20 Oct 2008
الحديث الأول: حديث (إنما الأعمال بالنيات...)
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (1- عن أميرِ المؤمنينَ أبي حفصٍ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
رواه إماما المحدِّثينَ: أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ المغيرةِ ابنِ بَرْدِزْبَه البُخاريُّ.
وأبو الحُسَيْنِ مسلِمُ بنُ الحجَّاجِ بنِ مُسلمٍ القُشيْريُّ النَّيْسَابوريُّ في (صحيحيهما) اللَّذين هما أصحُّ الكتُبِ الْمُصَنَّفةِ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الحديث الأول
(عَنْ
أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ
تعالى عنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّمَا
الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ
وَرَسُوله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَة
يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (1)
رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد
بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَهْ البخاري، وأبو الحسين
مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري، في صحيحيهما اللَذين هما أصح
الكتب المصنفة.
الشرح:
عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ وهو أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
آلت إليه الخلافة بتعيين أبي بكر الصديق رضي الله عنه له، فهو حسنة من
حسنات أبي بكر، ونصبه في الخلافة شرعي، لأن الذي عينه أبو بكر، وأبو بكر
تعين بمبايعة الصحابة له في السقيفة، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر، ولقد
أحسن أبو بكر اختياراً حيث اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وفي قوله سَمِعْتُ
دليل على أنه أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، والعجب أن هذا
الحديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمر رضي الله عنه مع
أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة، ففي القرآن يقول الله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) [البقرة: الآية272] فهذه نية، وقوله تعالى:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ) [الفتح: الآية29] وهذه نيّة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((وَاعْلَمْ
أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا
أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ امْرَأَتِك)) (2)
فقوله: تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ
فهذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة، ولفظ الحديث انفرد
به عمر رضي الله عنه، لكن تلقته الأمة بالقبول التام، حتى إن البخاري رحمه
الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.
قوله : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى،
لهذه الجملة من حيث البحث جهتان: نتكلم أولاً على مافيه من البلاغة:
فقوله: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو:إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه،
وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس
فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائماً.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ من البلاغة: إخفاء نية من هاجر للدنيا، لقوله: فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ
ولم يقل: إلى دنيا يصيبها، والفائدة البلاغية في ذلك هي: تحقير ماهاجر
إليه هذا الرجل، أي ليس أهلاً لأن يُذكر، بل يُكنّى عنه بقوله: إلى ماهاجر
إليه.
وقوله: مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ الجواب: فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فذكره تنويهاً بفضله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ ولم يقل:إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، لأن فيه تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي: الدنيا أو المرأة.
* أما من جهة الإعراب، وهو البحث الثاني:
فقوله صلى الله عليه وسلم:إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ مبتدأ وخبر، الأعمال: مبتدأ، والنيات: خبره.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى أيضاً مبتدأ وخبر، لكن قُدِّم الخبر على المبتدأ؛ لأن المبتدأ في قوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، هو: مانوى متأخر.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هذه جملة شرطية، أداة الشرط فيها: مَنْ، وفعل الشرط: كانت، وجواب الشرط: فهجرته إلى الله ورسوله.
وهكذا نقول في إعراب قوله: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا .
أما في اللغة فنقول:
الأعمال جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.
فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.
الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، النيات: جمع نية وهي: القصد.
وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرّباً إلى الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولاتعلق للجوارح بها.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ أي لكل إنسانٍ مَا نَوَى أي ما نواه.
وهنا مسألة: هل هاتان الجملتان بمعنى واحد، أو مختلفتان؟
الجواب: يجب أن نعلم أن الأصل في
الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل.
ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء رحمهم الله في هذه
المسألة رأيان،
يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى
واحد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ
وأكد ذلك بقوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لامن باب التوكيد.
* والقاعدة: أنه إذا دار الأمر
بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً فإننا نجعله تأسيساً، وأن نجعل الثاني
غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن
نعرف السبب.
* والصواب: أن الثانية غير
الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو
المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا مافرعه عليه النبي
صلى الله عليه وسلم في قوله: فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وعلى هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
* وتمييز العادات من العبادات
مثاله:
- أولاً: الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله عزّ وجل في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) [الأعراف:الآية31] فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة
- ثانياً: الرجل يغتسل بالماء
تبرداً، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة، والثاني: عبادة،
ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه
ذلك، لأنه لابد من النية،وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات
أهل اليقظة عبادات. عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي
ويذهب على العادة. وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالاً لأمر
الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة.
ورجل آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا
لايؤجر، وآخرلبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه
غني، فهذا يؤجر.
ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو عبادة.
* تمييز العبادات بعضها من بعض
مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.
* إذاً المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات.
واعلم أن النية محلها القلب،
ولايُنْطَقُ بها إطلاقاً، لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي
الصدور، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من
لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من
يعلم ماتوسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك، وحاضرك. ولهذا لم يَرِدْ عن
رسول الله ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة
ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرّاً أو جهراً، خلافاً لمن قال من أهل
العلم: إنه ينطق بها جهراً، وبعضهم قال: ينطق بها سرّاً ، وعللوا ذلك من
أجل أن يطابق القلب اللسان.
ياسبحان الله، أين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ؟
لوكان هذا من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لفعله هو وبيّنه للناس، يُذكر
أن عاميّاً من أهل نجد كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر وإلى
جانبه رجل لايعرف إلا الجهر بالنيّة، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي
كان ينطق بالنية: اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر، أربع ركعات لله
تعالى، خلف إمام المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبّر قال له العامي: اصبر
يارجل، بقي عليك التاريخ واليوم والشهر والسنة، فتعجّب الرجل.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجّاً، ولبّيك اللهم عمرة وحجّاً، أليس هذا نطقاً بالنّية؟
فالجواب: لا، هذا من إظهار شعيرة
النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في
الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لولم تكبر تكبيرة الإحرام
للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن نقول ما قاله بعضهم:
اللهم إني أريد نسك العمرة، أو أريد الحج فيسّره لي، لأن هذا ذكر يحتاج إلى
دليل ولادليل. إذاً أنكر على من نطق بها، ولكن بهدوء بأن أقول له: يا أخي
هذه ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فدعْها.
فإذا قال: قالها فلانٌ في كتابهِ الفلاني؟ .
فقل له: القول ما قال الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، حيث تجد
رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب أو مما بين السماء
والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد شخصين يطلبان العلم في التّوحيد، أو الفقه، أو
التّفسير، أو الحديث، أحدهما بعيد من الجنّة والثاني قريب منها، وهما يقرآن
في كتاب واحد وعلى مدرّسٍ واحد. فهذا رجل طلب دراسة الفقه من أجل أن يكون
قاضياً والقاضي له راتبٌ رفيعٌ ومرتبة ٌرفيعة، والثاني درس الفقه من أجل أن
يكون عالماً معلّماً لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فبينهما فرق عظيم،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ طَلَبَ عِلْمَاً
وَهُوَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لا يُرِيْدُ إِلاِّ أَنْ
يَنَالَ عَرَضَاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ)) (3) ، أخلص النية لله عزّ وجل .
* ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالمهاجر فقال: فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ، الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.
وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب: أن الهجرة واجبة على كل
مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلا يتم إسلامه إذا كان لايستطيع
إظهاره إلا بالهجرة، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب. كهجرة المسلمين من
مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله، أي: يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[الأحزاب: الآية29] إذاً يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.
ويريد رسول الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنها
ويدعو إليها والذبّ عنه، ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله
تعالى يقول في الحديث القدسي: (( مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعَاً)) (4) فإذا أراد الله، فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل.
* وهنا مسألة: بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
والجواب: أما إلى شخصه فلا،
ولذلك لايُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه
تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه صلى الله عليه وسلم فهذا مما جاء
الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ لنصرة شريعة الرسول والذود عنها.
فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين، والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال
حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.
نظير هذا قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرسول) [النساء: الآية59]
إلى الله دائماً، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته، وإلى
سنّته بعد وفاته. فمن ذهب من بلدٍ إلى بلد ليتعلم الحديث، فهذا هجرته إلى
الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوّجها، بأن خطبها وقالت لا
أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي فهجرته إلى ماهاجر إليه.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا
بأن علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح، فهذا
هجرته إلى دنيا يصيبها، وليس له إلا ما أراد. وإذا أراد الله عزّ وجل ألا
يحصل على شيء لم يحصل على شيء.
قوله رحمه الله: (رواه إماما
المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه
البخاري من بخارى وهو إمام المحدّثين ومسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري
النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب المصنّفة؛ أي صحيح البخاري
وصحيح مسلم وهما أصحّ الكتب المصنّفة في علم الحديث، ولهذا قال بعض
المحدّثين: إن ما اتفقا عليه لايفيد الظن فقط بل يفيد العلم.
وصحيح البخاري أصحّ من صحيح مسلم، لأن البخاري - رحمه الله -
يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأما مسلم- رحمه الله
- فيكتفي بمطلق المعاصرة مع إمكان اللقيّ وإن لم يثبت لقيه، وقد أنكر على
من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكاراً عجيباً، فالصواب ما ذكره البخاري -
رحمه الله - أنه لابد من ثبوت اللقي. لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم - رحمه
الله - أحسن من سياق البخاري، لأنه - رحمه الله- يذكر الحديث ثم يذكر
شواهده وتوابعه في مكان واحد، والبخاري - رحمه الله - يفرِّق، ففي الصناعة
صحيح مسلم أفضل، وأما في الرواية والصحة فصحيح البخاري أفضل.
تشاجر قومٌ في البخاري ومسلم
وقالوا: أيّ ذين تقدّم؟
فقلت: لقد فاق البخاري صحة لديّ
كما فاق في حسن الصناعة مسلم
قال بعض أهل العلم: ولولا البخاري ما ذهب مسلم ولا راح، لأنه شيخه.
فالحديث إذاً صحيح يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينياً بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم .
من فوائد هذا الحديث:
1. هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولهذا قال العلماء:مدار الإسلام على حديثين: هما هذا الحديث، وحديث عائشة: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ)) (5) فهذا الحديث عمدة أعمال القلوب، فهو ميزان الأعمال الباطنة، وحديث عائشة: عمدة أعمال الجوارح،
مثاله: رجل
مخلص غاية الإخلاص، يريد ثواب الله عزّ وجل ودار كرامته، لكنه وقع في بدع
كثيرة. فبالنظر إلى نيّته:نجد أنها نيّة حسنة. وبالنظر إلى عمله: نجد أنه
عمل سيء مردود، لعدم موافقة الشريعة.
ومثال آخر: رجلٌ قام يصلّي على
أتمّ وجه، لكن يرائي والده خشية منه، فهذا فقد الإخلاص، فلا يُثاب على ذلك
إلا إذا كان أراد أن يصلي خوفاً أن يضربه على ترك الصلاة فيكون متعبّداً
لله تعالى بالصلاة.
2. من فوائد الحديث: أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض، والعبادات عن المعاملات لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
ولنضرب مثلاً بالصلاة، رجل أراد أن يصلي الظهر، فيجب أن ينوي الظهر حتى
تتميز عن غيرها. وإذا كان عليه ظُهْرَان، فيجب أن يميز ظهر أمس عن ظهر
اليوم، لأن كل صلاة لها نية.
ولو خرج شخصٌ بعد زوال الشمس من بيته متطهراً ودخل المسجد
وليس في قلبه أنها صلاة الظهر، ولا صلاة العصر، ولا صلاة العشاء، ولكن نوى
بذلك فرض الوقت، فهل تجزئ أو لا تجزئ؟
الجواب: على القاعدة التي ذكرناها سابقاً:لاتجزئ؛ لأنه لم يعين الظهر، وهذا مذهب الحنابلة.
وقيل تجزئ: ولايشترط تعيين المعيّنة، فيكفي أن ينوي الصلاة
وتتعين الصلاة بتعيين الوقت. وهذه رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-
فإذا نوى فرض الوقت كفى، وهذا القول هو الصحيح الذي
لايسع الناس العمل إلا به، لأنه أحياناً يأتي إنسان مع العجلة فيكبر ويدخل
مع الإمام بدون أن يقع في ذهنه أنها صلاة الظهر، لكن قد وقع في ذهنه أنها
هي فرض الوقت ولم يأتِ من بيته إلا لهذا، فعلى المذهب نقول: أعدها، وعلى
القول الصحيح نقول: لاتعدها، وهذا يريح القلب، لأن هذا يقع كثيراً، حتى
الإمام أحياناً يسهو ويكبر على أن هذا فرض الوقت، فهذا على المذهب لابد أن
يعيد الصلاة، وعلى القول الرّاجح لايعيد.
3. من فوائد الحديث:الحثّ على الإخلاص لله عزّ وجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الناس إلى قسمين:
قسم: أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة.
وقسم: بالعكس، وهذا يعني الحث على الإخلاص لله عزّ وجل .
والإخلاص يجب العناية به والحث عليه، لأنه هو الركيزة الأولى الهامة التي خلق الناس من أجلها، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]
4. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بتنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال:إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وهذا للعمل
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وهذا للمعمول له.
ثانيهما: تقسيم الهجرة إلى
قسمين: شرعية وغير شرعية، وهذا من حسن التعليم، ولذلك ينبغي للمعلم أن
لايسرد المسائل على الطالب سرداً لأن هذا يُنْسِي، بل يجعل أصولاً، وقواعد
وتقييدات، لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه، أما أن تسرد عليه المسائل فما
أسرع أن ينساها.
5. من فوائد الحديث: قرن الرسول
صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى بالواو حيث قال: إلى الله ورسوله ولم
يقل: ثم رسوله، مع أن رجلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم :مَا شَاءَ
اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: ((بَلْ مَاشَاءَ اللهُ وَحْدَه))(6) فما الفرق؟
والجواب: أما ما يتعلّق بالشريعة فيعبر عنه بالواو، لأن ماصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع كالذي صدر من الله تعالى كما قال: (مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) [النساء: الآية80]
وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يُقرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً، لأن كل شيء تحت إرادة الله تعالى ومشيئته.
فإذا قال قائلٌ: هل ينزل المطر غداً ؟
فقيل: الله ورسوله أعلم، فهذا خطأ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده علم بهذا.
مسألة: وإذا قال: هل هذا حرامٌ أم حلال ؟
قيل في الجواب: الله ورسوله أعلم، فهذا صحيح، لأن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية حكم الله تعالى كما قال عزّ وجل: (مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) [النساء: الآية80]
مسألة: أيهما أفضل العلم أم الجهاد في سبيل الله ؟
والجواب: العلم من حيث هو علم
أفضل من الجهاد في سبيل الله، لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم، وقد قال
الإمام أحمد: العلم لايعدله شيء لمن صحّت نيّته . ولايمكن أبداً أن يكون
الجهاد فرض عين لقول الله تعالى: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة:122]
فلوكان فرض عين لوجب على جميع المسلمين: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) [التوبة:122] أي وقعدت طائفة : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [التوبة:122]
ولكن باختلاف الفاعل واختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقّك
الجهاد، والآخر الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعاً قوياً نشيطاً وليس
بذاك الذكي فالأفضل له الجهاد؛ لأنه أليَق به، وإذا كان ذكيّاً حافظاً قوي
الحجة فالأفضل له العلم وهذا باعتبار الفاعل.
أما باعتبار الزمن فإننا إذا
كنّا في زمن كثر فيه العلماء واحتاجت الثغور إلى مرابطين فالأفضل الجهاد،
وإن كنّا في زمن تفشّى فيه الجهل وبدأت البدع تظهر في المجتمع وتنتشر
فالعلم أفضل، وهناك ثلاثة أمور تحتّم على طلب العلم:
1. بدع بدأت تظهر شرورها.
2. الإفتاء بغير علم .
3. جدل كثير في مسائل بغير علم .
وإذا لم يكن مرجّحاً فالأفضل العلم
6. ومن فوائد الحديث: أن الهجرة
هي من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله، وكل عمل يقصد به الله
ورسوله فإنه من الأعمال الصالحة لأنك قصدت التقرّب إلى الله والتقرب إلى
الله هو العبادة.
مسألة: هل الهجرة واجبة أم مستحبة ؟
الجواب: فيه تفصيل ،إذا كان
الإنسان يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولايجد من يمنعه في ذلك، فالهجرة
هنا مستحبة. وإن كان لايستطيع فالهجرة واجبة وهذا هو الضابط للمستحبّ
والواجب. وهذا يكون في البلاد الكافرة،
أما في البلاد الفاسقة -وهي التي
تعلن الفسق وتظهره- فإنا نقول: إن خاف الإنسان على نفسه من أن ينزلق فيما
انزلق فيه أهل البلد فهنا الهجرة واجبة، وإن لا، فتكون غير واجبة، بل نقول
إن كان في بقائه إصلاح، فبقاؤه واجب لحاجة البلد إليه في الإصلاح والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والغريب أن بعضهم يهاجر من بلد الإسلام إلى بلد
الكفر لأنه إذا هاجر أهل الإصلاح من هذا البلد، من الذي يبقى لأهل الفساد،
وربما تنحدر البلاد أكثر بسبب قلة أهل الإصلاح وكثرة أهل الفساد والفسق،
لكن إذا بقي ودعا إلى الله بحسب الحال فسوف يصلح غيره، وغيره، يصلح غيره
حتى يكون هؤلاء على أيديهم صلاح البلد، وإذا صلح عامة الناس فإن الغالب أن
من بيده الحكم سيصلح، ولو عن طريق الضغط، ولكن الذي يفسد هذا - للأسف -
الصالحون أنفسهم، فتجد هؤلاء الصالحين يتحزبون ويتفرقون وتختلف كلمتهم من
أجل الخلاف في مسألة من مسائل الدين التي يغتفر فيها الخلاف، هذا هو
الواقع، لاسيما في البلاد التي لم يثبت فيها الإسلام تماماً، فربما يتعادون
ويتباغضون ويتناحرون من أجل مسألة رفع اليدين في الصلاة، وأقرأ عليكم قصة
وقعت لي شخصياً في منى، في يوم من الأيام أتى لي مدير التوعية بطائفتين من
إفريقيا تكفّر إحداهما الأخرى، على ماذا ؟؟ قال: إحداهما تقول: السنة في
القيام أن يضع المصلي يديه على صدره، والأخرى تقول السنة أن يُطلق اليدين،
وهذه المسألة فرعية سهلة ليست من الأصول والفروع، قالوا: لا، النبي صلى
الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ)) (7) وهذا كفر تبرّأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فبناء على هذا الفهم الفاسد كفّرت إحداهما الأخرى.
فالمهم: أن بعض أهل الإصلاح في البلاد التي ليست مما قوي
فيها الإسلام يبدع ويفسق بعضهم بعضاً، ولو أنهم اتفقوا وإذا اختلفوا اتسعت
صدورهم في الخلاف الذي يسوغ فيه الخلاف وكانوا يداً واحدة، لصلحت الأمة،
ولكن إذا رأت الأمة أن أهل الصلاح والاستقامة بينهم هذا الحقد والخلاف في
مسائل الدين، فستضرب صفحاً عنهم وعما عندهم من خير وهدى، بل يمكن أن يحدث
ركوس ونكوس وهذا ماحدث والعياذ بالله، فترى الشاب يدخل في الاستقامة على أن
الدين خير وهدى وانشراح صدر وقلب مطمئن ثم يرى مايرى من المستقيمين من
خلاف حاد وشحناء وبغضاء فيترك الاستقامة لأنه ماوجد ماطلبه، والحاصل أن
الهجرة من بلاد الكفر ليست كالهجرة من بلاد الفسق،فيقال للإنسان: اصبر
واحتسب ولاسيما إن كنت مصلحاً،بل قد يقال: إن الهجرة في حقك حرام.
__________________________________________________________________________________________
(1)
رواه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حديث (1). ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه
وسلم إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، حديث
(1907) (155).
(2) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب ما جاء أن
الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، حديث (56). ومسلم: كتاب الوصية،
باب الوصية بالثلث، حديث (1628) (59).
(3) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، حديث رقم
(8438). بلفظ (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به
عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة) وابن ماجه: كتاب العلم، باب الانتفاع
بالعلم والعمل به، حديث(252). وأبو داود – كتاب: العلم، باب: في طلب العلم
لغير الله تعالى، (3664).
(4) رواه الأمام أحمد في المكثرين عن أبي هريرة، (2/413) حديث رقم (9340).
(5) رواه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا
على صلح جور فالصلح مردود، حديث (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب نقض
الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، حديث (1718) (17).
(6) رواه الإمام أحمد في مسند آل العباس عن
عبدالله بن عباس، حديث ( 1964). وأبو داود – كتاب: الأدب، باب: لا يقال
خبثت نفسي، (4980)، والنسائي في سننه الكبرى- كتاب: عمل اليوم والليلة، باب
النهي أن يقال ما شاء الله وشاء فلان، (10821)، والدارمي في سننه – كتاب:
الاستئذان، باب: في النهي عن أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، (2699).
(7) رواه البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في
النكاح، (5063). ومسلم (باختلاف): كتاب النكاحن باب استحباب النكاح لمن
تاقت نفسه. (1401)
شرح الأربعين النووية للشيخ المحدث: محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ حَمْدًا يَلِيقُ بهِ، والصلاةُ والسلامُ على حَبِيبِهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، أَمَّا بَعْدُ:
فهذا شرحٌ لطيفٌ على (الأربعينَ) الأحاديثِ التي جَمَعَهَا الفقيهُ مُحْيِي الدينِ أبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ شَرَفٍ النَّوَوِيُّ الشافعيُّ الزاهِدُ الوَرِعُ.
تَرْجَمَةُ الصَّحابيِّ رَاوِي الحَديثِ:
أميرُ المؤمنينَ أَبو حَفْصٍ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضيَ اللهُ تَعالى عنْهُ-، ابنِ نُفَيْلِ بنِ عبْدِ العُزَّى العَدَوِيُّ القُرَشِيُّ.
يَجْتَمِعُ معَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كعبِ بنِ لُؤَيٍّ.
كُنْيَتُهُ: أبو حَفْصٍ.وَلَقَبُهُ: الفاروقُ لِفُرْقَانِهِ بينَ الحقِّ والباطلِ بإِسْلاَمِهِ؛ إِذْ أَمْرُ المسلِمينَ كانَ قبْلَهُ على غايةِ الخَفَاءِ، وبعدَهُ على غايةِ الظُّهُورِ.
أَسْلَمَ بعدَ أربعينَ رَجُلاً وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً سَنَةَ ستٍّ منَ النُّبُوَّةِ.
وَبُويِعَ لَهُ بالخلاَفةِ يومَ موتِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يومَ الثُّلاَثَاءِ، لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ ثلاثَ عَشْرَةَ مِنَ الهجرةِ.
وَمَاتَ
شَهِيدًا في المدينَةِ، يومَ الأربِعاءِ لأربعٍ من ذِي الحِجَّةِ سنَةَ
ثَلاثٍ وعِشْرِينَ منَ الهِجْرَةِ، وهُوَ ابنُ ثلاثٍ وستِّينَ على الصَّحِيحِ.
الشَّرحُ:
قالَ مُنْفَرِدًا عنْ غَيرِهِ بهذَا الحديثِ : سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حالَ كَوْنِهِ يَقُولُ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) أَيْ: لا عِبْرَةَ للأعمالِ التي يُمْكِنُ أَنْ تكونَ مَحَلاًّ لِلثَّوَابِ عندَ اللهِ تَعَالَى إلاَّ بالنِّيَّاتِ.
فالمطْلُوبَاتُ:
- إنْ عُمِلَتْ للهِ تَعَالَى قُبِلَتْ.
- وإنْ عُمِلَتْ لغيرِهِ رُدَّتْ، وَرُبَّمَا اسْتَحَقَّ عامِلُها العِقَابَ.
- وإِنْ خَلَتْ عَن النِّيَّةِ صَارَتْ عَبَثًا.
والمُباحاتُ التي يُمْكِنُ أنْ يُتَوَصَّلَ بِهَا إلى الخَيْرات:
- إنْ فُعِلَتْ للتَّوصُّلِ إلى الشَّرِّ كانَتْ وَبَالاً على أَرْبَابِهَا.
- وإنْ خَلَتْ عنِ النِّيِّةِ كانَتْ عَبَثًا.
والمَنْهِيَّاتُ:
- إنْ تُرِكَتْ للهِ كانتْ حَسَنَاتٍ.
- وإنْ تُرِكَتْ لِغَيْرِهِ كانتْ مُهْمَلَةً.
- وإنْ فُعِلَتْ للهِ يُخَافُ على فَاعِلِهَا ذَنْبٌ عظيمٌ.
(( وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) لا مَا نَوَى غَيْرُهُ؛ لأنَّ عَمَلَ كلِّ عاملٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ لا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ.
فمِنْ هُنَا إذا عَرفْتَ ما تَقَدَّمَ، فَاعْلَمْ أنَّ: ((مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ)) تَرْكُهُ دارَ الكُفرِ والعصْيَانِ، للتَّوَجُّهِ ((إِلَى-مَحَلِّ رِضَا- اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)) لا إلى غَيْرِهَا، وهُو مَمْدُوحٌ على ذلكَ في الأُولَى والعُقْبَى، وَمُثَابٌ عليْهَا جَزَاءً حَسَنًا.
(( وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا))
-مِنْ غيرِ تَنْوِينٍ- ((دُنْيَا يُصِيبُهَا)) أيْ: يَقْصِدُ حُصُولَهَا أَصَابَهَا، أو لمْ يُصِبْهَا.
(( أَوْ)): كانَتْ هِجْرَتُهُ ((لاِمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا)) يُرِيدُ نِكَاحَهَا أَوْ لاَ، وإنَّمَا خَصَّ نِكَاحَ المرأةِ مع أنَّهُ منَ الدُّنيا؛ لأنَّه من أعظمِ أُمورِهَا ومَقَاصِدِهَا، وهذا مِن بابِ التخصيصِ بعدَ التعميمِ.
((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) من الدُّنْيَا والمَرْأَةِ، لا إلى اللهِ ورسولِهِ، وهوَ مَلُومٌ عليها غيرُ مُثَابٍ.
وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الدينِ،
يَنْبَغِي لكلِّ عبدٍ أنْ يُرِيدَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى في أعمالِهِ
مُجَانِبًا عَمَّا سِوَاهُ؛ إِذ المُخْلِصُ رابحٌ والمُرَائِي خَاسِرٌ، ولا يَتَأَتَّى الإخلاصُ إلاَّ مِمَّنْ يَعْلَمُ عَظَمَةَ اللهِ تَعَالى وَمُرَاقَبَتَهُ عَلى خَلْقِهِ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ: سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْمُقَدِّمَةُ
الحمدُ
للَّهِ الذي علَّمَ بالقلمِ، علَّمَ الإنسانَ ما لمْ يَعْلَمْ، وأشهدُ أنْ
لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، الذي أسبغَ علينا النِّعَمَ
وجعَلَنَا منْ خيرِ الأُممِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنَا مُحَمَّداً عبْدُهُ
ورسُولُهُ، رفَعَ اللَّهُ بهِ عن الأُمَّةِ السَّقَمَ، وأزالَ الصَّمَمَ،
صَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عليهِ كُلَّمَا زادَ العِلْمُ وقلَّ الجَهْلُ،
وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ ومَن اتَّبَعَ هُدَاهُ إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ
حاجةَ الناسِ اليومَ إلى العلمِ الشَّرْعِيِّ الذي يُنَوِّرُ البصائرَ،
ويُلِينُ القلوبَ، ويَهْدِي إلى الصراطِ المستقيمِ، فهوَ زادُ الأرواحِ،
وخيرُ الأرباحِ، والدليلُ على الفلاحِ.
وقدْ أنزلَ اللَّهُ الكُتُبَ للعلمِ والتعليمِ، وأرسلَ الرُّسلَ مُعَلِّمِينَ، ورفَعَ قَدْرَ العلماءِ، قالَ تعالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المُجَادَلَة: 11].
وخيرُ المَعادنِ مَعادِنُ العُلماءِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: ((... فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا)).
وقالَ: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
وتعليمُ العلمِ مِنْ أعظمِ القُرُبَاتِ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ الإنسانَ يَنَالُ بهِ الخشيَةَ، قالَ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28].
ويَكْثُرُ بهِ الأجرُ، قالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ
دَعَا إِلَى هُدًى فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ تَبِعَهُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً)).
ويَدومُ بهِ العملُ، قالَ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا
مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ
جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو
لهُ)).
ولأهَمِّيَّةِ العلمِ والتعليمِ سَاهَمْتُ بجُهْدِ المُقِلِّ، إذْ قُمْتُ بشرحِ (الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ)
في دَوْرَاتٍ علميَّةٍ في أَبْهَا ومُحَافَظَاتِهَا، وقدْ طَلَبَ مِنِّي
الكَثِيرُ منْ طُلاَّبِ العلمِ إخراجَ هذا الشرحِ في كتابٍ؛ ليكونَ أحفظَ
للعلمِ وأَدْعَى إلى نَشْرِهِ وتيسيرِ الحصولِ عليهِ، فَأَجَبْتُ لذلكَ، وسَمَّيْتُهُ: (الْمِنَنُ الرَّبَّانِيَّةُ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ).
أَسْأَلُ
اللَّهَ أنْ يَنْفَعَ بهذا العلمِ، وأنْ يَجْعَلَهُ خالصاً لوجْهِهِ
الكريمِ، وأنْ يجْعَلَهُ من العملِ الذي لا يَنْقطِعُ، وصَلَّى اللَّهُ
وَسَلَّمَ على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ.
قالَه بِلِسَانِهِ وكَتَبَهُ بقَلَمِهِ الفقيرُ إلى عَفْوِ رَبِّهِ سَعْدُ بنُ سَعِيدٍ الحَجَرِيُّ
أَبْهَا آلُ غَلِيظٍ 11/5/1422هـ ترجمةُ الإمامِ النَّوَوِيِّ: وَفَاتُهُ: *** مَكَانَةُ الحديثِ ومَنْزِلَتُهُ في الدِّينِ: وقيلَ: بلْ هوَ ثُلُثُ الدِّينِ معَ حديثِ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ...))الحديثَ. هوَ أميرُ المؤمنينَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ بنِ نُفَيْلٍ القُرَشِيُّ العَدَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهُ، أسلمَ في السنةِ السادسةِ مِن البَعْثةِ بعدَ حمزةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ منْ تَأَثُّرِهِ بالقرآنِ، وَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وكانَ وَرِعاً تَقِيًّا شُجاعاً. أَهَمِّيَّةُ النِّيَّةِ في العملِ. - هِرَقْلُ لِمَلِكِ الرُّومِ. - والنَّجَاشِيُّ لِمَلِكِ الحبشةِ. ولا بالصومِ التخفيفَ من الوزنِ. وشَرْعاً: مُفَارَقَةُ دارِ الكُفْرِ إلى دارِ الإسلامِ خوفَ الفتنةِ على الدِّينِ. والمُهَاجِرُ أقسامٌ: (إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ): أيْ: إلى دِينِ اللَّهِ تعالى والوصولِ إلى رِضْوَانِهِ والجَنَّةِ. ومعنى الهجرةِ لهُ: ولهُ حَيَاتَانِ: - على العَقْدِ. الفوائدُ: 2- مَشْرُوعِيَّةُ التَّرَضِّي عن الصَّحَابَةِ خَبَراً، وعنْ غَيْرِهِم إِنْشَاءً. فائدةٌ: 1- الهَاجِسُ.
وأُحِيطُ القارئَ عِلْماً أَنَّنِي لمْ أُورِدْ إلاَّ حديثاً صحيحاً،
وإنْ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ حَذَفْتُهُ أوْ بَيَّنْتُ عِلَّتَهُ، وقد
اجْتَهَدْتُ في ذلكَ ما اسْتَطَعْتُ، وما تَوْفِيقِي إلاَّ باللَّهِ عليهِ
تَوَكَّلْتُ وإليهِ أُنِيبُ. بِسْمِ اللَّهِ الَّرحْمَنِ الرَّحِيمِ(المِنَنُ الرَّبَّانِيَّةُ في شرحِ الأربعينَ النَّوَوِيَّةِ)
سُمِّيَت (الأربعينَ النَّوَوِيَّةَ)؛ لأنَّها جُمِعَتْ من اثْنَيْنِ وأربعينَ حديثاً، والذي دَعَا المُؤَلِّفَ إلى جَعْلِهَا أربعينَ فقطْ؛ إشارةً إلى حديثٍ ضعيفٍ، وهوَ: ((مَنْ
حَفِظَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثاً مِنْ أَمْرِ دِينِهَا بَعَثَهُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زُمْرَةِ الْفُقَهَاءِ)).
واعْتَذَرَ بعدَ ذلكَ لضعفِ الحديثِ، وقالَ: (مَا فَعَلْتُ ذلكَ إلاَّ لحديثِ: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)).
ولحديثِ: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءاً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا)).
وقدْ زادَ عليها ابنُ رَجَبٍ ثمانيَةَ أحاديثَ في (جَامِعِ العُلُومِ والحِكَمِ)؛ ليكونَ المجموعُ خمسينَ حَدِيثاً.
هوَأَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ شَرَفِ بنِ مَقْرِي بنِ حسنٍ النَّوَوِيُّ نسبةً
إلى نَوَى، وهيَ قريَةٌ منْ قُرَى حَوْرَانَ في سُورِيَّا، وُلِدَ في
شهرِالمُحَرَّمِ من العامِ الواحدِ والثلاثينَ بعدَ السِّتِّمِائَةِ
لِلْهِجْرَةِ منْ أَبَوَيْنِ صَالحيْنِ، وقدْ جدَّ في الطلبِ حتَّى حازَ
قَصَبَ السَّبْقِ في ذلكَ.
أَوَّلاً: العلمُ.
وتَمَيَّزَ عِلْمُهُ بثلاثةِ أُمُورٍ:
1- الجِدُّ في طلبِ العلمِ قِراءةً وسماعاً وتِرْحَالاً، حتَّى وَجَدَ لَذَّاتِهِ، وكانَ لهُ في اليومِ اثْنَا عشرَ دَرْساً.
2- سَعَةُ عِلْمِهِ وثَقَافَتِهِ؛ إذْ إنَّ لهُ دُرُوساً في مُخْتَلَفِ الفُنونِ.
3- غَزَارَةُ إِنْتَاجِهِ وتَأْلِيفِهِ، فَلَهُ (شَرْحُ مُسْلِمٍ)، و(المجْمُوعُ)، و(رِيَاضُ الصالحِينَ)، و(الأرْبَعِينَ)، وغَيْرُها.
ثانياً: الزُّهْدُ في الدُّنيا بجميعِ ما فيها والعملُ للآخرةِ.
ثالثاً: الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ والدعوةُ إلى اللَّهِ تعالى.
الحديثُ الأوَّلُ
وقيلَ: رُبْعُهُ
وقيلَ غيرُ ذلكَ.
وهذا الحديثُ يُمَثِّلُ الشرطَ الأَوَّلَ منْ شُرُوطِ قَبُولِ العملِ، وهوَ الإخلاصُ للَّهِ ربِّ العالمينَ.
تَرْجَمَةُ الرَّاوِي:
وافقَ رَبَّهُ في ثلاثةِ مَوَاضِعَ:
- والحِجابِ.
- وأَسْرَى بَدْرٍ.
وقيلَ: في قولِهِ تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ}الآيَةَ [التحريم: 5].
تولَّى الخلافةَ بعدَ أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ. وهوَ:
- أَوَّلُ خليفةٍ دُعِيَ بأميرِ المؤمنينَ.
- وأَوَّلُ مَنْ أرَّخَ بالهجرةِ.
- وأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الناسَ على صلاةِ التراويحِ.
- وأَوَّلُ مَنْ عَسَّ (وَهِيَ: حراسةُ المدينَةِ).
- وأَوَّلُ مَنْ حملَ الدِّرَّةَ وأدَّبَ بها، وفتحَ الفتوحَ ودَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، ومَنَاقِبُهُ كثيرةٌ.
اسْتُشْهِدَ في العامِ الثالثِ والعشرينَ من الهجرةِ على يَدِ المَجُوسِيِّ أبي لُؤْلُؤَة.
موضوعُ الحديثِ:
المُفْرَدَاتُ:
(أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ) لَقَبٌ يُلَقَّبُ بهِ الخليفةُ الذي يَتَوَلَّى إِمْرَةَ المؤمنينَ.
- وفِرْعَوْنُ لِمَلِكِ مِصْرَ.
- وتُبَّعٌ لِمَلِكِ اليمنِ.
(أبي حَفْصٍ) الحفصُ هوَ: الأَسَدُ، ويُقالُ لهُ: أبو الحارثِ، وهوَ كُنْيَةٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ؛ لِشَجَاعَتِهِ وإِقْدَامِهِ؛ إذْ حَتَّى الجِنُّ تَهَابُهُ وتَفِرُّ منهُ وتَسْلُكُ غيرَ سَبِيلِهِ.
- لأنَّهُ مُبَشَّرٌ بالجَنَّةِ.
- ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى قَصْرَهُ في الجَنَّةِ.
- ولأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ...} الآيَةَ [الفتح: 18]، وكانَ عمرُ منهم.
(سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ)
(سَمِعْتُ) إِحْدَى صِيَغِ أداءِ الحديثِ، بلْ هيَ أَعْلاها وأقْوَاها وأَثْبَتُها، ومِثْلُها حَدَّثني.
- ويَلِيهَا: قَرَأْتُ على الشيخِ ، وأَخْبَرَنِي قراءةً عليهِ وأَخْبَرَنِي.
- ويَلِيهَا: قرأَ عليهِ وأنا أَسْمَعُ وقَرَأْنَا عليهِ وأَخْبَرَنَا.
- ويَلِيهَا: أَخْبَرَنِي إِجَازَةً وحَدَّثَنِي إجازةً وأَنْبَأَنِي عنْ فلانٍ...
(إِنَّمَا): أداةُ حصرٍ تفيدُ ثبوتَ الحكمِ في المحصورِ وتُقَوِّي الحكمَ المذكورَ بعْدَها وتُؤَكِّدُهُ.
والحصرُ: هوَ تخصيصُ شيءٍ بشيءٍ.
(الأعمالُ): جَمْعُ عملٍ، و(أَلْ) للجِنْسِ؛ أيْ: جنسِ الأعمالِ، فَتَدْخُلُ فيهِ جميعُ الأعمالِ.
والعملُ: هوَ ما يَقومُ بهِ الإنسانُ مِنْ قولٍ أوْ فعلٍ أوْ تَرْكٍ مقصودٍ، مثلُ قراءةِ القرآنِ، والوضوءِ، وتركِ السرقةِ قَصْداً.
(بِالنِّيَّاتِ): جمعُ نِيَّةٍ.
والنِّيَّةُ: هيَ القصدُ؛ أيْ:
يَقْصِدُ الشيءَ مُقْتَرِناً بعَمَلِهِ، فقدْ يَقْصِدُ بالعملِ رِيَاءً
أوْ سُمْعَةً أوْ مَالاً أوْ مَنْصِباً أوْ دُنْيَا أوْ غَيْرَها.
ومَحَلُّ النِّيَّةِ القلبُ، فلا تَخْرُجُ من القلبِ، ولوْ تَلَفَّظَ بها لكانَ مُبْتَدِعاً، فلا يقولُ: نَوَيْتُ الصلاةَ أوِ الزكاةَ أوْ نَحْوَهَا.
والباءُ للمُصَاحَبَةِ؛ أيْ: أنَّ النِّيَّةَ تُصَاحِبُ العملَ.
فلا يُرادُ من الوضوءِ النظافةُ بل العبادةُ، وأنْ يكونَ لِلَّهِ.
ولا يريدُ بالصلاةِ الرياضةَ.
ولا بالحَجِّ السياحةَ والنُّزْهةَ، وإنَّما لأجلِ اللَّهِ تعالى.
وقدْ رُوِيَت (بِالنِّيَّةِ) بلفظِ الإفرادِ، و(أَلْ) فيها للجنسِ، وليسَ المرادُ بها العهدَ ولا التعريفَ بمعنى الجمعِ.
والنِّيَّةُ تقعُ في كلامِ العلماءِ بمَعْنَيَيْنِ:
أَوَّلاً: تمييزُ العباداتِ بَعْضِها عنْ بعضٍ؛ كَتَمْيِيزِ الظُّهْرِ عن العَصْرِ، والفرضِ عن النفلِ، ونحوِ ذلكَ.
(وإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى)
(امْرِئٍ) أيْ: إنسانٍ، فيَشْملُ الذَّكَرَ والأُنْثَى.
ولا يَخْتَصُّ بالذَّكَرِ؛ لأنَّ الأحكامَ عامَّةٌ للمُكَلَّفِينَ.
(مَا نَوَى): أي: الذي نَوَى وقصدَ، فإنْ أرادَ عبادةً كانتْ عبادةً، وإنْ أرادَ غيرَ ذلكَ فهوَ بِنِيَّتِهِ.
(فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ)
الهِجرةُ في اللُّغةِ: التَّرْكُ،مِنْ قَوْلِكَ: هَجَرْتُ كذا؛ أيْ: تَرَكْتُهُ.
أَوَّلاً: هجرةُ المَكانِ، إذا انتقلَ المسلمُ منْ بلدِ الكفرِ أوْ بلدِ الفسوقِ والعصيانِ إلى بلدٍ لا يكونُ فيهِ شيءٌ منْ ذلكَ.
وتكونُ واجبةً إذا كانَ الإنسانُ لا يَسْتَطِيعُ إظهارَ دِينِهِ.
أَمَّا إذا كانَ يستطيعُ فلا تَجِبُ، بلْ تكونُ مُسْتَحَبَّةً.
وأَمَّا عكسُ الهجرةِ وهوَ الانتقالُ منْ بلدِ الإسلامِ إلى بلدِ الكفرِ
فَيَجُوزُ بثلاثةِ شروطٍ:
(أ) أنْ يكونَ عِنْدَهُ علمٌ يَدْفَعُ بهِ الشُّبُهَاتِ، ويَدْحَضُ بهِ حُجَجَ الأعداءِ، ويُظْهِرُ بهِ دِينَ الحقِّ.
(ب) أنْ يكونَ عِنْدَهُ دِينٌ يَحْمِيهِ من الشَّهَوَاتِ.
(ج) أنْ يكونَ في حاجةٍ إلى ذلكَ؛ كالمرضِ أوْ عِلْمٍ لا يُوجَدُ إلاَّ في بلدِ الكفرِ والحَاجَةُ تَدْعُو لهُ، أوْ ما شَابَهَ ذلكَ.
ثانياً: هِجْرةُ العملِ، وهوَ أنْ يَهْجُرَ الإنسانُ ما نَهَى اللَّهُ عنهُ مِن المعاصي والفُسوقِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)).
ثالثاً: هِجْرةُ العاملِ؛ أيْ: هَجْرُ الإنسانِ لأهلِ المعاصي.
وهذهِ قدْ تَجِبُ إذا تَرَتَّبَ عليها مَصْلَحَةٌ
كهجرِ أهلِ الفسوقِ والعصيانِ الذينَ يُجَاهِرُونَ بالمعصيَةِ، وأَمَّا إذا لمْ يَتَرَتَّبْ مصلحةٌ فلا.
فهوَ المؤمنُ باللَّهِ حَقًّا والمُخْلِصُ في هِجْرَتِهِ.
(ب) مَنْ هاجرَ لأجلِ مالٍ؛ إذْ سَمِعَ بِوُجُودِ رِبْحٍ في بلدِ الإسلامِ، فَهِجْرَتُهُ للمالِ.
(ج) مَنْ هَاجَرَ لأجلِ امرأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ للنِّكَاحِ.
- وأَمَّا بعدَ مَوْتِهِ: فالهجرةُ إلى اتِّبَاعِهِ ومكانِ إقامةِ شَرْعِهِ.
(فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)
أيْ: قدْ بَلَغَ الغايَةَ التي لا أَسْمَى منها ولا أجلَّ، وهيَ الوصولُ إلى اللَّهِ ورسُولِهِ.
وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ مَنْ أرادَ اللَّهَ ورسُولَهُ فهوَ بِنِيَّتِهِ، ومَنْ أرادَ غيرَ اللَّهِ فهوَ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ.
(دُنْيَا يُصِيبُهَا) الدُّنْيَا: هيَ الحياةُ الأُولَى مِنْ حياةِ الإنسانِ.
وسُمِّيَتْ دُنْيَا:
- من الدُّنُوِّ: وهوَ القُرْبُ.
- أوْ لِدَنَاءَتِهَا؛ إذْ هيَ كَظِلِّ شجرةٍ أوْ كسحابةِ صَيْفٍ.
وهيَ سِتَّةُ أشياءَ:
- طَعَامٌ.
- وشَرَابٌ.
- ولِبَاسٌ.
- ومَشْمُومٌ.
- ومَنْكُوحٌ.
- ومَرْكُوبٌ.
ومعنى (يُصِيبُهَا) أيْ: يَنالُ منها مالاً أوْ شَرَفاً أوْ رِيَاسَةً أوْ غيرَ ذلكَ.
(أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا): المرأةُ: هيَ الأُنْثَى مِن البَشَرِ.
والنكاحُ: هوَ الزَّوَاجُ.
وهوَ لُغَةً: الضَّمُّ والجمعُ بينَ الشَّيْئَيْنِ، ويُطْلَقُ:
وكلُّ نِكَاحٍ في القرآنِ فهوَ بمَعْنَى العَقْدِ، إلاَّ قَوْلَهُ تعالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ}[البقرة: 230]، فالمُرَادُ بهِ الوَطْءُ.
وَاصْطِلاحاً: عَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ الصحيحُ.
وخَصَّ المرأةَ معَ أنَّها مِنْ مَتاعِ الدُّنْيَا؛ لكثرةِ تَعَلُّقِ الرغباتِ فيها، فكأنَّها هيَ في كِفَّةٍ وسائرَ متاعِ الدُّنيا في كِفَّةٍ.
(فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هاجرَ إِلَيْهِ): أيْ: فَهِجْرَتُهُ إلى الدُّنيا والمَرْأةِ.
ولَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُمَا كذِكْرِ الهجرةِ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ؛ تَحْقِيراً لشَأْنِهِمَا في أنْ يَكُونَا مُرَادَ المهاجرِ، وبَيَاناً لانحطاطِ مَرْتَبَةِ مُرِيدِهِما بالهجرةِ.
4- النِّيَّةُ رُكْنٌ في جميعِ الأعمالِ.
5- أنَّ النِّيَّةَ بالقصدِ فقطْ لا باللفظِ.
6- النهيُ عن التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ؛ لأنَّ ذلكَ مِن البِدَعِ.
7- الحَثُّ على إِخْلاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
8- الإِخْلاصُ عَلامَةٌ مِنْ علاماتِ قَبُولِ العملِ.
9- عدمُ الإخلاصِ علامةٌ على رَدِّ العملِ.
10- التحذيرُ منْ إرادةِ الدُّنيا بعملِ الآخرةِ.
11- الناسُ يَتَفَاوَتُونَ في نِيَّاتِهِمْ، ولِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.
12- أفضلُ الهجرةِ ما كانَ مِنْ أَجْلِ اللَّهِ.
13- فَضْلُ شَدِّ الرِّحَالِ لِنَيْلِ رِضْوَانِ اللَّهِ.
14- مَشْرُوعِيَّةُ الانتقالِ إلى أهلِ العلمِ والأخذِ عنهم.
15- هَجْرُ أَمَاكِنِ الفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
16- الحَذَرُ مِن السفرِ إلى بلادِ الانحلالِ.
17- جَوَازُ هَجْرِ أهلِ المَعَاصِي.
18- الحذرُ مِن الاغترارِ بالدُّنْيَا.
19- الأمرُ بِغَضِّ الأبْصَارِ عن المُحَرَّمَاتِ.
20- مِنْ أعظمِ الفِتَنِ على الرجالِ النساءُ.
21- الإخلاصُ شَرْطٌ مِنْ شروطِ قَبُولِ العملِ.
22- حُسْنُ تعليمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكمالُ بَلاغَتِهِ؛ حيثُ يَذْكُرُ الأصولَ والقواعدَ الكُلِّيَّةَ ثمَّ يُوَضِّحُها بالمثالِ.
وهُمَا لا يُكْتَبَانِ حسنةً ولا سَيِّئَةً.
3- حديثُ النفسِ، ويُكْتَبُ أجراً ولا يُكْتَبُ وِزْراً.
4- العَزْمُ والتَّصْمِيمُ، ويُكْتَبُ حَسَنَةً وسَيِّئَةً، والدليلُ الحديثُ: ((إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ...)) الحديثَ.
قواعد وفوائد من الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: ناظم بن سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
هذا الْحَدِيثُ مِن جَوامعِ كَلِمهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَنْهُ الإمامُ الشَّافعيُّ رحِمَهُ اللَّهُ: (حديثُ
النِّيَّةِ يَدْخُلُ فِي سبعينَ بابًا مِن الفقهِ، وَمَا تَرَكَ
لِمُبْطِلٍ، وَلا مُضَارٍّ، وَلا مُحتالٍ حُجَّةً إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى).
وَقَد قَالَ النَّوَوِيُّ: (لَم يُرِدِ الشَّافعيُّ رحمَهُ اللَّهُ انْحِصَارَ أبوابِهِ فِي هَذَا الْعَدَدِ، فإنَّها أَكْثَرُ مِن ذَلِكَ).
وَقَالَ الشـَّوكانيُّ رحمَهُ اللَّهُ: (وَهَذَا الْحَدِيثُ قاعدةٌ مِن قواعدِ الإِسْلامِ؛ حتَّى قِيلَ: إنَّهُ ثُلُثُ العِلْمِ).
وَقَالَ كَذلِكَ:(وَهُو علَى انفرادِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُفْرَدَ لَه مُصَنَّفٌ مُستقِلٌّ).
ومِنْ تعظيمِ العُلماءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ رَأَوُا البَداءَةَ بِه فِي مُصنَّفَاتِهِم؛ وَذَلِكَ تَنبيهًا لطالبِ العِلْمِ إِلَى تصحِيحِهِ نيَّتَهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحمنِ بْنُ مَهدِيٍّ: (مـَنْ أرادَ أَنْ يُصَنِّفَ كِتابًا فلْيَبْدَأْ بِهَذَا الْحَدِيثِ).
عَمِلَ بِهَذِهِ النَّصيحةِ:
ومعنَى الْحَصْرِ فِيهَا:
(إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي المذكورِ، ونفيُهُ عمَّا عدَاهُ).
- قَالَ النَّوويُّ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: (وَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فمِ الزَّوجةِ يَقَعُ غالبًا فِي حَالِ الْمُدَاعَبَةِ، ولِشَهْوَةِ النَّفسِ فِي ذَلِك مَدْخَلٌ ظاهِرٌ، وَمَعَ ذلِكَ إِذَا وَجَّهَ القَصْدَ فِي تِلْك الْحَالِ إِلَى ابتغاءِ الثَّوابِ حَصَلَ لَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ).
- وقالَ السَّيوطيُّ: (ومِن أَحْسَنِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أنَّ الْعَبْدَ يَنالُ أَجْرًا بالنِّيَّةِ الصَّالحةِ فِي المباحاتِ والعاداتِ، قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))، فهذه يُـثَابُ فاعلُها إِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقرُّبَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ لَم يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلا ثَوابَ لَهُ...).قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَلَيْسَ كَانَ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ لَهُ أَجْرٌ)).
ولو قُدِّرَ للنَّاسِ أَنِ امتنعُوا عَن الزَّواجِ، والتِّجارةِ، والزِّراعةِ، والصِّناعةِ، يُعَدُّونَ بِذَلِك آثمينَ؛ لأنَّ هَذِه الأَشْيَاءَ مطلوبةٌ بالكلِّ.
مِنْ فوائدِ الْحَدِيثِ:
جامع العلوم والحكم للحافظ: عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ
للَّهِ الَّذي أكْمَلَ لنَا الدِّينَ، وأَتَمَّ علينا النِّعْمَةَ،
وجَعَلَ أُمَّتَنَا -وللَّهِ الحمدُ- خَيْرَ أُمَّةٍ، وبَعَثَ فِينا
رَسولاً منَّا يَتْلُو عَلَيْنَا آياتِهِ، ويُزَكِّينَا ويُعَلِّمُنَا
الكِتَابَ والحِكْمَةَ، أَحْمَدُهُ على نِعَمِهِ الجَمَّةِ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، شَهَادَةً تكونُ لِمَن اعْتَصَمَ بها خَيْرَ عِصْمَةٍ.
وأَشْهَدُ
أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، أرْسَلَهُ للعالَمِينَ رَحْمَةً،
وفَوَّضَ إليهِ بيانَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنا، فأَوْضَحَ لَنا كُلَّ الأمورِ
المُهِمَّةِ، وخَصَّهُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، فَرُبَّما جَمَعَ أَشْتَاتَ
الْحِكَمِ والعُلومِ في كَلِمَةٍ، أوْ في شَطْرِ كَلِمَةٍ، صلَّى اللَّهُ
عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ صلاةً تكونُ لنا نُورًا مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ،
وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا
بَعْدُ: فإنَّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجَوَامِعِ الكَلِمِ، وخَصَّهُ ببَدَائِعِ الْحِكَمِ،
كما في (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ)).
قالَ الزُّهْرِيُّ: (جَوَامِعُ الكَلِمِ
-فِيمَا بَلَغَنَا- أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الأُمورَ الكثيرةَ التي
كانَتْ تُكْتَبُ في الكُتُبِ قبلَهُ في الأمْرِ الوَاحِدِ وَالأَمْرَيْنِ،
وَنَحْوُ ذَلِكَ).
- وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالمُوَدِّعِ، فَقَالَ:
((أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ -قالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ-
وَلا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ
وَجَوَامِعَهُ))وذَكَرَ الحديثَ.
- وخرَّجَ أبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ مِنْ حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا)).
- وخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا)).
-
ورُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ إسحاقَ القُرَشِيِّ، عنْ أبي
بُرْدَةَ، عنْ أبي موسَى قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ)).
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ).
- وفي
(صحيحِ مسلمٍ): عنْ سعيدِ بنِ أبي بُرْدَةَ بنِ أبي مُوسَى، عنْ أبِيهِ،
عنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ
عَن البِتْعِ وَالمِزْرِ، قَالَ: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ،
فَقَالَ: ((أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاةِ)).
ورَوَى
هشامُ بنُ عمَّارٍ في كتابِ (المَبْعَثِ) بإسنادِهِ عنْ أبي سلامٍ
الْحَبَشِيِّ قالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ، وَلا فَخْرَ))، فذَكَرَ مِنها قَالَ: ((وَأُعْطِيتُ
جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا
بِاللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ، فَجَمَعَهَا لِي رَبِّي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1].
فجوامِعُ الكَلَمِ التي خُصَّ بها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ:
أحَدُهُمَا: ما هوَ في القرآنِ، كقولِهِ عزَّ وجَلَّ:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
قالَ الحَسَنُ: (لمْ تَتْرُكْ هَذِهِ الآيَةُ خَيْرًا إلا أَمَرَتْ بِهِ، وَلا شَرًّا إِلا نَهَتْ عَنْهُ).
والثَّاني:
ما هوَ في كلامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ مُنْتَشِرٌ
موجودٌ في السُّنَنِ المأثورَةِ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقدْ جَمَعَ العُلَمَاءُ جُمُوعًا منْ كَلِمَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامِعَةِ.
- فصنَّفَ الحافِظُ أبو بكرِ بنُ السُّنِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ: (الإيجازُ وجوامِعُ الكَلِمِ مِن السُّنَنِ المأْثُورَةِ).
-
وجَمَعَ القاضِي أبو عبدِ اللَّهِ القُضَاعِيُّ مِنْ جوامِعِ الكَلِمِ
الوَجِيزَةِ كِتابًا سمَّاهُ: (الشِّهَابُ في الحِكَمِ والآدَابِ)، وصنَّفَ
عَلَى مِنْوَالِهِ قَوْمٌ آخرونَ، فزادُوا على ما ذَكَرَهُ زيادَةً
كثيرةً.
- وأشارَ الخَطَّابِيُّ في أوَّلِ كتابِهِ (غريبِ الحديثِ) إلى يَسِيرٍ من الأحاديثِ الجامِعَةِ.
-
وأمْلَى الإمامُ الحافِظُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ مَجْلِسًا سَمَّاهُ
(الأحاديثَ الكُلِّيَّةَ)، جَمَعَ فيهِ الأحادِيثَ الجوامِعَ الَّتي
يُقالُ: إِنَّ مَدارَ الدِّينِ عليها، وما كانَ في معْنَاهَا مِن الكلماتِ
الجامِعَةِ الوجيزةِ، فاشْتَمَلَ مجلِسُهُ هذا على سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ
حديثًا.
ثمَّ
إنَّ الفَقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى
النَّوَوِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَخَذَ هذهِ الأحاديثَ التي
أَمْلاها ابنُ الصَّلاحِ وزَادَ عليها تَمَامَ اثنيْنِ وأربعينَ حَدِيثًا،
وسَمَّى كتابَهُ (بالأرْبَعِينَ).
واشْتُهِرَتْ
هذهِ الأربعونَ التي جَمَعَها، وَكَثُرَ حِفْظُها، ونَفَعَ اللَّهُ بهَا
بِبَرَكَةِ نِيَّةِ جامِعِها وحُسْنِ قَصْدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقدْ
تَكَرَّرَ سؤالُ جماعةٍ منْ طَلَبَةِ العِلْمِ والدِّينِ لتعليقِ شَرْحٍ
لهذِهِ الأحاديثِ المُشارِ إليها، فاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سبحَانَهُ وتعالَى
في جَمْعِ كتابٍ يَتَضَمَّنُ شَرْحَ ما يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تعالَى مِنْ
مَعَانِيها، وتَقْييدَ ما يَفْتَحُ بِهِ سُبْحانَهُ منْ تَبْيِينِ
قواعِدِها وَمَبَانِيهَا.
وإيَّاهُ
أَسألُ العَوْنَ على ما قَصَدْتُ، والتَّوْفِيقَ لصلاحِ النِّيَّةِ
والقَصْدِ فيما أَرَدْتُ، وَأُعَوِّلُ في أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْهِ،
وأَبْرَأُ مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ إِلا إِليهِ.
وقدْ
كانَ بعضُ مَنْ شَرَحَ هذِهِ الأربعينَ قدْ تَعَقَّبَ على جامِعِهَا
رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْكَهُ لحديثِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا،
فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ))، قالَ: (لأنَّهُ
جامِعٌ لقواعِدِ الفرائِضِ التي هيَ نِصْفُ العِلْمِ، فكانَ يَنْبَغِي
ذِكْرُهُ في هذهِ الأحاديثِ الجامِعَةِ).
كما ذَكَرَ حديثَ: ((الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ))؛ لجَمْعِهِ لأحكامِ القَضَاءِ.
- حديثُ: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)).
- حديثُ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)).
- حديثُ:((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
- حديثُ: ((مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)).
- حديثُ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا)).
- حديثُ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ)).
- حديثُ: ((لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وسَمَّيْتُهُ:(جَامِعَ العُلُومِ والحِكَمِ في شَرْحِ خمسينَ حديثًا منْ جوامِعِ الكَلِمِ).
واعْلَمْ
أنَّهُ ليسَ غَرَضِي إلا شْرْحُ الألفاظِ النَّبَوِيَّةِ التي
تَضَمَّنَتْهَا هذِهِ الأحاديثُ الكُلِّيَّةُ؛ فلذلكَ لا أَتَقَيَّدُ
بألفاظِ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَرَاجِمِ رُوَاةِ هذِهِ الأحاديثِ مِن
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ولا بألْفَاظِهِ في العَزْوِ إلى
الكُتُبِ التي يَعْزُو إليها، وإنَّما آتِي بالمَعْنَى الذي يَدُلُّ على
ذلكَ؛ لأَنِّي قدْ أَعْلَمْتُكَ أنَّهُ ليسَ لي غَرَضٌ إلا في شَرْحِ معاني
كلماتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجوامِعِ، وما
تَضَمَّنَتْهُ مِن الآدَابِ وَالحِكَمِ وَالمَعَارِفِ وَالأَحْكَامِ
وَالشَّرَائِعِ.
وأُشِيرُ إشارةً لطيفَةً قبلَ الكلامِ في شرحِ الحديثِ إلى إسنادِهِ ؛ لِيُعْلَمَ بذلكَ صِحَّتُهُ وقُوَّتُهُ وضَعْفُهُ.
وأَذْكُرُ
بعضَ ما رُوِيَ في معناهُ من الأحاديثِ إنْ كانَ في ذلكَ البابِ شَيْءٌ
غيرُ الحديثِ الذي ذَكَرَهُ الشيخُ، وإنْ لمْ يكُنْ في البابِ غَيْرُهُ،
أوْ لمْ يَكُنْ يَصِحُّ فيهِ غَيْرُهُ، نَبَّهْتُ على ذلكَ كُلِّهِ.
وباللَّهِ المُسْتَعَانُ، وعليهِ التُّكْلانُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ.
***
(1)
هذا الحديثُ تَفَرَّدَ بروايَتِهِ يَحْيَى بنُ سعيدٍ الأنصارِيُّ عنْ
محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ
اللَّيْثِيِّ، عنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
وليسَ لَهُ طريقٌ تَصِحُّ غيرُ هذِهِ الطريقِ ، كذا قالَهُ عليُّ بنُ المَدِينِيِّ وغيرُهُ.
وقالَ الخَطَّابِيُّ: (لا أَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ الحديثِ في ذَلِكَ)، معَ أنَّهُ قدْ رُوِيَ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ وغيرِهِ.
وقدْ قيلَ: إنَّهُ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كثيرةٍ، لكنْ لا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شيءٌ عندَ الحُفَّاظِ.
ثمَّ رَوَاهُ عن الأنصاريِّ الخَلْقُ الكثيرُ والجَمُّ الغفيرُ.
فقيلَ: رَوَاهُ عنهُ أكثرُ مِنْ مِائَتَيْ راوٍ.
وقيلَ:
رَواهُ عنهُ سبعُمِائَةِ راوٍ، ومِنْ أعيانِهم: مالِكٌ، والثَّورِيُّ،
والأَوْزَاعِيُّ، وابنُ المُبَارَكِ، واللَّيثُ بنُ سَعْدٍ، وحمَّادُ بنُ
زَيْدٍ، وشُعْبَةُ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وغَيْرُهم.
واتَّفَقَ
العُلماءُ على صِحَّتِهِ وتَلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وبِهِ صَدَّرَ
البُخَارِيُّ كِتَابَهُ (الصَّحيحَ)، وأَقَامَهُ مقامَ الخُطْبَةِ لَهُ؛
إشارةً مِنهُ إلى أنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا يُرادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فهوَ
باطلٌ، لا ثَمَرَةَ لهُ في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ؛ ولهذا: قالَ عبدُ
الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: (لوْ صنَّفْتُ الأبوابَ لجَعَلْتُ حديثَ عُمَرَ
في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلِّ بابٍ).
وعنهُ أنَّهُ قالَ: (مَنْ أرادَ أنْ يُصَنِّفَ كتابًا فلْيَبْدَأْ بحديثِ ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))).
وهذا الحديثُ أَحَدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّينُ عليها :
فَرُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: (هذا الحديثُ ثُلُثُ العِلْمِ، ويَدْخُلُ في سبعينَ بابًا مِن الفِقْهِ).
وعَن الإِمامِ أحمدَ قالَ:(أُصُولُ الإِسلامِ على ثلاثةِ أحاديثَ:
- حديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
- وحديثِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))
وقالَالحاكِمُ: (حَدَّثُونَا عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ، عنْ أبيهِ، أنَّهُ ذَكَرَ قولَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وقولَهُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).
وقولَهُ:((مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
فقالَ: يَنْبَغِي أنْ يُبْدَأَ بهذِهِ الأحاديثِ في كُلِّ تَصْنِيفٍ؛ فإنَّها أُصُولُ الحديثِ).
وعن ْ إِسْحَاقَ بنِ رَاهُويَهْ قالَ: (أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ هيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ:
- حديثُ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
- وحديثُ: ((مَنْ صَنَعَ فِي أَمْرِنَا شَيْئًا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))).
ورَوَى
عثمانُ بنُ سعيدٍ عنْ أبي عُبَيْدٍ قالَ: (جَمَعَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ
عليهِ وسَلَّمَ جَمِيعَ أَمْرِ الآخِرَةِ في كَلِمَةٍ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
وجَمَعَ أمْرَ الدُّنْيَا كُلَّهُ في كَلِمَةٍ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، يدْخُلانِ في كلِّ بابٍ).
وعنْ
أبي دَاودَ قالَ: (نَظَرْتُ في الحديثِ المُسْنَدِ، فإذا هوَ أَرْبَعَةُ
آلافِ حديثٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذا مَدَارُ الأربَعَةِ آلافِ حديثٍ على
أربعةِ أحاديثَ:
- حديثِ النُّعْمَانِ بنِ بشيرٍ:((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثِ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ أبي هُريرةَ: ((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ)) الحديثَ.
- وحديثِ:((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
قالَ: فَكُلُّ حديثٍ مِنْ هذِهِ رُبْعُ العِلْمِ).
وعنْ
أبي دَاودَ أيضًا قالَ: (كَتَبْتُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَديثٍ، انْتَخَبْتُ مِنها ما ضَمَّنْتُهُ
هذا الكِتَابَ -يَعْنِي كِتَابَ (السُّنَنِ)- جَمَعْتُ فيهِ أربعةَ آلافٍ
وثَمَانَمِائَةِ حديثٍ، ويَكْفِي الإِنسانَ لدينِهِ مِنْ ذَلِكَ أربعةُ
أحاديثَ:
أحدُها:قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
والثَّاني: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
والثالِثُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَكُونُ الْمُؤمِنُ مُؤْمِنًا حتَّى لا يَرْضَى لأَِخِيهِ إِلا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ)).
والرَّابِعُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))).
وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنهُ، أنَّهُ قالَ: (الفِقْهُ يَدُورُ على خَمْسَةِ أحاديثَ:
((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بيِّنٌ)). وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ، وَلا ضِرَارَ)). وقولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). وقولِهِ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).
وفي روايَةٍ عنهُ قالَ: (أُصُولُ السُّنَنِ في كُلِّ فَنٍّ أربَعَةُ أحاديثَ:
- حديثُ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
- وحديثُ:((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ))).
وللحافِظِ أبي الحَسَنِ طاهِرِ بنِ مُفَوِّزٍ المَعَافِرِيِّ الأنْدُلُسِيِّ:
عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنَا كَلِمَاتٌ أَرْبعٌ = مِنْ كلامِ خـَيـْرِ البـَرِيَّهْ
اتَّقِ الـشُّبـُهَاتِ وازْهَدْ وَدَعْ = مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ واعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) وفي روايَةٍ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وكلاهُمَا يَقْتَضِي الحَصْرَ على الصَّحيحِ ، وليسَ غَرَضُنا هَا هُنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ، ولا بَسْطَ القَوْلِ فيهِ.
وقد اخْتُلِفَ في تقديرِ قولِهِ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)): فكثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ
يَزعُمُ أنَّ تقديرَهُ: الأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أوْ مُعْتَبَرَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ بالنِّيَّاتِ.
وعلى هذا، فالأعمالُ إنَّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرْعِيَّةُ المُفْتَقِرةُ إلى النِّيَّةِ.
فأمَّا
ما لا يَفْتَقِرُ إلى النِّيَّةِ كالعاداتِ مِن الأكلِ والشُّرْبِ
واللُّبْسِ وغيرِها، أوْ مثلِ رَدِّ الأماناتِ والمَضْمُونَاتِ، كالودائِعِ
والغُصُوبِ، فلا يَحتَاجُ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ، فيُخَصُّ هذا
كُلُّهُ مِنْ عُمُومِ الأعمالِ المذكَورَةِ هَا هُنا.
وقال آخرونَ: بل الأعمالُ هنا على عُمُومِهَا، لا يُخَصُّ منها شيءٌ.
وَحَكَاهُ بَعْضُهم عن الجمهورِ، وكأنَّهُ يُرِيدُ بِهِ جُمْهُورَ المُتَقَدِّمِينَ.
وقدْ
وَقَعَ ذَلِكَ في كلامِ ابنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ وأبي طالِبٍ المَكِّيِّ
وغيرِهِمَا مِن المُتَقَدِّمِين، وهوَ ظاهِرُ كلامِ الإِمامِ أَحْمَدَ.
قالَ
في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: (أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً مِنْ صلاةٍ،
أوْ صيامٍ، أوْ صَدَقَةٍ، أوْ نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ، أنْ تكونَ
النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً في ذَلِكَ قبلَ الفِعْلِ؛ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، فهذا يَأْتِي على كُلِّ أمْرٍ مِن الأُمورِ).
وقال
الفَضْلُ بنُ زِيَادٍ: سأَلْتُ أبا عبدِ اللَّهِ -يَعْنِي أحمدَ- عَن
النِّيَّةِ في العَمَلِ، قلتُ: كيفَ النِّيَّةُ؟ قالَ: (يُعالِجُ نفسَهُ
إذا أرادَ عَمَلاً لا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ).
وقالَ أحمدُ بنُ داودَ الحَرْبِيُّ: حَدَّثَ يزيدُ بنُ هارونَ بحديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وأحمدُ جالِسٌ، فقالَ أحمدُ ليَزيدَ: (يا أَبَا خَالِدٍ، هذا الْخِنَاقُ).
وعلى
هذا القولِ: فقيلَ: تقديرُ الكلامِ : الأعمالُ واقِعَةٌ أوْ حاصِلَةٌ
بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إِخبارًا عن الأعمالِ الاخْتِيَارِيَّةِ أنَّها لا
تَقَعُ إلا عَنْ قصْدٍ مِن العامِلِ هوَ سَبَبُ عمَلِها ووُجُودِها، ويكونُ
قولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى))،
إِخبارًا عنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وهوَ أنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ
نِيَّتُهُ، فإنْ كانَتْ صالِحَةً فعَمَلُهُ صالِحٌ، فَلَهُ أجرُهُ، وإنْ
كانَت فاسِدَةً فعَمَلُهُ فاسِدٌ، فعليهِ وِزْرُهُ.
ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ التَّقديرُ في قولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))الأعمالُ
صالِحَةٌ، أوْ فاسِدَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ، أوْ مَرْدُودَةٌ، أوْ مُثَابٌ
عليها، أوْ غيرُ مُثَابٍ عليها، بالنِّيَّاتِ، فيكونُ خَبَرًا عنْ حُكْمٍ
شَرْعِيٍّ، وهوَ أنَّ صلاحَ الأعمالِ وفسادَها بِحَسَبِ صلاحِ النِّيَّاتِ
وفسادِها، كقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))؛ أيْ: إنَّ صَلاحَها وفسَادَها وقَبُولَها وعَدَمَهُ بحَسَبِ الخاتِمَةِ.
وقولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّما لِكل امْرِئٍ مَا نَوَى))
إِخْبارٌ أنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إلا ما نَوَاهُ بِهِ،
فإنْ نَوَى خيرًا حَصَلَ لهُ خَيْرٌ، وإنْ نَوَى شرًّا حَصَلَ لهُ شَرٌّ.
وليسَ
هذا تَكْرِيرًا مَحْضًا للجُمْلَةِ الأولى؛ فإنَّ الجُملةَ الأولى دلَّتْ
على أنَّ صلاحَ العَمَلِ وفسادَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ المُقْتَضِيَةِ
لإِيجادِهِ، والجملةَ الثَّانِيَةَ دلَّتْ على أنَّ ثوابَ العامِلِ على
عملِهِ بحسَبِ نِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ، وأنَّ عِقَابَهُ عليهِ بحَسَبِ
نِيَّتِهِ الفاسِدَةِ، وقدْ تَكُونُ نِيَّتُهُ مُبَاحَةً فيَكونُ العَمَلُ
مُبَاحًا، فلا يَحْصُلُ لهُ بِهِ ثوابٌ ولا عِقَابٌ، فالعَمَلُ في نفسِهِ
صلاحُهُ وفسادُهُ وإباحَتُهُ بحسَبِ النِّيَّةِ الحامِلَةِ عليهِ،
المُقْتَضِيَةِ لوجودِهِ، وثوابُ العامِلِ وعقابُهُ وسلامتُهُ بحسَبِ
نيَّتِهِ التي بها صارَ العَمَلُ صالِحًا، أوْ فاسِدًا، أوْ مُبَاحًا.
واعْلَمْ أنَّالنِّيَّةَ في اللُّغَةِ: نَوْعٌ مِن القَصْدِ والإرادَةِ ، وإنْ كانَ قدْ فُرِّقَ بينَ هذِهِ الألفاظِ بما ليسَ هذا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ.
والنِّيَّةُ في كلامِ العُلماءِ تَقَعُ بمَعْنَيَيْنِ:
أحدُهُمَا:
بمعنى تمييزِ العَباداتِ بعضِها عنْ بَعضٍ،كتمييزِ صلاةِ الظُّهْرِ مِنْ
صلاةِ العَصْرِ مَثَلاً، وتمييزِ صيامِ رمَضَانَ مِنْ صيامِ غيرِهِ، أوْ
تمييزِ العِبَاداتِ مِن العَادَاتِ، كتمييزِ الغُسْلِ مِن الجَنَابَةِ مِنْ
غُسْلِ التَّبَرُّدِ والتَّنَظُّفِ، ونحوِ ذَلِكَ.
وهذِهِ النِّيَّةُ هيَ التي تُوجَدُ كثيرًا في كلامِ الفُقَهَاءِ في كُتُبِهِمْ.
والمعنَى الثَّاني: بمعنَى تمييزِ المقصودِ بالعَمَلِ، وهلْ هوَ اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، أمْ غيرُهُ، أم اللَّهُ وغيرُهُ.
وهذِهِ
النِّيَّةُ هيَ الَّتي يَتَكَلَّمُ فيها العارِفُونَ في كُتُبِهِم في
كلامِهِم على الإِخلاصِ وتوابِعِهِ، وهيَ الَّتي تُوجَدُ كثيرًا في كلامِ
السَّلَفِ المُتَقدِّمِينَ.
وقدْ
صَنَّفَ أبو بَكْرِ بنُ أبِي الدُّنيا مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: كتابَ
(الإِخلاصِ والنِّيَّةِ)، وإنَّما أرادَ هذِهِ النِّيَّةَ، وهيَ النِّيَّةُ
التي يَتَكَرَّرُ ذِكْرُها في كلامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
- تارَةً: بلَفْظِ النِّيَّةِ.
- وتارَةً: بلفْظِ الإِرادَةِ.
- وتارَةً: بلفْظٍ مُقَارِبٍ لذَلِكَ.
وقدْ جاءَ ذِكْرُها كثيرًا في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بغَيْرِ لفظِ النِّيَّةِ أيضًا مِن الأَلفاظِ المُقارِبَةِ لَهَا.
وإنَّما
فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بينَ النِّيَّةِ وبينَ الإِرادَةِ والقَصْدِ
ونحوِهما؛لظَنِّهِم اخْتِصَاصَ النِّيَّةِ بالمعنَى الأوَّلِ الذي
يَذْكُرُهُ الفقهاءُ.
فمِنهمْ
مَنْ قالَ: النِّيَّةُ تَخْتَصُّ بفعلِ النَّاوِي، والإِرادةُ لا
تَخْتَصُّ بذَلِكَ، كما يُرِيدُ الإِنسانُ مِن اللَّهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُ
ولا يَنْوِي ذَلِكَ.
وقدْ
ذَكَرْنَا أنَّ النِّيَّةَ في كلامِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وسَلَفِ الأُمَّةِ إنَّما يُرادُ بها هذا المعنَى الثَّاني
غالِبًا، فهيَ حينَئِذٍ بمعنَى الإِرادَةِ.
ولذَلِكَ يُعَبَّرُ عنها بلفظِ (الإِرادَةِ) في القرآنِ كثيرًا:
- كما في قولِهِ تعالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عِمْرَانَ: 152].
- وقولِهِ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67].
- وقولِهِ :{مَنْ
كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ
نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20].
- وقولِهِ:{مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا
وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإِسراء: 18-19].
- وقولِهِ تعالَى:{مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا
وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هُود: 15-16].
- وقولِهِ:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
- وقولِهِ: {وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
- وقولِهِ: {ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذينَ يُريدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
- وقولِهِ: {وَمَا
آتَيتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو
عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}[الرُّوم: 38-39].
وقدْ يُعَبَّرُ عنها فِي القُرآنِ بلفْظِ (الابْتِغَاءِ):
- كما فِي قولِهِ تعالَى: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}[اللَّيْل: 20].
- وقولِهِ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة: 265].
- وقولِهِ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272 ].
- وقولِهِ:{لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114].
فنَفَى
الخَيْرَ عَنْ كثيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ الناسُ إلا فِي الأمرِ
بالمعروفِ، وخَصَّ منْ أفرادِهِ الصَّدَقَةَ والإِصلاحَ بينَ النَّاسِ؛
لعُمُومِ نَفْعِهِما، فدَلَّ ذَلِكَ على أنَّ التَّنَاجِيَ بذَلِكَ خَيْرٌ،
وأمَّا الثوابُ عليهِ مِن اللَّهِ فخَصَّهُ بِمَنْ فعَلَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ.
وإنما
جَعَلَ الأمرَ بالمعروفِ مِن الصَّدَقَةِ، والإِصلاحَ بينَ النَّاسِ
وغَيْرَهُما خيرًا، وإنْ لمْ يُبْتَغَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ؛ لِمَا
يَتَرَتَّبُ على ذَلِكَ مِن النَّفْعِ المُتَعَدِّي، فَيَحْصُلُ بِهِ
لِلنَّاسِ إِحسانٌ وخيرٌ.
وأمَّا بالنِّسبَةِ إلى الأَمْرِ:
- فإنْ قَصَدَ بِهِ وجهَ اللَّهِ وابتغاءَ مَرْضَاتِهِ كانَ خيرًا لَهُ، وأُثِيبَ عليهِ.
- وإنْ لمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لمْ يَكُنْ خيرًا لَهُ، ولا ثوابَ لهُ عليهِ.
وهذا
بخلافِ مَنْ صامَ وصلَّى وذَكَرَ اللَّهَ، يَقْصِدُ بذَلِكَ عَرَضَ
الدُّنْيا؛ فإنَّهُ لا خَيْرَ لهُ فيهِ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّهُ لا نَفْعَ
فِي ذَلِكَ لصاحِبِهِ؛ لِمَا يَتَرتَّبُ عليهِ مِن الإِثْمِ فيهِ، ولا
لغيرِهِ؛ لأنَّهُ لا يَتَعَدَّى نفعُهُ إلى أحدٍ، اللَّهُمَّ إلا أَنْ
يحصُلَ لأحدٍ بهِ اقْتِدَاءٌ فِي ذَلِكَ.
وأمَّا ما وَرَدَ فِي السُّنَّةِ وكلامِ السَّلفِ مِنْ تسميَةِ هذا المعنَى بالنِّيَّةِ، فكثيرٌ جدًّا، ونحنُ نَذْكُرُ بعضَهُ:
- كما
خرَّجَ الإِمامُ أحمدُوالنَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ،
عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((مَنْ غَزَا فِي سَبيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلا عِقَالاً، فَلَهُ مَا نَوَى)).
- وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لأََصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ)).
- وخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ جَابِرٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
- ومنْ حديثِ أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
- وخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنْيَا مِنْ حديثِ عُمَرَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا يُبْعَثُ الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى النِّيَّاتِ)).
- وفي (صحيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أُمِّ سَلَمَةَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ، فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ)).
فَقُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ، فكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كارِهًا؟
قالَ: ((يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ)).
- وفيهِ أَيضًا: عَنْ عائِشَةَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنَى هذا الحديثِ، وقالَ فيهِ: ((يَهْلِكُونَ مَهْلِكًا وَاحِدًا، ويَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
- وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُوابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ زَيْدِ بنِ ثابتٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ
كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ
فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا
كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ
أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ
رَاغِمَةٌ)) لفْظُ ابنِ مَاجَهْ.
ولفْظُ أحمدَ: ((مَنْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا)).
- وخرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنْيَا، وعندَهُ: ((مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ)).
- وفي (الصَّحيحيْنِ): عنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّكَ
لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُثِبْتَ
عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ)).
- ورَوَى ابنُ أبي الدُّنيا: بإسنادٍ مُنْقَطِعٍ عنْ عُمرَ قالَ: (لا عَمَلَ لِمَنْ لا نِيَّةَ لَهُ، ولا أَجْرَ لِمَنَ لا حِسْبَةَ لهُ) يعنِي: لا أَجْرَ لِمَنْ لمْ يَحْتَسِبْ ثَوَابَ عَمَلِهِ عندَ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ.
-وبإ سنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ:
(لا يَنْفَعُ قَوْلٌ إلا بعَمَلٍ، ولا يَنْفَعُ قَوْلٌ وعَمَلٌ إلا
بنِيَّةٍ، ولا يَنْفَعُ قَوْلٌ وعَمَلٌ ونيَّةٌ إلا بما وَافَقَ
السُّنَّةَ).
- وعنْ يَحْيَى بنِ أبِي كثيرٍ قالَ: (تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ؛ فإنَّها أَبْلَغُ مِن العَمَلِ).
- وَعنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ قالَ: (إِنِّي لأَُحِبُّ أنْ تكونَ لي نِيَّةٌ فِي كُلِّ شيءٍ، حتَّى فِي الطَّعامِ والشَّرَابِ).
- وعنهُ أنَّهُ قالَ: (انْوِ فِي كلِّ شيءٍ تُرِيدُهُ الخيرَ، حتَّى خُرُوجِكَ إلى الْكُنَاسَةِ).
-
وعنْ داودَ الطَّائِيِّ قالَ: (رأيتُ الخَيْرَ كُلَّهُ إنَّما يَجْمَعُهُ
حُسْنُ النِّيَّةِ، وكفاكَ بِهِ خيرًا وإنْ لَمْ تَنْصَبْ).
-
قالَ داودُ: (والبِرُّ هِمَّةُ التَّقِيِّ، ولوْ تَعَلَّقَتْ جَمِيعُ
جَوَارِحِهِ بحُبِّ الدُّنيا لرَدَّتْهُ يَوْمًا نِيَّتُهُ إلى أَصْلِهِ).
- وعنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قالَ: (ما عَالَجْتُ شيئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي؛ لأنَّها تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ).
وعنْ يُوسُفَ بنِ أسْباطٍ قالَ: (تَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنْ فَسَادِها أشدُّ على العامِلِينَ مِنْ طُولِ الاجْتِهَادِ).
-
وقيلَ لنافِعِ بنِ جُبَيْرٍ: أَلا تَشْهَدُ الجَنَازَةَ؟ قالَ: (كما أنْتَ
حتَّى أَنْوِيَ)، قَالَ: فَفَكَّرَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قالَ: (امْض)ِ.
- وعنْ مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ قالَ: (صلاحُ القلبِ بصلاحِ العَمَلِ، وصلاحُ العَمَلِ بصلاحِ النِّيَّةِ).
-
وعنْ بعضِ السَّلَفِ قالَ: (مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكْمُلَ لَهُ عَمَلُهُ
فليُحْسِنْ نِيَّتَهُ؛ فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يأْجُرُ العَبْدَ إذا
حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حتَّى باللُّقْمَةِ).
- وعن ابنِ المُبَارَكِ قالَ: (رُبَّ عَمَلٍ صغيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصَغِّرُهُ النيَّةُ).
- وقالَ ابنُ عَجْلانَ: (لا يَصْلُحُ العمَلُ إلا بثلاثٍ: التَّقْوَى للَّهِ، والنِّيَّةِ الحسنَةِ، والإِصابَةِ).
- وقال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: (إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ مِنكَ نِيَّتَكَ وإِرادَتَكَ).
- وعنْ يُوسُفَ بنِ أَسْباطٍ قالَ: (إِيثَارُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ أفضلُ مِن القَتْلِ فِي سبيلِهِ).
خرَّجَ ذَلِكَ كُلَّه ُابنُ أبي الدُّنيا فِي كتابِ (الإِخلاصِ والنِّيَّةِ).
-
ورَوَى فيهِ بإسنادٍ مُنْقَطِعٍ عنْ عُمَرَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ:
(أفضَلُ الأعمالِ: أداءُ ما افْتَرَضَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، والوَرَعُ عمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ، وصِدْقُ النِّيَّةِ فيما عندَ اللَّهِ عزَّ
وجلَّ).
وبهذا يُعْلَمُ معنَى ما رُوِيَ عن الإِمامِ أحمدَ أن أُصولَ الإِسلامِ ثلاثةُ أحاديثَ: حديثِ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وحديثِ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
وحديثِ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
فإنَّ الدِّينَ كلَّهُ يَرْجِعُ إلى:
- فِعْلِ المأموراتِ.
- وتَرْكِ المَحْظُوراتِ.
- والتَّوَقُّفِ عن الشُّبُهاتِ.
وهذا كُلُّهُ تَضَمَّنَهُ حديثُ النُّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ.
وإِنَّما يَتِمُّ ذَلِكَ بأمريْنِ:
أحدُهما: أنْ يكونَ العمَلُ فِي ظاهِرِهِ على مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ.
وهذا هوَ الذي تَضَمَّنَهُ حديثُ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
والثَّاني: أنْ يكونَ العَمَلُ فِي باطِنِهِ يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كما تَضَمَّنَهُ حديثُ عُمَرَ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وقالَ الفُضَيْلُ فِي قولِهِ تعالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الْمُلْك: 2]،
قالَ:
(أَخْلَصُهُ وأَصْوَبُهُ).وقالَ: (إنَّ العَمَلَ:- إذا كانَ خالِصًا، ولمْ
يكُنْ صوَابًا ،لم يُقْبَلْ. وإذا كانَ صَوَابًا، ولمْ يكُنْ خالِصًا ،
لمْ يُقْبَلْ. حتَّى يكونَ خالِصًا صوَابًا).
قالَ: (والخالِصُ إذا كانَ للَّهِ عزَّ وجلَّ، والصَّوابُ إذا كانَ على السُّنَّةِ).
وقدْ دَلَّ على هذا الَّذي قالَهُ الفُضَيْلُ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكَهف: 110].
وقالَ بعضُ العَارِفينَ: (إنَّما تَفَاضَلُوا بالإِراداتِ، ولم يَتَفَاضَلُوا بالصَّوْمِ والصَّلاةِ).
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ
امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
لمَّا
ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الأَعمالَ بحسَبِ
النِّيَّاتِ، وأنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نيَّتُهُ مِنْ خيرٍ أوْ
شرٍّ، وهاتانِ كَلِمَتَانِ جامِعَتَانِ، قاعِدَتَانِ كُلِّيَّتَانِ لا
يَخْرُجُ عنهُما شيءٌ، ذَكَرَ بعدَ ذَلِكَ مِثالاً مِنْ أمْثَالِ الأعمالِ
الَّتي صُورَتُها واحِدَةٌ، ويَخْتَلِفُ صلاحُها وفسادُها باختلافِ
النِّيَّاتِ، وكأنَّهُ يقولُ: سائِرُ الأعمالِ على حَذْوِ هذا المثالِ.
وأصْلُ الهِجْرَةِ:
هِجرانُ بَلَدِ الشِّرْكِ، والانْتِقَالُ مِنهُ إلى دارِ الإِسلامِ،كما
كانَ المُهَاجِرُونَ قبلَ فَتْحِ مَكَّةَ يُهَاجِرُونَ مِنها إِلى مدينةِ
النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدْ هَاجَرَ مَنْ هاجَرَ
مِنهم قبلَ ذَلِكَ إلى أرضِ الحَبَشَةِ إلى النَّجَاشِيِّ.
فأخْبَرَ
النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ هذِهِ الهِجْرَةَ
تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ النِّيَّاتِ والمَقَاصِدِ بها ، فمَنْ هاجَرَ إلى
دارِ الإِسلامِ حُبًّا للَّهِ ورسولِهِ، وَرَغْبَةً فِي تَعَلُّمِ دينِ
الإِسلامِ، وإظهارِ دِينِهِ حيثُ كانَ يَعْجِزُ عنهُ فِي دارِ الشِّرْكِ،
فهذا هوَ المُهَاجِرُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ حقًّا، وكفَاهُ شَرَفًا
وفَخْرًا أنَّهُ حَصَلَ لَهُ ما نَوَاهُ مِنْ هِجْرَتِهِ إلى اللَّهِ
ورسولِهِ.
ولهذا
المَعْنَى اقْتَصَرَ فِي جَوَابِ هذا الشَّرْطِ على إِعَادَتِهِ بلفْظِهِ؛
لأنَّ حُصُولَ ما نَوَاهُ بهِجْرَتِهِ نِهَايَةُ المَطْلُوبِ فِي الدُّنيا
والآخِرَةِ.
ومَنْ
كانَت هِجْرَتُهُ مِنْ دارِ الشِّرْكِ إلى دارِ الإِسلامِ لطَلَبِ دُنْيا
يُصِيبُها، أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُها فِي دارِ الإِسلامِ، فهِجْرَتُهُ إلى
ما هاجَرَ إليهِ مِنْ ذَلِكَ.
فالأوَّلُ: تاجِرٌ.
والثَّاني: خَاطِبٌ.
وليسَ واحِدٌ مِنهما بمُهَاجِرٍ.
وفي قولِهِ: ((إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))تَحْقِيرٌ لِمَا طَلَبَهُ مِنْ أمرِ الدُّنيا، واسْتِهَانَةٌ بِهِ؛ حيثُ لَم يَذْكُرْهُ بلَفْظِهِ.
وأيضًا فالهِجْرَةُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ واحِدَةٌ، فلا تَعَدُّدَ فيها، فلذَلِكَ أعَادَ الجوابَ فيها بلَفْظِ الشَّرْطِ.
والهِجْرَةُ
لأمورِ الدُّنيا لا تَنْحَصِرُ، فقدْ يُهَاجِرُ الإِنسانُ لطَلَبِ دُنيا
مُباحَةٍ تَارَةً، ومُحَرَّمَةٍ أُخْرَى، وأفرادُ ما يُقْصَدُ بالهِجْرَةِ
مِنْ أُمورِ الدُّنيا لا تَنْحَصِرُ؛ فلذَلِكَ قالَ: ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))يعني: كائِنًا ما كانَ.
وقدْ رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا فِي قولِهِ تعالَى:{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامتَحِنُوهُنَّ} الآيَةَ [المُمْتَحِنَة: 10]
قالَ: (كانَت المرأةُ إذا أَتَت النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَلَّفَها باللَّهِ: ما خَرَجْتُ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وباللَّهِ:
ما خَرَجْتُ رَغْبَةً بأَرْضٍ عنْ أرْضٍ، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ
التِمَاسَ دُنْيا، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ إلا حُبًّا للَّهِ ورَسُولِهِ).
خَرَّجَهُ
ابنُ أبي حاتِمٍ، وابنُ جَرِيرٍ، والبَزَّارُ فِي (مُسْنَدِهِ)، وخرَّجَهُ
التِّرْمِذِيُّ فِي بعضِ نُسَخِ كتابِهِ مُخْتَصَرًا.
قالَ: فقالَ عبدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابنَ مسعودٍ: (مَنْ هاجَرَ يَبْتَغِي شيئًا فهوَ لَهُ).
وهذا
السِّيَاقُ يَقْتَضِي أنَّ هذا لمْ يكُنْ فِي عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنَّما كانَ فِي عهدِ ابنِ مسعودٍ.
ولكِنْ
رُوِيَ مِنْ طريقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَن الأعْمَشِ، عنْ أبي
وَائِلٍ، عن ابنِ مسعودٍ قالَ: (كانَ فينا رجلٌ خَطَبَ امْرَأةً يُقالُ
لها: أمُّ قَيْسٍ، فأَبَتَ أنْ تَزَوَّجَهُ حتَّى يُهَاجِرَ، فهَاجَرَ
فَتَزَوَّجَهَا، فكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهاجِرَ أُمِّ قيسٍ).
قالَ ابنُ مسعودٍ: (مَنْ هاجَرَ لشَيْءٍ فهوَ لَهُ).
وقد اشْتُهِرَ أنَّ قِصَّةَ مُهاجِرِ أُمِّ قيْسٍ هيَ كانَت سببَ قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا)).
وذَكَرَ ذَلِكَ كثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبِهِم، ولمْ نَرَ لذَلِكَ أصْلاً بإسنادٍ يَصِحُّ، واللَّهُ أعلمُ.
وسَائِرُ
الأعمالِ كالهِجْرَةِ فِي هذا المعنَى ، فصَلاحُها وفسادُها بحسَبِ
النِّيَّةِ الباعِثَةِ عليها، كالجِهَادِ والحَجِّ وغيرِهِما.
وقدْ
سُئِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اخْتِلافِ نِيَّاتِ
النَّاسِ فِي الجِهَادِ وما يُقصَدُ بهِ مِن الرِّياءِ وإظهارِ
الشَّجاعَةِ والعصبِيَّةِ وغيرِ ذَلِكَ: أيُّ ذَلِكَ فِي سبيلِ اللَّهِ؟
فقالَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
فخَرَجَ بهذا كُلُّ ما سَأَلُوا عنهُ مِن المَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
ففِي
(الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى
النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ،
الرَّجُلُ يُقَاتِلُ للمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقاتِلُ للذِّكْرِ،
والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فمَنْ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فقالَ
رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
وفي
روايَةٍ لمسلِمٍ: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَن الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ
رِيَاءً، فأَيُّ ذَلِكَ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فذَكَرَ الحديثَ.
وفي روايَةٍ لهُ أيضًا: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ غَضَبًا، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً.
وخَرَّجَ
النَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ أبِيأُمَامَةَ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا
يَلْتَمِسُ الأَجْرَ والذِّكْرَ، ما لَهُ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا شَيْءَ لَهُ)) ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)).
وخَرَّجَ
أبو داودَ منْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَجُلاً قالَ: يا رسولَ
اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الجِهادَ وهوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ
الدُّنْيَا؟
فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا أَجْرَ لَهُ)).
فأعادَ عليهِ ثلاثًا، والنَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((لا أَجْرَ لَهُ)).
وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ مِنْ حديثِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الغَزْوُ
غَزْوَانِ: فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الإِمَامَ،
وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ،
فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا
وَرِيَاءً وَسُمْعَةً، وَعَصَى الإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ)).
وخرَّجَ أبو داودَ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عن الجِهَادِ والغَزْوِ، فقالَ: ((إِنْ
قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا،
وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا
مُكَاثِرًا، عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللَّهُ
عَلَى تِيكَ الْحَالِ)). وخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:
((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ
اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَها.
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ.
قالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَِنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ
تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ،
فَعَرَّفَهَ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ:
كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ،
وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ
وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ،
فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا.
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ.
قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ)).
وفي الحديثِ: إنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُ هذا الحديثُ بَكَى حتَّى غُشِيَ عليهِ.
فلمَّا أفَاقَ قالَ: (صَدَقَ اللَّهُ ورسولُهُ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:{مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ}[هُود: 15-16].
وقدْ
وَرَدَ الوعيدُ على تَعَلُّمِ العِلْمِ لغيرِ وَجْهِ اللَّهِ ، كما
خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا
يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لِيُصِيبَ بِهِ
عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ)) يعني: رِيحَهَا.
وخرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حديثِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ
طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُجَارِيَ بِهِ
الْعُلَمَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ
اللَّهُ النَّارَ)).
وخرَّجَهُ
ابنُ مَاجَهْ بمعناهُ مِنْ حَديثِ ابنِ عُمَرَ وحُذَيْفَةَ وجابِرٍ عن
النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولفظُ حديثِ جابِرٍ:
((لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلا
لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ،
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارَ النَّارَ)).
وقالَ
ابنُ مسعودٍ: (لا تَعَلَّمُوا العِلمَ لثلاثٍ: لِتُمَارُوا بِهِ
السُّفَهاءَ، أوْ لِتُجَادِلُوا بهِ الفُقَهَاءَ، أوْ لِتَصْرِفُوا بِهِ
وُجُوهَ النَّاسِ إليْكُم، وابْتَغُوا بقَوْلِكُم وفِعْلِكم ما عندَ
اللَّهِ؛ فإنَّهُ يَبْقَى ويَذْهَبُ ما سِوَاهُ).
وقدْ وَرَدَ الوعيدُ على العَمَلِ لغيرِ اللَّهِ عُمُومًا:
كما خرَّجَ الإمامُ أحمدُ منْ حديثِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بَشِّرْ
هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالتَّمْكِينِ
فِي الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ)).
واعْلَمْ أنَّ العَمَلَ لغيرِ اللَّهِ أقْسَامٌ:
فتَارَةً:
يكونُ رِياءً مَحْضًا، بحيثُ لا يُرادُ بِهِ سِوَى مُرَاءَاةِ
المَخْلُوقِينَ لغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، كحالِ المُنَافِقِينَ فِي صلاتِهِم.
وقالَ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} الآيَةَ [المَاعُون: 4-6].
وكذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ الكُفَّارَ بالرِّياءِ فِي قولِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنفال: 47].
وهذا الرِّياءُ المَحْضُ لا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْ مُؤمنٍ فِي فَرْضِ الصَّلاةِ والصِّيامِ،
وقدْ
يَصْدُرُ فِي الصَّدَقَةِ الواجِبَةِ أو الحَجِّ، وغيرِهِمَا من الأعمالِ
الظَّاهِرَةِ ، أو الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُها؛ فإنَّ الإخلاصَ فيها
عَزِيزٌ، وهذا العَمَلُ لا يَشُكُّ مسلمٌ أنَّهُ حابِطٌ، وأنَّ صاحِبَهُ
يَسْتَحِقُّ المَقْتَ مِن اللَّهِ والعُقُوبَةَ.
وتارَةً:
يكونُ العَمَلُ للَّهِ، ويُشارِكُهُ الرِّياءُ: فإنْ شارَكَهُ مِنْ
أَصْلِهِ فالنُّصوصُ الصَّحيحةُ تَدُلُّ على بُطْلانِهِ وحُبُوطِهِ أيْضًا.
وفي (صحيحِ مُسلمٍ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَقُولُ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ
الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ
وَشِرْكَهُ)).
وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، ولفْظُهُ: ((فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ)).
وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ عنْ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ
صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ،
وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا،
فَإِنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لِشَرِيكِهِ الَّذِي
أَشْرَكَ بِهِ، أَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ)).
وخرَّجَ
الإمامُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي سعيدِ بنِ
أبي فَضَالَةَ -وكانَ مِن الصَّحابَةِ- قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا جَمَعَ اللَّهُ
الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ
كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَطْلُبْ
ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدَ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ)).
وخرَّجَ البَزَّارُ فِي (مُسْنَدِهِ) منْ حديثِ الضَّحَّاكِ بنِ قَيسِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ أَشْرَكَ
مَعِي شَرِيكًا فَهُوَ لِشَرِيكِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَخْلِصُوا
أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ
الأَعْمَالِ إِلا مَا أُخْلِصَ لَهُ، وَلا تَقُولُوا: هَذَا لِلَّهِ
وَلِلرَّحِمِ؛ فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْءٌ،
وَلا تَقُولُوا: هَذا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ؛ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ،
وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ)).
وخَرَّجَ
النَّسَائِيُّ بإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، أنَّ
رَجُلاً جاءَ إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ:
يا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً غزا يَلْتَمِسُ الأجْرَ
والذِّكْرَ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا شَيْءَ لَهُ)). فأعادَها ثلاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا شَيْءَ لَهُ)). ثمَّ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)).
وخرَّجَ
الحاكِمُ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: قالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ اللَّهِ، إنِّي
أَقِفُ المَوْقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وأُرِيدُ أَنْ يُرَى
مَوْطِنِي.
فلَمْ يَرُدَّ عليهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا حتَّى نَزَلَتْ:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: 110 ].
ومِمَّن
رُوِيَ عنهُ هذا المَعْنَى ، وأنَّ العَمَلَ إذا خَالَطَهُ شيءٌ مِن
الرِّياءِ كانَ باطِلاً، طائِفَةٌ مِن السَّلَفِ؛ مِنهمْ عُبَادَةُ بنُ
الصَّامِتِ، وأبو الدَّرْدَاءِ، والحَسَنُ، وسعيدُ بنُ المُسَيِّبِ،
وغيرُهم.
وفي مَرَاسِيلِ القاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلاً فِيهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ خَرْدَلٍ مِنْ رِيَاءٍ)).
ولا نَعْرِفُ عن السَّلَفِ فِي هذا خِلافًا، وإنْ كانَ فيهِ خِلافٌ عَنْ بعضِ المُتَأَخِّرِينَ.
فإنْ
خَالَطَ نِيَّةَ الجِهَادِ مَثلاً نِيَّةٌ غيرُ الرِّياءِ، مِثْلُ أخْذِ
أُجْرَةٍ للخِدْمَةِ، أوْ أَخْذِ شيءٍ مِن الغَنِيمَةِ، أو التِّجَارَةُ،
نَقَصَ بذَلِكَ أجْرُ جِهَادِهِم، ولمْ يَبْطُلْ بالكُلِّيَّةِ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
الْغُزَاةَ إِذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ،
فَإِنْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ)).
وقدْ
ذَكَرْنَا فيما مَضَى أحادِيثَ تَدُلُّ على أنَّ مَنْ أرَادَ بجِهَادِهِ
عَرَضًا مِن الدُّنيا أنَّهُ لا أَجْرَ لهُ، وهيَ مَحْمُولَةٌ على أنَّهُ
لَمْ يَكُنْ لهُ غَرَضٌ فِي الجِهَادِ إلا الدُّنيا.
وقالَ
الإِمامُ أحمدُ: (التَّاجِرُ والمُسْتَأْجِرُ والمُكَارِي أَجْرُهُمْ على
قَدْرِ ما يَخْلُصُ مِنْ نِيَّتِهِم فِي غَزَاتِهِم، ولا يكونُ مِثلَ مَنْ
جَاهَدَ بنفسِهِ ومالِهِ لا يَخْلِطُ بِهِ غيرَهُ).
وقالَ
أيضًا فيمَنْ يأَخْذُ جُعْلاً على الجِهَادِ: (إذا لمْ يَخْرُجْ لأجْلِ
الدَّرَاهِمِ فلا بأسَ أنْ يَأْخُذَ، كأنَّهُ خَرَجَ لدِينِهِ، فإنْ
أُعْطِيَ شيئًا أَخَذَهُ).
وكذا
رُوِيَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: (إذا أَجْمَعَ أحدُكم على
الغَزْوِ، فعَوَّضَهُ اللَّهُ رِزْقًا، فلا بأسَ بذَلِكَ.وأمَّا إِنْ
أَحَدُكُم إنْ أُعْطِيَ دِرْهَمًا غَزَا، وإنْ مُنِعَ دِرْهَمًا مَكَثَ،
فلا خيرَ فِي ذَلِكَ).
وكذا قالَ الأَوْزَاعِيُّ: (إِذا كانَتْ نِيَّةُ الغَازِي على الغَزْوِ فلا أَرَى بَأْسًا).
وهكذا يُقالُ فيمَنْ أَخَذَ شيئًا فِي الحَجِّ لِيَحُجَّ بِهِ: إمَّا عَنْ نفسِهِ، أوْ عَنْ غيرِهِ.
وقدْ
رُوِيَ عنْ مُجَاهِدٍ أنَّهُ قالَ فِي حَجِّ الجَمَّالِ وحَجِّ الأَجِيرِ
وحَجِّ التَّاجِرِ: (هوَ تَمَامٌ، لا يَنقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شيءٌ)، وهوَ
مَحْمولٌ على أنَّ قَصْدَهم الأصلِيَّ كانَ هوَ الحَجَّ دُونَ التَّكسُّبِ.
وأمَّا إنْ كانَ أصْلُ العَمَلِ لِلَّهِ، ثمَّ طَرَأَتْ عليهِ نِيَّةُ الرِّياءِ:
- فإنْ كانَ خَاطِرًا ودفَعَهُ فلا يَضُرُّهُ بغيرِ خِلافٍ.
- وإن اسْتَرْسَلَ معَهُ، فَهَلْ يُحْبَطُ بهِ عَمَلُهُ أمْ لا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ويُجَازَى على أصْلِ نِيَّتِهِ؟
فِي
ذَلِكَ اخْتِلافٌ بينَ العُلَمَاءِ مِن السَّلَفِ ، قدْ حكاهُ الإِمامُ
أحمدُ وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَرَجَّحَا أنَّ عمَلَهُ لا يَبْطُلُ
بذَلِكَ، وأنَّهُ يُجَازَى بنِيَّتِهِ الأُولى.
وهوَ مَرْوِيٌّ عن الحسنِ البَصْرِيِّ وغيرِهِ.
ويُسْتَدَلُّ
لهذا القولِ بما خَرَّجَهُ أبو داودَ فيِ (مراسيلِهِ) عنْ عطاءٍ
الخُرَاسَانِيِّ، أنَّ رَجُلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بَنِي
سَلِمَةَ كُلَّهُم يُقَاتِلُ، فمِنْهم مَنْ يُقاتِلُ للدُّنْيَا، ومِنهم
مَنْ يُقاتِلُ نَجْدَةً، ومِنهم مَنْ يُقاتِلُ ابتغاءَ وَجْهِ اللَّهِ،
فَأَيُّهُم الشَّهيدُ؟ قالَ: ((كُلُّهُمْ إِذَا كَانَ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)).
وذَكَرَ ابنُ جريرٍ: أنَّ هذا الاخْتِلافَ إنَّما هوَ:
- فِي عَمَلٍ يَرْتَبِطُ آخِرُهُ بأوَّلِهِ؛ كالصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ.
-
فأمَّا ما لا ارْتِبَاطَ فيهِ، كالقِرَاءَةِ والذِّكْرِ وإِنْفَاقِ المالِ
ونَشْرِ العِلْمِ؛ فإنَّهُ يَنْقَطِعُ بِنِيَّةِ الرِّياءِ الطَّارِئَةِ
عليهِ، ويَحْتَاجُ إلى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ.
وكذَلِكَ
رُوِيَ عنْ سُليمَانَ بنِ داودَ الهاشِمِيِّ أنَّهُ قالَ: (رُبَّما
أُحَدِّثُ بحديثٍ ولي نِيَّةٌ، فإذا أَتَيْتُ على بعْضِهِ تغيَّرَتْ
نِيَّتِي، فإذا الحديثُ الواحِدُ يَحْتَاجُ إلى نِيَّاتٍ).
ولا
يَرِدُ على هذا الجِهَادُ ، كما فِي مُرْسَلِ عطاءٍ الخُرَاسَانِيِّ؛ فإنَّ
الجِهَادَ يَلْزَمُ بِحُضُورِ الصَّفِّ، ولا يَجُوزُ تَرْكُهُ حينَئِذٍ،
فيَصِيرُ كَالْحَجِّ.
فأمَّا
إذا عَمِلَ العَمَلَ للَّهِ خالِصًا، ثمَّ أَلْقَى اللَّهُ لهُ الثَّناءَ
الحَسَنَ فِي قُلُوبِ المؤمِنينَ بذَلِكَ، ففَرِحَ بفَضْلِ اللَّهِ
ورَحْمَتِهِ، واسْتَبْشَرَ بذَلِكَ، لمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ.
وفي
هذا المعنى جاءَ حديثُ أبِي ذَرٍّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنَّهُ سُئِلَ عن الرَّجُلِ يَعْمَلُ العَمَلَ للَّهِ مِن الخيرِ
ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عليهِ، فقالَ:((تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ))، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وخرَّجَهُ ابنُ مَاجَهْ، وعندَهُ: (الرَّجُلِ يَعْمَلُ العَمَلَ للَّهِ فيُحِبُّهُ النَّاسُ عليهِ).
وبهذا المَعْنَى فسَّرَهُ الإِمامُ أحمدُ، وإسحاقُ بنُ رَاهُويَهْ، وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وغيرُهم.
وكذَلِكَ
الحديثُ الذي خرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي
هُرَيْرَةَ، أنَّ رجُلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ
العَمَلَ فَيُسِرُّهُ، فإِذا اطُّلِعَ عليهِ أَعْجَبَهُ، فقالَ: ((لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلانِيَةِ)).
ولْنَقْتَصِرْ على هذا المِقْدَارِ مِن الكلامِ على الإِخلاصِ والرِّيَاءِ؛ فإنَّ فيهِ كِفَايَةً.
وبالجُمْلَةِ،
فما أَحْسَنَ قَوْلَ سَهْلِ بنِ عبدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ: (ليسَ على
النَّفسِ شيءٌ أَشَقَّ مِن الإخلاصِ؛ لأنَّهُ ليسَ لَهَا فيهِ نَصِيبٌ).
وقال َ
يُوسُفُ بنُ الحُسَينِ الرَّازِيُّ: (أَعَزُّ شيءٍ فِي الدُّنيا الإخلاصُ،
وكمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّياءِ عَنْ قلْبِي، وكأنَّهُ يَنْبُتُ
فيهِ على لَوْنٍ آخَرَ).
وقالَ
ابنُ عُيَيْنَةَ: (كانَ مِنْ دُعاءِ مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ:
اللَّهُمَّ إنَّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تُبْتُ إليكَ مِنهُ ثُمَّ عُدْتُ
فيهِ، وأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا جَعَلْتُهُ لكَ على نَفْسِي ثُمَّ لمْ أَفِ
لكَ بِهِ، وأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا زَعَمْتُ أنِّي أَرَدْتُ بِهِ وَجْهَكَ
فَخَالَطَ قَلْبِي مِنهُ ما قدْ عَلِمْتَ).
فَصْلٌ
وأمَّا
النِّيَّةُ بالمعنَى الَّذي يَذْكُرُهُ الفُقهاءُ، وهوَ أنَّهُ تَمْييزُ
العِبَادَاتِ مِن العاداتِ، وتَمْييزُ العِبَاداتِ بعضِها مِنْ بعضٍ؛ فإنَّ
الإمساكَ عن الأكْلِ والشُّرْبِ يَقَعُ:
- تارَةً: حَمِيَّةً.
- وتَارَةً: لعدَمِ القُدْرَةِ على الأكلِ.
- وتارَةً: تَرْكًا للشَّهَوَاتِ للَّهِ عزَّ وجلَّ.
فيُحْتَاجُ فِي الصِّيامِ إلى نِيَّةٍ؛ لِيتَمَيَّزَ بذَلِكَ عَنْ تَرْكِ الطَّعامِ على غيرِ هذا الوَجْهِ.
وكذَلِكَ العباداتُ؛ كالصَّلاةِ والصِّيامِ:
- مِنها: فَرْضٌ.
- ومِنها: نَفْلٌ.
والفرضُ يَتَنَوَّعُ أنواعًا؛ فإنَّ الصَّلواتِ المفروضاتِ خَمْسُ صلواتٍ كُلَّ يومٍ وليلةٍ.
والصَّومَ الواجِبَ:
- تارَةً: يكونُ صيامَ رمضانَ.
- وتارةً: صيامَ كفَّارَةٍ.
- أوْ: عنْ نَذْرٍ.
ولا يَتَمَيَّزُ هذا كُلُّهُ إلا بالنِّيَّةِ.
وكذَلِكَ الصَّدَقَةُ:
- تكونُ نَفْلاً.
- وتكونُ فَرْضًا.
والفَرْضُ:
- مِنه: زَكَاةٌ.
ولا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ إلا بالنِّيَّةِ، فيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى)).
وفي بعضِ ذَلِكَ اخْتِلافٌ مَشْهُورٌ بينَ العُلَمَاءِ؛ فإنَّ مِنهم مَنْ
لا يُوجِبُ تَعْيِينَ النِّيَّةِ للصَّلاةِ المفروضَةِ، بلْ يَكْفِي عندَهُ
أن يَنْوِيَ فَرْضَ الوَقْتِ، وإنْ لمْ يَسْتَحْضِرْ تَسْمِيَتَهُ فِي
الحالِ، وهوَ رِوَايَةٌ عن الإِمامِ أحمدَ.
ويُبنَى
على هذا القولِ: أنَّ مَنْ فاتَتْهُ صَلاةٌ مِنْ يومٍ وليلَةٍ، ونَسِيَ
عَيْنَها، أنَّ عليهِ أن يَقْضِيَ ثلاثَ صَلَوَاتٍ: الفجرَ والمغرِبَ
ورُبَاعِيَّةً واحِدَةً.
وكذَلِكَ:
ذَهَبَ طائِفَةٌ مِن العُلماءِ إلى أنَّ صيامَ رمضانَ لا يَحْتَاجُ إلى
نِيَّةٍ تَعْيِينِيَّةٍ أيضًأُمِّ قَيْسٍَةِ الصِّيامِ مُطلقًا؛ لأنَّ
وَقْتَهُ غيرُ قابِلٍ لصيامٍ آخَرَ، وهوَ أيضًا رِوايَةٌ عن الإِمامِ
أحمدَ.
ورُبَّما
حُكِيَ عنْ بعْضِهِم أنَّ صيامَ رَمَضَانَ لا يَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ
بالكُلِّيَّةِ؛ لِتَعيِينِهِ بنفسِهِ، فهوَ كَرَدِّ الودائِعِ.
وكذَلِكَ: قالَ أبو حَنِيفَةَ: (لوْ تَصَدَّقَ بالنِّصَابِ كُلِّهِ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ أَجْزَأَهُ عنْ زَكاتِهِ).
وقدْ رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يُلَبِّي بالحَجِّ عنْ رَجُلٍ، فقالَ لَهُ: ((أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟)) قالَ: لا، قالَ: ((هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنِ الرَّجُلِ)).
وقدْ تُكُلِّمَ فِي صِحَّةِ هذا الحديثِ، ولكنَّهُ صحيحٌ عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِهِ.
وأَخَذَ
بذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وأحمدُ فِي المشهورِ عنهُ، وغيْرُهما، فِي أَنَّ
حَجَّةَ الإِسلامِ تَسْقُطُ بِنِيَّةِ الحَجِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ نَوَى
التَّطَوُّعَ أوْ غيرَهُ.
ولا
يُشْتَرَطُ للحَجِّ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، فمَنْ حَجَّ عنْ غيرِهِ ولمْ
يَحُجَّ عنْ نفسِهِ، وَقَعَ عنْ نفسِهِ، وكذا لوْ حَجَّ عَنْ نَذْرِهِ أوْ
نَفْلاً، ولمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الإسلامِ؛ فإنَّهُ يَنْقَلِبُ عنها.
وقدْ
ثَبَتَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ أمَرَ
أصحابَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بعدَمَا دَخَلُوا معَهُ وطَافُوا وسَعَوْا
أنْ يَفْسَخُوا حَجَّهم، ويَجْعَلُوها عُمْرَةً، وكانَ مِنهم القارِنُ
والمُفْرِدُ، وإنَّما كانَ طَوَافُهم عندَ قُدُومِهِم طوافَ القُدومِ وليسَ
بفَرْضٍ، وقدْ أَمَرَهم أنْ يَجْعَلُوهُ طَوَافَ عُمْرَةٍ وهوَ فَرْضٌ.
وقدْ
أَخَذَ بذَلِكَ الإمامُ أحمدُ فِي فَسْخِ الحَجِّ، وعَمِلَ بِهِ، وهوَ
مُشْكِلٌ على أَصْلِهِ؛ فإنَّهُ يُوجِبُ تَعْيِينَ الطَّوَافِ الواجِبِ
للحَجِّ والعُمْرَةِ بالنِّيَّةِ.
وخالفَهُ فِي ذَلِكَ أكثرُ الفُقَهَاءِ، كمالِكٍ والشَّافِعِيِّ وأبي حَنِيفَةَ.
وقدْ
يُفَرِّقُ الإمامُ أحمدُ بينَ أنْ يكونَ طَوَافُهُ فِي إحرامٍ انْقَلَبَ،
كالإحرامِ الَّذي يَفْسَخُهُ ويَجْعَلُهُ عُمْرَةً، فيَنْقَلِبُ الطَّوَافُ
فيهِ تَبَعًا لانْقِلابِ الإحرامِ، كما يَنْقَلِبُ الطَّوافُ فِي الإحرامِ
الَّذي نَوَى بِهِ التَّطَوُّعَ إذا كانَ عليهِ حَجَّةُ الإسلامِ، تَبَعًا
لانقلابِ إِحْرَامِهِ مِنْ أصْلِهِ، وَوُقُوعِهِ عنْ فَرْضِهِ.
بخلافِ
ما إذا طافَ للزيارَةِ بنِيَّةِ الوَدَاعِ أو التَّطوُّعِ، فإنَّ هذا لا
يُجْزِئُهُ؛ لأنَّهُ لمْ يَنوِ بهِ الفَرضَ، ولم يَنْقَلِبْ فَرْضًا
تَبَعًا لانْقِلابِ إحرامِهِ، واللَّهُ أعلمُ.
ومِمَّا
يَدْخُلُ فِي هذا البابِ: أنَّ رَجُلاً فِي عهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ قدْ وَضَعَ صَدَقَتَهُ عندَ رجُلٍ، فجاءَ ابنُ
صاحِبِ الصَّدَقَةِ فأخذَها مِمَّنْ هيَ عندَهُ، فعَلِمَ بذَلِكَ أَبُوهُ،
فخَاصَمَهُ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ما
إيَّاكَ أَرَدْتُ، فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
للمُتَصَدِّقِ: ((لَكَ مَا نَوَيْتَ))، وقالَ للآخِذِ: ((لَكَ مَا أَخَذْتَ)) خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ.
وقدْ
أخَذَ الإِمامُ أحمدُ بهذا الحديثِ ، وعَمِلَ بِهِ فِي المنصوصِ عنهُ، وإنْ
كانَ أكثرُ أصحابِهِ على خلافِهِ؛ فإنَّ الرَّجُلَ إنَّما يُمْنَعُ مِنْ
دَفْعِ الصَّدَقَةِ إلى وَلَدِهِ خَشْيَةَ أنْ يكونَ مُحَابَاةً، فإِذا
وَصَلَتْ إلى وَلَدِهِ مِنْ حيثُ لا يَشْعُرُ، فالمُحَابَاةُ مُنْتَفِيَةٌ،
وهوَ مِنْ أهلِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ فِي نفسِ الأمرِ؛ ولهذا لوْ
دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا، وكان غَنِيًّا فِي نَفْسِ
الأمْرِ، أجزأَتْهُ على الصَّحيحِ؛ لأنَّهُ إنَّما دفَعَ إلى مَنْ
يَعْتَقِدُ اسْتِحْقَاقَهُ، والفَقْرُ أمْرٌ خَفِيٌّ لا يَكَادُ يُطَّلَعُ
على حَقِيقَتِهِ.
وأمَّا الطَّهارةُ: فالخلافُ فِي اشتراطِ النِّيَّةِ لها مشهورٌ.
وهوَ
يَرْجِعُ إلى أنَّ الطَّهَارَةَ للصَّلاةِ هلْ هيَ عبادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ،
أمْ هيَ شَرْطٌ منْ شروطِ الصَّلاةِ، كإزالةِ النَّجاسةِ وسَتْرِ العورةِ؟
- فمَنْ لمْ يَشْتَرِطْ لَها النِّيَّةَ: جعَلَها كسائِرِ شُروطِ الصَّلاةِ.
- ومَن اشْتَرَطَ لَهَا النِّيَّةَ: جعَلَها عبادةً مُسْتَقِلَّةً.
فإذا كانَت عِبَادَةً فِي نفسِها لمْ تَصِحَّ بدونِ نِيَّةٍ ، وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ.
ويَدُلُّ
على صِحَّةِ ذَلِكَ: تَكَاثُرُ النُّصوصِ الصَّحِيحَةِ عَن النَّبيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّ الوُضُوءَ يُكَفِّرُ الذُّنوبَ
والخطايا، وأنَّ مَنْ تَوَضَّأَ كما أُمِرَ كانَ كَفَّارةً لذُنُوبِهِ.
وهذا يَدُلُّ على أنَّ الوُضُوءَ المَأْمُورَ بِهِ فِي القرآنِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بنفسِهَا
؛ حيثُ رُتِّبَ عليهِ تَكْفِيرُ الذُّنوبِ.
ولوْ شَرَكَ بينَ نِيَّةِ الوُضُوءِ وبينَ قَصْدِ التَّبَرُّدِ، أوْ إزالةِ النَّجاسَةِ أوالوَسَخِ ،
أَجْزَأَهُ فِي المنصوصِ عن الشَّافِعِيِّ، وهوَ قولُ أكثرِ أصحابِ أحمدَ؛
لأنَّ هذا القصدَ ليسَ بمُحَرَّمٍ ولا مَكْرُوهٍ؛ ولهذا لوْ قَصَدَ معَ
رَفْعِ الحدَثِ تعليمَ الوُضُوءِ لمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ.
وقدْ كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ أحيانًا بالصَّلاةِ تعليمَها للنَّاسِ، وكذَلِكَ الحَجُّ، كما قالَ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)).
ومِمَّا تدخُلُ النِّيَّةُ فيهِ مِنْ أبوابِ العِلْمِ:
مسائِلُ الأيْمانِ. فلَغْوُ اليمينِ لا كَفَّارةَ فيهِ، وهوَ ما جَرَى على اللِّسانِ مِنْ غيرِ قَصْدٍ بالقَلْبِ إليهِ، كقولِهِ: (لا واللَّهِ، وبَلَى واللَّهِ)، فِي أثناءِ الكلامِ.
قالَ تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[ البقرة: 225].
وكذَلِكَ يُرْجَعُ فِي الأَيْمَانِ إلى نِيَّةِ الحالِفِ وما قَصَدَ بيَمِينِهِ.
فإنْ
حَلَفَ بطلاقٍ أوْ عَتَاقٍ، ثمَّ ادَّعَى أنَّهُ نوَى ما يُخالِفُ ظاهِرَ
لفْظِهِ، فإنَّهُ يُدَيَّنُ فيما بينَهُ وبينَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وهلْ يُقْبَلُ مِنهُ فِي ظاهِرِ الحُكْمِ؟
فيهِ قولانِ للعُلَمَاءِ مشهورانِ، وهما روايتانِ عَنْ أحمَدَ.
وقدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
أنَّهُ رُفِعَ إليهِ رَجُلٌ قالَتْ لهُ امْرَأَتُهُ: شَبِّهْنِي، قالَ:
كَأَنَّكِ ظَبْيَةٌ، كأنَّكِ حَمَامةٌ، فقالَتْ: لا أَرْضَى حتَّى تَقُولَ:
أَنْتِ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ.
فقالَ ذَلِكَ، فقالَ عُمَرُ: (خُذْ بِيَدِهَا؛ فهيَ امْرَأَتُكَ).
خرَّجَهُ أبو عُبَيْدٍ. وقالَ:
أرادَ النَّاقَةَ تكونُ مَعْقُولَةً، ثُمَّ تُطْلَقُ مِنْ عِقَالِهَا
ويُخلَّى عنها، فهيَ خَلِيَّةٌ مِن العِقَالِ، وهيَ طالِقٌ؛ لأنَّها قدْ
طَلَقَتْ مِنهُ.
فأرَادَ الرَّجُلُ ذَلِكَ، فأَسْقَطَ عنهُ عُمَرُ الطَّلاقَ لنِيَّتَهِ.
قالَ:
وهذا أَصْلٌ لكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بشيءٍ يُشْبِهُ لَفْظَ الطَّلاقِ
والعَتَاقِ، وهوَ يَنْوِي غيْرَهُ، أنَّ القولَ فيهِ قولُهُ فيما بينَهُ
وبينَ اللَّهِ، وفي الحُكْمِ على تأويلِ مَذْهَبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
ويُرْوَى عنْ سُمَيْطٍ
السَّدُوسِيِّ قالَ: (خَطَبْتُ امْرَأَةً، فقالُوا: لا نُزَوِّجُكَ حتَّى
تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، فقُلْتُ: إنِّي قدْ طَلَّقْتُها ثلاثًا،
فَزَوِّجُونِي.
ثُمَّ نَظَرُوا فإِذا امْرَأَتِي عندِي، فقالُوا: ألَيْسَ قدْ طلَّقْتَها ثلاثًا؟
فقُلْتُ: كانَ عندِي فُلانَةٌ فَطَلَّقْتُها، وفُلانةٌ فطَلَّقْتُها، فأمَّا هذهِ فلمْ أُطلِّقْها، فأَتَيْتُ شَقِيقَ
بنَ ثَوْرٍ وهوَ يُرِيدُ الخروجَ إلى عثمانَ وافِدًا، فقُلْتُ: سَلْ أميرَ
المؤمنينَ عَنْ هذهِ، فخَرَجَ فسأَلَهُ، فقالَ:(نِيَّتُهُ).
خَرَّجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي (كتابِ الطَّلاقِ)، وحَكَى إجماعَ العُلماءِ على مِثلِ ذَلِكَ.
وقالَ إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ: (قُلْتُ لأحمدَ: حديثُ السُّمَيْطِ تَعْرِفُهُ؟
قالَ: نَعَمْ، السَّدُوسِيُّ، إنَّما جَعَلَ نِيَّتَهُ بذَلِكَ، فذَكَرَ ذَلِكَ شَقِيقٌ لعُثْمَانَ، فجَعَلَها نِيَّتَهُ).
فإنْ كانَ الحالِفُ ظالِمًا، ونوَى خِلافَ ما حَلَّفَهُ عليهِ غَرِيمُهُ، لمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ أبي هُريرةَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ))، وفي روايَةٍ لهُ: ((الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ)).
وهذا مَحْمُولٌ على الظَّالِمِ، فأَمَّا المَظْلُومُ فيَنْفَعُهُ ذَلِكَ.
وقدْ خرَّجَ الإِمامُ أحمدُوابنُ
مَاجَهْ مِنْ حديثِ سُوَيْدِ بنِ حَنْظَلَةَ قالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ
رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَعَنَا وائِلُ بنُ
حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لهُ، فتَحَرَّجَ النَّاسُ أنْ يَحْلِفُوا،
فحَلَفْتُ أنا إنَّهُ أخي، فخَلَّى سبيلَهُ. فأَتَيْنَا النَّبيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ أنَّ القومَ تَحَرَّجُوا أنْ
يَحْلِفُوا، وحَلَفْتُ أنا إنَّهُ أَخِي، فقالَ: ((صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)).
وكذَلِكَ
تَدْخُلُ النِّيَّةُ فِي الطَّلاقِ والعَتَاقِ، فإذا أَتَى بلفظٍ مِنْ
ألفاظِ الكِنَايَاتِ المُحْتَمِلَةِ للطَّلاقِ أو العَتَاقِ، فلا بُدَّ لهُ
مِن النِّيَّةِ.
وهلْ يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ دَلالةُ الحالِ مِنْ غَضَبٍ أوْ سُؤَالِ الطَّلاقِ ونحوِهِ أمْ لا؟
فيهِ خلافٌ مَشْهورٌ بينَ العُلَماءِ.
وهلْ يَقَعُ بذَلِكَ الطَّلاقُ فِي الباطِنِ كما لوْ نَوَاهُ، أمْ يُلْزَمُ بهِ فِي ظاهِرِ الحُكْمِ فقطْ؟
فيهِ خِلافٌ مشهورٌ أيضًا.
ولوْ أوْقَعَ الطَّلاقَ بكنايَةٍ ظاهِرَةٍ، كَالْبَتَّةِ ونحوِها، فهلْ يَقَعُ بهِ الثَّلاثُ أوْ واحِدَةٌ؟
فيهِ قولان مشهورانِ.
وظاهِرُ مذهبِ أحمدَ أنَّهُ يَقَعُ بهِ الثَّلاثُ معَ إطلاقِ النِّيَّةِ.
فإنْ نوَى بِهِ ما دُونَ الثَّلاثِ وقَعَ بهِ مَا نوَاهُ.
وحُكِيَ عنهُ رِوَايَةٌ: أنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّلاثُ أيضًا.
ولوْ رأَى امرأةً فَظَنَّها امرَأَتَهُ فطلَّقَها، ثمَّ بانَتْ أجْنَبِيَّةً، طَلُقَت امْرأَتُهُ؛ لأنَّهُ إنَّما قَصَدَ طلاقَ امْرَأَتِهِ، نَصَّ على ذَلِكَ أحمدُ.
وحُكِيَ عنهُ روايَةٌ أُخْرَى: أنَّها لا تَطْلُقُ، وهوَ قولُ الشَّافِعِيِّ.
ولوْ كانَ العَكْسُ، بأنْ رأَى امْرَأَةً ظَنَّها أجْنَبِيَّةً فَطَلَّقَها، فَبَانَت امْرَأَتُهُ، فهلْ تَطْلُقُ؟
فيهِ قولانِ هما رِوَايتانِ عنْ أحمدَ.
والمشهورُ مِنْ مذهَبِ الشَّافِعِيِّ وغيرِهِ: أنَّها تَطْلُقُ.
ولوْ
كانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فنَهَى إحداهُمَا عَن الخُرُوجِ، ثُمَّ رأَى
امرَأَةً قدْ خَرَجَتْ، فَظَنَّها المَنْهِيَّةَ، فقالَ لها: فُلانةُ
خَرَجْتِ؟أنتِ طالِقٌ.
فقد اخْتَلَفَ العُلماءُ فيها.
فقالَ الحسَنُ: تَطْلُقُ المَنْهِيَّةُ ؛ لأنَّها هيَ الَّتي نَوَاهَا.
وقالَ إبراهيمُ: تَطْلُقَانِ.
وقالَ عَطَاءٌ: لا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنهما.
ومذهَبُ أحمدَ: أنَّهُ تَطْلُقُ المَنْهِيَّةُ رِوايَةً واحِدَةً؛ لأنَّهُ نَوَى طَلاقَها.
وهلْ تَطْلُقُ الْمُوَاجِهَةُ؟ على رِوَايَتَيْنِ عنهُ.
واخْتَلَفَ الأصحابُ على القولِ بأنَّها تَطْلُقُ : هلْ تَطْلُقُ فِي الحُكْمِ فقطْ، أمْ فِي الباطِنِ أيضًا؟ على طريقتَيْنِ لهم.
وقد اسْتُدِلَّ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى))، على أنَّ العُقودَ الَّتي يُقصَدُ بها فِي الباطِنِ التَّوصُّلُ إلى ما هوَ مُحَرَّمٌ غيرُ صحيحةٍ.
كَعُقُودِ البُيوعِ الَّتي يُقْصَدُ بها معنَى الرِّبا ونحوِها، كما هوَ مذْهَبُ مالِكٍ وأحمدَ وغيرِهما؛ فإنَّ هذا العَقْدَ إنَّما نُوِيَ بِهِ الرِّبَا لا البيعَ، ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى)).
ومسائلُ النِّيَّةِ المُتَعَلِّقةُ بالفقْهِ كثيرةٌ جدًّا، وفيما ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.
وقدْ تَقَدَّمَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ فِي هذا الحديثِ: (إنَّهُ يَدْخُلُ فِي سبعينَ بابًا من الفِقْهِ)، واللَّهُ أعْلَمُ.
والنِّيَّةُ: هيَ قَصْدُ القَلْبِ.
ولا يَجِبُ التَّلَفُّظُ بما فِي القَلْبِ فِي شيءٍ مِن العِبادَاتِ.
وخَرَّجَ
بعضُ أصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَهُ قَوْلاً باشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ
بالنِّيَّةِ للصَّلاةِ، وغَلَّطَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنهم.
واخْتَلَفَ المُتَأَخِّرونَ مِن الفُقَهَاءِ فِي التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ فِي الصَّلاةِ وغيرِها.
- فمِنهم: مَن اسْتَحَبَّهُ.
- ومِنهم: مَنْ كَرِهَهُ.
ولا يُعْلَمُ فِي هذِهِ المسائِلِ نَقْلٌ خَاصٌّ عن السَّلَفِ، ولا عن الأئِمَّةِ إلا فِي الحَجِّ وَحْدَهُ؛ فإنَّ مُجَاهِدًا قالَ: (إذا أرادَ الحَجَّ يُسَمِّي ما يُهِلُّ بِهِ).
ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: (يُسَمِّيهِ فِي التَّلْبِيَةِ).
وهذا ليسَ مِمَّا نحنُ فيهِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَذْكُرُ نُسُكَهُ فِي تَلْبِيَتِهِ فيقولُ: ((لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا)).
وإنَّما
كلامُنا فِي أنَّهُ يقولُ عندَ إرادَةِ عَقْدِ الإِحرامِ: اللَّهُمَّ
إنِّي أُريدُ الحجَّ أو العُمْرَةَ، كما استَحَبَّ ذَلِكَ كثيرٌ مِن
الفُقَهاءِ، وكلامُ مُجَاهِدٍ ليسَ صريحًا فِي ذَلِكَ.
وقالَ أكثرُ السَّلَفِ؛ مِنهم عطاءٌ وطاوُوسٌ والقاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ والنَّخَعِيُّ: تُجْزِئُهُ النِّيَّةُ عندَ الإِهلالِ.
وصحَّ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّهُ
سَمِعَ رجُلاً عندَ إحرامِهِ يقولُ: الَّلهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الحَجَّ أو
العُمْرَةَ. فقالَ لهَ: (أَتُعْلِمُ النَّاسَ؟ أَوَلَيْسَ اللَّهُ يَعْلَمُ
ما فِي نَفْسِكَ؟!)
ونصَّ مالِكٌ على مِثْلِ هذا ، وأنَّهُ لا يُسْتَحَبُّ لهُ أنْ يُسَمِّيَ ما أَحْرَمَ بِهِ.
حَكَاهُ صاحِبُ كتابِ (تَهْذِيبِ المُدَوَّنَةِ) مِنْ أصحابِهِ.
وقالَ أبو
داودَ: قُلْتُ لأحمدَ: (أَتَقُولُ قبلَ التَّكْبِيرِ-يَعْنِي فِي
الصَّلاةِ- شيئًا؟) قالَ:(لا). وهذا قَد يَدْخُلُ فيهِ أنَّهُ لا
يُتَلَفَّظُ بالنِّيَّةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
الشيخ:
بسم
الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، تعظيماً لمجده، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل
الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعلني وإياكم ممن يتحرك لله
ويعمل لله ويطلب العلم لله ويتكلم ويعمل لله -جل جلاله-، فـ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى)).
وما من شك أنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم، كما ثبت ذلك عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وطلب العلم له أُصوله وله رُتَبهُ، فمن فاته طلب العلم على رُتَبه وأُصوله فإنه يُحرَم الوصول، وهذه مسألة كثيراً ما نكررها رغبةً في أنْ تَقَرَّ في قلوب طلبة العلم ومُحِبِّي العلم، ألا وهي: أن يُطلب العلم شيئاً فشيئاً، على مرِّ الأيام والليالي، كما قال ذلك ابن شهاب الزهري الإمام المعروف، إذ قال: (من رام العلمَ جُمْلة؛ ذهب عنه جُملة، وإنمّا يطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي)، وهذا كما تُدَرِّس صغِيراً أصولَ الكتابة أو أصول نطق الكلمات، فإنه لا بد أن يأخذه شيئاً فشيئاً، ثم إذا استمر على ذلك أَحكم الكتابة وأحكم النطق، حتى تمكن من ذلك، والعلم كذلك.
فالعلم منه صغار ومنه كبار، باعتبار الفهم، وأمّا باعتبار العمل وباعتبار كون العلم من الله جلّ جلاله، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه ليس في العلم شيء سهل، كما
قال مالك -رحمه الله تعالى- إذْ قيل له: هذا من العلم السهل!، قال: (ليس
في علم القرآن والسنة شيء سهل، وإنما كما قال الله- جل وعلا-: {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}).
فالعلم
من أخذهُ على أنه ثقيل صعب؛ أدركَ، وأمّا من أخذ المسائل على أنها سهلة،
هذه سهلة، وهذه متصورة، وهذه مفهومة، ويمرُّ عليها مرور السريع؛ فإن هذا
يفوته شيء كثير.
فإذاً؛ لا بد
لنا في طلب العلم من تدرجٍ فيه على أصوله وعلى منهجية واضحة، ولا بد لنا
أن نأخذ العلم على أنه ليس فيه شيء سهل، بل كله ثقيل من حيث فهمهُ، ومن حيث
تثبيتُه، ومن حيث استمرارهُ مع طالب العلم، فهو ثقيل لا بد له من مواصلة
ومتابعة.
فالعلم
يُنسى إذا تُرك، وإذا تواصل معه طالب العلم فإنه يبقى، وهذا يُعظّم
التَّبِعَة على طالب العلم في أن لا يتساهل في طلبه للعلم، فلا يقولنَّ
قائل مثلاً: هذا الكتاب سهل، وهذا المتن لِمَ يُشرح؟! لأنه سهل واضح،
أحاديث معروفة؛ فإن هذا يُؤْتى من هذه الجهة حيث استسهل الأصول وعُقَد
العلم.
وقد قال طائفة من أهل العلم: (العلم عُقَد ومُلَح؛ فمن أحكَم العُقَد سَهُلَ عليه العلم، ومن فاتهُ حَلُّ العُقَد فاتهُ العلم).
وهذا
إنما يكون بإحكام أصول العلوم، وإذا ضبط طالب العلم المتون المعروفة في
الحديث، وفي العلوم المختلفة فإنه يكون مُهيَّأً للانتقال إلى درجاتٍ أعلى
بفهمٍ وتأْسيس لما سبقَ.
فلهذا؛
أحض جميع طلاب العلم على أن يأخذوا العلم بحزْم، وأن لا يأخذوه على أنَّ
هذه المسألة مفهومة وهذه سهلة وهذه واضحة، بل إنه يكرر الواضح ليزداد
وضوحاً، ويكرِّر المعلوم ليزداد به علْماً، وهكذا..
ثم
إنَّ هذا الكتاب الذي سنعاني شرحه، هو: الأحاديث المختارة المعروفة
بـ(الأربعين النووية)، جمعها العلامة/ يحيى بن شرف النووي، ويقال:
(النّواوي) أيضاً، وهو من علماء الشافعية البارزين، وممّن شرح كتباً في
الحديث وكتبًا في الفقه، وأيضًا في لغة الفقهاء، وغير ذلك من العلوم.
وأصل
كتابه: (الأربعين النووية) أنّ ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- جمع في مجالس
من مجالس تدريسه الأحاديث الكلية التي يدور عليها علم الشريعة، فجعلها ستةً
وعشرين حديثاً.
فنظر
فيها العلامة النووي فزادها ستة عشر حديثاً، فصارت الأحاديث التي اختارها
(النووي) اثنين وأربعين حديثاً، فَسُميت بـ(الأربعين النووية) تجوُّزاً.
ثم
زاد عليها الحافظ الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي -رحمه الله-
ثمانية أحاديث كلية أيضاً، وعليها مدار فهم بعض الشريعة؛ فصارت خمسين
حديثا، وهي التي شرحها في كتابه المسمى: (جامع العلوم والحكم، في شرح خمسين
حديثاً من جوامع الكلم).
وأصلُ هذه الأحاديث في اختيارها: على أنها جوامع كَلِم تدور عليها أمور الدين.
فمنها: ما يتصل بالإخلاص.
ومنها: ما هو في بيان الإسلام وأركانه، والإيمان وأركانه.
ومنها: ما هو في بيان الحلال والحرام.
ومنها: ما هو في بيان الآداب العامة.
ومنها: ما هو في بيان بعض صفات الله -جل وعلا.
وهكذا.. في موضوعات الشريعة جميعاً.
فهذه
الأحاديث الأربعين وما زيد عليها أيضاً، فيها علمُ الدين كله، فما من مسألة
من مسائل الدين إلا وهي موجودة في هذه الأحاديث؛ من العقيدة، أو من الفقه،
وهذا يتبين لمن طالع الشرح العُجاب: شرح (ابن رجب) -رحمه الله- على
(الأربعين النووية) وعلى الأحاديث التي زادها ثم شرحها، فالعناية بها مهمة؛
لأنَّ في فهمها فهم أصول الشريعة بعامة، وقواعد الدين؛ فإنَّ منها
الأحاديث التي تدور عليها الأحكام، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-
مفصلاً.
القارئ:
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وعن أمير المؤمنين أبي حفصٍ، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ
ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
رواه إماما المحدثين:
أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري. الشيخ: هذا هو الحديث الأول: حديث عمر رضي الله عنه: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ٍما نوى))، وهذا الحديث عظيم، حتى قال طائفة من السلف: ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كلِّ كتابٍ من كُتب العلم. وحديث النعمان بن بشير: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن)) ). فقال طائفة من أهل العلم-وهو القول الأول-: إنَّ قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات)) يعني: إنما الأعمال وقوعها مقبولةً أو صحيحةً؛ بالنية، ((و إنما لامرئٍ ما نوى)) يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عَمِلَه بما نواه.
وأبو الحسين، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري ، في (صحيحيهما) اللذين هما أصح الكتب المصنفة).
ولهذا بدأ به البخاري -رحمه الله- (صحيحه)، فجعل أوّل حديثٍ فيه: حديث ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ٍما نوى))، بحسب اللفظ الذي أورده في أوله.
وهذا الحديث أصلٌ من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: (ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام:
حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات)).
وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية، وذلك أن عمل المكلَّف دائر على: امتثال الأمر واجتناب النهي، وامتثال الأمر واجتناب النهي: هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبَّهات، وهو القسم الثالث.
وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات))، وفي رواية: ((مشبَّهات)).
وفِعْل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون بنية حتى
يكون صالحاً، فرجع تصحيح ذلك العمل -وهو الإتيان بما فرض الله، أو
الانتهاء عمّا حرم الله- إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحاً
مقبولاً.
ثم إنّ ما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات أو ما شرع من المستحبات؛ لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) كما في رواية مسلم للحديث.
قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات))
رُوي أيضاً في الصحيح: ((إنما العمل بالنية)) ، ورُوي: ((إنما الأعمال بالنية)) في ألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، فإنه إذا أُفرد العمل أو النية أريد بها الجنس.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ٍما نوى)) ، هذا فيه حصر؛ لأن لفظ (إنما) من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، والحصر يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، ولهذا نظر العلماء: ما المقصود بقوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) ؟
فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل، ((إنما الأعمال بالنيات))، (الباء) هنا للسببيّة يعني: إنما الأعمال تقع صحيحةً بسبب النيات، فيكون تأصيلاً لقاعدة عامة.
قال: ((وإنما لكل امرئٍ ما نوى))، (اللام) هذه لام المِلكية، يعني: مثل التي جاءت في قوله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، ((وإنما لكل امرئٍ ما نوى)) يعني: من ثواب عمله ما نواه. هذا قول طائفة من أهل العلم
والقول الثاني: أنَّ قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات)) هذا راجع إلى أنَّ (الباء) سببية أيضاً، والمقصود بها سَببُ العمل، لا سَببُ قبوله.
قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: ((إنما الأعمال بالنيات))، يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعملهُ أحد إلا وله إرادة وقصد فيه، وهي النية. فمنشأ الأعمال -سواءً كانت صالحةً أو فاسدةً، طاعة أو غير طاعة- إرادة القلب لهذا العمل. وإذا أراد القلب عملاً وكانت القدرة على إنفاذه تامة فإنَّ العمل يقع، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام -على هذا-: ((إنما الأعمال بالنيات)) يعني: إنما الأعمال صدورها وحصولها بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل. ((وإنما لكل امرئٍ ما نوى)) هذا فيه: أنَّ ما يحصل للمرء من عمله؛ ما نواه نيَّةً صحيحة، يعني إذا كانت النية صالحة؛ صار ذلك العمل صالحاً، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛
وذلك لأنَّ تقرير مبعث الأعمال وأنها راجعة لعمل القلب؛ هذا ليس هو المراد
بالحديث كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد: اشتراط النية للعمل، وأنّ
النية هي المصححة للعمل، لأن قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)) بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الرّاجح من التفسيرين: أن قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات)) يعني: إنما الأعمال -صحةً وقبولاً أو فساداً- بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله -ثواباً وأجرًا- ما نواه.
إذا تقرر هذا، فالأعمال: جمع عمل، والمقصود به هنا: ما يصدر عن المكلف ويدخل فيه الأقوال، فليس المقصود بالعمل قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا: كل ما يصدرُ عن المكلَّف من أقوال وأعمال؛ قول القلب وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
فيدخل في قوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان: قول وعمل؛ قول اللسان، وقول وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) يدخل فيه جميع أنواع ما يصدر من المكلف.
هذا العموم عموم مرادٌ به الخصوص، لأنَّ العموم -عند الأصوليين- على ثلاثة أقسام:
1- عامٌ باقٍ على عمومه.
2- وعامٌ دخله التخصيص.
3- وعامٌ مرادٌ به الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامّاً ويراد به بعض الأفراد.
وهنا في قوله: ((إنما الأعمال بالنيات))
لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية، مثل: أنواع التروك، وإرجاع
المظالم، تطهير النجاسة، وأمثال ذلك.. مما لا يشترط له النية؛ لأنه ترْك
ونحوهُ.
و"النية" -التي عليها مدار هذا الحديث-:
قصدُ القلبِ وإرادته، وإذا قلنا: النية قصد القلبِ وإرادته؛ علقناها
بالقلب فالنية إذا ليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب.
((نوى)) يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء، فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه؟ المقصود بها: إرادة وجه الله -جل وعلا- بذلك.
ولهذا في القرآن يأتي معنى النية بلفظ الإرادة والابتغاء وأشباه ذلك، كما في قوله: {يريدون وجه الله}، وكما في قوله: {يريدون وجهه}، {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}، {من كان يريد حرْث الآخرة نزدْ له في حرْثه}، (يريد) يعني: ينوي يطلب ويقصد، هذه هي النية، {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} هذا النية.
أو لفظ الابتغاء، كقوله -جل وعلا-: {إلا ابتغاء وجه ربِّه الأعلى}، وكما في قوله -جل وعلا-: {لاخير
في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس ومن
يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}.
فإذاً في النصوص يكثر ورود النية بلفظ:
أولاً: الإرادة إرادة القلب.
ثانياً: بلفظ الابتغاء.
أو: بلفظ إسلام القلب والوجه لله -جل وعلا-.
والنية في الشريعة بعامة يرادُ بها أحدُ معنيين:
1-نيةٌ متعلقةٌ بالعبادة.
2- ونية متعلقة بالمعبود.
فأما المتعلقة بالعبادة، فهي: التي يستعملها الفقهاء في الأحكام، حين يأتون إلى الشروط، (الشرط الأول: النية) يقصدون بذلك: النية المتوجهة للعبادة، وهي: تمييز العبادات بعضها عن بعض.
تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، فإذا
أتى للمسجد وأراد أن يركع ركعتين، مَيَّزَ قلبهُ هاتين الركعتين، هل هي
ركعتا تحيةِ المسجد؟ أو هل هي ركعتا راتبة؟ أو هل هي ركعتا استخارة؟.. إلخ
فتمييز القلب ما بين عبادةٍ وعبادة، هذه هي النية التي يتكلم عنها الفقهاء في الكتب الفقهية، وهي النية المتوجهة للعبادة.
القسم الثاني: النية المتوجهة للمعبود،
وهذه هي التي يُتحدث عنها باسم الإخلاص، إخلاص القصد، إخلاص النية، إخلاص
العمل لله -جل وعلا-، وهي التي تُستعمل كثيراً بلفظ (النية) و(الإخلاص)
و(القصد).
فإذاً: هذا الحديث شمل نَوعي النية:
1- النية التي توجهت للمعبود.
2- والنية التي توجهت للعبادة.
فـ((إنما الأعمال بالنيات))
يعني: إنما العبادات تقع صحيحةً أو مقبولةً بسبب النية، يعني: النية التي
تميز العبادة بعضها عن بعض أولاً، والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود
وهو الله -جلَّ جلاله-.
فلهذا
لا يصلح أن نقول: النية هنا هي النية التي بمعنى الإخلاص، ونقول: إن كلام
الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، فإن تحقيق المقام: انقسام النية
إلى هذين النوعين.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ((وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى))
هذا
حصرٌ أيضاً، وإنما لكلِّ امرئ من عمله -ثواباً وأجراً- ما نواهُ بعمله، فإن
كان نوى بعمله الله والدار الآخرة؛ يعني: أخلص لله -جل وعلا-، فعمله صالح،
وإن كان عمله للدنيا؛ فعمله فاسد.
وهذا كما جاء في آيات كثيرة، إخلاص الدين لله -جل وعلا-: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} الدين يقع على نية الإخلاص كما في قوله -جل وعلا-: {ألا لله الدين الخالص}.
وقد جاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله-جل وعلا-، كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في (الصحيح): ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتهُ وشرْكه))، وفي لفظ آخر، قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث القدسي: ((فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء)).
وهذا يدل على أنَّ العمل لا بد أن يكون خالصاً لله -جلَّ وعلا- حتى يكون مقبولاً ويؤْجر عليه العبد.
إذا وصلنا إلى هذا؛ فمعناه: أنّ من عمل عملاً ودخل في ذلك العمل نيةُ غير الله -جل وعلا- فإنَّ العمل باطل؛ لقوله: ((من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتهُ وشرْكَه))، ((فهو للذي أشرك))، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى)).
وهذا يحتمل أن يكون المراد بذلك العمل:
1-العمل الذي يكون في أصل العبادة.
2- أو في أثناء العبادة
3- أو غيَّرَ نيته بعد العبادة.
4- أو تكون العبادة في بعضها لله وفي بعضها لغير الله.
فما المراد؟
قال العلماء: تحقيق هذا المقام أنَّ العمل إذا خالطته نية فاسدة -رياء أو سمعة- فإنه إن أنشأ العبادة للخلق فهي باطلة، يعني: دخل في الصلاة لا لإرادة الصلاة ولكن يريد أن يراهُ فلان، فهذه الصلاة باطلة وهو مشرك، كما جاء في الحديث: ((من صلَّى يُرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)) يعني: حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإنّ إنشاء المسلم عباداته جميعاً على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء في بعض عبادات المسلم، إما في أولها وإمَّا في أثنائها.
وأمَّا الرّياء التام في جميع الأعمال فإن هذا لايتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال -جل وعلا- في وصفهم: {يُراؤون النّاس ولا يذكرون الله إلا قليلاً}، وقوله في وصف الكفار: {رئاءَ الناس}، يعني بهذا أن:
القسم الأول: نيةٌ ابتدأ بها العبادة لغير الله فهذه العبادة تكون باطلةً؛ صلاته باطلة، صيامه باطل، صدقته باطلة، نوى بالعمل غير الله -جل وعلا-.
القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له حالان:
الحال الأولى:
أن يُبطل نيته الأصلية ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول، من
أنَّ العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها وجعلها للمخلوق، فنوى في أثناء الصلاة
أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.
الحال الثانية من هذا القسم: أن يزيد في الصلاة لأجل رؤية أحد الناس، يراه
أحد طلبة العلم، أو يراهُ والدهُ، أو يراهُ كبير القوم، أو يراهُ إمام
المسجد، فبدل أن يسبّح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع -على خلاف عادته- لأجل
رؤية هذا الرّائي، فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأنَّ نيته
فيه لغير الله: و((إنما الأعمال بالنيات)) لكن أصل العمل صالح؛ لأنَّ هذه النية ما عرضت لأصل العمل وإنما عرضت لزيادةٍ في بعضه، أطال الصلاة أو
إمام أطال القراءة، حسَّن صوته؛ لرؤية الخلق، أو لأنَّ وراءهُ فلان أو نحو
ذلك من الأعمال؛ فلا يبطل أصل العمل وإنما ما زاد فيه لأجل الخلق يكون فيه
مشركاً الشركَ الأصغر، وهو الرياء والعياذ بالله.
والحالة الثالثة:
أن يعرض له حبُّ الثناء وحب الذكر بعد تمام العبادة، عمل العبادة لله؛ صلى
لله، حفظ القرآن لله، وصام لله، صام النوافل لله -جل وعلا- مخلصاً؛ وبعد
ذلك رأى من يُثني عليه فسَرَّه ذلك ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا
يَخرِمُ أصلَ العمل لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه -فيكون شِركاً- وإنما
وقع بعد تمامهِ، فهذا كما جاء في الحديث: ((تلك عاجل بُشرى المؤمن)) أن يسمع ثناء الناس عليه لعبادته، وهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يُثني عليه الناس. هذه ثلاثة أحوال.
وإذا تقرَّر هذا؛ فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله -جلَّ وعلا- على قسمين -أيضاً-:
الأول: أعمالٌ يجب أن لا يُريد بها وأن لا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلاً، وهذه أكثر العبادات وأكثر الأعمال الشرعية.
والقسم الثاني: عبادات حضَّ عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل: صلة الرّحم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من سرَّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره؛ فليصل رحمه))، فحضَّ على صلة الرّحم بذكر ثواب الدنيا، النسأ في الأثر والبسط في الرزق.
أو كقوله في الجهاد: ((من قتل قتيلاً فله سلبهُ)) يعني:
ما عليه من السلاح أو ما معه من المال يكون لهذا القاتل، فهذا حضٌ على
القتل بذكر ثوابٍ دُنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي -هنا في هذا القسم-
مستحضراً ما حضَّ الشارعُ من العمل يعني: من هذه العبادة وذكر فيها الثواب الدنيوي فإنه جائزٌ له ذلك؛ لأنَّ الشارع ما حضّ بذكر الدنيا إلا إذنٌ منه بأن يكون ذلك مطلوباً.
فإذاً من وصل الرحم يريد وجه الله -جل وعلا-، ولكن يريد أيضاً أن يثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق وبالنَّسأ في الأثر، يعني: طول العمر، فهذا له ذلك؛ لأجل أن الشارع حضَّ على ذلك.
جاهد
في سبيل الله يريد أيضاً مغنماً، ونيته خالصة لله -جل وعلا-، لتكون كلمة
الله هي العليا، ولكن يريد شيئاً حض عليه أو ذكره الشارع في ذلك، فهذا
قصدهُ ليس من الشرك في النية؛ لأنَّ الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في
ذلك.
فإذاً تنقسم الأعمال إلى:
- عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها.
- وإلى عبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وهذا كما جاء في قول الله -جل وعلا-: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون..} الآية.
فهذه المسألة مهمَّة، فإذا تقرر أنه لايكون مشركاً بذلك؛ فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم -مثلاً- مع نيته لله، مساوٍ لمن لم ينو الدنيا، إنما جعلها خالصة لله؟
لا؛ يختلف الأجر، لكن لا يكون مُرائياً ولا مشركاً بذلك، فمن كانت نيته خالصة لله -جل وعلا- فأجرهُ أعظم.
كلما
عظمت النية لله في الأعمال التي ذكر الشارع عليها ثواب الدنيا؛ فإنه كلما
عظمت النية الخالصة كلما عظم أجره، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قلَّ
أجرهُ، عن غيره.
تفاصيل
الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول عليه
الكلام جداً، وصنفت مصنفات في هذا، وكتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث،
وإنما نذكر في شرحنا لهذه الأربعين النووية قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح
الحديث كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمة.
قال: ((فمن كانت هجرته…))
الهجرة معناها: الترك، (هَجَر) يعني: ترك، وأصلُ الهجرة: هجرةٌ إلى الله -جل وعلا- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
هجرةٌ إلى الله -جل وعلا-: بالإخلاص وابتغاء ما عنده.
والهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: باتباعه -عليه الصلاة والسلام-، والرغبة فما جاء به -عليه الصلاة والسلام-.
ومن آثار ذلك: الهجرة الخاصة، التي هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فمن كانت هجرته)) يعني: من كان تركه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ورسوله، إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، هذا فيه تكرير للجملة: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله)) والمتقرر في علوم العربية: أنَّ الجمل إذا تكرَّرت في ترتب الفعل والجزاء فإنَّ شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء.
فلهذا نقول: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، فما تعلق بالفعل: النية والقصد، وما تعلق بالجواب: الأجر والثواب.
وهذا
فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أنَّ عمله جليل عظيم بحيث يُستغنى لبيان
جلالته وعظمه يُستغنى عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يُحتاج إلى
ذكره، فقال -عليه الصلاة السلام-: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله)) هذا
تعظيم ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله نيةً وقصداً،
فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، يعني: حدِّث عن ثوابه وعظِّم ذلك.
ثم بين الصنف الثاني فقال: ((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها...))
((لدنيا يصيبها)) هذه حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالاً، أو هاجر ليكسب زوجةً أو امرأةً، فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((فمن كانت هجرته لدنيا)) العمل الظاهر يشارك فيه من هاجر إلى الله ورسوله، لكن نيته أنه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة، فنيتهُ فاسدة.
قال: ((فهجرته إلى ما هاجر إليه))
يعني: من حيث أنه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزْر.
والهجرة: ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
أو: ترك بلد تظهر فيه البدعة إلى بلد لا تظهر فيه البدعة، وإنما تظهر فيه السنة.
أو -القسم الثالث-: ترك بلدٍ تظهر فيه الفواحش والمنكرات إلى بلد تقل فيه الفواحش والمنكرات ظهوراً.
وهذه كل واحدة منها لها أحكام
مذكورة في كتب الفقه بالتفصيل.
الكشاف التحليلي
مقدمة تمهيدية
النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم
أنواع جوامع الكلم التي خُصَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم
عناية العلماء بالأحاديث الجوامع
الكتب المصنفة في الأحاديث الجوامع
أقوال العلماء في الأحاديث التي تدور عليها أحكام الإسلام
قول الإمام أحمد
الرواية الأولى: ثلاثة أحاديث: (حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير، وحديث عائشة: " من أحدث في أمرنا ")
الرواية الثانية: ثلاثة أحاديث: (حديث عمر، وحديث ابن مسعود، وحديث عائشة)
قول إسحاق بن راهويه: أربعة أحاديث: (حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير، حديث ابن مسعود، وحديث عائشة)
قول أبي عبيد القاسم بن سلام: حديثان: (حديث عمر، وحديث عائشة)
قول أبي داودالسجستاني
الرواية الأولى: أربعة أحاديث: (حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير، وحديث أبي هريرة: "من حسن إسلام المرء.."، وحديث أبي هريرة: " إنالله طيب..")
الرواية الثانية: أربعة أحاديث: (حديث عمر، حديث النعمان بن بشير، حديث أبي هريرة: " من حسن إسلام المرء.."، وحديث: "لا يكون المؤمن مؤمناًحتى...")
الرواية الثالثة:
خَمْسَة أحاديث: (حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير، وحديث أبي هريرة: "ما
نهيتكم عنه فاجتنبوه.."، وحديث تميم الداري،وحديث أبي سعيد الخدري " لا ضرر ولا ضرار")
الرواية الرابعة: أربَعَة أحاديث: (حديث عمر، حديث النعمان بن بشير، حديث أبي هريرة: "من حسن إسلام المرء.."، وحديث سهل الساعدي)
نظم المعافري الأندلسي للأحاديث الجوامع
تعريف بالمتن ومصنفه
ترجمة موجزة للنووي
أصل كتاب الأربعين
انتقاد بعض الشراح للنووي تركه حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها...)
بيان منزلة الكتاب وشرح ابن رجب عليه
سبب تأليف ابن رجب لهذا الشرح
تسمية شرح ابن رجب
طريقة ابن رجب في شرحه
الأحاديث التي زادها ابن رجب على الأربعين النووية
الحديث الأول: حديث عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ مرفوعاً: (إنماالأعمال بالنيات)
سبب تصدير البخاري صحيحه بهذا الحديث
موضوع الحديث: أهمية النية في العمل
بيان منزلة الحديث
كلام الأئمة في أهمية هذاالحديث
الكلام على طرق الحديث
بيان درجةالحديث
ترجمة راوي الحديث
أول من لقب بأمير المؤمنين عمر بنالخطاب
(أمير المؤمنين) لقب من يتولى خلافة المسلمين
شرح قوله: (رضي الله عنه)
شرح قوله صلىالله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)
إفادة (إنما) للحصر
صيغة: (إنما الأعمال بالنيات) و(الأعمال بالنيات) تفيدالحصر
مسألة: أقسام العموم عند الأصوليين
أقوال العلماء في معنى الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)
القول الأول: الأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أوْ مُعْتَبَرَةٌ،أو مثاب عليها بالنِّيَّاتِ، وهو قول الجمهور
على هذا القول: المراد بالأعمال: الأعمالُ الشَّرْعِيَّةُ المُفْتَقِرةُ إلى النِّيَّةِ
القول الثاني: الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات
على هذا القول: المراد بالأعمال: الأعمال الاختيارية وإن لم تكن على جهة التعبد
القول الثالث: الأعمالُ صالِحَةٌ أوْ فاسِدَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ أوْ مَرْدُودَةٌ؛ بسببالنِّيَّاتِ
على هذا القول: يكون المراد أن صلاح الأعمال وفساده اناتج عن صلاح النيات وفسادها
القول الراجح في معنى الحصر في الحديث
معنى (الأعمال) في الحديث
الحديث يشتمل على جميع أفعال الجوارح
صحة الأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده وجه الله تعالى
شرطا قبول العمل:
الأول: الإخلاص
الثَّاني: المتابعة
أقسام وأحوال دخول الرياء على العمل
القسم الأول: أن يكون رياءً محضاً
القسم الثاني: أن يكونَ العَمَلُ للَّهِ،ويدخله الرِّياء وله حالتان:
الأولى: أن يدخل الرياء العمل من أصله فيبطل العمل.
الثانية: أن يكون أصلالعمل لله، ثم طرأ عليه الرياء وله حالتان:
الأولى: أن يكون الرياء خاطراً فيدفعه، فلا يضره.
الثانية: أن لا يدفعه فيسترسل معه، وهذا فيه خلاف.
ذكر ابن جرير أن محلالخلاف إنَّما هوَ فِي عَمَلٍ يَرْتَبِطُ آخِرُهُ بأوَّلِهِ؛ كالصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ
مسألة: حكم العمل إذا كان لله ثم خالطته نية غيرالرياء
مسألة: حكم العمل إذا كان لله تعالى ثم ألقى الله لصاحبه الثناء الحسن
معنى الباء في قوله: (بالنيات)
معنى (النية) في اللغة
معنى (النية) في نصوص الكتاب والسنة
ترد النية في النصوص بلفظ (الإرادة) و(الابتغاء)
الفرق بين النية والإرادة والقصد:
ذكر بعض النصوص في التعبير عن النية بالإرادة والابتغاء
معنى (النية) عند الفقهاء
كثرة المسائل الفقهية المتعلقة بالنية
تأثير النية في مسائل العبادات
تأثير النية في مسائل الأيمان والنذور
تأثير النية في مسائل الطلاق والعتاق
تأثير النية في مسائل البيوع
حكم تعيين النية لبعض العبادات
تعيين النية للطهارة
تعيين النية للصلاة المفروضة
تعيين النية للزكاة
تعيين النية لصيام رمضان
تعيين النية للحج
حكم التلفظ بالنية
مباحث النية عند أهل العلم على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تمييز المَقصُود بالعملِ، هل هو وجه الله أو لا؟
من مظان هذا النوع: كتب العقيدة والسلوك
النوع الثاني: تمييز العبادات عن العادات
أمثلة على تمييز العبادات عن العادات
من مظان هذا النوع: كتب الفقه والسلوك
النوع الثالث: تمييز العبادات بعضها عن بعض
أمثلة على تمييز العبادات بعضها عن بعض
من مظان هذا النوع: كتب الفقه والسلوك
ضوابط تحويل المباح إلى قربة
أثر النية الصالحة على المباحات
أقوال جامعة في النية والإخلاص
حكم فعل العبادة ابتغاء الثواب الدنيوي
أقسام العبادات من حيث مشروعية طلب الثواب الدنيوي بها:
القسم الأول: عبادات لا يشرع فيها طلب الثواب الدنيوي
القسم الثاني: عبادات حضَّ عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا
شرح قوله: (وإنما لكل امرئ مانوى)
معنى اللام في قوله: (لكل امرئ)
شرح قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله...)
معنى الفاء في قوله: (فمن كانت...)
أصل الهجرة وحقيقتها
معنى الهجرة إلى الله ورسوله
معنى الهجرة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته
ذكر الهجرة في الحديث من باب التمثيل على أثر النية في العمل
الهجرة تختلف باختلاف النيات
سائر الأعمال كالهجرة في الصلاح والفساد بحسب النية
معنى الهجرة يشمل هجرة المكان وهجرة العمل وهجرة العامل
أقسام الهجرة لله تعالى:
القسم الأول: ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام
القسم الثاني: ترك بلد البدعة إلى بلد السنة
القسم الثالث: ترك بلد الفواحش والمنكرات إلى بلد الاستقامة والطاعات
فائدة تكرار فعل الشرط في جواب الشرط في قوله: (فمن كانت هجرته إلىالله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)
شرح قوله: (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أوامرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)
ذكر قصة مهاجر أم قيس، وهل هي سبب ورود الحديث؟
فائدة: سبب عناية العلماء بأسباب ورود الحديث
معنى (النكاح) لغة وشرعاً:
للإنسان حياتان: الدنيا والآخرة، وبيان معنى الدنيا
فائدة الإبهام في قوله: (إلى ما هاجرإليه)
أقسام المهاجرين:
القسم الأول: المخلص لله تعالى في هجرته
القسم الثاني: المهاجر لأجل المال
القسم الثالث: المهاجر لأجل النكاح
من فوائد حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وكمال بلاغته
ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم
عظم شأن النية
تفاوت الناس في النية
الإخلاص شرط لقبول العمل
التحذير من إرادة الدنيا بعمل الآخرة
قد تتفق بعض الأعمال في صورتها وتختلف بالنية.
العناصر
مقدمة تمهيدية
النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم
أنواع جوامع الكلم التي خُصَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم
عناية العلماء بالأحاديث الجوامع
الكتب المصنفة في الأحاديث الجوامع
أقوال العلماء في الأحاديث التي تدور عليها أحكام الإسلام
نظم المعافري الأندلسي للأحاديث الجوامع
تعريف بالمتن ومصنفه
ترجمة موجزة للنووي
أصل كتاب الأربعين
انتقاد بعض الشراح للنووي تركه حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها...)
بيان منزلة الكتاب وشرح ابن رجب عليه
الحديث الأول: حديث عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ مرفوعاً: (إنما الأعمال بالنيات)
سبب تأليف ابن رجب لهذا الشرح
سبب تصدير البخاري صحيحه بهذا الحديث
موضوع الحديث: أهمية النية في العمل
بيان منزلة الحديث
الكلام على طرق الحديث
بيان درجة الحديث
ترجمة راوي الحديث
شرح قوله: (رضي الله عنه)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)
إفادة (إنما) للحصر
صيغة: (إنما الأعمال بالنيات) و(الأعمال بالنيات) تفيد الحصر
مسألة: أقسام العموم عند الأصوليين
أقوال العلماء في معنى الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)
معنى (الأعمال) في الحديث
شروط قبول العمل: الإخلاص والمتابعة
أقسام وأحوال دخول الرياء على العمل
مسألة: حكم العمل إذا كان لله تعالى ثم ألقى الله لصاحبه الثناء الحسن
معنى الباء في قوله: (بالنيات)
معنى (النية) في اللغة
معنى (النية) في نصوص الكتاب والسنة
معنى (النية) عند الفقهاء
كثرة المسائل الفقهية المتعلقة بالنية
حكم تعيين النية لبعض العبادات
حكم التلفظ بالنية
مباحث النية عند أهل العلم على ثلاثة أنواع
النوع الأول: تمييز المَقصُود بالعملِ، هل هو وجه الله أو لا؟
النوع الثاني: تمييز العبادات عن العادات
النوع الثالث: تمييز العبادات بعضها عن بعض
ضوابط تحويل المباح إلى قربة
أثر النية الصالحة على المباحات
أقوال جامعة في النية والإخلاص
حكم فعل العبادة ابتغاء الثواب الدنيوي
شرح قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى)
شرح قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله...)
أصل الهجرة وحقيقتها
معنى الهجرة إلى الله ورسوله
معنى الهجرة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته
ذكر الهجرة في الحديث من باب التمثيل على أثر النية في العمل
الهجرة تختلف باختلاف النيات
سائر الأعمال كالهجرة في الصلاح والفساد بحسب النية
معنى الهجرة يشمل هجرة المكان وهجرة العمل وهجرة العامل
أقسام الهجرة لله تعالى
فائدة تكرار فعل الشرط في جواب الشرط في قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)
شرح قوله: (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)
ذكر قصة مهاجر أم قيس، وهل هي سبب ورود الحديث؟
فائدة: سبب عناية العلماء بأسباب ورود الحديث
معنى (النكاح) لغة وشرعاً
فائدة الإبهام في قوله: (إلى ما هاجر إليه)
أقسام المهاجرين
من فوائد حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه