الدروس
course cover
الدرس الثامن: الدعاء والخوف والرجاء والتوكل
7 May 2011
7 May 2011

12596

0

0

course cover
شرح ثلاثة الأصول وأدلتها

القسم الثاني

الدرس الثامن: الدعاء والخوف والرجاء والتوكل
7 May 2011
7 May 2011

7 May 2011

12596

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الثامن: الدعاء والخوف والرجاء والتوكل


قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

اقتباس:

وفي الحديث: (( الدعاء مخ العبادة ))، الدليل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
ودليل الخوف قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
ودليل الرجاء قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
ودليل التوكل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 23]، ﴿وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [سورة الطلاق: 3].


عناصر الدرس:
· 1: الدعاء:
o دعاء المسألة ودعاء العبادة.
o أقسام وأحكام سؤال غير الله عز وجل
o وجوب العناية بسلامة القلب لله تعالى
o الفرق بين تذلل التعلّق وتذلل الرحمة والإحسان
o من سلامة القلب لله شكر إحسان المحسن من الخلق
o الله تعالى وحده الذي بيده النفع والضر
· 2: الخوف:
o أقسام الخوف.
o درجات الناس في خوف العبادة.
o أنواع خوف المؤمنين
· 3: الرجاء:
o بيان معنى الرجاء.
o أقسام الرجاء.
o درجات رجاء نفع الأسباب
· قاعدة دخول الشرك في العبادات
· أصول العبادات القلبية
o حاجة السالك إلى الجمع بين المحبة والخوف والرجاء
· 4: التوكل:
o معنى التوكل.
o فضل التوكل على الله وحده لا شريك له.
o وجوب إفراد الله تعالى بالتوكل
التوكل عبادة قلبية
أنواع التوكل على الله تعالى
معنى تحقيق التوكل
أحكام التوكل

4 جمادى الثانية 1432هـ.*

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

7 May 2011

الدعاء


قوله: (وَفِي الْحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ)).
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]).

دعاء المسألة ودعاء العبادة
الدعاء على قسمين: دعاء مسألة ودعاء عبادة.
وهذا التقسيم هو لغرض التوضيح والتعليم وإلا فكلٌّ من القسمين عبادة ، وإنما قصد العلماء بهذا التقسيم بيان شمول اسم الدعاء للقسمين فإن لفظ الدعاء يطلق في النصوص ويراد به المعنى الأول، ويطلق ويراد به المعنى الثاني، ويطلق ويراد به المعنيين جميعاً.
فأما دعاء المسألة فهو الذي يكون فيه سؤال رغبة ورهبة لجلب منفعة أو دفع مضرة، فيكون عبادة لا يجوز صرفها لغير الله جل وعلا.
قال الله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}.
وهذا له أمثلة: كدعاء الأموات وسؤالهم قضاء الحاجات والمدد والشفاعة وغير ذلك؛ فهذا من الشرك في العبادة، وهو ضلال بعيد، وكفر مبين.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
وأما دعاء العبادة فهو التعبد للمعبود بأفعال أو أقوال يتقرب بها إليه رغبة ورهبة فهذا صرفه لغير الله جل وعلا شرك أكبر ، ومن ذلك ما يتنسك به عباد الأوثان من أنواع الأعمال التي يعملونها على جهة التعبد والتقرب هي شرك أكبر والعياذ بالله.
فهذا بيان الشرك في الدعاء بنوعيه.
- وأما من طلب من مخلوق ما يقدر عليه كأن يقولَ فقيرٌ لغني: أعطني من مال الله الذي أعطاك، أو يقول رجل لغيره: أعنِّي بكذا وكذا.
فهذا ليس بشرك بإجماع العلماء ، لأنه ليس فيه معاني العبادة.
واعتبار معنى العبادة مهم في الحكم على العمل بأنه شرك أو ليس بشرك.
فإذا كان في القلب نوع تذلل للمسؤول وخوف ورجاء فهذا شرك أصغر ، وهو من أنواع عبودية الدنيا، والعياذ بالله.

أقسام وأحكام سؤال غير الله عز وجل
فإذن صار سؤال غير الله تعالى على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الدعاء الذي يكون فيه معاني التعبد من الرغب والرهب والخوف والرجاء واعتقاد النفع والضر في المدعو فهذا شرك أكبر والعياذ بالله.
الدرجة الثانية: سؤال المخلوقين مما يقدرون عليه مع اعتقاد أن الله تعالى هو النافع الضار لكن يغلب على قلبه التعلق بهم ويكون في قلب السائل نوع تذلل لهم وخضوع فهذا شرك أصغر لأنه مناف لتحقيق كمال العبودية الواجبة لله تعالى.
الدرجة الثالثة: أن يطلب من المخلوقين ما يقدرون عليه مما يحتاج إليه من غير أن يكون في قلبه تعلق بهم ولا تذلل لهم ولا خضوع ؛ فهذا ليس بشرك.

وجوب العناية بسلامة القلب لله تعالى
فالمؤمن يطلب الرزق ويبذل الأسباب ويجتهد فيها لكن لا يتذلل قلبه لغير الله تعالى؛ لأن تذلل القلب لغير الله تعالى قادح في التوحيد، بل يجب على العبد أن يسلم قلبه لله ، ويطهره من الشرك والتعلق بغير الله جل وعلا.
ومن كان حاله كذلك بورك له في رزقه، وكفاه الله ما أهمه.

الفرق بين تذلل التعلّق وتذلل الرحمة والإحسان
ومما ينبغي التنبيه عليه أن من الناس من تحمله إرادة التعبير عن البراءة من التذلل لغير الله إلى الإساءة إلى مَن حَقُّه أن يتأدب معه كأبيه أو وليه أو رئيسه، فهذا خطأ ينبغي التفطن له.
فالله تعالى يحب العدل والإحسان ويحب الرفق ويثيب عليه، ويبغض الفحش والتفحش والتعالي على الناس، وندب إلى التذلل للمؤمنين فقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} .
وهذه التذلل بلين الجانب وخفض الجناح وحسن القول مبناه على الرحمة وقصد الإحسان إلى المؤمنين والتواضع لهم والرأفة بهم طاعة لله عز وجل واتباعاً لرضوانه وابتغاء لفضله وإحسانه.
وأما القلب فهو سليم لله عز وجل غير خاضع للمخلوقين.

الله تعالى وحده الذي بيده النفع والضر
ومبنى الدعاء هو على اعتقاد النفع والضر في المدعو ، ومن أيقن بأنه لا ينفع ولا يضر على الحقيقة إلا الله تعالى استراح قلبه من التعلق بالخلق وهذه قضية تكرر التأكيد عليها في القرآن العظيم
كما قال الله تعالى موبخاً المشركين:
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) }.
وقال حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}.
وقال تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكَّلُونَ (38)}.
وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
فهذه المسألة مبينة في القرآن الكريم بياناً كافياً شافياً يقطع جميع علائق التعلق بغير الله جل وعلا
فإن مدار العبودية على عمل القلب فإذا كان القلب سليماً لله عز وجل خالصاً صلح بإذن الله وصلح سائر الجسد.
قال ابن القيم رحمه الله: (الضرر والنفع بيد الله عز و جل فإن شاء أن يضر عبده ضره، وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرفه، بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر ويضره بما هو من أسباب النفع فعل، ليتبين العباد أنه وحده الضار النافع، وأن أسباب الضر والنفع بيديه، وهو الذي جعلها أسباباً، وإن شاء خلع منها سببيتها، وإن شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها، ليُعلم أنه الفاعل المختار، وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه، وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها، وتبيين مرتبتها، وأنها محالّ لمجاري مشيئة الله وحكمته، وأنه سبحانه هو الذي يضر بها وينفع، ليس إليها ولا لها من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، وأنها إنما ينال ضررها من علَّق قلبَه بها ووقف عندها).

قوله: (وَفِي الْحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ)) ).
الحديث بهذا اللفظ رواه الترمذي من حديث أنس، وفي إسناده ابن لهيعة ، وقد ضعف الحديث جماعة من أهل العلم.
لكن صح في السنن الأربعة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنَّ الدُّعاء هو العِبادَة)).

قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ).
{دَاخِرِينَ} صاغرين.
هذا أمر من الله عز وجل بدعائه وهو يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة ، والاستجابة لدعاء المسألة تكون بإعطاء السائل سؤله.
والاستجابة لدعاء العبادة بقبولها والإثابة عليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ} فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ؛ ولهذا أعقبه : {إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي} الآية . ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا).
وقال ابن القيم رحمه الله: (والدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، والعابد داع كما أن السائل داعٍ، وبهما فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ}، قيل: أطيعوني أثِبكم، وقيل: سلوني أعطِكم، وفُسِّرَ بهما قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}).
روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن لم يسأل الله غضب الله عليه)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهو سبحانه كما أخبر عن نفسه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((ما مِن داع يدعو الله بدعوة ليس فيها ظلم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدّخِر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه مِن الشر مثلها)).
فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب بها أو مثله وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا أو مفسدا للداعي أو لغيره، والداعي جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

8 May 2011

الخوف


وَدَلِيلُ الخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]وَدَلِيلُ الخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]

أقسام الخوف
الخوف على قسمين:
القسم الأول: خوف العبادة: وهو الذي يحمل معنى العبادة من التذلل والرهبة والخشية من إيقاع الضرر ممن يملك إيقاعه ، فيقوم بالقلب عبادات عظيمة من الرهبة والخشية والإنابة والتوكل وتعلق القلب فهذا الخوف لا شك أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك أكبر مخرج عن الملة ، قال الله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُون} وهذا الخوف هو من عمل المشركين ، ولذلك إذا أردت أن تعرف معنى الخوف الشركي فاعرف حال المشركين الذي يخافون هذا الخوف، وقد ذكر الله لنا من أخبارهم ، قال الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
وقال عن عاد قوم هود في مجادلتهم لنبيهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) }
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك).
وقال قتادة: (بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام ليكسر العزّى، فقال سادنها -وهو قيمها -: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها).
وقال مجاهد: ( {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني : « يخوفونك بالأوثان التي يعبدون من دون الله عز وجل » ).
ومن عباد الأوثان والقبور اليوم من يخوِّف الناس من هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله بأن لهم قدرة وتصرفاً وإذا غضبوا على شخص أرسلوا له من يعذبه ويصيبه بالأمراض وربما يشل جسده أو يقتله ونحو ذلك من التخويف الذي لا يجوز لمؤمن أن يخافه.

يذكر بعض العلماء عبارة (خوف السر) ويقصدون به خوف التعبد كما صرَّحوا بالتمثيل له بخوف عباد القبور والأوليا، وهؤلاء في الحقيقة جمعوا أنواعاً من الشرك منها اعتقادهم أن أولئك الأموات يطلعون على ما يعملون ، واعتقادهم قدرتهم على المؤاخذة وإحلال العقوبة والسخط ، وخوفهم أن يقطعوا عنهم المدد أو يتخلوا عن الشفاعة لهم ونحو ذلك؛ فلذلك تجد بعضهم إذا سمع أحداً يذكر أحد أولئك الأموات بسوء أو ينهى عن الغلو فيهم يُرى عليه أثر الخوف من غضب ذلك الولي بزعمهم.
وخوف السر هذا فيه معاني التعبد من الرهبة والخشية وتعلق القلب بالمعبود والالتجاء إليه، وهذه عبادات عظيمة من صرفها لغير الله تعالى فقد أشرك ، والعياذ بالله تعالى من الشرك.

فالخوف التعبدي عبادة من أجل العبادات صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.

درجات الناس في خوف العبادة
ولتوضيح المسألة : الناس في خوف العبادة على درجات:
الدرجة الأولى: السَّابِقون المقرَّبون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على المسارعة في الخيرات والتقرُّب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل والورع واجتناب المحرمات والشبهات؛ فهؤلاء بخير المنازل وهم الذين أثنى الله تعالى عليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
وقوله: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}

الدرجة الثانية: المقتصدون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على اجتناب المحرمات وفعل الواجبات فهؤلاء هم المتقون المقتصدون.
الدرجة الثالثة: المفرِّطون الظالمون لأنفسهم من المسلمين ، وهؤلاء معهم أصل الخوف من الله تعالى بحيث يمنعهم من الشرك الأكبر وارتكاب ناقض من نواقض الإسلام ، لكنهم لضعف خوفهم من الله تعالى يرتكبون الكبائر ويتركون بعض الفرائض الواجبة والعياذ بالله ، فهؤلاء مذنبون مستحقون للعذاب بقدر ما وقعوا فيه من المخالفة، وهم باقون في دائرة الإسلام.
الدرجة الرابعة: الغلاة المُفْرِطُون وهم الذين حملهم الخوف الشديد على نوع من اليأس من رحمة الله والقنوط من رحمته ؛ فهؤلاء مذنبون غلاة، ولا يجوز للمؤمن أن ييأس من روح الله ، ولا يقنط من رحمته.
الدرجة الخامسة: المشركون وهم الذين صرفوا هذه العبادة العظيمة لغير الله جل وعلا ؛ فهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.

فهذه درجات الناس في خوف التعبد وهم في كل درجة تتفاوت منازلهم .

القسم الثاني من الخوف: الخوف الطبيعي، وهو ما خلا من معاني التعبد ، وهذا حكمه بحسب ما يحمل عليه:
مثاله: خوف العبد من السباع والهوام والظلمة الطغاة فهذا لا يلام عليه العبد بل قد يعذر بسببه في أحوال؛ فقد يسقط عن الرجل وجوب صلاة الجماعة للخوف، وقد يجوز له جمع ما يجمع الصلوات بسبب الخوف، ونحو ذلك.
أما إن حمل هذا الخوف صاحبَه على ترك بعض الواجبات التي لا يعذر بتركها أو ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه فهو محرم لا يجوز.
مثاله: جماعة من المسلمين ظاهرون في بلد من البدان حملهم الخوف من العدو على ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ وترك إعداد العدة لذلك؛ فهؤلاء مذمومون مفرطون مذنبون بتركهم فريضة الجهاد في سبيل الله عز وجل ، وسنة الله تعالى جارية بأن يسلط الله عليهم أعداءهم وينزع مهابتهم من صدور الكافرين بسبب مخالفتهم لاتباع هدى الله جل وعلا، وتقديمهم خوف العدو على الخوف من الله جل وعلا، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يعظمهم في نفوسكم حتى تخافوهم.
فهذا الخوف من أولياء الشيطان محرم لا يجوز.
بل قد يصل الخوف من غير الله تعالى بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله ؛ كمن يحمله الخوف على الرضا بالكفر واختياره خوفاً وجبناً كما قال الله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وهذا هو أصل خوف الأتباع من المتبوعين من أئمة الكفر كما قال الله تعالى فيهم: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وقال تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)}
فهؤلاء حملهم خوفهم الطبيعي على الكفر والعياذ بالله. القسم الأول: خوف العبادة: وهو الذي يحمل معنى العبادة من التذلل والرهبة والخشية من إيقاع الضرر ممن يملك إيقاعه ، فيقوم بالقلب عبادات عظيمة من الرهبة والخشية والإنابة والتوكل وتعلق القلب فهذا الخوف لا شك أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك أكبر مخرج عن الملة ، قال الله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُون} وهذا الخوف هو من عمل المشركين ، ولذلك إذا أردت أن تعرف معنى الخوف الشركي فاعرف حال المشركين الذي يخافون هذا الخوف، وقد ذكر الله لنا من أخبارهم ، قال الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
وقال عن عاد قوم هود في مجادلتهم لنبيهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) }
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك).
وقال قتادة: (بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام ليكسر العزّى، فقال سادنها -وهو قيمها -: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها).
وقال مجاهد: ( {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني : « يخوفونك بالأوثان التي يعبدون من دون الله عز وجل » ).
ومن عباد الأوثان والقبور اليوم من يخوِّف الناس من هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله بأن لهم قدرة وتصرفاً وإذا غضبوا على شخص أرسلوا له من يعذبه ويصيبه بالأمراض وربما يشل جسده أو يقتله ونحو ذلك من التخويف الذي لا يجوز لمؤمن أن يخافه.

يذكر بعض العلماء عبارة (خوف السر) ويقصدون به خوف التعبد كما صرَّحوا بالتمثيل له بخوف عباد القبور والأوليا، وهؤلاء في الحقيقة جمعوا أنواعاً من الشرك منها اعتقادهم أن أولئك الأموات يطلعون على ما يعملون ، واعتقادهم قدرتهم على المؤاخذة وإحلال العقوبة والسخط ، وخوفهم أن يقطعوا عنهم المدد أو يتخلوا عن الشفاعة لهم ونحو ذلك؛ فلذلك تجد بعضهم إذا سمع أحداً يذكر أحد أولئك الأموات بسوء أو ينهى عن الغلو فيهم يُرى عليه أثر الخوف من غضب ذلك الولي بزعمهم.
وخوف السر هذا فيه معاني التعبد من الرهبة والخشية وتعلق القلب بالمعبود والالتجاء إليه، وهذه عبادات عظيمة من صرفها لغير الله تعالى فقد أشرك ، والعياذ بالله تعالى من الشرك.

فالخوف التعبدي عبادة من أجل العبادات صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.

درجات الناس في خوف العبادة
ولتوضيح المسألة : الناس في خوف العبادة على درجات:
الدرجة الأولى: السَّابِقون المقرَّبون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على المسارعة في الخيرات والتقرُّب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل والورع واجتناب المحرمات والشبهات؛ فهؤلاء بخير المنازل وهم الذين أثنى الله تعالى عليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
وقوله: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}

الدرجة الثانية: المقتصدون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على اجتناب المحرمات وفعل الواجبات فهؤلاء هم المتقون المقتصدون.
الدرجة الثالثة: المفرِّطون الظالمون لأنفسهم من المسلمين ، وهؤلاء معهم أصل الخوف من الله تعالى بحيث يمنعهم من الشرك الأكبر وارتكاب ناقض من نواقض الإسلام ، لكنهم لضعف خوفهم من الله تعالى يرتكبون الكبائر ويتركون بعض الفرائض الواجبة والعياذ بالله ، فهؤلاء مذنبون مستحقون للعذاب بقدر ما وقعوا فيه من المخالفة، وهم باقون في دائرة الإسلام.
الدرجة الرابعة: الغلاة المُفْرِطُون وهم الذين حملهم الخوف الشديد على نوع من اليأس من رحمة الله والقنوط من رحمته ؛ فهؤلاء مذنبون غلاة، ولا يجوز للمؤمن أن ييأس من روح الله ، ولا يقنط من رحمته.
الدرجة الخامسة: المشركون وهم الذين صرفوا هذه العبادة العظيمة لغير الله جل وعلا ؛ فهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.

فهذه درجات الناس في خوف التعبد وهم في كل درجة تتفاوت منازلهم .

القسم الثاني من الخوف: الخوف الطبيعي، وهو ما خلا من معاني التعبد ، وهذا حكمه بحسب ما يحمل عليه:
مثاله: خوف العبد من السباع والهوام والظلمة الطغاة فهذا لا يلام عليه العبد بل قد يعذر بسببه في أحوال؛ فقد يسقط عن الرجل وجوب صلاة الجماعة للخوف، وقد يجوز له جمع ما يجمع الصلوات بسبب الخوف، ونحو ذلك.
أما إن حمل هذا الخوف صاحبَه على ترك بعض الواجبات التي لا يعذر بتركها أو ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه فهو محرم لا يجوز.
مثاله: جماعة من المسلمين ظاهرون في بلد من البدان حملهم الخوف من العدو على ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ وترك إعداد العدة لذلك؛ فهؤلاء مذمومون مفرطون مذنبون بتركهم فريضة الجهاد في سبيل الله عز وجل ، وسنة الله تعالى جارية بأن يسلط الله عليهم أعداءهم وينزع مهابتهم من صدور الكافرين بسبب مخالفتهم لاتباع هدى الله جل وعلا، وتقديمهم خوف العدو على الخوف من الله جل وعلا، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يعظمهم في نفوسكم حتى تخافوهم.
فهذا الخوف من أولياء الشيطان محرم لا يجوز.
بل قد يصل الخوف من غير الله تعالى بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله ؛ كمن يحمله الخوف على الرضا بالكفر واختياره خوفاً وجبناً كما قال الله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وهذا هو أصل خوف الأتباع من المتبوعين من أئمة الكفر كما قال الله تعالى فيهم: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وقال تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)}
فهؤلاء حملهم خوفهم الطبيعي على الكفر والعياذ بالله.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

8 May 2011

الرجاء

قوله: (وَدَلِيلُ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبهِ أَحَداً}).

بيان معنى الرجاء
الرجاء نقيض اليأس، وهو طمع القلب في حصول منفعة.
قال الله تعالى: {وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين}
وقال عن أوليائه المتقين: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون}

أقسام الرجاء
والرجاء على قسمين:
القسم الأول: رجاء العبادة.
القسم الثاني: رجاء نفع الأسباب.

- فرجاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا ، ومن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك لأنه يحمل معاني العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والانقياد واعتقاد النفع والضر وتفويض الأمر وتعلق القلب والتقرب إلى المعبود ، وهذه كلها عبادات عظيمة تقتضيها عبادة الرجاء فمن صرفها لغير الله جل وعلا فهو مشرك كافر.
وهذا كرجاء المشركين في آلهتهم التي يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم عند الله أو أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وكرجاء بعض عباد الأولياء والقبور بأنهم ينجونهم من الكربات ويدفعون عنهم البلاء ويجلبون لهم النفع ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

- القسم الثاني: رجاء نفع الأسباب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا.


درجات رجاء نفع الأسباب
وهذا على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: رجاء جائز، وهو رجاء نفع الأسباب المشروعة مع عدم تعلق القلب بها، فهذا جائز ، وليس بشرك ، وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من يُرجى خيره ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيره ولا يُؤمن شره)). وإسناده صحيح.
فهذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة، وإنما هو رجاء نفع السبب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا.
الدرجة الثانية: رجاء محرم، وهو الرجاء في الأسباب المحرمة ليستعين بها على معصية الله جل وعلا.
الدرجة الثالث : شرك أصغر، وهو تعلق القلب بالأسباب؛ كتعلق بعض المرضى بالرقاة والأطباء تعلقاً قلبياً يغفلون معه عن أن الشفاء بيد الله عز وجل؛ فهذا من شرك الأسباب كما تقدم شرحه.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

8 May 2011

قاعدة دخول الشرك في العبادات

وهذه العبادات قاعدتها واحدة من فقهها سهل عليه معرفة هذه التقسيمات وتيسر له ضبط مسائلها إن شاء الله تعالى .
وهو أن هذه الألفاظ : المحبة والخوف والرجاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والرغبة والرهبة والخشية ونحوها تطلق في النصوص على معنيين:
المعنى الأول: ما كان يحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والانقياد واعتقاد النفع والضر فتكون حينئذ عبادة من صرفها لغير الله عز وجل فقد أشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويكون بذلك كافراً خارجاً عن الملة.
وإذا أردت أن تعرف هذا المعنى فانظر إلى ما يفعله مَن أثنى الله عليهم من الموحدين في هذه العبادات، وما يفعله مَن ذمهم الله من المشركين بهذه العبادات.
وبذلك تعرف المعنى التعبدي فيها الذي لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا.

المعنى الثاني: ما ليس فيه معنى العبادة ، وإنما هو سبب من الأسباب فهذا حكمه بحسب ما يترتب عليه فإن استعين به على طاعة الله فهو طاعة وقربة، وإن استعين به على محرم فهو حرام، وإن حمل على فعل محرم أو ترك واجب لا يعذر بتركه فهو محرم؛ فأما إن تعلق القلب بالسبب وصار فيه نوع تذلل له مصحوب بخوف ورجاء فيكون حينئذ شركاً أصغر، وهو من شرك الأسباب كما سبق بيانه في الدرس السابق.

لم يذكر المؤلف رحمه الله (المحبة) وهي عبادة من أجل العبادات، بل هي أصل هذه العبادات، وأعلاها شأناً وقد قال الله تعالى : {والذين آمنوا أشد حباً لله} والمحبة العظيمة التي تحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والتعظيم والانقياد لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل.
وسبق بيان القاعدة في هذا الباب.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

8 May 2011

أصول العبادات القلبية

واعلم أن هذه العبادات الثلاثة : المحبة والخوف والرجاء هي أصول العبادات وعليها مدارها. قال ابن القيم رحمه الله: ( القلب في سيره إلى الله عز و جل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر).
وبيان ذلك أن ما يدفع القلب للعمل ثلاثة أمور: المحبة ، والخوف ، والرجاء
فمن أحب الله أطاعه ، ومن خاف الله أطاعه، ومن رجا ثواب الله أطاعه
فمن المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله عز وجل محبة له، مع خوفه من الله ورجائه له ، لكن الذي يغلب على قلبه المحبة وصدق التقرب إلى الله عز وجل.
ومن المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله فيطيع الله خوفاً منه ، سواء خاف عقابه الدنيوي أو عقابه الأخروي؛ فالذي يحمله غالبا على فعل الطاعات واجتناب المحرمات خوفه من الله.
ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أن أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله.
والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة ، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه ، ورجاء لثوابه وفضله.
المحبة أعلى مرتبة من مرتبة الخوف والرجاء إذا أردنا المفاضلة بينها ، لأن المحبة تبقى في الدنيا والآخرة ، وأما الخوف فإنه يزول في الآخرة.


الجمع بين المحبة والخوف والرجاء
والجمع بين هذه الثلاثة هو منهج السلف الصالح وهو الذي عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم
وقال بعض ضلال الصوفية بالتفريق بينها وزعموا أن من يعبد الله محبة له فقط أعلى وأكمل ممن يعبد الله رجاء لثوابه أو خوفاً من عقابه ، حتى كان بعضهم يدعو: (اللهم إن كنت تعلم أني أطيعك رغبة في جنتك فاحرمني منها!!) وهذا ضلال مبين وخسران عظيم - إن لم يرحمه الله لجهله وقلة عقله -
فإن الله أمر بسؤاله من فضله ورغَّب في ثوابه فمن ترك رجاء الله فقد عصى الله.
وحذر الله من عقابه وعذابه فمن لم يخف الله فقد عصى الله.
والمقصود أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه الجمع بين هذه العبادات العظيمة فيعبدون الله محبة له كما وصفهم الله بقوله: {والذين آمنوا أشد حباً لله}
ويعبدون الله خوفاً من عقابه كما أمرهم الله بقوله: {وخافون إن كنتم مؤمنين}
وجعل صفة الرجاء فرقاناً بين المؤمنين والكافرين فقال: {وترجون من الله ما لا يرجون}
ورغَّبهم في ثوابه وأمرهم بسؤاله من فضله فقال تعالى : {واسألوا الله من فضله}.
فاللهم إنا نسألك من فضلك يا ذا الفضل العظيم.


حاجة السالك إلى الجمع بين المحبة والخوف والرجاء
ولتوضيح منازل هذه العبادات العظيمة والتلازم الشرعي بينها ، وحاجة المؤمن إليها جميعاً في سلوكه الصراط المستقيم يقال: إن من أحب الله سار إليه وتقرب إليه ، والسير إليه يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فهو سير معنوي على الصراط المستقيم الذي هو الطريق إلى المحبوب الأعظم.
فمحبة الله تدفع العبد إلى التقرب إليه، وعلى حسب قوة المحبة وضعفها تكون مسارعة العبد في الطاعات ومسارعته في الكف عن المحرمات.
وخوفه من الله يمنعه من الانحراف عن الصراط المستقيم فلا يتعدى حدود الله وهو يخاف عقاب الله.
ورجاؤه لفضل الله يحفزه لفعل الطاعات ويؤمله لقاء الله تعالى والفوز بقربه والتنعم بعظيم ثوابه.
نسأل الله تعالى من فضله وبركاته.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

8 May 2011

التوكل


قوله: (وَدَلِيلُ التَّوَكُّلِ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ).

معنى التوكل
التوكل طلب الوكالة من الوكيل ، والوكيل والمتوكل بالأمر هو الذي يضمن القيام به.
فالوكيل هو الذي يُسند إليه الأمر ويُفوَّضُ إليه ويعتمد عليه فيه.
والمتوكِّل هو المعتمِد والمفوِّض.
فالتوكُّل على الله تعالى حقيقته : الاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه ثقة في حسن تدبيره واعتقاداً بأن النفع والضر بيده وحده سبحانه.

وجوب إفراد الله تعالى بالتوكل

- فالتوكل عبادة من أجل العبادات، وهو يجمع عبادات عظيمة من التذلل لله، والخضوع إليه، وتفويض الأمر إليه، ورجاؤه سبحانه، والاستعانة به، والالتجاء إليه، وحسن الظن به جل وعلا، واعتقاد أن النفع والضر بيده وحده.
- والتوكل يستلزم الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيؤمن بسعة علم الله تعالى وقدرته، وعظيم ملكه وسعة رحمته، وكمال غناه وجميل حمده، وحسن ولايته وربوبيته، وبديع حُكْمِهِ وحِكمته، وغيرها من الصفات العليا الجليلة التي هي من آثار أسمائه الحسنى؛ فما يقوم في قلب المتوكل عند توكله من هذه العبادات وغيرها أمر لا تحيط به العبارة ولا يوفيه الشرحُ حقَّه.
- والمتوكلون يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيراً ، ويجمع ذلك أن التوكل عبادة عظيمة من أجل العبادات فمن صرفه لغير الله تعالى فلا شك في كفره وشركه وظلمه وضلاله.
وقد قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} فقدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، كما صرح به في قوله تعالى: {ولا تتخذوا من دوني وكيلا}.
-وقال تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} .
-وقال: {فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم}
-وقال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون}
-وقال الله تعالى: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}


التوكل عبادة قلبية
قال الإمام أحمد: (التوكل عمل القلب)
وثواب التوكل على الله عظيم جليل جزيل إذ جعل الله ثواب المتوكل أن الله هو حسبه وكافيه وفي ذلك غَناء له عن كل ما تتطلبه النفس، فليس وراء الله مذهب، ولا بعده مطلب.
قال الله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} فجعل هذا من ثواب التقوى وهو تفريج الشدة وحصول الرزق أيا كان نوعه، أما التوكل فثوابه أعظم : {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
وقد أثنى الله تعالى على نفسه بأنه {نعم الوكيل} وهذا الثناء يفتح لأولي الألباب أبواباً من المعاني الجليلة التي يستلزمها هذا الثناء الجميل فيثمر التفكر فيها من اليقين والإيمان ما يحمل العبد على الثقة بالله جل وعلا.
فكونه {نعم الوكيل} يستلزم علمه جل وعلا بحاجة من اتخذه وكيلاً، وعلمه بما يرجوه ويخافه كما قال الله تعالى: {والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيرا}
ويستلزم قدرته على تحقيق ما ينفع عبده ودفع ما يضره، ويستلزم نصره لعبده، ولطفه به ورحمته وإحسانه إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي يكفي فيها وصف {نعم الوكيل} ليحصل للنفس المؤمنة من اليقين والسكينة، والأمن والطمأنينة، والثقة العظيمة بالله جل وعلا ما لا تقوم له هموم الدنيا لو اجتمعت.
ولذلك تجد هذه العبارة {حسبنا الله ونعم الوكيل} يقولها أناس فتبلغ بهم من رضوان الله جل وعلا والقرب منه والزلفى لديه منزلاً عالياً جداً، ويقولها أقوام لا تجاوز حناجرهم.
وسر ذلك ما وقر في القلب من أنواع العبودية لله جل وعلا.
يقولها أقوام وهمهم النكاية بآخرين لأمر من أمور الدنيا غضبوا لأجله، وقد يكون هذا الأمر محرماً في أصله أو في التعلق به، وقد يكونون هم الظالمين المسيئين، ويقولها أقوام وهمهم إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وتحقيق العبودية له جل وعلا وطلب كفايته والاستغناء به جل وعلا والأنس به وعبادته على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأن يكفيهم ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا.
فالتوكل على الله تعالى لا يختص بالأمور الدنيوية كما يتوهمه بعض الجهال، بل التوكل على الله في الأمور الدينية من أداء واجبات العبودية لله تعالى والجهاد في سبيله في جميع مراتب الجهاد والتوكل عليه في طلب الهداية في جميع الأمور كبيرها وصغيرها أولى وأعظم.
وإن كان التوكل على الله في المصالح الدنيوية مطلوباً ومثاباً عليه بل قد يجب أحياناً، لكن التوكل على الله في أمور الدين أعظم وأنفع.


أنواع التوكل
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (التوكل على الله نوعان:
أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
وَبَيْنَ النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله؛ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتي توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه.
- فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم)ا.هـ.

- وقد بدأ الله تعالى بالحث على التوكل عليه في أمور الدين قبل أمور الدنيا كما في الحديث القدسي العظيم: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أَكْسِكُم).
وهذا الحديث يتضمن وجوب التوكل على الله جل وعلا فإنه لا تحصل منفعة في دين ولادنيا إلا بإذن الله تعالى وعلمه وقدرته، وقد بين الله تعالى أن جميع أبواب النفع مغلقة إلا من طريقه جل وعلا، فما أذن الله في نفعه نفع، وما لم يأذن به فلن ينفع.
ذلك أن الله له ما في السماوات وما في الأرض، وبيده ملكوت كل شيء، وهو الغني الذي لا أغنى منه، والملك الذي لا يخرج شيء عن ملكه، وهو الحميد الذي لا يخذل من توكل عليه ولجأ إليه وطلب النفع منه جل وعلا واتبع رضوانه.
تأمل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
تأملوا التأكيد على أن لله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات في هذه الآيات، والتأكيد على غناه جل وعلا بأكثر من وجه، وترغيبه عباده أن يسألوه من خير الدنيا والآخرة، وما في ضمن ذلك من وعده الكريم بتحقيق ما يأملون إن هم استجابوا له واتبعوا هديه، وأنه لن يضيع شيئاً من دعائهم ولا يفوته شيء من ذلك فهو السميع البصير.
كل هذه المعاني إذا تأملها المؤمن أورثته يقيناً وإيماناً وإخباتاً وإنابة لله جل وعلا.
وعلم أن الله تعالى هو {نعم الوكيل} {وكفى بالله وكيلا}
وقوله تعالى في الحديث القدسي: (فاستهدوني أهدكم) (فاستطعموني أطعمكم) (فاستكسوني أكسكم) يتضمن إرشاداً ووعداً لا يخلفه الله أبداً، ومن أوفى بوعده من الله ؟!!.
ويصدّق هذا ويبينه ما في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنَّكم تتوكلون على الله حقَّ توكلهِ : لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدو خماصاً وتَرُوحُ بِطانا)) .


تحقيق التوكل
- وتحقيق التوكل يكون بأمرين:
الأمر الأول: صدق الالتجاء إلى الله وتفويض الأمر إليه وإحسان الظن به جل وعلا وتعظيم الرغبة في فضله وإحسانه
وإفراده جل وعلا بما تقتضيه عبودية التوكل من العبادات العظيمة.
الأمر الثاني: اتباع رضوان الله جل وعلا بفعل ما هدى إليه امتثال الأمر واجتناب النهي والحرص على بذل الأسباب التي أذن الله بها في جلب النفع ودفع الضر.
وهذا أمر دل عليه الحديث الآنف الذكر فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطير تغدو، وغُدُوُّها هو بذلها السبب في التماس الرزق.
فمن جمع الأمرين العبادة القلبية بالتوكل وبذل السبب الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وبيانه فقد حقق التوكل واتبع رضوان الله.
ولما اجتمع هذان الأمران للمؤمنين عقب غزوة أحد كفاهم الله ما أهمهم، فكفاهم شر القتال، وأحل عليهم رضوانه، وحفظهم من كل سوء، وأعقب لهم ذكراً حسناً في كتابه الكريم لا يزال يتلى إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
فهؤلاء حققوا الأمرين فازداد إيمانهم بالله وتوكلوا عليه جل وعلا وقام في قلوبهم من أنواع العبودية لله جل وعلا ما يحبه الله ويرضاه {والله يحب المتوكلين}، واستجابوا لله والرسول واتبعوا رضوان الله فأحل الله عليهم رضوانه وحفظهم من كل سوء وأثابهم من الثواب العظيم ما لا يبلغه وصف واصف.
وهذان الأمران حققهما مؤمن آل فرعون فأبقى الله له الذكر الحسن والثناء الكريم فإنه اتبع رضوان الله، وبذل الأسباب التي أمر الله بها؛ فأنكر على قومه الكفر، وقام بواجب نصرة موسى عليه السلام، واجتهد في النصيحة، وفوض أمره إلى الله؛ فحفظه الله ووقاه، وأعلى ذكره وكفاه ما أهمه، وانتقم له ممن أراد المكر به، قال الله تعالى حكاية عنه بعد أن نصح قومه بما نصحهم به: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}
قال الإمام الشنقيطي: (وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء).

فالتوكل على الله في تحقيق عبوديته جل وعلا -وهو أعظم أنواع التوكل- أمر الله معه ببذل الأسباب والقيام بأعمال العبادة كما أرشد الله عباده وهداهم، قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} ، وقال: {وتوكل على الحي الذي لا يوت وسبح بحمده} ، وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبَّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}.
وكذلك من توكل على الله في جلب منفعة أو دفع مضرة وجب عليه أن يبذل ما يستطيع من الأسباب التي أذن الله بها وهدى إليها.
وأما من قال بلسانه توكلت على الله وقلبه غافل لاه أو غير عازم على الصدق في التوكل فهو لم يحقق التوكل، وكذلك من لم يتبع هدى الله ولم يبذل الأسباب التي أمر الله بها فهو جاهل ظالم لنفسه، ضال في فهمه، مقدوح في عقله.
في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: (نحن المتوكلون) ؛ فإذا قدموا مكة سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} ).
وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}
فجمع بين التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وبَذْلَ السبب لحمايتهم من العين وذلك بأمره لهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة.
ومن فقه هذا المعنى حق الفقه كان حريصاً على بذل الأسباب لأنها من هدى الله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولم يتعلق قلبه إلا بربه جل وعلا، لأنه هو وحده الذي بيده النفع والضر.

قال ابن القيم رحمه الله: (سرُّ التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلوِّ القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: (توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به؛ فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء، فقول العبد: (توكلت على الله) مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله: (تبت إلى الله) وهو مصر على معصيته مرتكب لها!!).

وخلاصة القول أن من عقل معنى التوكل على الله وفقهه حق الفقه سعد في الدنيا والآخرة.


أحكام التوكل
إذا تبين ذلك علمنا أن التوكل عبادة من أجل العبادات فمن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك كافر خارج من دين الإسلام.

- أما الاعتماد على الأسباب من الأشخاص والأعمال وغيرها فإن كان في القلب نوع تعلق بالسبب وتذلل فهو شرك أصغر من شرك الأسباب كما سبق بيانه في نظائره.
- وأما من اعتمد على السبب بلا تعلق قلبي فهذا ليس بشرك ، ويكون حكمه على حسب ما يترتب عليه فالاعتماد على الأسباب في أمر مباح حُكْمُه الإباحة.
- والاعتماد عليها في أمر محرم حُكْمُه التحريم.


هذا والله تعالى أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

8 May 2011

(خلاصة الدرس الثامن)


· هذا الدرس بداية تفصيل لأنواع العبادة التي ذكرها المؤلف رحمه الله.

· في هذا الدرس تلخيص لأهم المسائل المتعلّقة بهذه العبادات العظيمة وبيان سبيل إخلاصها لله تعالى، ودرجات دخول الشرك فيها ليكون الطالب منه على بصيرة ويحذر من الوقوع فيه.
1: الدعاء.
· الدعاء على قسمين:دعاء مسألة ودعاء عبادة.
- هذا التقسيم إنما هو لغرض التوضيح والتعليم وإلا فكلا القسمين عبادة.
- قصد العلماء بهذا التقسيم بيان شمول اسم الدعاء للقسمين؛ فإن لفظ الدعاء يطلق في النصوص ويراد به المعنى الأول، ويطلق ويراد به المعنى الثاني، ويطلق ويراد به المعنيين جميعاً.
· أما دعاء المسألة فهو الذي يكون فيه سؤال رغبة ورهبة لجلب منفعة أو دفع مضرة، فيكون عبادة لا يجوز صرفها لغير الله جل وعلا، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 16].
- من أمثلة الشرك في دعاء المسألة: سؤال الأموات قضاء الحاجات والمَدَد والشفاعة وغير ذلك؛ فهذا من الشرك الأكبر، وهو ضلال بعيد، وكفر مبين، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾[الأحقاف: 5، 6].
· وأما دعاء العبادة فهو: التعبد للمعبود بأقوال أو أعمال يُتقرب بها إليه رغبة ورهبة؛ فهذا صرفه لغير الله جل وعلا شرك أكبر.
- من أمثلة الشرك في دعاء العبادة: ما يتنسّك به عُبّاد الأوثان من أنواع الأعمال التي يعملونها على جهة التعبّد والتقرّب؛ فهي شرك أكبر، والعياذ بالله.
· مسألة: مَنْ طلب من مخلوق ما يقدر عليه كأن يقولَ فقيرٌ لغني: أعطني من مال الله الذي أعطاك، أو يقول رجل لغيره: أعنِّي بكذا وكذا؛ فهذا ليس بشرك بإجماع العلماء، لأنه ليس فيه معاني العبادة.
· اعتبار معنى العبادة مهم في الحكم على العمل بأنه شرك أو ليس بشرك؛ فإذا كان في القلب نوع تذلل للمسؤول وخوف ورجاء فهذا شرك أصغر، وهو من أنواع عبودية الدنيا.

أقسام وأحكام سؤال غير الله عز وجل
· سؤال غير الله تعالى على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى:الدعاء الذي يكون فيه معاني التعبّد من الرغب والرهب والخوف والرجاء واعتقاد النفع والضر في المدعو فهذا شرك أكبر، والعياذ بالله.
- الدرجة الثانية: سؤال المخلوقين مما يقدرون عليه عادة مع اعتقاد أن الله تعالى هو النافع الضار، لكن يغلب على قلبه التعلق بهم، ويكون في قلب السائل نوع تذلل لهم وخضوع؛ فهذا شرك أصغر لأنه مناف لتحقيق كمال العبودية الواجبة لله تعالى.
- الدرجة الثالثة: أن يطلب من المخلوقين ما يقدرون عليه مما يحتاج إليه من غير أن يكون في قلبه تعلّق بهم ولا تذلل لهم ولا خضوع؛ فهذا ليس بشرك، وله أحكام بحسب الغرض فقد يكون مأموراً به، وقد يكون مباحاً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً.

وجوب العناية بسلامة القلب لله تعالى
· يجب على العبد أن يسلم قلبه لله، فيطهّره من الشرك والتعلق بغير الله جل وعلا.
· سعي المسلم في طلب الرزق وبذل الأسباب لجلب منفعة أو دفع مضرّة يجب أن لا يحمله على تذلل قلبه لغير الله تعالى؛ فالله لم يبتليه ليتذلَّل لغيره.
· تذلل القلب لغير الله تعالى قادح في التوحيد، والمؤمن يعتقد كفاية الله تعالى له: ﴿أليس الله بكاف عبده﴾[الزمر: 36]، وإنما عليه أن يبذل ما يستطيع من الأسباب.
· بذل ما يستطاع من الأسباب مع التوكل على الله تعالى يحصل بهما كفاية العبد، فمن قام بهما بورك له في رزقه وكفاه الله ما أهمه من أمر دينه ودنياه.
· تنبيه: من الناس من تحمله إرادة التعبير عن البراءة من التذلل لغير الله إلى الإساءة إلى مَن حَقُّه أن يتأدب معه كأبيه أو وليه أو رئيسه، فهذا خطأ ينبغي التنبه له.
- الله تعالى يحب العدل والإحسان ويحب الرفق ويثيب عليه، ويبغض الفحش والتفحش والتعالي على الناس.

الفرق بين تذلل التعلّق وتذلل الرحمة والإحسان
· التذلل المأمور به للوالدين وللمؤمنين تذلل رحمة وإحسان لا تذلل تعلق وعبودية.
· مدح الله التذللَ للمؤمنين فقال تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة: 54]، وقال في الوالدين: ﴿واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا﴾ [الإسراء: 24].
· هذا التذلل بلين الجانب وخفض الجناح وحسن القول مبناه على الرحمة وقصد الإحسان إلى المؤمنين والتواضع لهم والرأفة بهم طاعة لله عز وجل واتباعاً لرضوانه وابتغاء لفضله وإحسانه، وأما القلب فهو سليم لله عز وجل غير خاضع للمخلوقين.
· من سلامة القلب لله شكر إحسان المحسن من الناس ومكافأة صاحب المعروف ليبقى قلب المسلم سليما لله تعالى، والله يحب الشكور من عباده الذي أُحْسِنَ إليه شَكَر.
· أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهدي في معاملة من أحسن إلينا.
· عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَن صُنِعَ إليهِ معروفٌ فليجْزِهْ؛ فإن لم يجدْ ما يجزِيهِ فليُثْنِ عليهِ؛ فإنَّهُ إذا أثنى عليهِ فقد شَكَرَه، وإنْ كَتَمَهُ فقد كَفَرَه، وَمَن تَحَلَّى بما لم يُعْطَ فَكَأَنَّما لَبِسَ ثوبَيْ زور )) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داوود في سننه والترمذي في جامعه وصححه الألباني.
· قال شاعر من يهود المدينة في الجاهلية:

ارفع ضعيفك لا يَحِرْ بكَ ضعفُه ... يوما فتدركك العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك وإنَّ مَن ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى

- روى البيهقي في شعب الإيمان بإسناد فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن هذين البيتين.
·من جزى الإحسان بالإحسان أو أثنى على صاحب الإحسان فقد أدّى شكره، وبقي قلبه سليماً لله جل وعلا، وهو في ذلك يعتقد أنهم سبب أجرى الله الإحسان على أيديهم وله في ذلك حكم بالغة.

الله تعالى وحده الذي بيده النفع والضر
· مبنى الدعاء على اعتقاد النفع والضر في المدعو، ومن أيقن بأنه لا ينفع ولا يضر على الحقيقة إلا الله تعالى استراح قلبه من التعلق بالخلق.
· هذه القضية تكرر التأكيد عليها في القرآن العظيم في آيات كثيرة:
- قال الله تعالى موبخاً المشركين: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) ﴾[المائدة: 76].
- وقال حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) ﴾[الأنبياء: 66، 67].
- وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكَّلُونَ (38) ﴾[الزمر: 38].
- وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[يونس: 17].
· هذه المسألة مبينة في القرآن الكريم بياناً كافياً شافياً يقطع جميع علائق التعلق بغير الله جل وعلا؛ فإن مدار العبودية على عمل القلب؛ فإذا كان القلب سليماً لله عز وجل خالصاً صلح بإذن الله وصلح سائر الجسد.
· قال ابن القيم رحمه الله: (الضرر والنفع بيد الله عز وجل فإن شاء أن يضر عبده ضره، وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرفه، بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر ويضره بما هو من أسباب النفع فعل، ليتبين العباد أنه وحده الضار النافع، وأن أسباب الضر والنفع بيديه، وهو الذي جعلها أسباباً، وإن شاء خلع منها سببيتها، وإن شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها، ليُعلم أنه الفاعل المختار، وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه، وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها، وتبيين مرتبتها، وأنها محالّ لمجاري مشيئة الله وحكمته، وأنه سبحانه هو الذي يضر بها وينفع، ليس إليها ولا لها من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، وأنها إنما ينال ضررها من علَّق قلبَه بها ووقف عندها)ا.هـ.

2: الخوف

· الخوف على قسمين:
- القسم الأول: خوف العبادة: وهو الذي يحمل معنى العبادة من التذلل والرهبة والخشية من إيقاع الضرر ممن يملك إيقاعه.
- القسم الثاني: الخوف الطبيعي الذي يخلو من المعاني التعبدية، وسيأتي بيانه.
· من لوازم خوف العبادة أن يقوم بالقلب عبادات عظيمة من الرهبة والخشية والإنابة والتوكل وتعلق القلب فهذا الخوف لا شك أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك في العبادة.
· يجب أن يُخلص هذا الخوف لله وحده كما قال تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُون﴾[النحل: 51] وتقديم المعمول يفيد الحصر، وهذه هي رهبة العبادة.
· الشرك في خوف العبادة من عمل المشركين، ومن أراد أن يعرف معنى الخوف الشركي فلينظر حال المشركين الذي يخافون هذا الخوف وليتأمّل ما قصّه الله من أخبارهم.
· قال الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[الأنعام: 80، 81].
· وقال عن عاد قوم هود في مجادلتهم لنبيهم: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: 53-56]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) ﴾[الزمر: 36].
· قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك)ا.هـ.
· وقال قتادة: (بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام ليكسر العزّى، فقال سادنها -وهو قيمها -: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها)ا.هـ، وهذا مثال للخوف الشركي.
· وقال مجاهد: (﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾[الزمر: 36]، يعني: «يخوفونك بالأوثان التي يعبدون من دون الله عز وجل»).
· ومن عبّاد الأوثان والقبور اليوم من يخوِّف الناس من هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله بأن لهم قدرة وتصرفاً وإذا غضبوا على شخص أرسلوا له من يعذبه ويصيبه بالأمراض وربما يشل جسده أو يقتله ونحو ذلك من التخويف الذي لا يجوز لمؤمن أن يخافه.
· يذكر بعض العلماء عبارة (خوف السر) ويقصدون به خوف التعبد، كما صرَّحوا بالتمثيل له بخوف عباد القبور والأولياء.
- هؤلاء في الحقيقة جمعوا أنواعاً من الشرك منها اعتقادهم أن أولئك الأموات يطلعون على ما يعملون، واعتقادهم قدرتهم على المؤاخذة وإحلال العقوبة والسخط، وخوفهم أن يقطعوا عنهم المدد أو يتخلوا عن الشفاعة لهم ونحو ذلك.
- لذلك تجد بعضهم إذا سمع أحداً يذكر أحد أولئك الأموات بسوء أو ينهى عن الغلو فيهم يُرى عليه أثر الخوف من غضب ذلك الولي بزعمهم.
- خوف السرّ هذا فيه معاني التعبد من الرهبة والخشية وتعلق القلب بالمعبود والالتجاء إليه، وهذه عبادات عظيمة من صرفها لغير الله تعالى فقد أشرك، والعياذ بالله تعالى من الشرك.

أقسام الناس في خوف العبادة
· الناس في خوف العبادة على درجات:
- الدرجة الأولى: السَّابِقون المقرَّبون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على المسارعة في الخيرات والتقرُّب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل والورع واجتناب المحرمات والشبهات؛ فهؤلاء بخير المنازل.
§ هؤلاء هم الذين أثنى الله تعالى عليهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون: 57-61]، وقوله: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[الزمر: 9].
- الدرجة الثانية: المقتصدون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على اجتناب المحرمات وفعل الواجبات فهؤلاء هم المتقون المقتصدون.
- الدرجة الثالثة: المفرِّطون الظالمون لأنفسهم من المسلمين، وهؤلاء معهم أصل الخوف من الله تعالى بحيث يمنعهم من الشرك الأكبر وارتكاب ناقض من نواقض الإسلام، لكنهم لضعف خوفهم من الله تعالى يرتكبون الكبائر ويتركون بعض الفرائض الواجبة والعياذ بالله، فهؤلاء مذنبون مستحقون للعذاب بقدر ما وقعوا فيه من المخالفة، وهم باقون في دائرة الإسلام.
- الدرجة الرابعة: الغلاة المُفْرِطُون وهم الذين حملهم الخوف الشديد على نوع من اليأس من رحمة الله والقنوط من رحمته؛ فهؤلاء مذنبون غلاة، ولا يجوز للمؤمن أن ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمته.
- الدرجة الخامسة: المشركون وهم الذين صرفوا هذه العبادة العظيمة لغير الله جل وعلا؛ فهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.
· فهذه درجات الناس في خوف التعبد وهم في كل درجة تتفاوت منازلهم.
· القسم الثاني من الخوف: الخوف الطبيعي، وهو ما خلا من معاني التعبد، وهذا حكمه بحسب ما يحمل عليه:
- مثاله: خوف العبد من السباع والهوام والظلمة الطغاة فهذا لا يلام عليه العبد بل قد يعذر بسببه في أحوال؛ فقد يسقط عن الرجل وجوب صلاة الجماعة للخوف، وقد يجوز له جمع ما يجمع الصلوات بسبب الخوف، ونحو ذلك.
§ أما إنْ حَمَل هذا الخوف صاحبَه على ترك بعض الواجبات التي لا يعذر بتركها أو ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه فهو محرم لا يجوز.
§ مثاله: جماعة من المسلمين ظاهرون في بلد من البدان حملهم الخوف من العدو على ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ وترك إعداد العدة لذلك؛ فهؤلاء مذمومون مفرطون مذنبون بتركهم فريضة الجهاد في سبيل الله عز وجل، وسنة الله تعالى جارية بأن يسلط الله عليهم أعداءهم وينزع مهابتهم من صدور الكافرين بسبب مخالفتهم لاتباع هدى الله جل وعلا.
§ تقديمهم خوف العدو على الخوف من الله جل وعلا، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ل عمران: 175].
§ ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي يعظمهم في نفوسكم حتى تخافوهم، وهذا الخوف من أولياء الشيطان محرم لا يجوز.
· قد يصل الخوف من غير الله تعالى بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله؛ كمن يحمله الخوف على الرضا بالكفر واختياره خوفاً وجبناً كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [النحل: 106-109].
- هذا هو أصل خوف الأتباع من المتبوعين من أئمة الكفر كما قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[سبأ: 31-33].
- وقال تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) ﴾ [غافر: 47، 48].
· هؤلاء حملهم خوفهم الطبيعي على الكفر والعياذ بالله.

أنواع خوف المؤمنين
· خوف المؤمنين له ثلاثة أنواع:
- النوع الأول: الخوف من سخط الله عز وجلّ وإعراضه عن العبد، وهو خوف المحبين.
- النوع الثاني: الخوف من العذاب الدنيوي والأخروي، وهذا خوف المتّقين.
- النوع الثالث: الخوف من فوات الثواب، وهذا خوف العاملين.

3: الرجاء.
· معنى الرجاء
- الرجاء نقيض اليأس، وهو طمع القلب في حصول منفعة.
· قال الله تعالى: ﴿وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾[الأعراف: 56].
· وقال عن أوليائه المتقين: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون﴾[السجدة: 16].
· والرجاء على قسمين:
- القسم الأول: رجاء العبادة.
- القسم الثاني: رجاء نفع الأسباب.
· رجاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا، ومن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك لأنه يحمل معاني العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والانقياد واعتقاد النفع والضر وتفويض الأمر وتعلق القلب والتقرب إلى المعبود.
- هذه كلها عبادات عظيمة تقتضيها عبادة الرجاء فمن صرفها لغير الله جل وعلا فهو مشرك كافر.
- من أمثلة الرجاء الشركي: رجاء المشركين في آلهتهم التي يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم عند الله أو أنها تقربهم إلى الله زلفى، ورجاء بعض عباد الأولياء والقبور بأنهم ينجونهم من الكربات ويدفعون عنهم البلاء ويجلبون لهم النفع ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

درجات رجاء نفع الأسباب
· رجاء نفع الأسباب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى: رجاء جائز، وهو رجاء نفع الأسباب المشروعة مع عدم تعلق القلب بها.
§ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( خيركم من يُرجى خيره ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيره ولا يُؤمن شره )). رواه أحمد والترمذي بإسناد صحيح.
§ هذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة، وإنما هو رجاء نفع السبب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا.
- الدرجة الثانية: رجاء محرم، وهو الرجاء في الأسباب المحرمة ليستعين بها على معصية الله جل وعلا.
- الدرجة الثالث: شرك أصغر، وهو تعلق القلب بالأسباب التي يُرجى نفعها؛ كتعلق بعض المرضى بالرقاة والأطباء تعلقاً قلبياً يغفلون معه عن أن الشفاء بيد الله عز وجل؛ فهذا من شرك الأسباب كما تقدم شرحه.

قاعدة دخول الشرك في العبادات
· هذه العبادات قاعدتها واحدة من فقهها سهل عليه معرفة هذه التقسيمات وتيسر له ضبط مسائلها إن شاء الله تعالى.
· هذه الألفاظ: المحبة والخوف والرجاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والرغبة والرهبة والخشية ونحوها تطلق في النصوص على معنيين:
- المعنى الأول: ما كان يحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والانقياد واعتقاد النفع والضر فتكون حينئذ عبادة من صرفها لغير الله عز وجل فقد أشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويكون بذلك كافراً خارجاً عن الملة.
§ إذا أردت أن تعرف هذا المعنى فانظر إلى ما يفعله مَن أثنى الله عليهم من الموحدين في هذه العبادات، وما يفعله مَن ذمهم الله من المشركين بهذه العبادات، وبذلك تعرف المعنى التعبدي فيها الذي لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا.
- المعنى الثاني: ما ليس فيه معنى العبادة، وإنما هو سبب من الأسباب فهذا حكمه بحسب ما يترتب عليه فإن استعين به على طاعة الله فهو طاعة وقربة، وإن استعين به على محرم فهو حرام، وإن حمل على فعل محرم أو ترك واجب لا يعذر بتركه فهو محرم.
§ أما إن تعلق القلب بالسبب وصار فيه نوع تذلل له مصحوب بخوف ورجاء فيكون حينئذ شركاً أصغر، وهو من شرك الأسباب كما سبق بيانه في الدرس السابق.
· لم يذكر المؤلف رحمه الله (المحبة) وهي عبادة من أجل العبادات، بل هي أصل هذه العبادات، وأعلاها شأناً وقد قال الله تعالى: ﴿والذين آمنوا أشد حباً لله﴾[البقرة: 165] والمحبة العظيمة التي تحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والتعظيم والانقياد لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، وقد سبق بيان القاعدة في هذا الباب.

أصول العبادات القلبية
· أصول العبادات القلبية التي عليها مدار سائر العبادات: (المحبة، والخوف، والرجاء).
· قال ابن القيم رحمه الله: (القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر)ا.هـ.
· وبيان ذلك أن ما يدفع القلب للعمل ثلاثة أمور: المحبة، والخوف، والرجاء فمن أحب الله أطاعه، ومن خاف الله أطاعه، ومن رجا ثواب الله أطاعه.
- من المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله عز وجل محبة له، مع خوفه من الله ورجائه له، لكن الذي يغلب على قلبه المحبة وصدق التقرب إلى الله عز وجل.
- من المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله فيطيع الله خوفاً منه، سواء خاف عقابه الدنيوي أو عقابه الأخروي؛ فالذي يحمله غالبا على فعل الطاعات واجتناب المحرمات خوفه من الله.
- ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أن أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله.
- والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه، ورجاء لثوابه وفضله.
· المحبة أعلى مرتبة من مرتبة الخوف والرجاء إذا أردنا المفاضلة بينها، لأن المحبّة هي أصل هاتين العبادتين؛ فالخوف أصله محبّة السلامة، والرجاء أصله محبّة المنفعة.
· والمحبة تبقى في الدنيا والآخرة، والخوف يزول في الآخرة.

الجمع بين المحبة والخوف والرجاء
· الجمع بين هذه الثلاثة هو منهج السلف الصالح وهو الذي عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
- فيعبدون الله محبة له كما وصفهم الله بقوله: ﴿والذين آمنوا أشد حباً لله﴾ [البقرة: 165]
- ويعبدون الله خوفاً من عقابه كما أمرهم الله بقوله: ﴿وخافون إن كنتم مؤمنين﴾ [آل عمران: 175].
- وجعل صفة الرجاء فرقاناً بين المؤمنين والكافرين فقال: ﴿وترجون من الله ما لا يرجون﴾[النساء: 14]، ورغَّبهم في رجاء ثوابه وأمرهم بسؤاله من فضله فقال تعالى: ﴿واسألوا الله من فضله﴾[النساء: 32].
· قال بعض ضُلال الصوفية بالتفريق بينها وزعموا أن من يعبد الله محبة له فقط أعلى وأكمل ممن يعبد الله رجاء لثوابه أو خوفاً من عقابه.
- أُثر عن بعض الصوفية أنه كان يدعو: (اللهم إن كنت تعلم أني أطيعك رغبة في جنتك فاحرمني منها!!) وهذا ضلال مبين وخسران عظيم إن لم يرحمه الله لجهله وقلة عقله.
- الله تعالى أمر بسؤاله من فضله ورغَّب في ثوابه فمن ترك رجاء الله فقد عصى الله،
وحذر الله من عقابه وعذابه فمن لم يخف الله فقد عصى الله.


حاجة السالك إلى الجمع بين هذه العبادات العظيمة
· من أحب الله سار إليه وتقرب إليه، والسير إليه يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فهو سير معنوي على الصراط المستقيم الذي هو الطريق إلى المحبوب الأعظم.
- فمحبة الله تدفع العبد إلى التقرب إليه، وعلى حسب قوة المحبة وضعفها تكون مسارعة العبد في الطاعات ومسارعته في الكف عن المحرمات.
- وخوفه من الله يمنعه من الانحراف عن الصراط المستقيم فلا يتعدى حدود الله وهو يخاف عقاب الله.
- ورجاؤه لفضل الله يحفزه لفعل الطاعات ويؤمله لقاء الله تعالى والفوز بقربه والتنعم بعظيم ثوابه.

4: التوكل
· التَّوكُّل طلب الوكالة من الوكيل، والوكيل والمتوكل بالأمر هو الذي يضمن القيام به.
· فالوَكِيل هو الذي يُسند إليه الأمر ويُفوََّضُ إليه ويعتمد عليه فيه؛ والمتوكِّل هو المعتمِد المفوِّض.
· حقيقة التوكُّل على الله تعالى: الاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه ثقة في حسن تدبيره واعتقاداً بأن النفع والضر بيده وحده سبحانه.
· التوكل عبادة من أجل العبادات، وهو يجمع عبادات عظيمة من التذلل لله، والخضوع إليه، وتفويض الأمر إليه، ورجاؤه سبحانه، والاستعانة به، والالتجاء إليه، وحسن الظن به جل وعلا، واعتقاد أن النفع والضر بيده وحده.
· التوكل يستلزم الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيؤمن بسعة علم الله تعالى وقدرته، وعظيم ملكه وسعة رحمته، وكمال غناه وجميل حمده، وحسن ولايته وربوبيته، وبديع حُكْمِهِ وحِكمته، وغيرها من الصفات العليا الجليلة التي هي من آثار أسمائه الحسنى.
- ما يقوم في قلب المتوكل عند توكله من هذه العبادات وغيرها أمر لا تحيط به العبارة ولا يوفيه الشرحُ حقَّه.
· المتوكلون يتفاضلون فيه تفاضلاً كبيراً؛ بحسب ما يقوم بقلوبهم من قوة التفويض وتفاضلهم في إحسان اتباع هدى الله جل وعلا.

وجوب إفراد الله تعالى بالتوكل
· التوكل عبادة عظيمة من أجل العبادات من صرفه لغير الله تعالى فلا شك في كفره وظلمه وضلاله.
· قال الله تعالى: ﴿وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين﴾[المائدة: 23] فقدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، كما صرح به في قوله تعالى: ﴿
أَلاَّ تتخذوا من دوني وكيلا﴾ [الإسراء: 2].
· وقال تعالى: ﴿قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا﴾[الملك: 29]، وقال تعالى: ﴿وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾[يوسف: 67] وقال تعالى: ﴿وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه﴾[الأحزاب: 3، 4].

التوكل عبادة قلبية
· قال الإمام أحمد: (التوكل عمل القلب).
· ثواب التوكل على الله عظيم جليل جزيل إذ جعل الله ثواب المتوكل أن الله هو حسبه وكافيه وفي ذلك غَناء له عن كل ما تتطلبه النفس،فليس وراء الله مذهب، ولا بعده مطلب.
- قال الله تعالى: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾
[الطلاق: 2، 3] فجعل هذا من ثواب التقوى وهو تفريج الشدة وحصول الرزق أيا كان نوعه، أما التوكل فثوابه أعظم: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾[الطلاق: 3].
- وقال تعالى: ﴿فتوكل على الله إن الله يحبّ المتوكلين﴾[آل عمران: 159]، وهذه المحبة لها آثارها العظيمة.
- أثنى الله تعالى على نفسه بأنه ﴿نعم الوكيل﴾[آل عمران: 173] وهذا الثناء يفتح لأولي الألباب أبواباً من المعاني الجليلة التي يستلزمها هذا الثناء الجميل فيثمر التفكر فيها من اليقين والإيمان ما يحمل العبد على الثقة بالله جل وعلا.
- كونه ﴿نعم الوكيل﴾[آل عمران: 173] يستلزم علمه جل وعلا بحاجة من اتخذه وكيلاً، وعلمه بما يرجوه ويخافه كما قال الله تعالى: ﴿والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيرا﴾ [النساء: 45]، ويستلزم قدرته على تحقيق ما ينفع عبده ودفع ما يضره، ويستلزم نصره لعبده، ولطفه به ورحمته وإحسانه إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي يكفي فيها وصف ﴿نعم الوكيل﴾ [آل عمران: 173] ليحصل للنفس المؤمنة من اليقين والسكينة، والأمن والطمأنينة، والثقة العظيمة بالله جل وعلا ما لا تقوم له هموم الدنيا لو اجتمعت.
- هذه العبارة ﴿حسبنا الله ونعم الوكيل﴾[آل عمران: 173] يقولها أناس فتبلغ بهم من رضوان الله جل وعلا والقرب منه والزلفى لديه منزلاً عالياً جداً، ويقولها أقوام لا تجاوز حناجرهم، وسرّ ذلك ما وقر في القلب من أنواع العبودية لله جل وعلا.

أنواع التوكل
· قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (التوكل على الله نوعان:
- أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
- والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
- وَبَيْنَ النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله؛ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه.
- فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم) ا.هـ.
· قدّم الله تعالى الحث على التوكل عليه في أمور الدين قبل أمور الدنيا كما في الحديث القدسي العظيم: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أَكْسِكُم).
- تضمّن هذا الحديث وجوب التوكل على الله جل وعلا فإنه لا تحصل منفعة في دين ولا دنيا إلا بإذن الله تعالى وعلمه وقدرته.
- بيّن الله تعالى في هذا الحديث أن جميع أبواب النفع مغلقة إلا من طريقه جل وعلا، فما أذن الله في نفعه نفع، وما لم يأذن به فلن ينفع.
- قوله تعالى في الحديث القدسي: (فاستهدوني أهدكم) (فاستطعموني أطعمكم) (فاستكسوني أكسكم) يتضمن إرشاداً ووعداً لا يخلفه الله أبداً، ومن أوفى بوعده من الله؟!!.
- يصدّق هذا ويبينه ما في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لو أنَّكم تتوكلون على الله حقَّ توكلهِ: لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدو خماصاً وتَرُوحُ بِطانا )).

تحقيق التوكل
· تحقيق التوكل يكون بأمرين:
- الأمر الأول: صدق الالتجاء إلى الله وتفويض الأمر إليه وإحسان الظن به جل وعلا وتعظيم الرغبة في فضله وإحسانه، وإفراده جل وعلا بهذه العبادة وما تقتضيه من العبادات العظيمة.
- الأمر الثاني: اتباع هدى الله جل وعلا بفعل الأسباب التي أذن بها في جلب النفع ودفع الضر.
§ هذا أمر دل عليه الحديث الآنف الذكر فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطير تغدو، وغُدُوُّها هو بذلها السبب في التماس الرزق.
- من جمع الأمرين العبادة القلبية بالتوكل وبذل السبب الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وبيانه فقد حقق التوكل واتبع رضوان الله.
· لما اجتمع هذان الأمران للمؤمنين عقب غزوة أحد كفاهم الله ما أهمهم؛ وشّرفهم بذكرهم في كتابه الكريم ولنأتسي بهم، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) ﴾
[آل عمران: 173، 174].
· وهذان الأمران حققهما مؤمن آل فرعون فأبقى الله له الذكر الحسن والثناء الكريم لمّا صدق في تفويض أمره إلى الله واتباع هداه؛ فأنكر على قومه الكفر، وقام بواجب نصرة موسى عليه السلام، واجتهد في النصيحة؛ فحفظه الله ووقاه، وأعلى ذكره وكفاه ما أهمه، وانتقم له ممن أراد المكر به.
- قال الله تعالى حكاية عنه بعد أن نصح قومه بما نصحهم به:﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 44- 46].
- قال الإمام الشنقيطي: (وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾[غافر: 44، 45] دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء).
· التوكل على الله في تحقيق عبوديته جل وعلا -وهو أعظم أنواع التوكل- أمرَ الله مَعَه ببذل الأسباب والقيام بأعمال العبادة كما أرشد الله عباده وهداهم، قال تعالى: ﴿فاعبده وتوكل عليه﴾[هود: 123]، وقال: ﴿وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده﴾ [الفرقان: 58]، وقال: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبَّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 8-10].
· وكذلك من توكل على الله في جلب منفعة أو دفع مضرة فعليه أن يبذل ما يستطيع من الأسباب التي أذن الله بها وهدى إليها.
· من قال بلسانه توكلت على الله وقلبه غافل لاهٍ أو غير عازم على الصدق في التوكل فإنه لم يحقق التوكل، وكذلك من لم يتبع هدى الله ولم يبذل الأسباب التي أمر الله بها فهو جاهل ظالم لنفسه، ضال في فهمه، مقدوح في عقله.
· في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: (نحن المتوكلون)؛ فإذا قدموا مكة سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى﴿وتزودوا فإن خير الزاد التقوى﴾[البقرة: 197]).
· وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[يوسف: 67]؛ فجمع بين التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وبَذْلَ السبب لحمايتهم من العين وذلك بأمره لهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة.
· من فقه هذا المعنى حق الفقه كان حريصاً على بذل الأسباب لأنها من هدى الله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولم يتعلق قلبه إلا بربه جل وعلا، لأنه هو وحده الذي بيده النفع والضر.
· ترك بذل الأسباب مع إمكانها هو العجز، وصاحبه محروم مذموم ملوم على عجزه؛ وما فاته من الخير أو حصل له مما يكره بسبب تفريطه ليس له فيه حجة؛ بخلاف المتوكل.
· صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من العجز والكسل؛ فقرن بينهما.
· من زعم أنه متوكل على الله وهو لا يتبع هدى الله ببذل الأسباب فهو كاذب في دعواه.
· روي في ذمّ العجز حديثان في إسنادهما مقال ومعناهما صحيح:
- أحدهما: حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعاً: (( الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )) رواه أحمد والترمذي وحسّنه، واستدلّ به جماعة من أهل العلم. ومن أهل العلم من ضعّفه.
- والآخر: حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين؛ فقال المقضي عليه لما أدبر: (حسبي الله ونعم الوكيل)؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( رُدُّوا عليَّ الرجلَ ))؛ فقال: (( ما قلتَ؟ ))؛ قال: قلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ الله يَلوم على العجْزِ، ولكنْ عليكَ بالكَيْسِ، فَإذا غلبَكَ أمْرٌ فقلْ: حسبي الله ونِعْم الوكيلُ )). رواه أحمد وأبو داوود والنسائي.
· قال ابن القيم رحمه الله: (سرُّ التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلوِّ القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: (توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به؛ فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء، فقول العبد: (توكلت على الله) مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله: (تبت إلى الله) وهو مصر على معصيته مرتكب لها!!).
· خلاصة القول أنَّ مَن عَقَلَ معنى التوكل على الله وفقهه حق الفقه سعد في الدنيا والآخرة.

أحكام التوكل
· إذا تبين ذلك علمنا أن التوكل عبادة من أجل العبادات فمن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك كافر خارج من دين الإسلام.
· إذا أردت أن تعرف معنى التوكل الشركي فانظر إلى حال المشركين الذين ذمهم الله؛ وكيف توكلوا على آلهتهم التي يدعونها من دون الله في جلب النفع ودفع الضر وفي الشفاعة وغيرها.
· هذا أمر مشاهد معروف لمن عرف أحوال المشركين اليوم وخالط بعضهم؛ فإنه يسمع منهم ما يدل على توكلهم الشركي على ما يعبدونه من دون الله من الأولياء والجن وغيرهم.
· أما من كان لا يتوكّل إلا على الله وحده، لكنّه يغلو في بعض الأسباب من الأشخاص والأعمال فيكون في قلبه نوع تعلّق بهم مع اعتقاده أن النفع والضر بيد الله وحده فهذا قد وقع في الشرك الأصغر والعياذ بالله، وهو من شرك الأسباب كما سبق بيانه في نظائره.
· وأما من سلم قلبه من التعلّق بالأسباب فيكون اعتماده على الأسباب سليما من الشرك ويختلف حكمه باختلاف حكم السبب والغرض؛ فالاعتماد على الأسباب المباحة في أمر مباح حُكْمُه الإباحة، والاعتماد عليها في أمر محرم حُكْمُه التحريم؛ وأما الاعتماد على الأسباب المحرمة فهو محرم بكل حال.

شرح عبارات المتن

قوله: (وَفِي الْحَدِيثِ:(( الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ )) ).
· الحديث بهذا اللفظ رواه الترمذي من حديث أنس، وفي إسناده ابن لهيعة، وقد ضعف الحديث جماعة من أهل العلم.
· صح في السنن الأربعة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنَّ الدُّعاء هو العِبادَة )).
· فائدة: لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة قيّمة في آداب الدعاء فسّر فيها قول الله تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً..﴾[الأعراف: 56] ثم أسهب في الحديث عن أنواع الدعاء وآدابه بكلام نفيس قيّم يجدر بالمعلّم الاطلاع عليه، وهو في مجموع الفتاوى (10/15).

قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]).
· ﴿دَاخِرِينَ﴾ صاغرين.
· هذا أمر من الله عز وجل بدعائه وهو يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
· الاستجابة لدعاء المسألة تكون بإعطاء السائل سؤله، والاستجابة لدعاء العبادة بقبولها والإثابة عليها.
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ﴾[غافر: 60] فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر؛ ولهذا أعقبه: ﴿إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي﴾[غافر: 60] الآية. ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا).
· وقال ابن القيم رحمه الله: (والدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، والعابد داع كما أن السائل داعٍ، وبهما فسر قوله تعالى:﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، قيل: أطيعوني أثِبكم، وقيل: سلوني أعطِكم، وفُسِّرَ بهما قوله تعالى:﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: 186]).
· روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( مَن لم يسأل الله غضب الله عليه )).
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهو سبحانه كما أخبر عن نفسه ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: 186] وقال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ما مِن داع يدعو الله بدعوة ليس فيها ظلم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدّخِر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه مِن الشر مثلها ))فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل المطلوب بها أو مثله وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا أو مفسدا للداعي أو لغيره، والداعي جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى).

قوله: (وَدَلِيلُ الخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالى:﴿إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ل عمران: 175]).
· أي دليل كون الخوف عبادة قوله تعالى: ﴿فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين﴾ ل عمران: 175].
· الأمر بالخوف من الله تعالى دليل على أنه عبادة يحبّها الله.
· والنهي عن الخوف من أولياء الشيطان دليل على تحريمه.
· الخوف من الله وسلامة القلب من الخوف من أولياء الشيطان دليل على صحّة الإيمان.
· ﴿يخوّف أولياءه﴾ل عمران: 175] معناه: يعظمهم في نفوسكم بوساوسه لتخافوهم، وقول المفسرين واللغويين: (يخوفكم بأولياءه) تفسير باللازم، وهو أحد مسالك التفسير.
- قال الفراء: مثل ذلك قوله تعالى: ﴿لينذر يوم التلاق﴾[غافر: 15] معناه: لينذركم يوم التلاق.
قوله: (وَدَلِيلُ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبهِ أَحَداً﴾ [الكهف: 110]).

· أي الدليل على أن الرجاء عبادة يحبها الله تعالى قوله تعالى: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه..﴾[الكهف: 110] الآية؛ ففي هذه الآية مدح الرجاء بما دلّ على أن الله يحبّه؛ فعلمنا أنه عبادة.
· للمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
- القول الأول: الرجاء هنا على بابه وهو الطمع في الثواب، وهذا قول سعيد بن جبير قال: (ثواب ربه) رواه ابن جرير، وهذا تفسير ببعض اللازم؛ لأن الثواب مما وعد الله به عباده المؤمنين إذا لاقوه.
- نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها...﴾[يونس: 7، 8] الآيتين.
- لمّا استبدلوا رجاء لقاء الله بالرضا بمتاع الحياة الدنيا علمنا أنه استبدال للأدنى بالأعلى؛ وهذا مستلزم لمعنى الثواب الذي هو خير وأبقى من متاع الدنيا.
- رجاء لقاء الله يشمل رجاء رؤية الله تعالى وهو رجاء المقربين وهو أعظم النعيم،ورجاء التنعم بثوابه في جنات النعيم، وكل ذلك مما يشمله معنى الثواب
· القول الثاني: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ وهو قول مقاتل وابن قتيبة، واستشهد له بقول أبي ذؤيب الهذلي:

إذا لسعته النحل لم يرجُ لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل

- (لم يرجُ لسعها) أي لم يخفه، قال الزجاج: ومثله قول الله تعالى: ﴿ما لكم لا ترجون لله وقارا﴾ [نوح: 13].
· القول الثالث: الرجاء هنا بمعنى اليقين؛ أي من كان يوقن بلقاء الله فليعمل عملاً صالحاً، ونظيره قول الله تعالى: ﴿قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله﴾[البقرة: 46] يظنون هنا أي: يوقنون.

قوله: (وَدَلِيلُ التَّوَكُّلِ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]).
· الأمر بالتوكل دليل على أنه عبادة.
· ﴿وعلى الله فتوكلوا﴾[المائدة: 23] دليل على وجوب إفراد الله تعالى بالتوكل.
· ﴿فهو حسبه﴾[الطلاق: 3] أي كافيه.