10 May 2011
الدرس التاسع: الرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
اقتباس:
ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]. ودليل الخشية قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ الآية [البقرة: 150]. ودليل الإنابة قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾ الآية [الزمر: 54]. |
قوله: (وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ).
الرَّغْبَة والرَّغَب: الرجاء والطمع .
والرَّهْبَةُ والرَّهَب: الخوف والخشية.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
هذا ثناء من الله تعالى على أنبيائه بأنهم يدعونه رغباً ورهباً وحث على الاتساء بهم .
والدعاء في الآية يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة
والرغب والرهب من صفات العبادة الملازمة لها، فكل عابد راغب راهب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكل داع فهو راغب راهب طامع خائف.
وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسؤول، وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ فكل عابد سائل، وكل سائل [أي بهذا المعنى]
عابد؛ فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فإنه
يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب،
ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال.
والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب يرغب في حصول مراده ويرهب من فواته، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}
وقال تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب ومن الخوف والطمع).
فالرغبة والرهبة بهذا المعنى عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى قال تعالى: {وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ} تقديم الجار والمجرور يدل على الحصر، أي لا ترغب إلا إلى الله.
وفي الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((
إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمنِ ثم قل: اللهم
أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا
ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي
أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به)).
فهذه الرغبة والرهبة عبادة
لما تحمله من المعاني التعبدية من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم
والرجاء والخوف ، وهذه عبادات يجب إخلاصها لله جل وعلا.
فمن صرفها لغير الله فقد أشرك بالله شركاً أكبر مخرجاً عن الملة والعياذ بالله.
وهذا أمر تشاهد آثاره فيمن
يعبد غير الله عز وجل من عباد القبور والأولياء والجن والأشجار والأحجار
وغيرها ، يكون في قلب العابد لها رغبة ورهبة تعبدية مشتملة على التذلل
والخضوع والمحبة والرجاء والخوف.
ويجب على العبد أن يخلص الرغبة والرهبة لله تعالى ولا يشرك به شيئاً فيها؛
فمن لم يخلص الرغبة
والرهبة فهو مشرك كافر، ومن أخلصها لله تعالى فهو مسلم موحد ، والمسلمون
يتفاضلون في درجة أداء هذه العبادات كما تقدم بيانه؛ وكلما كان العبد أعظم
رغبة في فضل الله تعالى ورحمته كان أكثر تعبداً من هذا الوجه.
ومما يزيد تعظيم الرغبة في
نفس المؤمن تفكره في أسماء الرحمة والإحسان والبر لله جل وعلا فيتفكر في
أسماء الرحمن الرحيم، والغني الكريم، والمنعم الوهاب، والبر اللطيف،
والحميد الودود ونحوها من الأسماء الحسنى التي إذا فقه معانيها وتأمل
آثارها في الخلق والأمر ازداد علماً ويقيناً ورغبة في فضل الله عز وجل
واشتياقاً إلى لقائه والنظر إلى وجهه الكريم الذي هو أقصى غاية النعيم،
نسأل الله من فضله.
وإذا تأمل ثواب الله وفضله العظيم في الدنيا والآخرة ازدادت رغبته في فضل الله ورحمته.
وسر إخلاص الرغبة هو
اعتقاد العبد الكفاية في ربه جل وعلا والثقة به واليقين بأن فضله كافيه
ومغنيه ؛ فإذا كان العبد على يقين من كفاية الله جل وعلا له كانت رغبته
خالصة لله تعالى.
والرغبة الصادقة هي التي يتبعها العمل واتباع الهدى.
أما من كان يتمنى الأماني ويقعد عن العمل فهو غير صادق في رغبته بل هو عاجز مثبَّط كما قال الله تعالى عن المنافقين: {وَلَوْ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}
فهؤلاء منافقون لم يريدوا الخروج ولم يعدوا له العدة ويتظاهرون بالصلاح
والإصلاح وقلوبهم غير منطوية على الرغبة الصادقة في فضل الله عز وجل، وإنما
يريدون التظاهر أمام المسلمين بأنهم مجاهدون في سبيل الله؛ فَكَرِهَ
انبعاثهم على هذا الوجه فثبطهم.
في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) حسنه الترمذي واستدل به جماعة من أهل العلم، ومن أهل العلم من يضعف إسناده، ومعناه صحيح.
فإن العاجز هو الذي يقعد عن بذل الأسباب مع إمكانها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل، فقرن بينهما.
والعاجز محروم مخذول مذموم ومن زعم أنه راغب في فضل الله ولم يتبع هدى الله فهو كاذب في دعواه.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن
أبي داوود والنسائي من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قَضَى بين رجلين؛ فقال المقضي عليه لما أدبر: (حسبي الله ونعم
الوكيل)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ )).
فقال: ((ما قلتَ؟)).
قال: قلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ
اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا
غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).
وهذا الحديث وإن كان في
إسناده مقال ، لكن معناه حق، فإن العاجز الذي لا يبذل الأسباب مع إمكانها
ملوم على عجزه، فإن فاته شيء من الخير أو حصل له ما يكره بسبب تفريطه فيما
يمكنه من الأسباب لم يكن له حجة.
أما الذي صدق في رغبته وبذل الأسباب التي هدى الله إليها فهو المؤمن المهتدي الموفق المتبع لرضوان الله جل وعلا.
وهو لا يطالب من الأسباب إلا بما يستطيع كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} {لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}
فإذا بذل العبد ما يستطيع
من الأسباب وتوكل على الله فقد حقق التوكل وصدق في الرغبة وكان موعوداً
وعداً لا يتخلف بتحقيق مطلوبه أو أفضل منه .
فإن غلبه أمر بعد ذلك أو
حصل له ما يكره من المصائب التي يقدرها الله عز وجل عليه ابتلاء واختباراً
فهو غير ملوم، بل هو موعود بأن يعوضه الله خيراً مما فاته، وأن يثيبه على
ما أصابه ثواباً عظيماً .
فالرغبة الصادقة تحمل على
الجد في العمل من غير تعلق بالأسباب بل يتعلق القلب بالله جل وعلا وحده،
وهذا هو تخليص العبادة لله جل وعلا.
ومن تخليص العبادة أن يحذر
المؤمن من الآفات التي تضعف الرغب إلى الله جل وعلا من الغفلة عن ذكر
الله، وتعظيم الدنيا، والتعلق بالأسباب، وضعف الصبر واليقين.
وكل ما تقدم من الكلام في الرغبة قل نظيره في عبادة الرهبة فهي عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل.
فمن تفكر في أسماء الجلال
لله تعالى كأسماء العظيم القهار الكبير الجبار والقوي المتعال المحيط
المتكبر ونحوها من الأسماء الجليلة العظيمة وتأمل آثارها في الخلق والأمر
عظمت رهبة الله تعالى في نفسه ذلت نفسه لله وخضعت، وأطاعت له وأذعنت، وسلمت
له وطلبت مرضاته، وتطهرت النفس من كل خلق لئيم، فذاب الكبر والعجب
والغرور، واضمحل الرياء والنفاق، ونأت المطامع الدنيوية الصارفة عن
المقامات العلية، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فهذا كله في بيان الرغبة والرهبة التي تحمل معاني تعبدية.
أما الرغبة التي لا تحمل
معنى العبادة وكذلك الرهبة التي لا تحمل معنى العبادة وهي الرغبة في نفع
أسباب الخير، والرهبة من أسباب الشر؛ فليست عبادة، بل هي رغبة ورهبة
يقتضيهما الطبع وحب حصول المنفعة والسلامة من المضرة.
وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (قَدِمَت
عليَّ:) أمي وهي مشركة ٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستفتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: (قدمت علي أمي وهي راغبة ٌ أَفَأَصِلُ
أمي؟
قال: نعم، صلي أُمَّكِ).
وكذلك الرهب الذي لا يحمل معنى العبادة هو رهب طبيعي ويكون حكمه بحسب ما يفضي إليه.
وقال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}
وفي أمثال العرب: رهبوت خير من رحموت. أي أن تُرهب خير من أن تُرحم.
وقال الله تعالى عن سحرة فرعون: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}
وقال: {فَإِذَا
حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا
تَسْعَىٰ * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ * قُلْنَا لَا تَخَفْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ}
فهذه الخيفة والرهبة خيفة ورهبة طبيعية لا يلام عليها الإنسان في الأصل، وهو كما يرهب من الأعداء والسباع ونحوها.
وكذلك الرغبة في أسباب
الخير مما أحوج الله بعض الناس به إلى بعض ما يرجى نفعه لا لوم على الإنسان
فيه إذا كان متبعاً لهدى الله عز وجل في ذلك، متقياً ربه جل وعلا، ولم
يتعلق قلبه بهذه الأسباب.
والمقصود أن الرغبة والرهبة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
رغبة العبادة ورهبة العبادة وهي الرغبة والرهبة التي تحمل معاني التعبد من
الذل والمحبة والتعظيم فهذه عبادة لا يجوز صرفها لغير الله جل وعلا.
القسم الثاني: الرغبة والرهبة الطبيعيتان وهما اللتان يحمل عليهما مقتضى الطبع ولا يكون فيهما معاني التعبد.
فهذه على ثلاث درجات.
الدرجة الأولى:
لا لوم فيها على العبد، وذلك إذا لم تحمل هذه الرغبة الرهبة العبد على
ارتكاب محظور لا يعذر فيه، أو ترك مأمور لا يعذر بتركه، ولم يتعلق قلبه
بالأسباب.
الدرجة الثانية:
محرمة وهي التي تحمل العبد على ترك مأمور لا يعذر بتركه أوفعل محظور لا
يعذر بفعله، وتختلف درجة التحريم بحسب درجة المخالفة؛ فإن خالف في صغيرة
كان إثمها بحسبها، وإن ارتكب كبيرة من الكبائر بسبب هذه الرغبة والرهبة كان
إثمه أعظم، فإن أدى به ذلك إلى ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام فهو كافر
والعياذ بالله كما تقدم بيانه في مسألة الخوف.
الدرجة الثالثة: الرغبة والرهبة التي هي شرك أصغر من شرك الأسباب، وهي أن يتعلق قلب العبد بالأسباب.
الخشوع
معنى الخشوع
الخشوع في اللغة أصله السكون، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}
ويفسَّر في كل موضع بحسبه؛ فخشوع الأصوات: سكونها وصمتها قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}.
أنواع الخشوع
وخشوع الأبصار: خضوعها وذلتها وانخفاضها قال الله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} وقال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}.
وخشوع القلب: ذلُّه وخضوعه وإخباته .
وخشوع الجوارح: سكونها عن الحركة المنافية للخشوع .
ومن ذلك الخشوع في الصلاة فإنه يشمل معنيين:
- خشوع القلب بالتذلل والخضوع لله جل وعلا .
- وخشوع الجوارح بأداء الصلاة بطمأنينة وترك العبث والحركة المنافية للخشوع.
كما قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}
فإنه يشمل خشوع القلب الذي هو الأصل وخشوع الجوارح وخشوع البصر في الصلاة.
والبكاء أثر من آثار الخشوع، فقد يخشع العبد في صلاته ولا يبكي، وقد يبكي فيكون بكاؤه من أثر خشوعه.
والناس يتفاضلون في الخشوع كما قال الله تعالى: {وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ
تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ
وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [سورة الإسراء]
بيان معنى الخشوع الشركي
والمقصود
أن الخشوع عبادة لله تعالى لا يجوز صرفها لغيره عز وجل ، ومن تأمل أحوال
عُبَّاد القبور والأشجار والأضرِحَة ورأى تمسّحهم وطوافهم وخوفهم ورجاءهم
وخشوعم وخضوعهم عرف المعنى المراد من الخشوع الشركي.
وأما الخشوع الذي لا يحمل معنى التعبد
وإنما يقتضيه الإطلاق اللغوي فليس بشرك، وهذا له شواهد في كلام العرب ،
واستعمال الناس له في بعض الإطلاقات ولا يراد به المعنى التعبدي، والعرب
تطلقه وصفاً للجبان تعييراً له، وكذلك قليل الصبر ومن استكان لعدوه،
ويحذرون من هذه الصفة ويتبرؤون منها.
قال ابن خفاف يوصي ابنه:
وإِذا افْتَقَـرْتَ فـلاَ تَكُـنْ مُتَخشِّعـاً ... تَرْجُو الفَواضِـلَ عنـدَ غيـرِ المُفْضِـلِ
فأَصبَحْتُ مِمَّا أَحدثَ الدهرُ خاشعاً ... وكنتُ لِرَيبِ الدهـرِ لا أَتَخَشَّـعُ
والمسكين سمي مسكيناً لما فيه من التخشع والاستكانة.
ألا فارحَمِي مَن قد ذَهَبتِ بعَقْلِهِ ... فأمسى إليكم خاشعاً يتضـرَّعُ
نسأل الله العافية.
الخشية
قوله: (وَدَلِيلُ الْخَشْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَونِي} [البقرة:150] ).
معنى الخشية
الخشية: شدة الخوف وهي مبنية على العلم ، وبذلك فُرق بينها وبين الخوف وإن كان بينهما تقارب في المعنى.
فالخشية فيها معنى الخوف الشديد المبني على العلم بعظمة المخشي منه ، قال الله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ}
فضل خشية الله تعالى
وإفراد الله بالخشية من سمات الأنبياء كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}.
وأمر الله تعالى بإفراده بالخشية {أتخشونهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
فالخشية تحمل معاني تعبدية
من التذلل والمحبة والتعظيم والانقياد، وهي من أعظم ما يحمل العبد على
التقوى فهو يخشى من غضب معبوده عليه وحرمانه من رضاه وفضله، ويخشى أن يحل
عليه سخطه وعقوبته، ويخشى أن يخذله ويتخلى عنه.
فهذه المعاني التعبدية من
أخلصها لله جل وعلا فهو موحد مؤمن قد أعد الله له الثواب العظيم ، وقد أثنى
الله تعالى على عباده المؤمنين بأنهم يخشونه بالغيب ، ووعدهم على هذه
الخشية الثواب العظيم والنعيم المقيم كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}
نكر المزيد للتشويق إليه ، وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن
المزيد هو رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا ، وهذا المزيد أفضل مما في الجنة من
النعيم، نسأل الله تعالى من فضله.
وقال تعالى: {
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) }
وإخلاص عبادة الخشية لله تعالى باب عظيم لبركات كثيرة عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله جل وعلا.
فهي مفتاح لفهم القرآن
وتدبره والاعتبار بما فيه والتذكر النافع الذي يزداد به اليقين ويرتفع به
الإيمان وتزكو به النفس، ويتيسَّر به اتباع الهدى، بل إن الله -تعالى ذكره-
بيَّن أن مقصوده الأعظم من إنزال كتابه هو تذكير أهل خشيته ومخاطبتهم به؛
فهم أحق الناس بهذا الكتاب وأسعد الناس به، والرسالة لهم فيه خاصة وهي
للناس عامة ، فلهم فيه امتياز لا يشاركه غيرهم فيه من التوفيق للفهم
والاعتبار وحسن التذكر والتبصر والدلالة على اتباع رضوانه جل وعلا وسبل
الفوز بفضله ورحمته فهو دليلهم الخاص إلى خير الدنيا والآخرة، قال الله
تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ
تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}
وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ
مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ}
وقال تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى} وهذا وعد من الله لأهل خشيته أنهم سيذكرون وينتفعون من كتابه أعظم انتفاع.
والتذكر المراد هنا يشمل ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
التذكر الذي يحمل على محبة الله جل وعلا ، ومحبة لقائه والتقرب إليه من
تذكر صفات الله عز وجل وكرمه وفضله وإحسانه فإن العبد إذا عظمت محبة الله
تعالى في قلبه أحب ما يذكره به ومن أحب ذكر الله أحبَّ الله له أن يتذكر ،
ومن كره ذكر الله كان جزاؤه من جنس عمله إلا أن يعفو الله عنه ويتوب عليه.
وصدق المحبة يحمل على
الخشية من الانقطاع عن الله جل وعلا والحرمان من رضوانه، ولذلك إذا بلغهم
من نصوص الكتاب والسنة أن من عقوبة بعض الذنوب أن صاحبها لا يكلمه الله ولا
ينظر إليه أورثهم ذلك خشية خاصة يجدونها في قلوبهم لما وقر فيها من معرفة
الله جل وعلا، واليقين بأن الحرمان من تكليمه والنظر إليه عقوبة عظيمة لا
يحتملها من صدقت محبته لله جل وعلا.
الأمر الثاني:
التذكر الذي يحمل على الرجاء في فضل الله عز وجل وحسن ثوابه؛ فإنه إذا
تذكر ما أعده الله لعباده من الثواب والفضل العظيم دعاه ذلك إلى الازدياد
من الأعمال الصالحة لما يرجو من حسن ثوابها.
وصدق الرجاء يحمل على الخشية من فوات ثواب الله عز وجل وفضله.
الأمر الثالث: التذكر الذي يحمل على الخوف من الله تعالى والخوف من سخطه وعقابه ، وهذا ما يزجره عن ارتكاب المحرمات والتفريط في أداء الفرائض.
والخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
وهذه الأمور الثلاثة
(المحبة والرجاء والخوف) هي أركان العبادة، وعليها مدراها، وهي مرتبطة
ارتباطاً وثيقاً بالخشية كما سبق بيانه، وبهذا تعلم شيئاً من الفرق بين
الخشية والخوف، وأن خشية العبادة لها لوازم تعبدية من المحبة والخوف
والرجاء.
قال ابن كثير: (وقولُه: {سَيَذَكَّرُ مَنْ يَخْشَى}. أي: سَيَتَّعِظُ بما تُبَلِّغُه يا محمدُ, مَن قَلْبُه يَخْشَى اللَّهَ ويَعْلَمُ أَنَّه مُلاقيهِ).
فالذي تقوم في قلبه خشية
العبادة لله تعالى من محبته والتذلل له والتعظيم والانقياد والرغبة والرهبة
ورجاء لقائه وفضله العظيم والخوف من سخطه وعقابه والخوف من أن يتخلى عنه
ربه ووليه إذا هو ارتكب ما يسخطه، من قام في قلبه هذا المعنى كان من أكثر
الناس حظاً وانتفاعاً بالقرآن العظيم ، لأنه يقرأ القرآن ويسمعه وقلبه
متطلع إلى مزيد من الهدى ليتعرف به على أسباب التقرب إلى الله تعالى والفوز
برضوانه وفضله العظيم والسلامة من سخطه وعقابه.
ومن كان هذا حاله فهو
موعود بما يسره ويرضيه، من الهداية لما يقربه إلى الله تعالى ويدنيه ،
ويسعده في الدنيا والآخرة ولا يشقيه ، وتأمل وصف الله تعالى لحال أهل خشيته
عند تلاوتهم وسماعهم لآيات الله تتلى عليهم ومعرفتهم بأنهم هم المعنيون
أولاً بما فيه من العبر والبينات، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }
ومن تأمل العبر والآيات البينات التي جمعها الله لأهل خشيته وبيَّنها لهم وأرشدهم إلى التأمل فيها والاعتبار بها كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ}
علم أن أهل الخشية هم أهل
الخطاب الخاص في القرآن الكريم، وهم أهل التذكر والتفكر، وهم أهل الاعتبار
والتبصر، وهم أحرص الناس على الهداية وأعظمهم فرحاً بما يقربهم من الله
تعالى ويدنيهم منه، وأشدهم حرصاً على التحرز مما يسخطه جل وعلا، لأنهم على
يقين تام بأن فوزهم وفلاحهم ونجاتهم مداره على رضوان الله تعالى عنهم، وأنه
ليس بينهم وبين الله سبب يتمسكون به إلا ما يرشدهم إليه من العمل الصالح
واتباع هداه جل وعلا ، فهم العلماء على الحقيقة ، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
وقال تعالى: {إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا
خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ
وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ
شَكُورٌ (30) }
فجمع الله لهم مواضع
الاعتبار والتفكر ووعدهم أن يوفيهم أجورهم ويزيدهم زيادة من عنده تليق
بفضله وكرمه سبحانه لم يبينها لهم بل أخفاها لهم ليتشوقوا إليها، وأخبرهم
أنه غفور شكور ، فيغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ويفتح لهم أبواب الرجاء في
مغفرته وعفوه وتجاوزه ، وهو تعالى شكور لا يضيع لهم أي عمل صالح يعملونه
ولو كان مثقال ذرة، بل يقبله منهم وينميه لهم ويضاعف لهم مثوبته.
وأرشدهم الله تعال إلى
التفكر في آياته الكونية المخلوقة وآياته المتلوة ، فهذا الماء الذي ينزل
من السماء هو ماء واحد وتخرج به ثمرات مختلف ألوانها؛ فكذلك وحي الله تعالى
المنزل هو وحي واحد ولكن انظر إلى اختلاف آثاره في قلوب الناس وأعمالهم ؛
فمنتفع ومحروم، ومستقل ومستكثر، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ
تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
(18)}
وقد وعد الله عباده الذين
يخشونه بالغيب بأن يغفر لهم ذنوبهم ، وهذا يدلك على أنه ليس من شرط الذين
يخشون ربهم أنهم معصومون من الذنوب والخطايا ، بل قد يقعون في بعضها ، وهم
على ذلك يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، ويستغفرون ربهم ويتبعون السيئة
الحسنة ويتوبون إلى الله ويستغفرونه وبذلك مدحهم الله وأثنى عليهم ووعدهم
بمغفرة ذنوبهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
درجات الخشية
- وأهل خشية الله يتفاضلون
في الخشية تفاضلاً عظيماً فهم على درجات لا يحصيهم إلا من خلقهم ، فمن كان
معه أصل الإسلام فمعه أصل الخشية، وكلما ازداد العبد من الخشية ازداد
نصيبه من تكميل منازل العبودية لله تعالى والفوز بفضله ورحمته وما يفتح
الله له به من الفضل العظيم بتذكر آياته والانتفاع بعظاته واتباع هدى الله
الذي أرشده إليه.
وأعلاهم درجة السابقون المقربون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ
هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ
رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا
سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا
كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
هذا كله في خشية العبادة ،
أما ما يطلق عليه لفظ الخشية وهو لا يحمل معاني تعبديه ؛ فهذا حكمه حكم
الخوف الطبيعي يكون بحسب ما يحمل عليه فإن لم يحمل صاحبه على ارتكاب محظور
أو ترك مأمور فهي خشية طبيعية لا يلام عليها كأن يخشى السباع والهوام
والطغاة
أما إن حملته تلك الخشية على ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه أو ترك مأمور به لا يعذر بتركه فهو مذنب آثم وإثمه على حسب جرمه
فإن أدت به هذه الخشية إلى فعل صغيرة من الصغائر فإثمه بحسبه.
وإن أدَّت إلى فعل كبيرة كان إثمه أعظم، وهو ملوم مذموم على الحالين كما قال الله تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ
أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا
قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا
(77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
ولهذا تكثر هذه الخشية عند
المنافقين حتى إنها ربما أخرجتهم من دائرة الإسلام والعياذ بالله وذلك إذا
حملتهم على موالاة الكفار على المؤمنين كما قال الله تعالى: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ
فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}
بيان معنى الخشية الشركية
- وأما من حملته خشيته من
فوات بعض حظوظ الدنيا على التعلق بالدنيا تعلقاً يكون فيه تذلل وخوف ورجاء
فهذا قد وقع في الشرك الأصغر وعبودية الدنيا والعياذ بالله.
فإن حملته عبوديته للدنيا على ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام كفر والعياذ بالله.
الإنابة
قوله: (وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} الآية [الزمر:54]). ولقد رأيت سبيئة من أرضها.......تسبى القلوب وما تنيب إلى هوى
كأنَّ ظهورَها حزَمٌ أنابَتْ.......بِها أُصُلاً إلى الحيِّ الإماءُ
معنى الإنابة
الإنابة: هي الرجوع والإقبال إلى الله تعالى.
قال قتادة في قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} : أي أقبلوا إلى ربكم.
وقال عبد الرحمن بن زيد :
(الإنابة: الرجوع إلى الطاعة، والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: (
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ ).
التناسب بين الخشية والإنابة
والإنابة هي من آثار خشية الله وعلامة عليها؛ كما قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)}
فمن أحب الله تعالى أناب إليه، ومن رجا فضله تعالى أناب إليه، ومن خاف عذابه أناب إليه.
فمصدر الخشية: المحبة والخوف والرجاء، وثمرة الخشية الإنابة إلى الله تعالى كما قال تعالى: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
وقد بين الله تعالى أن المنتفعين بآياته والمتذكرين والمتبصرين هم أهل الخشية، وأهل الإنابة.
فإذا أطلقت الخشية فلأنها سبب الإنابة والحامل عليها، وإذا أطلقت الإنابة فلأنها هي الثمرة المقصودة من الخشية.
قال تعالى: {هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا
وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
وقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}
فالعبد المنيب هو الذي جمع الخشية وأسبابها من المحبة والخوف والرجاء، ولذلك جعلها الله من أوصاف أنبيائه ومدحهم بها فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}
وقال عن شعيب أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
وأوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح تهجده (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر.
وقد أمر الله تعالى عباده بالإنابة إليه فقال تعالى: {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ}
فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الأسباب الثلاثة الحاملة على الإنابة وهي:
السبب الأول:
تحبيبهم إليه تعالى، وتذكيرهم بصفاته المقتضية لمحبته فهو ربهم وهم عباده،
وهو الرحيم الذي لا يؤيس عباده من رحمته، الغفور الذي يغفر الذنوب جميعاً
مهما بلغت فلا يستعظمه ذنب أن يغفره، وهو الودود الذي تودد إلى عباده بحسن
مخاطبتهم رحمة بهم وإحساناً إليهم وهو الغني عنهم جل وعلا، ورفع من شأنهم
إذ أضافهم إليه في خطابه لهم {يَا عِبَادِيَ}.
فمن تأمل هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا وآثارها أحبَّ الله تعالى وأناب إليه.
السبب الثاني: الرجاء في رحمته ومغفرته وفضله العظيم {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}
السبب الثالث: التخويف من عذابه جل وعلا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}
فمن تدبر هاتين الآيتين عرف أسباب الإنابة، وأنها ترجع إلى المحبة والخوف والرجاء التي هي أصول العبادة.
وقال تعالى: {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
الإنابة سبب الهداية
وقد بيَّن الله تعالى أن
الإنابة إليه من أسباب الهداية التي هي أعظم المطالب وهي سبب الفوز والفلاح
في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) }
وقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}
ومن حقق التوكل والإنابة فقد حقق العبودية لله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: (التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة ؛ فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة).
وفي الفاتحة : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وبهما اكتمال دين العبد.
تعرّض الشيطان لأهل الإنابة
ومما ينبغي التفطن له ما
نبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقول:(الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد
الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به ؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض
لغيرهم ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة.
ولهذا يوجد عند طلاب العلم
والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم لأنه لم يسلك شرع الله
ومنهاجه ؛ بل هو مقبلٌ على هواه في غفلةٍ عن ذكر ربه .
وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله .
قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}
ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فإن قراءة
القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم وتزيده يقينًا
وطمأنينةً وشفاءً .
وقال تعالى : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} وقال تعالى : {هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}).
فهذا كله في الإنابة التي تحمل معاني العبادة فإخلاصها لله تعالى واجب ، ومن صرفها لغير الله تعالى فلا شك في كفره.
وقد يطلق لفظ الإنابة في
اللغة ولا يراد به هذه المعاني التعبدية وإنما يراد به المعنى اللغوي العام
وهو الرجوع والإقبال؛ فيقال: أنابت المرأة إلى زوجها إذا رجعت إليه بعد
نشوز.
وقال الشاعر:
(أُصُل) جمع أصيل وهو
العصر ، وهو وقت رجوع الإماء من أعمالهن حاملات حزم الحطب على رؤوسهن
مقبلات إلى منازل الحي؛ فسمى هذا الرجوع والإقبال إنابة.
فهذا الإطلاق إنما يراد به
أصل المعنى اللغوي ، وهو عارٍ من المعنى التعبدي ، وسبب التنبيه على ذلك
أنه ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن هذه الألفاظ قد تطلق ويراد بها المعنى
التعبدي ، وقد تطلق ويراد بها المعنى اللغوي المجرد عن اللوازم التعبدية ،
وهو استعمال صحيح جائز في مواضعه لا حرج فيه.
ومن غفل عن هذا الأمر ربما تشدد في منع إطلاق هذه الألفاظ جهلاً منه بأنها تطلق إطلاقاً سائغاً على معانٍ لا محذور فيها.
(خلاصة الدرس التاسع)
الرغبة والرهبة
· الرَّغْبَة والرَّغَب: الرجاء والطمع.
· والرَّهْبَةُ والرَّهَب: الخوف والخشية.
· الرغبة والرهبة عبادتان جليلتان، قال الله تعالى في مدح أنبيائه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]، وفيه حث على الاتساء بهم.
· الرَّغَب والرَّهَب من صفات العبادة الملازمة لها، فكل عابد راغب راهب.
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكل داع فهو راغب راهب طامع
خائف، وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسؤول، وكل عابد له فهو أيضا راغب
وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ فكل عابد سائل، وكل سائل [أي بهذا المعنى]
عابد؛ فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه)ا.هـ.
· الرغبة والرهبة بهذا المعنى عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى قال تعالى: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 8] تقديم الجار والمجرور يدل على الحصر، أي لا ترغب إلا إلى الله.
· في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((
إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمنِ ثم قل:
اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة
إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت،
وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم
به)).
· الرغبة والرهبة يحملان معاني تعبدية من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والرجاء والخوف، وهذه عبادات يجب إخلاصها لله جل وعلا؛ فمن صرفها لغير الله فقد أشرك بالله شركاً أكبر مخرجاً عن الملة والعياذ بالله.
· وهذا أمر تُشَاهَدُ آثارُه فيمن يعبد غير الله عز وجل من عباد القبور
والأولياء والجن والأشجار والأحجار وغيرها، يكون في قلب العابد لها رغبة
ورهبة تعبدية مشتملة على التذلل والخضوع والمحبة والرجاء والخوف.
· المسلمون يتفاضلون في أداء هذه العبادات كما تقدم بيانه في نظائره؛
وكلما كان العبد أعظم رغبة في فضل الله تعالى ورحمته كان أكثر تعبداً من
هذا الوجه.
· تعظم الرغبة في نفس المؤمن بأمرين:
- الأمر الأول: تفكّره في أسماء الرحمة والإحسان لله جل وعلا وتأمُّلُه
آثارَها في الخلق والأمر فيزداد بذلك علماً ويقيناً ورغبة في فضل الله عز
وجل واشتياقاً إلى لقائه والنظر إلى وجهه الكريم الذي هو أقصى غاية
النعيم، نسأل الله من فضله.
- الأمر الثاني: تأمّل ما أخبر الله به من ثوابِه وفضله العظيم في
الدنيا والآخرة لمن أطاعه واتبع هداه، والوقوف عند الآيات التي فيها وصف
النعيم الذي أعدّه الله لعباده المؤمنين وتحريك القلب للتشوّق إليه؛
فتزداد رغبته في ثواب الله وفضله ورحمته وبركاته.
· ﴿وإلى ربك فارغب﴾ [الشرح: 8]
سرّ إخلاص الرغبة هو اعتقاد العبد الكفاية في ربه جل وعلا والثقة
به،واليقين بأن فضله كافيه ومغنيه؛ فمتى امتلأ قلبه يقينا بهذا كانت رغبته
خالصة لله تعالى.
· الرغبة الصادقة هي التي يتبعها العمل واتباع الهدى، وأما من يتمنى
الأماني ويقعد عن العمل فإنه غير صادق الرغبة وإنما هو متمنٍّ عاجز
مثبَّط.
· قال الله تعالى عن المنافقين: ﴿وَلَوْ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾[التوبة: 46]، وقال عن المخذول من بني إسرائيل: ﴿ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه﴾[الأعراف: 176].
· هؤلاء منافقون لم يريدوا الخروج ولم يعدوا له العدة وإنما تظاهروا
بأنّهم مع المؤمنين وقلوبهم غير راغبة في الجهاد في سبيل الله؛ فَكَرِهَ
انبعاثهم على هذا الوجه فثبطهم.
· قال الله تعالى: ﴿وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالى ولا يُنفقون إلا وهم كارهون﴾ [التوبة: 54]؛ فحالهم يبيّن عدم صدق رغبتهم، وهو من أسباب عدم قبول أعمالهم.
· لا يطالَب العبد من الأسباب إلا بما يستطيع كما قال تعالى:﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]،﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [الأنفال: 60]،﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7].
· إذا بذل العبد ما يستطيع من الأسباب وتوكل على الله فقد حقق التوكل
وصدقَ الرغبةَ فكان موعوداً وعداً لا يتخلّف بتحقيق مطلوبه أو أفضل منه.
· فإن غلبه أمر بعد ذلك أو حصل له ما يكره من المصائب التي يقدرها الله
عز وجل عليه ابتلاء واختباراً فهو غير ملوم، بل هو موعود بأن يعوضه الله
خيراً مما فاته، وأن يثيبه على ما أصابه ثواباً عظيماً.
· الرغبة الصادقة تحمل على الجدّ في العمل من غير تعلق بالأسباب بل يتعلق
القلب بالله جل وعلا وحده، وهذا هو تخليص العبادة لله جل وعلا.
· من تخليص العبادة أن يحذر المؤمن من الآفات التي تضعف الرغب إلى الله
جل وعلا من الغفلة عن ذكر الله، وتعظيم الدنيا، والتعلق بالأسباب، وضعف
الصبر واليقين.
· كلّ ما تقدم من الكلام في الرغبة قُلْ نظيرَه في عبادة الرهبة فهي عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل.
· ومن تفكر في أسماء الجلال لله تعالى كأسماء العظيم القهار الكبير
الجبار والقوي المتعال المحيط المتكبر ونحوها من الأسماء الجليلة العظيمة
وتأمل آثارها في الخلق والأمر عظمت رهبة الله تعالى في نفسه وذلَّت نفسه
لله وخضعت، فأسلمت له وطلبت مرضاته.
· الرهبة الصادقة تزكّي النفس من خصال ذميمة من شرّها: الكِبْر والعُجْب
والغرور، وتطهّر القلب من الرياء والنفاق وطلب الدنيا بعمل الآخرة، وتسمو
بهمّة صاحبها فلا يُخلد إلى الأرض ولا يتّبع هواه؛ فتنأى عن قلبه المطامع
الدنيوية الصارفة عن المقامات العلية، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله
ذو الفضل العظيم.
· ما تقدّم كلّه في بيان الرغبة والرهبة التي تحمل معاني تعبدية.
· أما الرغبة التي لا تحمل معنى العبادة وكذلك الرهبة التي لا تحمل معنى
العبادة وهي الرغبة في نفع أسباب الخير، والرهبة من أسباب الشر؛ فليست
عبادة، بل هي رغبة ورهبة يقتضيهما الطبع وحب حصول المنفعة والسلامة من
المضرة.
· في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (قَدِمَت
عليَّ أمي وهي مشركة ٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستفتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: (قدمت علي أمي وهي راغبة ٌ أَفَأَصِلُ
أمي؟ قال:(( نعم، صلي أُمَّكِ)) ).
· وكذلك الرهب الذي لا يحمل معنى العبادة هو رهب طبيعي ويكون حكمه بحسب ما يفضي إليه، وقال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[الأنفال: 60].
· وقال الله تعالى عن سحرة فرعون: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 116]، ووقال: ﴿فَإِذَا
حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا
تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا
تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) ﴾ [طه: 66-68].
· في أمثال العرب: رَهَبُوت خيرٌ من رَحَمُوت؛ أي: أن تُرهب خير من أن تُرحم.
- هذه الخيفة والرهبة طبيعية لا يلام عليها الإنسان في الأصل، وإنما هي كمثل رهبة الأعداء والسباع ونحوها.
· وكذلك الرغبة في أسباب الخير مما أحوج الله بعض الناس به إلى بعض ما
يرجى نفعه لا لوم على الإنسان فيه إذا كان متبعاً لهدى الله عز وجل في
ذلك، متقياً ربه جل وعلا، ولم يتعلق قلبه بهذه الأسباب.
أقسام الرغبة والرهبة
· الرغبة والرهبة تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: رغبة العبادة ورهبة العبادة وهي الرغبة والرهبة التي تحمل
معاني التعبد من الذل والمحبة والتعظيم فهذه عبادة لا يجوز صرفها لغير
الله جل وعلا.
- القسم الثاني: الرغبة والرهبة الطبيعيتان وهما اللتان يحمل عليهما
مقتضى الطبع ولا يكون فيهما معاني التعبد؛ فهذه على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: لا لوم فيها على العبد، وذلك إذا لم تحمل هذه الرغبة
الرهبة العبد على ارتكاب محظور لا يعذر فيه، أو ترك مأمور لا يعذر بتركه،
ولم يتعلق قلبه بالأسباب.
الدرجة الثانية: محرمة وهي التي تحمل العبد على ترك مأمور لا يعذر بتركه
أوفعل محظور لا يعذر بفعله، وتختلف درجة التحريم بحسب درجة المخالفة؛ فإن
خالف في صغيرة كان إثمها بحسبها، وإن ارتكب كبيرة من الكبائر بسبب هذه
الرغبة والرهبة كان إثمه أعظم، أمّا إذا أدّى به ذلك إلى ارتكاب ناقض من
نواقض الإسلام فهو كافر والعياذ بالله كما تقدم بيانه في مسألة الخوف.
الدرجة الثالثة: الرغبة والرهبة التي هي شرك أصغر من شرك الأسباب، وهي أن يتعلق قلب العبد بالأسباب.
الخشوع وإِذا افْتَقَرْتَ فلاَ تَكُنْ مُتَخشِّعاً تَرْجُو الفَواضِلَ عندَ غيرِ المُفْضِلِ
· الخشوع في اللغة أصله السكون، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾[فصلت: 39]، ويفسَّر في كل موضع بحسبه.
- فخشوع الأصوات: سكونها وصمتها قال تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ [طه: 108].
- وخشوع الأبصار: خضوعها وذلّتها وانخفاضها قال الله تعالى: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴾[النازعات: 8، 9] وقال تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ [القلم: 43].
· وخشوع القلب: ذلُّه وخضوعه وإخباته.
· وخشوع الجوارح: سكونها عن الحركة المنافية للخشوع.
· الخشوع في الصلاة يشتمل على معنيين:
- خشوع القلب بالتذلل والخضوع لله جل وعلا.
- وخشوع الجوارح بأداء الصلاة بطمأنينة وترك العبث والحركة المنافية للخشوع.
· قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾[المؤمنون: 1، 2].
- الخشوع هنا يشمل: خشوع القلب الذي هو الأصل، وخشوع الجوارح، وخشوع البصر في الصلاة.
- البكاء أَثَرٌ من آثار الخشوع، فقد يخشع العبد في صلاته ولا يبكي، وقد يبكي فيكون بكاؤه من أثر خشوعه.
· الناس يتفاضلون في الخشوع كما قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ
تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ
وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) ﴾[سورة الإسراء: 106-109].
· الخشوع عبادة لله تعالى لا يجوز صرفها لغيره عز وجل.
- من تأمّل أحوال عُبَّاد القبور والأشجار والأضرِحَة ورأى تمسّحهم وطوافهم وخوفهم ورجاءهم وخشوعم وخضوعهم عرف معنى الخشوع الشركي.
· أما الخشوع الذي لا يحمل معنى التعبد وإنما يقتضيه الإطلاق اللغوي فليس
بشرك، وهذا له شواهد في كلام العرب، واستعمال الناس له في بعض الإطلاقات
ولا يراد به المعنى التعبدي.
· تطلقه العرب وصفاً للجبان تعييراً له، وكذلك قليل الصبر ومن استكان لعدوه، ويحذرون من هذه الصفة ويتبرؤون منها.
- قال ابن خفاف:
فأَصبَحْتُ مِمَّا أَحدثَ الدهرُ خاشعاً وكنتُ لِرَيبِ الدهرِ لا أَتَخَشَّعُ
· المسكين سمي مسكيناً لما فيه من التخشع والاستكانة.هذا الخشوع يكون لدى بعض العشاق ونحوهم، ومن ذلك قول الأحوص:
ألا فارحَمِي مَن قد ذَهَبتِ بعَقْلِهِ فأمسى إليكم خاشعاً يتضرَّعُ
- فهذا شرك أصغر قادح في كمال التوحيد الواجب؛ فإن أدى بصاحبه إلى ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام القولية أو الفعلية أو الاعتقادية فهو كافر والعياذ بالله.الخشية
· الخشية: شدة الخوف، وهي مبنية على العلم، وبهذين المعنيين فُرّق بينها وبين الخوف وإن كان بينهما تقارب في المعنى.
· الخشية فيها معنى الخوف الشديد المبني على العلم بعظمة المخشي منه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ﴾ [فاطر: 28].
· إفراد الله تعالى بالخشية من سِمَات الأنبياء كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾[الأحزاب: 39].
· أمر الله تعالى بإفراده بالخشية فقال تعالى: ﴿أتخشونهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 13].
· الخشية تحمل معاني تعبدية من التذلل والمحبة والتعظيم والانقياد.
· الخشية هي أعظم ما يحمل العبد على التقوى؛ فهو يخشى من غضب إلهه عليه
وحرمانه من رضاه وفضله، ويخشى أن يحل عليه سخطه وعقوبته، ويخشى أن يخذله
ويتخلى عنه.
· هذه المعاني التعبدية من أخلصها لله جل وعلا فهو مؤمن موحّد وليّ من
أولياء الله تعالى؛ قد أعدّ الله له الثواب العظيم والمقام الكريم.
· أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين بأنهم يخشونه بالغيب، كما قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)﴾ [ق: 31-35].
- ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ نَكَّر المزيد
للتشويق إليه، وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن المزيد هو رؤية
المؤمنين لربهم جل وعلا، وهذا المزيد أفضل مما في الجنة من النعيم، نسأل
الله تعالى من فضله.
· وقال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) ﴾[البينة: 7، 8].
· إخلاص عبادة الخشية لله تعالى باب عظيم لبركات كثيرة عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله جل وعلا:
- فهي مفتاح لفهم القرآن وتدبره والاعتبار بما فيه والتذكر النافع الذي
يزداد به اليقين ويرتفع به الإيمان وتزكو به النفس، ويتيسَّر به اتباع هدى
الله تعالى.
- بيّن الله تعالى أن مقصوده الأعظم من إنزال كتابه هو تذكير أهل خشيته ومخاطبتهم به؛ قال الله تعالى:﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه: 1-3].
- فأهل الخشية هم أحق الناس بهذا الكتاب الكريم وأسعد الناس به، والرسالة
لهم فيه خاصة وهي للناس عامة، فلهم فيه امتياز لا يزاحمون عليه، من
التوفيق لفهمه والانتفاع به وحسن التذكر والتبصر والاعتبار.
- يفتح الله لأهل الخشية في فهم القرآن ما لا يفتح لغيرهم لأنهم يقرؤونه
بقلوب منيبة إلى الله معظمة لله ولكتابه مقبلة على الله تتشوّق لمعرفة هدى
الله؛ فيهديهم الله بسبب ما يعلمه في قلوبهم.
· قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [فاطر: 18]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ [يس: 11]، وقال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى: 9، 10] وهذا وعد من الله لأهل خشيته أنهم سيذكرون وينتفعون من كتابه.
· التذكر المراد هنا يشمل ثلاثة أمور:
- الأمر الأول: التذكر الذي يحمل على محبة الله جل وعلا، ومحبة لقائه
والتقرب إليه من تذكر صفات الله عز وجل وكرمه وفضله وإحسانه؛ فإن العبد
إذا عظمت محبة الله تعالى في قلبه أحبَّ ما يذكره به، ومن أحبَّ ذِكْر
الله أحبَّ الله له أن يتذكر، ومن كره ذكر الله كان جزاؤه من جنس عمله إلا
أن يعفو الله عنه ويتوب عليه.
صدق المحبة يحمل على الخشية من الانقطاع عن الله جل وعلا والحرمان من
رضوانه، ولذلك إذا بلغهم من نصوص الكتاب والسنة أن من عقوبة بعض الذنوب أن
صاحبها لا يكلمه الله ولا ينظر إليه أورثهم ذلك خشية خاصة يجدونها في
قلوبهم.
الحرمان من رضا الله عز وجل وتكليمه والنظر إليه عقوبة عظيمة لا تحتملها قلوب من صدقت محبتهم لله جل وعلا.
مما يدلّ على ذلك قول الله تعالى في عقوبة الكفار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ﴾ [المطففين: 15، 16] فبدأ بالعقوبة الأهمّ على نفوسهم بعدما تظهر لهم الحقائق.
- الأمر الثاني: التذكر الذي يحمل على رجاء فضل الله عز وجل وحسن ثوابه؛
فإنه إذا تذكر ما أعده الله لعباده من الثواب والفضل العظيم دعاه ذلك إلى
الازدياد من الأعمال الصالحة لما يرجو من حسن ثوابها.
صدق الرجاء يحمل على الخشية من فوات ثواب الله عز وجل وفضله.
- الأمر الثالث: التذكر الذي يحمل على الخوف من الله تعالى والخوف من
سخطه وعقابه، وهذا ما يزجره عن ارتكاب المحرمات والتفريط في أداء الفرائض.
الخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
· هذه الأمور الثلاثة (المحبة والرجاء والخوف) هي أركان العبادة،
وعليها مدراها، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالخشية كما سبق بيانه.
· بهذا تعلم شيئاً من الفرق بين الخشية والخوف، وأن خشية العبادة لها لوازم تعبدية من المحبة والخوف والرجاء.
· تأمّل ما وصف الله تعالى به أهل خشيته عند تلاوتهم أو سماعهم لآيات
الله تتلى عليهم ومعرفتهم بأنهم هم المعنيون أولاً بما فيه من العبر
والبينات.
· قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) ﴾[الزمر: 22، 23]
- جعل الله قسوة القلب علامة بيّنة على الضلال.
· من تأمّل العبر والآيات البينات التي جمعها الله لأهل خشيته وبيَّنها لهم وأرشدهم إلى الاعتبار بها كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26]علِم أن أهل الخشية هم أهل الخطاب الخاص في القرآن الكريم.
· أهل الخشية هم أهل التذكر والتفكر، وهم أهل الاعتبار والتبصر، وهم أحرص
الناس على الهداية وأعظمهم فرحاً بما يقربهم من الله تعالى ويدنيهم منه،
وأشدهم حرصاً على التحرز مما يسخطه جل وعلا.
· سبب ذلك أنهم على يقين عظيم بأن فوزهم وفلاحهم ونجاتهم مداره على رضوان
الله تعالى عنهم، وأنه ليس بينهم وبين الله سبب يتمسكون به إلا ما يرشدهم
إليه من العمل الصالح واتباع هداه جل وعلا.
· فأهل الخشية هم العلماء على الحقيقة، كما قال الله تعالى: ﴿أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[الزمر: 9].
· تأمّل هذا المثال: قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ
وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) ﴾[فاطر: 27-30]
- جمع الله لأهل الخشية مواضع الاعتبار والتفكر من الآيات المتلوّة والكونية وهما طرق معرفة الله جلّ وعلا.
- ووعدهم أن يوفيهم أجورهم ويزيدهم زيادة من عنده تليق بفضله وكرمه سبحانه لم يبينها لهم بل أخفاها لهم ليتشوقوا إليها.
- وأخبرهم أنه غفور شكور، فيغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ويفتح لهم أبواب
الرجاء في مغفرته وعفوه وتجاوزه، وهو تعالى شكور لا يضيع لهم أي عمل صالح
يعملونه ولو كان مثقال ذرة، بل يقبله منهم وينميه لهم ويضاعف لهم مثوبته.
- وأرشدهم الله تعالى إلى التفكر في آياته الكونية المخلوقة وآياته
المتلوة، فهذا الماء الذي ينزل من السماء هو ماء واحد وتخرج به ثمرات
مختلف ألوانها؛ فكذلك وحي الله تعالى المنزل هو وحي واحد ولكن انظر إلى
اختلاف آثاره في قلوب الناس وأعمالهم؛ فمنتفع ومحروم، ومستقل ومستكثر، إن
في ذلك لعبرة لمن يخشى.
· وقال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ
تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
(18)﴾[فاطر: 15-18].
· وعد الله عباده الذين يخشونه بالغيب بأن يغفر لهم ذنوبهم، وهذا يدلك
على أنه ليس من شرط الذين يخشون ربهم أنهم معصومون من الذنوب والخطايا، بل
قد يقعون في بعضها، وهم على ذلك يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب،
ويستغفرون ربهم ويتبعون السيئة الحسنة، ويتوبون إلى الله ويستغفرونه،
وبذلك مدحهم الله وأثنى عليهم ووعدهم بمغفرة ذنوبهم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12].
· يتفاضل أهل خشية الله تفاضلاً عظيماً فهم على درجات لا يحصيهم إلا من خلقهم.
· فمن كان معه أصل الإسلام فمعه أصل الخشية، وكلما ازداد العبد من الخشية
ازداد نصيبه من تكميل منازل العبودية لله تعالى والفوز بفضله ورحمته وما
يفتح الله له به من الفضل العظيم بتذكر آياته والانتفاع بعظاته واتباع هدى
الله الذي أرشده إليه.
· أعلاهم درجة السابقون المقربون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ
هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا
نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) ﴾ [المؤمنون: 57-62].
· كل ما سبق في خشية العبادة.
· أما ما يطلق عليه لفظ الخشية وهو لا يحمل معاني تعبديه؛ فهذا حكمه حكم الخوف الطبيعي يكون بحسب ما يحمل عليه.
- فأما من لم تحمله هذه الخشية على ارتكاب محظور ولا ترك مأمور فهي خشية طبيعية لا يلام عليها كأن يخشى السباع والهوام والطغاة.
· وأما من حملته تلك الخشية على ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه أو ترك
مأمور به لا يعذر بتركه فهو مذنب آثم وإثمه على حسب جرمه؛ فإن أدَّت به
هذه الخشية إلى فعل صغيرة من الصغائر فإثمه بحسبه؛ وإن أدَّت إلى فعل
كبيرة كان إثمه أعظم، وهو ملوم مذموم على الحالين.
· قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا
الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا
رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ
لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا
يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا (78) ﴾ [النساء: 77، 78].
· تكثر هذه الخشية المذمومة عند المنافقين، بل ربما أخرجتهم من دائرة
الإسلام والعياذ بالله وذلك إذا حملتهم على ما ينقض الإسلام كموالاة
الكفار على المؤمنين ونحو ذلك، قال الله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ
(53)﴾ [المائدة: 51-53].
· فمن حملته هذه الخشية على ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام كموالاة الكفار
وطاعة الطواغيت فيما يخرج من الملّة فهو كافر بذلك، حاله كحال المنافقين
النفاق الأكبر.
· وأما من منعته خشيته من الله من ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام لكن بقي
في قلبه تعلّق بالدنيا لخشيته من فوات بعض متاعها؛ فكان في قلبه نوع تعلقٍ
مصحوب بتذلل وخوف ورجاء فهذا قد وقع في الشرك الأصغر وعبودية الدنيا، كما
سبق بيانه، والعياذ بالله.
الإنابة
· الإنابة: هي الرجوع والإقبال إلى الله تعالى.
· قال قتادة في قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: 54]: أي أقبلوا إلى ربكم.
· وقال عبد الرحمن بن زيد: (الإنابة: الرجوع إلى الطاعة، والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ﴾ [الروم: 31]).
· الإنابة من آثار خشية الله وعلامة عليها؛ كما قال تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ﴾ [ق: 32، 33].
· من أحب الله تعالى أناب إليه، ومن رجا فضله تعالى أناب إليه، ومن خاف عذابه أناب إليه.
· فمصدر الخشية: المحبة والخوف والرجاء، وثمرة الخشية الإنابة إلى الله تعالى كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
هَادٍ﴾[الزمر: 23].
· وقد بين الله تعالى أن المنتفعين بآياته والمتذكرين والمتبصرين هم أهل الخشية، وأهل الإنابة.
· فإذا أطلقت الخشية فلأنها سبب الإنابة والحامل عليها، وإذا أطلقت الإنابة فلأنها هي الثمرة المقصودة من الخشية.
· قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ
وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا
مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: 13، 14]، وقال تعالى: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8].
· العبد المنيب هو الذي جمع الخشية وأسبابها من المحبة والخوف والرجاء.
· جعل الله الإنابة من الأوصاف التي مدح بها أنبياءه فقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75]، وقال عن شعيب أنه قال: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].
· وأوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[الشورى: 10].
· ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح تهجده (( اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ)) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
· (وإليك أَنَبْتُ):تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر،وفيه معنى إخلاص الإنابة لله تعالى.
· أمر الله تعالى عباده بالإنابة إليه فقال تعالى: ﴿قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: 53، 54].
· جمع الله تعالى في هاتين الآيتين الأسباب الثلاثة الحاملة على الإنابة وهي:
- السبب الأول: تحبيبهم إليه تعالى، وتذكيرهم بصفاته المقتضية لمحبته فهو
ربهم وهم عباده، وهو الرحيم الذي لا يؤيس عباده من رحمته، الغفور الذي
يغفر الذنوب جميعاً مهما بلغت فلا يستعظمه ذنب أن يغفره، وهو الودود الذي
تودد إلى عباده بحسن مخاطبتهم رحمة بهم وإحساناً إليهم وهو الغني عنهم جل
وعلا، ورفع من شأنهم إذ أضافهم إليه في خطابه لهم ﴿يَا عِبَادِيَ﴾؛ فمن تأمل هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا وآثارها أحبَّ الله تعالى وأناب إليه.
- السبب الثاني: الرجاء في رحمته ومغفرته وفضله العظيم ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53].
- السبب الثالث: التخويف من عذابه جل وعلا ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: 54].
· من تدبّر هاتين الآيتين عرف أسباب الإنابة، وأنها ترجع إلى المحبة والخوف والرجاء التي هي أصول العبادة.
· وقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[الروم: 30-32].
الإنابة سبب الهداية
· بيَّن الله تعالى أن الإنابة إليه سبب الهداية التي هي أعظم المطالب ومفتاح الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
- قال الله تعالى: ﴿قُلْ
إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ
(27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ
أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾[الرعد: 27، 28].
- وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[الشورى: 13].
· من حقق التوكل والإنابة فقد حقق العبودية لله تعالى؛ قال ابن القيم رحمه الله: (التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة؛ فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة).
- وفي الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5] وبهما اكتمال دين العبد.
تعرّض الشيطان لأهل الإنابة ولقد رأيت سبيئة من أرضها ... تسبى القلوب وما تنيب إلى هوى
· مما ينبغي التفطن له ما نبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:(الشيطان
يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؛
فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر
مما يعرض للعامة.
· قال: (ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس
عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه؛ بل هو مقبلٌ على هواه في غفلةٍ
عن ذكر ربه).
تنبيه:
· ما سبق كلّه في الإنابة التي تحمل معاني العبادة فإخلاصها لله تعالى واجب، ومن صرفها لغير الله تعالى فلا شك في كفره.
· قد يطلق لفظ الإنابة في اللغة ولا يراد به هذه المعاني التعبدية وإنما
يراد به المعنى اللغوي العام وهو الرجوع والإقبال؛ فيقال: أنابت المرأة
إلى زوجها إذا رجعت إليه بعد نشوز.
· قال الشاعر:
كأنَّ ظهورَها حُزُمٌ أنابَتْ ... بِها أُصُلاً إلى الحيِّ الإماءُ
- (حُزُمٌ) جمع حُزْمَة، وهي حزم الحطب.شرح عبارات المتن
قوله: (وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء: 90]).