2 May 2011
الدرس السادس: شرح الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه جل وعلا
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
اقتباس:
(اعْلَمْ
أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الحَنِيفِيَّةَ - مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ -: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ،
وَبذَلكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ
تَعَالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، وَمَعْنَى يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ. وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرهِ مَعَهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بهِ شَيْئاً﴾ [النساء:36]. فَإذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُوْلُ الثَّلاثَةُ الَّتِي يَجبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُها؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ العَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبيَّهُ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي، وَرَبَّى جَمِيعَ العَالَمِينَ بنِعْمَتِهِ، وَهُوَ: مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿الحَمْدُ لِلِّهِ رَب العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:2]، وَكُلُّ مَن سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العَالَمِ. فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقُلْ: بآيَاتِهِ وَمَخْلُوقاَتِهِ، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ وَالْقمَرُ، وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر:57]. وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلِّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت:37]. وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بأَمْـرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54]. وَالرَّبُّ: هُوَ الْمَعْبُودُ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلِّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:21-22] قَالَ ابْنُ كَثيِرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-: (الْخَالِقُ لِهذِهِ الأَشْيَاءِ، هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعبَادَةِ). |
بيان معنى الحنيفية
بسم الله الرحمن الرحيم
الإثنين: 28 جمادى الأولى 1432هـ. وهل أنا إلا من غزية إن غوت.......غويت وإن ترشد غزية أرشد
هجوت مباركاً برَّا حنيفاً.......أمينَ الله شيمته الوفاء.
خليفة الرحمن إنا معشر.......حنفاء نسجد بكرة وأصيلاً
عرب نرى لله في أموالنا........حق الزكاة منزلاً تنزيلا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذا شروع في شرح رسالة
ثلاثة الأصول وأدلتها، والرسالتان السابقتان ملحقتان بهذه الرسالة كما تقدم
بيانه ، وهما رسالتان مهمتان جليلتان ينبغي لطالب العلم أن يعتني بهما.
ودرسنا اليوم في بيان سبعة عناصر إذا فهمناها جيداً فهمنا درس اليوم:
1: بيان معنى الحنيفية، وأنها ملة إبراهيم عليه السلام التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها، وهي ملة التوحيد.
2: بيان أعظم ما أمر الله به وهو التوحيد.
3: بيان أعظم ما نهى الله عنه وهو الشرك.
4: بيان الأصول الثلاثة التي يجب على العبد معرفتها وهي: معرفة العبد ربه ونبيه ودين الإسلام بالأدلة.
5: دراسة الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه جل وعلا.
6: بيان معنى الرب.
7: بيان طرق معرفة العبد ربه جل وعلا.
إذا فهمنا هذه المسائل فقد أتينا على المقصود من دراسة هذا الدرس.
ونأتي الآن لبيان العنصر الأول:
1: بيان معنى الحنيفية، وأنها ملة إبراهيم عليه السلام التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها، وهي ملة التوحيد.
قوله : (اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ) الدعاء للمتلقي فيه تلطف له كما سبق بيانه.
والإرشاد هو الدلالة على طريق الرشد، والرشد هو إصابة الحق ، وهو ضد الغي .
قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}
وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ
عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}
وقال دريد بن الصمة:
والرشد نقيضه وهو الحق والصواب والهدى.
قوله (لِطَاعَتِهِ) الطاعة هي امتثال الأمر واجتناب النهي.
قوله: (اعْلَمْ
أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الحَنِيفِيَّةَ - مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
-: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَبذَلكَ
أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ).
إبراهيم عليه السلام لما رأى قومه على الشرك في عبادة الله عز وجل بين لهم الأدلة على التوحيد وقال لهم كما حكى الله تعالى عنه: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
حنيفاً أي مستقيماً موحداً.
قال ابن جرير:
(وأما"الحنيف"، فإنه المستقيم من كل شيء. وقد قيل: إن الرجل الذي تقبل إحدى
قدميه على الأخرى، إنما قيل له"أحنف"، نظرا له إلى السلامة، كما قيل
للمهلكة من البلاد"المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل
للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك).ا.هـ.
ويقال: رجل يتحنف أي يتحرى أقوم الطريق.
فالحنيف هو المستقيم على الطريقة، والملة الحنيفية هي الدين المستقيم، وهو دين التوحيد.
كما قال الله تعالى لنبيه الكريم: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
وقال: {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا أنه قال: [إني
خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت
عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً].
وقال الله تعالى: {وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ}
قال حسان بن ثابت يهجو أبا سفيان بن الحارث وينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال الراعي النميري يبين للخليفة حال قومه وكذب الوشاة عليهم:
وقد أمر الله تعالى نبيه
صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم الحنيفية ، وأثنى الله تعالى في
كتابه الكريم على إبراهيم بأنه كان حنيفاً في مواضع كثيرة من القرآن:
- قال الله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
- وقال: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
- وقال: {وَمَنْ
أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا}
- وقال: {قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
- وقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
- وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
فهذه الحنيفية التي مدحها
الله عز وجل، وأثنى على أهلها، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأمر
بها عباده هي : أن يكونوا مستقيمين على الدين القيم لا يشركون بالله شيئاً،
مخلصين العبادة لله جل وعلا .
وهو أمر بين الدلالة من الآيات السابق ذكرها.
بيان معنى الإخلاص
قوله: (وَبذَلكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ).
كما قال الله تعالى: {وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ}
قوله : (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) هذا هو معنى الحنيفية التي أمر الله بها.
والإخلاص في اللغة التصفية والتنقية
ومعناه تخليص الأعمال من الشرك بالله جل وعلا، وإفراد الله تعالى وحده بالعبادة لا شريك له.
ومن أخلص العبادة لله فهو من المسلمين الموعودين بدخول الجنة والنجاة من النار.
ومن لم يخلص لله تعالى فهو مشرك كافر مخلد في عذاب جهنم. والعياذ بالله.
فالإخلاص في العبادة هو إفراد الله تعالى بها ، بأن يؤديها لله وحده لا شريك له، تقرباً إليه جل وعلا بامتثال أمره ورجاء ثوابه وخوف عقابه.
ومن لم يعبد إلا الله فقد أخلص العبادة لله جل وعلا، وصفاها ونقاها من عبادة غيره جل وعلا، وهذا هو التوحيد المأمور به.
والله تعالى يحب عباده
المخلصين ويتولاهم ويحفظهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعدهم الوعد
الحسن بفضله العظيم في الدنيا والآخرة، ويبشرهم بما يثبتهم به على الإخلاص
له، ويشوقهم به إلى لقائه والفوز بفضله ورضوانه .
والمسلمون يتفاضلون في
الإخلاص وكلما كان العبد أكثر إخلاصاً في العبادة بقوة الاحتساب وإحسان
العبادة والازدياد من النوافل بعد أداء الفرائض كان أحب إلى الله وأقرب
إليه زلفى.
فهذا شأن المخلصين.
وأما من صرف عبادة من
العبادات لغير الله تعالى فهو غير مخلص لله في العبادة، وإنما أشرك معه
غيره، فيستحق على شركه العذاب الشديد والحرمان مما جعله الله لعباده
المخلصين من الثواب العظيم ، وهذا هو الخسران المبين، نعوذ بالله من
الخسران.
قوله: (وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وَمَعْنَى يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ).
أي خلقهم الله لعبادته كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
هذا الأسلوب في لسان العرب يسمى الحصر ، فالله حصر الغاية من خلق الجن والإنس في عبادته جل وعلا وحده لا شريك له.
فمن لم يفعل ذلك لم يؤدِّ ما خلق لأجله؛ فيستحق العذاب على تركه ما خلق لأجله.
أما من امتثل هذا الأمر
فعبد الله وحده لا شريك له فقد أدَّى ما خُلِق لأجله، وقد جعل الله له
الثواب العظيم الجزيل، ووعده أن يدخله الجنة خالداً فيها في النعيم المقيم ،
نسأل الله من فضله.
فالغاية من خلق الجن والإنس هي عبادة الله وحده لا شريك له.
والإنس هم بنوا آدم عليه السلام، سموا إنساً لأنهم يأنس بعضهم ببعض.
والجن سمواً جناً لاجتنانهم أي استتارهم عن أنظار الناس كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}
قوله : (وَمَعْنَى يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ)
هذا تفسير باللازم، لأن العبادة إذا لم تكن خالصة لله تعالى فهي باطلة،
ليست بشيء ، ويجعلها الله يوم القيامة هباء منثوراً كما قال الله تعالى عن
المشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} .
فعلم أن العبادة التي تنفع
صاحبها إنما هي العبادة المقبولة التي أخلص بها العبد لربه جل وعلا ،
فهذه العبادة لا تصح إلا من الموحدين الذي شهدوا الشهادتين العظيمتين
شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فتكون عباداتهم خالصة لله تعالى صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك تكون مقبولة عند الله نافعة لهم.
بيان أعظم ما أمر الله به وهو التوحيد
قوله: (وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بالْعِبَادَةِ).
عرف التوحيد بأنه إفراد الله تعالى بالعبادة.
وهذا هو تعريف توحيد الألوهية ، وهو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل وقومهم.
وأما توحيد الربوبية فلم يخالف فيه إلا قلة وهم الملاحدة والثنوية.
والذين بعث فيهم النبي صلى
الله عليه وسلم كانوا مقرين بأن الله تعالى هو الخالق الرازق ولم يدخلوا
في دين الإسلام لأنهم لم يفردوا الله تعالى بالعبادة ولم يطيعوا الرسول
صلى الله عليه وسلم في أعظم ما أمر الله به وهو التوحيد.
قوله: (وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ التَّوْحِيدُ).
كيف نعرف أن أعظم ما أمر الله به التوحيد:
بيان ذلك بأمور:
1: أنه أول ما كان يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم بل هو أول ما كان يدعو إليه الرسل كلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
وهذا تجده مبينا فيما قصه الله من أنباء الرسل مع قومهم في القرآن الكريم:
- قال الله تعالى: {لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ}
- وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}
- وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
وقال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
فهذه دعوة الرسل قومهم إلى توحيد الله تعالى.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (( إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله ))
2:
أن توحيد الله تعالى هو مفتاح الدخول في الإسلام ، وبدونه لا يكون المرء
مسلماً ، وإذا ارتكب العبد فعلاً يناقض هذا التوحيد خرج من دين الإسلام.
ومن خرج عن دين الإسلام فهو كافر مخلد في نار جهنم والعياذ بالله.
كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
3:
أن ثواب فاعله أعظم الثواب وهو رضوان الله تعالى ومحبته والخلود في
الجنة، وعقاب تاركه أعظم العقاب وهو سخط الله تعالى ومقته والخلود في نار
جهنم، والعياذ بالله.
فالتوحيد هو أعظم ما أمر الله به .
والتوحيد
مصدر وحد يوحد توحيداً إذا جعل الشيء واحداً ، فإذا جعل العبد قصده
واحداً لله جل وعلا ، ولم يقصد بالعبادة شريكاً له تعالى فهو موحد مخلص
لله جل وعلا.
والذين يصرفون شيئاً من
أنواع العبادة لغير الله تعالى غير موحدين ، بل هم مشركون خارجون عن دين
الإسلام مستحقون للعذاب الشديد والخلود في نار جهنم والعياذ بالله.
وأقسام التوحيد ثلاثة.
1: توحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بأفعاله من الخلق والرزق والملك والتدبير وغيرها .
2: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
3: توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
بيان أعظم ما نهى الله عنه وهو الشرك
قوله: (وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرهِ مَعَهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بهِ شَيْئاً} [النساء:36]).
أعظم ما نهى الله عنه هو الشرك، ويعرف ذلك بأمور:
1: أن أول دعوة الرسل هي إلى التوحيد وترك الشرك.
2: أن من لم ينته عن الشرك فهو كافر غير داخل في دين الإسلام.
3: أن عقاب الشرك أعظم العقاب، وأن الله لا يغفر لمن صدر منه الشرك مهما كان كما قال الله تعالى : {إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}
وقال تعالى: {وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وقال الله تعالى بعدما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام : {وَمِنْ
آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
(90)}
فالأنبياء – على صلاحهم
وشرفهم وقربهم من الله تعالى وعظيم محبته لهم - لا يغفر لهم الشرك بالله جل
وعلا لو وقع منهم، وقد علمنا أن الله تعالى قد عصمهم من الشرك، وبقي
الخطاب يتلى علينا لنتدبره ونتأمله، ونفهم منه عظيم جرم الشرك.
فغير الأنبياء أولى بأن لا يغفر لهم إذا أشركوا.
وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فبدأ بأعظم ما يخافه عليه.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله .
قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)) متفق عليه.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم، قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك )) قال ((قلت: إن ذلك لعظيم ، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك)).
فخطر الشرك عظيم ، وهو
أعظم ذنب عصي الله به، والمشرك يمقته الله مقتاً كبيراً، ولا يقبل منه
عملاً ما دام مشركاً ، ومن وقع في الشرك بعد إيمانه حبط عمله وأصبح من
الخاسرين.
فهو أكبر الكبائر، وأعظم الظلم، وهو خيانة لأعظم الأمانات وأعظم الحقوق، وهو حق الله عز وجل في الأمر الذي خلق الخلق لأجله.
وهذا يدلك على وجوب التحرز من الشرك.
قوله: (وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرهِ مَعَهُ)
عرف الشرك بالله بأنه دعوة غيره معه ، وهو تعريف حسن دل عليه النص على اختصاره ووفائه بالدلالة على المراد.
قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}
وقال: {وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ
تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا
لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا
يُنَـبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
قوله: (وهو دعوة غيره معه) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة .
الشرك على قسمين:
أحدهما: الشرك الأكبر: ويكون في الربوبية والألوهية:
- أما الشرك الأكبر في الربوبية فهو : اعتقاد شريك لله تعالى في أفعاله من الخلق والرزق والملك والتدبير.
- وأما الشرك الأكبر في الألوهية: فهو عبادة غير الله تعالى.
والقسم الآخر: الشرك الأصغر، وهو ما كان وسيلة للشرك الأكبر وسمي في النصوص شركاً من غير أن يتضمن صرفاً للعبادة لغير الله عز وجل.
ومثاله: الرياء بتحسين أداء الصلاة، لطلب مدح الناس وإعجابهم على عبادته لله جل وعلا.
فهو صلى لله، لكنه أراد أن يمدحه الناس على حسن صلاته، وربما زاد في تحسينها ليزداد الناس في مدحه.
وهو شرك أصغر، لأنه لم يخلص القصد لله جل وعلا، وليس بشرك أكبر لأنه لم يعبد غير الله .
وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قوله : (والدليل قوله تعالى{وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بهِ شَيْئاً}).
قرن النهي عن الشرك بالأمر
بعبادة الله تعالى فتبين بذلك معنى التوحيد، وهذه الآية تسمى آية الحقوق
العشرة، وبدأ الله فيها بحقه جل وعلا الذي خلق الخلق لأجله.
بيان الأصول الثلاثة التي يجب على العبد معرفتها وهي: معرفة العبد ربه ونبيه ودين الإسلام بالأدلة
الأصول الثلاثة.
قوله: (فَإذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُوْلُ الثَّلاثَةُ الَّتِي يَجبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُها؟
فَقُلْ: مَعْرِفَةُ العَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبيَّهُ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
صاغ المؤلف رحمه الله هذه المسائل بطريقة السؤال والجواب لتكن أقرب للفهم، وأيسر للتلقين للعامة والناشئة.
وينبغي أن يعتنى بتعليم الناشئة هذه المسائل وتلقينهم إياها حتى ينشأوا على معرفة هذه الأصول العظيمة التي هي أصول الدين.
والأصول جمع أصل ، وهو ما ينبى عليه الشيء.
فمن لم يقم أصول الدين فدينه ليس له أصل .
وأصول دين الإسلام هي هذه الثلاثة وهي راجعة إلى معنى الشهادتين.
فمعرفة العبد ربه هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وهو الأصل الأول.
ومعرفة العبد نبيه صلى الله عليه وسلم هي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما دين الإسلام فهو الرسالة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم.
فهٰهنا ثلاثة أمور: مرسِل، ورسول، ورسالة.
فالمرسل هو الله جل وعلا.
والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ورسالته هي دين الإسلام.
فالدين لا يقوم إلا على هذه الأصول الثلاثة، فهي أصول الدين.
ولذلك فإن هذه الأصول هي التي يسأل عنها العبد في قبره
كما في سنن أبي داوود وغيره من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الميتَ ليسمع خَفْق نعالهم إذا وَلَّوْا مدبرين حين يقال له : يا هذا، مَنْ ربُّك ؟ وما دِينُك ؟ ومن نَبِيُّكَ)).
وهذه الرسالة هي في شرح هذه الأصول الثلاثة، التي هي أصول الدين.
وطالب العلم يحتاج إلى هذا التأصيل، لأن مسائل الدين كلها ترجع إلى هذه الأصول الثلاثة.
دراسة الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه جل وعلا
ألا أبلغا هذا المعرض آية.......أيقظان قال القول إذ قال أو حلم
بيان معنى (الرب)
قوله: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟
فَقُلْ:
رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي، وَرَبَّى جَمِيعَ العَالَمِينَ
بنِعْمَتِهِ، وَهُوَ: مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَب العَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وَكُلُّ مَن سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العَالَمِ).
قوله: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ )
هذا شروع في بيان الأصل الأول ، وهو معرفة العبد ربه جل وعلا.
بيان معنى (الرب)
والرب هو الجامع لجميع معاني الربوبية من الخلق والملك والإنعام والتدبير والتربية والإصلاح
فالربوبية في اللغة تشمل هذه المعاني كلها.
- فهو الخالق العظيم والخلاق العليم الذي خلق كل شيء ، فما من موجود من المخلوقات إلا والله تعالى خالقه وحده لا شريك له.
ومن معاني (الرب) في لسان العرب: المالك؛ فرب الشيء هو مالكه، ورب الدار: صاحبها ومالكها، ورب الإبل: مالكها.
ولا يطلق هذا اللفظ بغير الإضافة إلا على الله عز وجل، فهو الرب وحده.
والله تعالى هو رب كل شيء
ومليكه، لا يخرج شيء عن ملكه، فهو مالك كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، فله
جميع معاني الملك، فيملك المخلوقات، ويملك تصرفاتها ويملك تدبيرها والتصرف
فيها، فلا تتصرف إلا بإذنه.
وهو الذي يملك بقاءها وفناءها، وحركاتها وسكناتها، فيبقيها متى شاء، ويفنيها إذا شاء، ويعيدها إذا شاء.
بل لا تملك جميع المخلوقات لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه جل وعلا.
وهذا مما يوجب توحيده جل وعلا بالعبادة، وطاعته فيما يأمر به،وينهى عنه.
ولذلك أنكر الله تعالى على من يعبد غيره فقال: {وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ
مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}
وبقية المعاني العظيمة
للربوبية العامة من الإنعام والإصلاح والتربية والتدبير هي من آثار اسمه
(الملك)، فهو جل وعلا مالك النعمة وموليها، الذي ربى خلقه بالنعم، وأعطى كل
شيء خلقه ثم هدى، وأصلح خلقهم وأحسنه، وأصلح أحوال معاشهم، فمهَّدَ لهم
الأرض، وأنبت لهم فيها من كل الثمرات، وبث فيها من كل دابة، وأنزل لهم من
السماء ماء، وجعل في الأرض الجبال الرواسي، والأودية والأنهار والآبار
والبحار التي تحفظ لهم الماء، وجعل لهم الأنعام لهم فيها منافع كثيرة،
وعَلَّمَهم الحِرَفَ التي يكتسبون بها أقواتهم.
وهو الذي حفظ لهم هذا
الملكوت العظيم الذي يعيشون فيه فأمسك السموات أن تقع على الأرض، وجعل
الأفلاك تسير في نظام دقيق محكم تقوم به مصالح العباد في معاشهم وسائر أمور
حياتهم
فحماهم من شدة البرد وشدة
الحر وأذاقهم شيئاً يسيراً منهما ليذكروا نعمة ربهم فيما صرف عنهم، وإلا
لو قربت الأرض من الشمس مداراً أو مدارين لم يطق الناس شدة الحر، ولو
ابتعدت مداراً أو مدارين لم يطيقوا شدة البرد.
وكل ذلك إنما هو ذكر
لأمثلة يسيرة مما نعلمه ونشاهده من معاني ربوبيته جل وعلا، من باب تقريب
الصورة وتوضيح المراد، وإلا لو تأملت تلك المعاني العظيمة حق التأمل وتفكرت
في آثارها في الخلق والأمر لأفضت بك إلى نظر فسيح في ملكوت الله جل وعلا
لا تملك معه إلا أن تسبح بحمده، وتوحده جل وعلا، ولأيقنت أن العالم لا
صلاح له إلا بأن يكون ربه واحدا، بل لا يمكن أن يكون له أرباب متعددون كما
قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
وقال: {مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}
فكما أن الكون ليس له إلا رب واحد على الحقيقة، فلا يكن في قلبك إلا إله واحد هو هذا الرب العظيم، فأسلم قلبك له واعبده وتوكل عليه.
فاسم الرَّبِّ يقتضي أن نعبده جل وعلا ونفرده بالعبادة ولهذا قال تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فاستدل على توحيد العبادة باسم الربوبية.
فلأنه ربنا الذي خلقنا من
العدم، وأسبغ علينا النعم، لم نكن شيئاً قبل خلقه لنا، ولم يخلقنا غيره،
ولا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً إلا بما شاء، فإخلاص العبادة له حق واجب،
وشكر نعمته فرض لازم.
وعبادة غيره ضلال مبين، وظلم عظيم، إذ كيف يعبد من لا يخلق شيئاً ،
والربوبية لها معنيان:
ربوبية عامة بالخلق والملك والإنعام والتدبير، وهذه عامة لجميع المخلوقات.
وربوبية خاصة لأوليائه جل وعلا بالتربية الخاصة والهداية والإصلاح والنصرة والتوفيق والتسديد والحفظ.
والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها
وأنت إذا تأملت هذه
المعاني تبين لك بجلاء أنه لا يستحق العبادة أحد إلا الله جل وعلا، وأن
عبادة غيره ظلم عظيم، وكفر مبين، وسفه وضلال.
فهذه إلماحة يسيرة لبعض معاني الربوبية ، تطلعك على ما وراءها من المعاني العظيمة وتشرع لك أبواب التفكر فيها.
ويطلق لفظ (الرَّبّ) في النصوص ويراد به المعبود ، كما في سؤال العبد في قبره: من ربك؟
المراد به من معبودك الذي تعبده؟
ولأن العبادة من لوازم الربوبية، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآيات
فذكر من آلاء ربوبيته ما نبه به على الأسباب الموجبة لاستحقاقه العبادة وحده لا شريك له جل وعلا.
والربَّ الحق هو الله ، وهو المعبود الحق، فهذه المعاني تجتمع في حق الله تعالى اجتماعاً صحيحاً
وأما ما عبد من دون الله، فليس معبوداً بحق، وليس برب على الحقيقة، وإنما اتخذ رباً ، واتخذ إلها، كما في قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا}
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}
قال عدي بن حاتم: (( يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه و يحلون ما حرم الله فتستحلونه؟
قال عدي: بلى
قال صلى الله عليه وسلم : ( فتلك عبادتهم )) رواه أحمد والترمذي وحسنه جماعة من أهل العلم.
ففهم عدي - رضي الله عنه - من هذا اللفظ معنى العبادة، لأن اتخاذ الشيء رباً معناه عبادته، لأن الربوبية تستلزم العبادة.
ولذلك قال الله تعالى في أول أمر في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
فإذا قيل: الرب هو المعبود، فهذا الإطلاق صحيح باعتبار، وإذا قيل: من معاني الرب فصحيح باعتبار آخر.
قوله: (وهو معبودي ليس لي معبود سواه)
هذا تلقين للمتلقي ، وبيان له بأن لا يكون له معبود سوى الله جل وعلا.
وقد ذكرت بيان إطلاق لفظ (الرَّبّ) على المعبود.
بيان طرق معرفة العبد ربه جل وعلا
قوله: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟
فَقُلْ:
بآيَاتِهِ وَمَخْلُوقاَتِهِ، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ،
وَالشَّمْسُ وَالْقمَرُ، وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاواتُ السَّبْعُ
وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا
بَيْنَهُمَا.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57].
وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَمِنْ
آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
وَقَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ
رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
وَالرَّبُّ: هُوَ الْمَعْبُودُ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22]
قَالَ ابْنُ كَثيِرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-: (الْخَالِقُ لِهذِهِ الأَشْيَاءِ، هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعبَادَةِ).
لمعرفة العبد ربه جل وعلا طريقان بينهما الله عز وجل في كتابه الكريم:
الطريق الأول: التفكر في آياته الكونية المخلوقة.
والطريق الآخر : التفكر في آياته الشرعية وهي آيات القرآن العزيز وما تضمنه أمره جل وعلا في كتابه وفي غيره من الآيات البينات.
و(الآية) في اللغة تطلق على العلامة وعلى الرسالة وعلى الجماعة.
قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي علامة في قول الجميع لا أعلم في ذلك خلافاً.
وفي الصحيحين من حديث أنس أن النبي قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار).
فالآية هي العلامة البينة الدالة على المراد.
ومن الإطلاق الثاني قول كعب بن زهير:
فالآيات هي علامات بينات على ما أراده الله تعالى بها، وهي رسائل من الله إلينا.
والعلامة وإن كان فيها
معنى الظهور والبيان والدلالة على الشيء حيث جعلت عليه ومنه سمي الجبل
علماً، لدلالته على الموضع دلالة بينة إلا إن لفظ الآية أبلغ في البيان
والدلالة من لفظ (العلامة) ولذلك استعمل في القرآن الكريم.
ففيها زيادةً على معنى الدلالة معنى الوضوح والجلاء والبيان، ومنه يقال (إياة الشمس) يعني ضوؤها، وقولك في التفسير والتبيين: (أي) هو من هذا الأصل الذي هو التبيين والوضوح والجلاء.
وهذا مما يدل على براعة التعبير القرآني، وأسرار اختيار بعض الألفاظ على بعض.
قال الخليل بن أحمد: (الآية: العَلامةُ، والآية: من آيات الله، والجميع: الآي)
قوله: (والآية: من آيات الله) يشمل الآيات الكونية والشرعية
- فالآيات الكونية:
الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض وما
أنعم به من سائر النعم كلها آيات على أنها من عند الله جل وعلا
وهي علامات بينات لا ينكرها إلا مُكابِر مُعانِد.
- والآيات الشرعية هي: آيات القرآن المتلوة، سميت بذلك لأنها دالة على أنها من عند الله عز وجل.
ولأن فيها من البراهين البينة ما يوجب قيام الحجة على من بلغته.
أمثلة للآيات الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله عز وجل
وقد ذكر الله تعالى في الكتاب براهين عقلية تدل على بطلان عبادة ما يعبد من دون الله
قال الله تعالى: {قُلْ
أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ
بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}
- فذكر ثلاثة أدلة بينة على أن هؤلاء الشركاء الذين يُدعون من دون الله لا يستحقون أن يعبدوا من دون الله جل وعلا.
1: فهم لم يخلقوا شيئاً ، وعبادة من لا يخلق من دون خالقه سفه وضلال كما دل عليه قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}
2: وليس لهم نصيب في الملك يشاركون الله فيه، فيسألهم من يدعوهم من نصيبهم الذي يملكونه.
3: ولم يأذن الله بعبادتهم.
فبطل ما كانوا يغرون به بعضهم من زخرف القَوْل والعِدَات الباطلة.
وقوله تعالى: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}
بيان لسنة كونية لا تنخرم، وهي أن الظالمون إنما يغر بعضهم بعضاً ويمنّي
بعضهم بعضاً حتى إذا أتوا ما يمقتهم الله عليه وعاينوا عذابه لم تنفعهم
وعودهم ولم تغن عنهم من الله شيئاً.
وهذه الآية نظير قول الله تعالى: {قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللِّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ
مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(4)}
فلم يخلقوا شيئاً ابتداء وليس لهم فيه شراكة في الملك، ولم يؤذن بعبادتهم.
وقال تعالى: {قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا
تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) }
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فتأمَّلْ كيف أخذَتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك؟!!
وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؟!!
فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلَّقْ قلبه به.
وحينئذ فلا بدَّ أن يكون المعبودُ:
- مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده.
- أو شريكاً لمالكها.
- أو ظهيرا أو وزيراً ومعاوناً له.
- أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده.
فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه.
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرَّة في السموات والأرض.
فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق!
فنفى شركتها له.
فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً!
فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}
فلم يبقَ إلا الشفاعة؛ فنفاها عن آلهتهم.
وأخبر أنه لا يشفع عنده
أحد إلا بإذنه؛ فهو الذي يأذنُ للشافع؛ فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة
بين يديه كما يكون في حق المخلوقين؛ فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع
ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها.
وأما منْ كلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليه بذاتِهِ، وهو الغني بذاتِهِ عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟!!).
وتأملوا قول الله تعالى: {اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)}
وقوله: {اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}
- وقوله: {وَمَا
يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا
مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ
مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا
دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
(14) يَا أَيَّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ
هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ
بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}
تجدون فيها بياناً جلياً على وجوب إفراد الله تعالى، وتحريم الشرك، وأنه حد بين الكفر والإيمان.
وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ
إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)}
حجج وجوب التوحيد في القرآن الكريم
فأصبح مع الموحدين حجج وجوب التوحيد، ومن أهمها:
1: أن الله هو الخالق الرازق المالك المدبر فهو المستحق للعبادة.
2: أن الله تعالى هو الذي بيده وحده النفع والضر وغيره لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره كما قال الله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي الذي يعلم أحوالكم ويسمع دعاءكم.
3: أن الموحدين معهم سلطان الحجة والبرهان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له، وبذلك أرسلت إليهم الرسل.
4: وأن المشركين الظالمين إنما يغر بعضهم بعضاً وأنهم لا حجة لهم على الشرك، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد.
والمقصود أن من تأمل
الآيات الكونية والآيات الشرعية تبين له وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة،
وأن من أشرك بالله شيئاً فهو من الخاسرين.
ولكن الظالمين يكون لديهم
علوم يفرحون بها، ومزاعم يغترون بها ، ويتعامون عن التفكر في ما أمر الله
بالتفكر فيه، بل كرر الأمر به في مواضع كثيرة من القرآن العظيم، فيتعامى
أولئك الظالمون عن تلك الآيات البينات، ويفرحون بما عندهم من العلم الدنيوي
، ويُعرضون عما جاءت به الرسل، ويستهزئون بهم وبما جاؤا به حتى إذا فنيت
أعمارهم، وانقضت مهلة بقائهم في الدنيا، ورأوا ما كانوا يوعدون تبين لهم
أنهم كانوا خاطئين وعرفوا من أول ما يرون آيات الآخرة أن الشرك بالله باطل
وضلال مبين، فيؤمنوا حين لا ينفعهم الإيمان ولا يقبل منهم، ويتخلى عنهم
الشيطان بعد أن أوردهم المهالك، وكتب عليهم الشقاء الأبدي، وحرمت عليهم
السعادة أبداً ، وخسروا الخسران المبين والعياذ بالله .
قال الله تعالى: {وَيُرِيكُمْ
آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي
الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا
كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ
لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي
عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
(خلاصة الدرس السادس)
بيان معنى الحنيفية
· الحنيفية هي ملة إبراهيم عليه السلام التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم
باتباعها، وهي ملة التوحيد، وهي الدين القيّم كما فسّرت في النصوص. هجوت مباركاً برَّا حنيفاً.......أمينَ الله شيمته الوفاء ألا أبلـغا هـذا المعرض آية ... أيقظان قال القول إذ قال أو حلم شرح عبارات المتن وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
· لما رأى إبراهيم عليه السلام قومَه على الشرك في عبادة الله عز وجل بين لهم الأدلة على التوحيد وقال لهم ما حكى الله تعالى عنه: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 79]، فدلّ على أنه هو الحنيف وهم غير حنفاء.
· حنيفاً أي مستقيماً موحداً.
· قال ابن جرير: (وأما"الحنيف"، فإنه المستقيم من كل شيء، وقد قيل: إن
الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى، إنما قيل له"أحنف"، نَظَراً له إلى
السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد"المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها
والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلاً له بالسلامة من الهلاك، وما
أشبه ذلك).ا.هـ.
· ويقال: رجل يتحنف أي يتحرى أقوم الطريق.
· الحنيف هو المستقيم على الطريقة، والملة الحنيفية هي الدين المستقيم، وهو دين التوحيد، قال الله تعالى لنبيه الكريم: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يونس: 15]، وقال: ﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
· هذه الآيات تدل دلالة بيّنة على أنّ الحنيفية هي الملة المستقيمة.
· في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا أنه قال: ((
إني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم
وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)). والاجتيال هو الميل عن القصْد والاعوجاج في الضلالة، ومنه: المجول لاعوجاجه.
· قال حسان بن ثابت يهجو أبا سفيان بن الحارث وينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
· تبيّن مما سبق أن الحنيفية هي الملة القويمة المستقيمة التي لا ميل فيها، ولا انحراف، ولا مطعَن فيها، وهي ملة التوحيد.
الأمر باتباع ملّة إبراهيم عليه السلام
· أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم الحنيفية،
وأثنى الله تعالى في كتابه الكريم على إبراهيم بأنه كان حنيفاً في مواضع
كثيرة من القرآن:
- قال الله تعالى: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: 135]، وقال: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 95]، وقال: ﴿وَمَنْ
أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا﴾ [النساء: 125]، وقال: ﴿قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 161]، وقال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 123]، وقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120].
· الحنيفية التي مدحها الله عز وجل وأثنى على أهلها، وأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بها، وأمر بها عباده هي: أن يكونوا مستقيمين على الدين القيم لا
يشركون بالله شيئاً، مخلصين العبادة لله جل وعلا.
· قال ابن تيمية: (القرآن كله يدل على أن الحنيفية هي ملة إبراهيم، وأنها
عبادة الله وحده والبراءة من الشرك، وعبادته سبحانه إنما تكون بما أمر به
وشرعه وذلك يدخل في الحنيفية ولا يدخل فيها ما ابتدع من العبادات كما
ابتدع اليهود والنصارى عبادات لم يأمر بها الأنبياء)ا.هـ.
· قال: (وقال الأصمعي: مَن عَدَلَ عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب).
بيان معنى الإخلاص
· الإخلاص في اللغة: التصفية والتنقية
· ومعناه شرعاً: تخليص الأعمال من الشرك بالله جل وعلا، وإفراد الله تعالى وحده بالعبادة لا شريك له.
· من لم يعبد إلا الله فقد أخلص العبادة لله جل وعلا، وصفَّاها ونقَّاها من عبادة غيره جل وعلا، وهذا هو التوحيد المأمور به.
· الإخلاص عبادة قلبية؛ فلذلك يتفاضل المخلصون في قوّة الإخلاص.
· الإخلاص على درجات: أولها تخليص العمل من الشرك الأكبر، وهو ما لا يتمّ
إسلام العبد إلا به، وأعلاها تحقيق مرتبة الإحسان في الإخلاص.
· يزداد الإخلاص بأمرين:
- أحدهما:إحسان الإخلاص بقوّة الاحتساب وتصفية العمل من شوائب ما يقدح فيه.
- والآخر: الاستكثار من النوافل بعد الفرائض؛ لأن كلّ عبادة يؤديها العبد خالصة لله يزداد بها إخلاصاً.
· كلما كان العبد أكثر إخلاصاً كان أحبَّ إلى الله تعالى وأقرب إليه، والدليل حديث الوليّ.
· وأسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
· القلب السليم هو الذي سلم من الشرك وإرادة غير وجه الله تعالى.
· من أخلص العبادة لله فهو من المسلمين الموعودين بدخول الجنة والنجاة من النار.
· ومن لم يخلص لله تعالى فهو مشرك كافر مخلد في عذاب جهنم. والعياذ بالله.
· عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم كلمة وقلت أخرى، سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (( من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار))، وقلت أنا: (من مات وهو لا يدعو لله ندا دخل الجنة) رواه البخاري.
· ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه صحّ مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري من حديث أبي ذر مرفوعا: (( من مات من أمّتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)).
· للإخلاص فضائل عظيمة:
- منها: أنه سبب النجاة من عذاب النار ودخول الجنة.
- ومنها: أنه شرط لقبول العمل.
- ومنها: أنه سبب التخلص من تسلط الشيطان وإغوائه لدلالة قوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82، 83]، قال أبو سليمان الداراني: (إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء).
- ومن فضائله: أنه السبب الأعظم لمحبَّة الله للعبد، وما يتبعها من بركات
عظيمة من مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب، ومضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات،
والحفظ من الشرور والآفات، ودر كيد الأعداء، وزوال الهموم والغموم، وحصول
النعم والبركات، واندفاع النقم والعقوبات، والتوفيق للطاعات والقربات.
- ومن فضائله: أن صاحب الإخلاص لا يكون مذموماً ولا مخذولاً، دلّ على ذلك قول الله تعالى: ﴿لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموماً مخذولاً﴾ [الإسراء: 22]؛
فلما جعل الله الذم والخذلان على أهل الشرك علمنا أن أهل الإخلاص لا
يكونون مذمومين ولا مخذولين، وبحسب ما يبلغ العبد من الإخلاص يكون نصيبه من
النجاة من الذم والخذلان.
- ومن فضائله: ما يجده المؤمن المخلص من الحياة الطيبة التي هي أعظم نعيم
الدنيا من سكينة النفس، وطمأنينة القلب، وعزة الطاعة، وحلاوة الإيمان،
وبرد اليقين، ولذة المناجاة.
· قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه
كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله)، قال الله
تعالى: ﴿أليس الله بكافٍ عبده﴾ [الزمر: 36].
بيان أعظم ما أمر الله به وهو التوحيد
· عرفنا أن أعظم ما أمر الله به التوحيد بأمور:
- 1: أنه أول ما كان يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أول ما كان يدعو إليه الرسل كلهم كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
- كل رسول بعثه الله إلى قوم كانت أول دعوته إلى التوحيد كما تجده مبينا فيما قصه الله من أنباء الرسل مع قومهم في القرآن الكريم:
- قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 59].
- وقال: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 65].
- وقال: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 73].
- وقال: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 85]
· في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (( إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله))
· 2: أن توحيد الله تعالى هو مفتاح الدخول
في الإسلام، وبدونه لا يكون المرء مسلماً، وإذا ارتكب العبد فعلاً ينقض هذا
التوحيد خرج من دين الإسلام، واستحق الخلود في عذاب النار؛ كما قال الله
تعالى: ﴿وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ
اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) ﴾ [الزمر: 65، 66].
· 3: أن ثواب فاعله أعظم الثواب وهو رضوان
الله تعالى ومحبته والخلود في الجنة، وعقاب تاركه أعظم العقاب وهو سخط الله
تعالى ومقته والخلود في نار جهنم، والعياذ بالله.
معنى التوحيد
· التوحيد: مصدر وحَّد يُوحِّد توحيداً إذا جعل الشيء واحداً، فإذا جعل
العبد قصده واحداً لله جل وعلا، ولم يقصد بالعبادة شريكاً له تعالى فهو
موحد مخلص لله جل وعلا.
· الذين يصرفون شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى غير موحدين، بل هم
مشركون خارجون عن دين الإسلام مستحقون للعذاب الشديد والخلود في نار جهنم
والعياذ بالله.
· أقسام التوحيد ثلاثة:
- 1: توحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بأفعاله من الخلق والرزق والملك والتدبير وغيرها.
- 2: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
- 3: توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
بيان أعظم ما نهى الله عنه هو الشرك
· ويعرف أن الشرك هو أعظم ما نهى الله عنه بأمور:
- 1: أن أول دعوة الرسل كانت إلى التوحيد واجتناب الشرك.
- 2: أن من لم ينته عن الشرك فهو كافر غير داخل في دين الإسلام.
- 3: أن عقاب الشرك أعظم العقاب وهو الخلود في النار كما قال الله تعالى: ﴿إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار﴾ [المائدة: 72].
- 4: أن الله لا يغفر لمن أشرك به في عبادته مهما كان سابق صلاحه كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]، وقال الله تعالى بعدما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام: ﴿وَمِنْ
آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 87، 88].
- الأنبياء – على صلاحهم وشرفهم ومحبة الله لهم -لا يغفر لهم الشرك بالله
جل وعلا لو وقع منهم، وقد علمنا أن الله تعالى قد عصمهم من الشرك، وبقي
الخطاب يتلى علينا لنتدبره ونتأمله، ونفهم منه عظيم جرم الشرك؛ فغير
الأنبياء أولى بأن لا يغفر لهم إذا أشركوا.
- 5: أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ الشرك بالله أكبر الكبائر؛ فعن أبي
بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((
ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله،
وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور فما
زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)) متفق عليه.
- وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم، قال: (( أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) قال: قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: (( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك))، قلت: ثم أي؟ قال: (( ثم أن تزاني حليلة جارك)).
· خطر الشرك عظيم، وهو أعظم ذنب عصي الله به، والمشرك كافر بالله عزّ وجل
وإن ادّعى الإسلام، ومَقْتُ الله له أعظم المقت كما قال الله تعالى: ﴿إن الذين كفروا يُنادون لمقت الله أعظم من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون﴾ [غافر: 10].
· لا يقبل الله من المشرك عملاً حتى يُسلم، ومن وقع في الشرك بعد إيمانه حبط عمله وأصبح من الخاسرين.
· الشرك أكبر الكبائر، وأعظم الظلم، وهو خيانة لأعظم الأمانات، وتَوَلٍّ
عن أداء أعظم الحقوق، وهو حق الله عز وجل في الأمر الذي خلق الخلق لأجله.
· المقصود من كل ما سبق بيان خطر الشرك ووجوب اجتنابه والتحرّز منه، وأن تكون أوّل دعوة المصلحين إلى التوحيد واجتناب الشرك.
بيان أصول الدين الثلاثة
· أصول دين الإسلام: هي معرفة الله ومعرفة نبيّه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
· هذه الأصول الثلاثة راجعة إلى معنى الشهادتين.
- معرفة العبد ربه هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وهو الأصل الأول.
- ومعرفة العبد نبيه صلى الله عليه وسلم هي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وأما دين الإسلام فهو الرسالة التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم.
- لتوضيح هذا الأمر يقال: ههنا ثلاثة أمور: مُرسِلٌ، ورسولٌ، ورسالة؛
فالمرسِل هو الله جل وعلا، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته هي
دين الإسلام.
- الدين لا يقوم إلا على هذه الأصول الثلاثة، فهي أصول الدين، وهي المسائل
التي يُسأل عنها العبد في قبره، كما في سنن أبي داوود وغيره من حديث
البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الميتَ ليسمع خَفْق نعالهم إذا وَلَّوْا مدبرين حين يقال له: يا هذا، مَنْ ربُّك؟ وما دِينُك؟ ومن نَبِيُّكَ)).
· هذه الرسالة هي في شرح هذه الأصول الثلاثة، التي هي أصول الدين.
· مسائل الدين كلها ترجع إلى هذه الأصول الثلاثة.
الأصل الأول: معرفة العبد ربه جل وعلا
· بيان معنى (الرب)
- الرب هو الجامع لجميع معاني الربوبية من الخلق والملك والإنعام والتدبير
والتربية والإصلاح؛ فالربوبية في اللغة تشمل هذه المعاني كلها.
- الله هو الخالق العظيم والخلاق العليم الذي خلق كل شيء، فما من موجود من المخلوقات إلا والله تعالى خالقه وحده لا شريك له.
- ومن معاني (الرب) في لسان العرب: المالك؛ فرب الشيء هو مالكه، ورب الدار: صاحبها ومالكها، ورب الإبل: مالكها.
· لا يطلق هذا اللفظ بغير الإضافة إلا على الله عز وجل، فهو الرب وحده.
· الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، لا يخرج شيء عن ملكه، فهو مالك كل شيء،
وبيده ملكوت كل شيء، فله جميع معاني الملك؛ فيملك المخلوقات، ويملك
تصرفاتها ويملك تدبيرها والتصرف فيها، فلا تتصرف إلا بإذنه.
· وهو الذي يملك بقاءها وفناءها، وحركاتها وسكناتها، فيبقيها متى شاء،
ويفنيها إذا شاء، ويعيدها إذا شاء، بل لا تملك جميع المخلوقات لنفسها نفعاً
ولا ضراً إلا بإذنه جل وعلا.
· وهذا مما يوجب توحيده جل وعلا بالعبادة، وطاعته فيما يأمر به،وينهى عنه.
- لذلك أنكر الله تعالى على من يعبد غيره فقال: ﴿وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ
مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾[الفرقان: 3].
· بقية المعاني العظيمة للربوبية العامة من الإنعام والإصلاح والتربية والتدبير هي من آثار اسمه (الملك).
· تأمُّلُ معاني الربوبية والتفكر في آثارها في الخلق والأمر يورث اليقين
بوجوب التوحيد، وأن العالم لا صلاح له إلا بأن يكون ربه واحدا، كما قال
تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22]، وقال: ﴿مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[المؤمنون: 91].
· كما أن الكون ليس له إلا رب واحد على الحقيقة، فلا يكن في قلبك إلا
إله واحد هو هذا الرب العظيم، فأسلم قلبك له واعبده وتوكل عليه.
· اسم الرَّبِّ يقتضي أن نعبده جل وعلا ونفرده بالعبادة ولهذا قال تعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21] فاستدل على توحيد العبادة باسم الربوبية.
· والربوبية لها معنيان:
- ربوبية عامة بالخلق والملك والإنعام والتدبير، وهذه عامة لجميع المخلوقات.
- وربوبية خاصة لأوليائه جل وعلا بالتربية الخاصة والهداية والإصلاح والنصرة والتوفيق والتسديد والحفظ.
- الله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها.
· إذا تأملت هذه المعاني تبين لك بجلاء أنه لا يستحق العبادة أحد إلا الله
جل وعلا، وأن عبادة غيره ظلم عظيم، وكفر مبين، وسفه وضلال.
· هذه إلماحة يسيرة لبعض معاني الربوبية، تطلعك على ما وراءها من المعاني العظيمة وتشرع لك أبواب التفكر فيها.
· يطلق لفظ (الرَّبّ) في النصوص ويراد به المعبود، كما في سؤال العبد في قبره: من ربك؟ المراد به من معبودك الذي تعبده؟
· والربُّ الحق هو الله، وهو المعبود الحق؛ فاجتماع المعنيين له تعالى اجتماع صحيح.
· ما عبد من دون الله فليس معبوداً بحق، وليس برب على الحقيقة، وإنما اتُّخِذَ رباً، واتُّخِذَ إلها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ [آل عمران: 80]، وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]،
قال عدي بن حاتم: (يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم)... الحديث، ففهم عدي
رضي الله عنه من هذا اللفظ معنى العبادة، لأن اتخاذ الشيء رباً معناه
عبادته، لأن الربوبية تستلزم العبادة.
· إذا قيل: الرب هو المعبود، فهذا الإطلاق صحيح باعتبار، وإذا قيل: من معاني الرب فصحيح باعتبار آخر.
طرق معرفة العبد ربه جل وعلا
· لمعرفة العبد ربه جل وعلا طريقان بينهما الله عز وجل في كتابه الكريم:
- الطريق الأول: التفكر في آياته الكونية المخلوقة.
- والطريق الآخر: التفكر في آياته الشرعية وهي آيات القرآن العزيز وما تضمنه أمره جل وعلا في كتابه وفي غيره من الآيات البينات.
· (الآية) في اللغة: تطلق على العلامة وعلى الرسالة وعلى الجماعة.
- قال الله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ [مريم: 10] أي علامة في قول الجميع لا أعلم في ذلك خلافاً.
- وفي الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار))؛ فالآية هي العلامة البينة الدالة على المراد.
- ومن الإطلاق الثاني وهو استعمال مشهور في لغة العرب قول كعب بن زهير:
· لفظ (الآية) أبلغ من (العلامة) ولذلك استعمل في القرآن الكريم، ففيه
زيادةً على معنى الدلالة معنى الوضوح والجلاء والبيان، ومنه يقال (إياة
الشمس) يعني ضوؤها.
· قال الخليل بن أحمد: (الآية: العَلامةُ، والآية: من آيات الله، والجميع: الآي)
· قوله: (والآية: من آيات الله) يشمل الآيات الكونية والشرعية
- فالآيات الكونية: الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وما خلق الله في
السموات والأرض وما أنعم به من سائر النعم كلها آيات على أنها من عند الله
جل وعلا وهي علامات بينات لا ينكرها إلا مُكابِر مُعانِد.
- والآيات الشرعية هي: آيات القرآن المتلوة، سميت بذلك لأنها دالة على
أنها من عند الله عز وجل، ولأن فيها من البراهين البينة ما يوجب قيام
الحجة على من بلغته.
أمثلة للآيات الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله عز وجل
· ذكر الله تعالى في الكتاب براهين عقلية تدل على بطلان عبادة ما يعبد من دون الله
قال الله تعالى: ﴿قُلْ
أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ
بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: 40].
فذكر الله ثلاثة أدلة بينة على أن هؤلاء الشركاء الذين يُدعون من دون الله لا يستحقون أن يعبدوا من دون الله جل وعلا.
- فهم لم يخلقوا شيئاً، وعبادة من لا يخلق من دون خالقه سفه وضلال كما دل عليه قوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: 191].
- وليس لهم نصيب في الملك يشاركون الله فيه، فيسألهم من يدعوهم من نصيبهم الذي يملكونه.
- ولم يأذن الله بعبادتهم؛ فبطل ما كانوا يغرون به بعضهم من زخرف القَوْل والعِدَات الباطلة.
- وقوله تعالى: ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: 40]
بيان لسنة كونية لا تنخرم، وهي أن الظالمون إنما يغر بعضهم بعضاً ويمنّي
بعضهم بعضاً حتى إذا أتوا ما يمقتهم الله عليه وعاينوا عذابه لم تنفعهم
وعودهم ولم تغن عنهم من الله شيئاً.
- هذه الآية نظير قول الله تعالى: ﴿قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللِّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي
بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (4) ﴾ [الأحقاف: 4]؛فلم يخلقوا شيئاً ابتداء، وليس لهم فيه شراكة في الملك، ولم يؤذَن بعبادتهم.
· وقال تعالى: ﴿قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى
إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا
الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)﴾ [سبأ: 22، 23].
- قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فتأمَّلْ كيف أخذَتْ هذه الآية على
المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سد
وأبلغه؛ فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ
منه منفعةً لم يتعلَّقْ قلبه به، وحينئذ فلا بدَّ أن يكون
المعبودُ:مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده، أو شريكاً لمالكها، أو
ظهيرا أو وزيراً ومعاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده؛ فإذا
انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت
موادُّه؛ فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرَّة في السموات والأرض،
فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق؛ فنفى شركتها له، فيقول المشرك: قد
تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً؛ فقال: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾؛
فلم يبقَ إلا الشفاعة؛ فنفاها عن آلهتهم؛ وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا
بإذنه؛ فهو الذي يأذنُ للشافع؛ فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين
يديه كما يكون في حق المخلوقين؛ فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع
ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها؛ وأما منْ كلُّ ما سواهُ
فقيرٌ إليه بذاتِهِ، وهو الغني بذاتِهِ عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد
بدون إذنه؟!!)ا.هـ.
· التفكر في آيات وجوب التوحيد يورث اليقين ببطلان الشرك، وأنه حد بين
الكفر والإيمان، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ
إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[غافر: 66].
حجج وجوب التوحيد في القرآن الكريم
· من أهم الحجج التي تكرر ذكرها في القرآن تنبيها على وجوب التوحيد:
- 1: أن الله هو الخالق الرازق المالك المدبر فهو المستحق للعبادة.
- 2: أن الله تعالى هو الذي بيده وحده النفع والضر وغيره لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: 76] أي الذي يعلم أحوالكم ويسمع دعاءكم.
- 3: أن الموحدين معهم سلطان الحجة والبرهان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له، وبذلك أرسلت إليهم الرسل.
- 4: أن المشركين الظالمين إنما يغرّ بعضهم بعضاً وأنهم لا حجة لهم على
الشرك، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.
· والمقصود أن من تأمل الآيات الكونية والآيات الشرعية تبين له وجوب إفراد
الله تعالى بالعبادة، وأن من أشرك بالله شيئاً فهو من الخاسرين.
· الظالمون يكون لديهم علوم يفرحون بها، ومزاعم يغترون بها، ويتعامون عن
التفكر في ما أمر الله بالتفكر فيه من الآيات البينات، ويفرحون بما عندهم
من العلم الدنيوي، ويُعرضون عما جاءت به الرسل، ويستهزئون بهم وبما جاؤوا
به حتى إذا فنيت أعمارهم، وانقضت مهلة بقائهم في الدنيا، ورأوا ما كانوا
يوعدون تبين لهم أنهم كانوا خاطئين.
· إذا رأوا آيات الآخرة عند الموت تبيّن لهم أن الشرك بالله باطل وضلال
مبين، فيؤمنون حين لا ينفعهم الإيمان ولا يقبل منهم، ويتخلى عنهم الشيطان
بعد أن أوردهم المهالك، وكُتب عليهم الشقاء الأبدي، وحرمت عليهم السعادة
أبداً، وخسروا الخسران المبين والعياذ بالله.
· قال الله تعالى: ﴿وَيُرِيكُمْ
آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي
الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا
كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ
لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي
عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) ﴾ [غافر: 81-85].
· الدعاء للمتلقي فيه تلطف له كما سبق بيانه، والإرشاد هو الدلالة على طريق الرشد.
· الرشد هو إصابة الحق، وهو ضد الغي، قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ
عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف: 146].
· قال دريد بن الصمة:
· الطاعة هي امتثال الأمر واجتناب النهي.
· قال الزجاج: (الملة في اللغة: السنة والطريقة)
· قال ابن سيده: (طَرِيقٌ مَلِيْلٌ وَمُمِلٌّ قد سُلِكَ فيه حتَّى صَارَ مَعْلَمًا).
قوله: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)
· هذا هو معنى الحنيفية التي أمر الله بها.
قوله: (وَبذَلكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ).
· دليله قول الله تعالى: ﴿وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ﴾[البينة: 5].
قوله: (وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56])
· أي خلقهم الله لعبادته كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
- هذا الأسلوب في لسان العرب يسمى الحصر، فالله حصر الغاية من خلق الجن والإنس في عبادته جل وعلا وحده لا شريك له.
- من لم يفعل ذلك لم يؤدِّ ما خلق لأجله؛ فيستحق العذاب على تركه ما خلق لأجله.
- الإنس هم: بنو آدم عليه السلام، سموا إنساً لأنهم يأنس بعضهم ببعض.
- والجن سمواً جناً لاجتنانهم أي استتارهم عن أنظار الناس كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾[الأعراف: 27].
قوله: (وَمَعْنَى يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ)
· هذا تفسير باللازم، لأن العبادة إذا لم تكن خالصة لله تعالى فهي باطلة، ليست بشيء.
· العبادات الباطلة يجعلها الله يوم القيامة هباء منثوراً؛ كما قال الله تعالى عن المشركين: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]؛ لأن من لم يوحّد الله فعبادته باطلة؛ فصار حكمه كحكم من لم يعبد الله أصلاً.
· العبادة التي تنفع صاحبها هي العبادة المقبولة التي جمع صاحبها شرطي القبول: الإخلاص والمتابعة.
قوله: (وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بالْعِبَادَةِ).
· عرف التوحيد بأنه إفراد الله تعالى بالعبادة.
- هذا هو تعريف توحيد الألوهية، وهو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل
وقومهم، وأما توحيد الربوبية فلم يخالف فيه إلا قلة وهم الملاحدة والثنوية.
· الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بأن الله تعالى
هو الخالق الرازق ولم يدخلوا في دين الإسلام لأنهم لم يفردوا الله تعالى
بالعبادة ولم يطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم ما أمر الله به وهو
التوحيد.
قوله: (وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرهِ مَعَهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بهِ شَيْئاً﴾[النساء: 36]).
· عرف الشرك بالله بأنه دعوة غيره معه، وهو تعريف حسن دلَّ عليه النص، مع اختصاره ووفائه بالدلالة على المراد.
· قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [فاطر: 40]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ
تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا
لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا
يُنَـبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 13، 14].
· قوله: (وهو دعوة غيره معه) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة.
· الشرك على قسمين:
- أحدهما: الشرك الأكبر: ويكون في الربوبية والألوهية:
§ أما الشرك الأكبر في الربوبية فهو: اعتقاد شريك لله تعالى في أفعاله من الخلق والرزق والملك والتدبير.
§ وأما الشرك الأكبر في الألوهية: فهو عبادة غير الله تعالى.
- والقسم الآخر: الشرك الأصغر، وهو ما كان وسيلة للشرك الأكبر وسمي في
النصوص شركاً من غير أن يتضمن صرفاً للعبادة لغير الله عز وجل.
§ ومثاله: الرياء بتحسين أداء الصلاة، لطلب مدح الناس وإعجابهم على عبادته
لله جل وعلا؛ فهو صلى لله، لكنه أراد أن يمدحه الناس على حسن صلاته،
وربما زاد في تحسينها ليزداد الناس في مدحه؛ وهو شرك أصغر، لأنه لم يخلص
القصد لله جل وعلا، وليس بشرك أكبر لأنه لم يعبد غير الله.
قوله: (والدليل قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بهِ شَيْئاً﴾[النساء: 36]).
· قرن النهي عن الشرك بالأمر بعبادة الله تعالى فتبين بذلك معنى التوحيد.
· تُسمَّى هذه الآية آية الحقوق العشرة، وبدأ الله تعالى فيها بحقّه الذي خلق الخلق لأجله.
قوله: (فَإذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُوْلُ
الثَّلاثَةُ الَّتِي يَجبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُها؟ فَقُلْ:
مَعْرِفَةُ العَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبيَّهُ مُحَمَّداً صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
· صاغ المؤلف رحمه الله هذه المسائل بطريقة السؤال والجواب لتكن أقرب للفهم، وأيسر للتلقين للعامة والناشئة.
- ينبغي أن يعتنى المعلّم بتعليم الناشئة هذه المسائل وتلقينهم إياها حتى ينشأوا على معرفة هذه الأصول العظيمة التي هي أصول الدين.
- والأصول جمع أصل، وهو ما ينبى عليه الشيء؛ فمن لم يقم أصول الدين فدينه ليس له أصل، وهذه الأصول الثلاثة هي أصول الدين.
قوله: (فَإِذَا قِيلَ
لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي، وَرَبَّى
جَمِيعَ العَالَمِينَ بنِعْمَتِهِ، وَهُوَ: مَعْبُودِي لَيْسَ لِي
مَعْبُودٌ سِوَاهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَب العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، وَكُلُّ مَن سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العَالَمِ).
· هذا شروع في بيان الأصل الأول، وهو معرفة العبد ربه جل وعلا.
· قوله: (وهو معبودي ليس لي معبود سواه)؛ هذا تلقين للمتلقي، وبيان له بأن لا يكون له معبود سوى الله جل وعلا.
قوله: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقُلْ: بآيَاتِهِ وَمَخْلُوقاَتِهِ)
· عَطْف المخلوقات على الآيات من باب عطف الخاص على العام.
قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ وَالْقمَرُ)
· أي من آياته الكونية، والآيات الكونية من المخلوقات، وعبّر عنها بالآيات لموافقة لفظ قوله تعالى: ﴿وَمِنْ
آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: 37].
قوله: (وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا).
· هذه المخلوقات هي من الآيات الكونية لأنها دالّة على خالقها جل وعلا، وعبّر عنها بالمخلوقات لموافقة لفظ قوله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: 57].
قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: 57]، وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَمِنْ
آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[فصلت: 37]، وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿إِنَّ
رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ﴾[الحديد: 4]).
- هذه الآيات الكونية باب عظيم لمعرفة الله تعالى، وهي حجة في وجوب التوحيد.
قوله: (وَالرَّبُّ: هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 21، 22]).
· لما كانت الربوبية دليلاً على وجوب التوحيد، وكان الله هو الرب على
الحقيقة لا ربّ لنا سواه، وأن غيره مما يعبد من دونه إنما اتُّخذ ربّا وليس
له من الربوبية شيء؛ كان الربّ هو المستحقّ للعبادة، فهو الرب وهو
المعبود الذي لا يستحق العبادة سواه جل وعلا.
قوله: (قَالَ ابْنُ كَثيِرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: (الْخَالِقُ لِهذِهِ الأَشْيَاءِ، هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعبَادَةِ) ).
الاستشهاد بأقوال العلماء يزيد المعلّم والداعية قوّة في إقناع المتعلمين والمخاطَبين.