3 Jun 2011
الدرس الحادي عشر: الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة
(مرتبة الإسلام)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
اقتباس:
الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة؛ وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. وهو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان. وكل مرتبة لها أركان. فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام. فدليل الشهادة: قوله تعالى: ﴿شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]. ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وحده. «لا إله»: نافيا جميع ما يعبد من دون الله. «إلا الله» مثبتا العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه ليس له شريك في ملكه. وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26-28]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّنْ دُوْنِ اللهِ فِإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]. ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِّنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]. ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد: قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لَيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]. ودليل الصيام قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]. ودليل الحج قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]. |
أنواع المعرفة
شرح قوله: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ).
الحمد لله نحمده ونستعينه
ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدّى
الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ فصلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فقد سبق الحديث في الدورس السابقة عن الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه جل وعلا.
ونستهل في هذا الدرس الحديث عن الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة.
قوله: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ).
سبق بيان معنى الأصل وأنه
ما يبنى عليه، وسبق بيان التناسب بين هذه الأصول الثلاثة وأنها مأخوذة من
الشهادتين، وأن هذه الثلاثة هي أصول الدين، وعليها مدار مسائله.
قوله: (مَعْرِفَةُ)
المعرفة المحمودة هي التي يترتب عليها أثرها؛ فيتبعها الانقياد والاستجابة
لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وأما المعرفة التي يقصد بها الفهم
والإدراك المجرد فهي حجة على صاحبها إن لم يقم بحقها كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
وقال تعالى: {الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
قال قتادة: (يعرفون أن الإسلام دين الله ، وأن محمداً رسول الله يجدون ذلك مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال تعالى: {وَلَمَّا
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ
يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى
غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
فهؤلاء معرفتهم حجة عليهم لا تنفعهم عند الله ، بل تزيدهم بعداً ورجساً إلى رجسهم.
وأما المعرفة المحمودة فهي التي يترتب عليها العمل والاستجابة.
فإذا أطلق لفظ المعرفة في
النصوص في موضع مدح أو حثّ فالمراد به المعرفة المحمودة، وإذا أطلق في موضع
ذم أو احتجاج على صاحبها فالمراد بها معرفة الإدراك وفهم الخطاب.
بيان معنى الدين قوله : (مَعْرِفَةُ دِينِ الإسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ). إذا مـا قـمـتُ أرحلُـهـا بلَـيـل.......تـأوَّهُ آهــة الـرجـل الحـزيـنِ
تـقـول إذا دَرَأْتُ لـهـا وضيـنـي.......أهــذا ديـنـه أبــداً وديـنــي
يطلق لفظ (الدّين) في لسان العرب على معانٍ لها أصول جامعة منها العادة والانقياد والذل والحكم والجزاء.
فالدين هو ما ينقاد له العبد بتذلل وخضوع واعتياد؛ فيخضع لأحكامه، وينقاد لأوامره على وجه الاستدامة.
فمن إطلاق لفظ الدين على معنى العادة قول المثقب العبدي في ناقته:
أكـلَّ الـدهـرِ حــلّ وارتـحـال.......أمـا يُبقِـي عـلـيَّ ومــا يَقِيـنـي
هو دان الرباب إذ كرهوا الديـن........دراكاً بغـزوة وصيـال
ثم دانت بعد الرباب وكانـت.......كعـذاب عقوبـة الأقـوال
دان الرباب : أي أذلها ، ثم دانت بعد الرباب أي ذلت وانقادت.
بيان معنى الإسلام قوله: (دِينِ الإسْلاَمِ) هو شريعة الإسلام التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسخ الله بها جميع الأديان السابقة؛ فقال الله تعالى : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
قوله : (بالأَدِلَّةِ) هذا فيه بيان وجوب معرفة الحق بدليله فيكون متبعاً صاحب حجة، لا مقلداً لا حجة له.
فالذي يعرف الحق بدليله في
مسألة من المسائل فهو عالم بها، فإن كان هذا دأبه في مسائل العلم أن
يعرفها بدليلها وكثر ذلك منه ؛ فهو من العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم معرفة الهدى بدليلهما....... ذاك والتقليد يستويـان
قوله: (وَهُوَ: الاسْتِسْلامُ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، والانقيادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ).
هذا تعريفٌ للإسلام بمعناه الشرعي.
وأما التعريف اللغوي للإسلام فبيانه أن الإسلام لا يسمى إسلاماً في اللغة حتى يتحقق فيه وصفان:
أحدهما: الإخلاص والبراءة من المشاركة والعلة وغيرها مما يقدح في التسليم.
والآخر: تمكين المسَلَّم للمسلَّم له وانقياده له في كل موضع بحسبه.
يقال: سلَّمت لفلان حقَّه إذا مكَّنته منه وأخلصته له ؛ فبرئ من المشاركة والمنازعة فيه، وسَلِمَ له وتمكَّن منه، وأصبح قياده له.
ويقال: أَسْلَم فلان أخاه إذا خذله ومكَّن عدوه منه، ولم ينازعهم فيه، بل تركهم يقتادونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلِمه)) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
والسلامة من المرض هي من هذا الباب لأنها تعني البراءة من العلة والخلاص منها، والانقياد لحال الصحة والعافية.
والأصل فيه أن المريض لا يجاري الأصحاء كما لا تجاري الشاة المريضة القطيع فإذا سلمت من المرض انقادت مع سائر الرعية.
ومما يوضح هذا المعنى قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
متشاكسون أي: مختلفون متنازعون غير متفقين، بل يسيئ بعضهم إلى بعض.
{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} أي خالصاً له منقاداً إليه، ليس لأحد فيه شراكة، بل قد برئ من الشراكة فيه، وانقاد له هذا المولى انقياداً تاماً لا يشاركه فيه أحد.
وهذا مثل ضربه الله لتقبيح الشرك، وتحسين الإسلام.
والمقصود أن المسلم هو الذي أسلم دينه لله لم يجعل لله شريكاً فيه، وانقاد لأوامر الله جل وعلا.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}
وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد فسر إسلام الوجه لله بما يتضمن إخلاص قصد العبد لله بالعبادة له وحده، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} بالعمل الصالح المشروع المأمور به.
وهذان الأصلان جماع الدين: أن لا نعبد إلا الله، وأن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع).
فإسلام الوجه هو: إسلام القصد والنية وتخليصها من قصد الشرك مع الله جل وعلا.
وإطلاق لفظ الوجه على القصد معروف في لسان العرب،وفي الحديث المتفق على صحته: ((ووجهت وجهي إليك)).
وقال بشر بن أبي خازم الأسدي:
إِلَيكَ الوَجهُ إِذ كانَت مُلوك....... يثِمادَ الحَزنِ أَخطَأَها الرَبيـعُ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: (الوَجْهُ يتناول المتوجِّه والمتوجَّه إليه، كما يقال: أي وجه تريد؟ أيْ: أيَّ وجهة وناحية تقصد ، وذلك أنهما متلازمان ، فحيث توجَّه الإنسان توجَّه وجْهُه ، ووجهُهُ مستلزمٌ لتوجُّهِهِ ، وهذا في باطنه وظاهره جميعاً ، فهذه أربعة أمور ، والباطن هو الأصل، والظاهر هو الكمال والشعار.
فإذا توجَّه قلبُه إلى شيء تَبِعَه وجْهُه الظاهر، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده، فإذا كان مع ذلك محسناً فقد اجتمع أن يكون عمله صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ، وهو قول عمر رضي الله عنه : (اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً).
والعمل الصالح هو الإحسان ، وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به ، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله ، وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله ، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسناً في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب).
والخلاصة أن الإسلام لا بد فيه من جمع أمرين:
الأمر الأول: الاستسلام والانقياد لأمر الله جل وعلا.
الأمر الثاني: الإخلاص والبراءة من الشرك في ذلك.
فالمسلم هو الذي أخلص دينه لله جل وعلا، وانقاد لأمره.
وبذلك تعرف أن المشرك غير مسلم لأن دينه ليس بخالص لله جل وعلا.
والمستكبر غير مسلم لأنه ممتنع غير منقاد لأمر الله جل وعلا.
قال الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}
قال ابن تيمية: (الإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده ؛ فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته.
والمشرك به، والمستكبر عن عبادته: كافرٌ.
والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده؛ فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره).
وبهذا تعلم أن المسلمين يتفاضلون في إسلامهم بتفاضل الإخلاص وكمال الانقياد ، فكلما كان العبد أحسن إخلاصاً وانقياداً كان أحسن إسلاماً.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أَحْسَنَ أحدكم إسلامه؛ فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها)).
فالإسلام يتضمن معنى الإخلاص، إخلاص العبادة من الشرك في الاعتقاد والقول والعمل، وإخلاص الانقياد لله تعالى بطاعته، وذلك بامتثال أمره واجتناب نهيه .
- فكما أن الله تعالى هو مالكه وخالقه ورازق ومدبر أمره وحده لا شريك له في ذلك؛ فكذلك يجب أن يخلص العبد عبوديته لله تعالى ويسلمها له جل وعلا، فيخلصها من الشرك بعبادة غير، ويخلّصها من العصيان المنافي للانقياد.
بيان معنى مراتب الدين
قوله: (وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتبَ: الإسْلاَمُ، وَالايمَانُ، وَالإحْسَانُ).
أي إن دين الإسلام على
ثلاث مراتب دلَّ عليها حديث جبريل عليه السلام ؛ فإنه سأل النبي صلى الله
عليه وسلم عن الإسلام، وسأله عن الإيمان، وسأله عن الإحسان ، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (( هذا جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم )).
وهذه المراتب متفاضلة
بعضها أفضل من بعض فأفضلها مرتبة الإحسان وتليها مرتبة الإيمان وتليها
مرتبة الإسلام؛ فهي على هذه المراتب الثلاث، وأوسعها مرتبة الإسلام ، وأخص
منها مرتبة الإيمان، وأخص منهما مرتبة الإحسان.
فكل محسن مؤمن مسلم، ولا ينعكس.
وهذه المعاني الثلاثة لها وصف أصل ووصف كمال.
فالمسلم لا بد له من قدر من الإيمان يصح به إسلامه.
والمسلم معه أصل الإحسان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والتوحيد أعظم الحسنات.
لكن لا يسمى محسناً حتى يأتي بالإحسان كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
وكذلك لا يسمى مؤمناً حتى
يأتي بالقدر الواجب من الإيمان ؛ فأما ضعيف الإيمان وناقص الإيمان فيسمى
مسلماً أو مؤمناً ناقص الإيمان؛ كما أن من عنده قدر من العلم لا يسمى به
عالماً حتى يجمع من أبواب العلم ما يستحق به هذا الوصف، وكما أن من فعل
شيئاً من أفعال الوضوء كالمضمضة وغيرها لا يسمى متوضئاً حتى يكمل فروض
الوضوء الواجبة ، فإذا كمل فروض الوضوء وآدابه المستحبة مع ذلك كان محسناً
في وضوئه.
وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
قوله: (وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ لَهَا أَرْكَانٌ).
- لفظ الأركان لم يرد في النص النبوي؛ لكن فهم أهل العلم من حديث ((بني الإسلام على خمس)) أن هذه الخمس هي أصول الإسلام التي بني عليها، وما يبنى عليه الشيء فهو ركن له، لأن الركن:
هو الأصل الذي يبنى عليه ، ولا يكون ركناً حتى يكون فيه معنى القوة
والدعامة ليحتمل ما يبنى عليه، وإذا انهدَّ الركن انهدَّ ما بني عليه.
وركن الجبل جانبه وأصله الذي يعتمد عليه فرعه، قال متمم بن نويرة:
فلو أَنَّ ما أَلْقَى يُصِيبُ مُتالِعاً.......أَوِ الرُّكْنَ من سلْمَى إِذاً لَتَضَعْضَعَا
والمرتبة والرتبة: هي المنزلة، ومراتب السلَّم درجاته، واحدتها مرتبة، قال الفرزدق:
كَأَنَّ يَدَيها فـي مَراتِـبِ سُلَّـمٍ .......إِذا غاوَلَت أَوبَ الذِراعَينِ بِالرِجلِ
وأصل إطلاق هذا اللفظ كما قال الخليل بن أحمد: (المراتب في الجبال والصحاري، وهي الأعلامُ التي تُرَتَّبُ فيها العيونُ والرُقباءُ).
وقال الأصمعي: (المرتَبةُ: المَرْقَبَةُ، وهي أعلى الجبلِ).
وقال ابن سيده في المحكم: (كل مقام شديد: مرتبة، قال الشماخ:
ومـرتبة لا يستـقال بِها الردى....... تلافى بها حلمي عن الجهل حاجز ).
أَلا رُبَّ مَن يَهوى وَفاتي وَلو دَنَت.......وَفاتي لَذَلَّـت لِلعَـدُوِّ مَراتِبُـه
ومثلها أيضاً كمثل شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
بيان أركان الإسلام
فَإنَّ الحَيّ خَثْعَمَ أحرَزَتْهُمْ........رِماحُهُمُ وتُنذِرُهُمْ سَلولُ قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ} [آل عمران:19]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرينَ} [آل عمران:85]). قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى) أي الذي هداني وأرشدني إلى ما قلت وبينت هو قوله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ} قوله: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرينَ}). وأجمعوا على أن المراد بالإسلام في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} هو دين الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فَأَرْكَانُ الإِسْلاَمِ خَمْسَةٌ، وَالدَّلِيلُ
مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: ((بُنِي الإسْلاَمُ
عَلى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً
رَسُولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ
رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ)) ).
هذه الخمسة هي أركان
الإسلام وأصوله التي يقوم عليها إسلام العبد، وقد تضمنت هذه الخمسة قواعد
الإسلام وشعائره العظام، وهي أصول العبادات وينبني على كل أصل أنواع من
العبادات.
وهذه الأصول على مراتب؛
فأصل هذه الأركان الشهادتان فلا يدخل العبد في الإسلام حتى يشهد الشهادتين،
ولا تصح منه سائر الفرائض قبل أن يشهد الشهادتين.
وعمود الإسلام الصلاة كما في حديث معاذ بن جبل مرفوعاً في المسند والسنن.
فإذا استقر الأصل وقام
عمود الإسلام ثبت وصف الإسلام للعبد، فإن لم يقم بهذا الأصل أو انتقض
بارتكاب ما ينقض الشهادتين فليس من المسلمين.
وإذا سقط عمود إسلام المرء
فلا إسلام له ؛ كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة)).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة من حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته: (لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة). رواه مالك في الموطأ.
وأما الأركان الثلاثة
الأخرى فقد أجمع أهل العلم على أن من تركها جاحداً لوجوبها فهو كافر لأنه
مكذب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا التكذيب ينقض الشهادتين.
وكذلك من تركها إباء وامتناعاً عن الانقياد لشريعة الإسلام فهو كافر لأن هذا الإباء والامتناع ينقض الشهادتين.
وأما من تركها تهاوناً
وكسلاً من غير جحد لوجوبها ولا امتناع عن الانقياد لأحكام الشريعة فالصحيح
من أقوال أهل العلم أنه مرتكب لكبيرة من الكبائر وأن إسلامه ناقص ولا يكفر
بذلك لبقاء أصل الإسلام وعموده ، لكنه متوعَّد بالعذاب الشديد على تركه
لهذه الفرائض العظيمة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة.
وهذه الأركان الخمسة من الشعائر التعبدية الظاهرة فيعملها الموحدون لله جل وعلا، ويعمل المشركون نظائرها تقرباً لآلهتهم.
فشهادتهم ما يهلون به من
ألفاظ الشرك التي تتضمن الشهادة لآلهتهم بأنها تنفع وتضر وتستحق أن تعبد،
وما يشهدون به لمتبوعيهم بأنهم أحق من يتبع.
ولهم صلوات يؤدونها لآلهتهم وإن اختلفت في كيفيتها عن صلاة المسلمين ، كما قال الله تعالى عن المشركين: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} فالأقوال والأفعال المنتظمة التي تؤدى على وجه التعبد هي صلاة وإن اختلفت كيفيتها عن صلاة المسلمين.
وتقديمهم للأموال
والقرابين هو نظير أداء الزكاة عند المسلمين، وإن لم يسموها زكاة ، ذلك أن
منهم من يجعل على نفسه قدراً معلوماً من المال يتقرب به، ومنهم من يُفرض
عليه هذا المال بأسماء مختلفة.
وكذلك الصيام منهم من يصوم
تقرباً وطمعاً في أشياء يرجوها من تلك الآلهة التي يتقرب إليها وإن اختلف
صيامه عن صيام المسلمين فمنهم من يصوم عن الكلام، ومنهم من يصوم عن بعض
الأطعمة ومنهم من يواصل الصيام أياماً عن كل شيء فيجوع نفسه ويشق عليها
طمعاً أن تتنزل عليه بعض الشياطين ويظن أنهم خدام مرسلون من تلك الآلهة.
وكل إمساك تقرب به إلى غير الله جل وعلا على وجه التعبد فهو صيام.
وكذلك الحج يفعله المشركون
وهو من الشعائر الظاهرة لديهم فمنهم من يقطع المسافات البعيدة لزيارة قبر
يعبد من دون الله جل وعلا يحج إليه ويطوف حوله ويذبح له ويفعل ما يضاهي به
حج المسلمين، فهذا حج وإن لم يسمّوه حجاً فالعبرة بحقائق الأشياء.
فعلم بذلك أن هذه الخمسة هي أصول العبادات الظاهرة ويجب إخلاصها لله جل وعلا.
كما أن أصول العبادات الباطنة المحبة والخوف والرجاء ويجب إخلاصها لله جل وعلا.
قوله: (وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ).
الدليل هو الذي يدلّ على الهدى ويرشد إليه، ودليل القوم هاديهم الذي يرشدهم إلى الطريق الصحيح.
وكان العرب إذا سافروا في
طريق لا يعرفونه يتخذون دليلاً يرشدهم لئلا يهلكوا في المفاوز ويضلوا عن
قصدهم؛ ويكون ذلك الدليل بصيراً بالطرق والأعلام وموارد الماء فيدلهم على
الطريق ويدلهم على ما يتزودون به من الماء لئلا يهلكوا عطشاً، فمن امتثل
دلالة الدليل نجا وبلغ المقصد ومن خالفه كان على خطر من الهلاك والضلال عن
مقصده.
وكان من العرب من إذا
خافوا صولة عدو لا يقدرون عليه تخفوا في أماكن وعرة مشتبهة لا يتفطن لها
إلا الدليل البصير صاحب الخبرة والمعرفة الحسنة.
كما قال عامر بن الطفيل:
بمَخْرَجِنا فلا نَخْفَى عَلَيهِمْ........ويأتِيهِمْ بعَوْرَتِنا الدّليلُ
فإذا كان الدليل صاحب معرفة وأحسن الإرشاد تبـيَّن لهم الطريق الصحيح.
وكذلك في الأمور المعنوية في الاستدلال إذا صح الدليل، وكان وجه الاستدلال صحيحاً صحت الدلالة وتبـيَّن بذلك الهدى والصواب.
وسميت الآيات والأحاديث
أدلة، وواحدها دليل لأنها تدل على الهدى وترشد إليه، ومن خالف دلالة الدليل
الصحيح كان على خطر من الهلاك والضلال.
الإسلام في هذه الآية
المراد به الإسلام الشرعي العام الذي هو دين الأنبياء جميعاً وهو التوحيد ،
وعلى هذا تفاسير السلف لمعنى الإسلام في هذه الآية.
قال قتادة في قوله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ}: (الإسلام:
شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين
الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا
يجزى إلا به). رواه ابن جرير.
وفيه دلالة على وجوب
التوحيد وأنه الدين الذي يقبله الله تعالى، والإسلام الذي بعث به محمد صلى
الله عليه وسلم أصله التوحيد لله جل وعلا.
قال ابن القيم رحمه الله: (وقد دل قوله: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ} على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه.
- قال أول الرسل نوح: {فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
- وقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}
- {وَوَصَّىٰ
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ}
- وقال يعقوب لبنيه عند الموت: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ} إلى قوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
- وقال موسى لقومه: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}
- وقال تعالى: {فَلَمَّا
أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
- وقالت ملكة سبأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
فالإسلام دين أهل السموات، ودين أهل التوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحد ديناً سواه).
وقال ابن كثير رحمه الله: (قوله: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ}
إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو
اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه
وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن
لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته، فليس
بمتقبل. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }).ا.هـ.
وللسلف في المراد بالإسلام في هذه الآية قولان :
القول الأول:
أنه دين الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وأصله الشهادتان،
وعليهما مدار التوحيد، وأن هذه الآية نسخت جميع الأديان السابقة من
اليهودية والنصرانية والصابئية وبقايا الحنيفية.
القول الثاني: أن المراد به الإسلام العام الذي هو دين جميع الأنبياء، وهو توحيد الله جل وعلا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً}
الآية عام في الأولين والآخرين بأن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به
أنبياؤه وعليه عبادة المؤمنون كما ذكر الله ذلك في كتابه من أول رسول بعثه
إلى أهل الأرض نوح وإبراهيم وإسرائيل وموسى وسليمان وغيرهم من الأنبياء
والمؤمنين).
بيان دليل شهادة أن لا إله إلا الله قوله: (وَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهدَ
اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ
قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران:18].
وَمَعْنَاهَا: لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ اللهُ.
{لاَ إِلهَ} نَافِياً جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، {إِلَّا اللهُ} مُثْبِتاً العِبَادَةَ للَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ).
قوله تعالى: {شَهدَ
اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ
قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ}
- لفظ الشهادة وما تصرف منه يطلق على معنيين مشهورين:
المعنى الأول: الحضور والمعَاينَة والإبصَار، كما في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
المعنى الثاني: الإخبار البيّن الجازم عن أمرٍ ذي شأن ، وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: {شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ} .
وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)}
{أَشَهِدُوا} استفهام إنكاري، أي: هل حضروا خلقهم وعاينوه؟
و{شَهَادَتُهُمْ} أي إخبارهم الجازم في هذا الأمر العظيم.
فإذا تحققت هذه الأوصاف سمي شهادة وإن لم يكن فيه لفظ الشهادة ، ولذلك سمى الله تعالى هذا الزعم منهم شهادة.
والشهادة إذا لم تكن بحق فهي شهادة زور.
- وسمي قول (لا إله إلا الله) شهادة لأنه إخبار بيّن جازم عن أمر ذي شأن.
- قوله تعالى: {شَهدَ
اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ
قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ}
أي أن الله تعالى وملائكته وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا الله.
قال ابن القيم رحمه الله: (وقوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} القسط هو العدل؛ فشهد الله سبحانه أنه
قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله.
والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال؛ فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه.
والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة).
بيان معنى لا إله إلا الله
قوله: (وَمَعْنَاهَا: لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.
{لاَ إِلهَ} نَافِياً جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، {إِلَّا اللهُ} مُثْبِتاً العِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ).
فإذا
لم يستطع معرفة معناها كفاه القيام بمقتضاها ، فإذا كان لا يعبد إلا الله ،
ويعتقد بطلان ما يعبد من دون الله ؛ فقد أتى بالمراد من هذه الكلمة .
وذلك كما لو دعي أعجمي للإسلام فأسلم وقال هذه الكلمة وهو لا يفقه معناها لكنه يعتقد مقتضاها فإنها تنفعه بإذن الله.
وكذلك لو سألت مسلماً عن
معنى (لا إله إلا الله) فأخطأ تفسيرها فإن كان لا يعبد إلا الله ويشهد
بالبراءة مما يعبد من دون الله؛ فهو مسلم موحّد وإن أخطأ في التفسير.
أما إذا كان لا يعتقد
مقتضاها فإنها لا تنفعه ولو كان يعرف معناها ؛ فإذا كان يقول : (لا إله إلا
الله) وهو يرى جواز اتخاذ وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتقرب إليهم فهو
مشرك كافر، وإن قال : (لا إله إلا الله).
- ومعنى (لا إله إلا الله) : أي لا معبود بحق إلا الله جل وعلا.
فإن (لا) حرف لنفي الجنس، إذا دخل على النكرة المباشرة غير المكررة نصبها وجوباً اسماً له ورفع الخبر.
إله: اسم (لا) منصوب تحققت فيه شروط وجوب النصب، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
والإله هو المألوه أي المعبود الذي تألهه أي تتعبد له الخلائق محبة وتذللاً وتعظيماً.
وخبر (لا) محذوف لظهور العلم به وتقديره (حق)، وحذف خبر (لا) إذا ظهر المراد به شائع عند العرب، قال ابن مالك:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر........إذا المراد مع إسقاطـه ظهـر
وقد
قدر بعض النحاة خبر لا بـ (موجود) وهو خطأ باعتبار وصحيح باعتبار آخر،
والصحيح الذي لا خطأ فيه وتدل عليه الأدلة الصحيحة تقديره بـ(حق)
فالذين قدروه بـ(موجود) إن
كان مرادهم مطلق وجود ما يعبد من دون الله فهذا خطأ؛ فإن الآلهة التي
اتخذت من دون الله كثيرة، قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}
وكم حطم النبي صلى الله عليه وسلم من صنم اتخذ إلها من دون الله؟
وإن كان مرادهم بالوجود: الوجود المعتبر شرعاً فهذا حق ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وقال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} فهي آلهة باطلة ليست بشيء.
ولكن الله أرشدنا في التعبير أن نأخذ بالقول الذي لا يتذرع متذرع بتفسيره بالباطل على منهج : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}
فتقديره بـ(حق) هو الصواب حينئذ ،وهو مرادف للوجود الشرعي.
وخبر (لا) يحذف كثيراً في كلام العرب ويقدر في كل مقام بحسبه، كما لو سئلت: من عندك؟ فقلت: لا أحد.
فإنك تريد: لا أحد عندي، فلو ذكرت خبر (لا) خالفت البلاغة في القول.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر))
فشهر صفَر موجود، ولكنَّ المنفي هو الوجود الشرعي لاعتقادهم فيه.
وكذلك الطيرة موجودة، ولكن المنفي هو الاعتبار الشرعي لها.
وهكذا يقدر الخبر في كل مقام بحسبه.
وتقدير الخبر المحذوف
مبنيٌّ على فهم المعنى المراد؛ ففي كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) ليس
المنفي الوجود الكوني للآلهة التي تعبد من دون الله بالباطل، وإنما المنفي
هو الاعتبار الشرعي لها وأنها تستحق شيئاً من العبادة.
ولذلك كثرت الأدلة من الكتاب والسنة على إبطال استحقاق غير الله للعبادة، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ
مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}
وقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}
وقال: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}
والمقصود من الإعراب بيان المعنى المراد، وكل إعراب أدى إلى معنى باطل فهو خطأ مردود.
وإنما
تكلمت في إعرابها لأن من المشركين من يكون صاحب علوم وحجج كما يكون ذلك
لدى بعض القبوريين فإن منهم من يكون عارفاً بشيء من العلوم اللغوية
والشرعية لكنه على ضلال مبين بتقريره الشرك؛ فينبغي لطالب العلم أن يعرف
من الحجج اللغوية ما يدفع به شبهات المبطلين، ويفند مزاعمهم.
وقد يطلع بعض طلاب العلم
على بعض ما يكتب في إعراب هذه الكلمة لعلماء معروفين من النحاة واللغويين
ويطلع على خطأ في ذلك ، فلا يغره صدور هذا الخطأ من بعض النحاة فإن الإعراب
تبع لفهم المعنى ، ولذلك لا يجوز أن يتكلم في إعراب القرآن من لا يحسن
معرفة التفسير وأصوله ولو بلغ في علم النحو ما بلغ.
وقد أكثر ابن هشام النحوي
في رسالة له مستقلة في إعراب (لا إله إلا الله) من الأوجه الإعرابية حتى
أوصلها إلى عشرة أوجه، وكلامه فيها غير محرر وإنما كتبها خواطر من ذهنه
وتعرض فيها لأقوال عدد من النحاة منهم المعتزلة ومنهم الأشاعرة ومنهم من
أهل السنة.
إذا
تبين هذا فاعلم أن العرب وهم أهل الفصاحة لما قال لهم النبي صلى الله عليه
وسلم قولوا : (لا إله إلا الله) استنكفوا واستكبروا، وحاربوا الرسول وآذوه
وأخرجوه من بلده وشاقوه وشاقوا أصحابه وقطعوا أرحامهم وآذوهم إيذاء
شديداً ، وقذفوهم بالزور والبهتان والأوصاف الشنيعة انتصاراً لآلهتهم، كما
بين الله تعالى حالهم بقوله جل وعلا: {إِنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
(35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ
(36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)}
فإنهم عرفوا أن قول هذه الكلمة يعني الشهادة ببطلان عبادة ما يعبد من دون الله جل وعلا، والدخول في دين الإسلام.
ولو كان معناها ما فسره به من أخطأ في تفسير كلمة التوحيد لما كان لهذه العداوة موجب.
وينبغي لطالب العلم أن يعرف ما اشتهر من التفسيرات الخاطئة لكلمة التوحيد ويعرف وجه بطلانها .
الرد على من أخطأ في معنى "لا إله إلا الله"
وتفسير
كلمة التوحيد ببعض معاني الربوبية خطأ كبير شاع لدى بعض الفرق الضالة ،
وقد علمتم من الأدلة أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم
كانوا يقرون أن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر للأمر ومع هذا لم
يدخلوا في دين الإسلام. قال:
فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول؛ فلو بعثت إليه
فنهيته؛ فبعث إليه أو قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم
وبين أبي طالب مجلس رجل.
وهذا التفسير كفر مبين شاهد على صاحبه بعقيدة الحلول والاتحاد التي هي من أكفر الكفر.
والمقصود التفطن للتفسيرات الخاطئة لكلمة التوحيد، وأنها قد تصدر من أناس لهم مكانة علمية فلا يغتر بذلك طالب العلم.
وقد يجد طالب العلم لدى بعض الفرق اضطراب في تفسير كلمة التوحيد؛ فمنهم من يفسرها تفسيراً صحيحاً ، ومنهم من يخطئ في تفسيرها كما نقل عن الأشاعرة نحو أربعة أقوال في تفسيرها.
* ففسر بعضهم الإله بأنه المعبود بحق وأن لا إله إلا الله معناها لا معبود بحق إلا الله ، وهذا تفسير صحيح يوافق تفسير أهل السنة والجماعة.
* وفسر بعضهم
الإله بأنه القادر على الاختراع ، وأن معنى (لا إله إلا الله) أي لا قادر
على الاختراع إلا الله، وهذا قصر لمعنى كلمة التوحيد على نوع من أنواع
توحيد الربوبية.
* وفسر بعضهم الإله بأنه المستغني عن كل ما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
* وفسر بعضهم لا إله إلا الله بأن معناها: (أنه واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له)
والتفسيران الأخيران قاصران أيضاً مخالفان لدلالة الأدلة الصحيحة، ولا تقتضيهما اللغة.
فلو كان معنى (لا إله إلا الله) هو ما شهدوا به من معاني الربوبية لم يكن لمعارضتهم وامتناعهم عن قول (لا إله إلا الله) وجه.
- روى الإمام أحمد وعبد
الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: لما أن مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل.
قال: فخشي أبو جهل إن جلس
النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي طالب أن يكون أرقَّ له عليه؛ فوثب
فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمّه؛
فجلس عند الباب.
قال أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟! يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول وتفعل وتفعل، قال: فأكثروا عليه من اللحو.
قال: فتكلم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (( يا عمّ إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ))
قال: ففزعوا لكلمته ولقوله.
قال: فقال القوم" كلمة واحدة؟!! نعم وأبيك وعشرا، وما هي؟
قال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟
قال: (( لا إله إلا الله ))
قال: فقاموا فَزِعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
قال: وقرأ من هذا الموضع إلى قوله {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} ).
والحديث رواه الترمذي أيضاً والنسائي، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان في صحيحه.
فتأمل كيف أنهم كانوا أعرف
بمعنى (لا إله إلا الله) من بعض أصحاب هذه الفرق الضالة ؛ فإنهم فهموا من
هذه الكلمة أنها تقتضي بطلان عبادة ما يعبد من دون الله جل وعلا.
التفسير الصحيح لكلمة التوحيد
قوله: (وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} الآيَة [الزخرف:26-27]. أَرونا سُنَّةً لا ضيم فيها.......يُسَوّى بَينَنا فيها السَّواءُ
وَقَوْلُهُ: {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]). ).
أي إن هاتين الآيتين تفسران معنى كلمة التوحيد.
فأما الآية الأولى وهي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}
فتضمنت البراة مما يعبد من
دون الله جل وعلا، وإثبات العبادة لله وحده، وهذا هو معنى التوحيد، لا بد
فيه من نفي وإثبات، نفي استحقاق غير الله للعبادة والبراة مما يعبد من
دون الله.
وإثبات العبادة لله وحده.
فلا يكون موحّداً إلا من جمع بين النفي والإثبات.
وهذا أمر يدل عليه المعنى اللغوي للتوحيد ، فجعل الشي واحداً يستلزم إثباتاً ونفياً
إثبات الوحدانية له، ونفي مشاركة غيره له.
- وأما قوله تعالى: {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
السواء في
لسان العرب: النَّصَف والعدْل، وأصل ذلك أن العرب إذا تنازعوا وحصل بينهم
من القتل والجراحات ما يحصل وأرادوا الصلح تداعوا إلى السَّواء فيصطلحون
على أمر يكون فيها إنصاف للمتنازعين يسوَّى فيه بينهم في الدماء والحقوق.
قال زهير ابن أبي سلمى:
فَـإِن تَدَعُـوا السَّـواءَ فَلَيـسَ بَينـي.......وَبَينَكُمُ بَني حِصـنٍ بَقـاءُ
أبينا فما نُعطي السَّواءَ عدوَّنا.......قياماً بأعضادِ السراء المعطّفِ
والعرب يمتدحون من يعطي السَّواء ويرضى به لأنه أرضى للنفوس وأقرب لمكارم الأخلاق والشيم .
دليل شهادة أن محمداً رسول الله
قوله: (وَدَلِيلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوْفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وَمَعْنَى
شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ،
وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ،
وَأنْ لاَ يُعْبَدَ اللَّهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ).
هذا فيه بيان دليل شهادة
أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان معناها، وسيأتي شرح ذلك
بالتفصيل المناسب إن شاء الله تعالى عند بيان الأصل الثالث.
دليل الصلاة والزكاة
قوله: (وَدَلِيلُ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا
أُمِرُوا إِلاَّ لَيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]).
· هذه الآيات فيها بيان معنى التوحيد وأنه عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا معنى الإخلاص، أن لا تجعل لله شريكاً في عبادته.
· ﴿حنفاء﴾ مستقيمين على طاعته.
· ﴿ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة﴾ هذا فيه الدليل على الركن الثاني والثالث من أركان الإسلام، وقرْنهما بالتوحيد في أسلوب الحصر دليل على عظم شأنهما.
دليل الصيام
وَدَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]).
· فرض صيام شهر رمضان بنزول هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة.
· لم يفرض شيء من الصيام على المسلمين قبل الهجرة.
· وبعد الهجرة فرِض صيام يوم عاشوراء؛ ثم نُسخ فرضه وترك على الاستحاب بعد فرض صيام رمضان.
· عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان يوم عاشوراء يوماً
تصومه قريش في الجاهلية؛ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
صامه وأمر بصيامه؛ فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء؛ فمن
شاء صامه ومن شاء تركه ) متفق عليه.
دليل الحج
وَدَلِيلُ الحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. ).
هذا فيه بيان أدلة إضافية
على أن الصلاة والزكاة والصيام والحج عبادات عظيمة، وقد دل على ذلك أدلة
كثيرة من الكتاب والسنة ، وقد أجمع العلماء على أن هذه العبادات من
العبادات العظيمة.
فمن أداها لغير الله تعالى فهو مشرك كافر.
وقد سبق بيان أن هذه
العبادات العظيمة هي من الشعائر التعبدية الظاهرة وأن المسلمين يؤدونها لله
تعالى، وأن المشركين يؤدون نظائرها لآلهتهم التي يدعونها من دون الله جل
وعلا.
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(خلاصة الدرس الحادي عشر)
قوله: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ). إذا ما قمتُ أرحلُها بلَيل ... تأوَّهُ آهةَ الرجل الحزينِ هو دان الرباب إذ كرهوا الديـ.......ـن دراكاً بغزوة وصيال والعلم معرفة الهدى بدليله ... ما ذاك والتقليد يستويان
· سبق بيان معنى الأصل وأنه ما يبنى عليه، وسبق بيان
التناسب بين هذه الأصول الثلاثة وأنها مأخوذة من الشهادتين، وأن هذه
الثلاثة هي أصول الدين، وعليها مدار مسائله.
· المعرفة على نوعين: المعرفة التي يترتب عليها أثرها؛
فيتبعها الانقياد والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي
المعرفة المحمودة.
· والمعرفة الأخرى: المعرفة التي يُراد بها الفهم والإدراك المجرد، وهذه حجة على صاحبها إن لم يقم بحقها.
- قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ
الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 20]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146].
- قال قتادة: (يعرفون أن الإسلام دين الله، وأن محمداً
رسول الله يجدون ذلك مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل). رواه ابن جرير
وابن أبي حاتم.
- وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
- فهؤلاء لا تنفعهم معرفتهم، وإنما يزدادون بها ضلالاً وطغيانا ثم تكون حجّة عليهم.
· إذا أطلق لفظ المعرفة في النصوص في موضع مدح أو حثّ
فالمراد به المعرفة المحمودة، وإذا أطلق في موضع ذم أو احتجاج على صاحبها؛
فالمراد بها معرفة الإدراك وفهم الخطاب.
بيان معنى الدِّين
· يطلق لفظ (الدّين) في لسان العرب على معانٍ لها أصول جامعة منها العادة والانقياد والذل والحكم والجزاء.
· فالدين هو ما ينقادُ العبد لِحُكْمِه بتذلل وخضوع واعتياد.
· من إطلاق لفظ الدين على معنى العادة قول المثقِّب العَبْدي في ناقته:
تقول إذا دَرَأْتُ لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني
أكلَّ الدهرِ حلّ وارتحال ... أما يُبقِي عليَّ وما يَقِيني
· ومن إطلاقه على الذل والانقياد والدخول في الطاعة قول الأعشى:
ثم دانت بعد الرباب وكانت.......كعذاب عقوبة الأقوال
· ويطلق على الحكم والسلطان كما في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76].
· ويطلق على الحساب والجزاء كما في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] أي الحساب والجزاء الذي يدان فيه الناس بأعمالهم، وقوله: ﴿يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق﴾[النور: 25].
· فهذه أشهر المعاني التي يطلق عليها لفظ الدِّين في اللغة.
· معرفة المعنى اللغوي لألفاظ العقيدة تعين على فهم المعنى
الشرعي؛ فبين الإطلاقين اللغوي والشرعي تناسب، وغالباً ما يكون المعنى
الشرعي مخصصاً لإطلاق المعنى اللغوي.
· إذا انتفى المعنى اللغوي انتفى المعنى الشرعي؛ فالذي لا
ينقاد لحكم الله عز وجل الشرعي ولا يخضع لأوامر شريعة الإسلام لا يكون
داخلاً في دين الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) ﴾ [التوبة: 29].
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والدين
يتضمن معنى الخضوع والذل يقال: دنته فدان أي أذللته فذل ويقال يدين الله
ويدين لله أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له فدين الله عبادته وطاعته والخضوع
له)ا.هـ.
· فمعنى الدخول في دين الإسلام هو الانقياد لأحكام الشريعة الإسلامية والتزام أوامرها ونواهيها على وجه التعبد.
بيان معنى الإسلام
قوله: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ).
· المراد بالإسْلاَمِ هنا شريعة الإسلام التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخ الله بها جميع الأديان السابقة؛ فقال الله تعالى:﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
· قوله: (بالأَدِلَّةِ) هذا فيه بيان وجوب معرفة الحق بدليله فيكون متبعاً صاحب حجة، لا مقلّداً لا حجة له.
· مَنْ عَلِم الحق بدليله في مسألة من المسائل فهو عالمٌ
بها، فإن كان هذا دأبه في مسائل العلم أن يعرفها بدليلها وكثر ذلك منه؛ فهو
من العلماء.
- قال ابن القيم رحمه الله:
إِلَيكَ الوَجهُ إِذ كانَت مُلوكي ... ثِمادَ الحَزنِ أَخطَأَها الرَبيعُ
فلو أَنَّ ما أَلْقَى يُصِيبُ مُتالِعاً ... أَوِ الرُّكْنَ من سلْمَى إِذاً لَتَضَعْضَعَا
كَأَنَّ يَدَيها في مَراتِبِ سُلَّمٍ ... إِذا غاوَلَت أَوبَ الذِراعَينِ بِالرِجلِ
ومـرتبة لا يستـقـال بِها الردى ... تلافى بها حلمي عن الجهل حاجز)ا.هـ.
أَلا رُبَّ مَن يَهوَى وَفاتي وَلو دَنَت ... وَفاتي لَذَلَّت لِلعَدُوِّ مَراتِبُه
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد مع إسقاطه ظهر
أَرونا سُنَّــةً لا ضيـم فيها ... يُسَوَّى بَينَنا فيها السَّــواءُ
فَإِن تَدَعُوا السَّواءَ فَلَيسَ بَيني ... وَبَيــنَكُمُ بَنــي حِصنٍ بَقاءُ
أبينا فما نُعطي السَّواءَ عدوَّنا ... قياماً بأعضادِ السراء المعطّفِ
- يكون السَّواء عند العرب في الأمور المادية من الجراحات والمعاوضات ويكون في الأمور المعنوية من الدعاوى والمقاولات والتهاجي.