5 May 2011
الدرس السابع: بيان معنى العبادة وأنواعها
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
اقتباس:
(وَأَنْوَاعُ
العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ،
وَالإحْسَانِ؛ وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ،
وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ،
وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ، والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ،
وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ
الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها لِلَّهِ تَعَالى. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً﴾ [الجن:18]، فَمَنْ صَرَفَ مِنْها شَيْئاً لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:117]). |
بيان معنى العبادة
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت........وَظِيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ
لا تدعني إلا ب(يا عبدها).......فإنه من أشرف أسمائـي
وهان علي اللوم في جنب حبها.......وقول الأعـادي إنـه لخليـع
أصم إذا نوديت باسمي وإنني.......إذا قيل لي يا عبدهـا لسميـع
بسم الله الرحمن الرحيم
الأربعاء : 1 جمادى الثانية 1432هـ
إن الحمد لله نحمده
ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة
ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
أما بعد:
لما ذكر المؤلف رحمه الله
أن الأصل الأول من أصول الدين هو معرفة العبد ربه جل وعلا، وبين أن أعظم ما
أمر الله به التوحيد وفسره بأنه إفراد الله بالعبادة ، وذكر الدليل على
ذلك ، وبين أن أعظم ما نهى الله عنه هو الشرك في عبادة الله جل وعلا، اقتضى
الترتيب أن يبين معنى هذه العبادة التي لها هذا الشأن العظيم التي يجب
إفراد الله تعالى بها، والتي من صرف شيئاً من أنواعها لغير الله جل وعلا
فهو مشرك كافر.
وموضوع درسنا اليوم هو في بيان معنى العبادة وأنواعها .
بيان معنى العبادة.
قال ابن جرير رحمه الله:
(العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ
الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة (معبَّدًا) ومن ذلك قولَ طَرَفَة
بن العَبْد:
ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد.
ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه.
والشواهد على ذلك -من أشعار العرب وكلامها- أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفِّق لفهمه إن شاء الله تعالى).
فهذا تعريف لها باعتبار أصل معناها الملازم لها، واعتبار هذا المعنى مهم.
أنواع العبادة
والعبادة على نوعين:
1: عبادة كونية.
2: عبادة شرعية.
فأما العبادة الكونية فهذه عامة لجميع الخلق ، كما قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا}، وقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
فهو سبحانه مالك الخلق
أجمعين لا يخرج أحد منهم عن ملكه وتدبيره، ولا يمتنع أحد منهم عنه، لا رب
لهم غيره ولا مالك لهم سواه ولا خالق لهم إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو
أنكروه وسواء علموا ذلك أو جهلوه.
وأما العبادة الشرعية :
فلها تعريفات ذكرها بعض أهل العلم، وقد سلكوا مسالك في التعريف : ومن
أحسنها تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (العبودية)
قال رحمه الله تعالى: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ).
فهذا تعريف باعتبار ما يشمله اسم العبادة مما شرع للعبد أن يتعبد به في شريعة الإسلام.
لوازم العبادة
وقول ابن جرير: (العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة) هذا بيان لما تكون به العبادة فهي لا تكون إلا بتذلل وخضوع ثم يصحب ذلك في العبادات الشرعية التي أمر الله بها أمور:
الأمر الأول: المحبة
الأمر الثاني: الانقياد.
الأمر الثالث: التعظيم.
فالعبادة لا تسمى عبادة حتى تجتمع فيها ثلاثة أمور:
الأمر الأول: المحبة العظيمة، فالعبادة هي أعظم درجات المحبة، ولذلك لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك كما قال تعالى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}
قال الشاعر يصف شدة حبه لمحبوبته:
فالعابد مُحِبٌّ لمعبوده
أشد المحبة؛ يقدِّم محبته على محبة النفس والأهل والولد والمال، لا يهنأ
إلا بذكر محبوبه، ولا يأنس إلا بفعل ما يحبه، فذكره في قلبه ولسانه لا يكاد
يكل ولا يمل من ذكره، بل يأنس بذكره في كل أحيانه، ويجتهد في كسب رضاه
ومحبته، حتى لو بلغ الأمر به أن يضحي بنفسه في سبيله.
وهذه المرتبة من المحبة لا يستحقها أحد غير الله عز وجل.
وإذا عظمت محبة الله في
قلب العبد قادته إلى الاستقامة على طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره
واجتناب نواهيه، فهو يطيعه محبة له ورغبة ورهبة.
كما قال الله تعالى: {قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}
وهذه الآية يسميها العلماء
آية الامتحان، فإن دعوى المحبة سهلة، ولكن صدقها يبين بهذا الامتحان وهو
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن اتبع الرسول صلى الله
عليه وسلم فقد أثبت صدق محبته لله تعالى، وأحبه الله جل وعلا وأفاض عليه من
فضله ورحمته وأول ذلك مغفرته لذنوبه التي هي سبب الشقاء والعذاب.
وينبغي للمؤمن أن يفقه معنى قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}
فوصف الله محبة عباده المؤمنين له بأنها شديدة قوية متينة وهذا يقتضي أنهم
لا يقدمون طاعة غير الله على طاعة الله، فمن فعل ذلك فإنما هو لنقص في
إيمانه.
ومحبة الله تورث في نفس
المؤمن حلاوة وعزة ورفعة لا يجدها غيره أبداً، وذلك أن الله له ما في
السموات وما في الأرض، وله الدنيا والآخرة، وقد كتب العزة والرفعة والحياة
الطيبة لعباده المؤمنين الذين يحبونه ويتولونه، ويفعلون ما يحبه ويرضاه،
وجعلَهَم حِزبَه وأولياءَه وأنصارَه وأتباعَه وعبادَه فأضافهم إليه إضافة
تشريف وتكريم تقتضي لطفه بهم ومحبته وتوليه لهم، فـ{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}
فهو وليهم الذي يتولى أمورهم ويجيب دعاءهم ويقضي حوائجهم ويفرج كروبهم
ويعينهم ويعيذهم ويغيثهم ويغفر لهم ويرحمهم ويحفظهم ويتقبل أعمالهم ويخرجهم
من الظلمات إلى النور ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً.
ومن كملت محبة الله في قلبه كملت طاعته واستقامته، ومن كملت طاعته لم يعذبه الله أبداً، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فالمحبة تمنع العذاب.
ولذلك قال الحسن البصري: (والله لا يعذب الله حبيبه في النار).
وإنما
يقع العبد في الذنوب والمعاصي إذا ضعف إيمانه وقل يقينه، وضعف حبه لله
وحبه لثوابه، حتى يؤثر اللذة الفانية على ثواب الله الباقي، فيقع في
التقصير ويستحق من العذاب بقدر ما يعمل من المعاصي.
ولو أن العبد عظَّمَ محبة الله في قلبه لآثر ما يحبه الله ويرضاه على ما تحبه نفسه وتهواه.
الأمر الثاني: التعظيم والإجلال، فإن العابد معظِّمٌ لمعبوده أشد التعظيم، ومُجِلٌّ له غايةَ الإجلالِ، فالتعظيم من لوازم معنى العبادة.
ولذلك تجد المؤمن بالله معظِّماً لربه جل وعلا، ومعظماً لحرماته وشعائره، كما قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وقال: {ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فتعظيم الشعائر والحرمات من آثار تعظيم المؤمن لربه جل وعلا، وإجلاله له.
وكما أمر الله بذلك في قوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} أي عظمه تعظيماً شديداً،وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ}أي: تعظموه شكراً له على هدايته لكم.
ومن تأمل أسماء الله
الحسنى وتأمل آثارها في الخلق والأمر تبين له بعض معاني عظمة الله جل
جلاله، وأورثه ذلك تعظيم أوامره ونواهيه، والحرص على أن يكون من أوليائه
وحزبه المفلحين، واشتد كرهه لما يعرضه لمقت الله وسخطه.
الأمر الثالث: الذل والخضوع والانقياد، يقال طريق معبَّد أي مذلَّل، فالعابد منقاد لمعبوده خاضع له.
وهذا الذل والخضوع والانقياد لا يجوز صرفه لغير الله عز وجل.
وذل العبد لله عز وجل
وانقياده لطاعته هو عين سعادته، وسبيل عزته ورفعته، ومن ذل لله رفعه الله
وأعزه، ومن استكبر واستنكف أذله الله وأخزاه، وسلط عليه من يسومه سوء
العذاب، ويذله ويهينه.
ولذلك فإن أعظم الخلق خشية لله وانقياداً لأوامره الأنبياء والملائكة والعلماء والصالحون، وهم أعظم الخلق عزة رفعة وعلواً وسعادة.
وأعظم الخلق استكباراً واستنكافاً مردة الشياطين، والطغاة والظلمة، وهم أعظم الخلق ذلاً ومهانة.
ومن تأمل أحوال الشياطين
وأعمالهم الشريرة المهينة وأماكنهم النجسة القذرة ،وأحوال أتباعهم من
المجرمين والطغاة والعصاة، وعرف أخبارهم ونهاياتهم تبيَّن له الفرق الكبير
بين من أكرمه الله وأعزه، ومن أذله الله وأخزاه.
قال الله تعالى: {لَنْ
يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا
الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا
الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}
وهذه الأمور الثلاثة (المحبة والتعظيم والانقياد) مبنية على التذلل لله جل وعلا ، وبها يتحقق معنى العبودية لله جل وعلا.
العبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح
والعبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح؛ فعبادة القلب جامعة لأمرين:
- أحدهما: الاعتقاد وهو التصديق واليقين، ويسمّى قول القلب.
- والأمر الآخر: وعمل القلب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك من أعمال القلوب.
وعبادة اللسان هي بقول ما يحبه الله من الذكر والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الأقوال التي يحبها الله.
وعبادة الجوارح هي ما تقوم به جوارح الإنسان من أعمال التعبد كالصلاة والزكاة والصيام والحج والذبح والنذر وغيرها.
طرق معرفة العبادة
وتعرف العبادة بإحدى ثلاث طرق:
- الطريق الأول: أن يرد في النصوص تسمية عمل من الأعمال أو قول من الأقوال بأنه عبادة؛ كما في حديث: (الدعاء هو العبادة).
- الطريق الثاني:
أن يدل الدليل على أن الله تعالى يحبه، إما بترتيب الثواب على فعله، أو
العقاب على تركه، أو بمدح فاعله وذم تاركه أو غير ذلك؛ فما يحبه الله
ويرضاه فهو عبادة.
- الطريق الثالث: أن يدل الدليل على أن الله أمر به؛ فَأَمْرُ الله به دليل على أن الله يحبه فيكون عبادة.
شروط قبول العبادة
ولقبول العبادة شرطان لا بد منهما:
الشرط الأول: الإخلاص لله جل وعلا.
والشرط الآخر: أن تكون هذه العبادة على ما شرع الله عز وجل بما أنزله في كتابه العظيم وبينه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
وبتحقيق هذين الشرطين :
إخلاص العبادة لله عز وجل، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، يكون العبد من
المسلمين الموعودين بدخول الجنة، ومن نقض شرطاً منهما فليس من أهل الإسلام
والعياذ بالله.
فالشرط الأول هو مقتضَى شهادة أن لا إله إلا الله.
والشرط الثاني هو مقتضَى شهادة أن محمداً رسول الله.
ولا يصح إسلام عبد حتى يشهد هاتين الشهادتين.
التذكير بالعهد العظيم بين العبد وربه جل وعلا
2: العهد العظيم بين العبد وربه جل وعلا.
من شهد أن لا إله إلا الله
فقد عاهد الله أن يخلِص العبادة له وحده، وبهذا العهد يدخل في دين الإسلام
، وقد علمتَ معنى العبادة فيما سبق من الشرح والبيان.
فإذا شهدت أن لا إله إلا الله فاعلم أنك قد عاهدت الله أن تحبه المحبة الشديدة، وأن تعظمه، وأن تخضع له وتنقاد لأمره.
ولذلك كانت (لا إله إلا
الله) أعظم الحسنات، وأعلى شعب الإيمان، ومفتاح الجنة، وأفضل الذكر، ومن
كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة.
وهذا العهد العظيم جزاء من وفى به أن يدخله الله الجنة، ومن خان هذا العهد وغدر ونقضه أدخله الله النار.
فهذا العهد الذي بين العبد وربه بالتوحيد وإخلاص العبادة له هو أعظم العهود، وأعظم الأمانات.
وجزاؤه وثوابه أعظم الجزاء والثواب.
وعقاب نقضه ونكثه أعظم العقاب.
قال الله تعالى: {أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
(63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)}
وكل عبادة لغير الله تعالى
فهي عبادة للشيطان لأنها طاعة له في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله
وأعظم ما حرم الله تعالى هو الشرك، سواء شعر الإنسان أنه يطيع الشيطان أو
لم يشعر.
قال الله تعالى في حكاية قسم الشيطان لربه جل وعلا: {قَالَ
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا
سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ
آَمِنِينَ (46)}
فضمن الله تعالى لعباده المخلصين ألا يتسلط عليهم الشيطان ، وبين أن الشيطان لا يتسلط إلا على أتباعه الغاوين
وتسلط الشيطان على الإنسان ومحاولة تسلطه على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: التسلط التام، وهذا إنما هو على المشركين والمنافقين، لأن اتباعهم للشيطان اتباع كامل فاستحقوا التسلط التام.
قال الله تعالى في المنافقين: {اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
وقال تعالى: {فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}
فهذا السلطان التام إنما هو على أوليائه الذين تولوه ودخلوا في حزبه وأشركوا به؛ فهم خارجون عن دين الإسلام وعن ولاية الله عز وجل وحزبه.
الدرجة الثانية:
التسلط الناقص وهو باستزلال الشيطان للإنسان ، وهذا لايكون تاماً على
المسلمين ، بل هو نوع تسلط يقوى ويضعف بحسب درجة اتباع العبد لخطوات
الشيطان فكلما كان اتباعه أكثر كان تسلط الشيطان عليه أكبر، وقد يحرم العبد
التوفيق لبعض الطاعات بسبب اتباعه لخطوات الشيطان كما قال الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
وقال: {إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ
فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 201-202]
فالاستزلال سببه اتباع
خطوات الشيطان، ومن اتبع خطوات الشيطان كان على خطر أن يزله الشيطان،
وأصحاب هذه الدرجة من المسلمين لا يتمكن الشيطان منهم تمكناً تاماً فيستحوذ
عليهم ولا يسلمون منه سلامة تامة بسبب اتباعه لخطواته فهم وإياه في جهاد،
ومن تهاون منهم في اتباع خطواته كان على خطر أن يستزله الشيطان حتى يستحوذ
عليه والعياذ بالله.
الدرجة الثالثة:
النزغ ، وهذا ليس تسلطاً وإنما هو محاولة من الشيطان لاستجراء العبد ليتبع
خطواته فإن اتبع خطواته استزله، وإن استعاذ العبد بالله عصم منه .
قال الله تعالى: {وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ
مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}
- والاستعاذة التامة تكون بالقلب والقول والعمل
، ومن كملت استعاذته كملت إعاذته وعصم من كيد الشيطان، ومن كانت استعاذته
ناقصة لم يكن له عهد بأن يعصم من كيد الشيطان العصمة التامة التي ينجو بها
من آثار نزغه.
فقد يعصمه الله تفضلاً منه وكرماً وإثابة له على حسنات سابقة ، وقد يصيبه من الشر بقدر ما نقص من واجب الاستعاذة.
فالاستعاذة بالقلب تكون بصدق الالتجاء إلى الله تعالى من كيد الشيطان واليقين بأنه إن لم يعصمه الله من كيده ضل وخسر.
والاستعاذة بالقول تكون بذكر ما ورد من الاستعاذة من الشيطان الرجيم ، ويتأكد ذلك عند قراءة القرآن وعند خشية تسلط الشيطان بسبب غضب أو فزع أو غفلة .
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
ذلك أن كتاب الله تعالى هو الدليل إلى الفلاح والفضل العظيم في الدنيا
والآخرة ، وهو ميسر للذكر والحفظ والفهم والامتثال فإذا قرأه المسلم قاصداً
الاهتداء بما فيه من الهدى دله على فلاحه وسبل سعادته في الدنيا والآخرة؛
فيكون الشيطان أحرص ما يكون على حجبه عن معالم الهداية في القرآن العظيم
حتى يضل عنها ، حتى يظلّ العبد يقرأ صفحات من القرآن وهو لا يدري ما قرأ.
والاستعاذة بالعمل
تكون باتباع هدى الله عز وجل فيما وصى به من الأمور التي تعصم من كيد
الشيطان ، فمن اتبع هدى الله ضمن الله له أن لايضل ولا يشقى، ولا يخاف ولا
يحزن، وأن يهديه سبل السلام ويخرجه من الظلمات إلى النور، وأن ينجيه وييسر
أمره ويجعل العاقبة له ، كل ذلك ببركة اتباع هدى الله عز وجل.
فمن كملت استعاذته بالقلب والقول والعمل فقد تكفل الله له بالإعاذة .
في ختم آيتي الاستعاذة من نزغ الشيطان باسمين من الأسماء الحسنى دليل على إرادة مقتضاهما قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال في الآية الأخرى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
فختم الآية باسمين جليلين من الأسماء الحسنى وهما السميع العليم؛ فهو {السَّمِيعُ} لاستعاذتهم ودعائهم إياه، وهو {الْعَلِيمُ} بما قلوبهم من صدق الالتجاء إليه، والعليم بأعمالهم في اتباع هديه .
وسأضرب لكم مثلاً لبيان
هذا المعنى: لو أن رجلاً يسير في فلاة فسمع صوت سباع وخاف منها، ورأى حصناً
قريباً ونادى صاحبَ الحصن أني أخاف من السباع ؛ فقال له صاحب الحصن: ادخل
إلى الحصن من بابه؛ فإن دخلت فإنك في مأمن.
فلم يستجب هذا المستنجد لصاحب الحصن، ولم يمتثل وصيته؛ فهل تنفعه استعاذته بلسانه؟
وهل يعتبر صادقاً في استعاذته؟
فإن من كان صادقاً في طلب الالتجاء لا بد له من امتثال الهدي؛ فإن خالف الهدي لم يكن مستعيذاً صادقاً في الاستعاذة.
والمقصود أن العهد الذي
بين العبد وربه أعظم العهود وهو معقد الامتحان ومناط الفوز والخسران ،
والشيطان أحرص ما يكون على أن ينقض العبد هذا العهد الذي بينه وبين ربه .
وكل منفعة أو لذة يحصلها
العبد بسبب نقضه لهذا العهد فهو ثمن قليل زائل ولو أعطي الدنيا بحذافيرها
فإنها لا تساوي شيئاً في جنب ما أعده الله لعباده المؤمنين ولا تدفع عن هذا
الخاسر العذاب الأليم المقيم في نار جهنم والعياذ بالله.
فكيف وهو لا يعطى من الدنيا إلا ما قدر له ، ومع هذا فمتاع الدنيا كثير النكد سريع الزوال.
وقد قال الله تعالى: {وَلَا
تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (97)}
فضمن الله لعباده المؤمنين
الذين يعملون الصالحات أعظم الثواب في الدنيا والآخرة ففي الدنيا لهم
الحياة الطيبة التي لا أفضل منها، وفي الآخرة يجزيهم الله أجرهم بأحسن ما
كانوا يعملون.
وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنتُ
رِدْفَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- على حمار يقال له : عُفَير ،
فقال: يا معاذ ، هل تدري ما حقُّ الله على العباد ، وما حقُّ العباد على
الله ؟
قلتُ : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقُّ العباد على الله : أن لا يعذِّب مَن لا يشرِك به شيئا.
فقلتُ : يا رسول الله : أفلا أبشِّرُ الناس ، قال : لا تبشِّرْهم فيتَّكِلُوا».
وفي رواية: (فأخبر بها معاذ عند موته تأثُّما). تأثماً أي: تحرجاً من خشية كسب الإثم بكتمان العلم.
فشأن هذا العهد عظيم، ولذلك شرع أن يجدده العبد في اليوم والليلة مراراً حتى لا ينساه أو يغفل عنه.
وكُرِّرَ في الأذان للصلوات الخمس في جميع الأوقات في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وكرر في الإقامة عند الحضور للصلاة واجتماع المصلين.
ويكرره العبد في صلواته
فلا تصح الصلاة بغير التشهد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه
التشهد في الصلاة كما يعلمهم السورة من القرآن.
وهذا العهد تضمنه سيد
الاستغفار الذي يستحب للعبد أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى ورُتِّبَ على قوله
الثواب العظيم، كما في صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عَنِ
النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم قال: « سَيِّدُ
الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى ، لاَ إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ
وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرَّ مَا صَنَعْتُ ،
أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى ، اغْفِرْ لِى ،
فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ » . قَالَ «
وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ
قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ قَالَهَا
مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ،
فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ »
ولذلك كان الشيطان حريصاً
على أن لا يفي العبد بهذا العهد، فيوسوس له، ويمنيه، ويثبطه عن الوفاء بهذا
العهد العظيم، ويزين له الذنوب والمعاصي التي يقدح فعلها في الوفاء بهذا
العهد العظيم، ولا يزال حريصاً على أن ينقض العبد هذا العهد الذي بينه وبين
الله نقضاً تاماً، فينقض عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطع ما أمر الله به أن
يوصل؛ فيرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام ينقضه به هذا العهد فيموت العبد
كافراً والعياذ بالله.
فهذه غاية الشيطان التي أقسم عليها كما بين الله تعالى ذلك بقوله: {وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبَّكَ وَكِيلًا}.
فمن حقق العبودية لله تعالى لم يكن للشيطان عليه سلطان.
ومعنى لأحتنكن: أي
لأستولين عليهم ولأقودنهم إلى المعاصي كما يقود الرجل دابته فيلقي على
حنكها حبلاً يحتنكها به ويقودها به إلى حيث يشاء.
فإذا علمت ذلك فأكرم نفسك
عن أن تكون دابة لإبليس يلقي عليك حبله ويحتنكك كما تحتنك الدابة، فتسلَّم
له القياد، يقودك إلى المعاصي والفواحش، ويوردك المهالك، ويخدعك بما يزينه
لك من زخرف القول الذي لا يغني عنك من الله شيئاً، حتى إذا جاءت سكرة الموت
بالحق، وجاءت رسل ربك لتقبض روحك تبرَّأَ منك، ولا تجد من تلوم إلا نفسك
التي ظلمتها ظلماً عظيماً وفرطت في الثواب العظيم الذي جعله الله لمن وفى
بعهده، وصدق بوعده.
بيان درجات تحقيق العبودية لله تعالى
3: درجات تحقيق العبودية لله تعالى:
إذا تبين هذا فاعلم أن تحقيق العبودية لله تعالى على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى:
الإتيان بأصل العبودية لله تعالى، وهو ما يبقى به المرء مسلماً، فيعبد
الله وحده لا شريك له ، ويجتنب عبادة غير الله جل وعلا، ويأتي من الفرائض
ويجتنب من النواقض ما يبقى به إسلامه. فهذه درجة الإسلام.
الدرجة الثانية: تحقيق الكمال الواجب في العبادة ، وهذه مرتبة الإيمان.
الدرجة الثالثة : تحقيق الكمال المستحب في العبادة ، وهذه مرتبة الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وكل درجة من هذه الدرجات يتفاضل المسلمون فيها تفاضلاً كبيراً لا يحصيهم إلا من خلقهم.
أما من أشرك بالله تعالى شيئاً فليس من أهل عبودية الله، وإنما هو من عباد الشيطان كما قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
فأصحاب الدرجة الأولى
مسلمون موعودون بدخول الجنة وإن عذبوا قبل ذلك على بعض ما اقترفوه من
الذنوب؛ فما معهم من التوحيد والإسلام مانع من الخلود في النار ، وفي هذه
الطبقة يكون أهل الكبائر من المسلمين.
فهؤلاء لديهم أصل العبودية
لله تعالى وأصل تقوى الله ومحبته وخوفه وتعظيمه لأنهم اجتنبوا الشرك
الأكبر واجتنبوا ارتكاب ما ينقض الإسلام فهم متقون بهذا الاعتبار، وإن كان
إيمانهم ناقصاً بسبب ما ارتكبوه من الذنوب.
قال محمد بن نصر المروزي في أهل هذا الصنف: (قد
أجمع المسلمون أن فيه أصل التقى والورع وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك
بالله شيئاً، وكذلك يتقي الله أن يترك الغسل من الجنابة أو الصلاة).
الدرجة الثانية: كمال العبادة الواجب،
وأصحاب هذه الدرجة هم المتقون الذين يجتنبون المحرمات ويؤدون الفرائض؛
فيؤدون حقوق العبادة الواجبة ويجتنبون الشرك الأصغر من الرياء وتعلق القلب
بغير الله تعالى كالتعلق بالمال والرياسة والأشخاص وغيرهم فهذا كله قادح في
تحقيق القدر الواجب من العبودية لله تعالى .
ومن تعلق شيئاً دون الله وكل إليه، ومن أحب شيئاً من دون الله حتى يعصي الله بسببه عذب به.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( تعِسَ عَبدُ الدِّينار وعَبدُ الدرهم وعبد الخميصة إن أُعْطي رضِي وإن لم يُعطَ سخط تعِسَ وانتكَس وإذا شيك فلا انتقش)).
وهذا دعاء عليه من النبي
صلى الله عليه وسلم بالتعاسة والانتكاسة، فكلما قام من سقطة وقع في أخرى،
وإذا أصيب ببلاء لم يهتد للخروج منه، وسبب ذلك عبوديته للدنيا ، وغفلته عن
الله جل وعلا.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الضابط في ذلك فقال: ((إذا أعطِي منها رضي وإن لم يُعط سَخط)).
فإذا كان العبد همته
للدنيا إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط ظل ساخطاً على قضاء الله وقدره
متبرماً منه لم يكن قلبه سليماً لله جل وعلا بل فيه عبودية لغير الله .
وهذا من شأن المنافقين كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ
لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله .
ومن كان هذا حاله فهو لم يحقق العبودية الواجبة لله تعالى.
وهذا أمر تشاهد آثاره فيمن تعلق قلبه بمال أو رئاسة أو شخص يحبه حتى يعصي الله لأجله
فيكون في قلبه رق لما أحبه وتعلق به وعصى الله لأجله.
قال ابن تيمية: (كل من علق
قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه
من العبودية لهم بقدر ذلك وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لأمورهم
متصرفاً بهم فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر؛ فالرجل إذا تعلق
قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تَحَكُّم فيه
وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في
الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها وأنه
لا يعتاض عنها بغيرها؛ فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في
عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم؛ فإنَّ أَسْرَ القلب
أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبد
بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئناً ، بل يمكنه
الاحتيال في الخلاص .
وأما إذا كان القلب الذي
هو مَلِكُ الجسم رقيقاً مستعبَدا متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر
المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب).
قال: (وهذا لعمرو الله إذا
كان قد استعبد قلبَه صورة مباحة؛ فأما من استعبد قلبَه صورةٌ محرمةٌ امرأة
أو صبي فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب .
وهؤلاء عشاق الصور ، من
أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا ، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقا بها
مستعبدا لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد
ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد
ضرراً عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه).
قال: (ومن أعظم أسباب هذا
البلاء إعراض القلب عن الله فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له
لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب والإنسان لا
يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفا من مكروه فالحب
الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو بالخوف من الضرر . قال تعالى
في حق يوسف: {كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}).ا.هـ.
وإذا كان القلب أسيراً لشيء من هذه المحبوبات لم يكن خالصاً لله جل وعلا، ولم يأت صاحبه بالعبودية الواجبة.
بل يكون في قلبه ذلٌّ لها
مصحوب بخوف ورجاء وهذا هو معنى العبادة التي يجب إخلاصها لله جل وعلا،
ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً للمال ، وإن كانت هذه العبودية
ليست تامة بحيث تفضي به إلى الشرك الأكبر إلا من بلغت به عبوديته للدنيا أن
يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام والعياذ بالله.
وهذا يختلف عن الذل الذي أمر الله به ومدحه كما في قوله تعالى في شأن الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}
وقوله : {فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}
فهذه ذلة مصحوبة بالرحمة
وقصد الإحسان إلى المتذلل له فليس فيها ما يقدح في العبودية لله جل وعلا،
بخلاف عبودية الدنيا المحرمة فإنها ذل في القلب مصحوب بخوف ورجاء مع غفلة
القلب عن التعلق بالله جل وعلا.
والله تعالى قد جعل من ابتلائه لعباده أن يحوجهم إلى ما تقوم به مصالحهم من المطعم والمشرب والملبس والمنكح وغيرها.
وهذا الأمور التي أحوج
الله عباده إليها أمرهم أن يطلبوها منه جل وعلا وأن يرضوا بما يعطيهم منها
وأن يتبعوا هداه في ابتغائها بما شرع الله وأذن فيه من الأسباب.
فإن أعطوا منها رضوا وشكروا، وإن لم يعطوا صبروا ورجو ثواب ربهم وحسن تعويضه لهم.
ومن كان هذا حاله أعطي خيراً مما حرم
كما قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَىٰ إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
ولا يشقى مع الله أحد اتبع
رضوانه ، وكثيراً ما تحب النفس شيئاً وهو شر لها، فإذا حرم العبد شيئاً
فليحسن ظنه بربه فلعل في هذا المحبوب الذي حرم منه شراً لا يعلمه، والله
تعالى لا يرضى لعبده المؤمن المتبع لرضوانه إلا بما هو خير له.
قال الله تعالى على لسان خليله إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} تقديم الظرف يدل على الاختصاص والحصر كأنه قال : لا تبتغوا الرزق إلا عند الله وقد قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} .
والرزق يشمل جميع ما يحتاجه العبد مما تقوم به مصالحه من المطعم والمشرب والملبس والمنكح والأهل والولد والأموال وغيرها.
والإنسان محتاج إلى الرزق؛ مأمور بطلبه بالأسباب المشروعة، وأما التعلق القلبي في طلب الرزق فيجب أن يكون بالله تعالى وحده.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((
المؤمِن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله مِن المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ،
احرص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجَز وإن أصابك شيء فلا تقُل لو أني
فعلتُ كان كذا وكذا ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل
الشيطان)).
فهذا الحديث العظيم يبين للمؤمن منهجه في طلب الرزق والأخذ بأسباب القوة
((المؤمِن القويّ خير وأحبّ إلى الله مِن المؤمِن الضعيف))
وصف القوي في الحديث يشمل جميع معاني القوة وأولها قوة الإيمان بالله
تعالى وقوة الإخلاص وقوة العزيمة على فعل الخير، وكل مؤمن كان قوياً في أمر
من الأمور وشكرَ الله تعالى على هذه القوة فهو خير وأحب إلى الله من
المؤمن الضعيف في ذلك الأمر .
وهذا يشمل جميع معاني القوة من قوة البدن والعلم والمال والجاه وغيرها.
((وفي كلٍّ خَير)) لأن المؤمن ولو كان فيه ضعف فأصل الخير فيه لإيمانه، وهذا فيه تنبيه للقوي على ألا يزدري الضعيف.
((احرِص على ما ينفعك)) هذا فيه الحث على الاجتهاد في بذل الأسباب، و((ما ينفعك)) عام في أمور الدين والدنيا ؛ فكل ما ينفع المؤمن فهو مطالب بالحرص عليه ، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع.
فمن زعم أنه متوكل على
الله وأن قلبه لا يتعلق بغيره وهو لا يبذل الأسباب المشروعة لطلب الرزق فهو
كاذب ، والامتحان يكشف يكذبه، فإنه إذا احتاج انكشف تعلق قلبه.
((واستعِن بالله )) فإن العبد لا يدرك شيئاً من الخير إلا بعون الله تعالى وتوفيقه ، وهذه الاستعانة تعلق قلبه بالله وتدفع عنه التعلق بالأسباب.
((ولا تعجَز)) العجز هو القعود عن بذل الأسباب مع إمكانها.
(( وإن أصابك شيء فلا تقل لوْ أني فعلتُ كان كذا وكذا ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل ))
وهذا حال المؤمن حين يصيبه ما يكره من مصيبة بفقد ما يحب أو فوات ما يطلب
من الخير ؛ وإذا بذل الأسباب ولم يحصل له مطلوبه فليحسن الظن بالله وليرض
بقضائه وليرج ثوابه فيما أصابه.
والمؤمن إذا اجتمع في قلبه
حسن الظن بالله والرضى بقضائه علم أن ما تطلبه نفسه لن يفوت عليها فهو إما
أن يعجل لها فتهنأ به، وإما أن يؤخر لها أو تعوض خيراً منه وإذا أخر الله
لعبده المؤمن تحقيق ما يطلب فليعلم أن هذا التأخير خير له، لأن الله تعالى
يختار لعبده فيأتيه حين يأتيه وهو على حال أكمل وأفضل.
من طلب التعطر وثوبه متسخ
كان إلى تنظيف ثوبه أحوج منه إلى ما طلب من العطر، فلو أخر عنه العطر حتى
ينظف ثوبه ثم أعطي العطر وهو على حال النظافة لكان ذلك أجمل في حقه وأكمل.
فإذا أخر عنك شيء من الخير فاعمد إلى تطهير قلبك.
وأما من ضعف يقينه بالله ولم يتبع هداه فإنه يشقى بمطلوبه وإن تحقق له، ويكون فتنة له.
والمقصود أن المؤمن المتقي
محقق لدرجة العبودية الواجبة لله تعالى فإن أعطاه الله قبل ورضي وشكر ،
وإن ابتلي بتأخير ما يطلب لم يحمله ذلك على التسخط والجزع والتبرم من قضاء
الله وقدره كما يفعل أهل النفاق.
وههنا قاعدة مهمة فيما يبتلى به المؤمن ينبغي أن نتفطن لها ونفقه معناها: فإن كل بلاء يبتلى به المؤمن يصاحبه أمران:
الأمر الأول: بيان الهدى في ما يحبه الله
وينجي به عبده مما يخاف منه، وما يجب عليه أن يحذر منه ؛ فإن العبد إذا
ابتلي فهو معرّض لفعل الصواب والخطأ فإن أصاب فهو مهتدٍ، وإن أخطأ فقد ضل
وتختلف درجة الضلال بحسب درجة المخالفة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ
لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قال الشافعي رحمه الله: (فليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)
الأمر الثاني: اللطف والتيسير، وقد قال الله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
، ولن يغلب عسر يسرين ، وأول التيسير أن يعلم أنه لا ينزل بعبد مؤمن بلاء
إلا كان بعده فرج فهذا اليقين المعتمد على حسن الظن بالله جل وعلا والتصديق
بوعده ورجائه عبادة عظيمة من أجل العبادات وهو في هذا يدافع وساوس الشيطان
وما يلقيه في نفسه من الخواطر الرديئة والتيئيس من رحمة الله والتشكيك في
صدق وعده؛ فيكون المؤمن في حال ابتلائه مجاهداً صابراً راجياً ربه جل وعلا.
روى الإمام مالك في الموطأ
وابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير في تفسيره وغيرهم عن زيد بن أسلم أنه
قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم
وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر بن الخطاب : (أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وأنه لن يغلب عسر يسرين وأن الله تعالى يقول في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}).
وقال الشاعر:
وكل شديدة نزلت بحي = سيأتي بعد شدتها رخاء
ومن تأمل أوجه اللطف فيما يتعرض له من البلاء علم حقيقة هذا الأمر.
وبهذا يعلم المؤمن أن كل قضاء يقضيه الله له فهو خير له ، وليس ذلك إلا للمؤمن والله تعالى عليم حكيم في قضائه وقدره وتدبيره.
وفي صحيح مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
وتأملوا قول الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ولم يقل (علينا) وفي هذا دليل على أن كل ما يصيب المؤمن فهو له وليس عليه، وذلك إذا اتبع هدى الله.
أما إذا خالف هدى الله فإنه يستحق من العقوبة بقدر ما خالف وضعف إيمانه.
وبذلك يعلم المؤمن أن كماله وهدايته وأنسه وأمنه إنما هو في اتباع هدى الله جل وعلا فإنه حينئذ يكون ولياً من أولياء الله فيتولى الله أموره ويرشده إلى ما ينفعه ويوفقه لفضله العظيم
كما قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
وإنما أطلت بعض الإطالة في شرح هذا العنصر لأن الحاجة تدعو إلى بيانه ، ونحن محتاجون إلى تحقيق العبودية الواجبة لله تعالى ، ودعوة الناس إلى ذلك.
وقد رتب على تحقيق هذه العبودية الثواب العظيم.
الدرجة الثالثة : تحقيق الكمال المستحب في العبادة ، وهذه مرتبة الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وهذا يحملك على أن يكون حبك لله ولما يحبه الله، وبغضك لما يبغضه الله ولما يبعدك عن الله، وينبني على ذلك تعظيم ما عظمه الله، وتحقير ما حقره الله.
وفي سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن أحبَّ لله و أبغَض لله و أعْطَى لله و منَعَ لله فقد اسْتكمَل الإيمان)).
والعطاء والمنع في الحديث لا يختص بالمال بل هو عام في كل ما يُعطى ويمنعُ من مال وعلم وجاه وجهد ووقت ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
فمن كان يحب لأجل الله، ويبغض لأجل الله ، ويعطي ويمنع لأجل الله فهو مؤمن كامل الإيمان، نسأل الله من فضله.
ومن كان هذا حاله فقد أسلم قصده لله تعالى واستمسك بالعروة الوثقى التي لا أوثق منها كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
الوثقى صيغة مبالغة ، يقال : عروة وثيقة أي شديدة متينة مأمونة، وعروة أوثق من عروة ، والعروة الوثقى أي التي لا أوثق منها .
والعروة هي ما يستمسك به للنجاة ؛ فإذا كانت العروة وثقى ، والاستمساك قوياً نجا العبد مما يخاف.
بيان الفرق بين العبادة الكونية والعبادة الشرعية
4: العبادة الكونية والعبادة الشرعية
ذكرنا أن العبادة على نوعين عبادة متعلقة بالربوبية وعبادة متعلقة بالألوهية
فأما العبادة المتعلقة بالربوبية فهي عامة لجميع الخلق لا يخرج منهم أحد عنها كما قال الله تعالى: {إِنْ
كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ
عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ
آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)}
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.
فهذه هي العبادة الكونية لا يخرج منها برٌّ ولا فاجر.
وأما العبادة الشرعية فهي الفارقة بين المسلمين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، وهي إخلاص العبادة لله جل وعلا وامتثال أمره واجتناب نهيه.
فالعبادة المتعلقة
بالربوبية من الإقرار بخلق الله تعالى وملكه وتدبيره وشهود الفقر إلى الله
تعالى، لا تفرق بين المؤمن والكافر وأهل الجنة والنار ، لأن العبد قد يعرف
ذلك ويعصي الله ويعبد غير الله كما فعل المشركون.
فشهود مشهد الربوبية لا
يدخل العبد في الإسلام ولا يقتضي الإخلاص في العبادة، وإن كان حجة في وجوبه
لكن لا يقتضي أن يقوم العبد به كما قال الله تعالى في المشركين: {قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ}
فهم كانوا يقرون بوجود
الله تعالى وأنه هو الخالق الرازق المدبر لأمورهم ومع هذا لم يدخلوا في دين
الإسلام لأنهم لم يتقوا الله تعالى ولم يفردوه بالعبادة، والتوحيد هو أصل
التقوى.
فالمعرفة التي لا يترتب
عليها امتثال الأمر حجة على صاحبها وعذاب عليه، وهي من شأن أهل الجحود
والاستكبار والإعراض كما قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وقال: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
والمخالفون في العبودية الشرعية على درجتين:
الدرجة الأولى: المشركون الذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى، فلم يمتثلوا أمره في أعظم ما أمر به ، فهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام.
الدرجة الثانية:
المبتدعة الضلال الذين غلَّبوا جانب التعبد لله بالتفكر في أفعاله وخلقه
حتى ضيعوا بعض الفرائض وارتكبوا بعض المحرمات ، وهذا يقع من بعض المتصوفة،
بل بعض غلاة المتصوفة قد يصل به الأمر إلى تضييع الأوامر جملة حتى يخرج من
دين الإسلام والعياذ بالله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فمن
وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما أمر الله به من الحقيقة
الدينية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسوله كان من
جنس إبليس وأهل النار . فإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل
المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أشر أهل
الكفر والإلحاد).
فهؤلاء الذين زعموا أنهم وصلوا إلى درجة اليقين وأن التكاليف قد سقطت عنهم كفار مرتدون خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.
فالمقصود من خلق الناس أن
يقوموا بواجب العبودية لله تعالى ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه ويرجوا رحمته
ويخافوا عذابه فمن فعل ذلك فهو من المتقين.
وإن من مداخل الشيطان على
الإنسان أن يصرف همته عن امتثال أمر الله جل وعلا والقيام بالفرائض واجتناب
الحرمات إلى التفكر فيما يتثبت به وحدانية الله تعالى وأنه هو الخالق
الرازق المدبر للأمر ويظن أنه إذا أتى بهذا الأمر فقد أبلى بلاء حسنا يعفى
به عن تقصيره وتفريطه في أداء الفرائض.
ولذلك تجد بعض من خدع بهذه
الخديعة من المسلمين يعظم بحوث علماء الدنيا من الكفار فيما يثبتون به
شيئاً من آثار ربوبية الله تعالى وسعة علمه وحكمته وتدبيره ويظل يتتبعها
ويفني وقته وجهده في التنقيب عنها بل ربما زاد بعضهم عليها بعض الأكاذيب
والتهويلات والتلفيقات ليخرجوا للناس بشيء يزعمون أنه جديد لم يسبقوا إليه
في دلائل إثبات وحدانية الله تعالى في خلقه وملكه وتدبيره.
وهذا خطأ ينبغي التنبيه عليه.
لا خلاف في أن المؤمن
مأمور بالتفكر في آيات الله ومخلوقاته بما يحمله على التقوى وامتثال الأمر
واجتناب النهي أما إذا كان تفكره للتعجب والتأمل المجرد الذي لا ينبني عليه
عمل فلا يمتثل الأمر ولا يجتنب النهي فتفكره حجّة عليه وعذاب عليه والعياذ
بالله وإن صاحَبه إقرار بوحدانية الله تعالى في خلقه وملكه وتدبيره.
بيان وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة
قوله: (وَأَنْوَاعُ
العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ،
وَالإحْسَانِ؛ وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ،
وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ،
وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ، والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ،
وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ
الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها لِلَّهِ تَعَالى.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} [الجن:18].
فَمَنْ صَرَفَ مِنْها شَيْئاً لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا
حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]).
ذكر الشيخ رحمه الله أصول
العبادات وأهم أنواعها، وبَيَّن أن هذه العبادات يجب إفراد الله تعالى بها،
وأن مَن صرَف شيئاً منها لغير الله تعالى فهو مشرك كافر والعياذ بالله.
واستدل لذلك بقول الله تعالى : {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}
وقوله : {وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَـرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا
حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
هذه الآية فيها وصف من دعا غير الله بأنه كافر.
وقوله {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ} هذا وصف كاشف للعلة اللازمة لكل ما يعبد من دون الله تعالى وهو أنه لا برهان لأحد بأن الله تعالى قد أذن بعبادة إله من دونه.
قوله: (وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ).
هذه مراتب الدين ، وقد بينها أن درجات تحقيق العبودية لله تعالى هي مرتبة على مراتب الدين من الإسلام والإيمان والإحسان.
قوله: (وَمِنْهُ:
الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ،
وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ،
والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها
لِلَّهِ تَعَالى).
هذه العبادات يتفاضل المسلمون في تحقيقها على درجات العبودية لله تعالى فمسلم ومؤمن ومحسن.
فمن أداها مخلصاً لله تعالى ولم يشرك مع الله فيها أحداً فهو مسلم.
ومن أداها مخلصاً لله تعالى مكملاً فروضها الواجبة مجتنباً الشرك الأصغر فيها فهو مؤمن.
ومن أداها على الكمال المستحب فهو محسن، نسأل الله من فضله.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} [الجن:18].
فَمَنْ صَرَفَ مِنْها شَيْئاً لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا
حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]).
ذكر الشيخ رحمه الله أصول
العبادات وأهم أنواعها، وبَيَّن أن هذه العبادات يجب إفراد الله تعالى بها،
وأن مَن صرَف شيئاً منها لغير الله تعالى فهو مشرك كافر والعياذ بالله.
واستدل لذلك بقول الله تعالى : {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}
وقوله : {وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَـرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ فَإِنَّمَا
حِسَابُهُ عِنْدَ رَبهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
هذه الآية فيها وصف من دعا غير الله بأنه كافر.
وقوله {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ} هذا وصف كاشف للعلة اللازمة لكل ما يعبد من دون الله تعالى وهو أنه لا برهان لأحد بأن الله تعالى قد أذن بعبادة إله من دونه.
قوله: (وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ).
هذه مراتب الدين ، وقد بينها أن درجات تحقيق العبودية لله تعالى هي مرتبة على مراتب الدين من الإسلام والإيمان والإحسان.
قوله: (وَمِنْهُ:
الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ،
وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ،
والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها
لِلَّهِ تَعَالى).
هذه العبادات يتفاضل المسلمون في تحقيقها على درجات العبودية لله تعالى فمسلم ومؤمن ومحسن.
فمن أداها مخلصاً لله تعالى ولم يشرك مع الله فيها أحداً فهو مسلم.
ومن أداها مخلصاً لله تعالى مكملاً فروضها الواجبة مجتنباً الشرك الأصغر فيها فهو مؤمن.
ومن أداها على الكمال المستحب فهو محسن، نسأل الله من فضله.
(خلاصة الدرس السابع )
مقاصد الدرس
·
لما ذكر المؤلف رحمه الله أن الأصل الأول من أصول الدين هو معرفة العبد
ربه جل وعلا، وبين أن أعظم ما أمر الله به التوحيد وفسره بأنه إفراد الله
بالعبادة، وذكر الدليل على ذلك، وبين أن أعظم ما نهى الله عنه هو الشرك في
عبادة الله جل وعلا، اقتضى الترتيب أن يبين معنى هذه العبادة التي لها
هذا الشأن العظيم. تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت ... وَظِيفًا وظيفًـا فـوق مَـوْرٍ مُعَبَّـدِ تَعبَّدَني نِمْرُ بن سعدٍ وقد أُرى ... ونمر بن سعدٍ لي مطيع ومُهْطعُ
· معرفة معنى العبادة من أهم ما يجب على طالب العلم معرفته.
· من المهم في هذا الباب دراسة الأصول التي يميّز بها طالب العلم حقيقة العبادة وكيف يدخل الشرك في العبادات وسبل تجنب هذا الشرك.
· هذا الدرس مقدّمة ممهّدة لدرسين بعده في أنواع العبادات التي ذكرها المؤلّف رحمه الله.
بيان معنى العبادة
· قال ابن جرير رحمه
الله: (العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ
المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة (معبَّدًا) ).
· قال طَرَفَة بن العَبْد:
· وقال أبو منصور الأزهري: (ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع. ويقال طريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مذلَّلا بكثرة الوطء).
· يشهد لما ذكره أبو منصور ما أنشده الخليل في العين لمن لم يسمّه:
وهان عليَّ اللوم في جنب حبها ... وقـول الأعــادي إنه لـخليــع
أصمُّ إذا نـوديـت باسمي وإنـني ... إذا قيل لي يا عـبدهـا لسميع
يا قوم قلبي عند زهرائي ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بـ(يا عبدها) ... فـإنــه مـــن أشـــرف أسـمـائــي
وعاذلة هبَّت بليل تلومني ... وقد غاب عيُّوق الثريا فعرَّدا
تقول ألا تُبقي عليك فإنني ... أرى المال عند المُمْسِكين مُعَبَّدا
شرح عبارات المتن
قوله: (وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ؛ وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ، والاسْتِعَاذَةُ، والاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بهَا:كُلُّها لِلَّهِ تَعَالى).