أَيَّامِكُم).
وَقَالَ يَزِيدُ بنُ أَبِي زِيَادٍ: قَالَ حُذَيْفَةُ لِسَلْمَانَ: (أَلا نَبْنِي لَكَ مَسْكَنًا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟)
قَالَ: (لِمَ؟ لِتَجْعَلَنِي مَلِكًا؟)
قالَ: (لا،
ولَكِنْ نَبْنِي لَكَ بَيْتًا مِنْ قَصَبٍ ونَسْقُفُهُ بِالْبَوَارِي،
إِذَا قُمْتَ كَادَ أَنْ يُصِيبَ رَأْسَكَ، وإِذَا نِمْتَ كَادَ أَنْ
يَمَسَّ طَرَفَيْكَ).
وقَالَ
يَعْقُوبُ بنُ شَيْبَةَ فِي (مُسْنَدِهِ): بَلَغَنِي عَن ابنِ عَائِشَةَ،
حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي شُمَيْلَةَ قَالَ: (نَزَلَ المُسْلِمُونَ حَوْلَ
المَسْجِدِ، يَعْنِي بالبَصْرَةِ فِي أَخْبِيَةِ الشَّعَرِ، فَفَشَا فِيهِم
السَّرَقُ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ، فَأَذِنَ لَهُم فِي الْيَرَاعِ،
فَبَنَوْا بالْقَصَبِ، فَفَشَا فِيهِم الْحَرِيقُ، فكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ،
فَأَذِنَ لَهُم فِي المَدَرِ، ونَهَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ سَمْكَهُ
أَكْثَرَ مِنْ سَبَعَةِ أَذْرُعٍ، وقَالَ: (إِذَا بَنَيْتُمْ مِنْهُ
بُيُوتَكُم فَابْنُوا منهُ المَسْجِدَ).
قَالَ
ابنُ عَائِشَةَ: وكَانَ عُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ بَنَى مَسْجِدَ البَصْرَةِ
بالقَصَبِ، قَالَ: (مَنْ صَلَّى فِيهِ وهُوَ مِنْ قَصَبٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ
صَلَّى فِيهِ وهوَ مِنْ لَبِنٍ، ومَنْ صَلَّى فِيهِ وهوَ مِنْ لَبِنٍ
خَيْرٌ مِمَّنْ صَلَّى فيهِ وهوَ مِنْ آجُرٍّ).
ورَوَى
ابنُ أَبِي الدُّنيا بإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ مُسْلِمٍ، عَن
الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المَسْجِدَ قَالَ: ((ابْنُوهُ عَرِيشًا كَعَرِيشِ مُوسَى)).
قِيلَ للحَسَنِ: وَمَا عَرِيشُ مُوسَى؟
قَالَ: (إِذَا رَفَعَ يَدَهُ بَلَغَ العَرِيشَ)، يَعْنِي: السَّقْفَ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
قوله هنا في القدر:
((بالقدر خيره وشره))الشر هنا: من باب إضافة القدر إلى العامل. أما فعل الله -جل وعلا- فليس فيه شر، كما جاء في الحديث: ((والشر ليس إليك)).
قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
قال العلماء: الإحسان هنا ركنٌ واحدٌ، والإحسان جاء في القرآن مقروناً بأشياء أيضاً:
- مقروناً بالتقوى:{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.
-ومقروناً بالعمل الصالح.
- ومقروناً بأشياء
وأتى الإحسان مستقلاً، كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.
ويراد بالإحسان: إحسان العمل.
وقوله هنا في بيان ركنه: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) هذا ركنٌ به يحصل الإحسان؛ لأن الإحسان من: أحْسَنَ العمل، إذا جعله حسناً.
وإحسان العمل يتفاوت فيه الناس، ومنه قدرٌ مجزئٌ يصح معه أن يكون العمل حسناً وأن يكون فاعله محسناً.
فكل
مسلم عنده قدْر -أيضاً- من الإحسان، لا يصح عمله بدونه، ثم هناك القدْر
المستحب -الآخر- الذي يتفاوت فيه الناس بحسب الحال الذي يتحقق به هذه
المرتبة.
فأما القدْر المجزئ: فأن يكون العمل حسناً، بمعنى: أن يكون خالصاً صواباً، يعني: أن يكون النية فيه صحيحة، وأن يكون على وفق السنة.
وأمَّا القدر المستحب: فأن يكون قائماً في عمله على مقام المراقبة أو مقام المشاهدة.
ومقام المراقبة أقل ومقام المشاهدة أعظم المراتب التي يصير إليها العبد المؤمن وهو أن تكون عنده الأشياء حق اليقين.
فأما المرتبة الأولى (مرتبة المراقبة): فهي في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك))ذكر مقام المراقبة في قوله: ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك))وهي
مقام أكثر الناس، فإنهم إذا وصلوا إلى هذه المرتبة فإنهم يعبدونه جل وعلا
على مقام المراقبة، فإذا راقب الله دخل في الصلاة بمراقبته لله -جل وعلا-
يعلم أنّ الله -جل وعلا- مطلع عليه وأنه بين يدي الله -جل وعلا- كما قال
سبحانه في سورة يونس: {وما تكون في شأنٍ وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}. فهذا مقام الإحساس بمراقبة الله -جل وعلا- للعبد.
(صَلِّ
صلاة مودع) لتعلم أن الله -جل وعلا- مراقبُك، وأنه -جل وعلا- مطلعٌ عليك
وما تُفيض في شيء إلا وهو يعلمه سبحانه ويراه ويبصره منك سبحانه وتعالى
فهذا مقام المراقبة.
وكلما
عظمت هذه رجعت إلى إحسان العمل، فإذا تحرك المرء في صلاته مثلاً فاستحضر
مقام مراقبة الله -جل وعلا- له واطلاعه عليه؛ فإنه مباشرة سيخشع لاستحضاره
هذا المقام.
أعلى منه لأهل العلم: مقام المشاهدة، وهو الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه))
وهذه المشاهدة المقصود بها: مشاهدة الصفات، لا مشاهدة الذات؛ لأن الصوفية
والضُلاَّل هم الذين جعلوا ذلك مدخلاً لمشاهدة الذات -كما يزعمون- وهذا من
أعظم الباطل والبهتان، وإنما يمكن مشاهدة الصفات.
ويُعنى
بها: مشاهدة آثار صفات الله -جل وعلا- في خلقه، فإن العبد المؤمن كلما عظم
علمه وعظم يقينه بصفات الله -جل وعلا- وبأسمائه أرجع كل شيء يحصل في ملكوت
الله إلى اسم من أسماء الله -جل وعلا- أو إلى صفة من صفاته.
فإذا
رأى حَسَناً أمامه أرجعه إلى صفة من صفات الله، وإلى أثر من آثار أسمائه
الحسنى في ملكوته، وإذا رأى سيئاً أرجعه إلى صفة من صفات الله، وإذا رأى
خلْقاً فيه كذا أرجعه إلى صفة من صفات الله، وإذا رأى طاعة أرجعها إلى صفة،
وإذا رأى معصية وإذا رأى مصيبة وإذا رأى حرباً وإذا رأى قتالاً وإذا رأى
علماً وإذا رأى أي حالة من الحالات يراها في السماء أو في الأرض فإن مقام
مشاهدته لصفات الله تقتضي أنه يُرجع كل شيء يراه إلى آثار أسماء الله -جل
وعلا- وصفاته في خلقه.
ولهذا
يحصل هذا المقام لمن عَظُم علمه بأسماء الله -جل وعلا- وبصفاته وبأثرها في
ملكوته. حتى يشهد صفة إحاطة الله -جل وعلا- بالعبد، وأن الله -جل وعلا-
رقيبٌ عليه، وأنه محيطٌ به، وأنه شاهدٌ عليه، فيعظم ذلك في نفسه حتى يستحيي
أن يكشف عورته في خلوة لا يراها إلا هو، كما جاء في الحديث؛ قال في كشف
العورة: ((إن الله أحق أن يُستحيى منه)) هذا لأجل مقام المشاهدة العظيم.
فإذاً: أهل السنة، والذين يتكلمون في الزهد وفي إصلاح أعمال القلوب على منهج أهل السنة؛ يجعلون هذا على مقامين:
- مقام المشاهدة
- والمراقبة. ((لاتقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من المدينة تضيء لها أعناق الإبل ببصرى)) هذا من الأمارات الصغرى. فالأَمة
إذا ولدت فإن مولودها الذكر أو الأنثى هو سَيِّدٌ، كمالك الأمة؛ فإذاً:
الأَمة التي ولدت هذا الولد أصبحت مسودة لهُ، فهو سيدٌ على أمّه، والبنت
سيدةٌ على الأَمة؛ باعتبار أنّ الأب سيد، لهذا تُعتق أم الولد بعد موت
السيد، ولا تعتق بمجرد ولادتها منه، بل بعد موته؛ لأجل الولادة. قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)) أخبره -عليه الصلاة والسلام- بذلك، حتى يعظم وقع هذه الأسئلة وجواب هذه الأسئلة.
وكل هذا راجع إلى الإحسان؛ إحسان العمل: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) كلما عظم مقام المراقبة أوالمشاهدة زاد إحسان العمل.
(قال: فأخبرني عن الساعة قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))لأن علم الساعة عند الله -جل وعلا-: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لاتأتيكم إلا بغتة…} كما في آية الأعراف.
(قال: فأخبرني عن أماراتها)
الساعة لها أمارات، وهي: الدلائل والعلامات، والأمارات يعني: الأشراط، كما جاء في آية سورة محمد، قال -جل وعلا-: {فقد جاء أشراطها} يعني: أشراط الساعة، وهي: علاماتها، جمع (شَرَط) وهو: العلامة البينة الواضحة التي تدل على الشيء.
(قال: أخبرني عن أماراتها) أمارات الساعة: قسمها العلماء إلى قسمين:
- أشراط، أو:أمارات صغرى.
- وأشراط أو:أمارات كبرى.
وهذا المذكور هنا هي الأمارات الصغرى، ذكر منها: أن تلد الأمة ربتها.
والمقصود
بالأشراط الصغرى أو الأمارات الصغرى هي: التي تحصل قبل خروج المسيح
الدجال، مما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من علامات الساعة فإن هذا
من الأشراط الصغرى، ثم ما بعد ذلك؛ من الأشراط الكبرى. وهي عشرٌ تحصل
تباعاً في ذلك فمثلاً:
قوله: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوماً (كذا)..) هذا من الأشراط الصغرى.
هذه
جميعها أشراط صغرى، وهذه الأشراط الصغرى ذكرها لا يدل على مدْحٍ أوعلى ذمٍ
فقد يُذكر الشيء على أنه علامة من علامات الساعة وليس هذا دليلاً على أنه
محمود أو مذموم أو على أنه منهي عنه في الشريعة، فقد يكون الشيء من الأشراط
وهو من الأمور المحمودة في الشريعة، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في
حديث عوف ابن مالك: ((اُعْدُد ستاً بين يدي الساعة: موتي ثم فتح بيت المقدس)) وهو من الأمور المحمودة؛ وقد يكون من الأمور المذمومة.
فإذاً:
وصف الشيء بأنه من أشراط الساعة الصغرى أو الكبرى لا يدل بنفسه -يعني:
بكونه شرْطاً- لا يدل على مدحه أو ذمه، بل هذا له اعتبار آخر.
قال هنا: (فأخبرني عن أماراتها) يعني: الأمارات الصغرى.
قال: ((أن تلد الأمة ربَّتها))(ربَّتها) يعني: سيدتها.
ولهذا قال هنا: ((أن تلد الأمة ربَّتها)) الربَّة هنا يعني: السيدة تلد سيدتها؛ لأن البنت المولودة حُرة وسيدة.
فقال أهل العلم:في
هذا كناية أو إخبار عن كثرة الرقيق، وإلا فإنه موجود في عهد الإسلام
الأول- وموجود فيما قبله ولود الأمة لسيدها أو لسيدتها، وهذا غير مقصود به
هذا الخبر بأنه من أمارات الساعة لكن المقصود به: أن يكثر ذلك حيث يكون
ظاهرةً، ويكون علامة.
قد
حصل هذا، فقد كثر لما كثرت الفتوح، صار الرجل يأخذ إماءً كثيرة، ويصير له
عشر أو عشرون من الإماء، فيطأ هذه ويطأ هذه فكل واحدة تنجب فيصبح الأولاد
أسياداً على الأمهات؛ لكثرة الرقيق.
قال: ((وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))
يعني: أن ترى الفقراء الذين ليسوا بأهل للغنى وليسوا بأهل للتطاول؛ لما
جعلهم الله -جل وعلا- عليه؛ من رعيٍ للشياه أو تتبع للجمال أو نحو ذلك، فمن
العلامات: أنهم يتركون هذا الذي هو لهم، ويتجهون للتطاول في البنيان.
والتطاول
في البنيان؛ جاء في ذمّه أحاديث كثيرة معروفة، وقد كان الصحابة رضوان الله
عليهم لا يتطاولون في البنيان، بل كانت منازلهم قصيرة -رضوان الله عليهم-
ففي هذا ذمٌّ للذين يتطاولون في البنيان وهم ليسوا أصلاً بأهلٍ لذلك وهذا
فيه تغير الناس وكثرة المال وأنْ يكون المال بأيدي من ليس له بأهل.
قال: (ثم انطلق فلبثت ملياً)(انطلق) يعني: جبريل، (فلبثت) اللابث: عمر -رضي الله عنه-، (ملياً) جاءت في بعض الروايات أنها ثلاثة أيام، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عمر أتدري من السائل؟))
هذا
الحديث أيضاً يطول الكلام عليه وإنما نقصد من هذا الشرح إلى ذكر أصولٍ عامة
في فهم هذه الأحاديث، ينبني عليها فهم العلم في فروعه: فهم الحديث والسنة
والفقه والعقيدة فيما نرجوا.
ونسأل الله -جل وعلا- أن ييسره لي ولكم، وأستغفرالله العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الكشاف التحليلي
جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث
سبب تحديث ابن عمر - رضي الله عنهما- بهذا الحديث
صفات جبريل - عليه السلام -
شرح قوله: (فأخبرني عن الإحسان...)
القدر المجزئ من الإحسان
القدر المستحب من الإحسان
أحوال ذكر الإحسان في القرآن الكريم
ذكر الإحسان مفرداً
ذكر الإحسان مقروناً بالإيمان
ذكر الإحسان مقروناً بالإسلام
ذكر الإحسان مقروناً بالتقوى
ذكر الإحسان مقروناً بالعمل
مرتبتا الإحسان:
المرتبة الأولى: (أن تعبد الله كأنك تراه)، وفيها مقام المشاهدة
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه)
الرد على ضلال الصوفية في الكلام على المشاهدة
رؤية الله تعالى في الدنيا ممتنعة
المرتبة الثانية: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وفيها مقام المراقبة
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
الإحسان يوجب خشية الله، وحسن العبادة
ذكر بعض أقوال السلف في معنى الإحسان
تفسير المثل الأعلى وعلاقته بالإحسان
أهمية استحضار قرب الله تعالى من العبد
أحاديث في الندب إلى استحضار قرب الله تعالى من العبد
أثر استحضار قرب الله تعالى من العبد
تنبيه على غلط من ساء فهمه لآيات المعية وأحاديثها
آثار عن السلف في استحضار قرب الله وذكر بعض أحوالهم
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالإحسان
ذكر بعض وصايا السلف
جزاء الإحسان وجزاء الكفار
الكلام على ذكر الساعة من الحديث
معنى قول جبريل - عليه السلام -: (أخبرني عن الساعة؟)
معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها)
معنى قوله: (فأخبرني عن أماراتها)
أمارات الساعة قسمان:
أمارات صغرى:
المراد بالأشراط الصغرى
مثال على الأشراط الصغرى
المذكور في الحديث من الأشراط الصغرى
أمارات كبرى
كون العمل من أشراط الساعة لا يدل على مدحه ولا ذمه في ذاته
ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -علامتين للساعة في هذا الحديث:
العلامة الأولى: أن تلد الأمة ربتها
معنى ولادة الأمة ربتها
العلامة الثانية: أن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان
معنى التطاول في البنيان
من فوائد حديث عمر - رضي الله عنه-:
حِرْصُ الصحابةِ على العِلْمِ.
مُلازَمَة الصحابة لمَجالسِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ.
بيان مراتب الدين
مِنْ أسبابِ تحصيلِ العلمِ السؤال
التحذيرُ من الاغترارِ بالدُّنيا
البدء بالأهم فالأهم عند طلب العلم
القرب من العالم والدنو منه
لا يعلم متى الساعة إلا الله تعالى
العناصر
جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث (حديث جبريل)
سبب تحديث ابن عمر - رضي الله عنهما- بهذا الحديث صفات جبريل - عليه السلام -
شرح قوله: (فأخبرني عن الإحسان...)
القدر المجزئ من الإحسان
القدر المستحب من الإحسان
أحوال ذكر الإحسان في القرآن الكريم
مرتبتا الإحسان:
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه)
الرد على ضلال الصوفية في الكلام على المشاهدة
رؤية الله تعالى في الدنيا ممتنعة
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
ذكر بعض أقوال السلف في معنى الإحسان
تفسير المثل الأعلى وعلاقته بالإحسان
أهمية استحضار قرب الله تعالى من العبد
أحاديث في الندب إلى استحضار قرب الله تعالى من العبد
أثر استحضار قرب الله تعالى من العبد
تنبيه على غلط من ساء فهمه لآيات المعية وأحاديثها
آثار عن السلف في استحضار قرب الله وذكر بعض أحوالهم
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالإحسان
ذكر بعض وصايا السلف
جزاء الإحسان وجزاء الكفار
الكلام على ذكر الساعة من الحديث
معنى قول جبريل - عليه السلام -: (أخبرني عن الساعة؟)
معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها)
معنى قوله:(فأخبرني عن أماراتها)
أمارات الساعة قسمان: صغرى، وكبرى
كون العمل من أشراط الساعة لا يدل على مدحه ولا ذمه في ذاته
ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -علامتين للساعة في هذا الحديث
معنى ولادة الأمة ربتها
معنى التطاول في البنيان
من فوائد حديث عمر - رضي الله عنه-